ﰡ
سَبَبُ النّزول: أ - عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ﴾ فقالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تَشركْه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليّها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صِداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن ذلك إِلاّ أن يُقْسطوا لهنَّ ويبلغوا لهنَّ أعلى سنتهن في الصَّداق، فأُمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنّ، وإِن الناس استفتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد هذه الآية فأنزل الله ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء﴾ الآية.
ب - عن مقاتل بن حيان أن رجلاً من غطفان يقال له «مرثد بن زيد» وليَ مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله فأنزل الله ﴿إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً... ﴾ الآية.
التفِسير: افتتح الله جل ثناؤه سورة النساء بخطاب الناس جميعاً ودعوتهم إِلى عبادة الله وحده لا شريك له، منبهاً لهم على قدرته، ووحدانيته فقال ﴿ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ أي خافوا الله الذي أنشأكم من أصلٍ واحد وهو نفس أبيكم آدم ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي أوجد من تلك النفس الواحدة زوجها وهي حواء ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً﴾ أي نشر وفرّق من آدم وحواء خلائق كثيرين ذكوراً وإِناثاً ﴿واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام﴾ أي خافوا الله الذي يناشد بعضكم بعضاً به حيث يقول: أسألك بالله، وأنشدك بالله، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ أي حفيظاً مطلعاً على جميع أحوالكم وأعمالكم، وقد أكد تعالى الأمر بتقوى الله في موطنين: في أول الآية، وفي آخرها ليشير إِلى عظم حق الله على عباده، كما قرن تعالى بين التقوى وصلة الرحم ليدل على أهمية هذه الرابطة الإِنسانية، فالناس جميعاً من أصل واحد، وهم
البَلاَغَة: تضمنت الآيات من ضروب الفصاحة والبيان ما يلي:
١ - الطباق في ﴿غَنِيّاً فَقِيراً﴾ وفي ﴿قَلَّ كَثُرَ﴾ وفي ﴿رِجَالاً وَنِسَآءً﴾ وفي ﴿الخبيث الطيب﴾.
٢ - والجناس المغاير في ﴿دَفَعْتُمْ فادفعوا﴾ وفي ﴿وَقُولُواْ قَوْلاً﴾.
٣ - والإِطناب في ﴿فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ.... فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ وفي ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان.... وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون﴾.
٤ - والمجاز المرسل في ﴿وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ﴾ أي الذين كانوا يتامى فهو باعتبار ما كان وكذلك ﴿يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً﴾ مجاز مرسل وهو باعتبار ما يئول إِليه كقوله ﴿إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً﴾ [يوسف: ٣٦] أي عنباً يئول إٍلى الخمر.
٥ - المقابلة اللطيفة بين ﴿وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ.. وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف﴾.
٦ - والإِيجاز في مواضع مثل ﴿رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً﴾ أي ونساء كثيرات... الخ.
الفوَائِد: الأولى: في الافتتاح بتذكير الناس أنهم خلقوا من نفسٍ واحدة تمهيد جميل وبراعة مطلع لما في السورة من أحكام الأنكحة والمواريث والحقوق الزوجية وأحكام المصاهرة والرضاع وغيرها من الأحكام الشرعية.
الثانية: الأغلب أنه إِذا كان الخطاب ب ﴿ياأيها الناس﴾ وكان للكافرين فقط أو للكافرين وغيرهم أُعقب بدلائل الوحدانية والربوبية مثل ﴿يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] و {ياأيها الناس إِنَّ
الثالثة: ذكْرُ البطون مع أن الأكل لا يكون إِلا فيها للتأكيد والمبالغة فهو كقولك: أبصرتُ بعيني وسمعت بأذني ومثله قوله تعالى ﴿ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ [الأحزاب: ٤].
الرابعة: أضاف تعالى أموال اليتامى إِلى الأوصياء مع أنها أموال اليتامى للتنبيه إِلى «التكافل بين الأمة» والحث على حفظ الأموال وعدم تضييعها فإِن تبذير السفيه للمال فيه مضرّة للمجتمع كله.
«كلمة حول تعدد الزوجات»
مسألة تعدد الزوجات ضرورة اقتضتها ظروف الحياة وهي ليست تشريعاً جديداً انفرد به الإِسلام، وإِنما جاء الإِسلام فوجده بلا قيود ولا حدود وبصورة غير إِنسانية فنظّمه وشذّبه وجعله علاجاً ودواءً لبعض الحالات الاضطرارية التي يعاني منها المجتمع وفي الحقيقة فإِن تشريع التعدد مفخرة من مفاخر الإِسلام لأنه استطاع أن يحل «مشكلة اجتماعية» هي من أعقد المشاكل التي تعانيها الأمم والمجتمعات اليوم فلا تجد لها حلاً.. إِن المجتمع كالميزان يجب أن تتعادل كفتاه فماذا نصنع حين يختل التوازن ويصبح عدد النساء أضعاف عدد الرجال؟ أنحرم المرأة من نعمة الزوجية و «نعمة الأمومة» ونتركها تسلك طريق الفاحشة والرذيلة، أم نحل هذه المشكلة بطرق فاضلة نصون فيها كرامة المرأة وطهارة الاسرة وسلامة المجتمع؟ وأقرب الأمثلة شاداً على ما نقول ما حدث في المانيا بعد الحرب العالمية الثانية حيث زاد عدد النساء زيادة فاحشة على عدد الرجال فأصبح مقابل كل شاب ثلاث فتيات وهي حالة اختلال اجتماعي فكيف يواجهها المشرّع؟ لقد حلّ الإِسلام المشكلة بتشريعه الإِسلامي الرائع، بينما وقفت المسيحية حائرةً مكتوفة الأيدي لا تُبدي ولا تُعيد.. إِن الرجل الأوربي لا يبيح له دينه التعدد، لكنه يبيح لنفسه مصاحبة المئات من الفتيات بطريق الرذيلة، يرى الوالد منهم فتاته مع عشيقها فيُسرّ ويغتبط بل ويمهدّ لهما جميع السبل المؤدية لراحتهما حتى أصبح ذلك عرفاً سارياً اضطرت معه الدول إِلى الاعتراف بمشروعية العلاقات الآئمة بين الجنسين ففتحت باب التدهور الخلقي على مصراعيه، ووافقت على قبول مبدأ «تعدد الزوجات» ولكن تحت ستار المخادنة وهو زواج حقيقي لكنه غير مسجل بعقد، ويستطيع الرجل أن يطردها متى شاء دون أن يتقيد حيالها بأي حق من الحقوق، والعلاقة بينهما علاقة جسد لا علاقة أسرة وزوجية، فأعجب من منع «تعدد الزوجات» بالحلال وإِباحته بالحرام حتى نزلوا بالمرأة من مرتبة الإِنسانية إِلى مرتبة الحيوانية.
اللغَة: ﴿يُوصِيكُمُ﴾ الوصية: العهد بالشيء والأمر به ولفظ الإِيصاء أبلغ وأدل على الاهتمام من لفظ الأمر لأنه طلب الحرص على الشيء والتمسك به ﴿فَرِيضَةً﴾ أي حقاً فرضه الله وأوجبه ﴿كَلاَلَةً﴾ أن يموت الرجل ولا ولد له ولا والد أي لا أصل له ولا فرع لأنها مشتقة من الكلّ بمعنى الضعف يقال: كلَّ الرجل إِذا ضعف وذهبت قوته ﴿حُدُودُ الله﴾ أحكامه وفرائضه المحدودة الت لا تجوز مجاوزتها.
سَبَبُ النّزول: روي أن امرأة «سعد بن الربيع» جاءت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإبنيتها فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قُتل أبوهما سعد معك بأُحد شهيداً، وإِن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً، ولا تُنكحان إِلا بمال فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يقضي الله في ذلك فنزلت آية المواريث ﴿يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ﴾ الآية فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلى عمهما أن أعط إِبنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك.
التفسِير: ﴿يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ﴾ أي يأمركم الله ويعهد إِليكم بالعدل في شأن ميراث أولادكم ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين﴾ أي للإِبن من الميراث مثل نصيب البنتين ﴿فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين﴾ أي إِن كان الوارث إِناثاً فقط اثنتين فأكثر ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ أي فللبنتين فأكثر ثلثا التركة ﴿وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف﴾ أي وإِن كانت الوارثة بنتاً واحدة فلها نصف التركة.. بدأَ تعالى
. ثم ذكر تعالى ميراث الزوج والزوجة فقال ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ أي ولكم أيها الرجال نصف ما ترك أزواجكم من المال إِن لم يكن لزوجاتكم أولاد منكم أو من غيركم ﴿فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ﴾ أي من ميراثهن، وألحق بالولد في ذلك ولد الإِبن بالإِجماع ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ﴾ أي من بعد الوصية وقضاء الدين ﴿وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ﴾ أي ولزوجاتكم واحدة فأكثر الربع مما تركتم من الميراث إِِن لم يكن لكم ولد منهن أو من غيرهن ﴿فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم﴾ أي فإِن كان لكم ولد منهن أو من غيرهن فلزوجاتكم الثمن مما تركتم من المال ﴿مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ﴾ وفي تكرير ذكر الوصية والدين من الاعتناء بشأنهما ما لا يخفي. ﴿وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً﴾ أي وإن كان الميت يورث كلالة أي لا والد له ولا ولد وورثة أقاربه البعيدون لعدم وجود الأصل أو الفرع ﴿أَو امرأة﴾ عطف على رجل والمعنى أو امرأةٌ تورث كلالة ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ أي وللمورّث أخ أو أخت من أم ﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس﴾ أي فللأخ من الأم السدس وللأخت السدس أيضاً ﴿فَإِن كانوا أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث﴾ أي فإِن كان الإِخوة والأخوات من الأم أكثر من واحد فإِنهم يقتسمون الثلث بالسوية ذكورهم وإِناثهم في الميراث سواء، قال في البحر: وأجمعوا على أن المراد في هذه الآية الإِخوة للأم ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ﴾ أي بقصد أن تكون الوصية للمصلحة لا بقصد الإِضرار بالورثة أي في حدود الوصية بالثلث لقوله عليه السلام «الثلث والثلث كثير» ﴿وَصِيَّةً مِّنَ الله﴾ أي أوصاكم الله بذلك وصية ﴿والله عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ أي عالم بما شرع حليم لا يعاجل العقوبة لمن خالف أمره ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾ أي تلك الأحكام المذكور شرائع الله التي حدّها لعباده ليعملوا بها ولا يعتدوها ﴿وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي من يطع أمر الله فيما حكم وأمر رسوله فيما بيّن، يدخله جنات النعيم التي تجري من تحت أشجارها وأبنيتها الأنهار ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي ماكثين فيها أبداً ﴿وذلك الفوز العظيم﴾ أي الفلاح
البَلاَغَة: تضمنت الآيات من أصناف البديع ما يلي:
١ - الطباق في لفظ ﴿الذكر والانثى﴾ وفي ﴿وَمَن يُطِعِ وَمَن يَعْصِ﴾ وفي ﴿آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ﴾.
٢ - الإِطناب في ﴿مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْن﴾ و ﴿ٍمِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ﴾ والفائدة التأكيد على تْنفيذ ما ذكر.
٣ - جناس الاشتقاق في ﴿وَصِيَّةٍ يُوصِي﴾.
٤ - المبالغة في ﴿عَلِيمٌ، حَلِيمٌ﴾.
فَائِدَة: استنبط بعض العلماء من قوله تعالى ﴿يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ﴾ أنه تعالى أرحم من الوالدة بولدها حيث أوصى الوالدين بأولادهم ويؤيده ما ورد «للهُ أرحم بعباده من هذه بولدها».
تنبيه: وجه الحكمة في تضعيف نصيب الذكر هو احتياجه إِلى مؤنة النفقة ومعاناة التجارة والتكسب وتحمل المشاق، فنفقاته أكثر والتزاماته أضخم فهو إِلى المال أحوج.
اللغَة: ﴿واللاتي﴾ جمع التي على غير قياس ﴿الفاحشة﴾ الفعلة القبيحة والمراد بها هنا الزنا ﴿واللذان﴾ تثنية الذي ﴿التوبة﴾ أصل التوبة الرجوع وحقيقتها الندم على فعل القبيح ﴿كَرْهاً﴾ بفتح الكاف بمعنى الإِكراه وبضمها بمعنى المشقة ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً﴾ [الأحقاف: ١٥] ﴿تَعْضُلُوهُنَّ﴾ تمنعوهن يقال عضل المرأة إِذا منعها الزواج ﴿بُهْتَاناً﴾ ظلماً وأصله الكذب الذي يتحير منه صاحبه ﴿أفضى﴾ وصل إليها، وأصله من الفضاء وهو السعة ﴿مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ عهداً شديداً مؤكداً وهو عقد النكاح.
سَبَبُ النّزول: روي أن أهل الجاهلية كانوا إِذا مات الرجل جاء ابنه من غيرها أو وليه فورث امرأته كما يرث ماله وألقى عليها ثوباً، فإِن شاء تزوجها بالصَّداق الأول وإِن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها فأنزل الله ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً..﴾.
التفِسير: ﴿واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ﴾ أي اللواتي يزنين من أزواجكم فاطلبوا أن يشهد على اقترافهن الزنا أربعة رجال من المسلمين الأحرار ﴿فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت﴾ أي فإِن ثبتت بالشهود جريمتهن فاحبسوهن في البيوت ﴿حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت﴾ أي احبسوهنَّ فيها إِلى الموت ﴿أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ أي يجعل الله لهنَّ مخلصاً بما يشرعه من الأحكام قال ابن كثير: كان الحكم في ابتداء الإِسلام أن المرأة إِذا ثبت زناها بالبيِّنة العادلة حُبست في بيت فلا تُمكَّن من الخروج منه إِلى أن تموت، حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم ﴿واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ﴾ أي واللذان يفعلان الفاحشة والمراد به الزاني والزانية بطريق التغليب ﴿فَآذُوهُمَا﴾ أي بالتوبيخ والتقريع والضرب بالنعال ﴿فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ﴾ أي فإِن تابا عن الفاحشة وأصلحا سيرتهما فكفّوا عن الإِيذاء لهما ﴿إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً﴾ أي مبالغاً في قبول التوبة واسع الرحمة. قال الفخر الرازي: «خص الحبس في البيت بالمرأة وخص الإِيذاء بالرجل لأن المرأة إِنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز فإِذا حبست في البيت انقطعت مادة هذه المعصية، وأما الرجل فإِنه لا يمكن حبسه في البيت لأنه يحتاج إِلى الخروج في إِصلاح معاشه واكتساب قوت عياله فلا جرخ جعلت عقوبتهما مختلفة» ﴿إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ﴾ أي إِنما التوبة التي كتب الله على نفسه قبولها هي توبة من فعل المعصية سفهاً وجهالة مقدَّراً قبح المعصية وسوء عاقبتها ثم ندم وأناب ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾ أي يتوبون سريعاً قبل مفاجأة الموت ﴿فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ﴾ أي يتقبل الله توبتهم ﴿وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً﴾ أي عليماً بخلقه حكيماً في شرعه ﴿وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن﴾ أي وليس قبول التوبة ممن ارتكب المعاصي واستمر عليها حتى إِذا فاجأه الموت تاب وأناب فهذه توبة المضطر
«إِن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» ﴿وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ أي يموتون على الكفر فلا يُقبل إِيمانهم عند الاحتضار ﴿أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي هيأنا وأعددنا لهم عذاباً مؤلماً ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً﴾ أي لا يحل لكم أن تجعلوا النساء كالمتاع ينتقل بالإِرث من إِنسان إِلى آخر وترثوهن بعد موت أزواجهن كرهاً عنهن قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية إِذا مات الرجل كان أولياؤه أحقَّ بامرأته إِن شاءوا تزوجها أحدهم، وإِن شاءوا زوجوها غيرهم، وإن شاءوا منعوها الزواج ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ أي ولا يحل لكم أن تمنعوهن من الزواج أو تضفوا عليهن لتذهبوا ببعض ما دفعتموه لهن من الصَّداق ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾ أي إِلا في حال إِتيانهن بفاحشة الزنا وقال ابن عباس: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف﴾ أي صاحبوهن بما أمركم الله به من طيب القول والمعاملة بالإِحسان ﴿فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ أي فإِن كرهتم صحبتهن فاصبروا عليهن واستمروا في الإِحسان إِليهن فعسى أن يرزقكم الله منهن ولداً صالحاً تَقَرُّ به أعينكم، وعسى أن يكون في الشيء المكروه الخير الكثير وفي الحديث الصحيح «لا يَفْركْ» «أي لا يبغض» مؤمنٌ مؤمنة إِن كره منها خُلُقاً رضي منها آخر «ثم حذّر تعالى من أخذ شيء من المهر بعد الطلاق فقال ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ﴾ أي وإِن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة طلقتموها ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً﴾ أي والحال أنكم كنتم قد دفعتم مهراً كبيراً يبلغ قنطاراً ﴿فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً﴾ أي فلا تأخذوا ولو قليلاً من ذلك المهر ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ استفهام إِنكاري أي أتأخذونه باطلاً وظلماً؟ ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ أي كيف يباح لكم أخذه وقد استمعتم بهن بالمعاشرة الزوجية؟ ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ أي أخذن منكم عهداً وثيقاً مؤكداً هو» عقد النكاح «قال مجاهد: الميثاق الغليظ عقدة النكاح وفي الحديث
«اتقوا الله في النساء فإِنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله».
البَلاَغَة: تضمنت الآيات أنواعاً من البيان والبديع وهي بإِيجاز كما يلي:
١ - المجاز العقلي في قوله ﴿يَتَوَفَّاهُنَّ الموت﴾ والمراد يتوفاهنَّ الله أو ملائكته.
٢ - الاستعارة ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ استعار لفظ الميثاق للعقد الشرعي.
٣ - الجناس المغاير في ﴿فَإِن تَابَا... تَوَّاباً﴾ وفي ﴿كَرِهْتُمُوهُنَّ... أَن تَكْرَهُواْ﴾.
٤ - المبالغة في تفخيم الأمر وتأكيده ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً﴾ لتعظيم الأمر والمبالغة فيه.
فَائِدَة: كنّى الله تعالى عن الجماع بلفظ الإِفضاء ﴿وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ لتعليم المؤمنين الأدب الرفيع قال ابن عباس: «الإِفضاء في هذه الآية الجماعُ ولكنَّ الله كريم يكني».
اللغَة: ﴿سَلَفَ﴾ مضى ﴿مَقْتاً﴾ المقت: البغض الشديد لمن تعاطى القبيح وكان العرب يسمون زواج الرجل امرأة أبيه «نكاح المقت» ﴿رَبَائِبُكُمُ﴾ جمع ربيبة وهي بنت المرأة من آخر سميت به لأنها تتربّى في حجر الزوج ﴿حُجُورِكُمْ﴾ جمع حَجْر أي في تربيتكم يقال: فلان في حجر فلان إِذا كان في تربيته قال أبو عبيدة: في حجوركم أي في بيوتكم ﴿حَلاَئِلُ﴾ جمع حليلة بمعنى الزوجة سميت بذلك لأنها تحل لزوجها ﴿مُّحْصِنِينَ﴾ متعففين عن الزنى ﴿مُسَافِحِينَ﴾ السفاح: الزنى وأصله في اللغة من السفح وهو الصبّ وسمي سفاحاً لأنه لا غرض للزاني إِلا سفح النطفة وقضاء الشهوة ﴿طَوْلاً﴾ سعةً وغنى ﴿أَخْدَانٍ﴾ جمع خِدْنَ وهو الصديق للمرأة يزني بها سراً ﴿العنت﴾ الفجور وأصله الضرر والفساد ﴿سُنَنَ﴾ جمع سنة وهي الطريقة ﴿نُصْلِيهِ﴾ ندخله.
سَبَبُ النّزول: أ - لما توفي «أبو قيس بن الأسلت» وكان من صالحي الأنصار، خطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت: إِني أعدّك ولداً!! ولكني آتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استأمره فأتته فأخبرته فأنزل الله ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء....﴾ الآية.
ب - عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ... ﴾ الآية قال: فاستحللناهن.
التفِسير: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ أي لا تتزوجوا ما تزوج آباؤكم من النساء لكن ما سبق فقد عفا الله عنه ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً﴾ أي فإِن نكاحهن أمر قبيح قد تناهى في القبح والشناعة، وبلغ الذروة العليا في الفظاعة والبشاعة، إِذ كيف يليق بالإِنسان أن يتزوج امرأة أبيه وأن يعلوها بعد وفاته وهي مثل أمه ﴿وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ أي بئس ذلك النكاح القبيح الخبيث طريقاً، ثم بيّن تعالى المحرمات من النساء فقال ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ أي حُرّم عليكم نكاح الأمهات وشمل اللفظ الجدات من قبل الأب أو الأم ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾ وشمل بنات الأولاد وإِن نزلن ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ أي شقيقة كانت أو لأب أو لأم ﴿وَعَمَّاتُكُمْ﴾ أي أخوات آبائكم وأجدادكم ﴿وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت﴾ أي بنت الأخ وبنت الأخ ويدخل فيهن أولادهن، وهؤلاء المحرمات بالنسب وهنَّ كما تقدم «الأمهات، البنات، الأخوات، العمات، الخالات، بنات الأخ، بنات الأخت» ثم شرع تعالى في ذكر المحرمات من الرضاع فقال ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة﴾ نزّل الله الرضاعة منزلة النسب حتى سمّى المرضعة أماً للرضيع أي كما يحرم عليك أمك التي ولدتك، كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك، وكذلك أختك من الرضاع، ولم تذكر الآية من المحرمات بالرضاع سوى «الأمهات والأخوات» وقد وضحت السنة النبوية أن المحرمات بالرضاع سبع كما هو الحال في النسب لقوله عليه اللام
«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»
«من أراد أن يلقي الله طاهراً مطهراً فلينكح الحرائر» ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي واسع المغفرة عظيم الرحمة ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ أي يريد الله أن يفصّل لكم شرائع دينكم ومصالح أموركم ﴿وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ أي يرشدكم إِلى طرائق الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم ﴿وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ أي يقبل توبتكم فيما اقترفتموه من الإِثم والمحارم ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي عليم بأحوال العباد حكيم في تشريعه لهم ﴿والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ كرّره ليؤكد سعة رحمته تعالى على العباد أي يحب بما شرع من الأحكام أن يطهركم من الذنوب والآثام، ويريد توبة العبد ليتوب عليه ﴿وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً﴾ أي ويريد الفجرة أتباع الشيطان أن تعدلوا عن الحق إِلى الباطل وتكونوا فسقة فجرة مثلهم ﴿يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ أي يريد تعالى بما يسَّر أن يسهّل عليكم أحكام الشرع ﴿وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً﴾ أي عاجزاً عن مخالفة هواه لا يصبر عن إِتباع الشهوات، ثم حذر تعالى من أكل أموال الناس بالباطل فقال ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل﴾ أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا يأكل بعضكم أموال بعض بالباطل وهو كل طريق لم تبحه الشريعة كالسرقة والخيانة والغصب والربا والقمار وما شاكل ذلك ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ﴾ أي إِلا ما كان بطريق شرعي شريف كالتجارة التي أحلها الله قال ابن كثير: الاستثناء منقطع أي لا تعتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال لكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراضٍ من البائع والمشتري فافعلوها ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ أي لا يسفك بعضكم دم بعض، والتعبير عنه بقتل النفس للمبالغة في الزجر، أو هو على ظاهره بمعننى الانتحار وذلك من رحمته تعالى بكم ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً﴾ أي ومن يرتكب ما نهى الله عنه معتدياً ظالماً لا سهواً ولا خطأً ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً﴾ أي ندخله ناراً عظيمة يحترف فيها ﴿وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً﴾ أي هيناً يسيراً لا عسر فيه لأنه تعالى لا يعجزه شيء ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أي إِن تتركوا أيها المؤمنون الذنوب الكبائر التي نهاكم الله عَزَّ وَجَلَّ عنها نمح عنكم صغائر الذنوب بفضلنا ورحمتنا ﴿وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً﴾ أي نُدخلكم الجنة دار الكرامة والنعيم، التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات أنواعاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - المجاز المرسل في ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ أي حرّم عليكم نكاح الأمهات فهو على حذف مضاف.
٢ - الطباق في ﴿حُرِّمَتْ... وَأُحِلَّ﴾ وفي ﴿مُّحْصِنِينَ... مُسَافِحِينَ﴾ وفي ﴿كَبَآئِرَ... سَيِّئَاتِكُمْ﴾ لأن المراد بالسيئات الصغائر من الذنوب.
٤ - الاستعارة في ﴿وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ استعار لفظ الأجور للمهور، لأن المهر يشبه الأجر في الصورة.
٥ - الجناس المغاير في ﴿تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ﴾ وفي ﴿أَرْضَعْنَكُمْ... مِّنَ الرضاعة﴾ وفي ﴿مُحْصَنَاتٍ... فَإِذَآ أُحْصِنَّ﴾ والإِطناب في مواضع، والحذف في مواضع.
الفوَائِد: الأولى: استنباط العلماء في آية المحرمات القاعدة الآتية وهي «العقد على البنات يحرّم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرّم البنات».
الثانية: حمل بعض الروافض والشيعة قوله تعالى ﴿فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنّ﴾ على نكاح المتعة وهو خطأ فاحش لأن الغرض من الاستمتاع هنا التمتع بالأزواج عن طريق الجماع لانكاح المتعة فقد ثبت حرمة نكاح المتعة بالسنة والإِجماع ولا عبرة بما خالف ذلك.
الثالثة: قال ابن عباس: الكبيرة كل ذنبٍ ختمه الله بنار، أو غضبٍ، أو لعنةٍ، أو عذاب.
الرابعة: روى سعيد بن جبير أن رجلاً قال لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هي إِلى السبعمأة أقرب منها إِلى السبع، ولكن لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إِصرار، ذكره القرطبي.
اللغَة: ﴿مَوَالِيَ﴾ المَوْلى: الذي يتولى غيره يقال للعبد مَوْلى وللسيد مَوْلى لأن كلاً منهما يتولى الآخر والمراد به هنا الورثة والعصبة ﴿قَوَّامُونَ﴾ قوّام: مبالغة من القيام على الأمر بمعنى حفظه ورعايته أي يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية ﴿قَانِتَاتٌ﴾ مطيعات وأصل القنوت دوام الطاعة ﴿نُشُوزَهُنَّ﴾ عصيانهن وترفعهن وأصله المكان المرتفع ومنه تلٌّ ناشز ويقال: نشزت المرأة إِذا ترفعت على زوجها وعصته ﴿المضاجع﴾ جمع مضجع وهو المرقد ﴿شِقَاقَ﴾ الشقاق: الخلاف والعداوة مأخوذ من الشق بمعنى الجانب لأن كلاً من المتشاقين يكون في شق غير شق صاحبه أي في ناحية ﴿الجنب﴾ البعيد الذي ليس له قرابة تربطه بجاره، وأصل الجنابة: البعد ﴿مُخْتَالاً﴾ المختال: ذو الخيلاء والكبر ﴿مِثْقَالَ﴾ وزن ﴿الغآئط﴾ الحدث وأصله المطمئن من الأرض وكانوا إِذا أرادوا قضاء الحاجة أتوا منخفضاً من الارض فكني عن الحدث بالغائط.
سَبَبُ النّزول: أ - عن مجاهد قال: قالت «أم سلمة» يا رسول الله: يغزو الرجال ولا نغزو وإِنما لنا نصف الميراث فأنزل الله ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ﴾ الآية.
ب - روي أن سعد بن الربيع - وكان نقيباً من نقباء الأنصار - نشزت عليه امرأته «حبيبة بنت زيد» فلطمها فانطلق أبوها معها إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لتقتصَّ منه فنزلت ﴿الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء﴾ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير».
﴿وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٥] وقال ابن عباس: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجريُّ الأنصاريَّ دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بينهم فلما نزلت ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ﴾ نسخت ﴿إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً﴾ أي مطلعاً على كل شيء وسيجازيكم عليه.. ثم بيّن تعالى أن الرجال يتولون أمر النساء في المسئولية والتوجيه فقال ﴿الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء﴾ أي قائمون عليهن بالأمر والنهي، والإِنفاق والتوجيه كما يقوم الولاة على الرعية ﴿بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ أي بسبب ما منحهم الله من العقل والتدبير، وخصهم به من الكسب والإِنفاق، فهم يقومون على النساء بالحفظ والرعاية والإِنفاق والتأديب قال أبو السعود: «والتفضيلُ للرجل لكمال العقل وحسن التدبير ورزانة الرأي ومزيد القوة، ولذلك خصوا بالنبوة والإِمامة والولاية والشهادة والجهاد وغير ذلك» ﴿فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله﴾ هذا تفصيل لحال النساء تحت رياسة الرجل، وقد ذكر تعالى أنهن قسمان: قسم صالحات مطيعات، وقسم عاصيات متمردات، فالنساء الصالحات مطيعات لله ولأزواجهن، قائمات بما عليهن من حقوق، يحفظن أنفسهن عن الفاحشة وأموال أزواجهن عن التبدير كما أنهن حافظات لما يجري بينهن وبين أزواجهن مما يجب كتمه ويجمل ستره وفي الحديث «إِن من شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة، الرجلُ يُفْضي إِلى امرأته وتُفْضي إِليه ثم ينشر أحدهما سرَّ صاحبه» ﴿واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ هذا القسم الثاني وهنَّ النساء العاصيات المتمردات أي واللاتي يتكبرون ويتعالين عن طاعة الأزواج فعليكم أيها الرجال أن تسلكوا معهن سبل الإِصلاح ﴿فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي المضاجع واضربوهن﴾ أي فخوفوهنَّ الله بطريق النصح والإِرشاد، فإِن لم ينجح الوعظ والتذكير فاهجروهنَّ في الفراش فلا تكلموهن ولا تقربوهن قال ابن
﴿يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً﴾ [النبأ: ٤٠] وذلك لما يرون من أهوال يوم القيامة ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ أي لا يستطيعون أن يكتموا الله حديثاً لأن جوارحهم تشهد عليهم بما فعلوه.. ثم أمر تعالى باجتناب الصلاة في حال السكر والجنابة فقال ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ أي لا تصلوا في حالة السكر لأن هذه الحالة لا يتأتى معها الخشوع والخضوع بمناجاته سبحانه وتعالى، وقد كان هذا قبل تحريم الخمر روى الترمذي عن علي كرم الله وجهه أنه قال «صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت» قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون. ونحن نعبد ما تعبدون «فأنزل الله ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ الآية ﴿وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ﴾ أي ولا تقربوها وأنتم جنب أي غير طاهرين بإِنزالٍ أو إِيلاج إِلا إِذا كنتم مسافرين ولم تجدوا الماء فصلوا على تلك الحالة بالتيمم ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط﴾ أي وإِن كنتم مرضى ويضركم الماء، أو مسافرين وأنتم محدثون أو أحدثتم ببولٍ أو غائطٍ ونحوهما حدثاً أصغر ولم تجدوا الماء ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء﴾ قال ابن عباس: هو الجماع {فَلَمْ تَجِدُواْ
البَلاَغَة: تضمنت هذه الآيات من الفصاحة والبيان والبديع ما يلي:
١ - الإِطناب في قوله ﴿نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا... نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن﴾ وفي ﴿حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ وفي ﴿والجار ذِي القربى والجار الجنب﴾.
٢ - الاستعارة ﴿مِّمَّا اكتسبوا﴾ شبه استحقاقهم للإِرث وتملكهم له بالإِكتساب واشتق من لفظ الاكتساب اكتسبوا على طريقة الاستعارة التبعية.
٣ - الكناية في ﴿واهجروهن فِي المضاجع﴾ فقد كنى بذلك عن الجماع وكذلك في ﴿لاَمَسْتُمُ النسآء﴾ قال ابن عباس معناه: جامعتم النساء كما كنى عن الحدث بالغائط في قوله ﴿أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط﴾.
٤ - صيغة المبالغة في ﴿الرجال قَوَّامُونَ﴾ لأن فعّال من صيغ المبالغة ومجيء الجملة إسمية لإِفادة الدوام والاستمرار.
٥ - السؤال عن المعلوم لتوبيخ السامع في قوله ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا﴾ يراد بها التقريع والتوبيخ.
٦ - جناس الاشتقاق في ﴿حَافِظَاتٌ... حَفِظَ﴾ وفي قوله ﴿بِشَهِيدٍ.... وَشَهِيداً﴾.
٧ - التعريض في ﴿مُخْتَالاً فَخُوراً﴾ عرّض بذلك إِلى ذم الكبر المؤدي لاحتقار الناس.
٨ - الحذف في عدة مواضع مثل ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ أي أحسنوا إلى الوالدين إحساناً.
الفوَائِد: الأولى: لم يذكر الله تعالى في الآية إِلا «الإِصلاح» في قوله ﴿إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً﴾ ولم يذكر ما يقابله وهو التفريق وفي ذلك إِشارة لطيفة إِلى أنه ينبغي على الحكمين أن يبذلا جهدهما للإِصلا ح لأن في التفريق خراب البيوت وتشتيت الأولاد وذلك مما ينبغي أن يجتنب.
الثانية: ختم تعالى الآية بهذين الإِسمين العظيمين ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً﴾ وذلك لتهديد الأزواج عند التعسف في استعمال الحق فكأن الآية تقول: لا تغتروا بكونكم أعلى يداً منهن وأكبر درجة منهن فإِن الله عليٌّ قاهر ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن، فالله أعلى منكم وأقدر عليكم منكم عليهن فاحذروا عقابه.
الثالثة: روى البخاري «عن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِقرأ عليًّ القرآن فقلت يا رسول الله: اقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: نعم فإِني أحب أن أسمعه من غيري!! فقرأت سورة النساء حتى أتيت إِلى هذه الآية ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً﴾ فقال: حسبك الآن فنظرت فإِذا عيناه تذرفان».
تنبيه: ورد النظم الكريم ﴿بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ ولو قال: بتفضيلهم عليهن لكان أخضر وأوجز ولكنَّ التعبير ورد بتلك الصيغة لحكمة جليلة وهي إِفادة أن المرأة من الرجل بمنزلة
«كلمة حول تأديب النساء»
لعل أخبث ما يتخذه أعداء الإِسلام للطعن في الشريعة الإِسلامية زعمهم أن الإِسلام أهان المرأة حين سمح للرجل أن يضربها ويقولون: كيف يسمح القرآن بضرب المرأة ﴿واهجروهن فِي المضاجع﴾ أفليس إِهانة للمرأة واعتداءً على كرامتها؟ ﴿
والجواب: نعم لقد أذن الحكيم العليم بضربها ولكن متى يكون الضرب؟ ولمن يكون؟ إِن الضرب - ضرباً غير مبرِّح - كما ورد به الحديث الشريف أحد الطرق في معالجة نشوز المرأة وعصيانها لأمر الزوج، فحين تسيء المرأة عشرة زوجها وتركب رأسها وتسير بقيادة الشيطان وتقلب الحياة الزوجية إلى جحيم لا يطاق فماذا يصنع الرجل في مثل هذه الحالة؟﴾ لقد أرشدنا القرآن الكريم إلى الدواء فأمر بالصبر والأناة، ثم بالوعظ والإِرشاد، ثم بالهجر في المضاجع، فإِذا لم تنجح كل هذه الوسائل فلا بدَّ من سلوك طريق آخر هو الضرب غير المبرح لكسر الغطرسة والكبرياء، وهذا أقل ضرراً من إِيقاع الطلاق عليها، وإِذا قيس الضرر الأخف بالضرر الأكبر كان حسناً وجميلاً وما أحسن ما قيل «وعند ذكر العمى يُستحسن العَوَر» فالضرب طريق من طرق العلاج ينفع في بعض الحالات التي يستعصي فيها الإِصلاح باللطف والإِحسان والجميل ﴿فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ [النساء: ٧٨] !!.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى شيئاً من أحوال الكفار في الآخرة وأنهم يتمنون لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً.. أعقبه بذكر ما عليه اليهود من الكفر والجحود والتكذيب بآيات الله، ثم ذكر طائفة من عقائد أهل الكتاب الزائغة وما أعد لهم من العذاب المقيم في دار الجحيم أعاذنا الله منها.
اللغَة: ﴿رَاعِنَا﴾ راقبنا وانظرنا وهي كلمة سب في العبرية وكان اليهود يقولونها ويعنون بها معنى الرعونة ﴿أَقْوَمَ﴾ أعدل وأصوب ﴿نَّطْمِسَ﴾ الطمس: المحو وإِذهاب أثر الشيء ﴿فَتِيلاً﴾ الفتيل: الخيط الذي في شق النواة ﴿الجبت﴾ اسم الصنم ثم صار مستعملاً لكل باطل ﴿الطاغوت﴾ كل ما عبد من دون الله من حجر أو بشر أو شيطان وقيل هو اسم للشيطان ﴿نَقِيرا﴾ النقير: النقطة التي على ظهر النواة ﴿نُصْلِيهِمْ﴾ ندخلهم.
التفِسير: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾ الاستفهام للتعجيب من سوء حالهم والتحذير عن موالاتهم أي ألم تنظر يا محمد إِلى الذين أعطوا حظاً من علم التوراة وهم أحبار اليهود ﴿يَشْتَرُونَ الضلالة﴾ أي يختارون الضلالة على الهدى ويؤثرون الكفر على الإِيمان ﴿وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل﴾ أي ويريدون لكم يا معشر المؤمنين أن تضلوا طريق الحق لتكونوا مثلهم ﴿والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ أي هو تعالى أعلم بعداوة هؤلاء اليهود الضَّالين منكم فاحذروهم ﴿وكفى بالله وَلِيّاً وكفى بالله نَصِيراً﴾ أي حسبكم أن يكون الله ولياً وناصراً لكم فثقوا به واعتمدوا عليه وحده فهو تعالى يكفيكم مكرهم.. ثم ذكر تعالى طرفاً من قبائح اليهود اللعناء فقال ﴿مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ أي من هؤلاء اليهود فريق يبدّلون كلام الله في التوراة ويفسرونه بغير مراد الله قصداً وعمداً فقد غيرّوا نعت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأحكام الرجم وغير ذلك ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ أي ويقولون
. ثم توعدهم تعالى بالطمس وإِذهاب الحواس فقال ﴿يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا﴾ أي يا معشر اليهود آمنوا بالقرآن الذي نزلناه على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ﴾ أي مصدقاً للتوراة ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ﴾ أي انطمس منها الحواس من أنفٍ أو عين أو حاجب حتى تصير كالأدبار، وهذا تشويه عظيم لمحاسن الإِنسان وهو قول ابن عباس ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت﴾ أي نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت وهم الذين اعتدوا في السبت فمسخهم الله قردة وخنازير ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً﴾ أي إِذا أمر بأمر فإِنه نافذ كائن لا محالة ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ أي لا يغفر الشرك ويغفر ما سوى ذلك من الذنوب لمن شاء من عباده ﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً﴾ أي من أشرك بالله فقد اختلق إِثماً عظيماً قال الطبري: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله إِن شاء عفا عنه وإِن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركاً بالله.. ثم ذكر تعالى تزكية اليهود أنفسهم مع كفرهم وتحريفهم الكتاب فقال ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي ألم يبلغك خبر هؤلاء الذين يمدحون أنفسهم ويصفونها بالطاعة والتقوى؟ والاستفهام للتعجيب من أمرهم قال قتادة: ذلكم أعداء الله اليهود زكُّوا أنفسهم فقالوا ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾
[المائدة: ١٨] أي ليس الأمر بتزكيتهم بل بتزكية الله فهو أعلم بحقائق الأمور وغوامضها يزكي المرتضين من عباده
[الحديد: ٢٦] ﴿وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً﴾ أي كفى بالنار المسعّرة عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم.. ثم أخبر تعالى بما أعده للكفرة الفجرة من الوعيد والعذاب الشديد فقال ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً﴾ أي سوف ندخلهم ناراً عظيمة هائلة تشوي الوجوه والجلود ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب﴾ أي كلما انشوت جلودهم واحترقت احتراقاً تاماً بدلناهم جلوداً غيرها ليدوم لهم ألم العذاب، قال الحسن: تُنْضجهم النار في اليوم سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فعادوا كما كانوا وقال الربيع: جلد أحدهم أربعون ذراعاً، وبطنُه لو وضع فيه جبل لوسعه، فإِذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلوداً غيرها في الحديث «يعظم أهل النار في النار حت إِن بين شحمة أذن أحدهم إِلى عاتقه مسيرة
البَلاَغَة: تضمنت هذه الآيات من الفصاحة والبلاغة والبديع ما يلي بالإِيجاز:
١ - المجاز المرسل في ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ الناس﴾ المراد به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من باب تسمية الخاص باسم العام إِشارة إِلى أنه جمعت فيه كمالات الأولين والآخرين.
٢ - الاستعارة في ﴿يَشْتَرُونَ الضلالة﴾ وفي ﴿لِيَذُوقُواْ العذاب﴾ لأن أصل الذوق باللسان فاستعير إِلى الألم الذي يصيب الإِنسان وفي ﴿لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ لأن أصل الليّ فتل الحبل فاستعير للكلام الذي قصد به غير ظاهره وفي ﴿نَّطْمِسَ وُجُوهاً﴾ وهي عبارة عن مسخ الوجوه تشبيهاً بالصحيفة المطموسة التي عُمّيت سطورها وأشكلت حروفها.
٣ - الاستفهام الذي يراد به التعجب في ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ في موضعين.
٤ - التعجب بلفظ الأمر في ﴿انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ﴾ وتلوين الخطاب في ﴿يَفْتَرُونَ﴾ وإقامته مقام الماضي للدلالة على الدوام والاستمرار.
٥ - الاستفهام الذي يراد منه التوبيخ والتقريع في ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ﴾ وفي ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ﴾.
٦ - التعريض في ﴿فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً﴾ عرَّض بشدة بخلهم.
٧ - الطباق في ﴿وُجُوه وَأَدْبَارِ﴾ وفي ﴿آمِنُواْ.. كَفَرُواْ﴾.
ربّ إِن الهُدى هُداك وأيا | تلك حق تهدي بها من تشاء |
٨ - جناس الاشتقاق في ﴿نَلْعَنَهُمْ.. وَلَعَنَّآ﴾ وفي ﴿يُؤْتُونَ | آتَاهُمُ﴾ وفي ﴿ظِلاًّ ظَلِيلاً﴾. |
اللغَة: ﴿نِعِمَّا﴾ أصلها نعم ما أي نعم الشيء يعظكم به ﴿تَأْوِيلاً﴾ مآلاً وعاقبة ﴿يَزْعُمُونَ﴾ الزعم: الاعتقاد الظني قال الليث: أهل العربية يقولون: زعم فلان إِذا شكُّوا فيه فلم يعرفوا أَكَذَب أو صدَقَ وقال ابن دريد: أكثر ما يقع على الباطل ومنه قولهم «زعموا مطيّّةُ الكذب» ﴿تَوْفِيقاً﴾ تأليفاً والوفاق والوَفْق ضد المخالفة ﴿بَلِيغاً﴾ مؤثراً ﴿شَجَرَ﴾ اختلف واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه واختلاط بعضها في بعض ﴿حَرَجاً﴾ ضيقاً وشكاً قال الواحدي: يقال للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل إِليه حرج.
سَبَبُ النّزول: أ - روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما دخل مكة يوم الفتح أغلق «عثمان بن طلحة» باب الكعبة وصعد السطح وأبي أن يدفع المفتاح لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: لو علمتُ أنه رسول الله لم أمنعه فلوى عليٌّ يده وأخذه منه وفتح بابها فدخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصلى ركعتين فلما خرج أمر علياً أن يردّ المفتاح إِلى عثمان بن طلحة ويعتذر إِليه فقال له عثمان: آذيتَ وأكرهت ثم جئتَ تترفق!! فقال لقد أنزل الله في شأنك قرآناً ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا... ﴾ وقرأ عليه الآية
ب - عن ابن عباس أن رجلاً من المنافقين يقال له «بِشْر» كان بينه وبين يهودي خصومةٌ فقال اليهودي: تعال نتحاكم إِلى محمد فقال المنافق: بل نتحاكم إِلى «كعب بن الأشرف» - وهو الذي سماه الله الطاغوت - فأبى اليهودي أن يخاصمه إِلا إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقضى رسول الله لليهودي على المنافق، فلما خرج من عنده لم يرض المنافق وقال: تعالى نتحاكمْ إِلى عمر بن الخطاب فأتيا عمر فقال اليهودي: كان بيني وبين هذا خصومة فتحاكمنا إِلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصمني إِليك فقال عمر للمنافق: أكذلك هو؟ فقال: نعم فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إِليكما فدخل عمر فاشتمل عليه سيفه ثم خرج فضرب به المنافق حتى برد - أي مات - وقال: هكذا أقضي فيمن لم يرض بقضاء الله ورسوله فنزلت الآية ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ.
.﴾ الآية.
التفِسير: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا﴾ الخطاب عام لجميع المكلفين كما أن الأمانات تعم جميع الحقوق المتعلقة بالذمم سواءً كانت حقوق الله أو العباد قال الزمخشري: الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة، والمعنى يأمركم الله أيها المؤمنون بأداء الأمانات إِلى أربابها قال ابن كثير: يأمر تعالى بأداء الأمانات إِلى أهلها وهو يعم جميع الأمانات الواجبة على الإِنسان من حقوق الله عَزَّ وَجَلَّ على عباده من الصلاة والزكاة والصيام والكفارات وغيرها، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغيرها ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل﴾ أي ويأمركم أن تعدلوا بين الناس في أحكامكم ﴿إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ أي نعم الشيء الذي يعظكم به ﴿إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ فيه وعد ووعيد أي سميع لأقوالكم بصير بأفعالكم ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ﴾ أي أطيعوا الله وأطيعوا رسوله بالتمسك بالكتاب والسنة، وأطيعو الحكام إِذا كانوا مسلمين متمسكين بشرع الله إِذ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، وفي قوله ﴿مِنْكُمْ﴾ دليل على أن الحكام الذين تجب طاعتهم يجب أن يكونوا مسلمين حسّاً ومعنى، لحماً ودماً، لا أن يكونوا مسلمين صورة وشكلاً ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول﴾ أي فإِن اختلفتم في أمرٍ من الأمور فاحتكموا فيه إِلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ أي إِن كنتم مؤمنين حقاً وهو شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق أي فردوه إِلى الله والرسول والغرض منه الحث على التمسك بالكتاب والسنة كما يقول القائل: إِن كنت ابني فلا تخالفني ﴿ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ أي الرجوع إِلى كتاب الله وسنة رسوله خير لكم وأصلح وأحسن عاقبة ومآلاً.. ثم ذكر تعالى صفات المنافقين الذين يدّعون الإِيمان وقلوبهم خاوية منه فقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من ضروب الفصاحة والبديع ما يلي باختصار:
١ - الاستفهام المراد به التعجب في ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ﴾.
٢ - الالتفات في ﴿واستغفر لَهُمُ الرسول﴾ تفخيماً لشأن الرسول وتعظيماً لاستغفاره ولو جرى على الأصل لقال ﴿واستغفر لَهُمُ﴾.
٣ - إِيراد الأمر بصورة الإِخبار وتصديره ب «إِنَّ» المفيدة للتحقيق في قوله ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ﴾ للتفخيم وتأكيد وجوب العناية والامتثال.
٤ - الجناس المغاير في ﴿يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً﴾ وفي ﴿قُل لَّهُمْ... قَوْلاً﴾ وفي ﴿يُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾ وفي ﴿يَصُدُّونَ... صُدُوداً﴾ وفي ﴿فَأَفُوزَ فَوْزاً﴾ [النساء: ٧٣].
٥ - الاستعارة في قوله ﴿فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ استعار ما اشتبك وتضايق من الشجر للتنازع الذي يدخل به بعض الكلام في بعض استعارة للمعقول بالمحسوس.
٦ - تكريم الاسم الجليل ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ﴾ ﴿إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ﴾ ﴿إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً﴾ لتربية المهابة في النفوس.
٧ - الإِطناب في مواضع والحذف في مواضع.
فَائِدَة: عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: جاء رجل إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا رسول الله: إِنك لأحب إِليَّ من نفسي وأحبُّ إِليَّ من أهلي، وإِني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إِليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك عرفتُ أنك إِذا دخلت الجنةُ رفعتَ مع النبيين وإِن دخلتُ الجنة
اللغَة: ﴿ثُبَاتٍ﴾ جمع ثُبتة وهي الجماعة أي جماعة بعد جماعة ﴿بُرُوجٍ﴾ جمع برج وهو البناء المرتفع والقصر العظيم والمراد به هنا الحصون ﴿مُّشَيَّدَةٍ﴾ مرتفعة البناء ﴿بَيَّتَ﴾ دبَّر الأمر ليلاً، والبَيَاتُ أن يأتي العدو ليلاً ومنه قول العرب: أمرٌ بُيِّتَ بليل ﴿أَذَاعُواْ بِهِ﴾ أشاعوه ونشروه ﴿يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ يستخرجونه مأخوذ من استنبطت الماء إِذا استخرجته ومنه استنباط الأحكام من الكتاب والسنة ﴿حَرِّضِ﴾ التحريض: الحث عن الشيء ﴿تَنكِيلاً﴾ تعذيباً والنكالُ: العذابُ ﴿كِفْلٌ﴾ نصيب وأكثر ما يستعمل الكفل في الشر ﴿مُّقِيتاً﴾ مقتدراً من أوقات على الشيء قدر عليه قال الشاعر:
وذي ضِغْنٍ كففتُ النفس عنه... وكنتُ على مساءته مُقيتاً
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكة فقالوا: يا نبيَّ الله لقد كنا في عزٍ ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة؟ فقال: إِني أُمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم، فلما حوله الله تعالى إِلى المدينة أمره بالقتال فكفّوا فأنزل الله ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصلاة... ﴾ الآية.
التفِسير: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾ أي يا معشر المؤمنين احترزوا من عدوكم واستعدوا له ﴿فانفروا ثُبَاتٍ أَوِ انفروا جَمِيعاً﴾ أي اخرجوا إِلى الجهاد جماعات متفرقين، سريةً بعد سرية أو اخرجوا مجتمعين في الجيش الكثيف، فخيَّرهم تعالى في الخروج إِلى الجهاد متفرقين ومجتمعين ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ﴾ أي ليثاقلنَّ ويتخلفنَّ عن الجهاد، والمراد بهم المنافقون وجعلوا من المؤمنين باعتبار زعمهم وباعتبار الظاهر ﴿فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ﴾ أي قتل وهزيمة ﴿قَالَ قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً﴾ أي قال ذلك المنافق قد تفضَّل الله عليَّ إِذ لم أشهد الحرب معهم فأُقتل ضمن من قتلوا ﴿وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله﴾ أي ولئن أصابكم أيها المؤمنون نصر وظفر وغنيمة ﴿لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ أي ليقولنَّ هذا المنافق قول نادم متحسر كأن لم يكن بينكم وبينه معرفة وصداقة يا ليتني كنت معهم في الغزو لأنال حظاً وافراً من الغنيمة، وجملة ﴿كَأَن لَّمْ تَكُنْ﴾ اعتراضية للتنبيه على ضعف إِيمانهم، وهذه المودة في ظاهر المنافق لا في اعتقاده فهو يتمنى
«تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يُخرجه إِلا جهادٌ في سبيلي، وإِيمانٌ وتصديقٌ برسلي فهو عليَّ ضامن أن أُدخله الجنة أو أرجعه إِلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة» ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان﴾ الاستفهام للحث والتحريض على الجهاد أي وما لكم أيها المؤمنون لا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل خلاص المستضعفين من إِخوانكم الذين صدَّهم المشركون عن الهجرة فبقوا مستذلين مستضعفين يلقون أنواع الأذى الشديد؟ ﴿وقوله {مِنَ الرجال والنسآء والولدان﴾ بيانٌ للمستضعفين قال ابن عباس: كنتُ أنا وأمي من المستضعفين، وهم الذين كان يدعو لهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول: اللهم أنْج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام الخ كما في الصحيح ﴿الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية﴾ أي الذين يدعون ربهم لكشف الضُرّ عنهم قائلين: ربنا أخرجنا من هذه القرية وهي مكة إِذ أنها كانت موطن الكفر ولذا هاجر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿الظالم أَهْلُهَا﴾ بالكفر وهم صناديد قريش الذين منعوا المؤمنين من الهجرة ومنعوا من ظهور الإِسلام فيها ﴿واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً﴾ أي اجعل لنا من هذا الضيق فرجاً ومخرجاً وسخّر لنا من عندك وليّاً وناصراً، وقد استجاب الله دعاءهم فجعل لهم خير وليّ وناصر وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين فتح مكة ولما خرج منها ولّى عليهم «عتّاب بن أسيد» فأنصف مظلومهم من ظالمهم، ثم شجع تعالى المجاهدين ورغبهم في الجهاد فقال ﴿الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي المؤمنون يقاتلون لهدف سامٍ وغاية نبيلة وهي نصرة دين الله وإِعلاء كلمته ابتغاء مرضاته فهو تعالى وليهم وناصرهم ﴿والذين كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغوت﴾ أي وأما الكافرون فيقاتلون في سبيل الشيطان الداعي إِلى الكفر والطغيان ﴿فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان﴾ أي قاتلوا يا أولياء الله أنصار واعوان الشيطان فإِنكم تغلبونهم، فشتان بين من يقاتل لإِعلاء كلمة الله وبين من يقاتل في سبيل الشيطان، فمن قاتل في سبيل الله فهو الذي يَغْلب لأن الله وليُّه وناصرُه، ومن قاتل في سبيل الطاغوت فهو المخذول المغلوب ولهذا قال ﴿إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً﴾ أي سعيُ الشيطان في حد ذاته ضعيف فكيف بالقياس إِلى قدرة الله؟} قال الزمخشري: كيدُ الشيطان للمؤمنين إِلى
﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ﴾
[الأعراف: ١٣١] ﴿قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله﴾ أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يرد زعمهم الباطل ويلقمهم الحجر ببيان أن الخير والشر بتقدير الله أي قل يا محمد لهؤلاء السفهاء: الحسنةُ والسيئة والنعمةً والنقمة كلُّ ذلك من عند الله خلقاً وإِيجاداً لا خالق سواه فهو وحده النافع الضار وعن إِرادته تصدر جميع الكائنات {فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ
البَلاَغَة: تضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعادة في قوله ﴿يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة﴾ أي يبيعون الفانية بالباقية فاستعار لفظ الشراء للمبادلة وهو من لطيف الاستعارة.
٢ - الاعتراض في ﴿كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ﴾.
٣ - التشبيه المرسل المجمل في ﴿يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله﴾.
٤ - الطباق في ﴿الأمن أَوِ الخوف﴾.
٥ - جناس الاشتقاق في ﴿أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ﴾ وفي ﴿حُيِّيتُم... فَحَيُّواْ﴾ وفي ﴿يَشْفَعْ شَفَاعَةً﴾ وفي ﴿بَيَّتَ... يُبَيِّتُونَ﴾.
٦ - الاستفهام الذي يراد به الإِنكار في ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن﴾.
٧ - المقابلة في قوله ﴿الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغوت﴾ وكذلك في قوله ﴿مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا﴾ وهذه من المحسنات البديعية وهي أي يؤتى بمعنيين أو أكثر ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب.
تنبيه: لا تعَارض بين قوله تعالى ﴿كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله﴾ أي كلٌ من الحسنة والسيئة وبين قوله ﴿وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ إِذ الأولى على الحقيقة أي خلقاً وإِيجاداً والثانية تسبباً وكسباً بسبب الذنوب ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠] أو نقول: نسبة الحسنة إِلى الله، والسيئة إِلى العبد هو من باب الأدب مع الله في الكلام وإِن كان كل شيء منه في الحقيقة كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «الخير كلُّه بيديك والشرُّ ليس إِليك» والله أعلم.
اللغَة: ﴿أَرْكَسَهُمْ﴾ ردّهم إِلى الكفر أو نكَّسهم وأصل الركس ردُّ الشيء مقلوباً قال الشاعر:
فأُركسوا في حميم النار إِنهم | كانوا عصاةً وقالوا الإِفك والزورا |
سَبَبُ النّزول: أ - عن زيد بن ثابت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج إِلى أُحد فرجع ناسٌ ممن كان معه،
ب - يروى أن «الحارث بن يزيد» كان شديداً على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجاء مهاجراً وهو يريد الإِسلام فلقيه «عياش بن أبي ربيعة» - والحارث يريد الإِسلام وعياش لا يشعر - فقتله فأنزل الله ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً... ﴾. الآية.
ج - عن ابن عباس قال: لحق المسلمون رجلاً في غنيمةٍ له فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته فنزلت هذه الآية ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً... ﴾ الآية.
التفِسير: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا﴾ أي ما لكم أيها المؤمنون أصبحتم فرقتين في شأن المنافقين، بعضكم يقول نقتلهم وبعضكم يقول لا نقتلهم والحال أنهم منافقون والله نكَّسهم وردّهم إِلى الكفر بسبب النفاق والعصيان ﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله﴾ أي أتريدون هداية من أضله الله، والاسفهام للإِنكار والتوبيخ في الموضعين والمعنى لا تختلفو في أمرهم ولا تظنوا فيهم الخير لأن الله حكم بضلالهم ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ أي من يضلله الله فلن تجد له طريقاً إِلى الهدى والإِيمان ﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً﴾ أي تمنى هؤلاء المنافقون أن تكفروا مثلهم فتستوا أنتم وهم وتصبحوا جميعاً كفاراً ﴿فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي لا توالوا ولا تصادقوا منهم أحداً حتى يؤمنوا ويحققوا إِيمانهم بالهجرة والجهاد في سبيل الله ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ أي إِن أعرضوا عن الهجرة في سبيل الله فخذوهم أيها المؤمنون واقتلوهم حيث وجدتموهم في حلٍّ أو حرم ﴿وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ أي لا تستنصروهم ولا تستنصحوهم ولا تستعينوا بهم في الأمور ولو بذلوا لكم الولاية والنصرة ﴿إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ﴾ أي إِلا الذين ينتهون ويلجأون إِلى قوم عاهدوكم فدخلوا فيهم بالحِلْف فحكمهم حكم أولئك في حقن دمائهم ﴿أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ﴾ وهذا استثناء أيضاً من القتل أي وإِلا الذين جاءكم وقد ضاقت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم فهم قوم ليسوا معكم ولا عليكم ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ أي من لطفه بكم أن كفّهم عنكم ولو شاء لقوّاهم وجرّأهم عليكم فقاتلوكم ﴿فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾ أي فإِن لم يتعرضوا لكم بقتال وانقادوا واستسلموا لكم فليس لكم أن تقاتلوهم طالما سالموكم ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ﴾ أي ستجدون قوماً آخرين من المنافقين يريدون أن يأمنوكم بإِظهار الإِيمان ويأمنوا قومهم بإِظهار الكفر إِذا رجعوا إِليهم قال أبو السعود: هم قوم من «أسد وغطفان» كانوا إِذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا من المسلمين فإِذا رجعوا إِلى قومهم
. ثم بين تعالى حكم القتل العمد وجريمته النكراء وعقوبته الشديدة فقال ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا﴾ أي ومن يقدم على قتل مؤمن عالماً بإِيمانه متعمداً لقتله فجزاؤه جهنم مخلداً فيها على الدوام، وهذا محمول عند الجمهور على من استحل قتل المؤمن كما قال ابن عباس لأنه باستحلال القتل يصبح كافراً ﴿وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ أي ويناله السخط الشديد من الله والطرد من رحمة الله والعذاب الشديد في الآخرة ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ﴾ أي إِذا سافرتم في الجهاد لغزو الأعداء فتثبتوا ولا تعجلوا في القتل حتى يتبين لكم المؤمن من الكافر ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ أي ولا تقولوا لمن حياكم بتحية الإِسلام لست مؤمناً وإِنما قلت هذا خوفاً من القتل فتقتلوه ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا﴾ أي حال كونكم طالبين لماله الذي هو حطامٌ سريع الزوال ﴿فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ أي فعند الله ما هو خير من ذلك وهو ما أعده لكم من جزيل الثواب والنعيم ﴿كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ﴾ أي كذلك كنتم كفاراً فهداكم للإِسلام ومنَّ عليكم بالإِيمان فتبينوا أن تقتلوا مؤمناً وقيسوا حاله بحالكم ﴿إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ أي مطلعاً على أعمالكم فيجازيكم عليها، ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين فقال {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين - غَيْرُ أُوْلِي الضرر -
«إِن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض».
البَلاغَة: تضمنت هذه الآيات من البلاغة والبيان والبديع أنواعاً نوجزها فيما يلي:
١ - الاستفهام بمعنى الإِنكار في ﴿فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين﴾ ؟ وفي ﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ﴾ ؟
٢ - الطباق في ﴿أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله﴾ وكذلك ﴿القاعدون.... والمجاهدون﴾.
٣ - والجناس المغاير في ﴿تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ﴾ وفي ﴿مَغْفِرَةً... غَفُوراً﴾.
٤ - الإِطناب في ﴿فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.... وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين﴾ وكذلك في ﴿أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً﴾ ﴿وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً﴾.
٥ - الاستعارة في ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ استعار الضرب للسعي في قتال الأعداء واستعار السبيل لدين الله، ففيه استعارة الضرب للجهاد، واستعارة السبيل لدين الله.
٦ - المجاز المرسل في ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ أطلق الجزء وأراد الكل أي عتق مملوك.
الفوَائِد: القتل العمد من أعظم الجرائم في نظر الإِسلام ولهذا كانت عاقبته في غاية التغليظ والتشديد وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «من أعان على قتل مسلم مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبٌ بين عينيه آيسٌ من رحمة الله» وفي الحديث أيضاً «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مؤمن» تنبيه: أمر تعالى في القتل الخطأ بإِعتاق رقبةٍ مؤمنة والحكمة في هذا - والله أعلم - أنه لما اخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار إِذ أن إِطلاقها من قيد
اللغَة: ﴿مُرَاغَماً﴾ مذهباً ومتحولاً مشتق من الرّغام وهو التراب قال ابن قتيبة: المُراغم والمُهَاجر واحد وأصله أن الرجل كان إِذا أسلم خرج عن قومه مُراغماً لهم أي مغاضباً فقيل للمذهب مُرَاغَماً وسمي مصيرة إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هجرة ﴿سَعَةً﴾ اتساعاً في الرزق ﴿تَقْصُرُواْ﴾ القصر: النقص يقال قصر صلاته إِذا صلّى الرباعية ركعتين قال أبو عبيد: فيها ثلاث لغات قصرتُ الصلاة وقصَّرتها وأقصرتها ﴿تَغْفُلُونَ﴾ الغفلة: السهو الذي يعتري الإِنسان من قلة التحفظ والتيقظ ﴿مَّوْقُوتاً﴾ محدود الأوقات لا يجوز إِخراجه عن وقته ﴿تَهِنُواْ﴾ تضعفوا ﴿خَصِيماً﴾ الخصيم بمعنى المخاصم أي المنازع والمدافع ﴿خَوَّاناً﴾ مبالغاً في الخيانة.
سَبَبُ النَّزول: أ - عن ابن عباس قال: كان قوم من المسلمين أقاموا بمكة - وكانوا يستخفون بالإِسلام - فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب بعضهم فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأُكرهوا على الخروج فنزلت ﴿إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ... ﴾ الآية.
ب - كان ضمرة بن القيس من المستضعفين بمكة وكان مريضاً فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال لأولاده احملوني فإِني لستُ من المستضعفين وإِني لأهتدي الطريق، والله لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير ثم خرجوا به فمات في الطريق بالتنعيم فأنزل الله ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ﴾.
ج - روي أن رجلاً من الأنصار يقال له «طُعمة بن أُبيرق» من بني ظفر سرق درعاً من جاره «قتادة ابن النعمان» في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرقٍ فيه فخبأها عند «زيد بن السمين» اليهودي فالتُمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وما له بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إِلى منزل اليهودي فأخذوها فقال: دفعها إِليَّ طُعْمة وشهد له ناسٌ من اليهود فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وشهدوا ببراءته وسرقة
..﴾ الآية وهرب طُعْمة إِلى مكة وارتد ونقب حائطاً بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله.
التفِسير: ﴿إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ﴾ أي تتوفاهم الملائكة حال كونهم ظالمي أنفسهم بالإِقامة مع الكفار في دار الشرك وترك الهجرة إِلى دار الإِيمان ﴿قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض﴾ أي تقول لهم الملائكة في أيّ شيء كنتم من أمر دينكم؟ وهو سؤال توبيخ وتقريع قالوا معتذرين: كنا مستضعفين في أرض مكة عاجزين عن إِقامة الدين فيها ﴿قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ﴾ ؟ أي قالت لهم الملائكة توبيخاً: أليست أرض الله واسعة فتهاجروا من دار الكفر إلى دارٍ تقدرون فيها على إِقامة دين الله كما فعله من هاجر إِلى المدينة وإِلى الحبشة؟ قال تعالى بياناً لجزائهم ﴿فِيهَا فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً﴾ أي مقرهم النار وساءت مقراً ومصيراً، ثم استثنى تعالى منهم الضعفة والعاجزين عن الهجرة فقال ﴿إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾ أي لكن من كان منهم مستضعفاً كالرجال والنساء والأطفال الذين استضعفهم المشركون وعجزوا لإِعسارهم وضعفهم عن الهجرة ولا يستطيعون الخلاص ولا يهتدون الطريق الموصل لدار الهجرة ﴿فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ﴾ أي لعل الله أن يعفو عنهم لأنهم لم يتركوا الهجرة اختياراً ﴿وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً﴾ أي يعفو ويغفر لأهل الأعذار، وعسى في كلام الله تفيد التحقيق ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً﴾ هذا ترغيبٌ في الهجرة أي من يفارق وطنه ويهرب فراراً بدينه من كيد الأعداء يجد مُهَاجراً ومتجولاً في الأرض كبيراً يُراغم به أنف عدوه ويجد سعةً في الرزق فأرض الله واسعة ورزقه سابغ على العباد ﴿ياعبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فاعبدون﴾ [العنكبوت: ٥٦] ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله﴾ أخبر تعالى أن من خرج من بلده مهاجراً من أرض الشرك فاراً بدينه إلى الله ورسوله ثم مات قبل بلوغه دار الهجرة فقد ثبت أجر هجرته على الله تعالى ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ أي ساتراً على العباد رحيماً بهم ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة﴾ أي وإِذا سافرتم للغزو أو التجارة أو غيرهما فلا إِثم عليكم أن تقصروا من الصلاة فتصلوا الرباعية ركعتين ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا﴾ أي إِن خشيتم أن ينالكم مكروه من أعدائكم الكفرة، وذكرُ الخوف وليس للشرط وإِنما هو لبيان الواقع حيث كانت أسفارهم لا تخلو من خوف العدو لكثرة المشركين ويؤيده حديث «يعلى بن أمية» قال قلت لعمر بن الخطاب: إِن الله يقول ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ وقد أمن الناس فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذلك فقال
«صدقةٌ تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» ﴿إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً﴾ أي إِن الكافرين أعداء لكم مظهرون للعداوة ولا يمنعهم فرصة اشتغالكم بمناجاة الله أن يقتلوكم {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة
﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله﴾ أي إِنا أنزلنا إِليك يا محمد القرآن متلبساً بالحق لتحكم بين الناس بما عرّفك الله وأوحى به إِليك ﴿وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً﴾ أي لا تكن مدافعاً ومخاصماً عن الخائنين
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من البلاغة والبيان والبديع أنواعاً نوجزها فيما يلي:
١ - الاستفهام الذي يراد به التوبيخ والتقريع في ﴿قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ﴾ ؟ وفي ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً﴾ ؟
٢ -
٣ - الجناس المغاير في ﴿يَعْفُوَ... عَفُوّاً﴾ وفي ﴿يُهَاجِرْ... مُهَاجِراً﴾ وفي ﴿يَخْتَانُونَ... خَوَّاناً﴾ وفي ﴿يَسْتَغْفِرِ... غَفُوراً﴾.
٤ - إِطلاق الجمع على الواحد في ﴿تَوَفَّاهُمُ الملائكة﴾ يراد به ملك الموت وذكر بصيغة الجمع تفخيماً له وتعظيماً لشأنه.
٥ - طباق السلب ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله﴾.
٦ - الاطناب بكرار لفظ الصلاة تنبيهاً على فضلها ﴿إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً﴾.
اللغَة: ﴿نَّجْوَاهُمْ﴾ النجوى: السرُّ بين الإِثنين قال الواحدي: ولا تكون النجوى إِلا بين اثنين ﴿يُشَاقِقِ﴾ يخالف والشقاقُ: الخلاف مع العداوة لأن كلاً من المتخالفين يكون في شق غير شق الآخر ﴿مَّرِيداً﴾ المريد: العاتي المتمرد من مرد إِذا عتا وتجبر قال الأزهري: مرد الرجل إِذا عتا وخرج عن الطاعة فهو ما رد ومريد ﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ﴾ البتك: القطع ومنه سيف باتك أي قاطع ﴿مَحِيصاً﴾ مهرباً من حاص إِذا هرب ونفر وفي المثل «وقعوا في حيص بيص» أي فيما لا يقدر على التخلص منه ﴿خَلِيلاً﴾ من الخلة وهي صفاء المودة قال ثعلب: سمي الخليل خليلاً لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللاً إِلا ملأته قال بشار:
«إبعثْ بعثَ النار فيقول: وما بعث النار؟ فيقول من كل ألفٍ تسعمائةٌ وتسعة وتسعون» ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ لأصرفَنّهم عن طريق الهدى وأعدهم الأماني الكاذبة وألقي في قلوبهم طول الحياة وأن لا بعث ولا حساب ﴿وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام﴾ أي ولآمرنهم بتقطيع آذان الأنعام قال قتادة: يعني تشقيقها وجعلها علامة للبحيرة والسائبة كما كانوا يفعلون في الجاهلية ﴿وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ أي ولآمرنهم بتغيير خلق الله كخصاء العبيد والحيوان والوشم وغيره وقيل: المراد به تغيير دين الله بالكفر والمعاصي وإحلال ما حرّم الله وتحريم ما أحل ﴿وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مِّن دُونِ الله﴾ أي ومن يتول الشيطان ويطعْه ويترك أمر الله ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً﴾ أي خسر دنياه وآخرته لمصيره إلى النار المؤبدة وأي خسرانٍ أعظم من هذا؟ ثم قال تعالى عن إبليس ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ﴾ أي يعدهم بالفوز والسعادة ويمنيهم
والمقصود معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب﴾ أي ليس ما وعد الله تعالى من الثواب يحصل بأمانيكم أيها المسلمون ولا بأماني أهل الكتاب وإنما يحصل بالإِيمان والعمل الصالح قال الحسن البصري: ليس الإِيمان بالتمني ولكنْ ما وقر في القلب وصدّقه العمل، إن قوماً ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا نحسن الظن بالله، وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل ﴿مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ﴾ أي من يعمل السوء والشر ينال عقابه عاجلاً أو آجلاً ﴿وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ أي لا يجد من يحفظه أو ينصره من عذاب الله ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ أي ومن يعمل الأعمال الصالحة سواءً كان ذكراً أو أنثى بشرط الإِيمان ﴿فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ أي يدخلهم الله الجنة ولا يُنقصون شيئاً حقيراً من ثواب أعمالهم كيف ولا والمجازي أرحم الراحمين! ﴿وإنما قال {وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ ليبيّن أن الطاعة لا تنفع من دون الإِيمان، ثم قال تعالى ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ ؟ أي لا أحد أحسن ديناً ممن انقاد لأمر الله وشرعه وأخلص عمله لله ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أي مطيعٌ لله مجتنبٌ لنواهيه ﴿واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾ أي واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن، مستقيماً على منهاجه وسبيله وهو دين الإِسلام ﴿واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ أي صفياً اصطفاه لمحبته وخلته قال ابن كثير: فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي هي أرفع مقامات المحبة وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي جميع ما في الكائنات ملكه وعبيده وخلقه وهو المتصرف في جميع اذلك، لا رادّ لما قضى ولا معقب لما حكم ﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً﴾ أي علمه نافذ في جميع ذلك لا تخفى ليه خافية ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء﴾ أي يسألونك عما يجب عليهم في أمر النساء ﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب﴾ أي قل لهم يا محمد: يبين الله لكم ما سألتم في شأنهنَّ ويبين لكم ما يتلى في القرآن من أمر ميراثهن ﴿فِي يَتَامَى النسآء اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ أي ويفتيكم أيضاً في اليتيمات اللواتي ترغبون في نكاحهن
. ثم ذكر تعالى أن العدل المطلق بين النساء بالغٌ من الصعوبة مبلغاً لا يكاد يطاق، وهو كالخارج عن حد الاستطاعة فقال ﴿وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء﴾ أي لن تستطيعوا أيها الرجال أن تحققوا العدل التام الكامل بين النساء وتسوّوا بينهن في المحبة والأُنس والاستمتاع ﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ أي ولو بذلتم كل جهدكم لأن التسوية في المحبة وميل القلب ليست بمقدور الإِنسان ﴿فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل فَتَذَرُوهَا كالمعلقة﴾ أي لا تميلوا عن المرغوب عنها ميلاً كاملاً فتجعلوها كالمعلقة التي ليست بذات زوج ولا مطلقة، شبّهت بالشيء المعلَّق بين السماء والأرض، فلا هي مستقرة على الأرض ولا هي في السماء، وهذا من أبلغ التشبيه ﴿وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ﴾ أي وإن تصلحوا ما مضى من الجور وتتقوا الله بالتمسك بالعدل ﴿فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ أي يغفر ما فرط منكم ويرحمكم ﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ﴾ أي وإن يفارق كل واحد منهما صاحبه، فإن الله يغنيه بفضله ولطفه، بأن يرزقه زوجاً خيراً من زوجة، وعيشاً أهنأ من عيشه ﴿وَكَانَ الله وَاسِعاً حَكِيماً﴾ أي واسع
البَلاَغَة: تضمنت الآيات أنواعاً من الفصاحة والبيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعارة في ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ استعار الوجه للقصد والجهة وكذلك في قوله ﴿وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح﴾ لأن الشح لما كان غير مفارق للأنفس ولا متباعد عنها كان كأنه أحضرها وحمل على ملازمتها فاستعار الإِحضار للملازمة.
٢ - الجناس المغاير في ﴿ضَلَّ... ضَلاَلاً﴾ وفي ﴿خَسِرَ... خُسْرَاناً﴾ وفي ﴿أَحْسَنُ... مُحْسِنٌ﴾ وفي ﴿صُلْحاً... والصلح﴾ وفي ﴿تَمِيلُواْ كُلَّ الميل﴾.
٣ - التشبيه في ﴿فَتَذَرُوهَا كالمعلقة﴾ وهو مرسل مجمل.
٤ - الإِطناب والإِيجاز في عدة مواضع.
تنبيه: العدل المقصود في هذه الآية هو العدل في المحبة القلبية فقط وإلا لتناقضت الآية مع الآية السابقة ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: ٣] وقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقسم بين نسائه فيعدل ويقول «اللهم هذا قَسْمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» يعني بذلك المحبة القلبية ويدل على هذا قوله تعالى ﴿فَتَذَرُوهَا كالمعلقة﴾، وأما ما يدعو إليه بعض من يتسمون ب «المجددين» من وجوب التزوج بواحدة فقط بدليل هذه الآية فلا عبرة به لأنه جهل بفهم النصوص وهو باطل محض تَرُدُّهُ الشريعة الغراء، والسنة النبوية المطهرة، وكفانا الله شر علماء السوء.
اللغَة: ﴿تَلْوُواْ﴾ الليُّ: الدفع يقال لويت فلاناً حقه إِذا دفعته ومطلته ومنه الحديث «ليُّ الواجد ظلم» أي مطل الغني ظلم ﴿يَخُوضُواْ﴾ الخوض: الاقتحام في الشيء ومنه خوض الماء ﴿نَسْتَحْوِذْ﴾ الاستحواذ: الاستيلاء والتغلب يقال استحوذ على كذا إِذا غلب عليه ومنه قوله تعالى ﴿استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان﴾ [المجادلة: ١٩] ﴿مُّذَبْذَبِينَ﴾ الذبذبة: التحريك والاضطراب يقال ذبذبته فتذبذب والمذبذب المتردّد بين أمرين ﴿الدرك﴾ بسكون الراء وفتحها بمعنى الطبقة وهي لما تسافل قال ابن عباس: الدَّرْك لأهل النار كالدرج لأهل الجنة إِلا أن الدرجات بعضها فوق بعض، والدركات بعضها أسفل
التفِسير: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط﴾ أي ما من آمنتم بالله وصدقتم بكتابه كونوا مجتهدين في إِقامة العدل والاستقامة وأتى بصيغة المبالغة في ﴿قَوَّامِينَ﴾ حتى لا يكون منهم جورٌ أبداً ﴿شُهَدَآءَ للَّهِ﴾ أي تقيمون شهاداتكم لوجه الله دون تحيز ولا محاباة ﴿وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين﴾ أي ولو كانت تلك الشهادة على أنفسكم أو على آبائكم أو أقربائكم فلا تمنعنكم القرابة ولا المنفعة عن أداء الشهادة على الوجه الأكمل فإِن الحق حاكم على كل إِنسان ﴿إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً﴾ أي إِن يكن المشهود عليه غنياً فلا يراعى لغناه، أو فقيراً فلا يمتنع من الشهادة عليه ترحماً وإِشفاقاً ﴿فالله أولى بِهِمَا﴾ أي فالله أولى بالغني والفقير وأعلم بما فيه صلاحهما فراعوا أمر الله فيما أمركم به فإِنه أعلم بمصالح العباد منكم ﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ﴾ أي فلا تتبعوا هوى النفس مخافة أن تعدلوا بين الناس قال ابن كثير: أي لا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إِليكم على ترك العدل في شئونكم بل الزموا العدل على كل حال ﴿وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ﴾ أي وإِن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو تُعرضوا عن إِقامتها رأساً ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ فيجازيكم عليه ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ أي اثبتوا على الإِيمان ودوموا عليه ﴿والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ﴾ أي آمنوا بالقرآن الذي نزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ﴾ أي وبالكتب السماوية التي أنزلها من قبل القرآن قال أبو السعود: المراد بالكتاب الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية ﴿وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾ أي ومن يكفر بشيء من ذلك فقد خرج عن طريق الهدى، وبَعُد عن القصد كل البعد ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً﴾ هذه الآية في المنافقين آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ثم ارتدوا ثم ماتوا على الكفر قال ابن عباس: دخل في هذه الآية كل منافق كان في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البر والبحر وقال ابن كثير: يخبر تعالى عمن دخل في الإِيمان ثم رجع فيه ثم عاد إِلى الإِيمان ثم رجع واستمر على ضلاله وازداد حتى مات فإِنه لا توبة له بعد موته ولا يغفر الله له ولا يجعل له مما هو فيه فرجاً ولا مخرجاً ولا طريقاً إلى الهدى ولهذا قال تعالى ﴿لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ أي لم يكن الله ليسامحهم على ذلك ولا ليهديهم طريقاً إِلى الجنة قال الزمخشري: ليس المعنى انهم لو أخلصوا الإِيمان بعد تكرار الردة لم يُقبل منهم ولم يُغفر لهم ولكنه استبعاد له واستغراب كأنه أمر لا يكاد يكون، وهكذا ترى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع لا يكاد يرجى منه الثبات، والغالب أنه يموت على شر حال، ثم أخبر تعالى عن مآل المنافقين فقال ﴿بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ عبّر تعالى بلفظ ﴿بَشِّرِ﴾ تهكماً بهم أي أخبر يا محمد المنافقين بعذاب النار الأليم ﴿الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين﴾ أي أولئك هم الذين يوالون
. ثم ذكر تعالى تربصهم السوء بالمؤمنين فقال ﴿الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ أي ينتظرون بكم الدوائر ﴿فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله﴾ أي غلبةٌ على الأعداء وغنيمة ﴿قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ﴾ أي فأعطونا مما غنمتموه من الكافرين ﴿وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ أي ظفرٌ عليكم يا معشر المؤمنين ﴿قالوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين﴾ أي قالوا للمشركين ألم نغلبكم ونتمكنْ من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم وثبطنا عزائم المؤمنين حتى انتصرتم عليهم؟ فهاتوا نصيبنا مما أصبتم لأننا نواليكم ولا نترك أحداً يؤذيكم قال تعالى بياناً لمآل الفريقين ﴿فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي يحكم بين المؤمنين والكافرين ويفصل بينهم بالحق ﴿وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً﴾ أي لن يمكَنَ الكفرة من رقاب المؤمنين فيبيدوهم ويستأصلوهم قال ابن كثير: وذلك بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية وإِن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان، فإِن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة ﴿إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ أي يفعلون ما يفعل المخادع من إِظهار الإِيمان وإِبطال الكفر والله يجازيهم على خداعهم ويستدرجهم بأمر المؤمنين بحقن دمائهم، وقد أعدّ لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة، فسمّى تعالى جزاءهم خداعاً بطريق المشاكلة لأن وبال خداعهم راجع عليهم ﴿وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى﴾ أي يصلون وهم متثاقلون متكاسلون، لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً ﴿يُرَآءُونَ الناس﴾ أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة ولا يقصدون وجه الله ﴿وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي لا يذكرون الله سبحانه إِلا ذكراً قليلاً ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك﴾ أي مضطربين مترددين بين الكفر والإِيمان، وصفهم تعالى بالحيرة في دينهم ﴿لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء﴾ أي لا ينتسبون إِلى المؤمنين ولا إِلى الكافرين ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ أي ومن
البَلاَغَة: تضمنت الآيات أنواعاً من الفصاحة والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - المبالغة في الصيغة في ﴿قَوَّامِينَ بالقسط﴾ أي مبالغين في العدل.
٢ - الطباق بين ﴿غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً﴾ وبين ﴿آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ﴾.
٣ - الجناس الناقص في ﴿آمَنُواْ آمِنُواْ﴾ لتغير الشكل.
٤ - جناس الاشتقاق في ﴿يُخَادِعُونَ... خَادِعُهُمْ﴾ وفي ﴿جَامِعُ... جَمِيعاً﴾ وفي ﴿شَكَرْتُمْ... شَاكِراً﴾.
٥ - الأسلوب التهكمي في ﴿بَشِّرِ المنافقين﴾ حيث استعمل لفظ البشارة مكان الإِنذار تهكماً.
٦ - الاستعارة في ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ استعار اسم الخداع للمجازاة على العمل، واللهُ تعالى منزَّه عن الخداع.
٧ - الاستفهام الإِنكاري في ﴿أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة﴾ والغرضُ منه التقريع والتوبيخ.
الفوَائِد: الأولى: قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ﴾ ليس تكراراً وإِنما معناه اثبتوا على الإِيمان ودوموا عليه كقول المؤمن ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ [الفاتحة: ٦] أي ثبتنا على الصراط المستقيم.
الثانية: سمى تعالى ظفر المؤمنين فتحاً عظيماً ونسبه إِليه ﴿فَتْحٌ مِّنَ الله﴾ وظفر الكافرين نصيباً ﴿وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾ ولم ينسبه إِليه وذلك لتعظيم شأن المسلمين، وتخسيس حظ الكافرين.
الثالثة: قال المفسرون: النار سبع دركات أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعيرة، ثم سقرن ثم الجحيم، ثم الهاوية وقد تسمى بعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار يجمعها، كذا في البحر.
اللغَة: ﴿جَهْرَةً﴾ عياناً ﴿بُهْتَاناً﴾ البهتان: الكذب الذي يُتحير فيه من شدته وعظمته ﴿شُبِّهَ﴾ وقع الشَّبه بين عيسى والمقتول الذي صلبوه ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ هيأنا ﴿الراسخون﴾ المتمكنون من العلم.
سَبَبُ النّزول: روي أن كعب بن الأشرف وجماعة من اليهود قالوا يا محمد: إِن كنت نبياً فأتنا بكتاب من السماء جملةً كما أتى موسى بالتوراة جملة فأنزل الله ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء... ﴾ الآية.
التفِسير: ﴿لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ أي لا يحب الله الفُحْش في القول والإِيذاء باللسان إِلا المظلوم فإِنه يباح له أن يجهر بالدعاء على ظالمه وأن يذكره بما فيه من السوء قال ابن عباس: المعنى لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إِلا أن يكون مظلوماً ﴿وَكَانَ الله سَمِيعاً عَلِيماً﴾ أي سميعاً لدعاء المظلوم عليماً بالظالم ﴿إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سواء﴾ أي إِن أظهرتم أيها الناس عمل الخير أو أخفيتموه أو عفيتم عمن أساء إِليكم ﴿فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً﴾ أي كان مبالغاً في العفو وأشار إِلى أنه عفوٌّ مع قدرته فكيف لا تعفون مع ضعفكم وعجزكم؟! ﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ﴾ الآية في اليهود والنصارى لأنهم آمنوا بأنبيائهم وكفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وغيره، جعل كفرهم ببعض الرسل كفراً بجميع الرسل، وكفرَهُم بالرسل كفراً بالله تعالى ﴿وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ﴾ التفريقُ بين الله ورسله أن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله، وكذلك التفريق بين الرسل هو الكفر ببعضهم والإِيمان ببعضهم وقد فسره تعالى بقوله بعده ﴿وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ أي نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعض قال قتادة: أولئك أعداء الله اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإِنجيل وعيسى، وآمنت النصارى بالإِنجيل وعيسى وكفروا بالقرآن وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتركوا الإِسلام دين الله الذي بعث به رسله ﴿وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً﴾ أي طريقاً وسطاً بين الكفر والإِيمان ولا واسطة بينهما ﴿أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً﴾ أي هؤلاء الموصوفون بالصفات القبيحة هم الكافرون يقيناً ولو ادعوا الإِيمان ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً﴾ أي هيأنا لهم عذاباً شديداً مع الإِهانة والخلود في نار جهنم ﴿والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ أي صدّقوا الله وأقروا بجميع الرسل وهم المؤمنون أتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يفرقوا بين أحد من رسله بل آمنوا بجميعهم ﴿أولئك سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ أي سنعطيهم ثوابهم الكامل على الإِيمان بالله ورسله ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ أي غفوراً لما سلف منهم من المعاصي والآثام متفضلاً عليهم بأنواع الإِنعام {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ
﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: ٢٧] وإِلاّ فهم يزعمون أن عيسى ابن زنى وأمه زانية ولا يعقتدون أنه رسول الله قال تعالى ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ أي وما قتلوا عيسى ولا صلبوه ولكن قتلوا وصلبوا من أُلقي عليه شَبَههُ قال البيضاوي: روي أن رجلاً كان ينافق لعيسى فخرج ليدل عليه فألقى الله عليه شبهه فأخذ وصُلب وهم يظنون أنه عيسى ﴿وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ﴾ أي وإِن الذين اختلفوا في شأن عيسى لفي شك من قتله، روي أنه لما رُفع عيسى وأُلقي شبهه على غيره فقتلوه قالوا: إِن كان هذا المقتول عيسى فأين صاحبنا؟ وإِن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فاختلفوا فقال بعضهم هو عيسى وقال بعضهم ليس هو عيسى بل هو غيره، فأجمعوا أن
البَلاَغَة: تضمنت الآيات أنواعاً من الفصاحة والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق بين ﴿تُبْدُواْ... أَوْ تُخْفُوهُ﴾ وبين ﴿نُؤْمِنُ... وَنَكْفُرُ﴾.
٢ - التعريض والتهكم في ﴿قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله﴾ قالوه على سبيل التهكم والاستهزاء لأنهم لا يؤمنون برسالته.
٤ - الاستعارة في ﴿الراسخون فِي العلم﴾ استعار الرسوخ للثبوت في العلم والتمكن فيه وكذلك الاستعارة في ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ استعار الغلاف بمعنى الغطاء لعدم الفهم والإِدراك أي لا يتوصل إِليها من الذكر والموعظة.
٥ - الاعتراض في ﴿بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ رداً لمزاعمهم الفاسدة.
٦ - الإِلتفات في ﴿أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً﴾ والأصل سيؤتيهم وتنكير الأجر للتفخيم.
٧ - المجاز المرسل في ﴿وَقَتْلَهُمُ الأنبياء﴾ حيث أُطلق الكل وأُريد البعض وكذلك في ﴿كُفْرِهِم بَآيَاتِ الله﴾ لأنهم كفروا بالقرآن والإِنجيل ولم يكفروا بغيرهما.
الفوَائِد: قال في التسهيل: إِن قيل كيف قالوا فيه رسول الله وهم يكفرون به ويسبونه؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم قالوا ذلك على وجه التهكم والاستهزاء، والثاني: أنهم قالوه على حسب اعتقاد المسلمين فيه كأنهم قالوا: رسولُ الله عندكم أو بزعمكم والثالث: أنه من قول الله لا من قولهم فيوقف قبله وفائدته تعظيم ذنبهم وتقبيح قولهم إِنا قتلناه وقوله تعالى ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾ ردٌّ على اليهود وتكذيبٌ لهم وردٌ على النصارى في قولهم إِنه صلب حتى عبدوا الصليب من أجل ذلك، والعجب كل العجب من تناقضهم في قولهم إِنه إلهٌ أو ابن إِله ثم يقولون إِنه صلب.
تنبيه: دلَّ قوله تعالى ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ على أن الله تعالى نجّى رسوله عيسى من شر اليهود الخبثاء فلم يُقتل ولم يصلب وإِنما صلبوه شخصاً غيره ظنوه عيسى وهو الذي ألقى الله الشبه عليه فقتلوه وهم يحسبونه عيسى، وهذا هو الاعتقاد الحق الذي يتفق مع العقل والنقل، وأما النصارى فيعتقدون أنه صلب وأن اليهود أهانوه ووضعوا الشوك على رأسه وأنه تضرّع وبكى مع زعمهم أنه هو «الله» أو «ابن الله» وأنه جاء ليخلّص البشرية من أوزارها إِلى غير ما هنالك من التناقض العجيب الغريب ولقد أحسن من قال:
قد تخلّلتِ مسلك الروح مني | وبه سمي الخليل خليلاً |
اللغة: ﴿تَغْلُواْ﴾ الغلوُّ: مجاوزة الحد ومنه غلا السعر ﴿يَسْتَنكِفَ﴾ يأنف والاستنكاف الأنفة والترفع قال الزجاج: مأخوذ من نكفْتُ الدمع إِذا نحيته بأصبعك عن خدك ﴿بُرْهَانٌ﴾ البرهان: الدليل والمراد به هنا المعجزات ﴿واعتصموا﴾ لاذوا ولجأوا والعصمةُ الامتناعُ ﴿الكلالة﴾ من لا ولد له ولا والد وقد تقدم.
التفِسير: ﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ﴾ أي نحن أوحينا إِليك يا محمد كما أوحينا إِلى نوحٍ والأنبياء من بعده، وإِنما قدّم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الذكر وإِن تأخرت نبوته لتقدمه في الفضل ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ﴾ أي وأوحينا إِلى سائر النبيين إِبراهيم وإِسماعيل الخ خصَّ تعالى بالذكر هؤلاء تشريفاً وتعظيماً لهم وبدأ بعد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بنوحٍ لأنه شيخ الأنبياء وأبو البشر الثاني ثم ذكر إِبراهيم لأنه الأب الثالث ومنه تفرعت شجرة النبوة كما قال تعالى ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب﴾ [العنكبوت: ٢٧] وقدّم عيسى على أنبياء كانوا قبله لشدة العناية بأمره لغلو اليهود في الطعن فيه والنصارى وفي تقديسه ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾ أي وخصصنا داود بالزبور قال القرطبي: كان فيه مائة وخمسون سورة ليس فيها حكمٌ من الأحكام وإِنما هي حِكَمٌ ومواعظ ﴿وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ﴾ أي وأرسلنا رسلاً منهم من ذكرنا أخبارهم لك يا محمد في غير هذه السورة ﴿وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ أي ورسلاً آخرين لم نخبرك عن أحوالهم ﴿وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً﴾ أي وخصّ الله موسى بأن كلّمه بلا واسطة ولهذا سُمي الكليم، وإِنما أكَّد ﴿تَكْلِيماً﴾ رفعاً لاحتمال المجاز قال ثعلب: لولا التأكيد لجاز أن تقول: قد كلمت لك فلاناً بمعنى كتبت إِليه رقعة أو بعثت إِليه رسولاً فلما قال تكليماً لم يكن إِلا كلاماً مسموعاً من الله تعالى ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ أي يبشرون بالجنة من أطاع وينذرون بالنار من عصى ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل﴾ أي بعثهم الله ليقطع حجة من يقول لو أُرسل إِليَّ رسولٌ لآمنتُ وأطعت فقطع الله حجة البشر بإِرسال الرسل وإِنزال الكتب ﴿وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً﴾ أي عزيزاً في ملكه حكيماً في صنعه، ثم ذكر تعالى رداً على اليهود حين أنكروا نبوة محمد فقال ﴿لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ﴾ أي إِن لم يشهد لك هؤلاء بالنبوة فالله يشهد لك بذلك بما أنزل إليك من القرآن المعجز ﴿أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ﴾ أي أنزله بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره بأسلوب يعجز عنه كل بليغ، والملائكة يشهدون كذلك بما أنزل الله إليك ويشهدون بنبوتك ﴿وكفى بالله شَهِيداً﴾ أي كفى الله شاهداً فشهادته تعالى تغنيك وتكفيك وإِن لم يشهد غيره ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً﴾ أي كفروا بأنفسهم ومنعوا الناس عن الدخول في دين الله قد ضلوا عن طريق الرشاد ضلالاً بعيداً لأنهم جمعوا بين الضلال والإِضلال فضلالهم في أقصى الغايات ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ﴾ قال الزمخشري: أي جمعوا بين الكفر والمعاصي ﴿لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً﴾ أي لن يعفو الله عنهم ولن يهديهم إِلى طريق الجنة لأنهم
البَلاَغَة: ١ - تخصيص بعض الأنبياء بالذكر ﴿كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ﴾ الخ للتشريف وإِظهار فضل المذكورين وفيه تشبيه يسمى «مرسلاً مفصلاً».
٢ - قوله ﴿ياأهل الكتاب﴾ اللفظ للعموم ويراد منه الخصوص وهم «النصارى» بدليل قوله بعده ﴿وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ﴾ وهي قولة النصارى.
٣ - قوله ﴿إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله﴾ فيه قصر وهو من نوع قصر موصوف على صفة.
عجباً للمسيح بين النصارى | وإِلى أي والدٍ نسبوه! |
أسلموه إِلى اليهود وقالوا | إِنهم بعد ضربه صلبوه |
فإِذا كان ما يقولون حقاً | وصحيحقاً فأين كان أبوه؟ |
حين خلّى ابنه رهين الأعادي | أتراهم أرضوه أم أغضبوه؟ |
فلئن كان راضياً بأذاهم | فاحمدوهم لأنهم عذبوه |
ولئن كان ساخطاً فاتركوه | واعبدوهم لأنهم غلبوه |
٤ - في قوله ﴿يَشْهَدُونَ | شَهِيداً﴾ جناس الاشتقاق. |