ﰡ
١٥٢٤ - ثلاثةُ أنفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ | .......................... |
الثالث: أنه عطفٌ على «خَلَقَكم» فهو داخلٌ في حَيِّز الصلةِ، والواوُ لا يُبالى بها، إذ لا تقتضي ترتيباً. إلا أن الزمخشري خَصَّ هذه الوجهَ بكونِ الخطابِ في ﴿ياأيها الناس﴾ لمعاصري الرسول عليه السلام فإنه قال: «والثاني: أن يُعْطَفَ على» خلقكم «ويكون الخطابُ للذين بُعِث إليهم الرسول، والمعنى: خَلَقكم من نفس آدم، لأنَّهم مِنْ جملةِ الجنسِ المفرَّعِ منه، وخَلَقَ منها أُمَّكم حواء». فظاهرُ هذا خصوصيَّةُ الوجهِ الثاني بكون الخطابِ للمعاصرين، وفيه نَظَرٌ. وقَدَّر بعضُهم مضافاً في «منها» أي: «مِنْ جنسِها زوجَها»، وهذا عند مَنْ يرى أن حواء لم تُخْلق من آدم، وإنما خُلِقت من طينة فَضَلَتْ من طينة آدم، وهذا قولٌ مرغوب عنه.
وقرىء: «وخالِقٌ وباثٌّ» بلفظِ اسمِ الفاعل. وخَرَّجه الزمخشري على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: وهو خالقٌ وباثٌّ. يقال: بَثَّ وأَبَثَّ بمعنى «فَرَّق» ثلاثياً ورباعياً.
وقوله: ﴿كَثِيراً﴾ فيه وجهان، أظهرُهما: أنه نعتٌ ل «رجالاً» قال أبو البقاء: «ولم يؤنِّثْه حَمْلاً على المعنى، لأنَّ» رجالاً «عدد أو جنس أو جمع، كما ذكَّر الفعلَ المسندَ إلى جماعة المؤنث كقوله: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾ [يوسف: ٣٠].
والثاني: أنه نعت لمصدر تقديره: وبث منهما بَثّاً كثيراً. وقد تقدم أن
والثاني أنَّ الرجال لشهرتِهم يناسِبُهم ذلك بخلافِ النساء فإنَّ الألْيَقَ بهنَّ الخمولُ والإِخفاء.
قوله: ﴿تَسَآءَلُونَ﴾ قرأ الكوفيون: «تَساءلون» بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين تخفيفاً، والأصل: تَتَساءلون، وقد تقدَّم لنا الخلاف: هل المحذوفُ الأولى أو الثانية؟ وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين لأنها مقارِبَتُها في الهمس، ولهذا تُبْدَلُ من السين قالوا: «ست» والأصل: «سِدْسٌ».
وقرأ عبد الله: «تَسْأَلون» من سأل الثلاثي. وقرىء «تَسَلون» بنقل حركة الهمزة على السين.
و «تَساءلون» على التفاعل فيه وجهان، أحدهما: المشاركة في السؤال. والثاني: أنه بمعنى فَعَل، ويَدُلُّ عليه قراءة عبد الله. قال أبو البقاء: «ودخَل حرف الجر في المفعول لأن المعنى: تتحالفون» يعني: أن الأصل كان تعدية «تسألون» إلى الضمير بنفسِه، فلما ضُمِّن معنى «تتحالفون» عُدِّي تَعْدِيَتَه.
وقرأ حمزة «والأرحامِ» بالجر، وفيها قولان، أحدهما: أنه عطفٌ على الضمير المجرور في «به» من غير إعادة الجار، وهذا لا يجيزه البصريون، وقد تقدَّم تحقيقُ القول في هذه المسألة، وأنَّ فيها ثلاثةَ مذاهب، واحتجاجُ كل فريق في قوله تعالى: ﴿وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد﴾ [البقرة: ٢١٧].
وقد طَعَنَ جماعة على هذه القراءة كالزجاج وغيره، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال: «حَدَّثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم قال:» والأرحامِ «بخفض الأرحام هو كقولهم:» أسألك بالله والرحمِ «قال:» وهذا قبيحٌ «لأنَّ العرب لا تَرُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قد كُنِيَ عنه».
وقدَّر بعضُهم مضافاً فراراً من ذلك فقال: «تقديره: وربِّ الأرحام: قال أبو البقاء: وهذا قد أَغْنى عنه ما قبله» يعني الحلف بالله تعالى. ولقائل [أن يقول:] «إنَّ لله تعالى أن يُقْسِم بما شاء كما أقسم بمخلوقاتِه كالشمس والنجم والليل، وإن كنا نحن مَنْهيين عن ذلك»، إلا أنَّ المقصودَ من حيث المعنى ليس على القسمِ، فالأَوْلى حَمْلُ هذه القراءةِ على العطفِ على الضمير، ولا التفاتَ إلى طَعْنِ مَنْ طَعَن فيها، وحمزةُ بالرتبة السَّنِيَّة المانعةِ له مِنْ نقلِ قراءة ضعيفة.
وقرأ عبد الله أيضاً: «والأرحامُ» رفعاً وهو على الابتداء، والخبر محذوفٌ فقدَّره ابن عطية: «أهلٌ أَنْ توصل»، وقَدَّره الزمخشري: و «الأرحامُ مِمَّا يتقى، أو: مما يُتَساءل به»، وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية والمعنوية، بخلاف الأول، فإنه للدلالة المعنوية فقط، وقَدَّره أبو البقاء: «والأرحامُ محترمة» أي: واجبٌ حرمتُها.
١٥٢٥ - كمقاعِد الرُّقباءِ للضُّرَبَاءِ أيديهم نواهِدْ... والرقيب أيضاً: ضرب من الحَيَّات. والرقيب: السهم الثالث من سهام الميسر وقد تقدمت في البقرة. والارتقاب: الانتظار.
١٥٢٦ - فياكرَمَ السَّكْنِ الذين تَحَمَّلوا | عن الدارِ والمُسْتَخْلِفِ المُتَبَدِّلِ |
قوله: ﴿إلى أَمْوَالِكُمْ﴾ فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن «إلى» بمعنى «مع»
قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوباً﴾ في الهاءِ ثلاثة أوجه، أحدها: أنها تعودُ على الأكلِ المفهوم من «لا تأكلوا». والثاني: على التبدُّل المفهومِ من «لا تَتَبدَّلوا». والثالث: عليهما، ذهاباً به مذهبَ اسمِ الإِشارة نحو: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨]، ومنه:
١٥٢٧ - كأنَّه في الجِلْدِ تَوْليعُ البَهقْ | وقد تقدم ذلك في البقرة، والأولُ أَوْلى، لأنه أقربُ مذكور. |
١٥٢٨ - فلا يَدْخُلَنَّ الدهرَ قبرك حُوبٌ | فإنَّك تلقاهُ عليك حَسِيبُ |
١٥٢٩ - وإنَّ مهاجِرَيْنِ تَكَنَّفاه | غداتئذٍ لقد خَطِئا وحابا |
والثاني: أنَّ الجوابَ قولُه: «فواحَدةً» والمعنى: أن الرجل منهم كان يتزوج اليتيمة التي في ولايته، فلمَّا نزلت الآية المتضمنة للوعيد على أكل مال اليتيم تحرَّجوا من ذلك، فقيل لهم: إنْ خفتم من نكاح النساء اليتامى فانحكوا ما طابَ من الأجنبيات، أي: اللاتي لسن تحت ولايتكم، فعلى هذا يَحْتاج إلى تقدير/ مضاف، أي: في نكاح يتامى النساء. فإن قيل: «فواحدةً» جواب لقوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ﴾ فكيف يكون جواباً للأول؟ أُجيب عن ذلك بأنه أعادَ الشرط الثاني، لأنه كالأول في المعنى، لمَّا طال الفصلُ بين الأولِ وجوابِه، وفيه نظرٌ لا يخفى. على متأمله.
والخوف هنا على بابه، فالمراد به الحَذَر، وقال أبو عبيدة: إنه بمعنى اليقين، وأنشد:
١٥٣٠ - فقلتُ لهم خافوا بألفَي مُدَجَّجٍ | سَراتُهُم في الفارسي المُسَرَّدِ |
قوله: ﴿أَلاَّ تُقْسِطُواْ﴾ إنْ قَدَّرْتَ أنها على حذفِ حرف جر أي: «مِنْ أن لا» ففيها الخلافُ المشهورُ: أهي في محل نصب أو جر، وإنْ لم تقدِّر ذلك بل
وقرأ الجمهور: «تُقْسطوا» بضم التاء من «أقسط» إذا عدل، ف «لا» على هذه القراءة نافيةٌ، والتقديرُ: وإنْ خِفْتم عدم الإِقساط أي: العدل. وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب بفتحِها من «قسط»، وفيها تأويلان، أحدهما: أنَّ «قَسَط» بمعنى جار، وهذا هو المشهور في اللغة، أعني أنَّ الرباعي بمعنى عَدَل، والثلاثي بمعنى جار، وكأن الهمزةَ فيه للسَلْبِ، فمعنى «أقسط» أي: أزالَ القسط وهو الجور، و «لا» على هذا القول زائدةٌ ليس إلا، وإلاَّ يفسدِ المعنى، كهي في قوله: ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ﴾ [الحديد: ٢٩]. والثاني: حكى الزجاج: أن «قسط» الثلاثي يُستعمل استعمالَ «أقسط» الرباعي، فعلى هذا تكون «لا» غيرَ زائدة، كهي في القراءة الشهيرة، إلا أنَّ التفرقةَ هي المعروفة لغة.
قال الراغب: «القِسْط» : أن يأخذ قِسْطَ غيرِه، وذلك جَوْرٌ، والإِقساط: أن يُعْطِيَ قِسْطَ غيره، وذلك إنصافٌ، ولذلك يقال: «قَسَط الرجل إذا جار، وأقسط: إذا عَدَل، قال تعالى:
﴿وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ [الجن: ١٥]، وقال تعالى: ﴿وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾ [الحجرات: ٩].
ومن غريبِ ما يحكى أن الحجَّاج لما أَحْضر الحَبْر الشهير سعيد ابن جبير، قال له: «ما تقول فِيَّ؟» قال: «قاسط عادل»، فأعجب الحاضرين،
قوله: ﴿مَا طَابَ﴾ في» ما «هذه أوجه أحدُها: أنها بمعنى الذي، وذلك عند مَنْ يرى أنَّ» ما «تكون للعاقل، وهي مسألةٌ مشهورة، قال بعضُهم:» وحَسَّن وقوعَها هنا أنها واقعة على النساء وهن ناقصاتُ العقول. وبعضهم يقول: هي لصفاتِ مَنْ يعقِل. وبعضُهم يقول: لنوعِ مَنْ يعقل، كأنه قيل: النوع الطيب من النساء، وهي عباراتٌ متقاربة، ولذلك لم نَعُدَّها أوجهاً.
الثاني: أنها نكرةٌ موصوفة أي: انكِحوا جنساً طيباً، أو عدداً طيباً.
الثالث: أنها مصدريةٌ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقع اسم فاعل تقديره: فانكحوا الطيب. وقال الشيخ هنا: «والمصدرُ مقدرٌ هنا باسم الفاعل، والمعنى: فانكحوا النكاح الذي طاب لكم»، والأول أظهر.
الرابع: أنها ظرفيةٌ، والظرفيةُ تستلزم المصدريةَ، والتقدير: فانكحوا مدةَ يطيب فيها النكاح لكم. إذا تقرر هذا فإن قلنا: إنها موصولةٌ اسمية أو نكرة موصوفة أو مصدرية والمصدرُ واقعٌ موقعَ اسم الفاعل كانت «ما» مفعولاً ب «انكحوا». ويكون «من النساء» فيه وجهان، أحدهما: أنها لبيانِ الجنس المبهم في «ما» عند مَنْ يثبت لها ذلك. والثاني: أنها تبعيضية، أي: بعض النساء، وتتعلق بمحذوف على أنها حال من «ما طاب». وإن قلنا: إنها
وقرأ ابن أبي عبلة:» مَنْ طاب «وهو مرجِّحٌ كونَ» ما «بمعنى الذي للعاقل. وفي مصحف أبي بن كعب:» طِيب «بالياء، وهذا ليس بمبني للمفعول، لأنه قاصر، وإنما كتب كذلك دلالة على الإمالةِ وهي قراءة حمزة.
قوله: ﴿مَثْنى﴾ منصوب على الحال من «ما طاب». وجعله أبو البقاء حالاً من «النساء». وأجاز هو وابن عطية أن يكونَ بدلاً من «ما». وهذان الوجهان ضعيفان: أمَّا الأول فلأنَّ المُحَدَّث عنه إنما هو الموصول، وأتى بقوله: «من النساءِ» كالتبيين. وأما الثاني فلأنَّ البدلَ على نيةِ تكرار العامل، وقد تقدَّم أنَّ هذه الألفاظَ لا تباشر العواملَ.
واعلم أن هذه الألفاظ المعدولةَ فيها خلافٌ، وهل يجوز فيها القياسُ أم يُقتصر فيها على السماع؟ قولان: قول البصريين عدمُ القياس، وقول الكوفيين وأبي إسحاق جوازُه، والمسموعُ من ذلك أحدَ عشر لفظاً: أُحاد ومَوْحَد، وثُناء ومَثْنى، وثُلاث وَمَثْلَث، ورُباع ومَرْبع، ومَخْمس، ولم يُسمع خُماس، وعُشار ومَعْشر. واختلفوا أيضاً في صرفها وعدمِه: فجمهورُ النحاةِ على منعة، وأجاز الفراء صرفها، وإن كان المنعُ عنده أَوْلى.
والثاني: مذهب الفراء، وهو العدلُ والتعريف بِنِيَّةِ الألف واللام، ولذلك يَمْتنع إضافتُها عنده لتقديرِ الألف واللام، وامتنع ظهورُ الألف واللام عنده لأنها في نية الإِضافة.
الثالث: مذهب أبي إسحاق: وهو عَدْلُها عن عددٍ مكرر، وعَدْلُها عن التأنيث.
والرابع: نقله الأخفش عن بعضهم أنه تكرارُ العدل، وذلك أنه عُدل عن لفظ اثنين اثنين، وعن معناه لأنه قد لا يستعمل في موضع تُستعمل فيه الأعدادُ غيرُ المعدولةِ تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا تقول: «جاءني مَثْنى وثلاث» حتى يتقدَّم قبله جمعٌ، لأن هذا الباب جُعِل بياناً لترتيبِ الفعلِ. فإذا قلت: «جاء القوم مَثْنَى» أفادَ أنَّ مجيئَهم وقع من اثنينِ اثنين، بخلافِ غيرِ المعدولة، فإنها تفيدُ الإِخبار عن مقدارِ المعدودِ دونَ غيرِه، فقد بانَ بما ذكرنا اختلافُهما في المعنى، فلذلك جاز أن تقومَ العلةُ مَقام علتين لإِيجابها حكمين مختلفين. انتهى. ولهذه المذاهبِ أدلةٌ واعتراضاتٌ وأجوبةٌ ليس هذا موضعَها.
وناقشه الشيخ أيضاً في مثاله بقوله: «ينكح المثنى» من وجهين، أحدهما: دخول «أل» عليها، قال: «وهذا لم يَذْهب إليه أحد، بل لم تستعمل في لسان العرب إلا نكراتٍ». الثاني: أنه أولاها العوامل، ولا تلي العوامل، بل يتقدمهما شيء يلي العواملَ، ولا تقع إلا أخباراً كقوله عليه السلام: «صلاةٌ الليلِ مَثْنى مثنى»، أو أحوالاً كهذه الآية الكريمة، أو صفاتٍ نحو قوله تعالى: ﴿أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ [فاطر: ١]، وقوله:
١٥٣١ -.......................... | ذئابٌ تَبَغَّى الناسَ مَثْنَى ومَوْحَدُ |
١٥٣٢ -............................
وقد استدلَّ بعضُهم على إيلائها العواملَ على قلة بقوله:
١٥٣٣ - ضربْتُ خُماسَ ضربةَ عبشمِيٍّ | أدارُ سداسَ أن لا يستقيما |
ومن أحكام هذه الألفاظ ألاَّ تؤنَّثَ بالتاء، لا تقول: «مَثْناة» ولا «ثُلاثَة»، بل تَجْري على المذكر والمؤنث جَرَياناً واحداً.
وقرأ النخعي وابن وثاب: «ورُبَعَ» من غير ألف. وزاد الزمخشري عن النخعي: «وثُلَثَ» أيضاً، وغيرُه عنه: «ثُنَى» مقصوراً من «ثُناء». حَذَفوا الألف من ذلك كله تخفيفاً، كما حذفها الآخر في قوله:
١٥٣٤ - وصِلِّيانا بَرِدا...
قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ شرط، جوابه: «فواحدة»، وقد تقدم أن منهم مَنْ جعل «فواحدة» جواباً للأول، وكرر الثاني لما طال الفصل، وجعل قوله: ﴿فانكحوا﴾ جملةَ اعتراض، ويُعْزَى لأبي عليّ، ولعله لا يَصِحُّ عنه. قال الشيخ: «لأنه إذا أُنتج من الآيتين: هذه وقوله: ﴿وَلَن تستطيعوا﴾ [النساء: ١٢٩] ما أنْتَج من الدلالة اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوج غير واحدة أو يتسرَّى بما ملكَتْ يمينُه، ويبقى الفصلُ بجملةِ الاعتراض لا فائدةَ له، بل يكون لَغْواً على زعمِه».
والجمهور على نصبِ «فواحِدةَ» بإضمار فعلٍ أي: فانكحوا واحدة وطَؤُوا ما ملكت أيمانكم، وإنما قَدَّرْنا ناصباً آخر لمِلْكِ اليمين؛ لأن النكاح لا يقع في مِلْكِ اليمين إلا أن يريدَ به الوطْءَ في هذا والتزوج في الأول، فليزم استعمالُ المشتركِ في معنييه أو الجمعُ بين الحقيقة والمجاز، وكلاهما مقولٌ به، وهذا قريبٌ من قوله:
١٥٣٥ - عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً | ........................... |
وقرأ الحسن وأبو جعفر: «فواحدةٌ» بالرفع، وفيه ثلاثة أوجه، أحدها: الرفعُ بالابتداء، وسَوَّغَ الابتداءَ بالنكرة اعتمادُها على فاء الجزاء، والخبرُ
و «أو» على بابها مِنْ كونِها للإِباحةِ أو التخيير. و «ما» في «ما مَلَكَتْ» كهي في قوله: «ما طابَ».
وأضافَ المِلْك لليمين لأنها محلُّ المحاسن، وبها تُتَلَقَّى راياتُ المجد. ورُوي عن أبي [عمرو] :«فما ملكت أيمانكم»، والمعنى: إنْ لم يَعْدل في عُشْرةِ واحدةٍ فما ملكت يمينه. وقرأ ابن أبي عبلة: «أو مَنْ ملكت أيمانكم».
قوله: ﴿ذلك أدنى﴾ مبتدأ وخبر، و «ذلك» إشارة إلى اختيار الواحدة أو التسرِّي. و «أَدْنى» أفعلُ تفضيل من دنا يدنو أي: قَرُب أي: أقربُ إلى عدِم العَوْل.
و ﴿أَن لاَ تَعُولُواْ﴾ في محلِّ نصب أو جَرٍّ على الخلافِ المشهور في «أن» بعد حذف حرف الجر، وفي ذلك الحرف المحذوف ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: «إلى» أي: أدنى إلى ألاَّ تعولوا. والثاني: «اللام» والتقدير: أدنى لئلا تعولوا. والثالث: وقَدَّره الزمخشري: مِنْ أن لا تميلوا، لأن أفعل التفضيل يَجْري مجرى فِعله، فما تعدَّى به فعلُه تعدَّى هو به، وأَدْنى من دنا، و «دنا» يتعدَّى ب إلى واللام ومِنْ. تقول: دَنَوْت إليه وله ومنه.
وقرأ الجمهور: «تَعُولوا» مِنْ عالَ يَعُول إذا مال وجار، والمصدر: العَوْل
١٥٣٦ -........................ | له حاكمٌ من نفسِه غيرُ عائِل |
وفَسَّر الشافعي «تَعُولوا» بمعنى: يكثرُ عيالُكم، وردَّ هذا القولَ جماعة كأبي بكر بن داود الرازي والزجاج وصاحب «النظم». قال الرازي: «
وقد ردَّ الناسُ على هؤلاء، أمَّا قولهم: التسرِّي أيضاً يكثُر معه العيال من أنه مباح «فممنوعٌ، وذلك لأنَّ الأمةَ ليست كالمنكوحةِ، ولهذا يَعْزِلُ عنها بغيرِ إذنها ويُؤْجرُها ويأخذ أُجرتها ينفقها عليه وعليها وعلى أولادها. وقال الزمخشري:» وجهُه أَنْ يُجعل من قولِك: «عالَ الرجل عِياله يعولهم» كقولك: مانَهم يَمُونهم أي: أنفق عليهم، لأنَّ مَنْ كثر عياله لزمه أن يَعُولهم، وفي ذلك ما يَصْعُب عليه المحافظة من كسبِ الحلال والأخذِ من طيب الرزق «ثم أثنى على الشافعي ثناءً جميلاً، وقال:» ولكنْ للعلماء طرقٌ وأساليبُ، فسلك في تفسير هذه الكلمة مَسْلَكَ الكنايات «. انتهى.
وأمَّا قولُهم:» خالفَ المفسرين «فليس بصحيح، بل قاله زيد ابن أسلم وابن زيد. وأمَّا قولُهم» اختلف المادتان «فليس بصحيح أيضاً؛ لأنه قد تقدَّم حكايةُ ابن الأعرابي عن العرب:» عال الرجل يَعُول: كثر عياله «، وحكاها الكسائي أيضاً، قال:» يقال: عال الرجل يَعُول، وأعال يُعيل: كَثُر عياله «ونقلها أيضاً الدوري المقرىء لغةً عن حِمْير وأنشد:
وقرأ طلحة:» تَعيلوا «بفتح تاء المضارعة من عالَ يعيل: افتقر، قال:
١٥٣٧ - وإنَّ الموتَ يأخذُ كلَّ حَيٍّ | بلا شك وإنْ أَمْشى وعَالا |
١٥٣٨ - وما يَدْري الفقيرُ متى غِناه | وما يَدْري الغنيُّ متى يَعِيل |
وفي نصب» نِحْلة «أربعة أوجه، أحدُها: أنها منصوبة على المصدر والعامل فيها الفعل قبلها؛ لأن» آتُوهُنَّ «بمعنى انحِلوهُنَّ، فهي مصدرٌ على غير الصدرِ نحو:» قَعَدْت جلوساً «.
الثاني: أنها مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال، وفي صاحب الحال ثلاثةُ احتمالات، أحدها: أنه الفاعل في» فآتُوهُنَّ «أي: فآتوهن ناحِلين. الثاني: أنه المفعولُ الأولُ وهو» النساء «. الثالث: أنه المفعولُ الثاني وهو» صدقاتهن «أي: منحولات.
الوجه الثالث: أنها مفعول من أجله؛ إذا فُسِّرت بمعنى» شِرْعة «.
الوجه الرابع: انتصابُها بإضمارِ فعلٍ بمعنى شَرَع، أي: نحل الله ذلك نِحْلة أي: شَرَعه شِرْعة وديناً.
والنِّحْلة: العَطيَّةُ عن طِيبِ نفس، والنِّحْلة: الشِّرْعة، ومنه» نِحْلة الإِسلام خير النِحَل «، وفلان ينتحل بكذا أي: يَدِين به، والنِّحْلة: الفريضة.
قال الراغب:» والنِّحْلة والنَّحْلة: العَطِيَّةُ على سبيلِ التبرع، وهي أخصُّ من الهِبة، إذ كل هبةٍ نِحْلة من غير عكس، واشتقاقُه فيما أرى من
قوله: «منه» في محل جر، لأنه صفة ل «شيء» فيتعلق بمحذوف أي: عن شيء كائنٍ منه. و «مِنْ» فيها وجهان، أحدهما: أنها للتبعيض، ولذلك لا يجوز لها أن تَهَبَهُ كلَّ الصَّداق. وإليه ذهب الليث. والثاني: أنها للبيان، ولذلك يجوزُ أن تَهَبَه كل الصَّداق. قال ابن عطية: «و» مِنْ «لبيان الجنس ههنا، ولذلك يجوز أن تَهَبَ المهر كله، ولو وقعت على التبعيض لما جاز ذلك».
انتهى. وقد تقدَّم أن الليث يمنع ذلك فلا يُشْكِل كونها للتعبيض.
وفي هذا الضمير أقوال، أحدها: أنه يعود على الصَّداق المدلول عليه ب «صَدُقاتِهِنَّ». الثاني: أنه يعود على «الصَّدُقات» لسدِّ الواحدِ مَسَدَّها، لو قيل: «صَداقَهُنَّ» لم يختلَّ المعنى، وهو شبيهٌ بقولِهم: «هو أحسنُ الفتيان وأجملُه» لأنه لو قيل: «هو أحسن فتىً» لصحَّ المعنى، ومثلُه:
١٥٣٩ - وطابَ ألبانُ اللِّقاح وبَرَدْ... في «برد» ضميرٌ يعود على «ألبان» لسدِّ «لَبَن» مسدَّها. الثالث: أنه يعودُ على «الصَّدُقات» أيضاً، لكن ذهاباً/ بالضمير مذهبَ الإِشارة، فإن اسم الإِشارة قد يُشار به مفرداً مذكراً إلى أشياء تقدَّمته كقولِه: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ
١٥٤٠ - فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَقْ | كأنَّه في الجلدِ تَوْليعُ البَهَقْ |
قوله: «نَفْساً» منصوب على التمييز، وهو هنا منقولٌ من الفاعل، إذ الأصل: فإنْ طابَتْ أنفسُهُنَّ، ومثله: ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ [مريم: ٤]، وهذا منصوب عن تمام الكلام. وجِيء بالتمييز هنا مفرداً، وإن كان قبلَه جمعٌ لعدمِ اللَّبْسِ، إذ من المعلوم أنَّ الكلَّ لَسْنَ مشتركاتٍ في نفس واحدة، ومثله: «قَرَّ
وإن كان الثانيَ: فإمَّا أن يكونَ مفردَ المدلول أو مختلفَه، فإن كان مفردَ المدلول وَجَبَ إفرادُ التمييز كقولك في أبناء رجل واحد: «كَرُم بنو زيد أباً أو أصلاً»، أي: إنَّ لهم جميعاً أباً واحداً متصفاً بالكرم، ومثله: «كَرُم الأتقياءُ سَعْياً» إذا لم تقصدِ بالمصدرِ اختلافَ الأنواع لاختلاف مَحالِّه.
وإنْ كان مختلفَ المدلول: فإما أَنْ يُلْبِسَ إفرادُ التمييز لو أُفرد أو لا، فإن أَلْبَسَ وَجَبَت المطابقة نحو: كَرُم الزيدون آباء، أي: أن لكل واحدٍ أباً غيرَ أب الآخر يتصفُ بالكرم، ولو أُفردت هنا لتُوُهِّم أنهم كلَّهم بنو أب واحدِ، والغرضُ خلافه. وإنْ لم يُلْبِس جاز الأمران: المطابقةُ والإِفراد، وهو الأَوْلى، ولذلك جاءت عليه الآيةُ الكريمةُ، وحكمُ التثنية في ذلك كالجمعِ.
وحَسَّن الإِفرادَ أيضاً هنا ما تقدَّم مِنْ مُحَسِّنِ تذكيرِ الضمير وإفرادِه في «منه» وهو أن المعنى: فإنْ طابت كلُّ واحدة نفساً. وقال بعض البصريين: «إنما أفردَ لأن المراد بالنفس هنا الهوى، والهوى مصدرٌ، والمصادرُ لا تُثَنَّى ولا تُجْمع» وقال الزمخشري: «ونفساً تمييزٌ، وتوحيدُها لأنَّ الغرضَ بيانُ الجنسِ، والواحدُ يدل عليه». ونحا أبو البقاء نحوه، وشَبَّهه ب «درهماً» في قولك: «عشرون درهماً».
١٥٤١ - أَتَهْجُرُ ليلى بالفراقِ حبيبها | وما كان نفساً بالفراقِ تَطِيب |
١٥٤٢ -........................ | ... إذا عِطْفاه ماءً تَحَلَّبا |
والجارَّان في قولِه: «فإن طِبْنَ لكم عن شيءٍ متعلِّقان بالفعلِ قبلَهما مضمناً معنى الإِعراض، ولذلك عُدِّي ب» عَنْ «كأنه قيل: فإنْ أَعْرَضْنَ لكم عن شيءٍ طيباتِ النفوس. والفاء في» فَكُلوه «جوابُ الشرطِ وهي واجبةٌ، والهاءُ في» فَكُلوه «عائدةٌ على» شيء «.
قال الشيخ: «وهذا تحريفٌ لكلام النحاة، وتحريفُه هو جَعْلُهما أٌقيما مُقام المصدر، فانتصابُهما انتصابَ المصدر، ولذلك قال:» كأنه قيل: هَنْئاً مَرْءاً، فصار كقولك «سُقْياً لك» و «رَعْياً لك»، ويَدُلُّ على تحريفِه وصحةِ قولِ النحاة أنَّ المصادر المقصودَ بها الدعاء لا ترفع الظاهر، لا تقول: «سقياً الله لك» ولا: «رعياً الله لك» وإن كان ذلك جائزاً في أفعالها، و «هنيئاً مريئاً» يرفعان الظاهرَ بدليل قوله:
١٥٤٣ - هنيئاً مريئاً غيرَ داءٍ مُخامِرٍ | لعَزَّةَ مِنْ أَعْراضِنا ما استحَلَّتِ |
واختلف النحويون في قولِك لِمَن قال:» أصاب فلان خيراً هنيئاً له ذلك «هل» ذلك «مرفوعٌ بالفعلِ/ المقدَّرِ تقديرُه: ثبت له ذلك هنيئاً فحَذف» ثبت «وقام» هنيئاً «الذي هو حالٌ مَقامه، أو مرفوعٌ ب» هنيئاً «نفسِه، لأنه لمَّا ق مقامَ الفعلِ رَفَع ما كان الفعلُ يرفعه، كما أنَّ قولَك:» زيدٌ في الدار «» في الدار «ضميرٌ كان مستتراً في الاستقرار، فلمَّا حُذِف الاستقرار وقامَ الجار مَقامَه رفعَ الضمير الذي كان فيه. ذهب إلى الأول السيرافي، وجعل في» هنيئاً «ضميراً عائداً على» ذلك «، وذهب إلى الثاني أبو علي، وجعل» هنيئاً «فارغاً من الضمير لرفعه الاسمَ الظاهرَ. وإذا قلت:» هنيئاً «ولم تقل» ذلك «، فعلى مذهب السيرافي يكون في» هنيئاً «ضميرٌ عائد على ذي الحال، وهو ضميرُ الفاعلِ الذي استتر في» ثَبَتَ «المحذوفِ، وعلى مذهب الفارسي يكون في» هنيئاً «ضميرٌ فاعل بها، وهو الضميرُ الذي كان فاعلاً ل» ثَبَتَ «، ويكونُ» هنيئاً «قد قام مقام الفعلِ المحذوفِ فارغاً من الضمير.
وأمَّا نصبُ «مريئاً» فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدها: أنه صفة ل «هنيئاً»، وإليه ذهب الحوفي. والثاني: أنه انتصب انتصاب «هنيئاً»، وقد تقدَّم ما فيه من
ولم يُستعمل «مريئاً» إلا تابعاً ل «هنيئاً». ونَقَلَ بعضُهم أنه قد يَجيء غيرَ تابع، وهو مردودٌ، لأنَّ العرب لم تستعمِلْه إلا تابعاً. وهل «هنيئاً مريئاً» في الأصلِ اسما فاعلٍ على زنةِ المبالغةِ أم هما مصدران جاءا على وزِن فعيل كالصهيل والهدير؟ خلاف. نقل الشيخ القول الثاني عن أبي البقاء قال: «وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على وزن فَعيل كالصهيل والهدير، وليسا من باب ما يَطَّرد فيه فعيل في المصدر». انتهى. وأبو البقاء في عبارته إشكالٌ فلا بد من التعرض إليها ليُعرف ما فيها، قال: «هنيئاً جاء على وزن فَعِيل، وهو نعت لمصدرٍ محذوفٍ أي: أَكْلاً هنيئاً، وقيل: هو مصدر في موضع الحال من الهاء، والتقديرُ: مُهَنَّأً و» مريئاً «مثلُه، والمَرِيء فَعيل بمعنى مُفْعِل، لأنك تقول:» أمرأني الشيء «. ووجهُ الإِشكال: أنه بعد الحكم عليهما بالمصدرية كيف يجعلهما وصفين لمصدر محذوف، وكيف يفسِّر» مريئاً «المصدر بمعنى اسم الفاعل؟
وذهب الزمخشري إلى أنهما وصفان، قال:» الهَنِيءُ والمَرِيءُ صفتان من هَنُؤ الطعامُ ومَرُؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه «. انتهى.
١٥٤٤ - مُتَبَذِّلاً تَبْدُو محاسِنُه | يَضَع الهِناءَ مواضِعَ النُّقْبِ |
والسُّفهاء جمعُ سفيه، وعن مجاهد: «المراد بالسفهاء النساء»، وضَعَّفه بعضُهم بأن فَعِيلة إنما تجمع على فَعائل أو فَعِيلات، قاله ابن عطية. وقد نَقل بعضُهم أنَّ سفيهة تُجْمع على سُفَهاء كالمذكر، وعلى هذا لا يَضْعُف قول مجاهد، وجمعُ فَعِيلة الصفةِ على فُعَلاء وإن كان نادراً إلا أنه نُقِل في هذا
والجمهورُ على ﴿التي جَعَلَ الله لَكُمْ﴾ بلفظِ الإِفراد صفةً للأموال، وإنْ كانت جمعاً؛ لأنَّه تقدَّم غيرَ مرة أنَّ جمع ما لا يعقل في الكثرة، أو لم يكن له إلا جمعٌ واحدٌ، الأحسنُ فيه أن يُعامَل معاملةَ الواحدة المؤنثة، والأموال من هذا القبيل لأنها جمعُ ما لا يعقلِ، ولم تُجْمع إلا على أَفْعال، وإن كانت بلفظِ القلة لأنَّ المرادَ بها الكثرة.
وقرأ الحسن والنخعي: «اللاتي» مطابقةً للفظِ الجمع، وكان القياسُ ألاَّ يوصفَ ب «اللاتي» إلا ما يُوصَفُ مفرده ب «التي»، والأموال لا يُوصف مفردُها وهو «مال» ب «التي». وقال الفراء: «العربُ تقولُ في النساء:» اللاتي «أكثرَ مِمَّا تقول» التي «، وفي الأموال:» التي «أكثر مما تقول» اللاتي «. وكلاهما في كليهما جائز. وقرىء:» اللواتي «وهي جمعُ اللاتي، فهي جمعُ الجمع، أو جمع» التي «نفسِها.
قوله:» قياماً «إنْ قلنا إنَّ» جَعَلَ «بمعنى صَيَّر ف» قياماً «مفعول ثانٍ، والأولُ محذوفٌ وهو عائد الموصول، والتقدير:» التي جعلها «أي: صَيَّرها لكم قياماً. وإنْ قلنا إنَّها بمعنى» خَلَقَ «ف» قِياماً «حال من ذلك العائدِ المحذوفِ، التقديرُ: جَعَلَها أي: خلقها وأوجدها في حالِ كونها قياماً.
فأما قراءة نافع وابنِ عامر ففيها ثلاثة أوجه، أحدهما: أنَّ» قِيَماً «مصدرٌ كالقيام وليس مقصوراً منه، قال الكسائي والأخفش والفراء، فهو مصدر بمعنى القيام الذي يُراد به الثباتُ والدوامُ.
وقد رُدَّ هذا القول بأنه كان ينبغي أن تَصِحَّ الواو لتحصُّنِها بتوسُّطِها، كما صَحَّت واو «عِوَض» و «حِوَل». وأُجيب عنه بأنه تبع فعلَه في الإِعلال. فكما أُعِلَّ فعلُه أُعِلَّ هو، ولأنه بمعنى القِيام فَحُمِل عليه في الإِعلال. وحَكَى الأخفَشُ: قِيَماً وقِوَماً قال: «والقياسُ تصحيحُ الواو، وإنما اعتلَّت على وجهِ الشذوذِ كقولهم:» ثِيَرة «، وقولِ بني ضبة:» طِيال «في جمع طويل، وقولِ الجميع» جِياد «جمع جَواد، وإذا أعلُّوا» دِيَماً «لاعتلالِ» دِيْمة «فاعتلالُ المصدر لاعتلال فعلِه أَوْلى، ألا ترى إلى صحة الجمع مع اعتلالِ مفردِه في معيشة ومعايش، ومقامة ومقاوِم، ولم يصححوا مصدراً أعلُّوا فِعْلَه.
الثاني: أنه مقصورٌ من» قيام «، فحذفوا الألف تخفيفاً كما قالوا: خيَم في» خِيام «و» مِخْيَط «و» مِقْول «في:» مِخْياط «و» مِقْوال «.
والثالث: أنه جمع» قِيمة «ك» دِيَم «في جمع دِيْمَة، والمعنى: أنَّ الأموالَ كالقيم للنفوس لأنَّ بقاءها بها. وقد رَدَّ الفارسي هذا الوجهَ، وإنْ كان
وأمَّا قراءةُ باقي السبعة فهو مصدرُ» قام «والأصلُ قِوام، فَأُبْدلت الواوُ ياءً للقاعدةِ المعروفة، والمعنى: التي جَعَلَها الله سبب قيامِ أبدانكم أي: بقائِها. وقال الزمخشري:» أي تقومون بها وتنتعشون «.
وأما قراءة عبد الله بن عمر ففيها وجهان، أحدهما: أنه مصدر قاوَمَ ك لاوَذَ لِواذاً، صحَّت الواو في المصدر/ كما صحت في الفعل. والثاني: أنه اسم لما يقوم به الشيء، وليس بمصدرٍ كقولهم: هذا مِلاك الأمر» أي ما يُمْلك به.
وأما قراءة الحسن ففيها وجهان، أحدهما: أنه اسم مصدر كالكَلام والدوام والسلام. والثاني: أنه لغة في القِوام المراد به القامة، والمعنى: التي جعلها الله سببَ بقاءِ قاماتكم، يقال: جارية حسنةُ القِوام والقَوام والقَامة، كلُّه بمعنىً واحد. وقال أبو حاتم: «قَوام بالفتح خطأٌ» قال: «لأنَّ القوام امتداد القامة»، وقد تقدَّم تأويل ذلك على أن الكسائي قال: «هو بمعنى القِوام» أي بالكسرِ، يعني أنه مصدر.
قوله: «فيها» فيه وجهان، أحدُهما أنَّ «في» على بابها مِن الظرفية أي: اجْعَلوا رزقَهم فيها. والثاني: أنه بمعنى «مِنْ» أي: بعضها، والمراد: من أرباحِها بالتجارة.
١٥٤٥ - وما زالَتِ القَتْلى تَمُجُّ دماءها | بِدَجْلَةَ حتى ماءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ |
١٥٤٦ - سَرَيْتُ بهم حتى تَكِلَّ مَطِيُّهم | وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بِأَرْسانِ |
وقرأ ابن مسعود: «فإن أحَسْتُم» والأصل: أحْسَسْتُم فَحَذَفَ إِحدى السينين، ويُحتمل أن تكونَ العينَ أو اللام، ومثلُه قول أبي زبيد:
١٥٤٧ - سِوى أنَّ العِتاقَ من المَطايا | حَسِيْنَ به فهنَّ إليه شوسُ |
ونكَّر «رُشْداً» دلالةً على التنويعِ، والمعنى: أيُّ نوعٍ حَصَل من الرشدِ
وآنَسَ كذا: أحسَّ به وشَعَر، قال:
١٥٤٨ - آنَسَتْ نَبْأَةً وأَفزعها القُن | اصُ عَصْراً وقد دَنا الإِمساءُ |
قوله: ﴿إِسْرَافاً وَبِدَاراً﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنهما منصوبان على المفعول من أجله أي: لأجلِ الإِسرافِ والبِدار. ونقل عن ابن عباس أنه قال: «كان الأولياء يستغنمون أكل مالِ اليتيمِ، لئلا يكبرَ، فينتزعَ المالَ منهم». والثاني: أنَّهما مصدران في موضعِ الحال أي: مسرفين ومُبادرين. و «بِداراً» مصدرُ بادرَ، والمفاعَلة هنا يجوز أن تكون من اثنين على بابِها، بمعنى «أنَّ الوليَّ يبادر اليتيم إلى أخذِ مالِه، واليتيم يبادِرُ إلى الكبر، ويجوزُ أن يكونَ من واحد بمعنى: أن فاعَلَ بمعنى فعل نحو: سافر وطارَقَ.
قوله: ﴿أَن يَكْبَرُواْ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعول بالمصدر أي: وبِداراً كِبَرُهم، كقولِه: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً﴾ [البلد: ١٤-١٥]، وفي إعمال
قوله: ﴿وكفى بالله حَسِيباً﴾ في» كفى «قولان، أحدهما: أنها اسم فعل. والثاني: وهو الصحيح أنها فِعْلٌ، وفي فاعِلها قولان: أحدُهما وهو الصحيح أنه المجرورُ بالباءِ، والباءُ زائدةٌ فيه وفي فاعلِ مضارعه نحو: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ﴾ [فصلت: ٥٣] باطِّراد. قال أبو البقاء:» زيدت لتدلَّ على معنى الأمرِ إذ التقدير: اكتفِ بالله «. والثاني: أنه مضمر، والتقدير: كَفَى الاكتفاءُ، و» بالله «على هذا في موضعِ نصب لأنه مفعول به في المعنى، وهذا رأيُ ابنِ السراج. ورُدَّ هذا بأنَّ إعمال المصدر المحذوف لا يجوزُ عند البصريين إلا ضرورةًَ كقوله:
١٥٤٩ - هل تَذْكُرون إلى الدَّيْرَيْنِ هِجْرَتَكم | ومَسْحَكم صُلْبَكُمْ رُحْمانَ قُرْبانا |
وفي كلامِ ابن عطية «نحوٌ من قولِه أيضاً، فإنه قال:» بالله «في موضعِ رفعٍ بتقديرِ زيادةِ الخافض، وفائدةُ زيادتِه تبيينُ معنى الأمر في صورةِ الخبر أي: اكتفوا بالله، فالباءُ تَدُلُّ على المرادِ من ذلك»، وفي هذا ما رُدَّ به على الزجاج وزيادَةُ جعلِ الحرفِ زائداً وغيرَ زائدٍ. وقال ابن عيسى: «إنما دخلَتِ الباءُ في» كفى بالله «لأنه كان يتصل اتصالَ الفاعل، وبدخولِ الباءِ اتصل اتصالَ المضافِ واتصالَ الفاعل؛ لأن الكفايةَ منه تعالى ليست كالكفايةِ من غيرِه، فضوعف لفظُها لمضاعفةِ معناها» ويَحْتاج إلى فكر.
قوله: ﴿حسيباً﴾ فيه وجهان، أصحُّهما: أنه تمييزٌ يَدُلُّ على ذلك صلاحيةُ دخولِ «مِنْ» عليه، وهي علامةُ التمييز. والثاني: أنه حال.
وقوله: ﴿مِمَّا قَلَّ﴾ في هذا الجارِّ أيضاً وجهان أحدُهما: أنه بدلٌ من «ما» الأخيرةِ في «مِمَّا ترك» بإعادة حرفِ الجر في البدل، والضميرُ في «منه» عائدٌ على «ما» الأخيرةِ، وهذا البدلُ مرادٌ أيضاً في الجملةِ الأولى حُذِفَ للدلالةِ عليه، ولأنَّ المقصودَ به التأكيدُ لأنه تفصيلٌ/ للعمومِ المفهومِ من قولِه: ﴿مِّمَّا تَرَكَ﴾ فجاءَ هذا البدلُ مفصِّلاً لحالتَيْه من الكثرةِ والقلة. والثاني: أنه حالٌ من الضمير المحذوف من «ترك» أي: مِمَّا تركه قليلاً أو كثيراً أو مستقراً مِمَّا قل.
و «نصيباً» فيه أوجهٌ أحدها: أن ينتصِبَ على أنه واقعٌ موقعَ المصدر، والعاملُ فيه معنى ما تقَّدم، إذ التقديرُ: عطاءً أو استحقاقاً، وهذا معنى قولِ مَنْ يقولُ منصوبٌ على المصدرِ المؤكد. قال الزمخشري: «كقوله: ﴿فَرِيضَةً مِّنَ الله﴾ [النساء: ١١] كأنه قيل: قسمةً مفروضةً». وقد سَبَقه الفراء إلى هذا
الثاني: أنه منصوبٌ على الحال، ويُحتمل أن يكونَ صاحبُ الحال الفاعلَ في» قَلَّ أو كَثُر «، ويُحتمل أن يكونَ» نصيب «وإن كان نكرة لتخصُّصِه: إمَّا بالوصفِ وإمَّا بالعمل، والعاملُ في الحال الاستقرارُ الذي في قوله:» للرجالِ «. وإلى نصبِه حالاً ذهب الزجاج ومكي، قالا:» المعنى لهؤلاءِ أَنْصِباء على ما ذكرناها في حالِ الفرض «.
الثالث: أنه منصوبٌ على الاختصاص، بمعنى: أعني نصيباً، قاله الزمخشري. قال الشيخ: إنْ عنى الاختصاصَ المصطلحَ عليه فهو مردودٌ بكونِه نكرةً، وقد نَصُّوا على اشتراطِ تعريفِه».
الرابع: النصبُ بإضمار فعلٍ أي: أُوجبت أو جُعِلت لهم نصيباً. الخامس: أنه مصدرٌ صريحٌ أي: نَصَبْتُه نصيباً.
و «لو» هذه فيها احتمالان، أحدُهما: أنَّها على بابِها مِنْ كونِها حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره، أو حرفَ امتناع لامتناع على اختلاف العبارتين. والثاني: أنها بمعنى «إنْ» الشرطية. وإلى الاحتمال الأولِ ذهب ابن عطية والزمخشري. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: ما معنى وقوعِ» لو تركوا «وجوابِه صلةً ل» الذين «؟ قلت: معناه: وَلْيخش الذين صفتُهم وحالُهم أَنهم لو شارَفوا أَنْ يَتْرُكُوا خلفَهم ذريةً ضِعافاً، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياعَ بعدهم لذهابِ كافلهم وكاسبهم، كما قال القائل:
وإلى الاحتمال الثاني ذهب أبو البقاء وابن مالك، قال ابن مالك:» لو «هنا شرطيةٌ بمعنى» إنْ «، فتقلِبُ الماضي إلى معنى الاستقبال، والتقدير: وَلْيخش الذين إنْ تركوا، ولو وقع بعد» لو «هذه مضارع كان مستقبلاً كما يكونُ بعد» إنْ «وأنشد:
١٥٥٠ - لقد زادَ الحياةَ إليَّ حُبَّاً | بناتِي أنَّهن من الضِعافِ |
أُحاذِرُ أن يَرَيْنَ البؤس بعدي | وأن يَشْرَبْنَ رنْقاً بعد صافي |
١٥٥١ - لا يُلْفِكُ الرَّاجوك إلا مُظْهِراً | خُلُقَ الكرامِ ولو تكونُ عَدِيما |
١٥٥٢ - قومٌ إذا حارَبُوا شدَّوا مآزِرَهُمْ | دونَ النساءِ ولو باتَتْ بأطْهارِ |
وإنما حَمَل ابنَ مالك وأبا البقاء على جَعْلِها بمعنى» إنْ «توهُّمُ أنه لَمَّا أمر بالخشية والأمرُ مستقبل ومتعلَّقُ الأمر موصولٌ لم يَصِحَّ أن تكون الصلةُ ماضيةً على تقدير دلالتِه على العَدَمِ الذي يُنَافي امتثالَ الأمر، وحَسَّنَ مكانَ»
قال الشيخ: «وهذا الذي توهَّموه لا يلزم، إلا إنْ كانت الصلةُ ماضيةً في المعنى واقعةً بالفعل، إذ معنى» لو تركوا من خلفهم «أي: ماتوا فتركوا مِنْ خلفهم، فلو كان كذلك لَلزم التأويلُ في» لو «أَنْ تكونَ بمعنى» إنْ «إذ لا يجامِعُ الأمرُ بإيقاعِ فعلٍ مَنْ مات بالفعل، أمَّا إذا كان ماضياً على تقديرٍ فيصِحُّ أن يقع صلةً. وأن يكونَ العاملُ في الموصولِ الفعلَ المستقبل، نحو قولِك: ليزُرْنا الذي لو مات أمسِ لبكيناه» انتهى.
وأمَّا البيتان المتقدِّمان فلا يلزمُ مِنْ صحةِ جَعْلِها فيهما بمعنى «إنْ» أن تكونَ في الآيةِ كذلك. لأنَّا في البيتين نضطرُ إلى ذلك: أمَّا البيتُ الأولُ فلأنَّ جوابَ «لو» محذوفٌ مدلولٌ عليه بقولِه: «لا يُلْفِك» وهو نَهْيٌ، والنهيُ مستقبلٌ فلذلك كانت «لو» تعليقاً في المستقبل. أما البيتُ الثاني فلدخولِ ما بعدَها في حَيِّزِ «إذا»، و «إذا» للمستقبل.
ومفعول «وَلْيَخْشَ» محذوفٌ أي: وَلْيخش الله. ويجوزُ أَنْ تكون المسألةُ من بابِ التنازع، فإنَّ «وَلْيخش» يطلبُ الجلالةَ، وكذلك «فليتقوا»، ويكونُ من إعمالِ الثاني للحذفِ من الأول.
قوله: ﴿مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ فيه وجهان، أظهرُهما: أنه متعلِّقٌ ب «تركوا» ظرفاً له. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من «ذرية»، لأنَّه في الأصلِ صفةُ نكرةٍ قُدِّمَتْ عليها فَجُعِلَتْ حالاً.
وقرأ ابن محيصن: «ضُعُفاً» بضمِّ الضاد والعين، وتنوين الفاء. والسلمي وعائشة: «ضعفاء» بضمِّ الضاد وفتح العين والمد، وهو جمع مقيس في فعيل صفةً نحو: ظَريف وظُرَفاء وكريم وكُرَماء. وقرىء «ضَعافَى» بالفتحِ والإِمالة نحو: سَكارى. وظاهر عبارةِ الزمخشري أنه قُرِىءَ: «ضُعافى» بضم الضاد مثل سُكارى، فإنه قال: «وقُرىء ضُعَفَاء وضَعافى وضُعافى نحو سَكارى وسُكارى» فيُحتملِ أَنْ يريد أنه قُرِىء بضم الضاد وفتحِها، ويُحتمل أن يريدَ أنه قُرىء: «ضَعافى» بفتح الضاد دونَ إمالة، و «ضَعافَى» بفتحِها مع الإِمالة كسَكارى بفتحِ السين دونَ إمالة، وسَكارى بفتحها مع الإِمالة، والظاهرُ الأولُ، والغالبُ على الظن أنها لم تُنْقل قراءة.
وأمال حمزة ألفَ «خاف» للكسرةِ المقدرةِ في الألف، إذ الأصل «خَوِف» بكسر العين بدليلِ فتحِها في المضارع نحو: «يخاف»، وعَلَّل أبو البقاء ذلك بأنَّ الكسر قد يَعْرِض في حال من الأحوال، وذلك إذا أُسْنِدَ الفعل إلى ضمير المتكلم/ أو إحدى أخواته نحو: خِفْت وخِفْنا، والجملةُ من «لو» وجوابِها صلةُ «الذين».
قوله: ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ فيه وجهان أحدُهما: أنه متعلِّقٌ ب «يأكلون» أي: بطونُهم أوعيةٌ للنار: إمَّا حقيقةً بأن يَخلق اللهُ لهم ناراً يأكلونها في بطونِهم، أو مجازاً بأَنْ أطلق المُسَبَّبَ وأراد السببَ. الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ مِنْ «ناراً»، وكان في الأصلِ صفةً للنكرة فلمَّا قُدِّمَتْ انتصبَتْ حالاً.
وذَكَر أبو البقاء هذا الوجهَ عن أبي علي في «تذكرته»، وحَكَى عنه أنه منع أن يكونَ ظرفاً ل «يأكلون»، فإنَّه قال: ﴿فِي بُطُونِهِمْ نَاراً﴾ قد تقدَّم في البقرة منه شيءٌ، ويخصُّ هذا الموضع أن «في بطونهم» حالٌ من «ناراً» أي: ناراً كائنةً في بطونِهم، وليس بظرفٍ ل «يأكلون»، ذكره في «التذكرة». وفي قوله: «والذي يَخُصُّ هذال الموضع» فيه نظر، فإنه كما يجوز أن يكونَ «في بطونهم» حالاً من «نار» هنا يجوز أن يكونَ حالاً من «النار» في البقرة، وفي إبداء الفرقِ عُسْرٌ، ولم يظهر في منعِ أبي علي كونَ «في بطونهم» ظرفاً للأكل وجهٌ ظاهر.
و «أَصْلَى» : يُحتمل أَن ْ تكونَ الهمزةُ فيه للدخول في الشيء، فيتعدَّى لواحد وهو «سعيراً» وأن تكونَ للتعديةِ، فالمفعولُ محذوفٌ، أي: يُصْلُون أنفسَهم سعيراً.
وأبو حيوة بضمِّ الياءِ وفتحِ الصاد، واللام مشددة، مبنياً للمفعول من «صَلَّى» مضعفاً. قال أبو البقاء: «والتضعيفُ للتكثيرِ».
والصِّلْيُ: الإِيقادُ بالنارِ، يقال: صَلِي بكذا بكسر العين، وقوله: ﴿لاَ يَصْلاَهَآ﴾ [الليل: ١٥] أي يَصْلَى بها. وقال الخليل: «صَلِي الكافرُ النارَ» قاسَى حَرَّها. وصلاه النارَ وأَصْلاه غيرُه، هكذا قال الراغب، وظاهرُ هذه العبارةِ أنَّ فَعِل وأَفْعَل بمعنىً، يتعدَّيان إلى اثنين ثانيهما بحرفِ الجر، وقد يُحْذَف. وقال غيرُه: «صَلِيَ بالنارِ أي: تَسَخَّن بقربها»، ف «سعيراً» على هذا منصوبٌ على إسقاط الخافض. ويَدُلُّ على أنَّ أصلَ «يَصْلاها» يَصْلَى بها قولُ الشاعر:
١٥٥٣ - إذا أَوْقَدُوا ناراً لحربِ عَدُوِّهم | فقد خابَ مَنْ يَصْلَى بها وسعيرِها |
ويُحْتمل ألأَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب، بل جِيءَ بها للبيانِ والتفسيرِ، فهي جملةٌ مفسِّرة للوصية، وهذا أحسنُ وجارٍ على مذهب البصريين، وهو ظاهرُ عبارةِ الزمخشري فإنَّه قال: «وهذا إجمالٌ تفصيلُه {لِلذَّكَرِ مِثْلُ
و» مثلُ «صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: للذَّكرِ منهم حَظُّ مثلُ حَظِّ الأنثيين. و ﴿في أَوْلاَدِكُمْ﴾ قيل: ثَمَّ مضافٌ محذوف أي: في أولادِ موتاكم. قالوا: لأنه لا يَجُوزُ أَنْ يُخاطَبَ الحيُّ بقسمةِ الميراثِ في أولادِه ويُفْرََضَ عليه ذلك. وقال بعضُهم:» إنْ قلنا: إنَّ معنى «يُوصيكم» «يبيِّن لكم» لم يحتج إلى هذا التقدير «. وقَدَّر بعضُهم قبل» أولادكم «مضافاً أي: في شأنِ أولادِكم، أو في أمرِ أولادكم.
وقرأ الحسن وابن أبي عبلة:» يُوَصِّيكم «بالتشديد، وقد تقدَّم أنَّ أوصي ووصَّى لغتان.
قوله: ﴿فَإِن كُنَّ نِسَآءً﴾ الضميرُ في» كُنَّ «يعودُ على الإِناث اللاتي شَمَلَهُنَّ قولُه ﴿في أَوْلاَدِكُمْ﴾. فإنَّ التقدير: في أولادكم الذكورِ والإِناثِ، فعادَ الضميرُ على أحدِ قِسْمَي الأولادِ، وإذا عاد الضمير على جمعِ التكسيرِ العاقلِ المرادِ به مَحْضُ الذكور في قوله عليه السلام:» وربَّ الشياطين ومَنْ أَضْلَلْن «كعَوْدِه على جماعةِ الإِناث، فَلأنْ يعودَ كذلك على جمع التكسيرِ الشاملِ للإِناثِ بطريقِ الأَوْلَى والأحرى، وهذا معنى قولِ الشيخ. وفيه نظرٌ لأنَّ عودَه هناك كضميرِ الإِناث إنما كان لمعنىً مفقودٍ هنا، وهو طلبُ المشاكلة
وقيل: الضمير يَعُود على المتروكات أي: فإنْ كانت المتروكات، ودَلَّ ذِكْرُ الأولاد عليه، قاله أبو البقاء ومكي. وقَدَّرَه الزمخشري: «فإنْ كان البنات أو المولودات».
فإذا تقرَّر هذا ف «كُنَّ» كان واسمُها، و «نساءً» خبرُها، و «فوق اثنتين» ظرف في محل نصب صفةً ل «نساء» وبهذه الصفةِ تحصُل فائدةُ الخبرِ، ولو اقتُصِر عليه لم تَحْصُلْ فائدةُ، ألا ترى أنه لو قيل: «إن كان الزيدون رجالاً كان كذا» لم يَكُنْ فيه فائدةٌ.
وأجاز الزمخشري في هذه الآية وَجْهين غريبين، أحدهما: أن يكونَ الضميرُ في «كنَّ» ضميراً مبهماً، و «نساءً» منصوبٌ على أنه تفسيرٌ له يعني تمييزاً، وكذلك قال في الضمير الذي في «كانت» من قوله «وإنْ كانت واحدة» على أنَّ «كان» تامة. والوجهُ الآخر: أن يكونَ «فوق اثنتين» خبراً ثانياً ل «كُنَّ»، ورَدَّهما عليه الشيخ: أمَّا الأولُ فلأنَّ «كان» ليسَتْ من الأفعالِ التي يكونُ فاعلُها مضمراً يُفَسِّره ما بعدَه، بل هذا مختصٌّ من الأفعالِ ب «نعم» و «بئس» وما جَرى مَجْراهما، وبابِ التنازع عند إعمالِ الثاني. وأما الثاني فلِما تقدَّم من الاحتياجِ إلى هذه الصفةِ؛ لأنَّ الخبرَ لا بُدَّ أَنْ تستقلَّ به فائدةُ الإِسنادِ، وقد تقدَّم أنه لو اقتَصَر على قولِه: ﴿فَإِن كُنَّ نِسَآءً﴾ لم يُفِدْ شيئاً، لأنه معلوم.
قوله: ﴿وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً﴾ قرأ نافع: «واحدةٌ» رفعاً على أنَّ «كان» تامة أي: وإنْ وُجِدَتْ واحدةٌ، والباقون «واحدة» نصباً على أنَّ «كانت» ناقصةً، واسمُها مستترٌ فيها يعودُ على الوارثة أو المتروكة، و «واحدةً» نصبٌ على خبرِ «كان»، وقد تقدَّم أن الزمخشري أجاز أن يكونَ في «كان» ضميرٌ مبهمٌ مفسَّر بالمنصوب بعدُ.
وقرأ السلمي: «النُّصف» بضم النون، وهي قراءةُ على وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، وقد تقدَّم شيء من ذلك في البقرة في قوله: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [الآية: ٢٣٧].
قوله: ﴿وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس﴾ «السدس» مبتدأ و «لأبويه» خبر مقدم، و «لكلِّ واحدٍ» بدلٌ من «لأبويه» وهذا ما نَصَّ عليه الزمخشري فإنه قال: «لكلَّ واحد منهما» بدل من «لأبويه» بتكريرِ العاملِ، وفائدةُ هذا البدلِ أنه لو قيل: «ولأبويه السدسُ» لكان ظاهرُه اشتراكهما فيه، ولو قيل: «
فإنْ قلت: فهلا قيل: «ولكلِّ واحدٍ من أبويه السدس» وأيُّ فائدةٍ في ذِكْرِ الأبوين أولاً ثم في الإِبدالِ منهما؟ قلت: لأنَّ في الإِبدال والتفصيل بعد الإِجمال تأكيداً وتشديداً كالذي تراه في الجمعِ بين المفسَّر والتفسيرِ. و «السدس» مبتدأ، وخبره «لأبويه»، والبدلُ متوسط بينهما للبيانِ «. انتهى.
وناقَشَه الشيخ في جَعْلِه» لأبويه «الخبرَ دونَ قوله» بكلِّ واحد «قال:» لأنه ينبغي أن يكونَ البدلُ هو الخبرَ دونَ المبدلِ منه «يعني أنَّ البدلَ هو المعتمدُ عليه، والمبدلُ منه صارَ في حكمِ المُطَّرح، ونَظَّره بقولك:» إنًَّ زيداً عينُه حسنة «فكما أنَّ» حسنة «خبر عن» عينه «دون» زيد «لأنّه في حكم المُطَّرح فكذلك هذا، ونَظَّره أيضاً بقولك:» أبواك كلُّ واحد منهما يَصنع كذا «ف» يَصنع «خبرٌ عن» كل واحد «منهما، ولو قلت:» أبواك كلُّ واحدٍ منهما يَصْنعان كذا «لم يَجُزْ».
وفي هذه المناقشةِ نظرٌ لأنه إذا قيل لك: ما مَحَلُّ «لأبويه» من الإِعرابِ؟ نضطر إلى أَنْ نقولَ: في محلِّ رفعٍ خبراً مقدماً، ولكنه نَقَل نسبةَ الخبرية إلى «لكلِّ واحدٍ منهما» دونَ «لأبويه». قال: «وقال بعضُهم» :«السدسُ» رفعٌ بالابتداء، و «لكلِّ واحدٍ» الخبرُ، و «لكلِّ» بدلٌ من الأبوين، و «منهما» نعتٌ لواحد، وهذا البدلُ هو بعضُ من كل، ولذلك أتَى معه بالضمير، ولا يُتَوَهَّمُ أنه بدلُ شيء من شيء وهما لعينٍ واحدة لجوازِ «أبواك
والضميرُ في» لأبويه «عائدٌ على ما عادَ عليه الضمير في» ترك «، وهو الميتُ المدلولُ عليه بقوةِ الكلام. والتثنية في» أبويه «من التغليب، والأصلُ: لأبيه وأمه، وإنما غَلَّب المذكرَ على المؤنث كقولهم: القَمَران والعُمَران وهي تثنيةٌ لا تنقاس.
قوله:» فلأِمه «قرأ الجمهور» فلإِمه «وقولُه: ﴿في أُمِّ الكتاب﴾ [الآية: ٤] في سورةِ الزخرف، وقولُه: ﴿حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا﴾ [الآية: ٥٩] في القصص، وقوله: ﴿فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ في [النحل: ٧٨] و [الزمر: ٦]، وقوله: ﴿أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ [الآية: ٦١] في النور، و ﴿فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾
[الآية: ٣٢] في النجم، بضم الهمزة من «أُمّ» وهو الأصلُ وقرأ حمزة والكسائي جميعَ ذلك بكسر الهمزة، وانفرد حمزة بزيادةِ كسرِ الميم من «أمَّهات» في الأماكنِ المذكورةِ، هذا كله في الدَّرْج. أمَّا في الابتداءِ بهمزةِ «الأم» و «الأمهات» فإنه لا خِلافَ في ضَمِّها.
وأمَّا وجهُ قراءةِ الجمهور فظاهرٌ لأنه الأصلُ كما تقدَّم. وأمَّا قراءةُ حمزة والكسائي بكسر الهمزة فقالوا: لمناسبةِ الكسرةِ أو الياء التي قبل الهمزة، فكُسِرت الهمزةُ إتباعاً لِما قبلَها، ولاستثقالهم الخروجَ من كَسْرٍ أو شبهه إلى
قوله: ﴿فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ «إخوة» أعَمُّ من أن يكونوا ذكوراً أو إناثاً أو بعضهم ذكوراً وبعضهم إناثاً، ويكون هذا من باب التغليب. وزعم قوم أنَّ الإِخوةَ خاص بالذكور، وأن الأخوات لا يَحْجُبْنَ الأم من الثلث إلى السدس، قالوا: لأن إخوة جمع أخ، والجمهورُ على أنَّ الإِخوة وإنْ كانوا بلفظِ الجمع يَقَعُون على الاثنين، فيَحْجَبُ الأخوان أيضاً الأمَّ من الثلث إلى السدس، خلافاً لابن عباس فإن لا يَحْجُب بهما والظاهر معه.
قوله: ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أنه متعلق بما تقدَّمه من قسمةِ المواريث كلِّها لا بما يليه وحدَه، كأنه قيل: قسمةٌ هذه الأنْصباء من بعد وصيةٍ، قالَهَ الزمخشري، يعني أنه متعلِّقٌ بقوله ﴿يُوصِيكُمُ الله﴾ وما بعدَه. والثاني: ذكره الشيخ أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ أي: يَسْتَحِقُّون ذلك كما فُصِّل من بعد وصية. والثالث: أنه حال من السدس تقديره/ مستحِقاً من بعد وصية، والعاملُ الظرفُ، قاله أبو البقاء. وجَوَّزَ فيه وجهاً آخر قال: [ «ويجوز أن يكون ظرفاً] أي: يتسقر لهم ذلك بعد إخراجِ الوصيةِ، ولا بد من
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر» يُوصَى «مبنياً للمفعول في الموضعين، وافقهم حفص في الأخير، والباقون مبنياً للفاعل، وقُرىء شاذاً:» يُوَصَّى «بالتشديد مبنياً للمفعول، ف» بها «في قراءةِ البناءِ للفاعل في محلِّ نصب، وفي قراءة البناء للمفعول في محلِّ رفعٍ لقيامه مقامَ الفاعل.
قوله: ﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ «أو» هنا لأحدِ الشيئين. قال أبو البقاء «ولا تَدُلُّ على ترتيبٍ، إذ لا فرقَ بين قولك:» جاءني زيد أو عمرو «وبين قولك:» جاءني عمرو أو زيد «لأن» أو «لأحد الشيئين، والواحدُ لا ترتيب فيه، وبهذا يفسد قول من قال:» من بعد دَيْن أو وصية «، إنما يقع الترتيبُ فيما إذا اجتمعا فَيُقَدَّم الدينُ على الوصية».
وقال الزمخشري: «فإنْ قلت: فما معنى» أو «؟ قلت: معناها الإِباحةُ، وأنه إنْ كان أحدُهما أو كلاهما قُدَّم على قِسمة الميراثِ كقولك:» جالسِ [الحسنَ] أو ابنَ سيرين «، فإنْ قلت: لِمَ قُدِّمَتِ الوصية على الدَّيْن، والدَّيْن
قوله: ﴿آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ﴾ مبتدأٌ، و «لا تَدْرُون» وما في حيِّزه في محلِّ الرفع خبراً له، و «أيُّهم» فيه وجهان، أشهرُهما عند المُعْرِبين أن يكونَ «أيُّهم» مبتدأ وهم أسمُ استفهامٍ، و «أقربُ» خبرُه، والجملة من هذا المبتدأ وخبرِه في محلِّ نصب ب «تَدْرون» لأنها من أفعالِ القلوبِ، فعلَّقها اسمُ الاستفهامِ عن أَنْ تعملَ في لفظِه؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَعْمل فيه ما قبلَه في غيرِ الاستثبات.
والثاني: أنه يجوزُ أن تكونَ «أيُّهم» موصولةً بمعنى الذي، و «أقربُ» : خبرٌ مبتدأٍ مضمر هو عائدٌ الموصولِ، وجازَ حذفُه لأنه يجوز ذلك مع «أي» مطلقاً أي: أطالت الصلةُ أم لم تَطُلْ، والتقديرُ: أيُّهم هو أقربُ، وهذا الموصولُ وصلتُه في محلِّ نصب على أنه مفعول به، نصبَه «تَدْرون»، وإنما بُني لوجودِ شرطَي البناءِ: وهما أَنْ تُضاف «أي» لفظاً وأَنْ يُحْذَفَ صدرُ صلتِها، وصارت هذه الآيةُ نظيرَ الآيةِ الأخرى وهي ﴿ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ﴾ [مريم: ٦٩] فصارَ التقديرُ: لا تدرون الذي هو أقربُ. قال الشيخ: «ولم أرَهم ذكروه» يعني هذا الوجه. قلت: ولا مانعَ منه لا من جهةِ المعنى ولا من جهةِ الصناعةِ. فعلى القولِ الأولِ تكونُ الجملةُ سادَّةً مسدَّ المفعولين، ولا حاجةَ إلى تقدير حذف، وعلى الثاني يكونُ الموصولُ في محلِّ نصبٍ مفعولاً أولَ،
ثم هذه الجملةُ أعني قولَه: ﴿آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ﴾ لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها جملة اعتراضية. قال الزمخشري: بعد أن حكى في معانيها أقوالاً اختار منها الأولَ «لأنَّ هذه الجملةَ اعتراضية، ومن حقِّ الاعتراضِ أَنْ يؤكِّد ما اعتَرَض بينه وبين ما يناسِبُه» يعني بالاعتراض أنها واقعةٌ من قصة المواريث، إلا أنَّ هذا الاعتراضَ غيرُ مرادِ النحويين، لأنهم لا يَعْنُون بالاعتراضِ في اصطلاحهم إلاَّ ما كان بين شيئين متلازمين كالاعتراضِ بين المبتدأ وخبره، والشرطِ وجزائه، والقسمِ وجوابه، والصلةِ وموصولها. ثم ذكر في معانيها أقوالاً أحدها: وهو الذي اختاره أَنْ جَعَلَها متعلقةً بالوصية فقال: «ثم أكَّد ذلك يعني الاهتمام بالوصية ورَغَّب فيه بقوله: ﴿آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ﴾ أي: لا تَدْرُون مَنْ أنفعُ لكم من آبائكم وأبنائِكم الذين يَمُوتون، أَمَنْ أَوصى منهم أم من لم يوصِ، يعني أنَّ مَنْ أوصى ببعضِ مالِه فعرَّضكم لثوابِ الآخرةِ بإمضاء وصيته فهو أقربُ لكم نفعاً وأحضَرُ جدوى ممَّن ترك الوصيَّة فوفَّر عليكم عَرَض الدنيا، وجعل ثواب الآخرة أقربَ وأَحْضَرَ مِنْ عرض الدنيا، ذهاباً إلى حقيقة الأمر، لأن عَرَضَ الدنيا وإنْ كان قريباً عاجلاً في الصورة إلا أنه فانٍ، فهو في الحقيقةِ الأبعدُ الأقصى، وثوابُ الآخرة وإن كان آجلاً إلا أنه باق، فهو في الحقيقةِ الأقربُ الأدنى».
وانتصبَ «نفعاً» على التمييز من «أقرب»، وهو منقول من الفاعلية، واجبُ النصب، لأنه متى وقع تمييزُ بعد أَفْعلِ التفضيل: فإنْ صَحَّ أَنْ يصاغَ منها فعلٌ مسندٌ إلى ذلك التمييز على جهة الفاعلية وجب النصب كهذه الآية، إذ يصح أن يقال: أيُّهم قَرُبَ الكم نَفْعُه، وإن لم يصِحَّ ذلك وجَبَ جَرُّه نحو: «زيد أحسنُ
قوله: ﴿فَرِيضَةً﴾ فيها ثلاثة أوجه، أظهرها: أنها مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمون الجملة السابقة من الوصية، لأنَّ معنى «يوصيكم» فرض الله عليكم، فصار المعنى: «يوصيكم الله وصيةَ فرض» فهو مصدر على غير الصدر. والثاني: أنها مصدر منصوب بفعل محذوف من لفظها. قال أبو البقاء: و «فريضةً» / مصدر لفعل محذوف أي: فرض الله ذلك فريضة «والثالث: قاله مكي وغيره أنها حالٌ لأنها ليست مصدراً، وكلامُ الزمخشري محتمل للوجهين الأَوَّلَيْن فإنه قال:» فريضة «نُصِبت نَصْبِ المصدر المؤكد، أي: فرض ذلك فرضاً».
وأمَّا اشتقاقُها فقيل: هي مشتقة مِنْ تَكَلَّله الشيء أي: أحاط به، وذلك أنَّه إذا لم يَتْرك ولداً ولا والداً فقد انقطع طرفاه وهما عمودا نسبه وبقي مالُه الموروثُ لِمَنْ يتكلَّله نسبه أي: يحيط به كالإِكليل، ومنه «الروضة المُكَلَّلة» أي: بالزهر، وعليه قول الفرزدق:
١٥٥٤ - وَرِثْتُمْ قناةَ المجدِ لا عن كَلالةِ | عن ابنَيْ منافٍ عبدِ شمس وهاشمِ |
١٥٥٥ - فآليْتُ لا أَرْثي لها مِنْ كَلالةٍ | ولا مِنْ وَحَىً حتى تُلاقِي مُحَمَّدا |
وهل هذا الفعلُ من وَرِث الثلاثي أو أورث الرباعي؟ فيه خلافٌ، إلا أنَّ الزمخشري لَمَّا جعله من الثلاثي جعَله يتعدَّى إلى الأول من المفعولين ب «مِنْ» فإنه قال: «ويُوْرَثُ مِنْ ورث، أي: يورث منه» يعني أنه في الأصل يتعدَى ب «مِنْ»، وقد تُحْذَفُ، تقول: «وَرِثْتُ زيداً مالَه» أي: مِنْ زيد، ولَمَّا جَعَلَه مَنْ «أورث» جَعَل الرجل وارثاً لا موروثاً فإنه قال: «فإنْ قلت: فإنْ جَعَلْت» يورَث «على البناء للمفعول من» أورث «فما وجهُه؟ قلت: الرجلُ حينئذٍ الوارثُ لا الموروثُ» وقال الشيخ: «إنه من» أورث «الرباعي المبني للمفعول» ولم يقِّيْده بالمعنى الذي قيَّده الزمخشري.
الاحتمال الثاني: أن يكونَ الخبرُ الجملةَ من «يُورَث»، وفي نصب «كلالة» حينئذ أربعةُ أوجه، أحدها: أنها حال من الضمير في «يُورَث» إنْ أريد بها الميتُ أو الوارثُ، إلا أنه يَحْتاج في جَعْلها بمعنى الوارث إلى تقدير مضاف أي: يُورَث ذا كلالة؛ لأن الكلالة حينئذ ليست نفسَ الضمير المستكنِّ في «يُورث». قال أبو البقاء على جَعْلِها بمعنى الميت: «ولو قُرِىء» كلالةٌ «بالرفع على أنها صفة أو بدل من الضمير في» يُورث «لجاز، غير أني لم أعرف
الثاني: أنها مفعولٌ من أجله إنْ قيل: إنها بمعنى القرابة أي: يورَثُ لأجل الكلالة. الثالث: أنه مفعول ثان ل «يورث» إنْ قيل إنها بمعنى المال الموروث. الرابعُ: أنها نعتٌ لمصدر محذوف إن قيل: إنها بمعنى الوراثة أي يورث وراثَة كلالة، وقدَّر مكي في هذا الوجهِ حَذْفَ مضافٍ قال: «تقديرُه ذات كلالة». وأجازَ بعضُهم على كونها بمعنى الوراثة أن تكونَ حالاً.
والوجه الثاني من وجهي كان: أن تكونَ تامةً فيُكْتَفَى بالمرفوع أي: وإنْ وجد رجل، و «يُورَثُ» في محلِّ رفع صفةً ل «رجل» و «كلالة» منصوبةٌ على ما تقدَّم من الحال أو المفعولِ من أجله أو المفعول به أو النعت لمصدرٍ محذوفٍ على حَسَب ما قُرِّر من معانيها. وَيَخُصُّ هذا وجهٌ آخرُ ذكره مكي: وهو أن تكون «كلالة» منصوبة على التفسير، قال مكي: «كان أي: وقع، و» يورث «نعتٌ للرجل، و» رجل «رفع ب» كان «، و» كلالة نَصْبٌ على التفسير، وقيل: هو نصبٌ على الحال، على أن الكلالة هو الميت على هذين الوجهين «وفي جَعْلِها تفسيراً أي تمييزاً نظرٌ لا يَخْفى.
وقرأ الجمهور:» يُورَثُ «مبنياً للمفعول وقد تقدَّم توجيهُه.
وقرأ الحسن: «يُورِثُ» مبنياً للفاعل، ونُقِل عنه أيضاً وعن أبي رجاء كذلك، إلاَّ أنَّهما شَدَّدا الراء، وتوجيهُ القراءتين واضحٌ مِمَّا تقدَّم: وذلك أنه إنْ أُريد بالكلالةِ الميتُ فيكون المفعولان محذوفين، و «كلالةً» نصب على الحال أي: وإنْ كان رجلٌ يورِث وارثَه أو أهلَه مالَه في حال كونِه كلالةً، وإنْ أريد بها
وقوله: ﴿أَو امرأة﴾ عطفٌ على «رجلٌ»، وحُذف منها ما أُثبت في المعطوف عليه للدلالة على ذلك، التقديرُ: أو امرأةٌ تورَثُ كلالةً، وإنْ كان لا يلزمُ من تقييدِ المعطوفِ عليه تقييدُ المعطوفِ ولا العكس، إلا أنه هو الظاهر.
وقوله: ﴿وَلَهُ أَخٌ﴾ جملةٌ من مبتدأٍ وخبر في محلِّ نصب على الحال، والواوُ الداخلةُ عليها واوُ الحال، وصاحبُ الحالِ: إمَّا «رجل» إنْ كان «يورَثُ» صفةً له، وإمَّا الضميرُ المستتر في «يورَث». ووحَّدَ الضمير في قوله: «وله» ؛ لأنَّ العطفَ ب «أو» وما وَرَدَ على خلاف ذلك أُوِّلَ عند الجمهور، كقوله: ﴿إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا﴾ [النساء: ١٣٥] وإنما أَتَى به مذكراً لأنه يجوزُ إذا تقدَّم متعاطفان ب «أو» مذكرٌ ومؤنثٌ كنت بالخيار: بين أن تراعيَ المتقدِّمَ أو المتأخرَ فتقول: «زيدٌ أو هند قام»، وإن شئت: «قامت» /، وأجاب أبو البقاء عن تذكيره بثلاثة أوجه، أحدها: أنه يعودُ على الرجل وهو مذكر مبدوءٌ به. الثاني: أنه يعود على أحدهما، ولفظ «أحد» مفرد مذكر. والثالث: أنه يعود على الميت أو الموروثِ لتقدُّم ما يدل عليه «.
والضميرُ في قوله: ﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه يعودُ على الأخِ والأخت. والثاني: أنه يعودُ على الرجل وعلى أخيه أو أختِه، إذا أريد بالرجل في قوله: ﴿وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ﴾ أنه وارثٌ لا موروث، كما تقدَّمت
وقرأ أُبي: «أخ أو أخت من الأم».
وقرأ سعد بن أبي وقاص: «من أم» بغيرِ أداة تعريف. وأجمع الناس على أن المراد بالأخ والأخت من الأم كقراءتهما، ولأنَّ ما في آخر السورة يدل على ذلك وهو كون: للأختِ النصفُ، وللأختين الثلثان، وللأخوة الذكور والإِناث للذَّكَر مثلُ حظ الانثيين.
قوله: ﴿فَإِن كانوا﴾ الواوُ ضميرُ الإِخوة من الأمِّ المدلول عليهم بقوله: ﴿أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾، والمرادُ الذكورُ والإِناث، وأتى بضمير الذكور في قوله: «كانوا» وقوله «فهم» تغليباً للمذكر على المؤنث، و «ذلك» إشارةٌ إلى الواحد، أي: أكثر من الواحد، يعني: فإن كان مَنْ يرث زائداً على الواحد؛ لأنه لا يَصِحُّ أن يقال: «هذا أكثرُ من واحد» إلا بهذا المعنى لتنافي معنى كثير وواحد، وإلاَّ فالواحدُ لا كثرة فيه.
وقوله: ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى﴾ قد تقدم إعراب ذلك وهذا مثلُه.
قوله: ﴿غَيْرَ مُضَآرٍّ﴾ «غيرَ» نصبٌ على الحال من الفاعل في «يوصَى»
إلا أن الشيخ رَدَّ ذلك بأنه يؤدِّي إلى الفصل بين هذه الحال وعامِلها بأجنبي منهما، وذلك أنَّ العاملَ فيها «يوصَى» كما تقرر، وقوله: ﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ أجنبي لأنه معطوف على «وصية» الموصوفة بالعامل في الحال، قال: «ولو كان على ما قالوه مِن الإِعراب لكانَ التركيب:» مِنْ بعد وصيةٍ يُوصَى بها غيرَ مُضارٍّ أو دينٍ «. وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين: أعني بناءَ الفعلِ للفاعل أو المفعول، وتزيد عليه قراءةُ البناء للمفعول وجهاً آخرَ، وهو أَن صاحب الحال غيرُ مذكور، لأنه فاعلٌ في الأصل حُذِفَ وأقيم المفعول مُقامَه، ألا ترى أنك لو قلت:» تُرْسَلُ الرياح مبشِّراً بها «بكسر الشين، يعني:» يرسلُ اللهُ الرياحَ مبشِّراً بها «فحذفت الفاعل وأقمت المفعول مُقامَه، وجئت بالحال من الفاعل لم يَجُزْ فكذلك هذا». ثم خَرَّجه على أحد وجهين: إمَّا بفعل يدل عليه ما قبله من المعنى؛ ويكون عامًّاً لمعنى ما يتسلَّط على المال بالوصية أو الدين وتقديره: يلزم ذلك مالَه، أو يُوجبه فيه غيرَ مُضارٍّ بورثته بذلك الإِلزامِ أو الإِيجاب. وإمَّا بفعلٍ مبني للفاعل لدلالةِ المبني للمفعولِ عليه أي: يوصي غير مُضارٍّ، فيصير نظير قوله: ﴿يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ﴾ [النور: ٣٦-٣٧] على قراءةِ منْ فتح الباء.
وهذا أحسنُ تخريجاً من تخريج أبي البقاء فإنه ذكر في تخريج قراءة الحسن وجهين، أحدُهما: أنه على حذف «أهل» أو ذي أي: غيرَ مضارِّ أهلِ وصيةٍ أو ذي وصية. والثاني: على حذف وقت أي: وقتَ وصية قال: «وهو من إضافة الصفة إلى الزمان، ويقرب من ذلك قولُهم:» هو فارسُ حربٍ «أي: فارس في الحرب، وتقول:» هو فارسُ زمانه «أي: في زمانه، كذلك تقديرُ القراءة: غيرَ مضار في وقت الوصية.
ومفعول» مُضارّ «محذوفٌ إذا لم تُجْعَلُ» وصيةً «مفعولةً أي: غيرَ مضارٍّ ورثتِه بوصية.
وفي نصبِ «خالدين» وجهان، أظهرهما: أنه حال من الضمير المنصوبِ في «يُدْخِلُه»، ولا يَضُرُّ تغايُرُ الحالِ وصاحِبها من حيث كانت جمعاً وصاحبُها مفرداً لِما تقدَّم من اعتبار اللفظ والمعنى، وهي مُقَدَّرة لأنَّ الخلود بعد الدخولِ.
والثاني: أن يكونَ نعتاً ل «جنات» من باب ما جَرَى على موصوفِه لفظاً وهو لغيرِه معنىً نحو: مررت برجلٍ قائمةٍ أمه، وبامرأة حسنٍ غلامُها، ف «قائمة» و «حسنٍ» وإن كانا جارِيَيْنِ على ما قبلهما لفظاً فهما لِما بعدَهما معنىً، أجاز ذلك في الآية الكريمة الزجاج وتبعه التبريزي، إلاَّ أنّ الصفة إذا جَرَتْ على غير مَنْ هي له وجب/ إبرازُ الضمير مطلقاً على مذهب البصريين: أَلْبس أو لم يُلْبِس. وأما الكوفيون فيفصِّلون فيقولون: إذا جرت الصفة على غير مَنْ هي له: فإن أَلْبس وجب إبراز الضمير كما هو مذهب البصريين نحو: «زيدٌ عمروٌ ضاربُه هو» إذا كان الضرب واقعاً من زيد على
واستدلَّ مَنْ نَصَر مذهبَ الكوفيين بالسماع، فمنه قراءةُ مَنْ قرأ: ﴿إلى طَعَامٍ غَيْرِ نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾ [الأحزاب: ٥٣] بجر «غير» مع عدمِ بروزِ الضمير، ولو أَبْرزه لقال: «غيرِ ناظرين إناه أنتم» ومنه قولُ الآخَر:
١٥٥٦ - قَوْمي ذُرا المجدِ بانُوها وقد عَلِمَتْ | بكُنْهِ ذلك عدنانٌ وقَحْطانُ |
وقد منع الزمخشري كونَ» خالدين «و» خالداً «صفةً ل» جنات «و» ناراً «بعدم بروز الضمير فقال:» فإنْ قلت: هل يجوز أن يكونا صفتين ل «جنات» و «ناراً» ؟ قتل: لا، لأنهما جريا على غير مَنْ هما له، فلا بد من الضمير في قولك: «خالدين هم فيها، وخالداً هو فيها».
ومَنَع أبو البقاء ذلك أيضاً بعدم إبراز الضمير لكن مع «خالداً»،
وقرأ نافع وابن عامر هنا «نُدْخِلْه» في الموضعين، وفي سورة التغابن والطلاق والفتح بنونِ العظمة، والباقون بالياء، والضمير لله تعالى، وإنما جمع «خالدين» في الطائعين، وأَفْرَد «خالداً» في العاصين، قالوا: لأنّ أهلَ الطاعة أهلُ الشفاعة، فلمَّا كانوا يَدْخُلون هم والمشفُوعُ لهم ناسَبَ ذلك الجمعَ، والعاصي لا يَدْخُلُ به غيرُه النارَ فناسَبَ ذلك الإِفرادُ.
والجملةُ من قولِه ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ في محلِّ نصبٍ صفةً ل «جنات» وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ المنصوبَ بعد «دخل» من الظروف هل نصبُه نصبُ الظروف أو نصبُ المفعولِ به؟ الأول قول الجمهور، والثاني قول الأخفش، فكذلك «جنات» و «ناراً».
وفي نصبِ " خالدين " وجهان، أظهرهما : أنه حال من الضمير المنصوبِ في " يُدْخِلُه "، ولا يَضُرُّ تغايُرُ الحالِ وصاحِبها من حيث كانت جمعاً وصاحبُها مفرداً لِما تقدَّم من اعتبار اللفظ والمعنى، وهي مُقَدَّرة لأنَّ الخلود بعد الدخولِ.
والثاني : أن يكونَ نعتاً ل " جنات " من باب ما جَرَى على موصوفِه لفظاً وهو لغيرِه معنىً نحو : مررت برجلٍ قائمةٍ أمه، وبامرأة حسنٍ غلامُها، ف " قائمة " و " حسنٍ " وإن كانا جارِيَيْنِ على ما قبلهما لفظاً فهما لِما بعدَهما معنىً، أجاز ذلك في الآية الكريمة الزجاج وتبعه التبريزي، إلاَّ أنّ الصفة إذا جَرَتْ على غير مَنْ هي له وجب/ إبرازُ الضمير مطلقاً على مذهب البصريين : أَلْبس أو لم يُلْبِس. وأما الكوفيون فيفصِّلون فيقولون : إذا جرت الصفة على غير مَنْ هي له : فإن أَلْبس وجب إبراز الضمير كما هو مذهب البصريين نحو :" زيدٌ عمروٌ ضاربُه هو " إذا كان الضرب واقعاً من زيد على عمرو وإن لم يُلْبِس لم يَجِبِ الإِبرازُ نحو :" زيدٌ هندٌ ضاربُها "، إذا تقرَّر هذا فمذهب الزجاج في الآية إنما يتمشَّى على رأي الكوفيين، وهو مذهب حسن.
واستدلَّ مَنْ نَصَر مذهبَ الكوفيين بالسماع، فمنه قراءةُ مَنْ قرأ :﴿ إِلَى طَعَامٍ غَيْرِ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ﴾ [ الأحزاب : ٥٣ ] بجر " غير " مع عدمِ بروزِ الضمير، ولو أَبْرزه لقال :" غيرِ ناظرين إناه أنتم " ومنه قولُ الآخَر :
قَوْمي ذُرا المجدِ بانُوها وقد عَلِمَتْ | بكُنْهِ ذلك عدنانٌ وقَحْطانُ |
وقد منع الزمخشري كونَ " خالدين " و " خالداً " صفةً ل " جنات " و " ناراً " بعدم بروز الضمير فقال :" فإنْ قلت : هل يجوز أن يكونا صفتين ل " جنات " و " ناراً " ؟ قتل : لا، لأنهما جريا على غير مَنْ هما له، فلا بد من الضمير في قولك :" خالدين هم فيها، وخالداً هو فيها ".
ومَنَع أبو البقاء ذلك أيضاً بعدم إبراز الضمير لكن مع " خالداً "، ولم يتعرض لذلك مع " خالدين "، ولا فرق بينهما، ثم حكى جواز ذلك عن الكوفيين، وهذا المنعُ على مذهبِ البصريين كما تقدم.
وقرأ نافع وابن عامر هنا " نُدْخِلْه " في الموضعين، وفي سورة التغابن والطلاق والفتح بنونِ العظمة، والباقون بالياء، والضمير لله تعالى، وإنما جمع " خالدين " في الطائعين، وأَفْرَد " خالداً " في العاصين، قالوا : لأنّ أهلَ الطاعة أهلُ الشفاعة، فلمَّا كانوا يَدْخُلون هم والمشفُوعُ لهم ناسَبَ ذلك الجمعَ، والعاصي لا يَدْخُلُ به غيرُه النارَ فناسَبَ ذلك الإِفرادُ.
والجملةُ من قولِه ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ في محلِّ نصبٍ صفةً ل " جنات " وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ المنصوبَ بعد " دخل " من الظروف هل نصبُه نصبُ الظروف أو نصبُ المفعولِ به ؟ الأول قول الجمهور، والثاني قول الأخفش، فكذلك " جنات " و " ناراً ".
١٥٥٧ - فأمَّا الأُلى يَسْكُنَّ غَوْرَ تهامةٍ | فكلُّ فتاةٍ تترُكُ الحِجْلَ أَفْصَما |
١٥٥٨ - أولئك إخواني الذين عَرَفْتُهُمْ | وأخْدانُك اللاءاتُ زُيِّنَّ بالكَتَمْ |
وفي محلِّ «اللاتي» قولان، أحدُهما: أنه رفعٌ بالابتداء، وفي الخبر حينئذٍ وجهان، أحدُها: الجملةُ مِنْ قوله: «فاسْتَشْهدوا»، وجازَ دخولُ الفاءِ زائدةً في الخبرِ وإن لم يَجُزْ زيادتُها في نحو: «زيدٌ فاضرِبْ» على رأي الجمهور، لأنَّ المبتدأ أَشْبَهَ الشرطَ في كونِه موصولاً عاماً صلتُه فعلٌ مستقبل، والخبرُ مستحقٌ بالصلةِ.
الوجه الثاني: أنَّ الخبرَ محذوفٌ، والتقدير: «فيما يتلى عليكم حكُم اللاتي»، فحُذفَ الخبرُ والمضافُ إلى المبتدأ للدلالة عليهما، وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه، وهذا نظيرُ ما فَعَله سيبويه في نحو: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا﴾ [النور: ٢] و ﴿السارق والسارقة فاقطعوا﴾ [المائدة: ٣٨] أي: فيما يتلى عليكم حكمُ الزاينة، ويكونُ
والقول الثاني: أنَّ محلَّه نصبٌ، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ لدلالةِ السياقِ عليه لا على جهةِ الاشتغالِ لِما سنذكره، والتقدير: اقصِدوا اللاتي يأتين، أو تعمَّدوا. ولا يجوز أن ينتصَبَ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره قولُه «فاستشهدوا» فتكونُ المسألة من باب الاشتغال، لأنَّ هذا الموصولَ أشبهَ اسمَ الشرطِ كما تقدَّم تقريره، واسمُ الشرطِ لا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ على الاشتغالِ لأنه لا يعمل فيه ما قبله، فلو نصبناه بفعلٍ مقدرٍ لزم أن يعملَ فيه ما قبلَه. هذا ما قاله بعضهم، ويَقْرُبُ منه ما قاله أبو البقاء فإنه قال: «وإذا كان كذلك أي كونَه في حكم الشرط لم يَحْسُنِ النصبُ؛ لأنَّ تقديرَ الفعل قبل أداةِ الشرط لا يجوز، وتقديرُه بعد الصلةِ يحتاج إلى إضمارِ فعلٍ غيرِ قوله» فاستشهدوا «لأنَّ» استشهدوا «لا يَصِحُّ أن يعمل النصب في» اللاتي «وفي عبارِته مناقشةٌ يطول بذكرها الكتاب.
والثاني: أنه منصوبٌ على الاشتغال/، ومَنْعُهم ذلك بأنه يلزُم أَنْ يعملَ فيه ما قَبلَه جوابُه أنَّا نقدِّرُ الفعلَ بعده لا قبله، وهذا خلافٌ مشهورٌ في أسماءِ الشرط والاستفهام: هل يَجْري فيها الاشتغال أم لا؟ فمنعَه قومٌ لِما تقدَّم، وأجازه آخرون مقدِّرين الفعل بعد الشرطِ والاستفهام، وكونُه منصوباً على الاشتغال هو ظاهر كلام مكي فإنه ذكر ذلك في قوله: {واللذان يَأْتِيَانِهَا
وقوله: ﴿مِن نِّسَآئِكُمْ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل من» يِأْتِين «، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: يأتين كائناتٍ من نسائكم. وأما قوله» منكم «ففيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلقَ بقوله:» فاستشهدوا «. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفة ل» أربعة «، فيكون في محل نصبٍ تقديرُه: فاستشهدوا عليهنَّ أربعة كائنة منكم.
قوله» حتى «،» حتى «بمعنى إلى، فالفعل بعدها منصوب بإضمار» أن «وهي متعلقة بقوله:» فأمسكوهن «غاية له. وقوله:» أو يجعلَ «فيه وجهان، أحدهما: أن تكون» أو «عاطفة فيكون الجَعْلُ غاية لإِمساكهن أيضاً، فينتصبُ» يجعلَ «بالعطف على» يتوفَّاهن «. والثاني: أن تكون» أو «بمعنى» إلا «كالتي في قولهم» لألزَمَنَّك أو تقضيَني حقي «على أحدِ المعنيين، والفعلُ بعدها
١٥٥٩ - فَسِرْ في بلادِ اللهِ والتمسِ الغِنَى | تَعِشْ ذا يَسارٍ أو تموت فَتُعْذَرا |
قوله:» لهن «فيه وجهان، أظهرُهما: أنه متعلقٌ ب» يَجْعَلَ «. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه حال من» سبيل «، إذ هو في الأصلِ صفةُ نكرةِ قُدِّم عليها فَنُصِب حالاً، هذا إنْ جُعِل الجَعْلُ بمعنى الشرع أو الخلق، وإنْ جُعِل بمعنى التصيير فيكون» لَهُنَّ «مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأول وهو» سبيل «، وتقديمُه هنا واجبٌ لأنهما لو انْحَلاَّ لمبتدأ وخبرٍ وَجَبَ تقديمُ هذا الخبرِ لكونهِ جارَّاً، والمبتدأُ نكرةٌ لا مسِّوغَ لها غيرُ ذلك.
وقرأ عبد الله: «يأتينَ بالفاحشةِ» أي يَجِئْنَ بها، ومعنى قراءةِ الجمهور «يَغْشَيْنَها ويخالطنها».
وقرأ الجمهور: «واللذانِ» بتخفيف النون، وقرأ ابن كثير: «واللذان» هنا، و «اللذين» في حم السجدة بتشديد النون. ووجهُها جَعَل إحدى النونين عوضاً من الياء المحذوفة التي كان ينبغي أن تبقى، وذلك أن «الذي» مثل «القاضي»، و «القاضي» تثبت ياؤه في التثنية، فكان حقُّ ياء الذي والتي أن تثبت في التثنية ولكنهم حَذَفُوها: إمَّا لأنَّ هذه تثنيةٌ على غيرِ القياسِ، لأنَّ المبهماتِ لا تُثَنَّى حقيقةً، إذ لا يثنى إلا ما يُنَكَّر، والمبهمات لا تنكر، فجعلوا الحذفَ مَنْبَهَةً على هذا، وإمَّا لطولِ الكلامِ بالصلةِ. وزعم ابن عصفور أنَّ تشديدَ النونِ لا يجوزُ إلا مع الألفِ كهذه الآية، ولا يجوز مع الياء في الجر والنصب، وقراءةُ ابن كثير في حم السجدة: ﴿أَرِنَا اللذيْنِّ أَضَلاَّنَا﴾ [الآية: ٢٩] حجةٌ عليه.
وقرأ عبد الله: «والذين يَفْعَلُونه منكم»، وهذه قراءةُ مشكلةٌ لأنها بصيغة الجمع، / وبعدَها ضميرُ تثنية، وقد يُتَكَلَّفُ لها تخريجٌ: هو أنَّ «الذين» لمَّا كان شاملاً لصنفي الذكورِ والإِناث عاد الضمير عليه مثنى اعتباراً بما اندرج تحته، وهذا كما عاد ضمير الجمع على المثنى الشامل لأفرادٍ كثيرة مندرجةٍ تحتَه كقوله تعالى: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا﴾ [الحجرات: ٩]، ﴿هذان خَصْمَانِ اختصموا﴾ [الحج: ١٩] كذا قال الشيخ وفيه نظر، فإنَّ الفرقَ ثابتٌ؛ وذلك لأنَّ «الطائفة» اسمٌ لجماعة وكذلك «خصم» ؛ لأنه في الأصلِ مصدرٌ فأُطْلِقَ على الجمعِ.
وأصلُ فآذُوهما: فآذِيُوهما، فاستثقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت الياء التي هي لام، وضُمَّ ما قبل الواوِ لتصِحَّ.
الثاني: أن يكونَ الخبرُ «للذين» و «على الله» متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من شيء محذوف، والتقدير: «إما التوبةُ إذا كانت أو إذ كانت على الله للذين يعملون»، ف «إذا» و «إذ» معمولان ل «الذين» ؛ لأنَّ الظرفَ يتقدم على عامله المعنوي. و «كان» هذه التامَّةُ وفاعلُها هو صاحب الحال. ولا يجوز أن تكون «على الله» حالاً من الضمير المستتر في «للذين»، والعامل فيها «للذين» لأنه عامل معنوي، والحال لا تتقدم على عامِلها المعنوي. هذا ما قاله أبو البقاء، ونَظَّر هذه المسألةَ بقولِهم: «هذا بُسْراً أطيبُ منه رُطَباً» يعني أنَّ التقديرَ هنا: إذ كان بُسْراً أطيبُ منه إذْ كان رُطَباً، ففي هذه المسألة أقوال كثيرة مضطربة لا يحتملها هذا الكتاب. وقدَّر الشيخ مضافين حُذِفا من المبتدأ والخبر فقال: «التقديرُ: إنما قبولُ التوبةِ مترتبٌ على فضلِ الله، ف» على «باقيةٌ على بابها» يعني من الاستعلاء.
قوله: ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من فاعل «يعملون»، ومعناها المصاحبة أي: يعملون السوءَ ملتبسين بجهالةٍ أي: مصاحبين لها، ويجوز أن يكون حالاً من المفعولِ أي: ملتبساً بجهالة، وفيه بُعْدٌ وَتَجَوُّزٌ.
قوله: ﴿مِن قَرِيبٍ﴾ فيه وجهان: أحدهما: أن تكون» من «لابتداءِ الغاية أي: تبتدىء التوبة من زمانٍ قريب من زمان المعصية لئلا يقعَ في الإِصرار، وهذا إنما يتأتَّى على قول الكوفيين، وأما البصريون فلا يجيزون أن تكون» مِنْ «لابتداء الغاية في الزمان، ويتأوَّلون ما جاء منه، ويكون مفهومُ الآية أنه لو تاب من زمانٍ بعيد لم يدخُلْ في مَنْ خُصَّ بكرامةِ قَبولِ التوبة على الله المذكورةِ في هذه الآية، بل يكون داخلاً فيمن قال فيهم» فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم «.
والثاني: أنها للتبعيض أي: بعضَ زمانٍ قريب، يعني: أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فيه فهو تائب من قريب. وعلى الوجهين ف «مِنْ» متعلقة ب «يتوبون»، و «قريب» صفة لزمان محذوف كما تقدَّم تقريره، إلا أنَّ حَذْفَ هذا الموصوف وإقامةَ هذه الصفةِ مُقامه ليس بقياسٍ، إذ لا ينقاس الحَذْفُ إلا في صور، منها أن تكونَ الصفةُ جَرَتْ مَجْرى الأسماء الجوامد كالأبطح والأبرق، أو كانت خاصةً بجنس الموصوف نحو مررت بكاتبٍ،
وفي قوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ﴾ إعلامٌ بسَعَةِ عفوه، حيث أتى بحرف التراخي. والفاء في قوله» فأولئك «مؤذنةٌ بتسبُّبِ قَبول الله توبتَهم إذا تابوا من قريب. وضَمَّن» يتوب «معنى يَعْطِفُ فلذلك عَدَّى ب» على «. ، وأمَّا قولُه: ﴿إِنَّمَا التوبة عَلَى الله﴾ فراعَى المضافَ المحذوف إذ التقدير: إنما قبولُ التوبةِ على الله، كذا قال الشيخ وفيه نظر.
قوله: ﴿وَلاَ الذين يَمُوتُونَ﴾ «الذين» مجرورُ المحل عطفاً على قوله «للذين يعملون» أي ليست التوبةُ لهؤلاء ولا لهؤلاء، فَسَوَّى بين مَنْ مات كافراً وبين مَنْ لم يتب إلا عند معاينةِ الموتِ في عدم قبول توبتِه، والمرادُ بالعاملين السيئاتِ المنافقون.
وأجاز أبو البقاء في «الذين» أن يكونَ مرفوعَ المحل على الابتداء، وخبرُه «أولئك» وما بعدَه، معتقداً أن اللام لام الابتداء، وليست ب «لا» النافية. وهذا الذي قاله من كونِ اللامِ لامَ الابتداء لا يَصِحُّ إلا أن يكون قد رُسِمَتْ في المصحف لامٌ داخلة على «الذين» فيصير «وللذين»، وليس المرسوم كذلك، إنما هو لام وألف، وألف لام التعريف الداخلة على الموصول، وصورته: ولا الذين.
قوله: «أولئك» مبتدأ، و «أَعْتَدْنا» خبرُه، و «أولئك» يجوز أن يكونَ إشارةً إلى «الذين يموتون وهم كفار/، لأنَّ اسم الإِشارة يَجْري مَجْرى الضميرِ فيعودُ لأقربِ مذكور، ويجوزُ أَنْ يُشارَ به إلى الصِّفتين: الذين يعملون السيئات والذين يَمُوتون وهم كفار. وأعتدنا أي: أَحْضَرْنا.
و «النساءَ» مفعول به: إمَّا على حَذْف مضاف أي: أن ترثوا أموال النساء إنْ كان الخطاب للأزواج؛ لأنه رُوي أن الرجل منهم إذا لم يكن له غرض في المرأة أمسكها حتى تموتَ فيرثَها، أو تَفْتَدِيَ منه بمالِها إنْ لم تمت. وإما من غير حذفٍ، على معنى أن يَكُنَّ بمعنى الشيء الموروث إنْ كان الخطابُ للأولياء أو الأقرباء الميت، فقد نُقل أنه إذا مات أحدُهم وتَرَكَ امرأة وابناً من غيرها كان أحقَّ بها مِنْ نفسها. وقيل: كان الوليُّ إنْ سبق وأَلْقى عليها ثوبَه كان أحق بها، وإنْ سَبَقَتْ إلى أهلها كانت أحقَّ بنفسِها، فنُهوا أن يجعلوهُنَّ كالأشياء المواريث، وعلى ما ذكرْتُ فلا يُحتاج إلى حَذْفِ أحدِ المفعولين: إمَّا الأول أو الثاني على جَعْلِ «أن ترثوا» متعدياً لاثنين كما فعل أبو البقاء قال: «والنساءَ فيه وجهان: أحدُهما: هُنَّ المفعول الأول، والنساء على هذا هن الموروثاتُ، وكانت الجاهليةُ تَرِثُ نساء آبائهم وتقول: نحن أحقُّ بنكاحِهِنَّ. والثاني: أنه المفعول الثاني والتقدير: أن ترثوا من النساء المالَ» انتهى. قوله: «هُنَّ المفعول الأول» يعني والثاني محذوف تقديرُه: أَنْ تَرِثوا من آباءكم النساء.
و «كُرْهاً» مصدر في موضع نصب على الحال من النساء أي: أن ترثوهن كارهات أو مكرهات. وقرأ الأخوان «كرهاً» هنا وفي براءة
قوله: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ فيه وجهان، أظهرُهما: أنه مجزوم ب «لا» الناهية، عَطَفَ جملةَ نهي على جملةٍ خبرية، فإنْ لم تُشْترط المناسبةُ بين الجمل كما مذهبُ سيبويه فواضحٌ، وإن اشترطنا ذلك كما هو رأيُ بعضِهم فلأنَّ الجملةَ قبلَها في معنى النهي، إذ التقديرُ: لا ترثِوا النساءَ كرهاً فإنه غيرُ حلالٍ لكم. وجعله أبو البقاء على هذا الوجهِ مستأنفاً، يعني أنه ليس بمعطوفٍ على الفعل قبله.
والثاني: أجازه ابن عطية وأبو البقاء أن يكون منصوباً عطفاً على الفعل قبله. قال ابن عطية: «ويُحتمل أن يكونَ» تَعْضُلوهن «نصباً عطفاً على» تَرِثوا «، فتكون الواوُ مُشَرِّكةً عاطفة فِعْلاً على فعل».
وقرأ ابن مسعود: «ولا أَنْ تَعْضُلوهن» فهذه القراءة تُقَوِّي احتمال النصب وأنَّ العَضْل مِمَّا لا يَحِلُّ بالنص. ورَدَّ الشيخ هذا الوجه بأنك إذا
وفيه نظرٌ: من حيث إنَّ المثال الذي ذكره في قوله: «أريد أن أتوب ولا أدخل النار» فِإنَّ تقديرَ الناصب فيه قبل «لا» واجب من حيث إنه لو قُدِّر بعدها لفسد التركيب، وأمَّا في الآية فتقدير «أن» بعد «لا» صحيحٌ، فإنَّ التقدير يصير: لا يَحِلُّ لكم إرث النساء كَرْهاً ولا عَضْلُهن. [ويؤيد ما قلته وما ذهب إليه ابن عطية قولُ الزمخشري فإنه قال: فإن قلت:] تعضُلوهن ما وجهُ
وفي الكلام حذفٌ تقديرُه: «ولا تَعْضُلوهن من النكاح» إنْ كان الخطابُ للأولياء، أو: «ولا تعضُلوهن من الطلاق» إنْ كان الخطاب للأزواجِ. وتقدَّم معنى العَضْل في البقرة.
قوله: ﴿لِتَذْهَبُواْ﴾ اللام متعلقةٌ ب «تَعْضُلوهن»، والباء في «ببعض» فيها وجهان، أحدُها: أنها باءُ التعديةِ المرادفةُ لهمزتها اي: لِتَذْهَبُوا [بعضَ] ما آتيتموهن. والثاني: أنها للمصاحبةِ، فيكون الجارُّ في محلّ نصبٍ على الحال، ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: لتذهبوا مصحوبين ببعض، و «ما» موصولةٌ بمعنى الذي أو نكرة موصوفة، وعلى التقديرين فالعائدُ محذوفٌ، وفي تقديره إشكالٌ تقدَّمَ الكلامُ عليه في البقرة عند قوله: ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الآية: ٣] فليلتفت إليه.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِينَ﴾ في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: أنه منقطعٌ، فيكونُ «أن يأتينَ» في محلِّ نصب والثاني: أنه متصلٌ، وفيه حينئذ ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه مستثنى من ظرف زمان عام تقديره: «ولا تعضُلوهنَّ في وقتٍ من الأوقات إلا وقتَ إتيانهنَّ بفاحشة. الثاني: أنه مستثنى من الأحوال العامة تقديره: لا تَعْضُلوهن في حال من الأحوال إلا في حالِ إتيانهن بفاحشة. الثالث: أنه مستثنى من العلة العامة تقديره: لا تعضُلوهن لعلةٍ من العلل إلا لإتيانهن بفاحشة. / وقال أبو البقاء بعد أن حكى فيه وجهَ
وقرأ ابنُ كثير وأبو بكر عن عاصم:» مُبَيَّنة «بفتح الياء اسمَ مفعول في جميع القرآن، أي: بَيَّنَها مَنْ يَدَّعيها وأوضحها. والباقون بكسرها اسمَ فاعل وفيه وجهان، أحدهما: أنه من» بيَّن «المتعدي، فعلى هذا يكون المفعول محذوفاً تقديره مبيِّنةً حالَ مرتكبها. والثاني: أنه من بَيَّن اللازم، فإنَّ» بَيَّن «يكون متعدياً ولازماً يقال: بانَ الشيء وأبان واستبان وبَيَّن وتبيَّن بمعنى واحد أي: ظَهَر. وقرأ بعضهم: مُبيِنَة بكسرِ الباءِ وسكونِ الياء اسم فاعل من» أبان «، وفيها الوجهان المتقدمان في المشددة المكسورة، لأنَّ» أبان «أيضاً يكون متعدياً ولازماً، وأمَّا» مُبَيِّنات «فقرأهن الأخَوان وابن عامر وحفص عن عاصم بكسر الياء اسمَ فاعل، والباقون بفتحها اسمَ مفعول، وقد تقدَّم وجهُ ذلك.
قوله: ﴿بالمعروف﴾ في الباء وجهان، أظهرُهما: أنها باءُ الحالِ: إمَّا من الفاعل أي: مصاحبين لهنَّ بالمعروف، أو من المفعول أي: مصحوباتٍ بالمعروف.
والثاني: أنها باءُ التعدية. قال أبو البقاء: «بالمعروفِ» مفعول أو حالٍ «.
قوله: ﴿فعسى﴾ الفاء جواب الشرط، وإنما اقترنت بها» عسى «لكونِها
وقرىء» ويَجْعَلُ «برفع اللام. قال الزمخشري:» على أنه حال «، يعني ويكونُ خبراً لمبتدأ محذوف؛ لئلا يلزمَ دخول الواو على مضارع مثبت. و» عسى «هنا تامةٌ لأنها رَفَعَتْ» أنْ «وما بعدها، والتقدير: فقد قَرُبَتْ كراهتكم، فاستغنت عن تقدير خبر، والضمير في» فيه «يعود على» شيء «أي: في ذلك الشيء المكروهِ وقيل: يعودُ على الكره المدلول عليه بالفعل. وقيل: يعود على الصبر وإن لم يَجْرِ له ذكر.
وقال: ﴿إِحْدَاهُنَّ﴾ ليدلَّ على أن قوله: ﴿وَآتَيْتُمْ﴾ المراد منه: وآتى كلُّ واحد منكم إحداهن، أي: إحدى الأزواج، ولم يقل: «آتيتموهن قنطاراً» لئلا يُتَوَهَّم أن الجميع المخاطبين آتَوا الأزواج قنطاراً، والمراد: آتى كلُّ واحد زوجَه قنطاراً، فدل لفظ «إحداهن» على أن الضمير في «آتيتم» المرادُ منه كلُّ
وأُريد بقوله ﴿وَآتَيْتُمْ﴾ كلُّ واحد واحد، لدلالة «إحداهن» وهي مفردة على ذلك. ولا يُدَلُّ على هذا المعنى البليغ بأوجزَ ولا أفصحَ من هذا التركيب. وتقدَّم معنى القنطار واشتقاقه في آل عمران. والضمير في «منه» عائد على «قنطاراً».
وقرأ ابن محيصن: «آتيتم احداهن» بوصل ألف «إحدى» كما قرىء: ﴿إِنَّهَا لاحْدَى الكبر﴾ [المدثر: ٣٥] حَذَفَ الهمزة تخفيفاً كقوله:
١٥٦٠ - إنْ لم أقاتِلْ فالبسوني بُرْقُعاً | .......................... |
وقد طَوَّل أبو البقاء فيها ولم يأت بطائل، ولا بد من التعرُّض لما قاله والتنبيه عليه. قال: «وفي قوله ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً﴾ إشكالان، أحدهما: أنه جَمَع الضميرَ والمتقدمُ زوجان. والثاني: أن التي يريد أن يُسْتبدل بها هي التي تكون قد أعطاها مالاً فينهاه عن أخذِه، فأما التي يريد أن يستحدِثها فلم يكن أعطاها شيئاً حتى ينهى عن أَخْذِه، ويتأيَّد ذلك بقولِه: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾. والجوابُ عن الأول: أنَّ المرادَ بالزوجِ الجمعُ، لأنَّ الخطاب لجماعة الرجال، وكلٌّ منهم قد يريد
وفي قوله: «وََضَع الظاهرَ موضعَ المضمر» نظرٌ، لأنَّه لو كانَ الأصل كذلك لأوهم أنَّ الجميعَ آتوا الأزواج قنطاراً كما تقدَّم، وليس كذلك.
قوله: ﴿أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً﴾ الاستفهام للإِنكار أي: أتفعلونه مع قُبْحِه. وفي نصب «بهتاناً وإثماً» وجهان: أحدهما: أنهما منصوبان على المفعول من أجلِه أي: لِبهتانكم وإثْمِكم. قال الزمخشري: «وإنْ لم يكن غَرَضاً كقولِك: قعدَ عن القتالِ جُنْباً». والثاني: أنهما مصدران في موضع الحال، وفي صاحبها وجهان: أظهرهما: أنه الفاعل في «أتأخذونه» [أي] باهتين وآثمين. والثاني: أنه المفعول أي: أتأخذونه مُبْهِتاً مُحَيِّراً لشَنْعَتِه وقُبح الأُحدوثة عنه.
وبُهْتان: فُعْلان من البَهْت، وقد تقدَّم معناه في البقرة، وتقدم أيضاً الكلام في «كيف» ومحلِّها من الإِعراب في البقرة أيضاً في قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ [البقرة: ٢٨].
قوله: ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: أنه منقطعٌ، إذ الماضي لا يُجامع الاستقبال، / والمعنى: أنه لَمَّا حَرَّم عليهم نكاحَ ما نكح آباؤهم تطرَّق الوهمُ إلى ما مضى في الجاهلية ما حكمُه؟ فقيل: إلا ما قد سَلَفَ أي: لكن ما سلف فلا إثمَ فيه. وقال ابن زيد في معنى ذلك أيضاً:» إن
والثاني: أنه استثناءٌ متصل وفيه معنيان، أحدهما: أن يُحْمل النِّكاحُ على الوطء، والمعنى: أنه نهى أن يَطَأ الرجلُ امرأةً وَطِئها أبوه إلا ما قد سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بالمرأة فإنه يجوز للابن تزويجها. نُقِل هذا المعنى عن ابن زيد أيضاً، إلا أنه لا بد من التخصيص في شيئين: أحدُهما قولُه: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ﴾ أي ولا تَطَؤوا وَطْئاً مباحاً بالتزويج. والثاني: التخصيص في قوله: ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ بوطء الزنا، وإلا فالوطء فيما قد سلف قد يكون وَطْئاً غيرَ زنا، وقد يكون زنا، فيصير التقدير: ولا تَطَؤوا ما وطِىء آباؤكم وطئاً مباحاً بالتزويج إلا مَنْ كان وَطْؤُها فيما مضى وطءَ زنا. ويجوز على هذا المعنى الذي ذهب إليه ابن زيد أن يُراد بالنكاحِ الأولِ العقدُ، وبالثاني الوطءُ، اي: ولا تتزوجوا مَنْ وَطِئها آباؤكم إلا من كان وطؤها وطءَ زنا.
والمعنى الثاني: «ولا تَنْكِحوا مثلَ نكاحِ آبائكم في الجاهلية إلا ما تقدَّم منكم مِنْ تلك العقودِ الفاسدةِ فمباحٌ لكم الإِقامةُ عليها في الإِسلام إذا كان مما يقِّرُ الإِسلامُ عليه» وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ «ما» مصدريةً وقد تقدَّم.
وقال الزمخشري: «فإنْ قلت: كيف استثنى» ما قد سلف «من» ما نكح آباؤكم «؟ قلت: كما استثنى» غيرَ أنَّ سيوفهم «من قوله:» ولا عيبَ فيهم «يعني: إنْ أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فلا يَحِلُّ لكم غيرُه،
١٥٦١ - ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم | بِهِنَّ فُلولٌ من قِراعِ الكتائبِ |
وتَلَخَّص مِمَّا تقدَّم أنَّ المرادَ بالنكاحِ في هذه الآية العقدُ الصحيحُ أو الفاسدُ أو الوطء، أو: يُرادُ بالأول العقدُ وبالثاني الوَطْءُ، وقد تقدَّم القولُ في البقرةِ: هل هو حقيقةٌ فيهما أو في أحدِهما؟ واختلافُ الناسِ في ذلك.
وزعم بعضُهم أنَّ في الآيةِ تقديماً وتأخيراً والأصلُ: ولا تَنْكِحوا ما نكح آباؤكم من النساء، إنه كان فاحشة ومَقْتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف. وهذا فاسدٌ من حيث الإِعراب ومن حيث المعنى: أمَّا الأولُ فلأنَّ ما في حَيِّز» إنَّ «لا يتقدَّم عليها، وأيضاً فالمستثنى لا يتقدَّمُ على الجملة التي هو من متعلَّقاتها سواءً كان متصلاً أم منقطعاً، وإنْ كان في هذا خلافٌ ضعيفٌ. وأما الثاني فلأنه
والمَقْتُ: بُغْضٌ مقرونٌ باستحقارٍ فهو أخصُّ منه. والضمير في قوله» إنه «عائدٌ على النكاح المفهوم من قولِه: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ﴾، ويجوز أن يعودَ على الزنى إذا أريد بقوله ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ الزنى و» كان «هنا لا تدل على الماضي فقط لأن معناها هنا معنى لم يَزَلْ، وهذا المعنى هو الذي حَمَل المبردَ على قوله» إنها زائدة «.
ورُدَّ عليه بوجودِ الخبر والزائدةُ لا خبرَ لها، وكأنه يعني بزيادتها ما ذكرته من كونها لا تَدُلُّ على الماضي فقط، فَعَبَّر عن ذلك بالزيادة.
قوله: ﴿وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ في «ساء» قولان، أحدهما: أنها جارية مَجْرى «بئس» في الذم والعمل، ففيها ضميرٌ مبهمٌ يُفَسِّره ما بعده وهو «سبيلاً» والمخصوصُ بالذم محذوف تقديره: «وساء سبيلاً سبيلُ هذا النكاحِ» كقوله: «بِئْسَ الشراب» أي: ذلك الماء. والثاني: أنها لا تَجْري مَجْرى «بِئْس» في العمل بل هي كسائر الأفعالِ، فيكونُ فيها ضميرٌ يَعُود على ما عاد عليه الضميرُ في «إنه»، و «سبيلاً» على كلا التقديرين تمييزٌ.
وفي هذه الجملة وجهان أحدهما: أنه لا محل لها بل هي مستأنفة، ويكون الوقفُ على قوله: «ومقتاً» ثم يستأنف «وساء سبيلاً» أي: وساءَ هذا
١٥٦٢ - وأُمَّاتِ أَطْلاءٍ صغارِ........ هذا هو المشهور، وقد يقال: «أُمَّات» في العقلاء: و «أمهات» في غيرهم وقد جَمَع الشاعر بين الاستعمالين في العقلاء فقال:
١٥٦٣ - إذا الأمَّهاتُ قَبُحْنَ الوجوهَ | فَرَجْتَ الظلامَ بأُمَّاتِكا |
١٥٦٤ - أُمَّهتي خِنْدِفُ والياسُ أبي...
قوله: ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾ عطفٌ على «أُمَّهاتكم». وبنات جمع بنت، وبنت تأنيث ابن، وتقدَّم الكلامُ عليه وعلى اشتقاقِه ووزنِه في البقرة في قوله: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الآية: ٤٠]، إلا أن أبا البقاء حَكَى عن الفراء أنَّ «بنات» ليس جمعاً ل «بنت» يعني بكسرِ الباء بل جمع «بَنة» يعني بفتحِها، قال: وكُسِرت الباء تنبيهاً على المحذوف «. قلت: هذا إنما يجيء على اعتقادِ أنَّ لامها ياء، وقد تقدم لنا خلافٌ في ذلك وأن الصحيحَ أنها واو، وحَكَى عن غيره أن أصلها: بَنوَة، وعلى ذلك جاء جمعُها ومذكرها وهو بنون، قال:» وهو مذهبُ البصريين «قلت: لا خلاف بين القولينِ في التحقيق، لأنَّ مَنْ قال: بنات جمعُ» بَنة «بفتح الباء لا بد وأَنْ يعتقد أنَّ أصلها» بَنَوة «حُذِفَت لامُها وعُوِّض منها تاءُ التأنيث، والذي قال: بنات جمع» بَنَوة «لَفَظَ بالأصل فلا خلاف.
واعلم أنَّ تاء» بنت «و» أخت «تاءُ تعويضٍ عن اللام المحذوفة كما تقدَّم تقريره، وليست للتأنيثِ، ويَدُلُّ على ذلك وجهان، أحدهما: أنَّ تاء التأنيث يلزَمُ فتحُ ما قبلها لفظاً أو تقديراً نحو: ثمرة وفتاة، وهذه ساكنٌ ما قبلَها. والثاني: أنَّ تاءَ التأنيث تُبْدَلُ في الوقفِ هاء، وهذه لا تُبْدَلُ بل تُقَرُّ على حالِها. وقال أبو البقاء:» فإنْ قيل: لِمَ رُدَّ المحذوف في «أخوات» ولم يُرَدَّ في «بنات» ؟ قيل: حُمِل كل واحد من الجمعين على مذكَّرِهِ، فمذكر «
وهذا الذي قاله ليس بشيء لأنه أَخَذَ جمع التكسير وهو إخوة وإخوان مقابلاً ل» أَخَوات «جمعَ التصحيح، فقال: رُدَّ في أخوات كما رُدَّ في إخوة، وهذا أيضاً موجود في» بنات «؛ لأنَّ مذكره في التكسير رُدَّ إليه المحذوف.
قالوا: ابن وأبناء، ولَمَّا جمعوا أخاً جمع السلامة قالوا فيه «أَخُون» بالحذف، فردُّوا في تكسير ابن وأخ محذوفَهما، ولم يَرُدَّوا في تصحيحهما، فبان فساد ما قال.
قوله: ﴿وَخَالاَتُكُمْ﴾ ألف «خالة» و «خال» منقلبة عن واو، بدليل جمعه على «أخوال»، قال تعالى: ﴿أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ﴾ [النور: ٦١].
قوله: ﴿مِّنَ الرضاعة﴾ : في موضعِ نصب على الحال فيتعلق بمحذوف تقديره: وأخواتُكم كائناتٍ من الرضاعة. وقرأ أبو حيوة: «من الرِّضاعة» بكسر الراء. ﴿مِّن نِّسَآئِكُمُ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه حال من «ربائبكم» تقديره: «وربائبكم كائناتٍ من نسائكم». والثاني: أنه حالٌ من الضمير المستكنِّ في قوله: ﴿فِي حُجُورِكُمْ﴾ لأنه لَمَّا وقع صلةً تَحَمَّل ضميراً، أي: اللاتي استَقْرَرْنَ في حُجُوركم.
والربائب: جمع «ربيبة» وهي بنت الزوج أو الزوجة، والمذكر: ربيب، سُمِّيا بذلك؛ لأن أحد الزوجين يَرُبُّه كما يَرُبُّ ابنه. وقوله: ﴿اللاتي فِي حُجُورِكُمْ﴾ لا مفهومَ له لخروجه مخرج الغالب. الحُجُور: جمع «حِجْر»
قوله: ﴿اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ صفةٌ ل «نسائكم» المجرورِ ب «مِنْ»، اشترط في تحريم الربيبة أن يُدْخَلَ بأمها.
ولا جائزٌ أن تكونَ صفة ل «نسائكم» الأولى والثانية لوجهين، أحدهما: من جهة الصناعة، وهو أن «نسائكم» الأولى مجرورةٌ بالإِضافة والثانية مجرورة ب «من» فقد اختلف العاملان، وإذا اختلفا امتنع النعت، لا تقول: «رأيت زيداً ومررت بعمرٍو العاقلين» على أن يكون «العاقلين» نعتاً لهما. والثاني من جهة المعنى: وهو أن أم المرأة تَحْرُم بمجردِ العَقْدِ على البنت دَخَلَ بها أو لم يَدْخُل بها عند الجمهور، والربيبةُ لا تَحْرُم إلا بالدخولِ على أمها.
وفي كلام الزمخشري ما يلزم منه أنه يَجوز أَنْ يكونَ هذا الوصفُ راجعاً إلى الأولى في المعنى فإنه قال: ﴿مِّن نِّسَآئِكُمُ﴾ متعلق ب «ربائبكم» ومعناه: أن الربيبة من المرأةِ المدخولِ بها مُحَرَّمةٌ على الرجل حلالٌ له إذا لم يدخل بها. فإن قلت: هل يَصِحُّ أن يتعلق بقوله: ﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ﴾ ؟ قلت: لا يخلو: إمَّا أَنْ يتعلَّقَ بهن وبالربائب فتكون حرمُتهن وحرمةُ الربائب غيرَ مبهمتين جميعاً، وإمَّا أَنْ يتعلَّق بهن دونَ الربائبِ، فتكونُ حرمتُهن غيرَ مبهمة وحرمةُ الربائب مبهمةً، ولا يجوز الأول لأن معنى «من» مع أحد المتعلقين خلافُ معناها مع الآخر، ألا تراك إذا قلت: «وأمهاتُ نسائكم من
﴿المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٦٧]، [وقال] :
١٥٦٥ -....................... | فإني لستُ مِنْكَ ولَسْتَ مِنِّي |
١٥٦٦ - ما أنا من ددٍ ولا ددٌ مِنِي... وأمهاتُ النساء متصلات بالنساء لأنهن أمهاتُهن، كما أن الربائب متصلاتٌ بأمهاتهن لأنهن بناتُهن، هذا وقد اتفقوا على أن التحريم لأمهاتِ النساء مبهمٌ «. انتهى. ثم قال:» إلا ما رُوي عن علي وابن عباس وزيد وابن عمرو وابن الزبير أنهم قرؤوا «وأمهاتُ نسائكم اللاتي دَخَلْتُم بهن» فكان ابن عباس يقول: «واللهِ ما أُنزل إلا هكذا» فقوله: «أعلقه بالنساء والربائب» إلى
قوله: ﴿وَحَلاَئِلُ﴾ جمع» حليلة «وهي الزوجة، سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَحُلُّ مع زوجها حيث كان، فهي فَعِيلة بمعنى فاعلة، والزوج حليل كذلك، قال:
١٥٦٧ - أغشى فتاةَ الحَيِّ عند حليلِها | وإذا غَزَا في الجيشِ لا أَغْشاها |
و ﴿الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ﴾ صفةٌ مبينة؛ لأنَّ الابن قد يُطْلق على المُتَبَنَّى به وليست امرأتُه حراماً على مَنْ تَبَنَّاه، وأمَّا الابن من الرضاع فإنه وإنْ كان حكمُه حكمَ ابن الصُّلْب في ذلك فمبيَّنٌ بالسنة فلا يَرِد على الآية الكريمة.
وأَصْلاب: جمع» صُلْب «وهو الظهرُ، سُمِّي بذلك لقوته اشتقاقاً من الصَّلابة، وأفصحُ لغتَيْه: صُلْب بضمِ الفاء وسكون العين وهي لغة الحجاز،
١٥٦٨ - في صَلَبٍ مثلٍ العِنانِ المُؤْدَمِ... وحكى عنهم: «إذا أَقُوم اشتكى صَلَبي».
قوله: ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ﴾ في محلِّ رفع عطفاً على مرفوع «حُرِّمت» أي: وحُرِّم عليكم الجمعُ بين الأختين، والمرادُ الجمعُ بينهما في النكاح، أمَّا في الملِْك فجائزٌ اتفاقاً، وأمَّا الوطءُ بمِلكْ اليمين ففيه خلافٌ ليس هذا موضعَه.
قولُه: ﴿إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ استثناءٌ منطقع، فهو منصوبٌ المحل كما تقدَّم في نظيره أي: لكن ما مضى في الجاهلية فإن الله يَغْفِره. وقيل: المعنى إلا ما عَقَد عليه قبل الإِسلام، فإنه بعد الإِسلام يبقى النكاح على صحته، ولكن يَخْتار واحدةً منهما ويفارق الأخرى، وكان قد تقدَّمَ قريبٌ من هذا المعنى في ﴿مَا قَدْ سَلَفَ﴾ الأولِ ويكون الاستثناء عليه متصلاً، وهنا لا يتأتَّى الاتصال البتة لفساد المعنى.
وأمَّا الكسر فإنه أسند الإِحصان إليهن؛ لأنهن يُحْصِنَّ أنفسهن بعفافهن، أو يُحْصِنَّ فروجهن بالحفظ، أو يُحْصِنَّ أزواجهن. وأما استثناء الكسائي التي في رأس الجزء قال: «لأن المراد بهن المُزَوَّجات فالمعنى: أن أوزاجَهُنَّ أحصنوهن، فهن مفعولاتٌ»، وهذا على أحدِ الأقوال في المحصنات هنا مَنْ هن؟ على أنه قد قرىء شاذاً التي في رأس الجزء بالكسر أيضاً، وإنْ أُريد بهن المزوَّجات؛ لأنَّ المراد أحصنَّ أزواجهنّ أو فروجهنّ، وهو ظاهر. وقرأ يزيد بن قطيب: و «المُحْصُنات» بضم الصاد، كأنه لم يَعْتَدَّ بالساكن فأتبعَ الصاد للميم كقولهم: «مُنْتُن».
وأصلُ هذه المادة الدلالةُ على المَنْعِ ومنه «الحِصْن» لأنه يُمْنع به، و «حِصان» للفرس من ذلك. ويقال: أَحْصَنَتِ المرأةُ وحَصُنَتْ، ومصدرُ حَصُنَت: «حُصْن» عن سيبويه و «حَصانة» عن الكسائي وأبي عبيدة، واسمُ الفاعلِ من أَحْصَنَتْ مُحْصَنة، ومن حَصُنت حاصِن، قال:
١٥٦٩ - وحاصِنٍ من حاصناتٍ مُلْسِ | مِن الأذى ومن قِراف الوَقْسِ |
١٥٧٠ - حَصانٌ رزانٌ ما تُزَنُّ بريبةٍ | وتصبحُ غَرْثَى مِنْ لُحومِ الغَوافل |
١٥٧١ - وذاتِ حَليلٍ أَنْكَحَتْها رماحُنا | حَلالٌ لِمَنْ يَبْني بها لم تُطَلَّقِ |
وقوله: ﴿مِنَ النسآء﴾ في محلِّ نصبٍ على الحالِ كنظيرِه المتقدم. وقال
قوله: ﴿كِتَابَ الله﴾ في نصبه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه منصوبٌ على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة قبله وهي قوله: «حُرِّمت»، ونصبُه بفعل مقدر أي: كَتَبَ الله ذلك عليكم كتاباً. وأبعد عبيدة السلماني في جَعْلِه هذا المصدَر مؤكداً لمضمون الجملة من قوله تعالى: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ [النساء: ٣].
الثاني: أنه منصوبٌ على الإِغراء ب «عليكم» والتقدير: عليكم كتابَ الله أي: الزموه كقوله: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥]، وهذا رأي الكسائي ومَنْ تابعه، أجازوا تقديمَ المنصوب في باب الإِغراء مستدِلِّين بهذه الآيةِ، وبقولِ الآخر:
والثالث: أنه منصوب بإضمار فعل أي: الزموا كتاب الله، وهذا قريبٌ من الإِغراء. وقال أبو البقاء في هذا الوجه: «تقديره: الزموا كتاب الله» و «عليكم» إغراء، يعني أن مفعوله قد حُذف للدلالة ب «كتاب الله» عليه، أي: عليكم ذلك، فيكون أكثر تأكيداً. وأمَّا «عليكم» فقال أبو البقاء: إنها على القول بأن «كتاب» مصدرٌ يتعلق بذلك الفعل المقدر الناصبِ ل «كتاب» ولا يتعلَّق بالمصدر «قال:» لأنه هنا فَضْله «. قال:» وقيل: يتعلَّق بنفسِ المصدر/ لأنه ناب عن الفعل، حيث لم يُذكر معه فهو كقولك: مروراً بزيد قلت: وأمَّا على القول بأنه إغراء فلا محلَّ له لأنه واقعٌ موقعَ فعلِ الأمر، وأمَّا على القولِ بأنه منصوبٌ بإضمار فِعْلٍ أي: الزموا ف «عليكم» متعلِّقٌ بنفس «كتاب» أو بمحذوف على أنه حال منه.
وقرأ أبو حيوة «كَتَبَ اللهُ» على أن «كتب» فعل ماض، و «الله» فاعل به، وهي تؤيد كونَه منصوباً على المصدر المؤكد. وقرأ ابن السَّمَيْفَع اليماني: «كُتُبُ الله» جعله جمعاً مرفوعاً مضافاً لله تعالى على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، تقديره: هذه كتبُ الله عليكم.
قوله: ﴿وَأُحِلَّ﴾ قرأ الأخوان وحفص عن عاصم: «أَحَلَّ» مبنياً للمفعول، والباقون مبنياً للفاعل، وكلتا القراءتين الفعلُ فيهما معطوفٌ على
وادَّعى الزمخشري أن قراءة «أُحِلَّ» مبنياً للمفعول عطفٌ على «حُرِّمت» ليُعْطَفَ فعلٌ مبني للمفعول على مثله، وأما على قراءة بنائه للفاعل فجعله معطوفاً على الفعل المُقدَّر الناصب ل «كتاب» كأنه قيل: كَتَب الله عليكم تحريمَ ذلك وأَحَلَّ لكم ما وراء ذلكم. قال الشيخ: «وما اختاره يعني من التفرقه بين القراءتين غيرُ مختار؛ لأنَّ الناصبَ ل» كتابَ الله «جملةٌ مؤكدة لمضمون الجملة من قوله» حُرِّمت «إلى آخره، وقوله» وأَحَلَّ لكم «جملةٌ تأسيسية فلا يناسِبُ أن تُعْطَفَ إلا على تأسيسية مثلِها لا على جملةٍ مؤكدة، والجملتان هنا متقابلتان، إذ إحداهما للتحريم والأخرى للتحليل، فالمناسب أن تُعطف إحداهما على الأخرى لا على جملة أخرىغيرِ الأولى، وقد فَعَلَ هو مثل ذلك في قراءة البناء للمفعول فليكن هذا مثلَه» وفي هذا الردَّ نظر.
و ﴿مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ مفعولٌ به: إمَّا منصوبُ المحل أو مرفوعُه على حَسَبِ القراءتين في «أحلَّ».
قوله: ﴿أَن تَبْتَغُواْ﴾ في محلِّه ثلاثةُ أوجه: الرفع والنصب والجر، فالرفعُ على أنه بدل من ﴿مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ على قراءة «أُحِلَّ» مبنياً للمفعول؛ لأن «ما» حينئذ قائمةٌ مقامَ الفاعل، وهذا بدلٌ منها بدلُ اشتمال. وأمَّا النصبُ فالأجودُ أن يكون على أنه بدل من «ما» المتقدمة على قراءة «أَحَلَّ» مبنياً للفاعل، كأنه
وأنحى عليه الشيخ، وجَعَلَه إنما قصد بذلك دسيسةَ الاعتزال ثم قال: «وظاهرُ الآية غيرُ ما فهمه، إذ الظاهر أنه تعالى أَحَلَّ لنا ابتغاء ما سوى المحرماتِ السابقِ ذكرُها بأموالنا حالةَ الإِحصان لا حالةَ السِّفاح، وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يُعْرَبَ» أن تبتغوا «مفعولاً له، لأنه فات شرطٌ من شروطِ المفعولِ له وهو اتحادُ الفاعلِ في العامل والمفعول له، لأنَّ الفاعلَ ب» أحلَّ «هو الله تعالى والفاعلَ في» تبتغوا «ضميرُ المخاطبين فقد اختلفا، ولمَّا أحسَّ الزمخشري إن كان أحسَّ جعل» أن تبتغوا «على حذفِ» إرادة «حتى يتحدَ الفاعل في قوله» وأحلَّ «وفي المفعولِ له، ولم يجعل» أن تبتغوا «مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامتِه مقامَه، وهذا كلُّه خروج عن الظاهر».
انتهى.
ولا أدري ما هذا التَحمُّلُ، ولا كيف يَخْفى على أبي القاسم شرطٌ اتحاد الفاعل في المفعول له حتى يقول «إن كان أحسَّ» !!!
وأجاز أبو البقاء فيه النصبَ على حذف حرف الجر، قال أبو البقاء: «وفي» ما «يعني من قوله ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ وجهان، أحدُهما: هي بمعنى» مَنْ «، فعلى هذا يكون قوله» أن تبتغوا «في موضع جر أو نصب على تقدير: بأن تبتغوا أو لأنْ تبتغوا، أي: أُبيح لكم غيرُ مَنْ ذكرنا من النساء
وأمَّا الجرُّ فعلى ما ذكره أبو البقاء. وقد تقدَّم ما فيه.
و ﴿مُّحْصِنِينَ﴾ حال من فاعل» تَبْتغوا «، و» غيرَ مسافحين «حالٌ ثانية، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الضمير في» مُحْصِنين «، ومفعول محصنين ومسافحين محذوف أي: مُحْصِنين فروجَكم غير مسافحين الزواني، وكأنها في الحقيقة حال مؤكدة لأن المُحْصِن غيرُ مسافِحٍ. ولم يقرأ أحد بفتح الصاد من» محصنين «فيما علمت.
قوله: ﴿فَمَا استمتعتم بِهِ﴾ يجوزُ في» ما «وجهان، أحدهما: أن تكونَ شرطيةً. والثاني: أن تكونَ موصولةً. وعلى كلا التقديرين فيجوز أن يكونَ المرادُ بها النساءَ المستمتَع بهن أي: النوعَ المُسْتمتع به، وأن يراد بها الاستمتاعُ الذي هو الحدثُ. وعلى جميع الأوجه المتقدمة فهي في محل رفع بالابتداء، فإنْ كانت شرطيةً ففي خبرها الخلاف المشهور: هل هو فعلُ الشرط أو جوابُه أو كلاهما؟ وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة. وإن كانت موصولةً فالخبرُ قولُه: ﴿فَآتُوهُنَّ﴾، ودخلت الفاءُ لشبهِ الموصولِ باسم الشرط، وقد تقدَّم أيضاً تحقيقه. ثم إنْ أُريد بها النوعُ المستمتعُ به فالعائدُ على المبتدأ سواءً كانت» ما «شرطاً أو موصولةً الضميرُ المنصوب في» فآتوهن «، ويكون قد راعَى لفظَ» ما «تارة فأَفْرد في قوله» به «ومعناها أخرى، فَجَمع في قوله» منهن «
و «مِنْ» في «منهم» تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون للبيان. والثاني: أن تكون للتبعيض، ومحلُّها النصب على الحال من الهاء في «به» ولا يجوز في «ما» أن تكون مصدرية لفسادِ المعنى، ولعَوْدِ الضميرِ في «به» عليها. /
والسِّفاح: الزنا، وأصله الصَبُّ، لأن الزاني يَصُبُّ فيه، وكانوا يقولون: سافحيني وماذيني. والمسافِحُ: مَنْ تظاهر بالزنا، ومتخذ الأخدان مَنْ تَسَتَّر فاتخذ واحدة خفية.
قوله: ﴿فَرِيضَةً﴾ حالٌ من «أجورهن» أو مصدرٌ مؤكِّد أي: فرض الله ذلك فريضة، أو مصدرٌ على غير الصدر؛ لأن الإِيتاء مفروض فكأنه قيل: فآتوهُنَّ أجورَهنَّ إيتاءً مفروضاً.
وفي نَصْب «طَوْلاً» ثلاثة أوجه أظهرها: أنه مفعول ب «يستطع»، وفي
١٥٧٢ - يا أيُّها المائحُ دَلْوي دونَكَا | إني رأيْتُ الناسَ يَحْمَدونكا |
١٥٧٣ - إن الفرزدق صخرةٌ ملمومَةٌ | طالَتْ فليسَ ينالها الأوعالا |
١٥٧٤ - بضربٍ بالسيوف رؤوسَ قومٍ | أَزَلْنا هامَهُنَّ عن المَقيل |
القول الثاني: أنَّ «أَنْ ينكحَ» بدلٌ من «طَوْلاً» بدلُ الشيء من الشيء؛ لأنَّ الطَّوْل هو القدرةُ أو الفَصْلُ، والنكاحُ قدرةٌ وفَصْلٌ.
القول الثالث: أنَّه على حذفِ حرفِ الجر، ثم اختلف هؤلاء: فمنهم مَنْ قَدَّره ب «إلى» أي: طَوْلاً إلى أن ينكحَ، ومنهم مَنْ قَدَّره باللام، أي: لأنْ ينكِحَ، وعلى هذين التقديرين فالجارُّ في محل الصفة ل «طَوْلاً» فيتعلق بمحذوفٍ، ثم لَمَّا حُذِفَ حرفُ الجر جاء الخلاف المشهور في محل «أَنْ» أنصبُ هو أم جر؟ وقيل: اللامُ المقدرة مع «أنْ» هي لامُ المفعول من أجله أي: طَوْلاً لأجل نكاحِهِنَّ.
الوجه الثالث: أن يكونَ منصوباً على المصدر، قال ابن عطية: «ويَصِحُّ أن يكونَ» طَوْلاً «نصباً على المصدر، والعامل فيه الاستطاعة لأنهما بمعنى، و» أن ينكح «على هذا مفعولٌ بالاستطاعة أو بالمصدر» يعني أن الطَّوْل هو استطاعةٌ في المعنى فكأنه قيل: ومَنْ لم يستطع منكم استطاعةً.
قوله: «فممَّا» الفاء قد تقدم أنها: إمَّا جوابُ الشرط، وإما زائدةٌ في الخبر على حَسَب القولين في «مَنْ». وفي هذه الآية سبعة أوجه، أحدها: أنها متعلقة بفعل مقدر بعد الفاء تقديره: فلينكحْ مِمَّا مَلَكَتْه أيمانكم، و «ما» على هذا موصولةٌ بمعنى الذي، أي: النوعَ الذي ملكته، ومفعولُ ذلك الفعل المقدر محذوف تقديره: فلينكح امرأة أو أَمَةً مِمَّا ملكته أيمانكم، ف «مما» في الحقيقة متعلق بمحذوف؛ لأنه صفة لذلك المفعولِ المحذوفِ، و «مِنْ» للتبعيض نحو: أكلت من الرغيف، و «من فتياتكم» في محل نصب على الحال من الضمير المقدر في «مَلَكَتْ» العائدِ على «ما» الموصولة، و «المؤمناتِ» صفةٌ ل «فتياتِكم».
الثاني: أن تكونَ «مِنْ» زائدةً و «ما» هي المفعولةُ بذلك الفعل المقدر أي: فلينكح ما ملكَتْه أَيْمانكم. الثالث: أن «مِنْ» في «من فتياتكم» زائدة، و «فتياتِكم» هو مفعولُ ذلك الفعل المقدر أي: فلينكح فتياتِكم، و «مِمَّا ملكت» متعلقٌ بنفسِ الفعل، و «من» لابتداء الغاية، أو بمحذوفٍ على أنه حال من «فتياتكم» قُدِّمَ عليها، و «مِنْ» للتبعيض. الرابع: أن مفعول «فلينكح»
قوله: ﴿والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ﴾ جملةٌ من مبتدأ وخبر، وجيء بها بعد قوله ﴿مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات﴾ ليفيدَ أنَّ الإِيمان الظاهر كافٍ في نكاحِ الأَمَةِ المؤمنةِ ظاهراً، ولا يشترط في ذلك أَنْ يَعْلَمَ إيمانَها علماً يقيناً، فإنَّ ذلك لا يطَّلِعُ عليه إلا اللهُ تعالى، وفيه تأنيس أيضاً بنكاحِ الإِماء فإنهم كانوا يَنْفِرون من ذلك.
قوله: ﴿بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ مبتدأٌ وخبر أيضاً، جيء بهذه الجملة أيضاً تأنيساً بنكاح الإِماء كما تقدم، والمعنى: أن بعضكم من جنس بعض في النسب والدين، فلا يترفَّع الحُرُّ عن نكاح الأمةِ عند الحاجة إليه، وما أحسنَ قولَ أمير المؤمنين علي:» الناسُ من جهة التمثيل أَكْفاء، أبوهم آدم والأم حواء «.
قوله: ﴿بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾ متعلق ب» انكحوهن «، وقَدَّر بعضهم مضافاً محذوفاً أي بإذنِ أهل ولايتهن، وأهلُ ولايةِ نكاحهنَّ هم المُلاَّك.
و «بالمعروف» فيه
قوله: ﴿مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ﴾ حالان من مفعول «فآتوهن» ومحصنات على هذا بمعنى مُزَوَّجات. وقيل: محصنات حالٌ من مفعول «فانكحوهن»، ومحصنات على هذا بمعنى عفائفَ أو مسلمات، والمعنى: فانكحوهن حالَ كونهن محصناتٍ لا حالَ سِفاحِهن واتخاذِهِنَّ للأخْدان. وقد تقدَّم أن «محصنات» بكسرِ الصادِ وفتحِها، وما معناها، وأنَّ «غيرَ مسافحين» حالٌ مؤكدة.
﴿وَلاَ مُتَّخِذَاتِ﴾ عطفٌ على الحال قبله. والأخْدان مفعول ب «متخذات» لأنه اسمُ فاعل، وأخدان جمع «خِدْن»، ك: عِدل وأَعْدال، والخِدْن: الصاحب، وقد تقدَّم أن المسافح هو المجاهر بالزنى ومتخذَ الأخدانِ هو المستترُ به، وكذلك هو في النساء، وكان الزنى في الجاهلية منقسماً إلى هذين القسمين.
قوله: ﴿فَإِذَآ أُحْصِنَّ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: «أُحْصِنَّ» بضم الهمزة وكسر الصاد على البناء للمفعول، والباقون
والفاء في «فإنْ» جواب «إذا» وفي «فعليهن» جواب «إنْ»، فالشرطُ الثاني وجوابه مترتِّبٌ على وجود الأول، ونظيره: «إن أكلت فإنْ ضربت عمراً فأنت حر» لا يُعْتق حتى يأكلَ أولاً ثم يضربَ عمراً ثانياً، ولو أسقطت الفاء الداخلة على «إن» في مثل هذا التركيب انعكس الحكمُ، ولزم أن يَضْرب أولاً ثم يأكل ثانياً. وهذا يُعْرف من قواعد النحو، وهو أن الشرط الثاني يُجعل حالاً فيجب التلبُّسُ به أولاً.
قوله: ﴿مِنَ العذاب﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من الضمير المستكنِّ في صلةِ «ما» وهو «على»، فالعاملُ فيها معنوي، وهو في الحقيقةِ ما تعلَّق به هذا الجار، ولا يجوزُ أن يكونَ حالاً من «ما» المجرورةِ بإضافة «نصف» إليها؛ لأنَّ الحالَ لا بد أن يعمل فيها ما يعمل في صاحبها، و «نصفُ» هو العامل في صاحبِها الخفضَ بالإِضافة، ولكنه لا يعمل في الحال لأنه ليس من الأسماء العاملة، إلاَّ أن بعضهم يَرى أنه إذا كان جزءاً من المضافِ جازَ ذلك فيه، والنصفُ جزءٌ فيجوز ذلك.
قوله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ﴾ «ذلك» مبتدأ، و «لِمَنْ خشي» جارٌّ ومجرور خبرُه، والمشار إليه ب «ذلك» إلى نكاح الأمة المؤمنة لِمَنْ عَدِم الطَّوْلَ. والعَنَتْ في الأصل انكسارُ العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة، وأُريد به هنا ما يَجُرُّ إليه الزنى من العقاب الدنيوي والأخروي، و «منكم» حالٌ من الضمير
قوله: ﴿وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ مبتدأ وخبر لتأوُّلِه بالمصدر وهو كقوله: ﴿وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى﴾ [البقرة: ٢٣٧].
والمذهب الثاني: ويعزى أيضاً لبعض البصريين أَنْ يُقَدَّر الفعلُ الذي قبل اللام بمصدرِ في محل رفع بالابتداء، والجار بعده خبره، فيقدر ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ﴾ إرادةُ الله للتبيين، وقوله:
١٥٧٥ - أريدُ لأنْسَى ذِكْرَها........... أي: إرادتي، وقوله تعالى: ﴿وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ﴾ أي: أُمِرْنا بما أُمِرْنا [به] لنسلمَ، وفي هذا القولِ تأويلُ الفعل بمصدر من غير حرف مصدر، وهو ضعيف نحو: «تَسْمَعُ بالمُعَيْدَيِّ خيرٌ مِنْ تراه» قالوا: تقديره: «أنّْ تسمعَ» فلمَّا حَذَفَ «أن» رَفَع الفعل، وهو في تأويل المصدر لأجل الحرف
الثالث: وهو مذهب الكوفيين أن اللامَ هي الناصبة بنفسها من غير إضمار «أَنْ»، وهي وما بعدها مفعول الإِرادة، ومنع البصريون ذلك؛ لأن اللامَ ثَبَت لها الجر في الأسماء، فلا يجوز أن يُنْصَبَ بها، فالنصب عندهم بإضمار «أن» كما تقدم.
الرابع: وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء أن اللامَ زائدة، و «أَنْ» مضمرة بعدها، والتبيينُ مفعولُ الإِرادة. قال الزمخشري: ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ﴾ يريد اللهُ أن يبيِّن، فزيدت اللامُ مؤكدة لإِرادة التبيين، كما زيدت في «لا أبا لك» لتأكيد إضافة الأب «. وهذا كما رأيت خارجٌ عن أقوال البصريين والكوفيين، وفيه أنَّ» أنْ «تضمر بعد اللام الزائدة، وهي لا تُضْمر فيما نص النحويون بعد لامٍ وتلك اللامُ للتعليل أو للجحود.
وقال بعضهم: اللامُ هنا لام العاقبة كهي في قوله: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨]، ولم يَذْكُر مفعولَ التبيين، بل حَذَفه للعلم به، فقدَّره بعضهم:» ليبين لكم ما يقرِّبكم «، وبعضُهم:» أن الصبر عن نكاح الأماء خيرٌ «، وبعضُهم:» ما فَصَّل من الشرائع «، وبعضهم:» أمرَ دينكم «وهي متقاربة.
ويجوز في الآية وجهٌ آخرُ حسنٌ: وهو أَنْ تكونَ المسألةُ من باب الإِعمال: تنازع» يبيِّن «و» يَهْدي «في ﴿سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ ؛ لأنَّ كلاً منهما يَطْلبه من جهة المعنى، وتكونُ المسألة من إعمال الثاني، وحَذَفَ الضميرَ من
قوله: ﴿وَيُرِيدُ الذين﴾ بالرفعِ عطفاً على «والله يريد» عَطَفَ جملةً فعلية على جملة اسمية، ولا يجوز أن يتنصِبَ لفساد المعنى، إذ يصير التقدير: «والله يريدُ أن يتوبَ ويريدُ أن يريدَ الذين». واختار الراغب أن الواوَ للحال تنبيهاً على أنه يريد التوبةَ عليكم في حال ما يريدون أن تَميلوا، فخالف بين الإِخبارين في تقديمِ المُخْبَرِ عنه في الجملة الأولى وتأخيره في الثانية،
قوله: «ضعيفاً» في نصبه أربعة أوجه، الأظهر: أنه حال من «الإِنسان» وهي حال مؤكدة. الثاني: أنه تمييز قالوا: لأنه يَصْلُح لدخول «مِنْ» وهذا غلط. الثالث: أنه على حذف حرف الجر، والأصل: خُلِق من شيء ضعيف أي: من ماء مهين أو من نطفة، فلما حُذف الموصوف وحرف الجر وَصَل الفعل إليه بنفسه فنصبه. والرابع: وإليه أشار ابن عطية أنه منصوبٌ على
وقرأ الكوفيون: «تجارةً» نصباً على أنَّ «كان» ناقصة، واسمُها مستتر فيها يعود على الأموالِ، ولا بد من حذف مضاف من «تجارة» تقديره: إلا أن تكونَ الأموال أموالَ تجارة، ويجوز أن يُفَسَّر الضمير بالتجارة بعدها أيَ: أن تكون التجارةُ تجارةً كقوله:
و ﴿عَن تَرَاضٍ﴾ متعلق بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل «تجارة»، فموضعه رفع أو نصب على حَسَبِ القراءتين. وأصل «تراض» «تراضِوٌ» بالواو، لأنه مصدر تراضى تفاعلَ من رَضِي، ورَضِي من ذوات الواو بدليل الرُّضوان، وإنما تطرَّفت الواو بعد كسرة فقلبت ياء فقلت: تراضياً. و «منكم» صفة ل «تراضٍ» فهو في محل جر، و «من» لابتداء الغاية. وقرأ علي رضي الله عنه: «تُقَتِّلوا» بالتشديد على التكثير، والمعنى: لا يقتلْ بعضكم بعضاً.
وقرأ الجمهور «نُصْليه» من أصلى والنون للتعظيم. وقرأ الأعمش: «نُصَلِّيه» مشدداً، وقرىء «نَصليه» بفتح النون، من صَلَيْتُه النار. ومنه «شاة مَصْلِيَّة». و «يَصْليه» بياء الغيبة. وفي الفاعلِ احتمالان، أحدُهما: أنه ضمير الباري تعالى. والثاني: أنه ضمير عائد على ما أشير ب «ذلك» إليه من القتل، لأنه سببٌ في ذلك. ونَكَّر «ناراً» تعظيماً.
وقرأ نافع وحده هنا وفي الحج: «مَدْخَلاً» بفتح الميم، والباقون بضمها، ولم يختلفوا في ضم التي في الإِسراء. فأما المضمومُ الميمِ فإنه يحتمل وجهين، أحدهما: أنه مصدر، وقد تقرَّر أن اسم المصدر من الرباعي فما فوقَه كاسمِ المفعول، والمَدْخول فيه على هذا محذوفٌ أي: ويُدْخِلْكم الجنة إدخالاً. والثاني: أنه اسم مكان الدخول، وفي نصبِه حينئذ احتمالان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على الظرف، وهو مذهبُ سيبويه. والثاني: أنه مفعولٌ به وهو مذهب الأخفش. وهكذا كلُّ مكان مختص بعد «دخل» فإن فيه هذين المذهبين وهذه القراءةُ واضحةٌ؛ لأنَّ اسم المصدر والمكان جاريان على فعليهما.
وأمَّا قراءة نافع فتحتاج إلى تأويل، وذلك لأن المفتوح الميم إنما هو من الثلاثي، والفعلُ السابق لهذا كما رأيت رباعي، فقيل: إنه منصوب بفعلٍ مقدر مطاوع لهذا الفعل، والتقدير: يُدْخلكم فتدخلون مَدْخلاً، و «مَدْخلاً» منصوب على ما تقدم: إمَّا المصدريةِ وإمَّا المكانيةِ بوجهيها.
قوله: ﴿واسألوا﴾ : الجمهورُ على إثباتِ الهمزة في الأمر من السؤال الموجَّه نحو المخاطب إذا تقدَّمه واو أو فاء نحو: ﴿فَاسْأَلِ الذين﴾ [يونس: ٩٤] ﴿واسألوا الله مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: ٣٢]. وابن كثير والكسائي بنَقْل حركةِ الهمزة إلى السين تخفيفاً لكثرةِ استعماله. فإنْ لم تتقدَّمه واو ولا فاء فالكل على النقل نحو: ﴿سَلْ بني إِسْرَائِيلَ﴾ [البقرة: ٢١١]، وإن كان لغائب فالكل على الهمز نحو: ﴿وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ﴾ [الممتحنة: ١٠]. ووهم ابن عطية فنقل اتفاقَ القراء على الهمز في نحو: ﴿وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ﴾ [الممتحنة: ١٠] وليس اتفاقهم في هذا بل في ﴿وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ﴾ كما تقدم. وتخفيفُ الهمز لغة الحجاز، ويحتمل أن يكون ذلك من لغةِ مَنْ يقول: «سال يسال» بألفٍ محضة، وقد تقدم تحقيق ذلك في البقرة عند «سَلْ بني إسرائيل» فعليك بالالتفات إليه، وهذا إنما يتأتَّى في «سل» و «فسل» وأما «وسَلوا» فلا يتأتَّى فيه ذلك؛ لأنه كان ينبغي أن يُقال: سالوا كخَافوا، وقد يقال: إنه التزَم الحذفَ لكثرةِ الدَّوْر.
والثاني: أنَّ التقديرَ:» ولكلِّ إنسانٍ موروثٍ جَعَلنا وُرَّاثاً مما ترك ذلك الإِنسان «ثم بَيَّن الإِنسانَ المضافَ إليه» كل «بقوله: الوالدان، كأنه قيل: ومَنْ هو هذا الإِنسانُ الموروث؟ فقيل: الوالدان والأقربون. والإِعرابُ كما تقدَّم في الوجهِ قبله. وإنما الفرق بينهما أن الوالدين في الأول وارثون، وفي الثاني
الثالث: أن يكون التقدير: ولكل إنسان وارثٍ مِمَّنْ تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي أي: موروثين، فيُراد بالمَوْلى الموروثُ، ويرتفع» الوالدان «ب» ترك «، وتكون» ما «بمعنى» مَن «، والجار والمجرور صفةٌ للمضافِ إليه» كل «، والكلامُ على هذا جملةٌ واحدة، وفي هذا بُعْدٌ كبير.
الرابع: وإنْ كان التقدير:» ولكل قوم «فالمعنى: ولكل قوم جعلناهم مواليَ نصيبٌ مِمَّا تركه والدُهم وأقربوهم، ف» لكل «خبر مقدم، و» نصيب «مبتدأٌ مؤخر، و» جَعَلْناهم «صفةٌ لقوم، والضمير العائد عليهم مفعولُ» جَعَل «و» مواليَ «: إمَّا ثانٍ وإمَّا حالٌ، على أنها بمعنى» خلقنا، و «مِمَّا ترك» صفة للمبتدأ، ثم حُذِف المبتدأ وبقيت صفتُه، وحُذِف المضاف إليه «كل» وبقيت صفتُه أيضاً، وحُذِف العائد على الموصوفِ. ونظيرُه: «لكلِّ خلقه الله إنساناً مِنْ رزق الله» أي: لكل أحد خلقه الله إنساناً نصيبٌ من رزق الله.
الخامس: وإنْ كان التقدير: «ولكلِّ مال» فقالوا: يكون المعنى: ولكلِّ مال مِمَّا تركه الولدان والأقربون جعلنا مواليَ أي: وُرَّاثاً يَلُونه ويَحُوزونه، وجعلوا «لكل» متعلقةً ب «جعل»، و «مما ترك» صفة ل «كل»، الوالدان فاعلٌ ب «ترك» فيكون الكلام على هذا وعلى الوجهين قبله كلاماً واحداً، وهذا وإن كان حسناً إلا أن فيه الفصلَ بين الصفة والموصوف بجملةٍ عاملةٍ في الموصوف. قال الشيخ: «وهو نظير قولك:» بكلِّ رجلٍ مررت تميميٍ «وفي جواز ذلك نظر». قلت: ولا يحتاج إلى نظر؛ لأنه قد وُجد الفصلُ بين الموصوف وصفته بالجملة العاملة في المضاف إلى الموصوف، كقوله تعالى: {
السادس: أَنْ يكونَ «لكلِّ مال» مفعولاً ثانياً ل «جعل» على أنها تصييرية، و «مواليَ» مفعول أول، والإِعراب على ما تقدم. وهذا نهايةُ ما قيل في هذه الآية فلله الحمد.
قوله: ﴿والذين عَاقَدَتْ﴾ في مَحَلِّه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه مبتدأ والخبر قوله: «فآتوهم». الثاني: أنه منصوب على الاشتغال بإضمار فعل، وهذا أرجحُ من حيث إنَّ بعده طَلَباً. والثالث: أنه مرفوعٌ عطفاً على «الوالدان والأقربون» فإنْ أريد بالوالدين أنهم موروثون عادَ الضميرُ مِنْ «فآتوهم» على «موالي»، وإنْ أُريد أنهم وارثون جازَ عَوْدُه على «مواليَ» وعلى الوالدين وما عُطف عليهم. الرابع: أنه منصوبٌ عطفاً على «مواليَ»، قال أبو البقاء: «أي وَجَعَلْنا الذين عاقَدَتْ وُرَّاثاً، وكان ذلك ونُسِخ»، وَردَّ عليه الشيخ بفساد العطفِ، قال: «إذ يصير التقدير: ولكلِّ إنسان، أو لكل شيءٍ من المالِ جَعَلْنا وُرَّاثاً والذين عاقَدَتْ أَيْمانكم» ثم قال: «فإنْ جُعِل من عطفِ الجمل وحًُذِفَ المفعولُ الثاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك أي: جَعَلْنا وُرَّاثاً لكلِّ شيء من المالِ، أو لكلِّ إنسانٍ، وجَعَلْنا الذين عاقَدَتْ أيمانكم وراثاً، وفيه بعد ذلك تكلفٌ». انتهى.
وقرأ الكوفيون: «عَقَدَتْ» والباقون: «عاقَدَتْ» بألف، ورُويَ عن
و ﴿مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ متعلقٌ ب «أَنْفَقوا» ؛ أو بمحذوف على أنه حال من الضمير المحذوف. قوله: ﴿فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ﴾ «الصالحات» : مبتدأ وما بعده خبران له. و «للغيب» متعلق ب «حافظات». وأل في «الغيب» عوضٌ من الضمير عند الكوفيين كقوله: ﴿واشتعل الرأس شَيْباً﴾ [مريم: ٤] أي: رأسي وقوله:
١٥٧٦ -........................ | إذا كان يوماً ذا كواكبَ أَشْنعا |
١٥٧٧ - لَمْياءُ في شَفَتيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ | وفي اللِّثاتِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ |
والجمهورُ على رفع الجلالة من «حَفِظ اللهُ». وفي «ما» على هذه
وقرأ أبو جعفر بنصبِ الجلالة، وفي «ما» ثلاثةُ أوجهً أيضاً، أحدُها: أنها بمعنى الذي، والثاني: نكرة موصوفة، وفي «حَفِظ» ضميرٌ يعود على «ما» أي: بما حَفِظ من البر والطاعة. ولا بد من حذف مضافٍ تقديرُه: بما حفظ دينَ الله أو أَمْرَ الله، لأنَّ الذاتَ المقدسةَ لا يحفظها أحد. والثالث: أن تكونَ «ما» مصدريةً، والمعنى بما حفظن الله في امتثال أمره، وساغَ عودُ الضميرِ مفرداً على جمعِ الإِناثِ لأنهن في معنى الجنس، كأنه قيل: مِمَّنْ صَلَحَ، فعادَ الضميرُ مفرداً بهذا الاعتبار، ورد الناسُ هذا الوجهَ بعدم مطابقة الضمير لما يعود عليه وهذا جوابه. وجعله ابن جني مثلَ قول الشاعر:
١٥٧٨ -...................... | فإنَّ الحوادِثَ أودى بها |
قوله: ﴿فِي المضاجع﴾ فيه وجهان، أحدهما: أن» في «على بابها من الظرفية متعلقة ب» اهجروهن «أي: اتركوا مضاجعتهن أي: النومَ معهن دونَ كلامِهن ومؤاكلتهن. والثاني: أنها للسبب قال أبو البقاء:» واهجروهُنَّ بسبب المضاجع كما تقول: «في هذه الجنايةِ عقوبةٌ» وجَعَل مكي هذا الوجه متعيناً، ومنع الأول، قال: «ليس» في المضاجع «ظرفاً للهجران، وإنما
قوله: ﴿فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾ في نصب «سبيلا» وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به، والثاني: أنه على إسقاط الخافض، وهذان الوجهان مبنيان على تفسير البغي هنا ما هو؟ فقيل: هو الظلم من قوله: ﴿فبغى عَلَيْهِمْ﴾ [القصص: ٧٦]، فعلى هذا يكون لازماً، و «سبيلاً» منصوبٌ بإسقاط الخافض أي: بسبيل. وقيل: هو الطلب من قولهم: بَغَيْتُه أي طلبته. وفي «عليهن» وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب «تبغوا». والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من «سبيلاً» لأنه في الأصل صفةُ النكرة قُدِّم عليها.
و ﴿مِنْ أَهْلِهِ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلِّقٌ ب «ابعثوا» فهي لابتداءِ الغاية. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ للنكرةِ أي: كائناً من أهلِه فهي للتبعيضِ.
قوله: ﴿إِن يُرِيدَآ﴾ الضميران في «يُريدا» و «بينهما» يجوز أن يعودا على الزوجين أي: إنْ يُرِدِ الزوجان إصلاحاً يُوَفِّق الله بين الزوجين، وأَنْ يعودا على الحكمين، وأَنْ يعودَ الأول على الحكمين، والثاني على الزوجين، وأن يكونَ بالعكس، وأُضْمِر الزوجان وإن لم يَجْرِ لهما ذِكْرٌ لدلالة ذِكْرِ الرجال والنساء عليهما. وجَعَل أبو البقاء الضمير في «بينهما» عائداً على الزوجين فقط، سواءً قيل بأن ضمير «يريدا» عائد على الحكمين أو الزوجين.
١٥٧٩ - نَضَر اللهُ أعظماً دفنوها | بسجستانَ طلحةِ الطَّلَحاتِ |
وقرأ بعضُهم:» والجارَ ذا القربى «نصباً. وخَرَّجه الزمخشري على الاختصاص كقوله: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى﴾ [البقرة: ٢٣٨].
والجُنُب صفةٌ على فُعُل نحو: ناقة سُرُح، ويستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع مذكراً ومؤنثاً نحو: رجال جُنُب، قال تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُباً﴾ [المائدة: ٦]،
١٥٨٠ - فلا تَحْرِمَنِّي نائلاً عن جَنابةٍ | فإني أمرؤٌ وَسْطَ القِبابِ غريبُ |
قوله: ﴿بالجنب﴾ يجوز في الباء وجهان: أحدهما: أن تكون بمعنى» في «. والثاني: أن تكونَ على بابها وهو الأولى، وعلى كلا التقديرين تتعلَّق بمحذوف لأنها حال من الصاحب. و ﴿وَمَا مَلَكَتْ﴾ يجوز أن يريد غيرَ العبيد والإِماء ب» ما «، حَمْلاً على الأنواع كقوله: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾ [النساء: ٣] وأن يكونَ أُريدَ جميعُ ما ملكه الإِنسان من الحيواناتِ فاختلط العاقل بغيره فأتى ب» ما «.
و» بالبخل «فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلق ب» يأمرون «فالباءُ للتعدية على حَدِّ: أمرتك بكذا. والثاني: أنها باء الحالية، والمأمور محذوف، والتقدير: ويأمرون الناس بشكرهم مع التباسهم بالبخل، فيكون في المعنى كقول الشاعر:
١٥٨١ - أجْمَعْتَ أَمْرَيْنِ ضاعَ الحَزْمُ بينهما | تِيْهَ الملوكِ وأفعالَ المماليكِ |
وفي البخل أربع لغات: فتح الخاء والباء وبها قرأ حمزة والكسائي،
قوله: ﴿رِئَآءَ الناس﴾ فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مفعول من أجله، وشروطُ النصب متوفرة. والثاني: أنه حالٌ من فاعل «ينفقون» يعني مصدراً واقعاً موقعَ الحال أي: مُرائين. والثالث: أنه حالٌ من نفسِ الموصولِ ذكره المهدوي. و «رئاءَ» مصدرٌ مضاف إلى المفعول.
قوله: ﴿وَلاَ يُؤْمِنُونَ﴾ فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مستأنف. والثاني: أنه عطف على الصلة، وعلى هذين الوجهين فلا محلَّ له من الإِعراب. والثالث: أنه حالٌ من فاعل «ينفقون». إلا أن هذين الوجهين الأخيرين أعني العطفَ على الصلة والحالية يمتنعان على الوجه المحكي عن المهدوي، وهو كونُ «رئاءَ» حالاً من نفس الموصول؛ لئلا يلزَم الفصلُ بين أبعاضِ الصلة أو بين الصلةِ ومعمولِها بأجنبي وهو «رثاءَ» ؛ لأنه حالٌ من الموصولِ لا تعلُّقَ له بالصلة، بخلاف ما إذا جَعَلْناه مفعولاً له أو حالاً من فاعل «ينفقون» فإنه على الوجهين معمولٌ ل «ينفقون» فليس أجنبياً، فلم يُبالَ بالفصل به.
قوله: ﴿فَسَآءَ قِرِيناً﴾ في «ساء» هذه احتمالان أحدهما: أنها نُقِلَتْ إلى الذمِّ فجرت مجرى «بئس»، ففيها ضميرٌ فاعل لها مفسَّرٌ بالنكرة بعده، وهي «قريناً»، والمخصوصُ بالذم محذوف أي: فساء قريناً هو، وهو عائدٌ: إما على الشيطان وهو الظاهر، وإما على «من» وقد تقدَّم حكمُ نعم وبئس. والثاني: أنها على بابها فهي متعدية ومفعولُها محذوفٌ، و «قريناً» على هذا منصوبٌ على الحال أو على القطع، والتقديرُ: فساءَه أي: فساءَ الشيطانُ مُصَاحِبَه.
واحتجوا للوجه الأول، بأنه كان ينبغي أن يَحْذِف الفاءَ من «فساء» أو تقترن به «قد» ؛ لأنه حينئذ فعل متصرفٌ ماض، وما كان كذلك ووقع جواباً للشرط تجرَّدَ من الفاءِ أو اقترن ب «قد»، هذا معنى كلام الشيخ. وفيه نظرٌ لقولِه تعالى: ﴿وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ﴾ [النمل: ٩٠] ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ﴾ [يوسف: ٢٧] فما يُؤَوَّلُ به هذا ونحوُه يتأوَّل به هذا. ومِمَّنْ ذهب إلى أنَّ «قريناً» منصوبٌ عل الحالِ ابنُ عطية، ولكن يحتمل أن يكونَ قائلاً بأنَّ «ساء» متعديةٌ، وأن يكونَ قائلاً برأي الكوفيين، فإنهم ينصبون ما بعد نعم وبئس على الحال.
قوله: ﴿وَإِن تَكُ حَسَنَةً﴾ حُذِفت النون تخفيفاً لكثرة الاستعمال، وهذه قاعدة كلية، وهو أنه يجوز حذفُ نون «يكون» مجزومةً، بشرطِ ألاَّ يليَها ضميرٌ متصل نحو: «لَم يَكُنْه» وألاَّ تُحَرَّك النون لالتقاء الساكنين نحو: ﴿لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ﴾ [البينة: ١] خلافاً ليونس، فإنه أجاز ذلك مستدلاً بقوله:
١٥٨٢ - وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ | ........................... |
١٥٨٣ - فإنْ لم تَكُ المِرْآةُ أَبْدَتْ وَسامةً | فقد أَبْدَتِ المرآةُ جَبْهَةَ ضَيْغَمِ |
وقرأ الجمهور «حسنةً» نصباً على خبر «كان» الناقصة، واسمها مستتر فيها
وقرأ ابن كثير وابن عامر: «يُضَعِّفْها» بالتضعيف، والباقون «يضاعفها». قال أبو عبيدة: «ضاعفه» يقتضي مراراً كثيرة، و «ضَعَّفَ» يقتضي مرتين، وهذا عكسُ كلام العرب؛ لأن المضاعفة تقتضي زيادة المثل، فإذا شدَّدْتَ دَلَّت البُنْية على التكثير، فيقتضي ذلك تكرير المضاعفة بحسَبِ ما يكون من العدد. وقال الفارسي: «هما لغتان بمعنًى، يدل عليه قولُه ﴿نُضَعِّفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ﴾ [الأحزاب: ٣٠] ﴿فَيُضَعِّفُهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾ [البقرة: ٢٤٥] وقد تقدم لنا الكلام على هذا بأبسطَ منه هنا. وقرأ ابن هرمز:» نضاعِفْها «بالنون، وقرىء» يُضْعِفْها «بالتخفيف مِنْ أضعفه مثل أكرم.
قوله: ﴿مِن لَّدُنْهُ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب» يُؤْتِ «و» من «للابتداء مجازاً. والثاني: يتعلَّق بمحذوف على أنه حال من» أجراً «فإنه صفةُ نكرةٍ في الأصلِ قُدِّم عليها فانتصب حالاً.
قوله: ﴿مِن كُلِّ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب «جئنا». والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «شهيد»، وذلك على رأي مَنْ يجوُّزُ تقديمَ حالِ المجرور بالحرف عليه، وقد تقدم تحريره. والمشهودُ عليه محذوفٌ أي: بشهيد على أمته/.
والمِثْقال: مِفْعَال من الثِّقَل وهو زِنَةُ كل شيء، والذَّرَّة: النملة الصغيرة، وقيل: رأسُها، وقيل: الخَرْدَلة، وقيل: جزء الهَباءَة، وعن ابن عباس: أنه أَدْخَلَ يده في التراب ثم نَفَخَها وقال: «كلُّ واحدةٍ منه ذرةٌ» والأولُ هو المشهور؛ لأن النملة يُضْرَبُ بها المثل في القلة، وأصغرُ ما تكون إذا مَرَّ عليها حَوْلٌ، قالوا لأنها حينئذ تَصْغُر جداً، قال حسان:
١٥٨٤ - لو يَدِبُّ الحَوْلِيُّ مِنْ وَلَدِ الذَّرْ | رِ عليها لأنْدَبَتْها الكُلُومُ |
١٥٨٥ - مِن القاصِراتِ الطَرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ | من الذَرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا |
والثالث: أن» يوم «مبني لإضافته إلى» إذ «قاله الحوفي، قال: لأنَّ الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤُه معه. و» إذ «هنا اسمٌ؛ لأنَّ الظروفَ
والتنوينُ في «إذ» تنوينُ عوضٍ على الصحيح، فقيل: عوض من الجملة الأولى في قوله ﴿جِئْنَا مِن كُلِّ﴾ أي: يومَ إذْ جِئْنا من كل أمة بشهيد، وجِئْنا بك على هؤلاء شهيداً، والرسولُ على هذا اسم جنس. وقيل: عوضٌ من الجملةِ الأخيرة، وهي «وجِئْنا بك»، ويكون المراد بالرسول محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان النظم «وعَصَوْك» ولكنْ أُبْرِزَ ظاهراً بصفةِ الرسالةِ تنويهاً بقَدْرِهِ وشَرَفِه.
وفي قوله: ﴿وَعَصَوُاْ﴾ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها جملة معطوفة على «كفروا» فتكونُ صلةً، فيكونون جامعين بين كفرٍ ومعصية. وقيل: بل هي صلةٌ لموصول آخر فيكونون طائفتين. وقيل: هي في محل نصب على الحال من «كفروا» و «قد» مرادةٌ أي: وقد عصوا. وقرأ يحيى وأبو السمَّال: «وعَصَوا الرسول» بكسر الواو على الأصل.
قوله: ﴿لَوْ تسوى﴾ إنْ قيل: إنَّ «لو» على بابها كما هو قول الجمهور فمفعول «يود» محذوف أي: يود الذين كفروا تسويةَ الأرض [بهم]، ويدلُّ عليه: ﴿لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض﴾ وجوابها حينئذ محذوف أي: لَسُرُّوا بذلك. وإنْ قيل: إنها مصدرية كانت هي وما بعدها في محل مفعول «يود» ولا جوابَ لها حينئذٍ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ﴾ [البقرة: ٩٦] قال أبو البقاء «
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم «تُسَوَّى» بضم التاء وتخفيف السين مبنياً للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي: تَسَوَّى بفتحِها والتخفيفِ، ونافع وابن عامر بالتثقيل. فأما القراءة الأولى فمعناها: أنهم يَوَدُّون أن الله تعالى يُسَوِّي بهم الأرض: إمَّا على أن الأرض تنشق وتبتلعهم، وتكون الباء بمعنى «على»، وإمَّا على أنهم يَوَدُّون أن لو صاروا تراباً كالبهائم، والأصل: يَوَّدون أن الله يُسَوِّيهم بالأرض، فَقُلِب إلى هذا كقولهم: «أدخلت القَلَنْسوة في رأسي»، وإمَّا على أنهم يودُّون لو يُدْفَنون فيها، وهو كمعنى القولِ الأول، وقيل: لو تُعْدَلُ بهم الأرض أي: يُؤْخَذُ ما عليها منهم فديةً.
وأمَّا القراءة الثانية فأصلُها «تَتَسَوَّى» بتاءين، فحذفت إحداهما. وفي الثالثة حُذِفت أحداهما. ومعنى القراءتين ظاهرِ مِمَّا تقدَّم، فإن الأقوال الجارية في القراءةِ الأولى جاريةٌ في القراءتين الأُخْرَيَيْن، غايةُ ما في الباب أنه نَسَب الفعلَ إلى الأرض ظاهراً.
قوله: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ﴾ فيه ستةُ أوجهٍ، وذلك أنَّ هذه الواوَ تحتمل أن تكونَ للعطفِ وأن تكون للحالِ: فِإنْ كانت للعطفِ احتمل أن يكون من عطف المفردات، وأن يكونَ من عطف الجمل، إذا تقرر هذا فيجوز أن [يكون] ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ﴾ عطفاً على مفعول «يود» أي: يَوَدُّون تسويةَ الأرض بهم وانتفاءَ
ويجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على جملة «يَوَدُّ»، أَخْبَرَ تعالى عنهم بخبرين أحدُهما: الوَدادة لكذا، والثاني: أنهم لا يَقْدِرُون على الكتم في مواطنَ دونَ مواطنَ، و «لو» على هذا مصدريةٌ، ويجوزُ أن تكونَ «لو» حرفاً لِما كان سيقع لوقوعِ غيره، وجوابُها محذوفٌ، ومفعولُ «يود» أيضاً محذوفٌ، ويكون «ولا يكتمون» عطفاً على «لو» وما في حَيِّزها، ويكونُ تعالى قد أخْبَرَ عنهم بثلاثِ جمل: الوَدادةِ وجملةِ الشرط ب «لو» وانتفاءِ الكتمان، فهذان أيضاً وجهان على تقدير كونه من عطف الجمل.
وإنْ كانَتْ للحالِ جاز أن تكونَ حالاً من الضمير في «بهم»، والعامل فيها «تُسَوَّى»، ويجوزُ في «لو» حينئذٍ أَنْ تكونَ مصدريةً وأن تكون امتناعيةً، والتقديرُ: يَوَدُّون تسويةَ الأرضِ بهم غيرَ كاتمين، أو: لو تُسَوَّى بهم غيرَ كاتمين لكان بغيتَهم، ويجوز أن تكون حالاً من ﴿الذين كَفَرُواْ﴾، والعاملُ فيها «يود»، ويكونُ الحال قيداً في الوَدادةِ، و «لو» على هذا مصدريةٌ في محلِّ مفعولِ الودادة، والمعنى: يومئذ يود الذين كفروا تسوية الأرض بهم غير كاتمين الله حديثاً، ويبعد أن تكون «لو» على هذا الوجه امتناعيةً للزوم الفصل بين الحال وعاملها بالجملة. و «يكتمون» يتعدى لاثنين، والظاهر أنه يصل إلى أحدهما بالحرف، والأصل: ولا يكتمون من الله حديثاً.
وقرأ الأعمش:» سُكْرى «بضم السين وسكون الكاف/، وتوجيهُها أنها صفةٌ على فُعْلى كحُبْلى، وقعت صفةً لجماعةٍ أي: وأنتم جماعةٌ سُكْرى. وحَكى جناح بن حبيش:» كُسْلى وكَسْلى «بضم الكاف وفتحها. قاله الزمخشري. وقرأ النخعي:» سَكْرى «بفتح السين وسكون الكاف، وهذه تحتمل وجهين، أحدُهما: ما تقدَّم في القراءة قبلها وهو أنها صفةٌ مفردةٌ على فَعْلى كامرأةٍ سَكْرى وُصِفَ بها الجماعة. والثاني: أنها جمعُ تكسيرٍ كجَرْحى ومَوْتى وهَلْكى، وإنما جَمْعُ سَكْران على» فَعْلى «حملاً على هذه؛ لِما فيه من الآفةِ اللاحقةِ للفعلِ، وقد تقدَّم لك شيء من هذا في قولهِ في البقرة عند قولِه: ﴿وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى﴾ [الآية: ٨٥]، وقُرىء» سَكارى «بفتحِ السينِ، والألفِ، وهذا جمعُ تكسيرِ نحو: نَدْمان ونَدامى وعَطْشان وعَطاشَى.
والسُّكْر لغةً: السَّدُّ، ومنه قيل لِما يَعْرِضُ للمرءِ مِنْ شرب المُسْكِر؛ لأنه
١٥٨٦ - سُكْرانِ سُكْرُ هوىً وسُكْرُ مُدامَةٍ | أنَّى يُفيقُ فتىً به سُكْرانِ |
١٥٨٧ - فما زِلْنَا على السُّكْرِ | نُداوي السُّكْرِ بالسُّكْرِ |
قوله: ﴿حتى تَعْلَمُواْ﴾ » حتى «جارةٌ بمعنى» إلى «، فهي متعلقة بفعلِ النهي، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار» أَنْ «، وتقدَّم تحقيقُه.
و «ما» يجوزُ فيها ثلاثة أوجه: أن تكونَ بمعنى الذي، أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ على هذين القولين محذوفٌ أي: يقولونه، أو مصدريةً فلا حَذْفَ إلا على رأيِ ابنِ السراجِ ومَنْ تَبِعه.
قوله: ﴿وَلاَ جُنُباً﴾ نصبٌ على أنه معطوفٌ على الحال قبله، وهو قوله ﴿وَأَنْتُمْ سكارى﴾، عَطَفَ المفردَ على الجملةِ لَمَّا كانَتْ في تأويلِه، وأعادَ معها «
والجُنُبُ: مشتقٌ من الجَنابة وهي البُعْد قال:
١٥٨٨ - فلا تَحْرِمَنِّي نائلاً عن جَنابَةٍ | فإني امرؤٌ وَسْطَ القِبابِ غريبُ |
قوله: ﴿إِلاَّ عَابِرِي﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على الحال، فهو استثناء مفرغ، والعامل فيها فعل النهي، والتقدير: لا تقربوا الصلاةَ في حال الجنابة، إلا في حال السفر أو عبور المسجد، على حَسَب القولين. وقال الزمخشري: ﴿إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ استثناءٌ من عامة أحوالِ المخاطبين، وانتصابُه على الحالِ. فإنْ قلت: كيف جَمَع بين هذه الحالِ والحالِ التي قبلها؟ قلت: كأنه قيل: لا تقربوا الصلاةَ في حالِ الجنابة إلا ومعكم حالٌ أخرى تُعْذَرُون فيها وهي حال السفر، وعبُور السبيلِ عبارةٌ عنه «. والثاني: أنه منصوب على أنه صفةٌ لقوله:» جُنُباً «وصفَة ب» إلا «بمعنى» غير «فظهر الإِعرابُ فيما بعدها، وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ عند قولِه تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ
والعُبور: الجوازُ، ومنه:» ناقةٌ عُبْرُ الهَواجِر «قال:
١٥٨٩ - عَيْرانَةٌ سُبُحُ اليدينِ شِمِلَّةٌ | عُبْرُ الهواجرِ كالهِزَفِّ الخاضِبِ |
و «منكم» في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ ل «أحد»، فيتعلق بمحذوف و «من الغائط» متعلِّقٌ ب «جاء»، فهو مفعولُه. وقرأ الجمهور: «الغائِط» بزنة فاعِل، وهو المكانُ المطمئِنُّ من الأرض، ثم عَبَّر به عن نفسِ الحدثِ كنايةً للاستحياء مِنْ ذكره، وفَرَّقت العرب بين الفعلين منه، فقالت: «غاطَ في
قوله: ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ﴾ الفاءُ عَطَفَتْ ما بعدهَا على الشرط. وقال أبو البقاء: «على جاء»، لأنه جَعَل «جاء» عطفاً على «كنتم» فهو شرط عنده. والفاءُ في قوله «فتيمَّموا» هي جوابُ الشرط، والضمير في «تَيَمَّموا» لكلِّ مَنْ تقدَّم من مريضٍ ومسافرٍ ومتغوِّط وملامس أو لامس، وفيه تغليبٌ للخطابِ على الغَيْبَةِ، وذلك أنه تقدَّم غيبة في قوله: ﴿أَوْ جَآءَ أَحَدٌ﴾ وخطابُ في «كنتم» و «لمستم» فَغَلَّب الخطابَ في قوله «كنتم» وما بعده عليه. وما أحسنَ ما أتى هنا بالغيبة لأنه كنايةٌ عما يُسْتحيا منه فلم يخاطِبْهم به، وهذا من محاسِنِ الكلام، ونحُوه: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٨٠]. و «وَجَد» هنا بمعنى «لَقِي» فتعدَّت لوَاحد.
١٥٩٠ - وما الدهرُ إلا تارتانِ فمِنْهما | أموتُ وأُخْرى أبتغي العيشَ أكدحُ |
الثاني: قول الفراء وهو أنَّ الجارَّ والمجرور خبرٌ مقدم أيضاً، ولكنَّ المبتدأَ المحذوفَ يقدِّرُه موصولاً تقديره: «من الذين هادوا مَنْ يحرفون»، ويكون قد حَمَل على المعنى في «يُحَرِّفون»، قال الفراء: «ومثله:
١٥٩١ - فَظَلُّوا ومنهم دَمْعُه سابقٌ له | وآخرُ يَثْني دمعةً العينِ باليدِ |
الثالث: أنَّ «مِن الذين» خبرُ مبتدأ محذوف أي: هم الذين هادوا، و «يُحَرِّفون» على هذا حالٌ من ضمير «هادوا». وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ يكونُ الكلامُ قد تَمَّ عند قوله «نصيراً».
الرابع: أن يكونَ «من الذين» حالاً من فاعل «يريدون» قاله أبو البقاء، ومَنَع أن يكونَ حالاً من الضمير في «أوتوا» ومن «الذين» أعني في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ﴾ قال: «لأنَّ الحال لا تكونُ لشيءٍ واحد إلا بعطفِ بعضِها على بعض». قلت: وهذه مسألةٌ خلافٍ، من النحويين مَنْ مَنَع، ومنهم مَنْ جَوَّز وهو الصحيح.
الخامس: أنَّ «مِن الذين» بيانٌ للموصولِ في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ﴾ لأنهم يهودٌ ونصارى فبيَّنهم باليهودِ، قال الزمخشري، وفيه نظرٌ من حيث إنه قد فُصِل بينهما بثلاثِ جمل وهي: «والله أعلم» إلى آخره، وإذا كان الفارسي قد مَنَعَ الاعتراضَ بجملتين فما بالُك بثلاث!! قاله الشيخ، وفيه نظرٌ فإنَّ الجمَلَ هنا متعاطفةٌ، والعطفُ يُصَيِّر الشيئين شيئاً واحداً.
السابع: أنه متعلِّقٌ ب «نصيراً»، وهذه المادةُ تتعدَّى ب «من». قال تعالى:
﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم﴾ [الأنبياء: ٧٧] ﴿فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله﴾ [غافر: ٢٩] على أحدِ تأويلين: إمَّا على تضمينِ النصرِ معنى المنع أي: منعناه من القوم، وكذلك: وكفى بالله مانعاً بنصرِه من الذين هادوا، وإمَّا على جَعْلِ «مِنْ» بِمعنى «على» والأولُ مذهبُ البصريين. فإذا جعلنا «من الذين» بياناً لِما قبله فبِمَ يتعلَّق؟؟ والظاهرُ أنه يتعلق بمحذوف، ويَدُلُّ على ذلك أنهم قالوا في «سُقيْاً لك» : إنَّ «لك» متعلق بمحذوف لأنه بيانٌ.
وقال أبو البقاء: «وقيل: هو حالٌ من» أعدائكم «أي: واللهُ أعلمُ بأعدائِكم كائنين من الذين هادوا، والفصلُ بينهما مُسَدِّد فلم يمنعْ من الحال». فقوله هذا يُعْطي أنه بيانٌ لأعدائكم مع إعرابِه له حالاً فيتعلَّق بمحذوف، لكن لا على ذلك الحذفِ المقصودِ في البيان.
وقد ظهر مِمَّا تقدَّم أنَّ «يُحَرِّفون» : إمَّا لا محلَّ له، أو له محلُّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسْبِ ما تقدم. وقرأ أبو رجاء والنخعي: «الكلام» وقرىء «الكِلْم» بكسر الكاف وسكون اللام جمع «كِلْمة» مخففة من كَلِمة، ومعانيهما متقاربةٌ.
و ﴿عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ متعلِّقٌ ب «يُحَرِّفون»، وذكَّر الضمير في «مواضعه» حَمْلاً على «الكَلِم» لأنها جنسٌ.
وقال أيضاً: «والظاهرُ أنهم حيث وُصِفوا بشدةِ التمرُّدِ والطغيانِ وإظهارِ العداوةِ واشتراءِ الضلالةِ ونَقْضِ الميثاق جاء ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ كأنهم حَرَّفوها من أولِ وهلةٍ قبل استقرارها في مواضعها وبادَرُوا إلى ذلك، ولذلك جاء أَوَّلُ المائدة كهذهِ الآيةِ حيث وصفهم بنقضِ الميثاق وقسوةِ القلوب، وحيث وُصِفوا باللين وترديدِ الحكم إلى الرسول جاء ﴿مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ كأنهم لم يبادِروا إلى التحريفِ، بل عرض لهم بعد استقرارِ الكلمِ في مواضعِها فهما سياقان مختلفان».
وقال أبو البقاء: «وقيل: أرادوا غيرَ مسموعٍ منك»، وهذا القولُ نَقَله ابن عطية عن الطبري، وقال: «إنه حكايةٌ عن الحسن ومجاهد». قال ابن عطية: «ولا يساعِدُه التصريف» يعني أن العرب لا تقول: «أَسْمَعْتُك» بمعنى قَبْلْتُ منك، وإنما تقول: «أسْمَعْتُه» بمعنى سَبَبْتُه، و «سمعت منه» بمعنى: قَبِلْتُ منه، يُعَبِّرون بالسماع لا بالإِسماع عن القَبولِ مجازاً، وتقدَّم القولُ في ﴿رَاعِنَا﴾ [الآية: ١٠٤] في البقرة.
قوله: ﴿لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً﴾ فيهما وجهان أحدهما: أنهما مفعولٌ من أجله ناصبُهما: «ويقولون». والثاني: أنهما مصدران في موضع الحال أي: لاوينَ وطاعنِين. وأصل لَيّاً: «لَوْيٌ» من لوى يَلْوي، فأُدْغِمَتِ الواوُ في الياء
قوله: ﴿لَكَانَ خَيْراً﴾ فيه قولان، أظهرُهما: أنه بمعنى أفعل، ويكونُ المفضَّلُ عيه محذوفاً، أي: لو قالوا هذا الكلامَ لكان خيراً من ذلك الكلامِ. والثاني: أنه لا تفضيلَ فيه، بل يكون بمعنى جيد وفاضل، فلا حَذْفَ حينئذ، والباءُ في «بكفرِهم» للسببية.
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ فيه ثلاثةُ أوجه: أحدُها: أنَّه منصوبٌ على الاستثناءِ من «لَعَنَهم» أي: لَعَنَهم الله إلا قليلاً منهم، فإنهم آمنوا فلم يَلْعَنْهم. والثاني: أنه مستثنى من الضميرِ في «فلا يؤمنون» والمرادُ بالقليلِ عبد الله بن سلام وأضرابه. ولم يستحسن مكي هذين الوجهين: أمَّا الأول قال: لأنَّ مَنْ كَفَر ملعون لا يستثنى منهم أحدٌ. وأمَّا الثاني: فلأنَّ الوجهَ الرفعُ على البدلِ؛ لأنَّ الكلامَ غير موجبٍ «. والثالث: أنه صفةٌ/ لمصدرٍ محذوفٍ أي: إلا إيماناً قليلاً، وتعليلُه هو أنهم آمنوا بالتوحيدِ وكفروا بمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشريعته.
وعَبَّر الزمخشري وابن عطية عن هذا التقليل بالعدمِ، يعني أنهم لا يؤمنون البتة، كقوله:
١٥٩٢ - قليلٌ التشكِّي للمُهِمِّ يُصيبه | ...................... |
١٥٩٣ - من كلِّ نَضَّاخةِ الذِّفْرى إذا عَرِقَتْ | عُرْضَتُها طامِسُ الأعلامِ مجهولُ |
وقوله: ﴿على أَدْبَارِهَآ﴾ فيه وجهان، أظهرُهما: أنه متعلق ب «نَرُدَّها». والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف؛ لأنه حال من المفعول في «نردَّها» قاله أبو البقاء، وليس بواضح.
قوله: «أو نلعَنهم» عطفٌ على «نَطْمِسَ»، والضميرُ في «نلعنهم» يعودُ على الوجوه، «على حَذْفِ مضافٍ إليه»، أي: وجوه قوم، أو على أن يُرادَ بهم الوُجَهاءُ والرؤساءُ، أو يعودُ على الذين أوتوا الكتاب، ويكون ذلك التفاتاً من خطابٍ إلى غيبة، وفيه استدعاؤُهم للإِيمان، حيث لم يواجِهْهم باللعنةِ بعد أَنْ شَرَّفهم بكونهم من أهل الكتاب. وقوله: ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله﴾ : أمرٌ واحدٌ أُريد به الأمورُ. وقيل: هو مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به أي: مأمورُه أي: ما أَوْجَدَه كائنٌ لا محالةَ.
وقوله: ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ﴾ يجوز أن يكونَ حالاً مِمَّا تقدَّم، وأَنْ يكونَ مستأنفاً، والضميرُ في» يُظْلمون «يجوز أن يعودَ على مَنْ يشاء» أي: لا يُنْقِصُ من تزكيتهم شيئاً، وإنما جَمَع الضميرَ حَمْلاً على معنى «مَنْ»، وأن يعودَ على الذين يُزَكُّون، وأن يعود على القبيلين: مَنْ زكَّى نفسَه ومَنْ زكَّاه الله، فذاك لا يُنْقِصُ من عقابِه شيئاً، وهذا لا يُنْقِصُ من ثوابِه شيئاً. والأولُ أظهرُ؛ لأن «مَنْ» أقربُ مذكورٍ، ولأنَّ «بل» إضرابٌ منقطعٌ ما بعدها عَمَّا قبلها. وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أن يكونَ مستأنفاً أي: مَنْ زَكَّى نفسَه، ومَنْ زَكَّاه الله» انتهى، فَجَعَلَ عود الضميرِ على الفريقين بناءً على وجهِ الاستئنافِ، وهذا غيرُ لازمٍ، بل يجوزُ عَوْدُه عليهما والجملةُ حاليةٌ.
و ﴿فَتِيلاً﴾ مفعولُ ثانٍ، لأنَّ الأولَ قام مقامَ الفاعلِ، ويجوز أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، كما تقدَّم تقريرُه في ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: ٤٠]. والفتيل: خيط رقيق في شِقِّ النَّواة، يُضْرب به المَثَلُ في القلة، وقيل: هو ما خرج من بين إصبعيك أو كفَّيْك من الوسخ حين تفتلهما، فهو فعيل بمعنى مفعول، وقد ضَرَبَتِ العربُ المثلَ في القلة التافهة بأربعة أشياء اجتمعن في النواة، وهي: الفتيل والنقير وهو النُّقْرة التي في ظَهر النَّواة والقِطْمير وهو القشر الرقيق فوقها وهذه الثلاثةُ واردةٌ في الكتابِ العزيز، والثُّفْروق وهو ما بين النواة والقِمْع الذي يكون في رأس التمرة كالعِلاقة بينهما.
والجِبْتُ: هو الجِبْسُ بالسينِ المهملةِ، أُبْدِلَتْ تاءً، كالنات والأكيات وست
١٥٩٤ -........... | شرارُ الناتِ ليسوا بأجوادٍ ولا أَكْياتِ |
و ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ في محلِّ نصبٍ صفةً ل «جنات» وقرأ بالنخعي «سَيُدْخِلُهم» وكذلك «ويُدْخِلُهم ظِلاًّ» بياء الغَيْبة، رَدَّاً على قوله: ﴿إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً﴾ والجمهورُ بالنون رَدًّاً على قوله ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ﴾ و «خالدين» يجوزُ فيه ثلاثة أوجه، أحدهما: أنه حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في «سَنُدْخِلُهم»، والثاني: أجازه أبو البقاء أن يكونَ حالاً من «جنات» قال: «لأنَّ فيها ضميراً لكل واحدٍ منهما، يعني أنه يجوزُ أن يكونَ حالاً من مفعول» سندخلهم «كما تقدم، أو من» جنات «لأن في الحال ضميرين أحدُهما: المستتر في» خالدين «العائدُ على الذين آمنوا، والآخر: المجرور ب» في «العائد على» جنات «فصحَّ أن يُجعل حالاً من كل واحد لوجود الرابط وهو الضمير. وهذا الذي قالَه فيه نظرٌ لا يَخْفى من وجهين، أحدهما: أنه يصيرُ المعنى: أنَّ الجناتِ خالداتٌ في أنفسِها، لأنَّ الضميرَ في» فيها «عائدٌ عليها، فكأنه قيل: جناتٌ خالداتٌ في الجناتِ أنفسِها. والثاني: ان هذا الجمعَ شرطُه العقلُ، ولو أُريد ذلك لقيل: خالدات. والثالث. أن يكون صفةً
فإنْ قلت: فلْتكُنْ المسألةُ الأولى كذلك، أعني أنك إذا جعلت «خالدين» حالاً من «جنات» فيكونُ حالاً منها لفظاً وهي لغيرِها، معنى، ولم يَبْرُز الضميرُ عل رأي الكوفيين، ويَصِحُّ قولُ أبي البقاء فالجواب أن هذا لو قيل به لكان جيداً، ولكن لا يَدْفَعُ الردَّ عن أبي البقاء، فإنه خصص مذهبَ الكوفيين بوجه الصفة دون الحال. وقوله ﴿لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ﴾ مبتدأ وخبر، ومحلُّ هذه الجملة: إمَّا النصبُ أو الرفع، فالنصبُ: إمَّا على الحال من «جنات» أو من الضمير في «سندخلهم»، وإمَّا على كونها صفةً ل «جنات» بعد صفة. والرفعُ على أنه خبر بعد خبر.
والظاهرُ أنَّ قوله: ﴿أَن تَحْكُمُواْ﴾ معطوفٌ على أَنْ تُؤَدُّوا «أي: يأمركم بتأديةِ الأماناتِ وبالحكمِ بالعدلِ، فيكونُ قد فصل بين حرف العطف
١٥٩٥ - يوماً تَراها كشِبْه أَرْدِيَةِ ال | عَضْب ويوماً أَدِيمَها نَغِلا |
وقال صاحب هذا القول: إن المعطوف عليه إذا كان مجروراً بحرف أُعيد ذلك الحرفُ مع المعطوفِ نحو: «امرُرْ بزيدٍ وغداً بعمروٍ» وهذه الشواهدُ لا دليلَ فيها: أمَّا «في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً» وقوله: «وجَعَلْنَا من بينِ أيديهم» فلأنَّه عَطَفَ شيئين على شيئين: عَطَفَ «الآخرة» على «الدنيا» بإعادة الخافضِ، وعَطَفَ «حسنةً» الثانيةَ على «حسنةً» الأولى،
وأمَّا «فبشَّرناها بإسحاق» ف «يعقوب» ليس مجروراً عطفاً على «إسحاق» بل منصوباً بإضمار فعل أي: ووهبا لها يعقوب، ويدل عليه قراءة الرفع فإنها مؤذنةٌ بانقطاعِه من البشارة به، كيف وقد تقدَّم أنَّ هذا القائَل يقول: إنه متى كان المعطوفُ عليه مجروراً؟ أُعيد مع المعطوفِ الجارُّ. وأمَّا ﴿أَن تُؤدُّواْ الأمانات﴾ فلا دلالة فيها أيضاً لأنَّ «إذا» ظرفٌ لا بدل له من عامل، وعاملُه: إمَّا «أَنْ تَحْكُموا» وهو الظاهرُ / من حيث المعنى، وإمَّا «يأمُركم»، فالأول ممتنعٌ وإنْ كان المعنى عليه؛ لأنَّ ما في حَيِّزِ الموصول لا يتقدَّمُ عليه عند
٤٥٩٦ - كان جَزائي بالعصا أَنْ أُجْلَدا... وقد جاء ذلك في المفعول الصريح في قوله:
١٥٩٧ -............ | وشفاءُ غَيِّك خابراً أَنْ تَسْألي |
قوله: ﴿بالعدل﴾ يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق ب» تحكموا «فتكونَ الباءُ للتعدية. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من فاعل» تَحْكُموا «فتكونَ الباءُ للمصاحبَة اي: ملتبسين بالعدل مصاحبين له، والمعنيان متلازمان.
قوله: ﴿إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ قد تقدَّم الكلامُ على» ما «المتصلة ب» نعم «وبئس» وما ذكر الناسُ فيها فعليك بمراجعته. إلا أن ابن عطية
١٥٩٨ - وإنَّا لَمِمَّا نضربُ الكبشَ ضربةً | على رأسِه تُلْقي اللسانَ من الفم |
١٥٩٩ - فإنْ تَزْعُميني كنتُ أجهلُ فيكُمُ | فإني شَرَيْتُ الحِلْمَ بعدَك بالجَهْل |
١٦٠٠ - ونُبِّئْتُ قيساً ولم أَبْلُه | كما زعموا خيرَ أهلِ اليمنْ |
١٦٠١ - زَعَمَتْني شيخاً ولستُ بشيخٍ | إنما الشيخُ مَنْ يَدِبُّ دبيباً |
قوله: ﴿أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً﴾ في «ضلالاً» ثلاثة أقوال، أحدهما: أنه مصدر على غير الصدر نحو: ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ٣] والأصل «إضلال» و «إنبات» فهو اسمٌ مصدر لا مصدر. والثاني: أنه مصدرٌ لمطاوع «أَضلَّ» أي: أضَلَّهم فضلُّوا ضلالاً. والثالث: أن يكون من وَضْعِ أحد المصدرين موضعَ الآخر. وقد تقدم الكلامُ على «تعالوا» في آل عمران وما قال الناس فيها، وقراءةِ الحسن وتوجيهِها فعليك بالالتفات إليه.
١٦٠٢ - قنافِذُ هَدَّاجون حولَ بيوتِهم | بما كان إيَّاها عطيَّةُ عَوَّدا |
قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ﴾ قد تقدَّم الكلامُ على» أنَّ «الواقعةِ بعد» لو «و» إذ «ظرفٌ معمولٌ لخبر» أنَّ «وهو» جاؤوك «وقال: ﴿واستغفر لَهُمُ الرسول﴾ ولم يَقُلْ» واستغفرت «خروجاً من الخطاب إلى الغَيْبة؛ لِما في هذا
١٦٠٣ - فلا واللَّهِ لا يُلْفَى لِما بي | ولا لَلِما بهم أبداً دواءُ |
و ﴿مِّمَّا قَضَيْتَ﴾ فيه وجان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بنفس «حرجاً» ؛ لأنك تقول: «خَرَجْتُ من كذا» والثاني: أنه متعلق بمحذوف، فهو في محلِ نصبٍ لأنه صفة ل «حرجاً» و «ما» يجوز أن تكونَ مصدريةً، وأن تكون بمعنى الذي، أي: حرجاً من قضائك، أومن الذي قضيته، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، فالعائدُ على هذين القولين محذوف.
وقرأ أبو عمرو بكسرِ نون «أَنْ»، وضم واو «أو» وكسرهما حمزة وعاصم، وضَمَّهما باقي السبعة، فالكسرُ على أصل التقاء الساكنين، والضمُّ للإتباع للثالث، إذ هو مضمومٌ ضمةً لازمة، وإنما فَرَّق أبو عمرو لأن الواوَ أختُ الضمةِ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرة عند قوله: ﴿فَمَنِ اضطر﴾ [الآية: ١٧٣].
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ رفعُهُ من وجهين، أحدهما: أنه بدلٌ من فاعل «فَعَلوه» وهو المختارُ على النصب؛ لأن الكلامَ غيرُ موجبٍ، الثاني: أنه معطوفُ على ذلك الضمير المرفوع، و «إلاَّ» حرفُ عطف، وهذا رأي الكوفيين، ولهذه المسألةِ موضوعٌ غير هذا. وقرأ ابن عامر وجماعة: «إلا قليلاً» نصباً وفيه وجهان، أشهرُهما: أنه نصب على الاستثناء وإن كان الاختيارُ الرفَع؛ لأنَّ المعنى موجودٌ معه كما هو موجود مع النصب، ويَزيدُ عليه بموافقة اللفظ. والثاني: أنه صفة لمصدر محذوف تقديرُه: «إلا فعلاً قليلاً» قاله الزمخشري، وفي نظرٌ، إذ الظاهرُ أنَّ «منهم» صفةٌ ل «قليلاً» ومتى حُمِل القليلُ على غير الأشخاص يَقْلَق هذا التركيب، إذلا فائدةَ حينئذ في ذِكْرِ «منهم».
قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ﴾ قد تقدَّم الكلام على نظير هذه المسألة في مواضع، «وما» في «ما يوعظون» موصولةٌ اسمية. والباءُ في «به» تحتمل أن تكونَ المعدِّيةَ دخلت على الموعوظ به، والموعوظُ به على هذا هو التكاليف من الأوامر والنواهي، وتُسَمَّى أوامرُ اللَّهِ تعالى ونواهيه مواعظَ لأنها مقترنةٌ
قوله: ﴿وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً﴾ في نصبِ» رفيقاً «قولان، أحدهما: أنه تمييزٌ، والثاني: أنه حالٌ، وعلى تقديرِ كونِه تمييزاً في احتمالان، أحدُهما: أن
والثاني: ألاَّ يكونَ منقولاً، فيكونُ نفسَ المميِّز، وتدخل عليه» مِنْ «وإنما أتى به هنا مفرداً لأحدِ معنيين: إمَّا لأنَّ الرفيقَ كالخليطِ والصديق في وقوعِها على المفردِ والمثنى والمجموع بلفظٍ واحدٍ، وإمَّا اكتفاءً بالواحد عن الجمعِ لفَهْمِ المعنى، وحَسَّن ذلك كونُه فاصلةً. ويجوز في» أولئك «أن يكونَ إشارةً إلى النبيين ومَنْ بعدهم، وأَنْ يكونَ إشارةً إلى مَنْ يُطِع اللَّهَ ورسولَه، وإنَّما جَمَع على معناها، وعلى هذا فيُحتمل أَنْ يقال: إنه راعى لفظ» مَنْ «فأفردَ في قوله» رفيقاً «ومعناها فجمع في قوله» أولئك «، إلا أن البَداءَةَ في ذلك بالحَمْل على اللفظ أحسنُ، وعلى هذا فيكونُ قد جَمَعَ فيها بين الحملِ على اللفظ في» يُطِعْ «ثم على المعنى في» أولئك «ثم على اللفظ في» رفيقاً «.
والجمهورُ على فتح الحاء وضم السين من «حَسُن» وقرأ أبو السمَّال بفتحِها وسكونِ السينِ تخفيفاً نحو «عَضْد» في «عَضُد» وهي لغة تميم، ويجوز: «وحُسْن» بضم الحاء وسكون السين، كأنهم نقلوا حركة العينِ إلى الفاء بعد سَلْبِها حركتَها وهذه لغةُ بعض قيس.
وجَعَل الزمخشري هذا من بابِ التعجب فإنه قال: «فيه معنى
١٦٠٤ - فلمَّا جَلاها بالأُيام تَحيَّزَتْ | ثباتاً عليها ذُلُّها واكتئابُها |
و» ثباتٍ «جمعُ ثُبَة ووزنُها في الأصلِ: فُعَلة كحُطَمة، وإنما حُذِفت لامُها وعُوِّض منها تاءُ التأنيث، وهل لامُها واو أو ياء؟ قولان حجة القول الأول أنها مشتقة من ثَبا يَثْبوا كخلا يَخْلو أي: اجتمع، وحجةُ الثاني أنها مشتقةٌ من ثَبَيْتُ على الرجل إذا أثنيتُ عليه كأنك جمعت محاسنَة، وتُجمع بالألف والتاء وبالواو والنون، ويجوز في فائِها حين تُجمع على» ثُبين «الضمُّ والكسرُ، وكذا كل أشبهَها نحو:» قُلة «و» بُرة «ما لم تُجْمَعْ جمع تكسير. والثُّبَةُ: الجماعةُ من الرجال تكون فوق العشرة. وقيل: الاثنان والثلاثة، وتُصَغَّرُ على» ثُبَيَّة «بردِّ المحذوفِ، وأمَّا» ثُبَةُ الحوضِ «وهي وسَطُه فالمحذوفُ عينُها لأنها من باب يَثُوب الماءُ أي يَرْجِعُ، تُصَغَّر على» ثُوَيْبة «كقولك في تصغير سَنَة:» سُنَيْهة «.
والنَّفَر: الفَزَعُ، يقال: نَفَر إليه أي: فَزِع إليه، وفي مضارعه لغتان: ضمُّ العينِ وكسرُها، وقيل: يُقال: نَفَر الرجل يَنْفِر بالكسر، ونَفَرت الدابةُ تنفُر بالضم فَفَرَّقوا بينهما في المضارع، وهذا الفرق يَرُدُّه قراءة الأعمش» فانفُروا «» أو انفُروا «بالضم فيهما. والمصدرُ: النَّفير والنُّفور والنَّفْر، والنَّفَر: الجماعةُ كالقوم والرهط.
قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ﴾ » منكم «خبر مقدم ل» إنَّ «واسمُها» لَمَنْ «دخلت اللام على الاسم تأكيداً لَمَّا فُصِل بينه وبينها بالخبر،» ومَنْ «يجوزُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً، واللامُ في» لَيُبَطِّئَنْ «فيها قولان، أصحُّهما: انها
واستدلَّ بعضُ النحاةِ بهذه الآيةِ على أنه يجوز وصلُ الموصولِ بجملةِ القسمِِ وجوابِه إذا عَرِيَتْ جملةُ القسمِ من ضمير عائد على الموصول نحو: «جاء الذي أحلفُ باللَّهِ لقد قام أبوه» وجَعَلَه ردَّاً على قدماء النحاةِ حيث زعموا منعَ ذلك، ولا دَلالةً في ذلك، إذ لقائلٍ أن يقول: ذلك القسمُ المحذوفُ لا أقدِّرُه إلا مشتملاً على ضميرٍ عائدٍ الموصول.
والقول الثاني - نقله ابن عطية عن بعضِهم - أنها لام التأكيد بعد تأكيد، وهذا خطأُ من قائله. والجمهورُ على «لَيُبَطِّئَنْ» بتشديد الطاء، ومجاهد بالتخفيف، وعلى كلتا القراءتين يحتمل أن يكون الفعل لازماً ومتعدياً، يقال: أَبْطَأَ وبَطَّأَ بمعنى بَطُؤَ أي: تكاسل وتثبَّط، فهذان لازمان، وإنْ قَدَّر أنهما متعدِّيان فمفعولُهما محذوفٌ أي: ليبطِّئَنْ غيرَه أي: يُثَبِّطه ويُجْبِنُه عن القتال. و «إذا لم أكن» ظرفٌ ناصبُه «أنعم الله».
واستدلَّ بعضُ النحاةِ بهذه الآيةِ على أنه يجوز وصلُ الموصولِ بجملةِ القسمِِ وجوابِه إذا عَرِيَتْ جملةُ القسمِ من ضمير عائد على الموصول نحو :" جاء الذي أحلفُ باللَّهِ لقد قام أبوه " وجَعَلَه ردَّاً على قدماء النحاةِ حيث زعموا منعَ ذلك، ولا دَلالةً في ذلك، إذ لقائلٍ أن يقول : ذلك القسمُ المحذوفُ لا أقدِّرُه إلا مشتملاً على ضميرٍ عائدٍ الموصول.
والقول الثاني - نقله ابن عطية عن بعضِهم - أنها لام التأكيد بعد تأكيد، وهذا خطأُ من قائله. والجمهورُ على " لَيُبَطِّئَنْ " بتشديد الطاء، ومجاهد بالتخفيف، وعلى كلتا القراءتين يحتمل أن يكون الفعل لازماً ومتعدياً، يقال : أَبْطَأَ وبَطَّأَ بمعنى بَطُؤَ أي : تكاسل وتثبَّط، فهذان لازمان، وإنْ قَدَّر أنهما متعدِّيان فمفعولُهما محذوفٌ أي : ليبطِّئَنْ غيرَه أي : يُثَبِّطه ويُجْبِنُه عن القتال. و " إذا لم أكن " ظرفٌ ناصبُه " أنعم الله ".
قوله: ﴿كَأَن لَّمْ تَكُنْ﴾ هذه «كَأَنْ» المخففةُ من الثقيلة، وعملُها باقٍ عند
١٦٠ - ٥- وصدرٍ مشرقِ النَّحْرِ | كَأَنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ |
١٦٠ - ٦- ويوماً تُوافينا بوجهٍ مُقَسَّمٍ | كأنْ ظبيةٍ تَعْطُوا إلى وارِق السَّلَمْ |
١٦٠ - ٧- لا يَهُولَنْكَ اصطلاُؤكَ للحَرْ | بِ فمحذورُها كَأَنْ قد أَلَمَّا |
١٦٠ - ٨- بَدَّدَتْ منها الليالِي شَمْلَهمْ | فكأنْ لمَّا يكونوا قبلُ ثَمّْ |
وقرأ ابن كثير وحفص «يَكُنْ» بالياءِ، لأن المودة في معنى الودِّ، ولأنه قد فُصِل بينها وبين فِعْلِها، والباقون بالتاء اعتباراً بلفظِها. و «يكون» تحتمل أنْ تكونَ تامةً، فيتعلق الظرفُ بها أو بمحذوف؛ لأنه حالٌ من «مودة» إذ هو في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها، وأَنْ تكونَ ناقصةً فيتعلَّقُ الظرفُ بمحذوفٍ على أنه خبرها.
واختلف الناسُ في هذه الجملةِ - على ثلاثةِ أقوال: الأول: أنها
وردَّ الراغب الأصبهاني هذا القول بأنه مستقبح / لأنه لا يُفْصَلُ بين بعضِ الجملة وبعضِ ما يتعلَّق بجملةٍ أخرى. قلت: هذا من الزجاج كأنه تفسير معنى لا إعراب، يدل على ذلك ما أذكُره عنه من تفسير الإِعراب. الثاني من الوجهين: أن تكونَ معترضةً بين القولِ ومفعولِه، والأصل: «ليقولَنَّ يا ليتني كنتُ معهم كأن لم تَكُنْ» وعلى هذا أكثر الناس، ولكن اختلفَتْ عبارتُهم في ذلك، ولا يظهر المعنى إلا بنقل نصوصِهم فَلْنَنْقلها. فقال الزمخشري: «اعتراضٌ بين الفعل الذي هو» ليقولَنَّ «وبين مفعولِه وهو» ياليتني «والمعنى: كأن لم يتقدم له معكم مودةٌ؛ لأن المنافقين كانوا يُوادُّون المؤمنين في الظاهر، وإن كانوا يبغون لهم الغوائلَ في الباطن، والظاهر أنه تهكمُ لأنهم كانوا أَعْدَى عدوٍّ للمؤمنين وأشدَّهم حسداً لهم، فيكف يُوصَفُون بالمودةِ إلا على وجه العكس والتهكم؟» وقال الزجاج: «هذه الجملةُ اعتراضٌ أخبرَ تعالى بذلك؛ لأنهم كانوا يُوادُّون المؤمنينَ» وقال ابن عطية: «المنافِقُ يعاطِي
وتبع الفارسي في ذلك مقاتلاً، قال مقاتل: «معناه: كأنه ليس من أهل مِلَّتكم ولا مودةَ بينكم» يريد أن المبطئَ قال لِمَنْ تخلَّف عن الغزو من المنافقين وضَعَفَةِ المؤمنين ومَنْ تخلَّف بإذْن: كَأَنْ لم تكن بينكم وبين محمدٍ مودةٌ فَيُخْرِجْكم إلى الجهادِ فتفوزا بما فاز.
الثاني: من الأقوال: أنها في محل نصب بالقول، فيكون تعالى قد حكى بالقول جمليتن: جملةَ التشبيه وجملة التمني، وهذا ظاهرٌ على قول مقاتل والفارسي حيث زعما أنَّ الضمير في «بينه» للرسول عليه السلام.
و «يا» فيها قولان أحدُهما: - وهو قولُ الفارسيّ - أنها لمجردِ التنبيه فلا يُقَدَّر منادى محذوفٌ، ولذلك باشَرَتِ الحرفَ. والثاني: أن المنادى محذوفٌ تقديرُه: يا هؤلاء ليتني، وهذا الخلاف جارٍ فيها إذا باشرت حرفاً أو فعلاً، كقراءة الكسائي: «ألا يا اسْجُدوا» وقوله:
١٦٠ - ٩- ألا يا اسقياني قبل غارةِ سنجالِ | ...................... |
١٦١ - ٠- يا حبَّذا جَبَلُ الريَّانِ من جبلٍ | ..................... |
وقدَّم قولَه: ﴿فَيُقْتَلْ﴾ لأنها درجةُ شهادة وهي أعظمُ من غيرها، وثَنَّى بالغَلَبة وهي تشمل نوعين: قتلَ أعداءِ الله والظفرَ بالغنيمة، والأولى أعظمُ من الثانية.
١٦١ - ١- ألا أيُّهذا الزاجري أحضُرُ الوغى | .................. |
قوله: ﴿والمستضعفين﴾ فيه ثلاثة أوجه. أظهرُها: أنه مجرورٌ عطفاً على اسم الله تعالى أي: وفي سبيل المستضعفين. والثاني: وإليه ذهبَ الزجاج والمبرد أن يكونَ مجرواً عطفاً على نفس» سبيل «. قال أبو البقاء بعد أَنْ حكاه عن المبرد وحده:» وليس بشيء «كأنه لم يظهر لأبي البقاء وجهُ ذلك، ووجهُ أنَّ تقديرَه:» وفي خلاص المستضعفين «والثالث وإليه ذهب الزمخشري: أن يكونَ منصوباً على الاختصاص تقديره: وأَخُصُّ من سبيلِ الله خلاصَ المستضعفين، لأنَّ سبيلَ اللَّهِ عامٌّ في كلِّ خير، وخلاص المستضعفين من المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخيور. والجمهورُ على» والمستضعفين «بواو العطف، وقرأ ابن شهاب:» في سبيل الله المستضعفين «وفيها تخريجان، أحدُهما: أن يكونَ حرفُ العطف مقدراً كقولهم:» أكلت لحماً تمراً سمكاً «والثاني: أن يكونَ بدلاً من» سبيل الله «أي: في سبيلِ الله سبيلِ المستضعفين، لأنَّ سبيلَهم سبيلُ الله تعالى.
قوله: ﴿مِنَ الرجال﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه حال من المستضعفين.
﴿أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ﴾ [النور: ٣١] فالمرادُ هنا بالطفل الصبيانُ الصغار، ومع ذلك وَصَفَهم بالذين. والثاني: أن يكونَ منصوباً على الاختصاص.
قوله: ﴿الظالم أَهْلُهَا﴾ «الظالم» صفةٌ للقرية، و «أهلُها» مرفوعٌ به على الفاعلية. و «أل» في «الظالم» موصولةٌ بمعنى التي، أي: التي ظَلَم أهلها. فالظلمُ جارٍ على القرية لفظاً وهو لِما بعدها معنى، ومثلُه: «مَرَرْتُ برجلٍ حسن غلامُه» قال الزمخشري: «فإنْ قلت: لِمَ ذكَّر» الظالم «وموصوفُه مؤنثٌ؟ قلت: هو وصفٌ للقرية إلا أنه مستندٌ إلى أهلها فأُعْطِي إعرابَ» القرية «لأنه صفتها وذُكِّر لإِسنادِه إلى الأهل، كما تقول: مِنْ هذه القريةِ التي ظَلَم أهلُها، ولو أُنِّث فقيل:» الظالمةُ أهلُها «لجازَ، لا لتأنيثِ الموصوفِ، بل لأن
قوله: ﴿كَخَشْيَةِ الله﴾ فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها وهو المشهور عند المُعْربين: انها نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: خشيةً كخشية الله. والثاني وهو المقرر من مذهب سيبويه غيرَ مرة: أنها في محل نصب على الحال من ضمير الخشية المحذوف أي: يخشونها الناسَ، أي: يخشون الخشيةَ الناسَ مشبهةً خشيةَ الله.
والثالث: أنها في محل نصبٍ على الحال من الضمير في «يَخْشَوْن» أي: يَخْشَون الناسَ مثلَ أهل خشية الله أي: مشبهين لأهل خشية الله أو أشدَّ خشية أي: أشدَّ خشيةً من أهل خشية الله. و «اشدَّ» معطوف على الحال، قاله الزمخشري. ثم قال: «فإنْ قلت: لِمَ عَدَلْتَ عن الظاهر وهو كونه صفة للمصدر ولم تقدِّرْه: يَخْشَوْن خشيةً [مثل خشية] الله بمعنى: مثلَ ما يخشى الله. قلت: أَبَى ذلك قولُه ﴿أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ ؛ لأنه وما عُطِفَ عليه في حكمٍ واحدٍ، ولو قلت:» يخشون الناسَ أشدَّ خشيةً «لم يكن إلا حالاً من ضميرِ الفريقِ، ولم ينتصِبْ انتصابَ المصدر لأنك لا تقول:» خَشِي فلانٌ أشدَّ
ويجوز نصبُ «خشيةً» على وجه آخر وهو العطف على محل الكاف، وينتصب «أشدَّ» حينئذ على الحال من «خشية» لأنه في الأصلِ نعتُ نكرةٍ قُدِّم عليها، والأصل: يخشون الناسَ مثلَ خشيةِ الله أو خشيةً أشدَّ منها. فلا ينتصب «خشية» تمييزاً حتى يلزم منه ما ذكره الزمخشري ويُعْتذر عنه، وقد تقدَّم نحوٌ من هذا عند قوله ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً﴾ [البقرة: ٢٠٠]. والمصدرُ مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف أي: كخشيتهم اللَّهَ. و «أو» تحتمل الأوجه المذكورة في قوله: ﴿أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤]، ويجوز أن تكونَ للتنويع: يعني أن منهم مَنْ يخشاهم كخشية الله، ومنهم مَنْ يخشاهم أشدَّ خشية من خشية الله. و «لولا أخَّرْتَنا» «لولا» تحضيضةٌ. وقرأ ابن كثير والأخَوان: «لا يُظْلَمون» بالغيبة جرياً على الغائبين قبله، والباقون بالخطاب التفاتاً. و «فَتيلاً» قد تقدَّم إعرابُه.
١٦١ - ٢- يا أقرعُ بنَ حابسٍ يا أقرعُ | إنك إنْ يُصْرَعْ أخوكَ تُصْرَعُ |
١٦١٣ -................ | يقول لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ |
وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ | يقولُ............... |
» ولو كنتم «قالوا: هي بمعنى» إنْ «وجوابُها محذوف أي: لأدرككم. وذكر الزمخشري فيه قولاً غريباً من عند نفسِه فقال:» ويجوزُ أن يتصل بقوله ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ أي: لا تُنقَضون شيئاً مِمَّا كُتِب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحمِ حروب أو غيرها، ثم ابتدأ بقوله: ﴿يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾، والوقف على هذا الوجه [على] «أينما تكونوا». انتهى. وردَّ عليه الشيخ فقال: «هذا تخريجُ ليس بمستقيمٍ لا من حيث المعنى ولا من حيث الصناعة النحوية: أمَّا من حيث المعنى فإنه لا يناسِبُ أن يكون متصلاً بقوله: ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ لأنَّ انتفاءَ الظلم ظاهراً إنما هو في الآخرة لقوله: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى﴾ وأما من حيث الصناعةُ النحوية فإنَّ ظاهرَ كلامِه يَدُلُّ على أن» أينما تكونوا «متعلقٌ بقولِه: ﴿ولا تُظْلمون﴾ بمعنى ما فَسَّره، وهذا لا يجوز لأن أسماءَ الشرط لها صدرُ الكلام فلا يتقدَّم عامُلها
فإن قيل: فكذلك يُقَدِّر الزمخشري عاملاً يدلُّ عليه «ولا تُظْلمون» تقديره: «أينما تكونوا فلا تظلمون» فحذف «فلا تظلمون» لدلالةِ ما قبله عليه، فيخلُصُ من الإِشكال المذكور. قيل: لا يمكن ذلك لأنه حينئذ يُحذف جواب الشرط وفعلُ الشرط مضارع، وقد تقدم أنه لايكون إلا ماضياً «وفي هذا الردِّ نظرٌ، لأنه أراد تفسير المعنى. قوله:» ولا يناسب أن يكون متصلاً بقوله: «ولا تظلمون» ممنوعُ، بل هو مناسب، وقد أوضحه الزمخشري بما تقدَّم أحسنَ إيضاح.
والجملة الامتناعية في محلِّ نصب على الحال أي: أينما تكونوا من الأمكنة يدركْكم الموت، ولو كانت حالُكم أنكم في هذه البروج فيُفْهَمُ أن إداركَه لهم في غيرها بطريق الأَوْلى والأَحْرى، وقريبٌ منه: «أعطُوا السائل ولو على فرسٍ» والجملةُ الشرطية تحتمل وجهين، أحدهما: أنها لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها استئنافُ إخبارٍ، أخبر تعالى أنه لا يفوتُ الموتَ أحدٌ ومنه قولُ زهير:
١٦١٤ - ومَنْ هابَ أسبابَ المنايا يَنَلْنَه | ولو رامَ أسباب السماء بسُلَّمِ |
والجمهور على «مُشَيَّدة» بفتح الياء اسم مفعول. ونعيم بن ميسرة بكسرها، نسَبَ الفعلَ إليها مجازاً كقولهم: «قصيدةٌ شاعرة»، والموصوفُ بذلك أهلُها، وإنما عَدَلَ إلى ذلك مبالغةً في الوصف.
١٦١٥ - بيضاءُ في بَرَجٍ صفراءُ في غَنجٍ | كأنَّها فِضةٌ قد مَسَّها ذَهَبُ |
١٦١٦ - شادَه مرمراً وجَلَّله كِلْ | سَاً فللطير في ذُراه وكُورُ |
ووقف أبو عمرو والكسائي بخلاف عنه على «ما» في قوله «فما لهؤلاء» وفي قوله: ﴿مَالِ هذا الرسول﴾ [الفرقان: ٧] وفي قوله: ﴿مَالِ هذا الكتاب﴾ [الكهف: ٤٩]، وفي قوله: ﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ [المعارج: ٣٦]. والباقون على اللام التي للجرِّ دون مجرورها إتباعاً للرسم، وهذا ينبغي أن لا يجوز أعني الوقفين لأنَّ الأول
١٦١٧ - تفرَّق أهلانا بِبَيْنٍ فمنهمُ | فريقٌ أقامَ واستقلَّ فريقُ |
١٦١٨ - رَفَوْني وقالوا:
يا خُوَيْلِدُ لا تُرَعْ | فقلتُ وأنكرتُ الوجوهَ هُمُ هُمُ |
١٦١٩ - أفرحُ أَنْ أُرْزَأ الكرامَ وأنْ | أُورَثَ ذَوْدَاً شَصائِصاً نَبْلاً |
١٦٢٠ - لَعَمْرُكَ ما أدري وإنْ كنت؟ ُ دارِياً | بسبعِ رَمَيْنَ الجمرَ أم بثمانِ |
وقرأت عائشة: «فَمَنْ نفسُك» بفتح ميم «من» ورفع السين، على الابتداء والخبر، أي: أيُّ شيءٍ نفسُك حتى يُنْسَب إليها فِعْلٌ؟ قوله: «رسولاً فيه وجهان، أحدهما: أنه حال مؤكدة والثاني: أنه مصدر مؤكِّدٌ بمعنى إرسال، ومن مجيء» رسول «مصدراً قوله:
١٦٢١ - لقد كَذَبَ الواشون ما بُحْتُ عندهم | بِسِرِّ ولا أَرْسَلْتُهمْ برسولِ |
١٦٢ - ٢- أذاعُوا به في الناسِ حتى كأنه | بِعَلْياءِ نار أُوقِدَتْ بثَقُوب |
١٦٢ - ٣- نَعَمْ صادقاً والفاعلُ القائلُ الذي | إذا قال قَوْلاً أنبطَ الماءَ في الثَّرى |
١٦٢ - ٤-
قريبٌ ثَراه ما ينال عدوُّه | له نَبَطاً، آبيْ الهوانِ قَطُوبُ |
١٦٢ - ٥- فإنْ تَبْلُه يَضْجَرْ كما ضَجْرَ بازِلٌ | من الأُدْمِ دُبْرَتْ صَفْحَتاه وغارِبُه |
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ فيه عشرةُ أوجه، أحدها: أنه مستثنى من فاعل «اتَّبعتم» أي: لاتبعتم الشيطانَ إلا قليلاً منكم، فإنه لم يَتَّبع الشيطان، على تقديرِ كونِ فَضْل الله لم يأتِه، ويكونُ أراد بالفضل إرسالَ محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك القليلُ كقِسِّ بن ساعدة الإيادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، مِمَّن كان على دين المسيح قبل بعثة الرسول. وقيل: المرادُ مَنْ لم يبلغ التكليفَ، وعلى هذا التأويل قيل: فالاستثناء منقطع؛ لأن المستثنى لم يدخل تحت الخطاب، وفيه نظر يظهر في الوجه العاشر. الثاني: أنه مستثنى
السادس: أنه مستنثى من فاعل «يستنبطونه» وتأويله كتأويل الوجه الثالث. السابع: أنه مستثنى من المصدر الدالِّ عليه الفعلُ، والتقدير: لاتَبَعْتُمْ الشيطانَ إلا اتباعاً قليلاً، ذكر ذلك الزمخشري. الثامن: أنه مستثنى من المتَّبع فيه، والتقدير: لاتبعتم الشيطان كلَّكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعون الشيطان فيها، فالمعنى: لاتبعتم الشيطان في كل شيء إلا في قليلٍ من الأمور، فإنكم كنتم لا تتبعونه فيها، وعلى هذا فهو استثناء مفرغ، ذكر ذلك ابن عطية، إلا أنَّ في كلامِه مناقشةً وهو أنه قال «أي: لاتبعتم الشيطان كلَّكم إلا قليلاً من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها» فجعله هنا مستثنى من المتَّبعِ فيه المحذوف على ما تقدم تقريره، وكان قد تقدَّم أنه مستثنى من الإتِّباع، فتقديرُه يؤدي إلى استثنائِه من المتَّبع فيه، وادعاؤه أنه استثناء من الاتباع، وهما غَيْران. التاسع: أن المراد بالقلة العدمُ، يريد: لاتبعتم الشيطان كلكم وعدم تخلُّفِ أحدٍ منكم، نقله ابن عطية عن جماعة وعن الطبري، ورَدَّه بأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي دخولَها، قال: «وهذا كلامٌ قلق ولا يشبه ما حكى سيبويه من قولهم:» هذه أرضٌ قَلَّ ما تنبت كذا «أي لا تنبت شيئاً.
قوله: ﴿لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾ في هذه الجملة قولان، أحدهما: أنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل «فقاتِلْ» أي: فقاتِلْ غيرَ مُكَلِّفٍ إلا نفسَك وحدَها. والثاني: أنها مستأنفة أخبره تعالى أنه لايكلِف غيرَ نفسه. والجمهور على «تُكَلَّفُ» بتاء الخطاب ورفع الفعل مبنياً للمفعول، و «نفسَك» هو المفعول الثاني. وقرأ عبد الله بن عمر: «لا تُكَلِّفْ» كالجماعة إلا أنه
والتحريض: الحَثُّ على الشيءِ، قال الراغب: «كأنه في الأصل إزالةُ الحَرَضْ نحو:» قَذِّيْتُه «أي: أزلت قذاه، وأَحْرضته: أَفْسَدْتُه كأقذيته أي: جَعَلْتُ فيه القذى، والحَرَضُ في الأصل ما لا يُعْتَدُّ به ولا خير فيه، ولذلك يقال للمشرف على الهلاك:» حَرَض «قال تعالى: ﴿حتى تَكُونَ حَرَضاً﴾ [يوسف: ٨٥] وأَحْرَضَه كذا، قال:
١٦٢ - ٦- إني امرؤٌ رابني هَمٌّ فَأَحْرضني | حتى بُليِتُ وحتى شَفَّني السَّقَمُ |
١٥٢ - ٧- وذي ضِغْن كَفَفْتُ الودَّ عنه | وكنتُ على إساءته مُقيتا |
١٦٢ - ٨- ليت شِعْري وأَشْعُرَنَّ إذا ما | قَرَّبوها منشورةً ودُعِيتُ |
ألِيَ الفضلُ أم عليَّ إذا حو | سِبْتُ؟ إني على الحسابُ مُقيتُ |
١٢٦ - ٩- أَؤمُّ بها أبا قابوسَ حتى | أُنيخَ على تَحِيَّته بجُندي |
١٦٣ - ٠-
ويقال: التحية: البقاء والمُلْك، ومنه: «التحيات لله» ثم استُعملت في السلام مجازاً، ووزنها تَفْعِلة، والأصل: تَحْيِيَة فأدغمت، وهذا الإِدغامُ واجبٌ خلافاً للمازني، وأصل الأصل تَحْيِيٌّ، لأنه مصدر حَيّا، وحَيّا: فَعَّل، وفَعَّل مصدرُه على التفعيل، إلا أن يكون معتلَ اللام نحو: زكَّى وغَطَّى [فإنه تحذف إحدى الياءين] ويعوض منها تاء التأنيث فيقال: تزكية وتغطية، إلا ما شَذَّ من قوله:
١٦٣ - ١- باتَتْ تُنَزِّي دلوَها تَنْزِيَّاً... كما تُنَزِّي شَهْلَةٌ صبيَّاً
إلا أن هذا الشذوذَ لا يجوزُ مثلُه في نحو «حَيّا» لاعتلالِ عينه ولامه بالياء، وألحق بعضُم ما لامُه همزةٌ بالمعتلِّها نحو: «نَبّأ تنبئة» و «خَبّأ تخبئة». ومثلُها: أَعْيِيَة وأَعِيَّة، جمع عَيِيٌّ. وقال الراغب: «وأصلُ التحيَّة من الحَياة، ثم جُعِل كلُّ دعاءٍ تحيةً لكون جميعِه غيرَ خارجٍ عن حصولِ الحياةِ أو سببِ الحياة. وأصل التحية أن تقول:» حَيَّاك الله «ثم استُعْمِل في عُرْفِ الشرعِ في دعاء مخصوصٍ.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ رُدُّوهَآ﴾ أي: رُدُّوا مثلَها؛ لأنَّ ردَّ عينها مُحالٌ، فحُذِفَ
قوله: ﴿إلى يَوْمِ القيامة﴾ فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها على بابِها من انتهاءِ الغايةِ، قال الشيخ: «ويكونُ الجمعُ في القبور، أو تُضمِّن» ليجمعنَّكم «معنى ليحشرنَّكم» فيُعَدَّى ب «إلى» يعني أنه ضُمِّن الجمعُ معنى الحَشْر لم يَحْتج إلى تقدير مجموع فيه. وقال أبو البقاء - بعد أَنْ جَوَّز فيها أن تكونَ بمعنى «في» - «وقيل: هي على بابها أي: ليجمعنَّكم في القبور، فعلى هذا يجوز أن يكون مفعولاً به، ويجوز أن يكونَ حالاً أي: ليجمعنَّكم مُفْضِين إلى حساب يوم القيامة» يريد بقوله «مفعولاً به» أنه فَضْلَةٌ كسائرِ الفَضَلات نحو: «سرت إلى الكوفة» ولكن لا يَصِحُّ ذلك إلا بأَنْ يُضَمَّنَ الجمعُ معنى الحشر كما تقدم، وأمَّا تقديرُه الحالَ ب «مُفَضِين» فغيرُ جائزٍ لأنه
١٦٣ - ٢- فلا تَتْرُكَنِّي بالوعيدِ كأنني | إلى الناسِ مَطْلِيُّ به القارُ أَجْرَبُ |
وفي «فئتين» وجهان، أحدُهما: أنها حالٌ من الكاف والميم في «لكم»، والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به «لكم» ومثلُه: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩]، وقد تقدَّم أنَّ هذه الحالَ لازمةٌ؛ لأن الكلامً لا يَتِمُّ دونَها، وهذا مذهبُ البصريين في كل ما جاء من هذا التركيب والثاني - وهو مذهب الكوفيين-: أنه نصبٌ على خبر «كان» مضمرةً، والتقدير: ما لكم في المنافقين كنتم فئتين، وأجازوا: «ما لك الشاتمَ» أي: ما لك كنت الشاتمَ، والبصريون لا يجيزون ذلك لأنه حالٌ والحالُ لا تتعرَّف، ويدلُّ على كونه حالاً التزامُ مجيئه في هذا التركيب نكرةً، وهذا كما قالوا في «ضربي زيداً قائماً» إن «قائماً» لا يجوز نصبُه على خبر «كان» المقدرةِ، بل على الحال لالتزامِ تنكيره. وقد تقدَّم اشتقاقُ «الفئة» في البقرة.
قوله: ﴿والله أَرْكَسَهُمْ﴾ مبتدأ وخبر، وفيها وجهان أظهرهما: أنها حالٌ: إمَّا من المنافقين - وهو الظاهرُ - وإمَّا من المخاطبين، والرابطُ الواوُ، كأنه انكرَ عليهم اختلافَهم في هؤلاء، والحال أن الله قد ردَّهم إلى الكفر. والثاني: أنها مستأنفةٌ أخبر تعالى عنهم بذلك. و «بما كَسَبوا» متعلقٌ ب «أَرْكَسهم» والباء سببية أي: بسبب كَسْبهم، و «ما» مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ على الثاني لا [على] الأولِ على الصحيح.
١٦٣ - ٣- فَأُرْكِسوا في جحيم النار إنَّهمُ | كانوا عصاةً وقالو الإفْكَ والزورا |
١٦٣ - ٤- بشُؤْمِك أَرْكَسْتَني في الخَنا | وأَرْمَيْتَني بضروبِ العَنا |
١٣٦ - ٥- وأَرْكَسْتَنِي عن طريق الهدى | وصَيَّرْتَنِي مَثَلاً للعِدى |
١٦٣ - ٦- رُكِّسوا في فتنةٍ مظلمةٍ | كسوادِ الليلِ يَتْلُوها فِتَنْ |
و «كما كفروا» نعتٌ لمصدر محذوف تقديره: كفراً مثلَ كفرهم، أو حالٌ من ضمير ذلك المصدر كما هو مذهب سيبويه، / و «فتكونوا» عطف على «تكفرون» والتقدير: وَدُّوا كفركم فكونَكم مستوين معهم في شَرْعهم. قال الزمخشري: «ولو نُصِب على جوابِ التمني لجاز» وجعل الشيخ فيه نظراً من حيث إن النصبَ في جواب التمني إذا كان التمني بلفظ الفعل يَحْتاج إلى سماع من العرب، بل لو جاء لم تتحقَّقَ فيه الجوابيةُ، لأنَّ «ودَّ» التي بمعنى التمني متعلقها المصادر لا الذوات، فإذا نصب الفعل بعد الفاء لم يتعيَّنْ أن
١٦٣ - ٧- لَلُبْس عباءةٍ وتَقَرَّ عيني | ................... |
و ﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ﴾ يجوز أن يكونَ جملةً من مبتدأ وخبر في محل جرِّ صفةً ل «قوم»، ويجوز أن يكونَ «بينكم» وحده صفةً ل «قوم» فيكونَ في محلِّ جر ويتعلَّقُ بمحذوفٍ، و «ميثاق» على هذا رفعٌ بالفاعلية؛ لأنَّ الظرفَ اعتمد على موصوفٍ، وهذا الوجهُ أقربُ؛ لأنَّ الوصفَ بالمفردِ أصلٌ للوصفِ بالجملة.
قوله: ﴿أَوْ جَآءُوكُمْ﴾ فيه وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على الصلة، كأنه قيل: أو إلا الذين جاؤوكم حَصِرَتْ صدورُهم، فيكون المستثنى صنفين من الناس، أحدهما واصلٌ إلى قومٍ معاهِدين، والآخر مَنْ جاء غَيْر مقاتِلٍ للمسلمين ولا لقومِه. والثاني: أنه عطفٌ على صفةِ «قوم» وهي قولُه ﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ﴾ فيكون المستثنى صنفاً واحداً يختلف باختلافِ مَنْ يصل إليه من معاهِدٍ وكافرٍ. واختار الأولَ الزمخشري وابن عطية، قال الزمخشري: «الوجهُ العطفُ على الصلةِ لقوله: ﴿فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ بعد قوله: ﴿فَخُذُوهُمْ واقتلوهم﴾ فقرَّر أنَّ كفَّهم عن القتال أحدُ سببي استحقاقِهم لنفي
وإنما كان أظهرَ لوجهين، أحدهما من جهة الصناعة، والثاني من جهة المعنى: أمَّا الأولُ فلأنَّ عطفَه على الصلة لكون النسبة فيه إسناديةً، وذلك أن المستثنى مُحَدَّثٌ عنه محكومٌ له بخلاف حكم المستثنى منه، فإذا قَدَّرْتَ العطفَ على الصلة كان مُحَدَّثاً عنه بما عَطَفْتَه بخلاف ما إذا عَطّفْتَه على الصفة، فإنه يكونُ تقييداً في «قوم» الذين هم قيدٌ في الصلةِ المُحَدَّثِ عن صاحبها، ومتى دار الأمر بين أن تكون النسبة إسناديةً وبين أن تكون تقييدية كان جعلُها إسناديةً أَوْلى لاستقلالها.
والثاني من جهة المعنى: وذلك أنَّ العطفَ على الصلة يؤدي إلى أنَّ سببَ تَرْكِ التعرُّض لهم تركُهم القتالَ وكَفُّهم عنه، وهذا سببٌ قريب، والعطفُ على الصفة يؤدي إٍلى أنَّ سببَ تركِ التعرضِ لهم وصولُهم إلى قوم كافِّين عن القتال وهذا سببٌ بعيدٌ، وإذا دار الأمرُ بين سببٍ قريبٍ وآخرَ بعيدٍ فاعتبارُ القريبِ أَوْلَى.
والجمهورُ على إثبات «أو»، وفي مصحف أُبَيّ: «جاؤوكم» من غير «أو» وخَرَّجها الزمخشري على أحد أربعة أوجه: إمَّا البيانِ ل «يَصِلون»، أو البدلِ منه، أو الصفةِ لقومٍ بعد صفة، أو الاستئنافِ.
قوله: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ فيه سبعة أوجه، أحدها: أنه لا محلَّ لهذه الجملة، بل جيء بالدعاء عليهم بضيقِ صدورهم عن القتال، وهذا منقولٌ عن المبرد، إلاَّ أنَّ الفارسيَّ رَدَّ عليه بأنَّا مأمورُون بأَنْ ندعوَ على الكفارِ بإلقاءِ العداوة بينَهم فنقولُ: «اللهم أَوْقِعِ العداوةَ بين الكفار» لكن يكونُ قوله: ﴿أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ﴾ نَفْيَ ما اقتضاه دعاءُ المسلمين عليهم. وقد أجابَ عن هذا الردِّ بعضُ الناس، فقال ابن عطية: «يُخَرَّجُ قولُ المبرد على أن الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيزٌ لهم، والدعاءُ عليهم بأن لا يقاتِلوا قومَهم تحقيرٌ لهم أي: هم أقلُّ وأحقرُ ومستغنىً عنهم، كما تقول إذا أردت هذا المعنى:» لا جعل الله فلاناً عليَّ ولا معي «معنى أسْتغنِي عنه وأستقلُّ دونَه» وأجابَ غيرُه بأنه يجوزُ أن يكونَ سؤالاً لموتهم على أنَّ قولَه «قومهم» قد يُحْتمل أن يُعَبَّر به عَمَّنْ ليسوا منهم، بل عن مُعادِيهم «.
الثاني: أنَّ» حَصَرِت «حالٌ من فاعل» جاؤوكم «وإذا وقعت الحال فعلاً ماضياً ففيها خلافٌ: هل يَحْتاج إلى اقترانهِ ب» قد «أم لا؟ والراجحُ عدمُ الاحتياجِ لكثرة ما جاء منه، فعلى هذا لا تُضْمَرُ» قد «قبل» حَصِرَتْ «ومَنِ اشترط ذلك قَدَّرها هنا. والثالث: أَنَّ» حَصِرَتْ «صفةٌ لحالٍ محذوفةٍ تقديرُه: أو جاؤوكم قوماً حَصِرَتْ صدورُهم.
وسَمَّاها أبو البقاء حالاً مُوَطِّئَة، وهذا
الخامس: أن يكونَ بدلاً من «جاؤوكم» بدلَ اشتمال لأن المجيء مشتملٌ على الحَصْر وغيرِه، نقله الشيخ عن أبي البقاء أيضاً. السادس: أنه خبرٌ بعد خبر، وهذه عبارة الزجاج، يعني أنها جملة مستأنفة، أَخْبر بها عن ضيقِ صدور هؤلاء عن القتال بعد الإِخبار عنهم بما تقدَّم. قال ابن عطية بعد حكاية قولِ الزجاج: «يُفَرَّق بين الحال وبين خبر مستأنف في قولك:» جاء زيد ركب الفرسَ «أنك إذا أردت الحال بقولك» رَكَب الفرس «قَدَّرْتَ» قد «، وإن أردت خبراً بعد خبر لم تحتج إلى تقديرها» السابع: أنه جواب شرط مقدر تقديره: إن جاؤوكم حصرت، وهو رأي الجرجاني، وفيه ضَعْفٌ لعدم الدلالة على ذلك.
وقرأ الجمهور: «حَصِرَتْ» فعلاً ماضياً، والحسن وقتادة ويعقوب: «
وهاتان القراءتان تحتملان أن تكونَ «حَصِراتٍ» و «حاصراتٍ» نصباً على الحال، أو جراً على الصفة ل «قوم»، لأنَّ جمع المؤنث السالم يستوي جَرُّه ونصبه إلا أنَّ فيهما ضعفاً من حيث إنَّ الوصف الرافعَ لظاهرٍ الفصيحُ فيه أن يُوَحَّد كالفعلِ أو يُجْمَعَ جَمْعَ تكسير ويَقِلُّ جمعُه تصحيحاً، تقول: مررت بقومٍ ذاهب جواريهم، أو قيام جواريهم، ويَقَلُّ: «قائماتٍ جواريهم» وقرئ «حَصِرةٌ» بالرفع على أنه خبر مقدم، و «صدوُرهم» مبتدأ، والجملة حال أيضاً. وقال أبو البقاء. «وإن كان قد قرئ» حصرةٌ «بالرفع، فعلى أنه خبر، و» صدورهم «مبتدأ، والجملةُ حال».
قوله: ﴿أَن يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ أصلُه: عن أَنْ، فلمَّا حُذِف حرف الجر جرى الخلاف المشهور: أهي في محل جر أو نصب؟ والحَصْرُ: الضيق، وأصلُه في المكان ثم تُوُسِّع فيه، قال:
١٦٣ - ٨- ولقد تَسَقَّطَني الوشاة فصادَفُوا | حَصِراً بسِرِّكِ يا أُميمُ ضَنِيناً |
١٦٣٩ - وكلُّ أخٍ مفارِقُه أخوه | لَعَمْرُ أبيك إلا الفرقدانِ |
١٦٤٠ - ما بالمدينة دارٌ غيرُ واحدةٍ | دارُ الخليفةِ إلا دارُ مروانا |
والجمهور قرأ» خَطَأً «مهموزاً بوزن» نبأ «والزهري:» خَطَا «بوزن عصا، وفيها تخريجان، أحدهما: أنه حذف لام الكلمة تخفيفاً، كما حذفوا لام دم ويد وأخ وبابِها. والثاني: أنه خَفَّف الهمزة بإبدالها ألفاً، فالتقت مع
قوله: ﴿فَتَحْرِيرُ﴾ الفاء جواب الشرط، أو زائدةٌ في الخبر إنْ كانت» مَنْ «بمعنى الذي، وارتفاعُ» تحريرُ «: إمَّا على الفاعلية، أي: فيجبُ عليه تحريرُ وإما على الابتدائية والخبر محذوف أي: فعليه تحريرُ، أو بالعكس أي: فالواجبُ تحريرُ. والدِّيَةُ في الأصل مصدر، ثم أُطْلِقَ على المال المأخوذ في القتل، ولذلك قال:» مُسَلَّمَةٌ إلى أهله «والفعلُ لا يُسَلَّمُ بل الاعيان، تقول: وَدَى يَدِي دِيةً ووَدْياً كوشَى يشي شِيَةً، فحذفت فاء الكلمة، ونظيره في الصحيح اللام» زِنة «و» عِدة «و» إلى أهله «متعلق ب» مُسَلَّمة «تقول: سَلَّمت إليه كذا، ويجوزُ أن يكونَ صفةً ل» مُسَلَّمة «وفيه ضعفٌ.
و «خطأ» في قوله: «من قتل مؤمناً خطأ» منصوبٌ: إمَّا على المصدر أي: قتلاً خطأ، وإمَّا على أنه مصدرٌ في موضع الحال أي: ذا خطأ أو خاطئاً.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ﴾ فيه قولان، أحدهما: أنه استثناء منقطع. والثاني: أنه متصلٌ، قال الزمخشري: «فإنْ قلت: بمَ تَعَلَّق» أَنْ يصَّدَّقوا «وما محلُّه؟ قلت: تَعَلَّق ب» عليه «أو بِ» مُسَلَّمَةٌ «كأنه قيل: وتَجِبُ عليه الدِّية أو يسلِّمها إلا حين يتصدقون عليه، ومحلُّها النصب على الظرف بتقديرِ حذف الزمان، كقولهم:» اجِلسْ ما دام زيد جالساً «ويجوز أن يكون حالاً من» أهله «بمعنى إلا متصدقين». وخَطَّأه الشيخ في هذين التخريجين/، أما الأول فلأنَّ النحويين نَصُّوا على منع قيام «أَنْ» وما بعدَها مقامَ الظرف، وأنَّ ذلك ما تختص به «ما» المصدريةُ لو قلت: «آتيك أن يصيحَ الديك» أي: وقت صياحِه لم يجز. وأما الثاني فنصَّ سيبويه على منعه أيضاً قال في قول
والجمهور على «يَصَّدَّقوا» بتشديد الصاد، والأصل يتصدَّقوا، فأدغمت التاء في الصاد. ونقل عن أُبيّ هذا الأصلُ قراءةً، وقرأ أبو عمرو في روايةِ عبد الوراث - وتُعْزى للحسن وأبي عبد الرحمن -: «تَصَدَّقوا» بتاء الخطاب والأصل: تَتصدقوا بتاءين، فَأُدغمت الثانية. وقُرئ: «تَصْدُقوا» بتاء الخطاب وتخفيف الصاد، وهي كالتي قبلها، إلا أنَّ تخفيفَ هذه بحذفِ إحدى التاءين: الأولى أو الثانيةِ على خلاف في ذلك، وتخفيفَ الأولى بالإِدغام.
قوله: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ﴾ مفعولُه محذوفٌ أي: فَمَنْ لم يجِدْ رقبة، وهي بمعنى وجدان الضالّ، فلذلك تَعَدَّتْ لواحدٍ. وقوله: ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ﴾ ارتفاعُه على أحدِ الأوجه المذكورة في قوله: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ وقد مَرَّ. أي: فعليه صيامُ أو: فيجبُ عليه صيام أو فواجبُه صيام. قال أبو البقاء: «ويجوزُ في غير القرآنِ النصبُ على» فليصم صومَ شهرين «. وفيه نظرٌ لأنَّ الاستعمالَ المعروفَ في ذلك أَنْ يُقالَ» «صمتُ شهرين ويومين» ولا يقولون: صمتُ صومَ - ولا صيامَ - شهرين.
قوله: ﴿تَوْبَةً﴾ في نصبه ثلاثة أوجه، أحدهم: أنهما مفعول من أجله تقديره: شَرَعَ ذلك توبةً منه. قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون العامل»
وقوله: ﴿لِمَنْ ألقى﴾ اللام للتبليغ هنا، و» مَنْ «موصولة. أو مفصولةٌ، و» ألقى «هنا ماضي اللفظِ، إلا أنه بمعنى المستقبل أي: لمن يُلْقي، لأنَّ النهيَ لا يكونُ عَمَّا وقع وانقضى، والماضي إذا وقع صلة صَلَح للمضيِّ والاستقبال. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة:» السَّلَم «بفتح السين واللام من غير ألف، وباقي السبعة:» السلام «بألف، ورُوي عن عاصم:» السِّلْم «بكسر السين وسكون اللام. فأما» السلام «فالظاهر أنه التحية. وقيل: الاستسلام والانقياد، والسَّلَم - بفتحهما - الانقياد فقط، وكذا ﴿السلم﴾ [الآية: ٢٠٨] بالكسر والسكون. والجحدري بفتحها وسكون اللام، وقد تَقَدَّم القول فيها في البقرة فعليك بالالتفات إليه. والجملة من قوله» لست مؤمناً «في محل
قوله ﴿تَبْتَغُونَ﴾ في محل نصب على الحال من فاعل» تقولوا «أي: لا تقولوا ذلك مبتغين. قوله:» كذلك «هذا خبر ل» كان «قُدِّم عليها وعلى اسمها أي: كنتم من قبل الإِسلام مثلَ مَنْ أقدم ولم يَتَثَبَّتْ. وقوله ﴿فَمَنَّ الله﴾ الظاهر أن هذه الجملة من تتمة قوله ﴿كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ﴾ فهي معطوفة على الجملة قبلها. وقيل: بل هي من تتمة قوله» تبتغون «والأولُ أظهر: وقوله:» فتبيِّنوا «قرئت كالتي قبلها فقيل: هي تأكيد لفظي للأولى، وقيل: ليست للتأكيد لاختلاف متعلقهما، فإنَّ تقدير الأول:» فتبيَّنوا في أمر مَنْ تقتلونه «، وتقدير الثاني: فتبينوا نعمةَ الله، أو تثبَّتوا فيها، والسياقُ يدل على ذلك، ولأنَّ الأصل عدم التأكيد. والجمهور على كسر همزة» إنَّ الله «، وقرئ بفتحها على أنها معمولة ل» تبينَّوا «أو على حذف لام العلةِ، وإن كان قد قرئ بالفتح مع التثبيت فيكونُ على لام العلة لا غير. والمغانم: جمع» مَغْنَم «وهو يصلح للمصدر والزمان والمكان، ثم يُطلق على [كل] ما يؤخذ من مال العدو في الغزو، إطلاقاً للمصدر على اسم المفعول نحو:» ضَرْب الأمير «.
١٦٤ - ١- وإذا اُقْرِضْتَ قَرْضاً فاجْزِهِ | إنما يَجْزي الفتى غيرُ الجَمَلْ |
وقوله: ﴿فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ﴾ كِلا الجارَّيْن متعلقٌ ب «المجاهدون» و «المجاهدون» عطف على «القاعدون» قوله: ﴿دَرَجَةً﴾ فيها أربعة أوجه، أحدها: أنها منصوبة على المصدر لوقوع «درجة» موقعَ المَرَّة من التفضيل كأنه
قوله: ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ «كلاً» مفعول أول ل «وعد» مقدماً عليه، و «الحسنى» مفعول ثان. وقرئ: «وكلُّ» على الرفع بالابتداء، والجملة بعده خبره، والعائد محذوف أي: وعده، وهذه كقراءة ابن عامر في سورة الحديد ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ [الآية: ١٠]. قوله «أجراً» في نصب أربعة أوجه، أحدهما: النصب على المصدر من معنى الفعل الذي قبله لا من لفظه؛ لأن معنى «فَضَّل الله» آجرَ.
الثاني: النصب على إسقاطِ الخافض أي: فضَّلهم بأجر. الثالث: النصب على أنه مفعولٌ ثانٍ؛ لأنه ضَمَّن «فضَّل» أعطى، أي: أعطاهم أجراً تَفَضُّلاً منه. الرابع: أنه حال من «درجات» قال الزمخشري: «وانتصب» أجراً «على الحال من النكرة التي هي» درجات «مقدَّمةً عليها» وهو غير ظاهر؛ لأنه لو تَأَخَّر عن «درجات» لم يجز أن يكون نعتاً ل «درجات» لعدم المطابقة، لأنَّ «درجات» جمع، و «أجر» مفرد. كذا ردَّه بعضهم، وهي غفلة، فإنَّ «أجراً» مصدرٌ، والأفصحُ فيه أن يُوَحَّدَ ويُذَكَّر مطلقاً.
و «ظالمي» حالٌ من ضمير «توفَّاهم» والإِضافةُ غير محضة، إذ الأصل: ظالمين أنفسَهم. وفي خبر «إنَّ» هذه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه محذوفٌ تقديرُه: إنَّ الذين توفَّاهم الملائكةُ هَلَكوا، ويكون قوله: ﴿قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ﴾ مبيِّناً لتلك الجملةِ المحذوفةِ. الثاني: أنه ﴿فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ ودخلت الفاءُ زائدةً في الخبر تشبيهاً للموصول باسمِ الشرط، ولم تمنع «إنَّ» من ذلك، والأخفش يمنعه، وعلى هذا فيكون قولُه: ﴿قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ﴾ إمَّا صفةً ل «ظالمي» أو حالاً للملائكة، و «قد» معه مقدرةٌ عند مَنْ يشترط ذلك، وعلى القول بالصفة فالعائد محذوف أي: ظالمين أنفسَهم قائلاً لهم الملائكة. والثالث: أنه «قالوا فيم كنتم»، ولا بد من تقدير العائد أيضاً أي: قالوا لهم كذا، و «فيم» خبر «كنتم» وهي «ما» الاستفهامية حُذِفت ألفها حين جُرَّتْ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك عند قوله: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله﴾ [البقرة: ٩١] والجملة من قوله: «فيمَ كنتم» في محل نصب بالقول. «وفي الأرض» متعلقٌ ب «مستضعفين»،
قوله: ﴿فَتُهَاجِرُواْ﴾ منصوبٌ في جوابِ الاستفهام، وقد تقدَّم تحقيق ذلك. وقال أبو البقاء: «ألم تكن» استفهام بمعنى التوبيخ، «فتهاجروا» منصوبٌ على جواب الاستفهام، لأنَّ النفيَ صار إثباتاً بالاستفهام «انتهى قولُه:» لأنَّ النفي «إلى آخره لا يَظْهر تعليلاً لقوله» منصوبٌ على جواب الاستفهام «لأن ذلك لا يَصِحُّ، وكذا لا يَصِحُّ جَعْلُه علةً لقوله» بمعنى التوبيخ «. و» ساءت «: قد تقدم القول في ﴿ساء﴾، وأنها تجري مَجْرى» بِئْس «فيُشْترط في فاعلها ما يُشترط في فاعل تيك. و» مصيراً «تمييز.
قوله: ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ في هذه الجملة أربعة أوجه، أحدها: أنها مستأنفةٌ جوابٌ لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: ما وجهُ استضعافِهم؟ فقيل: كذا.
١٦٤ - ٢- ولقد أَمُرُّ على اللئيم يَسُبُّني | ..................... |
١٦٤ - ٣- وسأترُكُ منزلي لبني تميم | وألحقُ بالحجازِ فاستريحا |
١٦٤ - ٤-............... | ويَأْوي إليها المستجيرُ فيُعْصَما |
١٦٤ - ٥- ومَنْ لا يُقَدِّمْ رِجْلَه مطمئنةً | فَيُثْبِتَها في مستوى القاعِ يَزْلَقِ |
١٦٤ - ٦- ومَنْ يَقْتَرِبْ منا ويخضع نُؤْوِه | ولا يَخْشَ ظلماً ما أقامَ ولا هَضْما |
١٦٤ - ٧- إنْ تركَبوا فركوبُ الخيل عادتُنا | أو تَنْزِلون فإنَّا معشرٌ نُزُلُ |
١٦٤ - ٨- إنْ تُذْنِبوا ثم تأتيني بَقِيَّتُكُمْ | فما عليَّ بذنبٍ عندكم حُوبُ |
و «لكم» متعلقٌ بمحذوف؛ لأنه حالٌ من «عَدُوّاً» فإنه في الأصل صفةُ
١٦٤ - ٩- عَجِبْتُ والدهرُ كثيرٌ عَجَبُهْ | مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّني لم أَضْرِبُهْ |
١٦٥ - ٠- يَهُزُّ سِلاحاً لم يَرِثْها كَلالةً | يشكُّ بها منها غموضَ المَغَابِنِ |
قوله: ﴿لَمْ يُصَلُّواْ﴾ الجملة في محل رفع لأنها صفة ل «طائفة» بعد صفةٍ، ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصب على الحال؛ لأنَّ النكرة قبلها تخصَّصت بالوصف بأخرى. وقرأ الحسن: «فَلِتَقُمْ» بكسر لام الأمر، وهو الأصل. وقرأ أبو حيوة «وليأت» بناء على تذكير الطائفة. ورُوي عن أبي عمرو الإِظهار والإِدغامُ في «ولتأت طائفة» ووجوهُ هذه واضحة. وفي قوله ﴿وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ مجازٌ حيث جعل الحِذْر - وهو معنى من المعاني- مأخوذاً مع الأسلحة فجَعَلَه كالآلة، وهو كقوله تعالى: ﴿تَبَوَّءُوا الدار والإيمان﴾ [الحشر: ٩] في أحدِ الأوجه. وقد تقدَّم الكلامُ في «لو» الواقعةِ بعد ﴿وَدَّ﴾ [الآية: ١٠٩] هنا وفي البقرة وقرئ «أَمْتِعاتِكم» وهو الشذوذِ من حيث إنه جمع الجمعِ كقولهم: أَسْقِيات وأَعْطِيات. وقوله: ﴿أَن تضعوا﴾ كقولِه: ﴿أَن تَقْصُرُواْ﴾ وقد تقدم.
قوله: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله﴾ في جواب» لولا «وجهان، أظهرهما: أنه مذكورٌ وهو قولُه:» لَهَمَّتْ «والثاني: أنه محذوفٌ أي: لأضلُّوك، ثم استأنف جملةً فقال:» لَهَمَّتْ «أي: لقد هَمَّتْ. قال أبو البقاء في هذا الوجه:» ومثلُ حذفِ الجوابِ هنا حَذْفُه في قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله
و ﴿مِّن نَّجْوَاهُمْ﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل» كثير «فهو في محلِّ جر، والنجوى في الأصلِ مصدرٌ كما تقدم، وقد يُطْلَقُ على الأشخاص مجازاً [قال تعالى: ﴿وَإِذْ هُمْ نجوى﴾ [الإِسراء: ٤٧]]، ومعناها المُسَارَّة، ولا تكون إلا من اثنين فأكثرَ، وقال الزجاج: النجوى ما تَفَرَّد به الاثنانُ فأكثرُ سراً كان أو ظاهراً. وقيل: النجوى جمع نَجِيّ نقله الكرماني. قوله:» بين «يجوز ان يكون منصوباً بنفس» إصلاح «تقول:» أصلحت بين القوم «قال تعالى: ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: ١٠].
وأَنْ يتعلق / بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل» إصلاح «و» ابتغاءَ «مفعولٌ من أجله. وألف» مرضاة «عن واوٍ، وقد تقدم تحقيقه. وقرأ أبو عمرو وحمزة:» فسوف يُؤتيه «بالياءِ نظراً إلى الاسم الظاهر في قوله ﴿مَرْضَاتِ الله﴾ والباقون بالنون نظراً لقوله بعدُ:» نُولِّه ونُصْلِه «وهو أوقعُ للتعظيمِ.
١٦٥ - ١- فتخْبِرَه بأنَّ العقلَ عندي | جُرازٌ لا أَفَلُّ ولا أَنيثُ |
وقرأ أبو رجاء - ويُرْوى عن عاصم - «تدْعُون» بالخطاب.
قوله: ﴿لَّعَنَهُ الله﴾ فيه وجهان. أظهرُهما: أنَّ الجملة صفة ل «شيطاناً» فهي في محلِّ نصب، والثاني: أنها مستأنفةٌ: إمَّا إخبار بذلك، وإمَّا دعاء عليه. وقوله: «وقال» فيه ثلاثة أوجه: الصفةُ أيضاً، أو الحالُ على إضمار «قد» أي: وقد قال، أو على الاستناف. و «لأتَّخِذَنَّ» جوابُ قسم محذوف. و «من عبادك» يجوزُ أَنْ يتعلق بالفعل قبله أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «نصيباً» لأنه في الأصلِ صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها.
١٦٥ - ٢- حتى إذا ما هَوَتْ كَفُّ الغلام لها | طارَتْ وفي كفِّه مِنْ ريشها بِتَكُ |
١٦٥ - ٣-
ولم نَدْرِ إنْ حِصْناً من الموت حَيْصَةً | كم العمرُ باقٍ والمَدَى مُتَطاوِلُ |
١٦٥ - ٤- أتَحِيصُ من حُكْمِ المَنِيَّةِ جاهداً | ما للرجال عن المَنونِ مَحاصُ |
وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبةُ بن نصاح والحكم والأعرج: «أمانِيكم» «ولا أمانِي» بالتخفيف كأنَّهم جَمَعُوه على فعالِل دون فعاليل كما قالوا: قَرْقور وقراقير وقراقِر، والعرب تُنْقص من فعاليل الياء، كما تَزيدُها في فعالِل نحو قوله:
قوله: ﴿مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ﴾ «من» الأولى للتبعيض لأنَّ المكلَّف لا يطيق عمل كل الصالحات. وقال الطبري: «هي زائدة عند قوم» وفيه ضعفٌ لعدمِ الشرطين. و «مِنْ» الثانية للمتبين. وأجاز أبو البقاء أن تكونَ حالاً، وفي صاحبِها وجهان أحدُهما: أنه الضميرُ المرفوع ب «يعمل»، والثاني: أنه الصالحات أي: الصالحات كائنةً من ذكر أو أنثى، وقد تقدَّم إيضاح هذا في قوله: ﴿لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى﴾ [آل عمران: ١٩٥] والكلامُ على «أو» أيضاً «وقوله:» وهو مؤمن «جملة حالية من فاعل» يعمل «وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو بكر عن عاصم:» يُدْخَلون «هنا وفي مريم وأول غافر بضم حرف المضارعة وفتح الخاء مبنياً للمفعول، وانفردَ ابنُ كثير وأبو بكر بثانية غافر، وأبو عمرو بالتي في فاطر والباقون بفتحِ حرفِ
قوله :﴿ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ ﴾ " من " الأولى للتبعيض لأنَّ المكلَّف لا يطيق عمل كل الصالحات. وقال الطبري :" هي زائدة عند قوم " وفيه ضعفٌ لعدمِ الشرطين. و " مِنْ " الثانية للمتبين. وأجاز أبو البقاء أن تكونَ حالاً، وفي صاحبِها وجهان أحدُهما : أنه الضميرُ المرفوع ب " يعمل "، والثاني : أنه الصالحات أي : الصالحات كائنةً من ذكر أو أنثى، وقد تقدَّم إيضاح هذا في قوله :﴿ لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ﴾ [ آل عمران : ١٩٥ ] والكلامُ على " أو " أيضاً " وقوله :" وهو مؤمن " جملة حالية من فاعل " يعمل " وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو بكر عن عاصم :" يُدْخَلون " هنا وفي مريم وأول غافر بضم حرف المضارعة وفتح الخاء مبنياً للمفعول، وانفردَ ابنُ كثير وأبو بكر بثانية غافر، وأبو عمرو بالتي في فاطر والباقون بفتحِ حرفِ المضارعة وضَمِّ الخاء مبنياً للفاعل، وذلك للتفنُّنِ في البلاغَةِ، وقد يظهرُ فروقٌ لا يَسَعُها هذا الكتابُ.
قوله: ﴿واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ فيه وجهان، وذلك أن اتَّخذ «إنْ عَدَّيْناها لاثنين كان مفعولاً ثانياً وإلا كانَ حالاً، وهذه الجملة عطف على الجملةِ الاستفهاميةِ التي معناها الخبرُ نَبَّهَتْ على شرف المتبوع وأنه جديرٌ بأن يُتَّبع لاصطفاءِ الله له بالخُلّة، ولا يجوز عطفها على ما قبلها لعدم صلاحيتِها صلةً للموصول. وجعلها الزمخشري جملةً معترضة قال:» فإنْ قلت ما محلُّ هذه الجملةِ؟ قلت: لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها مِنْ جمل الاعتراضاتِ نحو ما يجيء في الشعر من قولهم «والحوادثُ جَمَّةٌ» فائدتُها تأكيدُ وجوبِ اتِّباع مِلَّته، لأنَّ مَنْ بَلَغ من الزُّلفى عند الله أَن اتَّخذه خليلاً كان جديراً بأن يُتَّبع «فإنْ عنى بالاعتراضِ المصطلحَ عليه فليس ثَمَّ اعتراضٌ، إذ الاعتراضُ بين متلازمين كفعلٍ وفاعل مبتدأ وخبر
١٦٥ - ٥-............... | ........... تَنْقادَ الصياريفِ |
١٦٥ - ٦- وقد أَدْرَكَتْني والحوادثُ جَمَّةٌ | أَسِنَّةُ قومٍ لا ضعافٍ ولا عُزْلِ |
١٦٥ - ٧- ألا هل أتاها والحوادثُ جَمَّةٌ | بأنَّ امرأ القيس بنَ تَمْلِكَ بَيْقَرا |
والخليلُ: مشتق من الخَلَّة بالفتح وهي الحاجة، أو من الخُلَّة بالضم، وهي المودة الخالصة، أو من الخَلَل. قال ثعلب:» سُمِّي خليلاً لأن مودته تَتَخَلَّلُ القلبَ «وأنشد:
١٦٥ - ٨- قد تَخَلَّلْتَ مسلكَ الروحِ مني | وبه سُمِّي الخليلُ خليلا |
والجر من وجهين، أحدهما: أن تكون الواو للقسم، وأقسمَ اللهُ بالمتلوِّ في شأن النساء تعظيماً له كأنه قيل: وأُقْسم بما يُتْلى عليكم في الكتاب، ذكره الزمخشري والثاني: أنه عطفٌ على الضمير المجرور ب «في» أي: يُفْتيكم فيهنَّ وفيما يتلى، وهذا منقولٌ عن محمد بن أبي موسى قال: «أفتاهم الله فيما سألوا عنه وفيما لم يَسْألوا» إلا أنَّ هذا ضعيف من حيث الصناعةُ، لأنه عطفٌ على الضميرِ المجرورِ من غير إعادة الجار وهو رأي الكوفيين، وقد قَدَّمْتُ ما في ذلك من مذاهب الناس ودلائلهم مستوفى عند قوله:
﴿وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام﴾ [البقرة: ٢١٧] فعليك بالالتفات إليه. قال الزمخشري: «ليس بسديدٍ أن يُعْطَف على المجرور في» فيهنَّ «لاختلاله من حيث اللفظ والمعنى» وهذا سبَقَه إليه أبو إسحاق قال: «وهذا بعيدٌ بالنسبةِ إلى اللفظِ وإلى المعنى: أمَّا اللفظُ فإنه يقتضي عطفَ المُظْهَر على المضمرِ، وأما المعنى فلأنه ليس المرادُ أنَّ اللهَ يفتيكم في شأنِ ما يُتْلى
١٦٥ - ٩- إذا كوكبُ الخَرْقاءِ لاحَ بِسُحْرَةٍ | سهيلٌ أذاعَتْ غَزْلَها في الغرائب |
والنصبُ بإضمار فعل أي: ويبيِّن لكم ما يُتْلى، لأنَّ» يُفْتيكم «بمعنى يبيِّن لكم. واختار الشيخ وجهَ الجرِّ على العطفِ على الضمير، مختاراً لمذهب الكوفيين وبأنَّ الأوجه كلَّها تؤدي إلى التأكيد، وأمَّا وجهُ العطف على الضمير فيجعلُه تأسيساً قال:» وإذا دار الأمرُ بينهما فالتأسيسُ أَوْلى «وفي جَعْلِه هذا الوجهَ منفرداً بالتأسيس دونَ بقية الأوجه نظرٌ لا يَخْفى.
قوله: ﴿فِي الكتاب﴾ يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنه متعلق ب» يُتْلى «والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في» يتلى «والثالث: أنه خبر» ما يتلى «على الوجه الصائر إلى أنَّ» ما يتلى «
قوله: ﴿فِي يَتَامَى﴾ فيه خمسة أوجه، أحدُها: أنه بدل من» الكتاب «وهو بدلُ اشتمالٍ، ولا بد مِنْ حذفِ مضافٍ أي في حُكْم يتامى، ولا شك أن الكتابَ مشتملٌ على ذكرِ أحكامهن. والثاني: أن يتعلق ب» يتلى «فإن قيل: كيف يجوزُ تعلُّقُ حَرْفَيْ جر بلفظ واحد ومعنى واحد؟ فالجوابُ أنَّ معناهما مختلف، لأنّ الأولى للظرفيةِ على بابها، والثانية بمعنى الباء للسببية مجازاً أو حقيقةً عند مَنْ يقولُ بالاشتراك. وقال أبو البقاء: كما تقولُ» جئتُك في يوم الجمعة في أَمْرِ زيد «والثالث: أنه بدل من» فيهن «بإعادة العامل، ويكون هذا بدل بعض من كل. قال الزمخشري:» فإنْ قلت: بِمَ تعلَّق قوله «في يتامى النساء؟» قلت: في الوجه الأول هو صلةُ «يُتْلى» أي: يُتْلى عليكم في معناهن، ويجوز أن يكونَ «في يتامى» بدلاً من «فيهنَّ»، وأمّا في الوجهين الأخيرين فبدلٌ لا غير «انتهى.
يعني بالوجه الأول أن يكونَ «ما يتلى» مرفوعَ المحل. قال الشيخ: «أمَّا ما أجازه في وجَهْ الرفع من كونه صلة» يتلى «فلا يجوزُ إلاَّ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ» في الكتاب «أو تكون» في «للسببية، لئلا يتعلق حرفا جر بلفظ واحد ومعنى واحد بعاملٍ واحد، وهو ممتنعٌ إلا في البدل والعطف، وأمَّا تجويزُه أن يكونَ بدلاً من» فيهن «فالظاهرُ أنه لا يجوز للفصل بين البدلِ والمبدلِ منه بالمعطوفِ، ويصير هذا نظيرَ قولك:» زيدٌ يقيمُ في الدار وعمروٌ في كِسْرٍ منها «فَفَصَلْتَ بين» في الدار «وبين» في كِسْر «ب» عمرو «والمعهودُ في مثل هذا / التركيب: زيدٌ يقيمُ في الدار في
والجمهور على» يتامى «جمع يتيمة. وقرأ أبو عبد الله المدني:»
١٦٦ - ٠- أبْنَيَّ إنَّ أباكَ غَيَّر لونَه | كَرُّ الليالي واختلافُ الأعْصُرِ |
قوله: ﴿وَتَرْغَبُونَ﴾ فيه أوجه، أحدُهما: - وهو الظاهر- أنه معطوفٌ على الصلةِ عطفَ جملةٍ مثبتةٍ على جملةٍ منفية أي: اللاتي لا تؤتونهن واللاتي ترغبون أن تنكوحوهُن، كقولك: «جاء الذي لا يَبْخَلُ ويكرم الضيفان» والثاني: أنه معطوفٌ على الفعلِ المنفيِّ ب «لا» أي: لا تؤتونهن ولا ترغبون والثالث: أنه حالٌ من فاعل «تؤتونهن» أي: لا تؤتونهن وأنتم راغبون في نكاحهن. ذكر هذين الوجهين أبو البقاء، وفيهما نظر: أمّا الأولُ فلخلافِ الظاهر، وأما الثاني فلأنه مضارع مثبت، فلا تدخل عليه الواو إلا بتأويلٍ لا حاجة لنا به ههنا.
و ﴿أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ على حَذْفِ حرفِ الجر ففيه الخلاف المشهور: أهي في محل نصب أم جر؟ واختُلِفَ في تقدير حرف الجر فقيل: هو «في» أي: ترغبون في
قوله: ﴿والمستضعفين﴾ فيه ثلاثة أوجه الأول - وهو الظاهر- أنه معطوفٌ على «يتامى النساء» أي: ما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي المستضعفين، والذي تُلي عليهم فيهم قوله:
﴿يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ﴾ [النساء: ١١]، وذلك أنهم كانوا يقولون: لا نُوَرِّثُ إلا مَنْ يحمي الحَوْزة ويَذُبُّ عن الحرَمِ فيَحرمون المرأة والصغيرَ فنزلت. والثاني: أنَّه في محلِّ جر عطفاً على الضمير في «فيهن» وهذا رأيٌ كوفي. والثالث: أنه منصوب عطفاً على موضع «فيهن» أي: ويبيِّن حالَ المستضعفين. قال أبو البقاء: «وهذا التقديرُ يَدْخُلُ في
قوله: ﴿وَأَن تَقُومُواْ﴾ فيه خمسةُ أوجه: الثلاثة المذكورة فيما قبله فيكون هو كذلك لعطفِه على ما قبلَه، والمتلوُّ عليهم في هذا المعنى قولُه: ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: ٢] ونحوه. والرابع: النصبُ بإضمار فعل. قال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بإضمار» يأمركم «بمعنى: ويأمركم أن تقوموا، وهو خطابٌ للأئمة بأَنْ ينظروا إليهم ويستوفوا لهم حقوقهم ولا يَدَعوا أحداً يهتضم جانبهم» فهذا الوجه من النصبِ غيرُ الوجهِ الذي ذكرته فيما قبلُ والخامس: أنه مبتدأ وخبره محذوفٌ أي: وقيامُكم لليتامى بالقسطِ خيرُ لكم. وأولُ الأوجُهِ أوجَهُ.
قوله: ﴿أَن يُصْلِحَا﴾ قرأ الكوفيون: / «يُصْلِحا» من أصلح، وباقي السبعة «يَصَّالحا» بتشديد الصاد بعدها ألف، وقرأ عثمان البتي والجحدري: «يَصَّلِحا» بتشديد الصاد من غير ألف، وعبيدة السلماني: «يُصالِحا» بضمِّ الياءِ وتخفيفِ الصادِ وبعدَها ألفٌ من المفاعلة، وابن مسعود والأعمش: «أن اصَّالحا» فأمّا قراءةُ الكوفيين فواضحةٌ، وقراءةُ باقي السبعة أصلُهَا «يتصالحا» فأُريد الإِدغام تخفيفاً فَأُبْدِلت التاءُ صاداً وأُدْغِمت، وأمَّا قراءةُ عثمان فأصلُها: «يَصْطَلِحا» فَخُفِّفَ بإبدالِ الطاء المبدلةِ من تاءِ الافتعال صاداً وإدغامهما فيما بعدها. وقال أبو البقاء: «وأصلُه::» يَصْتَلِحا «فأُبْدِلت التاء صاداً وأُدْغِمت فيها الأولى» وهذا ليس بجيدٍ، لأنَّ تاءً الافتعال يجبُ قَلْبُها طاءً بعد الأحرف الأربعة كما تقدَّم تحقيقُه في البقرة، فلا حاجة إلى تقديرها تاءً، لأنه لو لُفِظ بالفعلِ مظهراً لم يُلْفظ فيه بالتاء إلا بياناً لأصلِهِ. وأمَّا قراءةُ عبيدة فواضحةٌ لأنها من المصالحة. وأما قراءة «يصطلحا» فأوضحُ. ولم يُخْتلف في «صُلْحاً» مع اختلافِهم في فعلِه.
وفي نصبِه أوجهٌ: فإنه على قراءة الكوفيين يَحْتمل أن يكونَ مصدراً،
والحاصلُ أنه من بقية القراءات ينتفي عنه وجهُ المفعولِ به المذكورِ في قراءة الكوفيين، وتبقى الأوجهُ الباقيةُ جائزةً في سائر القراءات.
قوله: ﴿والصلح خَيْرٌ﴾ مبتدأ وخبر، وهذه الجملة قال الزمخشري فيها وفي التي بعدها: «إنهما اعتراضٌ» ولم يبيِّنْ ذلك، وكأنه يريد أن قولَه: «وإنْ يَتفَرَّقا» معطوفٌ على قوله: «فلا جناح» فجاءت الجملتان بينهما اعتراضاً، هكذا قال الشيخ وفيه نظر، فإن بعدهما جملاً أُخَرَ فكان ينبغي أن يقول الزمخشري في الجميع: إنها اعتراض، ولا يخص: «والصلح خير» «وأُحْضِرَت الأنفسُ» بذلك، وإنما يريد الزمخشري بذلك الاعتراضَ بين قوله: ﴿وَإِنِ امرأة﴾ وقوله: ﴿وَإِن تُحْسِنُواْ﴾ فإنهما شرطان متعاطفان، ويَدُلُّ عليه تفسيرُه
قوله: ﴿وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح﴾ «حَضَر» يتعدى إلى مفعول، واكتسب بالهمزة مفعولاً ثانياً، فلمَّا بُني للمفعول قامَ أحدُهما مقامَ الفاعل فانتصبَ الآخرُ. والقائمُ مقامَ الفاعلِ هنا يَحْتمل وجهين أظهرهما - وهو المشهورُ مِنْ مذاهب النحاة - أنه الأول وهو «الأنفس» فإنه الفاعل في الأصل، إذ الأصل: «حضرت الأنفسُ الشحَّ» والثاني: أنه المفعول الثاني، والأصل: وحضر الشحُّ الأنفسَ، ثم أحضر اللَّهُ الشحَّ الأنفسَ، فلما بُني الفعل للمفعول أٌقيم الثاني - وهو الأنفسُ- مقامَ الفاعل، فأُخِّر الأول وبقي منصوباً، وعلى هذا يجوز أن يقال: «أُعْطِي درهمٌ زيداً» و «كُسِي جبةً عمراً» والعكس هو المشهورُ كما تقدَّم، وكلامُ الزمخشري يَحْتمل كونَ الثاني هو القائمَ مقامَ الفاعلِ فإنه قال: «ومعنى إحضارِ الأنفس الشحَّ أنَّ الشح جُعِل حاضراً لها لا يَغيب عنها أبداً ولا ينفك» يعني أنها مطبوعةٌ عليه، فأُسْنِدَ الحضورُ إلى الشح كما ترى، ويحتمل أنه جَعَله من باب القلب فنسَب الحضورَ إلى الشحِّ وهو في الحقيقة منسوب إلى الأنفس. وقرأ العدوي: «
قوله: ﴿وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ﴾ «لو» هذه تحتمل أَنْ تكونَ على بابها من كونِها حرفاً لما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه وجوابُها محذوفٌ أي: ولو كنتم شهداءَ على أنفسكم لوجب عليكم أن تَشْهدوا عليها. وأجاز الشيخ أن تكونَ بمعنى «إن» الشرطية، ويتعلَّقُ قولُه «على أنفسكم» بمحذوفٍ تقديرُه: وإن كنتم شهداء على أنفسكم فكونوا شهداء لله، هذا تقديرُ الكلام، وحَذْفُ «كان» بعد «لو» كثير، تقول: ائتِني بتمر ولو حَشَفاً «أي: وإن كان التمر حشفاً فأتني به». انتهى وهذا لا ضرورةَ تدعو إليه، ومجيءُ «لو» بمعنى «إنْ» شيءْ أثبته بعضُهم على قلة فلا ينبغي أَنْ يُحْمَلَ القرآنُ عليه. وقال ابن عطية: «على أنفسكم» متعلِّقٌ ب «شهداء» قال الشيخ «فإنْ عنى ب» شهداء «الملفوظَ به فلا يَصِحُّ، وإنْ عَنَى به ما قَدَّرْناه نحن فيصِحُّ» يعني تقديرَه «لو» بمعنى «إنْ» وحَذْفَ «كان» واسمِها وخبرِها بعد «لو» وقد تقدَّم أن ذلك قليلٌ، فلم يبق إلا أن ابن عطيةَ يريد «شهداء» محذوفةً كما قَدَّرْتُه لك أولاً نحو: «ولم كنتم شهداء» على أنفسكم لوجَبَ عليكم أن تشهدوا.
وقال في الوجه الثاني: «وهذا لا يجوز لأن ما تعلق به الظرف كونٌ مقيدٌ، والكونُ المقيد لا يجوزُ حَذْفُه بل المطلقُ، لو قلت:» [كان] زيدٌ فيك «تعني: محباً فيك لم يجز» وهذا الرد أيضاً ليس بشيء لأنه قَصَد تفسير المعنى، ومبادئُ النحو لا تَخْفى على آحاد الطلبة فكيف بشيخِ الصناعة؟.
قوله: ﴿فالله أولى بِهِمَا﴾ إذا عُطف ب «أو» كان الحكمُ في عَوْدِ الضمير والإِخبارِ وغيرِهما لأحدِ الشيئين أو الأشياء، ولا يجوز المطابقةُ تقول: «زيد
الخامس: أنَّ الضميرَ يعودُ على الغِنى والفقرِ المدلول عليهما بلفظِ الغني والفقير. والتقديرُ: فاللَّهُ أولى بغِنى الغَني وفَقْر الفقير. وقد أساء ابنُ عصفور العبارةَ هنا بما يُوقَفُ عليه في كلامه. وعلى أربعةِ الأوجهِ الأخيرة
قوله: ﴿أَن تَعْدِلُواْ﴾ فيه ثلاثة أوجهٍ، أحدُهما: أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: فلا تَتَّبِعوا الهوى محبةَ أَنْ تَعْدِلوا، أو إرادةَ أَنْ تَعْدِلوا أي: تَعْدِلوا عن الحق وتَجُوروا. وقال أبو البقاء في المضافِ المحذوف: «تقديرُه: مخافةَ أَنْ تَعْدِلوا عن الحق» وقال ابن عطية: «يُحْتمل أن يكونَ معناه: مخافةَ أن تَعْدِلوا، ويكون العدلُ هنا بمعنى / العُدول عن الحق، ويُحْتمل أن يكونَ معناه: محبةَ أَنْ تَعْدِلوا، ويكونُ العدلُ بمعنى القسط، كأنه يقول: انتهوا خوفَ أَنْ تجوروا، أو محبةَ أَنْ تُقْسِطوا، فإنْ جَعَلْتَ العامل» تتبعوا «فيحتمل أَنْ يكونَ المعنى محبةَ أَنْ تَجُورا» انتهى. فتحصَّل لنا في العاملِ وجهان: الظاهرُ منهما أنه نفسُ «تتبَّعوا» والثاني: أنه مضمر وهو فعلٌ مِنْ معنى النهي كما قَدَّره ابنُ عطية، كأنه يزعم أنَّ الكلامَ تَمَّ عند قولِه: ﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى﴾ ثم أضْمَرَ عاملاً، وهذا ما لا حاجةَ إليه.
الثاني: أنه على إسقاطِ حرفِ الجر وحَذْفِ «لا» النافية، والأصل: فلا تَتَّبعوا الهوى في ألاَّ تَعْدِلوا أي: في تَرْكِ العدل، فَحَذف «لا» لدلالة المعنى عليها، ولَمَّا حَذَفَ حرفَ الجر من «أن» جرى القولان الشهيران. الثالث: أنه على
قوله: ﴿وَإِن تَلْوُواْ﴾ قرأ ابن عامر وحمزة» تَلُوا «بلامٍ مضمومةٍ وواوٍ ساكنة، والباقون بلامٍ ساكنةٍ وواوين بعدها، أولاهما مضمومة.
فأمَّا قراءةُ الواوينِ فظاهرةٌ لأنه من لَوَى يَلْوي، والمعنى: وإنْ تَلْووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل، والأصل: تَلْوِيُون كتَضْرِبون، فاستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فَحُذفت، فالتقى ساكنان: الياء وواو الضمير فحُذِف أولُهما - وهو الياء - وضُمَّت الواوُ المكسورةُ التي هي عين لأجل واوِ الضمير فصار تَلْوُون، وتصريفُه كتصريف» تَرْمُون «.
وأما قراءة حمزة وابن عامر ففيها ثلاثة أقوال، أحدها: وهو وقول الزجاج والفراء والفارسي في إحدى الروايتين عنه - أنه من لَوَى يَلْوي كقراءة الجماعة، إلاَّ أنَّ الواوَ المضومةَ قُلِبَتْ همزةً كقلبها في» أُجوه «و» أُقِّتتْ «ثم نُقِلت حركةُ هذه الهمزةِ إلى الساكنِ قبلها وحذفت فصار» تَلُون «كما ترى.
الثاني: أنه من لَوَى يَلْوي أيضاً. إلا ان الضمةَ استُثْقِلَتْ على الواو الأولى فنُقِلت إلى اللام الساكنة تخفيفاً، فالتقى ساكنان وهما الواوان / فحُذِفت الأول منهما، ويُعْزى هذا للنحاس. وفي هذين التخريجين نظرٌ، وهو أنَّ لامَ الكلمة قد حُذِفَت أولاً كما قررته فصار وَزْنُه: تَفْعُوا، بحذف اللام، ثم حُذِفت العينُ ثانياً فصار وزنُه: تَفُوا، وذلك إجْحاف
١٦٦ - ١- ومتى واغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو | هُ وتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقي |
١٦٦ - ٢- فلو أَنْكِ في يومِ الرخاءِ سَأَلْتِني | طلاقَك لم أبخَلْ وأنتِ صديقُ |
١٦٦ - ٣- فعلمْتُ أَنْ ما تَتَّقُوه فإنه | جَزْرٌ لِخامعةٍ وفَرْخِ عقابِ |
قوله: ﴿يُكَفَرُ بِهَا﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال من الآيات، و» بها «في محلِّ رفعٍ لقيامِه مقامَ الفاعلِ، وكذلك في قولِه ﴿وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾ والأصل: يَكفر بها أحدٌ، فلمَّا حُذِف الفاعلُ قام الجارُّ والجرورُ مقامه، ولذلك رُوعي هذا الفاعلُ المحذوف، فعاد عليه الضميرُ من قوله» معهم «» حتى يخوضوا «كأنه قيل: إذا سمعتم آياتِ الله يَكْفُر بها المشركون ويستهزئ بها المنافقون فلا تَقْعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيرِه أي: غيرِ حديث الكفر والاستهزاء، فعاد الضمير في» غيره «على ما دلَ عليه المعنى. وقيل: الضمير
﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨] و [قوله:]
١٦٦ - ٤- كأنَّه في الجِلْدِ توليعُ البَهَقْ... وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة. و «حتى» غايةٌ للنهي، والمعنى: أنه يجوز مجالستهم عند خوضِهم في غيرِ الكفر والاستهزاء.
وقوله: ﴿إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ﴾ «إذنْ» هنا مُلْغَاةٌ لوقوعها بين مبتدأ وخبر. والجمهور على رفعِ اللام في «مثلُهم» على خبرِ الابتداء. وقرئ شاذاً بفتحها، وفيها تخريجان، أحدهما: - وهو قولُ البصريين- أنه خبر أيضاً، وإنما فُتِح لإِضافته إلى غير متمكن كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ [الذاريات: ٢٣] بفتح اللام، وقول الفرزدق:
١٦٦ - ٥-..................... | .......... وإذما مثلَهم بشرُ |
قوله: ﴿وَنَمْنَعْكُمْ﴾ الجمهورُ على جزمه عطفاً على ما قبله. وقرأ ابن
١٦٦ - ٦- ألم أكُ جارَكمْ ويكونَ بيني | وبينكمُ المودةُ والإخاءُ |
ونستحوذ واستحوذ مِمَّا شَذَّ قياساً وفَصُحَ استعمالاً / لأنَّه مِنْ حقه نَقْلُ حركةِ حرفِ علتِه إلى الساكن قبلها، وقَلْبُها ألفاً كاستقام واستبان وبابه، وقد قدمت تحقيق هذا في قوله: ﴿نَسْتَعِينُ﴾ [الآية: ٥] في الفاتحة، وقد شَذَّت معه الفاظُ أُخَرُ نحو: «أَغْمَيتْ وأَغْيلتْ المرأة وأَخْيلت السماء» قصرها النحويون على السماع، وقاسَها أبو زيد. والاستحواذ: التغلُّب على الشيء والاستيلاءُ عليه. ومنه: ﴿استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان﴾ [المجادلة: ١٩]. ويقال: «حاذَ وأحاذ» بمعنى، والمصدُر الحَوْذ.
١٦٦ - ٧- فما كانَ بين الخيرِ لو جاء سالماً | أبو حُجُرٍ إلا ليالٍ قلائِلُ |
قوله: ﴿يراؤون﴾ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُهما: أنها حالٌ من الضمير المستتر في «كُسالى» الثاني: أنها بدلٌ من «كُسالى» ذكره أبو البقاء، فيكونُ حالاً من فاعل «قاموا» وفيه نظرٌ، لأنَّ الثاني ليس الأولَ ولا بعضه ولا مشتملاً عليه. الثالث: أنها مستأنفةٌ أَخْبر عنهم بذلك. وأصلُ يُراؤُون: يُرائِيوُن فأُعِلَّ كنظائرِه. والجمهور على «يُراؤُون» من المفاعلةِ قال الزمخشري: فإنْ قلت: ما معنى المراءاة وهي مُفَاعَلَة من الرؤية؟ قلت: لها وجهان أحدها: أنَّ المرائِيَ يُريهم عمله وهم يُرُوْنه الاستحسانَ. والثاني: أنْ تكونَ من المفاعلة بمعنى التفعيل، يقال: نعَّمه وناعمه، وفَنَّقه وفانَقَه، وعيش مُفَانِق، وروى أبو زيد: «رأَّت المَرْأةُ المِرْآة» إذا أَمْسَكَتْها له ليرى وجهه، ويدل عليه قراءةُ ابن أبي اسحاق: «يُرَؤُّونهم» بهمزةٍ مشددةٍ مثلَ: يُدَعُّونهم، أي: يُبَصِّرونهم ويُرَاؤُوْنهم كذلك، يعني أنّ قراءةَ «يُرَؤُّونَهم» مِنْ غير ألفٍ بل بهمزةٍ مضمومةٍ مشددةٍ توضِّح أنَّ المُفَاعلةَ هنا بمعنى التفعيل. قال ابن عطية: «وهي - يعني هذه القراءة - أقوى من» يراؤون «في المعنى؛ لأنَّ معناها يَحْمِلُون الناسَ على أَنْ يَرَوْهم، ويتظاهرون لهم بالصلاة ويُبْطُنون النفاقَ» وهذا منه ليس بجيد؛ لأنَّ المفاعلة إنْ كانت على
وقوله: ﴿قَلِيلاً﴾ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو لزمان محذوف أي: ذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً، والقلةُ هنا على بابِها، وجَوَّز الزمخشري وابن عطية أن تكون بمعنى العَدَم، ويأباه كونُه مستثنى، وقد تقدَّم الردُّ عليهما في ذلك. وقوله: ﴿وَلاَ يَذْكُرُونَ﴾ يجوز أن يكونَ عطفاً على «يُراؤُون» وأن يكون حالاً من فاعل «يُراؤون» وهو ضعيفٌ لأنَّ المضارع المنفي ب «لا» كالمثبت، والمُثْبَتُ إذا وَقَع حالاً لا يَقْتَرِنُ بالواوِ، فإنْ جَعَلَها عاطفةً جاز.
١٦٦ - ٨- طَها هُذْرُبانٌ قَلَّ تغميضُ عيِنِه | على دُبَّةٍ مثلِ الخَنيفِ المُرَعْبَلِ |
ومُذّبْذَب وشبهُه نحو: مُكَبْكَب ومُكَفْكَف مِمَّا ضُعِّف أولُه وثانيه وصَحَّ المعنى بإسقاط ثالثِه فيه مذاهبٌ، أحدُهما: - وهو قولُ جمهورِ البصريين - أنَّ الكلَّ أصولٌ، لأنَّ أقلَّ البنية ثلاثةُ أصولٍ وليس أحدُ المكررين أَوْلى بالزيادةِ من الآخر. الثاني - ويُعْزَى للزجاج - أنَّ ما صَحَّ إسقاطُه زائدةٌ. الثالث: - وهو قول الكوفيين - أن الثالث بدل من تضعيف الثاني، ويزعمون أن أصل كفكف: كَفَّفَ بثلاث فاءات، وذبذب: ذَبَّب بثلاث باءات فاستُثْقِل توالي
قال النابغة:
١٦٦ - ٩- ألم تَرَ أنَّ اللهَ أَعْطاك سُورةً | تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دونَها يَتَذَبْذَبُ |
١٦٧ - ٠- خيالٌ لأمِّ السَّلْبيل ودونَها | مسيرةُ شهرٍ للبعيرِ المُذَبْذِبِ |
و «بين» معمولٌ لقوله: «مُذَبْذَبين» و «ذلك» إشارةٌ إلى الكفر والإِيمان المدلولِ عليهما بذكر الكافرين والمؤمنين ونحو:
١٦٧ - ١-
إذا نُهِي السفيهُ جَرَى إليه | ....................... |
قوله: ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ الله﴾ رُسِمت» يؤت «دون» ياء «وهو مضارعٌ مرفوع فحقُّ يائه أن تثبت لفظاً وخطاً، إلا أنها حذفت لفظاً في الوصل لالتقاء الساكنين فجاءُ الرسم تابعاً للفظ، وله نظائر تقدم بعضها. والقراءُ يقفون عليه دون ياء أتِّباعاً للخط الكريم، إلا يعقوبَ فإنه يقف بالياء نظراً إلى الأصل، ورُوي ذلك أيضاً عن الكسائي وحمزة. وقال أبو عمرو:» ينبغي أن لا يُوقَفَ
قوله: ﴿إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: أنه متصل والثاني: أنه منقطع، وإذا قيل بأنه متصل فقيل: هو مستثنى من «أحد» المقدرِ الذي هو فاعلٌ للمصدر، فيجوز أن تكون «مَن» في محلِّ نصبٍ على أصل الاسثناء أو رفعٍ على البدل من «أحد» وهو المختار، ولو صُرِّح به لقيل: لا يحبُّ الله أن يَجْهَر أحدٌ بالسوء إلا المظلومُ، أو المظلومَ رفعاً ونصباً، ذكر ذلك مكي وأبو البقاء وغيرُهما. قال الشيخ: «وهذا مذهب الفراء، أجاز في» ما قام إلا زيدٌ «أن يكون» زيد «بدلاً من» أحد «وأمَّا على مذهب الجمهور فإنه يكون من المستثنى الذي فُرِّغ له العامل فيكون مرفوعاً على الفاعلية بالمصدر، وحَسَّنَ ذلك كونُ الجهر في حَيِّز النفي، كأنه قيل: لا يَجْهَرُ بالسوء من القول إلا المظلومُ» انتهى. والفرقُ ظاهر بين مذهب الفراء وبين هذه الآية، فإن النحويين إنما لم يَرَوا بمذهب الفراء قالوا: لأن المحذوف صار نَسْياً منسياً، وأما فاعل المصدر هنا فإنه كالمنطوقِ به ليس منسياً فلا يلزمُ من تجويزهم الاستثناء من هذا الفاعلِ المقدر أن يكونوا تابعين لمذهب الفراء لِما ظهر من الفرق. وقيل: هو مستثنى مفرغ، فتكون «
والثاني: أنه استثناءٌ منقطعٌ، تقديرُه: لكنْ مَنْ ظُلِم له أن ينتصف من ظالمه بما يوازي ظلامتَه فتكون «مَنْ» في محل نصب فقط على الاستثناء المنقطع.
والجمهورُ على «إلاَّ مَنْ ظُلِمَ» مبنياً للمفعول، وقرأ جماعة كثيرة منهم ابن عباس وابن عمر وابن جبير والحسن: «ظَلَم» مبنياً للفاعل، وهو استثناء منقطع، فهو في محل نصب على أصل الاستثناء المنقطع، واختلفت عبارات العلماء في تقدير هذا الاستثناء، وحاصل ذلك يرجع إلى أحد تقديرات ثلاثة: إمَّا أن يكون راجعاً إلى الجملة الأولى كأنه قيل: لا يحب اللَّهُ الجهرَ بالسوء، لكنَّ الظالمَ يحبه فهو يفعله، وإما أَنْ يكونَ راجعاً إلى فاعل الجهر أي: لا يحبُّ اللَّهُ أن يَجْهَر أحدٌ بالسوء، لكن الظالم يَجْهر به، وإمَّا أن يكون راجعاً إلى متعلق الجهر وهو «مَنْ يُجاهَرُ ويُواجَه بالسوء» أي: لا يحب الله أن يُجْهَر بالسوء لأحد لكن الظالم يُجْهَرُ له به، أي: يُذكر ما فيه من المساوئ في وجهه، لعله أن يَرْتدع. وكونُ هذا المستثنى في هذه القراءة منصوبَ المحل على الانقطاع هو الصحيح، وأجاز ابن عطية والزمخشري أن
١٦٧ - ٢- عَشِيَّةَ ما تُغْني الرماحُ مكانَها | ولا النبلُ إلا المشرفيُّ المُصَمَّمُ |
أمَّا ردُّه على ابن عطية فواضحٌ، وأمَّا ردُّه على الزمخشري / ففي بعضه نظر، أما قوله «لا نعلمها لغةً إلى في كتاب سيبويه» فكفى به دليلا على صحة استعمالِ مثله، ولذلك شرح الشراح لكتاب سيبويه هذا الكلامَ بأنه قياسُ كلام العرب لِما أَنْشد من الأبيات. وأمَّا تأويلُه «ما أتاني زيدٌ إلا عمروٌ» ب «ما أتاني زيد ولا غيرُه» فلا يتعيَّن ما قاله، وتصحيحُ الاستثناء فيه أنَّ قولَ القائل «ما أتاني زيد» قد يُوهم أن عمراً أيضاً لم يَجِئه فنفى هذا الوهمَ، وهذا القَدْر كافٍ في الاستثناء المنقطع، ولو كان تأويل «ما أتاني زيد إلا عمروٌ» على ما قال لم يكن استثناءً منقطعاً بل متصلاً، وقد اتفق النحويون على ان ذلك من المنقطع، وأمّا تأويلُ الآية بما ذكره فالتجوُّزُ في ذلك أمرٌ خطرٌ، فلا ينبغي أن يُقْدَمَ على مِثْله.
والثاني: أنها جوابُ شرطٍ مقدر، قال الزمخشري أي: إنْ استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا» و «أكبَرَ» صفةٌ لمحذوف أي: سؤالاً أكبر من ذلك. والجمهور: «أكبرَ» بالباء الموحدة، وقراءة الحسن «أكثر» بالثاء المثلثة. وقوله: ﴿فقالوا أَرِنَا﴾ هذه الجملةُ مفسرةٌ لكبر السؤال وعظمته. و ﴿جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥] تقدَّم الكلام عليها، إلا أنه هنا يجوز أن تكون «جهرةً» من صفةِ القول أو السؤالِ أو مِنْ صفة السائلين أي: فقالوا مجاهرين أو: سألوا مجاهرين، فتكون في محلِّ نصبٍ على الحال أو على المصدر. وقرأ الجمهور «الصاعقةُ» وقرأ النخعي: «الصَّعْقةُ» وقد تقدم تحقيق ذلك في البقرة «وبظلمِهم» الباءُ فيه سببيةٌ، وتتعلق بالأخذ.
قوله: ﴿لاَ تَعْدُواْ﴾ قرأ الجمهور» تَعْدُوا «بسكون العين وتخفيفِ الدال مِنْ عَدا يعدو، كغزا يغزو، والأصل:» تَعْدُوُوا «بواوين: الأولى لام الكلمة والثانية ضمير الفاعلين، فاستثقلت الضمة على لام الكلمة فَحُذِفَتْ، فالتقى بِحَذْفِها ساكنان، فحُذِفَ الأول وهو الواو الأولى، وبقيت واو الفاعلين، فوزنه: تَفْعَوا. وقرأ نافع بفتح العين وتشديد الدال، إلا أن الرواة اختلفوا عن قالون عن نافع: فرووا عنه تارة بسكون العين سكوناً محضاً، وتارة إخفاء فتحة العين. فأما قراءة نافع فاصلها: تَعْتَدوا، ويدل على ذلك إجماعهم / على: ﴿اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت﴾ [البقرة: ٦٥] كونِه من الاعتداء وهو افتعالٌ من العدوان، فأُريد إدغامُ تاء الافتعال في الدال فنُقِلَتْ حركتُها إلى العين وقُلبت دالاً وأدغمت. وهذه قراءةٌ واضحة. وأما ما يُروى عن قالون من السكون المحض فشيءٌ لا يراه النحويون لأنه جَمْعٌ بين ساكنين على غيرِ حَدِّهما. وأمَّا الاختلاسُ.
وقد رَدَّه الشيخ بما معناه أن ذلك لايجوز لطول الفصل بين المبدل والبدل، وبأنَّ المعطوفَ على السبب سببٌ فيلزمُ تأخُّرُ بعض أجزاء السبب الذي
والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف، فقَّدره ابنُ عطية لعنَّاهم وأَذْلَلْناهم وختمنا على قلوبهم. قال:» وحَذْفُ جوابِ مثلِ هذا الكلام بليغٌ «وتسميةُ مثل هذا» جواب «غيرُ معروف لغةً وصناعة. وقَدَّره أبو البقاء:» فبما نقضهم ميثاقهم طُبع على قلوبهم، أو لُعِنوا. وقيل: تقديرُه: فبما نقضِهم لا يؤمنون، والفاء زائدةٌ «انتهى. [وهذا الذي أجازه أبو البقاء تعرض له الزمخشري وردَّه فقال:» فإنْ قالت: فهلاَّ زَعَمْتَ أنًَّ المحذوف الذي تعلَّقَتْ به الباء] ما دل عليه قولُه «بل طَبَع اللَّهُ، فيكون التقديرُ: فبما نقضِهم طَبَع اللَّهُ على قلوبهم، بل طَبَع الله عليها بكفرهم ردُّ وإنكارٌ لقولهم:» قلوبُنا «غُلْفٌ» فكانَ متعلقاً به «قال الشيخ:» وهو جوابٌ حسنٌ، ويمتنع من وجهٍ آخرَ وهو أنَّ العطفَ ب «بل» للإِضرابِ، والإِضرابُ إبطالٌ أو انتقالٌ، وفي كتابِ الله في الإِخبار لا يكون إلا للانتقال، ويُسْتفاد من الجملةِ الثانية ما لايُسْتفاد من الأولى، والذي قَدَّره الزمخشري لا يَسُوغ فيه الذي قررناه، لأنَّ قولَه: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله﴾ هو مدلولُ الجملة
قوله: ﴿بَلْ طَبَعَ﴾ هذا إضرابٌ عن الكلام المتقدم أي: ليس الأمرُ كما قالوا مِنْ قولهم: «قلوبُنا غلف» وأظهرَ القرَّاءُ لامَ بل في «طبع» إلا الكسائي فأدغم من غير خلاف، وعن حمزة خلاف. والباء في بكفرهم «يُحتمل أن تكون للسببية، وأن تكون للآلة كالباء في» طبعت «بالطين على الكيس» يعني أنه جعل الكفر كالشيء المطبوع به أي مُغَطِّياً عليها، فيكونُ كالطابع. وقوله: «إلا قليلاً» يحتمل النصبَ على نعت مصدر محذوف أي: إلا إيماناً قليلاً: ويحتمل كونَه نعتاً لزمان محذوف أي: زماناً قليلاً، ولا يجوزُ أن يكونَ منصوباً على الاستثناءِ من فاعل «يؤمنون» أي: قليلاً منهم فإنهم يؤمنون، لأنَّ الضمير في «لا يؤمنون» عائدٌ على المطبوع على قلوبهم، ومن طَبَع على قلبه بالكفر فلا يقع منه الإِيمان.
قوله: ﴿بُهْتَاناً﴾ في نصبِه خمسةُ أوجه، أظهرُها: أنه مفعول به، فإنه مُضَمَّنٌ معنى» كلام «نحو: قلت خطبة وشعراً. الثاني: أنه منصوبٌ على نوع المصدر كقولهم:» قَعَد القرفصاء «يعني أن القول يكون بُهتاناً وغيرَ بهتان. الثالث: أن ينتصبَ نعتاً لمصدر محذوف أي: قولاً بُهتاناً، وهو قريبُ من معنى الأول الرابع: أنه منصوبٌ بفعل مقدرٍ من لفظه أي: بَهَتوا بُهْتاناً. الخامس: أنه حال من الضمير المجرور في قولهم أي: مباهتين، وجازَ مجيء الحال من المضاف إليه لأنه فاعل معنًى، والتقدير: وبأن قالوا ذلك مباهتين.
وقوله: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ يجوز في «علم» وجهان، أحدهما: أنه مرفوع بالفاعلية والعاملُ أحد الجارَّيْن: إمّا «لهم» وإما «به»، وإذا جُعِل أحدُهما رافعاً له تعلَّق الآخر بما تعلَّق به الرفع من الاستقرارِ المقدر. و «مِنْ» زائدةٌ لوجودِ شرطَي الزيادةِ. والوجه الثاني: أَن يكونَ «من علم» مبتدأ زِيدت فيه «من» أيضاً، وفي الخبر احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ «لهم» فيكون «به» : إمَّا حالاً من الضمير المستكنّ في الخبر، والعاملُ فيها الاستقرارُ المقدر، وإمَّا حالاً من «عِلْم» وإنْ كان نكرةً لتقدُّمها عليه ولاعتمادِه على نفي. فإن قيل: يلزمُ تقدُّمُ حالِ المجرور بالحرف عليه وهو ضرورةٌ لا يجوزُ في سَعة الكلام. فالجوابُ أنَّا لا نُسَلِّم ذلك، بل نقل أبو البقاء وغيره أنَّ مذهب أكثر البصريين جوازُ ذلك، ولئِنْ سلَّمنا أنه لا يجوز إلا ضرورة لكن المجرور هنا مجرورٌ بحرف جر زائد، والزائد في حكم المُطَّرَح، وأمَّا أن يتعلَّق بمحذوفٍ على سبيل البيان أي: أعني به، ذكره أبو البقاء، ولا حاجةَ إليه، ولا يجوزُ أن يتعلقَ بنفس «علم» لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه. والاحتمال الثاني: أن يكون «به» هو الخبر، و «لهم» متعلق بالاستقرار كما تقدم، ويجوز أن تكون اللام مبيِّنة مخصصة كالتي في قوله:
﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤]. وهذه الجملةُ المنفية تحتمل ثلاثة أوجه: الجر على أنها صفةٌ ثانية ل «شك» أي:
قوله: ﴿إِلاَّ اتباع الظن﴾ في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: وهو الصحيح الذي لم يذكر الجمهورُ غيرَه أنه منقطع؛ لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم، ولم يُقْرأ فيما علمت إلا بنصبِ «اتِّباع» على أصل الاستثناء المنقطع، وهي لغةُ الحجاز، ويجوزُ في تميم الإِبدالُ من «علم» لفظاً فيجرُّ، او على المضع فيُرفَعُ لأنه مرفوعُ المحل كما قَدَّمته لك، و «من» زائدة فيه. والثاني - قال ابن عطية-: أنه متصل قال: «إذ العلم والظن يضمهما جنسُ أنهما من معتقدات اليقين، يقول الظانُّ على طريق التجوُّز:» علمي في هذا الأمر كذا «إنما يريد ظني» انتهى. وهذا غيرُ موافَقِ عليه لأن الظنَّ ما ترجَّح فيه أحد الطرفين، واليقين ما جُزِم فيه بأحدهما، وعلى تقدير التسليم فاتباعُ الظن ليس من جنس العلم، بل هو غيره، فهو منقطع أيضاً أي: ولكنَّ اتباعَ الظن حاصلٌ لهم.
قوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾ الضمير في «قتلوه» فيه أقوال أظهرها أنه لعيسى، وعليه جمهور المفسرين. والثاني: - وبه قال ابن قتيبة والفراء - انه يعودُ على العلم أي: ما قتلوا العلم يقيناً، على حد قولهم: «قتلت العلم والرأي يقيناً» و «قتلته علماً» ووجه المجاز فيه أن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء، فكأنه قيل: وما كان علمهم علماً أُحيط به، إنما كان عن ظن وتخمين. الثالث - وبه قال ابن عباس والسدي وطائفة كبيرة - أنه يعود
قوله: ﴿يقيناً﴾ فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه نعت مصدر محذوف أي: قتلاً يقيناً. الثاني: أنه مصدر من معنى العامل قبله كما تقدم مجازه، لأنه في معناه أي: وما تيقنوه يقيناً. الثالث: أنه حال من فاعل «قتلوه» أيك وما قتلوه متيقنين لقتله. الرابع: أنه منصوب بفعل من لفظه حُذِف للدلالة عليه. أي: ما تيقَّنوه يقينا، ويكون مؤكداً لمضمون الجملة المنفية قبله. وقدّر أبو البقاء العامل على هذا الوجه مثبتاً فقال: «تقديره: تيقنوا ذلك يقنيا» وفيه نظر. الخامس - ويُنْقل عن ابي بكر بن الأنباري- أنه منصوبٌ بما بعد «بل» من قوله: ﴿رَّفَعَهُ الله﴾ وأن في الكلام تقديماً وتأخيراً أي: بل رفعه الله إليه يقيناً، وهذا قد نَصَّ الخليل فمَنْ دونه على منعِه، أي: إن «بل» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فينبغي ألا يَصِحَّ عنه، وقوله: ﴿بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ﴾ ردُّ لما ادَّعَوْه مِنْ قتله وصلبه. والضمير في «إليه» عائد على «الله» على حَذْفِ مضاف أي: إلى سمائِه ومحلِّ أمره ونهيه.
واللام في «ليؤمِنَنَّ» جوابُ قسمٍ محذوف كما تقدَّم. وقال أبو البقاء: «ليؤمِنَنَّ جواب قسم محذوف، وقيل: أكَّد بها في غير القسم كما جاء في النفي والاستفهام» فقوله: «وقيل إلى آخره» إنما يستقيم ذلك إذا أعَدْنا
وقال أيضاً قبل ذلك: «وما مِنْ أهل الكتاب أحدٌ، وقيل: المحذوف» مَنْ «وقد مرَّ نظيره، إلا أنَّ تقديرَ» مَنْ «هنا بعيدٌ، لأن الاستثناء يكون بعد تمام الاسم، و» مَنْ «الموصولة والموصوفة غيرُ تمامة» يعني أنَّ بعضَهم جعل ذلك المحذوفَ لفظَ «مَنْ» فيقدِّر: وإنْ مِنْ أهل مَنْ إلا ليؤمِنَنَّ، فجعل موضع «أحد» لفظَ «مَنْ» وقوله: «وقد مر نظيره» يعني قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله﴾ [آل عمران: ١٩٩] ومعنى التنظير فيه أنه قد صَرَّح بلفظ «مَنْ» المقدَّرة ههنا.
وقرأ أُبَي: ﴿ليؤمِنُنَ به قبل موتهم﴾ بضم النون الأولى مراعاة لمعنى «أحد» المحذوف، وهو إن كان لفظه مفرداً فمعناه جمع. والضمير في «به» لعيسى. وقيل: لله تعالى، وقيل: لمحمد عليه السلام. وفي «موته» لعيسى. ويُروى في التفسير أنه حين ينزل إلى الأرض يؤمن به كلُّ أحد حتى تصيرَ الملةُ كلها إسلاميةً. وقيل: يعود على «أحد» المقدر، أي: لا يموتُ كتابي حتى يؤمن بعيسى، وينقل عن ابن عباس ذلك، فقال له عكرمة: «أفرأيت إنْ خَرَّ من بيت أو احترق أو أكله سَبُعٌ» قال: لا يموتُ حتى يُحَرِّكَ بها شفتيه أي: بالإِيمان بعيسى. وقرأ الفياض بن غزوان: «وإنَّ من أهل الكتاب» بتشديد «إنَّ» وهي قراءةٌ مردودةٌ لإِشكالها. قوله: ﴿وَيَوْمَ القيامة﴾ العامل فيه «شيهداً» وفيه دليلٌ على جوازِ تقدُّم خبرِ «كان» عليها، لأنَّ تقديمَ المعمولِ يُؤْذِن
١٦٧ - ٣- فلا وأبى الطيرِ المُرِبَّةِ بالضحى | على خالدٍ لقد وقَعْتِ على لَحْمِ |
قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ هذه الجملةُ صفةٌ ل «طيبات» فمحلُّها نصبٌ، ومعنى وصفِها بذلك أي: بما كانت عليه مِنَ الحِلِّ، ويوضَّحه قراءة ابن عباس: ﴿كانت أُحِلَّتْ لهم﴾ قوله: «كثيراً» فيه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه مفعول به أي: بصدِّهم ناساً أو فريقاً أو جمعاً كثيراً. وقيل: نصبُه على المصدرية أي: صَدَّاً كثيراً. وقيل: على ظرفيه الزمان أي: زماناً كثيراً، والأول أولى، لأنَّ المصادرَ بعدها ناصبةٌ لمفاعيلها، فيجري البابُ على سَننٍ واحدٍ، وإنما أعيدت الباءُ في قوله: ﴿وَبِصَدِّهِمْ﴾ ولم تَعُدْ في قوله: «وأَخْذِهم» وما بعده لأنه قد فُصِل بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولاً
١٦٧ - ٤- لا يَبْعَدَن قومي الذين همُ | سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ |
النازلين بكلِّ معتَركٍ | والطيبون معاقدَ الأزْرِ |
١٦٧ - ٥- ويَأْوي إلى نِسْوةٍ عُطَّلٍ | وشُعْثاً مراضيعَ مثلَ السَّعالِي |
الثاني: أن يكونَ معطوفاً على الضمير في» منهم «أي: لكن الراسخون في العلمِ منهم ومن المقيمين الصلاة. الثالث: أن يكون معطوفاً على الكاف في» إليك «أي: يؤمنون بما أُنْزل إليك وإلى المقيمين الصلاةَ وهم الأنبياء. الرابع: أن يكونَ معطوفاً على» ما «في» بما أُنْزِل «أي: يؤمنون» بما أنزل إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبالمقيمين، ويُعْزَى هذا الكسائي. واختلفت
وقد زعم قومٌ لا اعتبارَ بهم أنهم لحنٌ، ونقلوا عن عائشة وأبان بن عثمان أنها خطأ من جهةِ غلط كاتبِ المصحف، قالوا: وأيضاً فهي في مصحفِ ابن مسعود بالواو فقط نقله الفراء، وفي مصحف أُبيّ كذلك، وهذا لا يَصحُّ عن عائشة ولا أبان، وما أحسن قولَ الزمخشري رحمه الله:» ولا يُلتفت إلى ما زعموا مِنْ وقوعِه لَحْناً في خط المصحف، وربما التفت إليه مَنْ لم ينظر في الكتاب الكتاب ومَنْ لم يعرف مذاهبَ العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغَبِيَ عليه أنَّ السابقين الأولين الذين مَثَلُهم في التوراة ومثلُهم في الانجيل كانوا أبعدَ همةً في الغَيْرة عن الاسلام وذَبَّ المطاعنِ عنه من ان يقولوا ثُلْمَةً في كتاب اله ليسُدَّها مَنْ بعدهم، وخَرْقاً يَرْفوه مَنْ يلحق بهم «وأمَّا قراءةُ الرفعِ فواضحةٌ.
قوله: ﴿والمؤتون﴾ فيه سبعةُ أوجهٍ أيضاً. أظهرها: أنه على إضمار مبتدأ، ويكون من باب المدحِ المذكورِ في النصب. الثاني: أنه معطوفٌ على» الراسخون «،
الثالث: أنه عطفٌ على الضمير المستكنِّ في «الراسخون»، وجاز ذلك للفصل. الرابع: أنه مطعوفٌ على الضمير في «المؤمنون» الخامس: أنه معطوفٌ على الضمير في «يؤمنون» السادس: أنه معطوفٌ على «المؤمنون»، السابع: أنه مبتدأ وخبره «أولئِك سنؤتيهم» فيكون «أولئك» مبتدأ، و «سنؤتيهم» خبره، والجملةُ خبرُ الأولِ، ويجوزُ في «أولئك» أن ينتصِبَ بفعلٍ محذوفٍ يفسِّرُه ما بعده فيكونَ من باب الاشتغال، إلا أنَّ هذا الوجهَ مرجوحٌ من جهةِ أنَّ «زيدٌ ضرتبه» بالرفع أجودُ مِنْ نصبه، لأنه لا يحوج إلى إضمار، ولأنَّ لنا خلافاً في تقديم معمول الفعل المقترن بحرف التنفيس في نحو «سأضربُ زيداً» مَنَعَ بعضهم «زيداً سأضرب»، وشرطُ الاشتغالِ جوازُ تسلُّط العامل على ما قبله، فالأَوْلى أَنْ نَحْمِلَه على ما خلاف فيه. وقرأ حمزة: «سيؤتيهم» بالياء مراعاةً للظاهر في قوله: ﴿والمؤمنون بالله﴾ والباقون بالنون على الالتفات تعظيماً، ولمناسبةِ قوله: «وأعتدْنا» وهما واضحتان.
وفي «يونس» ستُ لغاتٍ أفصحُها: واو خالصةٌ ونون مضمومة، وهي لغةُ الحجاز، وحُكِي كسرُ النونِ بعد الواو، وبها قرأ نافع في رواية حبان، وحُكِي أيضاً فتحها مع الواو، وبها قرأ النخعي وهي لغة لبعض عقيل، وهاتان القراءتان جَعَلَهما بعضهم منقولتين من الفعلِ المبني للفاعل أو للمفعول، جَعَل هذا الاسمَ مشتقاً من الأنس، وإنما أُبدلت الهمزةُ واواً لسكونِها وانضمامِ ما قبلها، ويدلُّ على ذلك مجيئُه بالهمزةِ على الأصل في بعض اللغات كما سيأتي، وفيه نظرٌ، لأنَّ هذا الاسمَ أعجمي، وحُكِي تثليث النون مع همز الواو، كأنهم قلبوا الواوَ همزةً لانضمامِ ما قبلها نحو:
١٦٧ - ٦-أَحَبُّ المُؤْقِدينَ إليَّ موسى | .............. |
قوله: ﴿زَبُوراً﴾ قراءةُ الجمهور بفتح الزاي، وحمزة بضمها، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها، أنه جمعُ «زَبْر» قال الزمخشري: «جمعَ» زَبْر «، وهو الكتاب، ولم يَذْكر غيرَه، يعني أنه في الأصل مصدر على فَعْل، ثم جُمع على فُعول نحو: فَلْس وفُلوس، وقَلْس وقُلُوس، وهذا القول سبقه إليه أبو علي الفارسي في أحد التخريجين عنه. قال أبو علي:» ويحتمل أن يكونَ جمْعَ زَبْرٍ وقع على المزبور، كما قالوا: ضَرْب الأمير ونَسْج اليمن، كما سُمِّي المكتوب كتاباً «يعني أبو علي أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول به كما مثَّله والثاني: أنه جمع» زَبُور «في قراءة العامة، ولكنه على حَذْفِ الزوائد، يعني حُذِفت الواوُ منه فصار اللفظ: زَبُر، وهذا التخريجُ الثاني لأبي عليّ، قال أبو علي:» كما قالوا: ظريف وظُروف، وكَرَوان وكَرْوان، وَوَرَشان ووِرْشان على تقدير حذف الياء والألف «وهذا لا بأس به، فإنَّ التكسير والتصيغر يَجْريان غالباً مجرىً واحداً، وقد رأيناهم يُصَغِّرون بحذفِ الزوائد نحو:» زُهَيْر وحُمَيْد «في أزهر ومحمود، ويسميه النحويون» تصيغر الترخيم «، فكذلك التكسيرُ.
الثالث: أنه اسمٌ مفردٌ وهو مصدرٌ جاءَ على فُعول كالدُّخول
وقرأ أُبي: «ورسلٌ» بالرفع في الموضعين، وفيه تخريجان، أظهرُهما: أنه مبتدأ وما بعده خبرُه، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ لأحدِ شيئين: إمَّا العطفِ كقولِه:
١٦٧ - ٧-
عندي اصطبارٌ وشكوى عند قاتلتي | فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا |
١٦٧ - ٨- فأقبلتُ زحفاً على الركبتينِ | فثوبٌ لَبِسْتٌ وثوبٌ أَجُرّْ |
١٦٧ - ٩- إذا ما بكى مِنْ خلفِها انصرفَتْ له | بشقٍ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّلِ |
قوله: ﴿وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ﴾ / كالأول. وقوله: ﴿وَكَلَّمَ الله موسى﴾ الجمهور على رفع الجلالة، وهي واضحة. و «تكليماً» مصدر مؤكد رافعٌ للمجاز، وهي مسألةٌ يبحث فيها الأصوليون، تحتمل كلاماً كثيراً ليس هذا موضعَه، على أنه قد جاء التأكيد بالمصدر في ترشيح المجاز كقول هند بنت النعمان بن بشير في زوجِها روحِ بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان:
١٦٨ - ٠- بكى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وأنكَر جِلْدَه | وعَجَّتْ عجيجاً مِنْ جُذامَ المطارِفُ |
قوله: ﴿لِئَلاَّ﴾ هذه لام كي، وتتعلَّقُ ب «منذرين» على المختار عند البصريين، وب «مبشِّرين» على المختار عند الكوفيين، فإنه المسألةَ من التنازع، ولو كان من إعمالِ الأول لأضمرَ في الثاني من غير حذفٍ فكان
وقرأ الجمهور بتخفيفِ «لكن» ورفعِ الجلالة. والسُّلمي والجراح الحكمي بتشديدها نصبِ الجلالة، وهما كالقراءتين في ﴿ولكن الشياطين﴾
قوله: ﴿خَيْراً لَّكُمْ﴾ في نصبه أربعة أوجه، أحدها - وهو مذهب الخليل وسيبويه - أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ واجبِ الإِضمار تقديره: وأتوا خيراً لكم، لأنه لَمَّا أمرهم بالإِيمان / فهو يريدُ إخراجَهم من أمر وإدخالَهم فيما هو خيرٌ منه، ولم يذكر الزمخشري غيره قال: «وذلك أنه لمَّا بعثهَم على الإِيمان وعلى الانتهاءِ من التثليث علم أنه يَحْمِلُهم على أمر فقال: خيراً لكم، أي: اقصِدوا وأتوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثلث». الثاني: - وهو مذهب الفراء- أنه نعت لمصدر محذوف أي: فآمنوا إيماناً خيراً لكم. وفيه نظر، من حيث أنه يُفْهِم أنَّ الإِيمان منقسم إلى خير وغيره، وإلاَّ لم يكنْ لتقييده بالصفةِ فائدةٌ، وقد يُقال: إنه قد يكون لا يقول بمفهوم الصفة، وأيضاً فإن الصفة قد تأتي للتأكيد وغيره ذلك. الثالث: - وهو مذهب الكسائي وأبي عبيد - أنه منصوبٌ على خبرِ «كان» المضمرةِ تقديرُه: يكنِ الإِيمانُ خيراً. وقد ردَّ بعضُهم هذا المذهب بأن «كان» لا تُحْذَف مع اسمها دونَ خبرها إلا فيما لا بد له منه، ويزيد ذلك ضعفاً أنَّ «يكن» المقدرةَ جوابُ شرط محذوف فيصير المحذوفَ الشرطُ وجوابُه، يعني أنَّ التقديرَ: إنْ تؤمنوا يكنِ
و» ألقاها «جملةٌ ماضية في موضع الحال، و» قد «معها مقدرةٌ. وفي عاملِ الحال ثلاثةُ أوجه نَقَلها أبو البقاء. أحدها: أنه معنى» كلمة «لأنَّ معنى
و «روحٌ» عطفٌ على «كلمة» و «منه» صفة ل «روح»، و «من» لابتداء الغاية مجازاً، وليست تبعيضيةً. ومن غريب ما يحكى أن بعض النصارى ناظَرَ علي بن الحسين بن واقد المروزي وقال: «في كتاب الله ما يَشْهد أنَّ عيسى جزءٌ من الله» وتلا: «وروح منه»، فعارضه ابن واقد بقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ﴾ [الجاثية: ١٣]، وقال: «يلزم أن تكون تلك الأشياء جزءاً من الله تعالى وهو مُحالٌ بالاتفاق» فانقطع النصراني وأسلم.
و «ثلاثةٌ» خبر مبتدأ مضمر، والجملة من هذا المبتدأ والخبر في محل نصب بالقول أي: ولا تقولوا: «آلهتنا ثلاثةٌ» يدلُّ عليه قوله بعد ذلك: ﴿إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ﴾ وقيل: تقديره: الأقانيمُ ثلاثة أو المعبود ثلاثة.
وقال
وقوله: ﴿انتهوا خَيْراً لَّكُمْ﴾ نصب» خيراً «هنا كنصبه فيما تقدم في جميع وجوهِه نسبته إلى قائليه. و» أن يكون له ولد «تقديره: من أن يكون، أو: عن أن يكون، لأنَّ معنى» سبحان «التنزيهُ، فكأنه قيل: نَزَّهوه عن أن يكون، أو من أن يكون له ولد، فيجيء في محل» ان «الوجهان المشهوران. و» واحد «نعت على سبيل التوكيد، وظاهر كلام مكي أنه نعتٌ لا على سبيل التوكيد، فإنه قال:» والله «مبتدأ، و» إله «خبره،» واحد «نعت تقديره: إنما الله منفرد في إلهيتَّه» وقيل: «واحدٌ تأكيد بمنزلة ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين﴾ [النحل: ٥١]، ويجوز أن يكون» إله «بدلاً من» الله «و» واحد «خبره، تقديره: إنما المعبودُ واحدٌ. وقوله: ﴿أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ تقدم نظيره وقرأ الحسن:» إنْ يكونُ «بكسرِ الهمزة ورفع» يكون «على أن» إنْ «نافية أي: ما يكون له ولد، فعلى قراءته يكون هذا الكلامُ جملتين، وعلى قراءة العامة يكون جملة واحدة.
١٦٨ - ١- فبانوا فلولا مَا تَذَكَّرُ منهمُ | من الحِلْفِ لم يُنْكَفْ لعَيْنَيْك مَدْمَعُ |
والثاني: أنَّ الجوابَ محذوف أي: فيجازيه، ثم أخبر بقوله: ﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً﴾ وليس بالبيِّن. وهذا الموضوع محتمل أن يكون مِمَّا حُمِل على لفظةِ «مَنْ» تارة في قوله: يستنكف «ويستكبر» فلذلك أفرد الضمير، وعلى معناها أخرى في قوله: فسيحشرهم «ولذلك جَمَعه، ويَحْتمل أنه أعاد الضمير في فسيحشرهم» على «مَنْ» وغيرِها، فيندرجُ المستنكفُ في ذلك، ويكون الرابطُ لهذه الجملةِ باسم الشرط العموم المشار إليه. وقيل: بل حَذَفَ معطوفاً لفهم المعنى، والتقدير: فسيحشرهم أي: المستنكفين وغيرَهم، كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] أي: والبرد.
و «ليس له ولدٌ» جملةٌ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفةً ثانية، وأجاز أبو البقاء أن تكونَ هذه الجملةُ حالاً من الضمير في «هلك» ولم يذكر غيره. ومع الزمخشري أن تكونَ حالاً، ولم يبيِّنْ العلةَ في ذلك، ولا بيَّن صاحبَ الحال أيضاً: هل هو «امرؤ» أو الضمير في «هلك» ؟ قال الشيخ: «ومَنَعَ الزمخشري أن يكونَ قولُه:» ليس له ولد «جملةً حالية من الضمير في» هلك «فقال:» ومحلُّ ليس له ولد الرفعُ على الصفةِ لا النصبُ على الحال «انتهى. والزمخشري لم يَقُلْ كذلك أي: لم يمنع كونَها حالاً من الضمير في» هلك «، بل منع حاليَّتَها على العموم كما هو ظاهرُ قوله، ويحتمل أنه أراد مَنْعَ حاليتها من» امرؤ «لأنه نكرةٌ، لكنَّ النكرة هنا قد تخصَّصت بالوصف، وبالجملةِ فالحالُ من النكرة أقلُّ مه من المعرفة والذي ينبغي امتناعُ
وقوله: ﴿وَلَهُ أُخْتٌ﴾ كقوله: ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾، والفاء في «فلها» جوابُ «إنْ» وقوله: ﴿وَهُوَ يَرِثُهَآ﴾ لا محلَّ لهذه الجملة من الإِعراب لاستئنافِها، وهي دالةٌ على جواب الشرط، وليست جواباً خلافاً للكوفيين وأبي زيد. وقال أبو البقاء: «وقد سَدَّتْ هذه الجملة مسدَّ جوابِ الشرط» يريد أنها دالةٌ كما تقدَّم، وهذا كما يقول النحاة: إذا اجتمع شرط وقسم أُجيب سابقُهما، وجعل ذلك الجواب ساداً مسدَّ جواب الآخر. والضميران من قوله: «وهو يرثها» عائدان على لفظ امرئ وأخت دونَ معناهما، فهو من باب قوله:
قوله: ﴿فَإِن كَانَتَا اثنتين﴾ الألفُ في «كانتا» فيها أقوال أحدُهما: أنها تعودُ على الأختين يدلُّ على ذلك قولُه: «وله أخت» أي: فإن كانتِ الأختان اثنتين. وقد جَرَتْ عادةُ النحويين أن يسألوا هنا سؤالاً وهو أنَّ الخبر لا بد أن يفيد ما لا يفيده المبتدأ، وإلاَ لم يكن كلاماً، ولذلك مَنَعوا: «سيدُ الجارية مالكُها» لأن الخبر لم يَزِدْ على ما أفاده المبتدأ، والخبرُ هنا دَلَّ على عدد ذلك العدد مستفادٌ من الألف في «كانتا» وقد أجابوا عن ذلك بأجوبةٍ منها: ما ذكره أبو الحسن والأخفش وهو أنَّ قولَه «اثنتين» يدلُّ على مجرد الاثنيية من غير تقييدٍ بصغير أو كبير أو غير ذلك من الأوصاف، يعني أن الثلثين يُستَحقان بمجرد هذا العدد من غير اعتبار قيدٍ آخر، فصار الكلام بذلك مفيداً «. وهذا غيرُ واضحٍ لأنَّ الألفَ في» كانتا «تدل أيضاً على مجرد الاثنيية من غير قيد بصغير أو كبير أو غيرهما من الأوصاف، فقد رجعَ الأمرُ إلى أنَّ الخبر لم يُفِدْ غيرَ ما أفاده المبتدأ. ومنها: ما ذكره مكي عن الأخفش أيضاً، وتبعه الزمخشري وغيره وهو الحَمْلُ على معنى» مَنْ «وتقريره ما ذكره الزمخشري، قال رحمه الله:» فإن قلت: إلى مَنْ يرجع ضميرُ التثنية والجمع في قوله: ﴿فَإِن كَانَتَا اثنتين، وَإِن كانوا إِخْوَةً﴾ قلت: أصلُه: فإن كان مَنْ يرث بالأخوَّة اثنتين، وإن كان [من] يرث بالأخوَّة ذكوراً وإناثاً، وإنما قيل: «فإن
إلا أن الشيخَ إعترضه فقال: «هذا تخريجٌ لا يَصِحُّ، وليس نظيرَ» مَنْ كانت أمَّك «لأنه قد صَرَّح ب» مَنْ «ولها لفظ ومعنى، فمن أنَّث راعى المعنى، لأن التقدير: أيةُ أُمٍّ كانت أمكَ» ومدلول ُ الخبر في هذا مخالفٌ لمدلول الاسم، بخلافِ الآية فإن المدلولين واحد، ولم يؤنث في «مَنْ كانت أمك» لتأنيثِ الخبر، إنما أنث لمعنى «من» إذ أراد بها مؤنثاً ألا ترى أنك تقول «مَنْ قامت» فتؤنث مراعاة للمعنى إذا أردْتَ السؤال عن مؤنث، ولا خبر هنا فيؤنَّثَ «قامت لأجلهِ» انتهى وهو تحاملٌ منه على عادته، والزمخشري وغيره لم ينكروا أنه لم يُصَرَِّح في الآية بلفظِ «مَنْ» حتى يُفَرِّقَ لهم بهذا الفرقِ الغامض، وهذا التخريجُ المذكورُ هو القولُ الثاني في الألف.
والظاهرُ أنَّ الضميرَ في «كانتا» عائدٌ على الوارثتين. و «اثنتين» خبرُه، و «له» صفةٌ محذوفة بها حَصَلت المغايرة بين الاسم والخبر، والتقدير: فإنْ كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات، وهذا جوابٌ حسن، وحَذْفُ الصفةِ لفهمِ المعنى غيرُ منكرٍ، وإن كان أقلَّ من عكسه، ويجوز أن يكونَ خبرُ «كان» محذوفاً، والألفُ تعودُ على الاختين المدلولِ عليهما بقوله: «وله أخت» كما تقدَّم ذكرُه عن الأخفش وغيرِه، وحينئذ يكونُ قولُه: «اثنتين» حالاً مؤكدة، والتقديرُ: وإنْ كانت الأختان له، فَحَذَفَ «له» لدلالةِ قوله: «وله أخت» عليه فهذه أربعةُ أقوال.
و «إنْ كانوا» في هذا الضمير ثلاثة أوجه أحدها: أنه عائد على المعنى «مَنْ» المقدرة تقديرُه: «فإن كان مَنْ يرث إخوة» كا تقدَّم تقريره عن
قوله: ﴿أَن تَضِلُّواْ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرها: أن مفعول البيان محذوفٌ، و «أن تَضِلُّوا» مفعولٌ من أجله على حَذْفِ مضاف تقديره: يبيِّن اللَّهُ أمرَ الكلالة كراهةَ أن تَضِلوا فيها، أي: في حكمها، وهذا تقديرُ المبرد. والثاني: - قول الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين- أنَّ «لا» محذوفةٌ بعد «أن» والتقدير: لئلا تضلوا. قالوا: «وحَذْفُ» لا «شائع ذائعٌ كقوله:
١٦٨ - ٢- وكُلُّ أناسٍ قاربوا قيدَ فَحْلِهمْ | ونحن خَلَعْنا قيدَه فَهْوَ سارِبُ |
١٦٨ - ٣- رأينا ما رأى البُصَراءُ فيها | فآلينا عليها أَنْ تُباعَا |