تفسير سورة النساء

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة النساء من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ

سورة النساء
وهي مائة وستة وسبعون آية مكية
[سورة النساء (٤) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)
يا أَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ قال: الناس عامة، وقد يكون يا أَيُّهَا النَّاسُ خاصة وعامة، يعني خاصة لأهل مكة، وفي هذا الموضع عام لجميع الناس اتَّقُوا رَبَّكُمُ يعني اخشوا ربكم ويقال أطيعوا ربكم احذروا المعاصي لكي تنجوا من عقوبة ربكم. وقال: وحّدوا ربكم ولا تشركوا به شيئا، ثم دل على وحدانية نفسه بصنيعه فقال: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها يعني خلق من نفس آدم زوجها حواء، وذلك أن الله تعالى لما خلق آدم وأسكنه الجنة ألقى عليه النوم، فكان آدم بين النائم واليقظان، فخلق من ضلع من أضلاعه اليسرى حواء، فلما استيقظ قيل له من هذه يا آدم؟ قال امرأة لأنها خلقت من المرء، فقيل: ما اسمها؟ قال: حواء لأنها خلقت من حي. وقد قيل: إنما سميت حواء لأنه كان على شفتيها حوة وقيل لأن لونها كان يضرب إلى السمرة فسميت حواء من قولك أحوى كقوله تعالى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [الأعلى: ٥].
ثم قال تعالى: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً يعني: خلق منهما يعني من آدم وحواء، ونشر منهما رجالا كثيرا ونساء، يعني خلق منهما رجالاً كثيراً ونساءً. قال مقاتل: أي خلق منهما ألف ذرية من الناس. ثم قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي أطيعوا الله الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، وأبو عمرو في رواية هارون: «تسألون» بغير تشديد.
وقرأ الباقون بالتشديد، فأما من قرأ بالتشديد لأن أصله تتساءلون فأدغم إحدى التاءين في السين وأقيم التشديد مقامه، ومن قرأ بالتخفيف فالأصل أيضاً تتساءلون، فحذف إحدى التاءين لاجتماع الحرفين من جنس واحد للتخفيف. ثم قال: وَالْأَرْحامَ قرأ حمزة: وَالْأَرْحامَ
بكسر الميم، والباقون بنصب الميم، ومعناه واتقوا الله الذي تسألون به الحاجات، يعني الذي يسأل الناس بعضهم بعضاً، فيقول الرجل للرجل: أسألك بالله وأنشدك بالله والأرحام. يقول:
واتقوا اللَّهَ في ذوي الأرحام، فصلوها ولا تقطعوها. وأما من قرأ بالكسر معناه: أسألك بالله وبالرحم أن تعطيني شيئاً. وقال الزجاج: من قرأ بالخفض فخطأ في العربية وفي أمر الدين، أما الخطأ في العربية لأن الاسم يعطف على الاسم المفصح به ولا يعطف على المكنى به إلا في اضطرار الشعر، كقول الشاعر:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فما لنا بك والأيام من عجب
وأما في غير الشعر فلا يستعمل، وأما الخطأ الذي في الدين لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تَحْلِفُوا بِآبائِكُمْ». فالسؤال بالأرحام أمر عظيم. ولكن روي عن إبراهيم النخعي أنه كان يقرأ بالخفض أيضاً. ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً أي حفيظا لأعمالكم يسألكم عنها فيما أمركم به. وروى أبو هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «ما من عمل حسنة أسرع ثوابا من صلة الرّحم، وما من عمل سيّئة أسرع عقوبة من البغي، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع» وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن الله لمّا خلق الرّحم قال له: صل من وصلك واقطع من قطعك». ويقال: الرحم مشتق من الرحمة، فمن قطعها فليس له من رحمة الله تعالى نصيب.
وقال صلى الله عليه وسلم: «الرّحم معلّق بالعرش، فمن قطعها قطعني، ومن وصلها وصلني»
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢ الى ٣]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣)
ثم قال وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ يقول للأولياء آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ التي عندكم إذا بلغوا النكاح، يعني الحلم وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ يعني الحرام بِالطَّيِّبِ يعني بالحلال من أموالكم يقول: لا تذروا أموالكم الحلال، وتأكلوا الحرام من أموال اليتامى. ويقال: لا تخلطوا الخبيث بالطيب. ويقال: لا تخلطوا من مالكم الرديء، وتأخذوا الجيد من مال اليتيم. يعني أن يرسل شاة عجفاء في غنمه ويأخذ مكانها شاة سمينة، وفي الحبوب كذلك. ويقال: لا تجعلوا أموالهم وقاية لأموالكم.
ثم قال تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ يعني مع أموالكم إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً يعني: إثماً عظيماً قرأ الحسن «حوباً» بنصب الحاء. قال مقاتل: هو بلغة الحبش. قال القتبي:
الحُوب والحَوْب واحد، وهو الإثم. وقال مقاتل: نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير
لابن أخيه، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه العم، فنزلت الآية فقرأها عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال الرجل: أطعنا الله ورسوله، ونعوذ بالله من الحوب الكبير، فدفع إليه ماله، فلما قبض الفتى ماله أنفقه فِى سَبِيلِ الله. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لَقَدْ أصَابَ الأَجْرَ وَبَقِيَ الوِزْرُ» فقالوا كيف بقي الوزر وقد أنفقه فِى سَبِيلِ الله؟ فقال: «أصَابَ الغُلامُ الأجْرَ وَبَقِيَ الوِزْرُ عَلَى وَالِدِهِ».
قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى يعني: ألا تعدلوا في أموال اليتامى، يقال في اللغة: أقسط الرجل إذا عدل، وقسط إذا جار. وقال صلى الله عليه وسلم: «المُقْسِطُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». يعني العادلون. قال الله تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن: ١٥] يعني الجائرون. ثم قال تعالى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ
وذلك أنهم كانوا يسألون عن أمر اليتامى ويخافون ألا يعدلوا، وكانوا يتزوجون من النساء ما شاؤوا، فنزلت هذه الآية وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يعني فكما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى، فخافوا في النساء إذا اجتمعن عندكم ألا تعدلوا بينهن. وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان الناس يتزوجون اليتامى ولا يعدلون بينهن، ولم يكن لهم أحد يخاصم عنهن، فنهى الله المؤمنين عن ذلك فقال: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى الآية. ويقال: إنهم كانوا يتزوجون امرأة لها أولاد أيتام، وكانوا لا يحسنون النظر إليهم، فنزل وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ يعني بغير ولد مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ.
ثم قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا في القسم والنفقة فَواحِدَةً يقول: تزوجوا امرأة واحدة، وإن خفتم ألا تعدلوا في الواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني الإماء، ويقال إن خفتم ألا تعدلوا في القسم بين النساء فواحدة، أي واشتروا الإماء لأن الواحدة لا تحتاج إلى القسمة، والإماء لا يحتاج فيهن إلى القسمة. وقال بعض الروافض بظاهر هذه الآية أنه يجوز نكاح تسع نسوة، لأنه قال مثنى وثلاث وَرُبَاعَ، فيكون ذلك تسعاً. ولكن أجمع المفسرون أن المراد به التفصيل لا الاجتماع، ومعناه مثنى أو ثلاث أو رباع، وبذلك جاءت الآثار، وهو حديث غيلان بن سلمة أنه أسلم ومعه عشر نسوة، فخيّره النبيّ صلّى الله عليه وسلم فاختار أربعاً وفارق البواقي. وروي عن الكلبي ومقاتل أن قيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر، فلما نزلت هذه الآية أمره رسول الله ﷺ أن يطلق أربعاً ويمسك أربعاً. وروى محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير، أن ذلك كان الحارث بن قيس الأسدي، وهذا هو المعروف عند الفقهاء.
ثم قال تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا أي أحرى ألا تميلوا ولا تجوروا ولا تظلموا.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤ الى ٦]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦)
280
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً يعني أعطوا النساء مهورهن فريضة. ويقال: ديانة كما يقال: فلان ينتحل إلى مذهب كذا، أي يدين بكذا. ويقال نحلة أي صدقة وهبة، لأن المهر نحلة من الله تعالى للنساء حيث لم يوجب عليهن وأوجب لهن. وقال في رواية الكلبي: إن أهل الجاهلية كان الولي إذا زوجها فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلاً ولا كثيراً، وإن كانت غريبة حملوها على بعير إلى زوجها، ولا يعطوها مهرها غير ذلك البعير شيئاً، فنزل قوله تعالى وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً يعني به الأولياء، يعني أعطوهن مهورهن نحلة. يقول: عطية لهن. وقال في رواية مقاتل: كان الرجل يتزوج بغير مهر، ويقول: أرثك وترثيني، فنزلت الآية وَآتُوا النِّساءَ يعني الأزواج صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً أي مهور النساء نحلة يعني فريضة فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ يا معشر الأزواج أي أحللن لكم ووهبن لكم، قال في رواية الكلبي: يعني الأولياء إذا وهبت المرأة المهر للولي فذلك قوله فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً أي طيباً لا إثم فيه مَرِيئاً أي لا داء فيه، ويقال: هنيئاً مريئاً يعني حلالاً طيباً. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: إذا كان أحدكم مريضاً فليسأل من امرأته درهمين من مهرها، حتى تهب له بطيبة نفسها، فيشتري بذلك عسلاً فيشربه مع ماء المطر، فحينئذٍ قد اجتمع الهنيء والمريء، والشفاء والماء المبارك، يعني أن الله سبحانه تعالى سمى المهر هنيئاً مريئاً إذا وهبت، وسمى العسل شفاء، وسمى ماء المطر مباركاً، فإذا اجتمعت هذه الأشياء يرجى له الشفاء.
ثم قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ يعني النساء والأولاد الصغار، يعني لا يجعل الرجل ماله في يدي امرأته وأولاده، ثم يجعل نفسه محتاجاً إليهم فلا يدفع إليه عند حاجته. ويقال: لا تدفعوا أموالكم مضاربة، ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: مَنْ لَمْ يتفقه فلا يتجر في سوقنا. فذلك قوله تعالى وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ يعني الجهال بالأحكام. ويقال: لا تدفعوا إلى الكفار، ولهذا كره علماؤنا أن يوكل المسلم ذمياً بالبيع والشراء، أو يدفع إليه مضاربة ثم قال تعالى: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً يعني الأموال التي جعل الله قواماً لمعاشكم. ثم قال: وَارْزُقُوهُمْ فِيها يعني الأولاد
281
الصغار أطعموهم وَاكْسُوهُمْ من أموالكم، وكونوا أنتم القوام على أموالكم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً يعني إذا طلبوا منكم النفقة ولم يكن عندكم في ذلك الوقت شيء، فعدوا لهم عدة حسنة، أي سأفعل ذلك. ثم قال: وَابْتَلُوا الْيَتامى يعني اختبروا اليتامى وجربوا عقولهم، حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ يعني الحلم ويقال: مبلغ الرجال فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً يقول: إذا رأيتم منهم رشداً، وصلاحاً في دينهم، وحفظاً لأموالهم فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ التي معكم وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً في غير حق وَبِداراً يعني مبادرة في أكله أَنْ يَكْبَرُوا يعني مخافة أن يكبروا فيأخذوا أموالهم منكم.
ثم قال: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ أي ليحفظ نفسه عن مال اليتيم وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وقد اختلف الناس في تأويل هذه الآية، وقالوا فيها ثلاثة أقوال. قال بعضهم: يجوز للمعسر أن يأكل على قدر قيامه عليه. وقال بعضهم: لا يجوز أن يأكل إلا على وجه القرض، ويرد عليه إذا كبر. وقال بعضهم: لا يجوز في الأحوال كلها. فأما من قال إنه يجوز أكله على قدر قيامه فإنه احتج بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:
إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم- المراد منه بيت المال- فمن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه إن رجلاً سأله فقال: يا ابن عباس أتي إليّ بمواشي أيتام فهل عليَّ جناح إن أصبت من رسل مواشيهم؟ قال ابن عباس:
إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حياضها ولا تفرط لها يوم وردها، فلا جناح عليك إن أصبت من رسلها. وقال مجاهد: كان يقول من أدركت من أصحاب رسول الله ﷺ إن للوصي أن يأكل بالمعروف مع اليتيم، فإنه يحلب غنمه ويقوم على ماله ويحفظه، وأما من قال إنه يجوز أكله على وجه القرض احتج بما روي عن محمد بن سيرين أنه قال: سألت عبيدة السلماني عن قوله تعالى وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ قال: هو قرض ثم يرد عليه إذا كبر. فقال: ألا ترى أنه قال في سياق الآية فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ؟ وقال أبو العالية: ما أكل فهو دين عليه. وقال الشعبي: مثله. وأما من قال إنه لا يجوز أكله، فلأن الله تعالى قال إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: ١٠] وتلك الآية محكمة وهذه من المتشابهة، لأنه يحتمل التأويل أنهم يأكلون على وجه القرض أو على وجه الإباحة، فيرد حكم المتشابه إلى المحكم. وقد قيل أن هذه الآية منسوخة بتلك الآية. قال الفقيه رحمه الله: إذا كان الوصي فقيراً، فأكل من مال اليتيم مقدار قيامه عليه، أرجو أن لا بأس به، لأن كثيراً من العلماء أجازوا ذلك والاحتراز عنه أفضل.
قرأ نافع وابن عامر الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً بكسر القاف ونصب الياء بغير ألف، والباقون بالألف ومعناهما قريب. وقال أهل اللغة: قياماً وقواماً وقيماً بمعنى واحد. وقوله تعالى فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ يعني إذا أدرك اليتامى ودفعتم إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُوا
282
عَلَيْهِمْ
على ذلك، وإنما الإشهاد على معنى الاستحباب لنفي التهمة عن نفسه، ولو لم يشهد على ذلك لجاز كقوله تعالى وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ثم قال: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي شهيداً في أمر الآخرة، وأما في أمر الدنيا ينبغي أن يشهد العدول على ذلك لدفع القال عن نفسه، لأن الله تعالى لا يشهد له في الدنيا.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧ الى ١٠]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء، وإنما يورثون الرجال من كان يقاتل ويحوز الغنيمة، حتى مات أوس بن ثابت الأنصاري، وترك ثلاث بنات وترك امرأة يقال لها: أم كجة، فقام ابن عمه وأخذ ماله، فجاءت المرأة للنبي ﷺ وذكرت له القصة. ويقال: مات رفاعة وترك ابنه وابنته، فأخذ الابن ميراثه كله فجاءت امرأته إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فنزل قوله لِلرِّجالِ نَصِيبٌ أي حظ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ أي حظ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ يعني إن قل المال أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً أي حظاً معلوماً لكل واحد من الميراث، فبيّن في هذه الآية أن للرجال نصيباً وللنساء نصيباً، ولكن لم يبين مقدار نصيب كل واحد منهم. ثم بيّن في الآية التي بعدها فقال: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ قال مقاتل:
فيها تقديم وتأخير، ومعناه إذا حضر أولو القربى قسمة الميراث فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ يعني فأعطوهم من الميراث. قال مقاتل: وهذا كان قبل قسمة الميراث.
ثم قال تعالى: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً يعني إذا كان الورثة كباراً يعطون من الميراث لذوي القربى، وإن كانت الورثة صغاراً ليقل لهم الأولياء قولاً معروفاً، أي عدوا لهم عدة حسنة. يقول لهم: إذا أدرك الصغار أمرناهم يعطوكم شيئاً ويعرفون حقكم. وقال القتبي: إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ فيه قولان: أحدهما أن تكون قسمة الوصية إذا حضرها أقرباؤكم، فاجعلوا لهم حظاً من الثلث. ووجه آخر: أن يكون قسمة الميراث فارضخوا لهم منها.
ثم قال: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ يقول: وليخش على أولاد الميت الضياع، كما أنكم لو تركتم أولاداً ذُرِّيَّةً ضِعافاً يقول: عجزة صغار، يعني الذي يحضره الموت لا يقال له قدم لنفسك وأوص بكذا وكذا حتى يوصي بعامة ماله، فليخش على ذرية الميت كما يخشى على ذرية نفسه. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إذا حضر الرجل الوصية، فلا ينبغي أن يقول له أوص بمالك فإن الله تعالى رازق أولادك ولكن يقول: له قدم لنفسك واترك لولدك فذلك قوله تعالى: خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يعني: يقول للميت قولاً عدلاً، وهو أن يلقنه لا إله إلا الله ولا يأمره بذلك، ولكن يقول ذلك في نفسه حتى يسمعه منه ويتلقن. وهكذا قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لا إله إلاَّ الله». ولم يقل مروهم بذلك، لأنه لو أمر بذلك فلعله يغضب ويجحد. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً يعني بغير حق إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً أي حراماً، لأن الحرام يوجب النار، فسماه الله باسمها ويقال: إنه يلقم من النار إذا صار إلى جهنم، فذلك قوله تعالى: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً. وروي في الخبر عن رسول الله ﷺ أنه قال في بعض قصة المعراج أنه قال: «رَأَيْتُ أَقْوَاماً بُطُونُهُمْ كَالحُبَالَى فِيهَا الحَيَّاتُ وَالعَقَارِبُ، فَقُلْتُ: مَنْ هؤلاء يَا جِبْرِيلُ؟
قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارا، وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً أي سيدخلونها في الآخرة. قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر (وسيصلون) بضم الياء على فعل ما لم يسم فاعله. وقرأ الباقون النصب، وهذا كقوله: سيدخلون. وسيدخلون وقال القتبي في قوله: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ معناه: وليخش الذين يكفلون اليتامى، وليفعل بهم ما يحب أن يفعل بولده من بعده.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١ الى ١٤]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)
284
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أي يبين الله لكم ميراث أولادكم كما بيّن قسمة المواريث، يعني: إذا مات الرجل أو المرأة وترك أولاداً ذكوراً وإناثاً، يكون لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يعني لكل ابن سهمان، ولكل بنت سهم. وروى ابن أبي نجيح عن عطاء قال: كان ابن عباس يقول: كان الميراث للولد، وكانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للوالدين لكل واحد منهما السدس، وللمرأة الثمن أو الربع، وللزوج النصف أو الربع. ثم قال تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يعني إذا ترك الميت بناتاً ولم يترك أبناء، فللبنات إن كن اثنتين فصاعداً فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ من الميراث، ولم يذكر في الآية حكم البنتين، ولكن أجمع المسلمون ما خلا رواية عن ابن عباس أنه قال:
للاثنتين النصف، كما كان للواحدة وللثلاث بنات الثلثان وأما سائر الصحابة فقد قالوا: إن للاثنتين الثلثين، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى جابر بن عبد الله قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هاتان ابنتا سعد وقد قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالاً، ولا تنكحان إلا ولهما مال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَيَقْضِي الله ذلك» فأنزل الله تعالى آية الميراث، فبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى عمهما وقال: «أَعْطِ لابْنَتَيْ سَعْدٍ الثّلثَيْنِ وَأَعْطِ أمَّهُمَا الثُّمُنَ وَالبَاقِي لَكَ».
ثم قال تعالى: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ يعني: إن ترك الميت بنتاً واحدة فلها النصف من الميراث، والباقي للعصبة بالخبر. قرأ نافع: (وإن كانت واحدة) بالرفع على اسم كانت وقرأ الباقون بالنصب على معنى الخبر ويكون الاسم فيه مضمراً. ثم قال تعالى:
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ الميت من المال وإِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكر أو أنثى
285
أو ولد الابن فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ للميت وَلَدٌ ولا ولد ابن وَوَرِثَهُ أَبَواهُ يعني: إن لم يكن للميت وارث سوى الأبوين فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ يعني للأم ثلث المال والباقي للأب. قرأ حمزة والكسائي: (فلإمه) بكسر الألف لكسر ما قبله، وقرأ الباقون بالضم. ثم قال تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ يعني: إذا كان للميت إخوة، وقد اتفق أصحاب رسول الله ﷺ أن اسم الإخوة يقع على الاثنين فصاعداً، إلا في قول ابن عباس ثلاثة فصاعداً، واتفقوا أن الذكور والإناث فيه سواء، فيكون للأم السدس والباقي للأب مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يعني: أن قسمة المواريث من بعد وصية يُوصِي بِها الميت أَوْ دَيْنٍ يعني بعد قضاء الدين وإنفاذ الوصية.
وروى الحارث عن علي رضي الله عنه قال: قضى رسول الله ﷺ بالدين قبل الوصية، وأنتم تقرؤون مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ يعني أن في الآية تقديماً وتأخيراً، وروي عن ابن عباس هكذا. قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم (يوصى بها) على فعل ما لم يسم فاعله. وقرأ الباقون يُوصِي بِها يعني الميت إن كان يوصي بها أو عليه دين.
ثم قال تعالى: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً يعني في الآخرة، إذا كان أحدهما أرفع درجة من الآخر يسأل الله تعالى حتى يرفع إليه الآخر لتقر عينه به فقال: لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً يعني أيهم أرفع درجة، فيلتحق به صاحبه. ويقال: معناه أن الله علمكم قسمة المواريث، وأنكم لا تدرون أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً حتى تعطوه حصته، ويقال لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ موتاً فيرث منه الآخر. ثم قال تعالى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ يعني بيان قسمة المواريث من الله تعالى، ويقال: القسمة فريضة من الله تعالى، لا يجوز تغييرها عما أمر الله به.
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالمواريث حَكِيماً حكم قسمتها وبيّنها لأهلها. وقال الزجاج: معناه وكان الله عليماً بالأشياء قبل خلقها، حكيماً فيما يقرر بتدبيره منها. وقال بعضهم:
لأن الله تعالى لم يزل، ولا يزال فالخبر منه بالماضي كالخبر منه بالاستقبال. وقال سيبويه: كأن القوم شاهدوا علماً وحكماً، فقيل لهم: إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً كذلك، لم يزل على ما شاهدتم.
ثم قال تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إذا ماتت المرأة فتركت زوجاً، فللزوج النصف إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ذكراً أو أنثى أو ولد ابن فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ أو ولد ابن فللزوج الربع فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مما تركت المرأة مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ.
ثم قال: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ يعني إذا مات الزوج وترك امرأة فللمرأة الربع إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ ولا ولد ابن فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فإن كان للميت ولد وولد ابن فَلَهُنَّ الثُّمُنُ سواء كان له امرأة واحدة أو أربع نسوة فلهن الربع بغير ولد، والثمن مع الولد أو مع ولد الابن، لأنه قال: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ فجعل حصتهن الربع أو الثمن. ثم قال: مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ.
286
ثم قال: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً والكلالة ما خلا الوالد والولد، ويقال: هو اسم الميت الذي ليس له ولد ولا والد. قال أبو عبيدة: هو مصدر من تكله النسب أي أحاط به، والأب والابن طرفا الرجل فيسمى لذهاب طرفيه كلالة. وقرأ بعضهم: (يورث) بكسر الراء.
قال أبو عبيدة: من قرأ (يورث) بكسر الراء جعل الكلالة الورثة، ومن قرأ بنصب الراء جعل الكلالة الميت. وروى الشعبي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا: الكلالة من لا ولد ولا والد.
وروي عنهما أيضاً أنهما قالا: الكلالة ما سوى الولد والوالد. قوله تعالى: أَوِ امْرَأَةٌ يعني إن كانت الكلالة هي امرأة. ثم قال تعالى: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ من الميراث فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ يعني: الإخوة من الأم، وقد أجمع المسلمون أن المراد هاهنا الإخوة من الأم، لأنه ذكر في آخر السورة أن للأختين الثلثين، ففهموا أن المراد هاهنا الإخوة من الأم. ثم قال: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ وقد ذكرناه غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ يعني: غير مضار للورثة، فيوصي بأكثر من الثلث وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ يعني أن تلك القسمة فريضة من الله وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعني علم بأمر الميراث حَلِيمٌ على أهل الجهل منكم. وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ قَطَعَ مِيْرَاثاً فَرَضَهُ الله قَطَعَ الله مَيرَاثَهُ مِنَ الجَنَّةِ». وقرأ بعض المتقدمين: (والله عليم حكيم)، يعني حكم بقسمة الميراث والوصية.
ثم قال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني هذه فرائض الله مما أمركم به من قسمة المواريث، ويقال: تلك أحكام الله، وتلك بمعنى هذه، يعني هذه أحكام الله قد بيّنها لكم لتعرفوا وتعملوا. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في قسمة المواريث فيقر بها، ويعمل بها كما أمره الله يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي ذلك الثواب هو الفوز العظيم إلى النجاة الوافرة. قوله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في قسمة المواريث، فلم يقسمها ولم يعمل بها وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ أي خالف أمره يُدْخِلْهُ نَاراً خالِداً فِيها لأنه إذا جحد صار كافراً وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ يهان فيه. قرأ نافع وابن عامر: (ندخله) كلاهما بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه، وقرأ الباقون كلاهما بالياء لأنه سبق ذكر اسم الله تعالى.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥ الى ١٨]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)
287
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ يعني الزنى وهي المرأة الثيب إذا زنت فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أي اطلبوا عليهن أَرْبَعَةً من الشهود مِنْكُمْ أي من أحراركم المسلمين عدولاً فَإِنْ شَهِدُوا عليهن بالزنى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ يعني: احبسوهن في السجن حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي حتى يمتن في السجن أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا يعني مخرجاً من الحبس، ثم نسخ فصار حدهن الرجم لما روي عن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- إن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ بِالحِجَارَةِ». ثم ذكر في الآية حد البكر فقال: وَالَّذانِ لم يحصنا يَأْتِيانِها يعني الفاحشة مِنْكُمْ يعني من الأحرار المسلمين فَآذُوهُما باللسان، يعني بالتعيير بما فعلا ليندما على ما فعلا فَإِنْ تَابَا من بعد الزنى وَأَصْلَحا العمل فَأَعْرِضُوا عَنْهُما أي فلا تسمعوهما الأذى بعد التوبة إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً أي متجاوزاً رَحِيماً بهما. ثم نسخ الحبس والأذى بالرجم والجلد، وإنما كان التعيير في ذلك الزمان لأن التعيير حل محل الجلد، وأما اليوم فلا ينفعهم التعيير. وروي عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: واللاتى يأتين الفاحشة (من نسائكم) واللذان يأتيانها منكم كان ذلك في أول الأمر، ثم نسخ بالآية التي في سورة النور. قرأ ابن كثير: (واللذان) بتشديد النون، لأن الأصل (اللذيان). فحذف الياء وأقيم التشديد مقامه، وقرأ الباقون بالتخفيف.
ثم قال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ يعني قبول التوبة على الله ويقال: توفيقه على الله، ويقال: إنما التجاوز من الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ قال ابن عباس رضي الله عنه: كل مؤمن يذنب فهو جاهل في فعله، ويقال: إنما الجهالة أنهم يختارون اللذة الفانية على اللذة الباقية، وذلك الجهل لا يسقط عنهم العذاب إلا أن يتوبوا. قوله ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ قال ابن عباس: كل من تاب قبل موته فهو قريب فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي يقبل توبتهم وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً يعني عليماً بأهل التوبة حكيماً حكم بالتوبة. وقال مقاتل: نزلت
288
الآية في رجل من قريش، سكر وذكر شعراً ذكر فيه اللات والعزى وأنكر البعث، فلما أصبح أخبر بذلك فندم على ذلك واسترجع، فنزلت الآية ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ يعني قبل الموت.
قال: حدثنا محمد بن الفضل، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، قال: حدثنا أبو حفص، عن صالح المري، عن الحسن قال: مَنْ عيّر أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به. وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يغَرْغِرْ». وقال الحسن: إن إبليس لما أهبط من الجنة، قال: بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده. قال الله تعالى: فبعزتي فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم يغرغر بنفسه. قال أبو العالية الرياحي: نزلت أول الآية في المؤمنين، والوسطى في المنافقين، والأخرى في الكافرين. فأما توبة المؤمنين فذكرها قد مضى. وأما ذكر توبة المنافقين فقوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الآية. يعني ليس قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي الشرق والنزع وعاينه ملك الموت قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فليس لهذا توبة.
ثم ذكر توبة الكفار وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي وجيعاً دائما.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٩ الى ٢١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام، إذا مات الرجل وله امرأة وله ولد من غيرها، أو له وارث غير الابن فألقى ثوبه عليها ورث نكاحها بالصداق الأول. ويقول: أنا ولي زوجك فورثتك. فإن كانت جميلة أمسكها، وإن لم تكن جميلة طول عليها لتفتدي منه، فنزلت هذه الآية. وقال في رواية الضحاك: كان الرجل عنده عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة، فيكره فراق العجوز لمالها،
289
فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت، فيرث مالها، فنزلت هذه الآية، وأمر الزوج بأن يطلقها إن كره صحبتها فلا يمسكها كرهاً. فذلك قوله تعالى: لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً قرأ عاصم وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ونافع: (كَرهاً) بنصب الكاف.
وقرأ حمزة والكسائي: (كُرها) بالضم. قال القتبي: (الكَره) بالنصب بمعنى الإكراه، (والكُره) بالرفع المشقة، ويقال: ليفعل ذلك طوعا أو كرها، يعني طائعاً أو مكرهاً.
ثم قال تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ أي لا تمنعوهن من الأزواج لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ من المهر وغيره إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وهي المعصية في النشوز على زوجها، فيحل له ما أخذ منها. ويقال: إلا أن تزني فيحل له أن يفتدي منها، يعني إذا كانت بطيبة نفسها. قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر (بفاحشة مبيَنة) بنصب الياء، وقرأ الباقون (مبِّيِنة) بكسر الياء. فمن قرأ بالكسر يعني الفعل الفاحشة يعني فاحشة ظاهرة تبين منها نفسها.
ومن قرأ بالنصب يكون بمعنى المفعول. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في محصن بن أبي قيس، وامرأته هند بنت المغيرة وفي جماعة. وقال الكلبي: نزلت في حصن بن أبي قيس وامرأته كبشة بنت معن.
ثم قال تعالى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي صاحبوهن بالجميل فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ أي كرهتم صحبتهن فَعَسى يقول فلعل أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً من صحبتكم إياهن وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً يعني في صحبتهم يرزق لكم ولداً صالحاً، وهذا كقوله عز وجل وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ويقال وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً لعله إن أمسكها فيعطفه الله عليها من بعد ذلك، وأما أن يخلي سبيلها فيزوجها الله زوجاً غيره، فيرزقها الله منه الولد. ثم قال: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ يعني تغيير زوج مَكانَ زَوْجٍ يعني إذا أراد الرجل أن يطلق زوجته ولم يكن منها نشوز، وأراد أن يتزوج غيرها وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً من الذهب في المهر. قال مجاهد: القنطار سبعون ألف دينار. وقال عطاء: سبعة آلاف دينار. وقال الحسن:
ألف دينار أو اثني عشرة ألف درهم. وقال قتادة: كان يقال القنطار مائة رطل من الذهب، أو ثمانون ألفاً من ورق. وروي عن عبد الوهاب بن عطاء عن الكلبي قال: كل ما لم أسنده لكم فهو كله عن أبي صالح عن ابن عباس. قال: القنطار ألف مثقال مما كان من ذهب أو فضة.
ثم قال تعالى فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أي فلا تستحلوا أن تأخذوا مما أعطيتم شيئاً إذا لم يكن النشوز من قبلها. ثم قال: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً يقول: أتستحلون أخذه ظلماً وَإِثْماً مُبِيناً أي ذنباً ظاهراً. ثم قال تعالى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ يقول: كيف تستحلون أخذه، يعني أخذ مهورهن وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ يقول: قد اجتمعا في لحاف واحد. قال الفراء:
الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة إن لم يجامعها، أو جامعها وقد وجب المهر. وقال الكلبي:
290
الإفضاء إذا كان معها في لحاف واحد، جامعها أو لم يجامعها، فقد وجب المهر. وروى عوف الأعرابي عن زرارة بن أبي أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق باباً وأرخى ستراً، فقد وجب المهر والعدة. وقال مقاتل: الإفضاء الجماع. وبهذا القول قال بعض الناس: وأما علماؤنا رحمهم الله قالوا: إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة، دخل بها أو لم يدخل بها. ثم قال: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً يقول: أوجبن عليكم عقداً وثيقاً بالنكاح. وهو قوله تعالى فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: ٢٢٩] فصار ذلك على الرجال ميثاقاً غليظاً من النساء ثم بيّن ما يحل للرجال من النساء وما لا يحل فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣)
فقال تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ يعني: لا تتزوجوا من قد تزوج آباؤكم من النساء، ويقال: اسم النكاح يقع على الجماع والتزوج، فإن كان الأب تزوج امرأة أو وطئها بغير نكاح، حرمت على ابنه. وقوله: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ يقول: لا تفعلوا ما قد فعلتم في الجاهلية، وكان الناس يتزوج الرجل منهم امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً حتى نزلت هذه الآية وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ الآية. فصار حراماً في الأحوال كلها. ويقال: إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ، يعني ولا ما قد سلف كقوله تعالى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النساء: ٩٢] ولا خطأ. وقد قيل: إن في الآية تقديماً وتأخيراً، ومعناه ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء، فإنكم إن فعلتم تؤاخذون وتعاقبون إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ، إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ. وقد قيل: إن في الآية إضماراً تقول: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ من النساء، فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ. ثم قال: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي معصية وَمَقْتاً أي بغضاً وَساءَ سَبِيلًا أي بئس
291
المسلك حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ أي نكاح أمهاتكم، فذكر الأمهات والمراد منه الأمهات والجدات وَبَناتُكُمْ ذكر البنات، والمراد به البنات والحفيدات أي بنات الأولاد.
ثم قال تعالى: وَأَخَواتُكُمْ يعني من النسب وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ. ثم قال تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ يعني أن نكاح أمهات نسائكم حرام عليكم، سواء دخل بالابنة أو لم يدخل بها.
هكذا روي عن ابن عباس وعن جماعة من الصحابة أنهم قالوا ذلك. ثم قال: وَرَبائِبُكُمُ يعني حرام عليكم نكاح بنات نسائكم اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ يعني التي يربيها في حجره، حرام عليه إذا دخل بأمها مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يعني: إن لم يكن دخل بأمها فهي حلال له أن يتزوجها، وقد اتفقوا على أن كونها في الحجر ليس بشرط، غير قول روي عن بعض المتقدمين، وإنما ذكر الحجر لتعارفهم فيما بينهم، وتسميتهم بذلك الاسم.
ثم قال تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ يعني حرام عليكم نساء أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ يقال: إنما اشترط الذين من الأصلاب لزوال الاشتباه، لأن القوم كانوا يتبنون في ذلك الوقت ويجعلون الابن المتبنى بمنزلة ابن الصلب في الميراث والحرمة. وتبنى رسول الله ﷺ زيد بن حارثة، فتزوج زيد بن حارثة امرأة ثم طلقها، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعيّره المشركون بذلك وقالوا: تزوج امرأة ابنه، فنزل قوله تعالى مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الأحزاب: ٤٠] وذكر في هذه الآية فقال: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ لكي لا يظن أحد أن امرأة الابن المتبنى تحرم عليه.
ثم قال تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أي حرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين في النكاح في حالة واحدة، ثم قال تعالى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ يقول: إلا ما قد مضى في الجاهلية. وروى هشام بن عبيد الله، عن محمد بن الحسن أنه قال: كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكر في هذه الآية، إلا اثنتين أحدهما نكاح امرأة الأب، والثانية الجمع بين الأختين. ألا ترى أنه قال تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ولم يذكر في سائر المحرمات إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ. ويقال: إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ، يعني: دع ما قد مضى إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً لما كان في الجاهلية، رَحِيماً بما كان في الإسلام إن تاب من ذلك. ثم قال تعالى:
292

[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]

وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ قال في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك، يعني ذوات الأزواج حرام عليكم إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من سبايا، فإذا ملك الرجل امرأة لها زوج في دار الحرب واستبرأ رحمها بحيضة، فهي حلال له. وهذا موافق لما روي عن أبي سعيد الخدري أن المسلمين أصابوا يوم أوطاس سبايا لهن أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون منهن وقالوا:
لهن أزواج، فأنزل الله تعالى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يقول: ما أفاء الله عليكم من ذلك، وإن كان لهن أزواج من المشركين، فلا بأس بأن يأتيها الرجل إذا استبرأ رحمها. وقال في رواية مقاتل: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ يعني كل امرأة ليست تحتكم، فهي حرام عليكم. ثم استثنى من المحصنات فقال: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني إلا ما قد تزوجتم مِّنَ النسآء مثنى وثلاث ورباع. قوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي هذا ما حرم عليكم في الكتاب، ويقال: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ معناه: هذا الذي يقرأ عليكم هو كتاب الله تعالى، فاتبعوه ولا تخالفوه. وقال الزجاج: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ منصوب على التأكيد، محمول على المعنى، لأن معناه حرمت عليكم أمهاتكم، كتب الله عليكم هذا كتاباً. ويجوز أن يكون منصوباً على جهة الأمر، كأنه قال: الزموا كتاب الله فيكون عليكم مفسراً له. ثم قال تعالى:
وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ يقول: رخص لكم ما سوى ذلكم، فالله تعالى قد ذكر ما حرم في هذه الآية من قوله وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ أربع عشرة من المحرمات، سبع بالنسب وسبع بالسبب.
ثم بيّن المحللات فقال: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ يعني ما سوى هذه الأربع عشرة التي ذكر في هذه الآية، فلو كان الأمر على ظاهر هذه الآية، لكان يجوز ما سوى ذلك إلا أنه
293
قد جاء الأثر عن رسول الله ﷺ أنه قال: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» وقال: «لا تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلا عَلَى خَالَتِها». فوجب اتباعه لأن الله تعالى قال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: ٧]. قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص:
وَأُحِلَّ لَكُمْ بضم الألف وقرأ الباقون بالنصب، فمن قرأ بالضم لأنه عطف على قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ. ومن قرأ بالنصب لأنه نسق على قوله كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
ثم قال تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ يعني أن تتزوجوا بأموالكم، ويقال: تشتروا بأموالكم الجواري مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ يقول: كونوا متعففين من الزنى غير زانين فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ قال مقاتل: يعني به المتعة، أي فما استمتعتم منهن إلى أجل مسمى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي أعطوهن ما شرطتم لهن من المال وإنما كانت إباحة المتعة في بعض المغازي، ثم نهي عن ذلك. وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله بها هذه الأمة، ولولا نهي عمر عنها ما زنى إلا شقي. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إنما رخص في المتعة في بعض المغازي، ثم نسختها آية الطلاق والميراث والعدة. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ قال النكاح فآتوهن أجورهن، يعني مهورهن.
وقال في رواية الكلبي: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ بعد النكاح فآتوهن أجورهن، أي مهورهن فَرِيضَةً لهن عليكم. وقال الضحاك: فما استمتعتم به منهن أي فما تزوجتم بهن فأعطوهن مهورهن وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ قال بعضهم: يعني المتعة قبل أن تنسخ، أجاز لهما أن يتراضيا على زيادة الأجل والمال. وقال بعضهم: يعني المهر، لا جناح على الزوجين أن يتراضيا بعد النكاح على زيادة المهر إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً فيما رخّص لكم من نكاح الأجانب حَكِيماً فيما حرم عليكم من ذوات المحارم.
ثم قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أي غنى، يقول: من لم يجد منكم سعة في المال أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ يعني الحرائر، فليتزوج الإماء فذلك قوله: فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الإماء. ويقال: من لم يستطع منكم طولا، يعني من لم يكن له منكم مقدرة على الحرة، فليتزوج الأمة، يعني: إذا لم يكن له امرأة حرة. وقد قال بعض الناس: إذا كان للرجل من المال مقدار ما يمكنه أن يتزوج بالحرة، لا يجوز أن يتزوج الأمة. وفي قول علمائنا: يجوز إذا لم يكن عنده امرأة حرة، لأنه لو صرف إلى ذلك الوجه لا يضر، لأن كل مال يمكن أن يتزوج به الأمة يمكن أن يتزوج به الحرة، ولكن معناه كون الحرة عنده أفضل.
ثم قال: تعالى مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ يعني يتزوج الأمة المسلمة. وقال بعض الناس: لا يجوز أن يتزوج أمة يهودية أو نصرانية، لأن الله تعالى قال مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. وفي قول علمائنا: يجوز نكاح الأمة اليهودية والنصرانية، وذكر المؤمنات ليس بشرط أنه لا يجوز غيرها،
294
وهذا بمنزلة قوله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [النساء: ٣] فإن خاف ألا يعدل فيتزوج أكثر من واحدة جاز، ولكن الأفضل أن لا يتزوج، فكذلك هاهنا الأفضل أن يتزوج الأمة إلا المؤمنة ولو تزوج غير المؤمنة جاز.
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يقول: والله أعلم بإيمانكم في الحقيقة، وأنتم تعرفون الظاهر وليس عليكم أن تبحثوا عن الباطن. وقال مقاتل: في الآية تقديم وتأخير، ومعناه فما ملكت أيمانكم بعضكم من بعض يعني يتزوج هذا وليدة هذا، وهذا وليدة هذا. ثم قال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ من غيره. ويقال: معناه والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض، يعني بعضكم من بعض في النسب، يعني محلكم ولد آدم ولا فخر فيما بينكم. ويقال: دينكم واحد أي بعضكم على دين بعض. ثم قال تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ يعني الولاية بإذن أربابهن وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ يقول: أعطوهن مهورهن بالمعروف، يعني بإذن أهلهن، لأنه إذا أعطى الأمة مهرها بغير إذن مولاها واستهلكت، ضمن الزوج للمولى. ويقال: مهراً غير مهر البغي، يعني بعد ما أطلق ذلك. ثم قال: مُحْصَناتٍ أي عفائف غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي زواني، ويقال: غير معلنات بالزنى وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ يعني أخلاء في السر، لأن أهل الجاهلية كان فيهن زواني في العلانية، ولهن رايات منصوبة وبعضهن اتخذن أخداناً يعني أخلاء في السر، ولا يفعلن بالعلانية فنهى الله عن نكاح الفريقين جميعاً. فقال: تزوجوا محصنات غير معلنات بالزنى ولا في السر. قرأ الكسائي: محصنات بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ وقرأ الباقون في جميع القرآن بالنصب.
ثم قال تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ يعني أسلمن. ويقال: إذا أعففن. قرأ عاصم وحمزة والكسائي: فَإِذا أُحْصِنَّ بالنصب. وقرأ الباقون بالضم. وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ بالنصب، ومعناه إذا أسلمن. وقرأ ابن عباس بالضم، يعني أحصن بالأزواج. فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ يعني الزنى فَعَلَيْهِنَّ أي وجب عليهن نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ يعني إذا زنت الأمة فحدّها نصف حدّ الحرة، خمسون جلدة. والفائدة في نقصان حدهن والله أعلم أنهن أضعف من الحرائر، فجعل عقوبتهن أقل. ويقال لأنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر إلى مرادهن. ويقال: لأن العقوبة تجب على قدر النعمة، ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبي ﷺ يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [سورة الأحزاب: ٣٢] فلما كانت نعمتهن أكثر جعل عقوبتهن أشد، فكذلك الأمة لما كانت نعمتها أقل كانت عقوبتها أدنى. وذكر في الآية حدّ الإماء خاصة ولم يذكر حد العبيد، ولكن حد العبيد والإماء سواء، خمسون جلدة في الزنى، وفي حد القذف وشرب الخمر أربعون جلدة، لأن حد الأمة إنما نقص لنقصان الرق، وذلك في العبد موجود. وروي عن
295
علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما قالا: حدّ العبد نصف حد الحر.
ثم قال تعالى: ذلِكَ يعني هذا الذي ذكر في الآية، وهو رخصة نكاح الأمة لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ يعني الإثم في دينه. ويقال: الزنى والفجور. قال القتبي: أصله المضرور الإفساد. قال تعالى وَأَنْ تَصْبِرُوا عن نكاح الإماء خَيْرٌ لَكُمْ من تزوجهن، لأنه لو تزوج الأمة يصير ولده عبداً. وروي عن عمر أنه قال: أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه، أي يصير ولده رقيقاً، فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق ولده. وقال مجاهد: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ يقول: وإن تصبروا على نكاح الأمة خير لكم من أن تقعوا في الفجور. وَاللَّهُ غَفُورٌ لما أصبتم منهن قبل تحليله رَحِيمٌ حين رخص في نكاح الإماء. ويقال: رحيم إذ لم يعجل العقوبة.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٦ الى ٣١]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أي بيّن لكم أن الصبر خير لكم من نكاح الإماء، ويقال: يبين لكم إباحة نكاح الأمة عند العذر. ثم قال تعالى: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي شرائع الذين من قبلكم بأنه لم يحل لهم تزوج الإماء، وقد أحل لكم ذلك. وقال مقاتل: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ حكم حلاله وحرامه من النساء، وَيَهْدِيَكُمْ أي يبين لكم شرائع من كان قبلكم.
وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي يتجاوز عنكم ما كان منكم قبل التحريم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمن فعله منكم بعد التحريم حَكِيمٌ فيما نهاكم عن نكاح الاماء إن لم يجد طولاً. والنهي نهي استحباب لا نهي وجوب. ويقال: إن هذا ابتداء القصة، يريد الله أن يبين لكم كيفية طاعته وَيَهْدِيَكُمْ يعني يعرفكم سنن الذين من قبلكم، يعني أنهم لما تركوا أمري فكيف عاقبتهم؟ وأنتم إذا فعلتم ذلك لا أعاقبكم، ولكني أتوب عليكم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمن تاب حَكِيمٌ حكم بقبول التوبة.
296
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي يتجاوز عنكم ما كان منكم من قبل التحريم، ويقال: يتجاوز عنكم الزلل والخطايا وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً يعني اليهود والنصارى، ويقال: المجوس. أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً يعني أن تخطئوا خطأً عظيماً، لأن بعض الكفار كانوا يجيزون نكاح الأخت من الأب، وَبَنَاتُ الاخ، وَبَنَاتُ الاخت، فلما حرم الله تعالى ذلك قالوا للمسلمين: إنكم تنكحون ابنة الخالة والعمة، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ويقال: ويريدون الذين يتبعون الشهوات، ويقال: إن اليهود يريدون أن يقفوا منكم على الزلل والخطايا، يعني: أن الله تعالى قد بين لكم لكي لا يقفوا منكم على الزلل والخطايا. ثم قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ يقول: يهون عليكم الأمر إذ رخص لكم في نكاح الإماء، وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً أي لا يصبر على النكاح. وقال الضحاك:
يخفف عنكم أي يريد أن يضع عنكم أوزاركم، ويضع عنكم آثامكم.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ يعني بالظلم باليمين الكاذبة ليقطع بها مال أخيه. ثم استثنى ما استفضل الرجل من مال أخيه في تجارته أنه لا بأس به فقال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ويقال: إلا ما كان بينهما تجارة، وهو أن يكون مضارباً له، فله أن يأكل من مال المضاربة إذا خرج إلى السفر. ويقال: إلا ما يأكل الرجل شيئاً عند اشترائه ليذوقه. قرأ حمزة والكسائي وعاصم: تِجارَةً بنصب الهاء على معنى خبر تكون. وقرأ الباقون بالضم على معنى الاسم. ثم قال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضاً، فإنكم أهل دين واحد. ويقال وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يعني أن يوجب الرجل على نفسه قتل نفسه، فإيجابه باطل. وقال القتبي: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ يعني لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، ولا يقتل بعضكم بعضاً كقوله: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة الحجرات: ١١] أي لا تعيبوا إخوانكم. ويقال: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا تقتلوها بالكسل والبخل إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً إذ نهى عن القتل وعن أخذ الأموال.
قوله تعالى وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً يعني اعتداء ويقال: مستحلاً وَظُلْماً أي وجوراً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً هذا وعيد لهم من الله تعالى، يعني يدخله في الآخرة النار وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي عذابه هين عليه. قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ قال مقاتل: يعني ما نهي عنه من أول هذه السورة إلى هذه الآية وقال في رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه. إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ الكبائر كل شيء سمى الله تعالى فيه النار لمن عمل بها، أو شيء نزل فيه حدّ في الدنيا، فمن اجتنب من هذا وهو مؤمن كفر الله عنه ما سواه من الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، وشهر رمضان إلى شهر رمضان إن شاء الله تعالى. قال: حدثنا محمد بن الفضل، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، قال: حدثنا وكيع عن الأعمش، عن أبي الضحاك، عن
297
مسروق، عن ابن مسعود قال: الكبائر من أول السورة إلى قوله إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ. وروي عن ابن مسعود أنه قال: الْكَبَائِرُ أَرْبَعَةٌ: الإياس مِنْ رَوْحِ الله، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ الله، وَالأَمْنُ من مكر الله، والشرك بالله. وروى عامر الشعبي عن النبي ﷺ أنه قال: «ألا أُنْبِئَكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ باللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ». وقال ابن عمر الكبائر تسعة: الشرك بالله، وقتل المؤمن متعمداً، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا والسحر، وعقوق الوالدين، واستحلال حرمة البيت الحرام. ويقال: الكبيرة ما أصر عليها صاحبها. ويقال: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
ثم قال تعالى: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يقول: نمحو عنكم ذنوبكم ما دون الكبائر وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً في الآخرة وهي الجنة. قرأ نافع: مدخلاً بنصب الميم، والباقون بالضم. فمن قرأ بالنصب فهو اسم الموضع وهو الجنة، ومن قرأ بالضم فهو المصدر والموضع جميعاً.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ قال ابن عباس: يعني لا يتمنى الرجل مال أخيه، ولا امرأته، ولا دابته، ولكن ليقل: اللهم ارزقني مثله. وقال الكلبي مثله. وفيها
298
وجه آخر وهو أن الرجال قالوا: إن الله فضلنا على النساء، فلنا سهمان ولهن سهم، ونرجو أن يكون لنا أجران في الأعمال. وقالت أم سلمة: ليت الجهاد كتب على النساء. فنزلت هذه الآية وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ويقال: إن النساء قلن: كما نقص سهمنا في الميراث، كذلك ينقص من أوزارنا، ويكون الإثم علينا أقل من الرجال، فنزلت الآية لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ولا يتمنى أحدكم أكثر مما عمل وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ من الشر ولا ينقص منهن شيء مما عملن من الإثم. وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ جميعاً الرجال والنساء مِنْ فَضْلِهِ أي من رزقه إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فيما يصلح لكل واحد منهم من السهام، وبمن يصلح للجهاد. قرأ ابن كثير والكسائي وسلوا الله بغير همز في جميع القرآن. وقرأ الباقون واسألوا الله بالهمز وأصله الهمز، إلا أنه حذف الهمز للتخفيف.
قوله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ أي بينا موالي يعني الورثة من الولد والإخوة وابن العم. ويقال: الموالي العصبة: العم، وابن العم، وذوي القربى كقوله: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي [سورة مريم: ٥] معناه: ولكل واحد منكم جعلنا الورثة لكي يرث مِمَّا تَرَكَ وهم الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. ثم قال: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ قال الكلبي ومقاتل: كان الرجل يرغب في الرجل، فيحالفه ويعاقده على أن يكون في ميراثه كبعض ولده ثم قال: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ أي أعطوهم حظهم الذي سميتم لهم من الميراث هكذا قال مجاهد ثم نسخ بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [سورة الأنفال: ٧٥] ويقال: إنهم كانوا يوصون لهم بشيء من المال، فأمرهم بأن يؤتوا نصيبهم من الثلث. ويقال: أراد به مولى الموالاة كانوا يرثون السدس.
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي شاهد إن أعطيتموهم أو لم تعطوهم. قرأ أهل الكوفة حمزة والكسائي وعاصم: والذين عقدت أيمانكم بغير ألف، والباقون بالألف. قال أبو عبيدة: والاختيار عاقدت بالألف لأنه من معاقدة الحلف، فلا يكون إلا بين اثنين. ومن قرأ عقدت معناه عقدت لهم أيمانكم فأضمر فيها لهم. ثم قال: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ نزل في سعد بن الربيع، لطم امرأته بنت محمد بن مسلمة، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها رسول الله ﷺ بالقصاص، فنزل جبريل من ساعته بهذه الآية الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ يعني مسلطون في أمور النساء وتأديبهم بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وذلك أن الرجل له الفضل على امرأته في إنفاقه عليها، ودفع الحق إليها. ويقال: إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير، فجعل لهم حق القيام عليهن بما لهم من زيادة عقل ليس ذلك للنساء. ويقال: للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء، لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة، فيكون فيه قوة وشدة، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة
299
والبرودة، فيكون فيه معنى اللين والضعف، فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك. ثم قال:
وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ أي فضلوا على النساء بما أنفقوا من أموالهم عليهن من المهر والنفقة. ثم قال: فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ يعني المحصنات من النساء في الدين، قانتات مطيعات لله تعالى ولأزواجهن. ويقال: الصالحات يعني المحسنات إلى أزواجهن من النساء في الدين قانِتاتٌ أي مطيعات لله ولأزواجهن. ويقال: الصالحات يعني الموحدات قانِتاتٌ يعني قائمات بأمور أزواجهن حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي لغيب أزواجهن في فروجهن، وفي أموال الأزواج بِما حَفِظَ اللَّهُ يقول: أي يحفظ الله إياهن. قال مقاتل: وما صلة، يعني يحفظ الله لهن. ثم قال عز وجل: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ أي تعلمون عصيانهن فَعِظُوهُنَّ بالله، أي يقول لها: اتق الله، فإن حق الزوج عليك واجب، فإن لم تقبل ذلك.
قوله تعالى وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ قال الكلبي: أي ينسها وهو الهجر، ويقال: لا يقرب فراشها، لأن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج يشق عليها فترجع إلى الصلاح، وإن كانت مبغضة فتظهر السرور فيها، فيتبين أن النشوز من قبلها. وقال الضحاك:
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ أي يعرض عنها، فإن ذلك يغيظها، فإن لم ينفعها ذلك وَاضْرِبُوهُنَّ يعني ضرباً غير مبرح فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا يقول: لا تطلبوا عليهن غللا، ولا تكلفوهن الحب لكم، فإن الحب أمر القلب وليس لها ذلك بيدها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً أي رفيعاً علا فوق كل كبير، فلا يطلب من عباده الحب، ولا يكلفهم ما لا يطيقونه، ويطلب منهم الطاعة، فأنتم أيضاً لا تكلفوهن. ويقال: إن الله مع علوه يتجاوز عن عباده، فأنتم أيضاً تجاوزوا ولا تطلبوا العلل.
ثم قال تعالى للأولياء وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما يقول: إن علمتم خلافاً بين الزوجين، ويقال: إن خفتم الفراق بينهما ولا تدرون من أيهما يقع النشوز فيقول: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها يعني رجلاً عدلاً من أهل الزوج له عقل وتمييز، يذهب إلى الرجل ويخلو به، ويقول له: أخبرني ما في نفسك أتهواها أم لا؟ حتى أعلم بمرادك، فإن قال: لا حاجة لي بها خذ مني لها ما استطعت وفرق بيني وبينها، فيعرف أن من قبله جاء النشوز. وإن قال: فإني أهواها فأرضيها من مالي بما شئت ولا تفرق بيني وبينها، فيعرف أنه ليس بناشز. ويخلو ولي المرأة بها ويقول: أتهوين زوجك أم لا؟ فإن قالت: فرق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد، علم أن النشوز من قبلها. وإن قالت: لا تفرق بيننا ولكن حثّه حتى يزيد في نفقتي ويحسن إلي، علم أن النشوز ليس من قبلها. فإذا ظهر لهما الذي كان النشوز من قبله يقبلان عليه بالعظة والزجر والنهي، وذلك قوله تعالى فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يعني عدلاً فينظران في أمرهما بالنصيحة والموعظة يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما بالصلاح ويقال: كل اثنين يقومان في الإصلاح بين اثنين بالنصيحة، يقع الصلح بينهما لقوله تعالى إِنْ
300
يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما
ثم قال: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً أي عليماً بهما خبيراً بنصيحتهما. وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم، وليس كما يقول الخوارج إنه ليس الحكم لأحد سوى الله تعالى، فهذه كلمة حق ولكن يريدون بها الباطل.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ قال بعضهم: هذا الخطاب للكفار، واعبدوا الله يعني وحدوا الله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً أي لا تثبتوا على الشرك. ويقال: الخطاب للمؤمنين اعبدوا الله، يعني اثبتوا على التوحيد ولا تشركوا به. ويقال: اعبدوا الله يعني أطيعوا الله فيما أمركم به، وأخلصوا له بالأعمال، ولا تشركوا به شيئا. ويقال: هذا الخطاب للمؤمنين وللمنافقين وللكفار، فأمر المؤمنين بالطاعة، والمنافقين بالإخلاص، والكفار بالتوحيد. وروى عكرمة عن ابن عباس- رضي الله عنه- أنه قال: كل عبادة في القرآن إنما يعني بها التوحيد. ويقال: هذه الآيات محكمات في جميع الكتب، وذكر فيها أحكاماً كانت تعرف تلك من طريق العقل، وإن لم ينزل به القرآن وهو قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً يعني أحسنوا إلى الوالدين وَبِذِي الْقُرْبى يعني صلوا القرابات. قوله: وَالْيَتامى يعني أحسنوا إلى اليتامى. ويقال: هذا أمر للأوصياء بالقيام على أموالهم. ثم قال تعالى: وَالْمَساكِينِ أي عليكم بإطعام المساكين. ثم قال: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى أي عليكم بالإحسان إلى الجار الذي بينك وبينه قرابة، فله ثلاث حقوق. هكذا روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الجِيرَانُ ثَلاَثَةٌ: جَارٌ لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَجَارٌ لَهُ حَقُّ وَاحِدٌ. فَأَمَّا الجَارُ الَّذِي لَهُ ثَلاَثَةُ حُقُوقٍ فَالجَارُ القَرِيبُ المُسْلِمُ، فَلَهُ حَقُّ الجِوَارِ، وَحَقُّ القَرَابَةِ، وَحَقُّ الإِسْلامِ. وَالجَارُ الَّذِي لَهُ حَقَّانِ: وَهُوَ الجَارُ المُسْلِمُ، فَلَهُ حَقُّ الإِسلامِ، وَحَقُّ الجِوَارِ. وَالجَارُ الَّذِي لَهُ حَقُّ وَاحِدٌ هُوَ الجَارُ الكَافِرُ لَهُ حَقُّ الجِوَارِ».
301
ثم قال تعالى: وَالْجارِ الْجُنُبِ يعني الجار الذي لا قرابة بينهما، وهو من قوم آخرين وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ أي الرفيق في السفر. وروي عن معاذ بن جبل أنه قال: الصاحب بالجنب يعني المرأة. ثم قال: وَابْنِ السَّبِيلِ يعني الضيف، ينزل عليكم فأحسنوا إليه، وحقه ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك فهو صدقة. ثم قال: وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الخدم أحسنوا إليهم. وقد روي في الخبر «أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلا تُكَلِّفُوهُمْ مَا لا يُطِيقُونَ، فَإنَّهم لَحْمٌ وَدَمٌ وَخَلْقٌ أَمْثَالُكُمْ». رواه علي بن أبي طالب عن رسول الله ﷺ أنه قال:
«الله الله فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ». وذكر الحديث. وروي عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ أنه قال: «ما زال جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالنِّساءِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُحَرِّمُ طَلاَقَهُنَّ، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالمَمَالِيكِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَجْعَلُ لَهُمْ مُدَّةً إذَا انْتَهَوْا إِلَيْها أُعْتِقُوا، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَن يُحْفِي فَمِي، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِقِيَامِ اللَّيْلِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ خِيَارَ أُمَّتِي لَمْ يَنَامُوا لَيْلاً».
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً يعني من كان مختالاً في مشيه فخوراً على الناس وهذا قول الكلبي. وقال القتبي: المختال ذو الخيلاء والكبر، وهذا قريب من الأول. ويقال: فخوراً في نعم الله، لا يشكرها ويتكبر على الناس. ثم قال تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ قال مجاهد ومقاتل: نزلت في اليهود، يبخلون بكتمان صفة محمد ﷺ في كتابهم وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ يعني: أمروا قومهم أن يكتموا صفته ﷺ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ في التوراة. ويقال: أبْخَلُ النَّاسِ الَّذِي يَبْخَلُ بعلمه. ويقال: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يعني في المال، لأن رؤساءهم كانوا لا يعطون أحداً من أموالهم شيئاً، لأن عادتهم كان الأخذ والمنع، وكانوا أيضاً يأمرون بالبخل، لأن من كان في معصية فإنه يأمر غيره بذلك لكي لا يظهر عيبه وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني: لا يشكرون على ما أعطاهم الله من نعمته، ولا يخرجون الزكاة.
ثم قال تعالى: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً أي عذاباً شديداً. قرأ حمزة والكسائي:
بالبخل بنصب الباء والخاء، وقرأ الباقون بالبُخْل بضم الباء وجزم الخاء. وقال بعض أهل اللغة: ها هنا أربع لغات وهي لغة الأنصار: بخل، وبخل، وبخل، وبخل إلا أنه قرأ بحرفين ولا يقرأ بالحرفين الآخرين. ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ قال مقاتل:
يعني اليهود. وقال الضحاك: يعني المنافقين، ينفقون أموالهم مراءاة للناس وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني: ولا يصدقون في السر. ويقال: نزلت في مطعمي يوم بدر وهم رؤساء مكة، أنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر. ثم قال تعالى: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً ففي الآية مضمر فكأنه قال: ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر فقرينهم الشيطان، ومن
302
يكن الشيطان له قرينا فَساءَ قَرِيناً أي قرينهم الشيطان في الدنيا، يأمرهم بالبخل. ويقال:
قرينه في النار في السلسلة.
ثم قال تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٣٩ الى ٤٢]
وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢)
وَماذا عَلَيْهِمْ أي وما كان عليهم لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ مكان الكفر وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مكان البخل في غير رياء. ويقال: وَماذا عَلَيْهِمْ أي لم يكن عليهم شيء من العذاب لو آمنوا بالله واليوم الاخر، وأنفقوا مما رزقهم الله من الأموال، وهي الصدقة وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً أنهم لم يؤمنوا. ويقال: إن الله عليم بثواب أعمالهم، ولا يظلمهم شيئاً من ثواب أعمالهم. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ يعني لا ينقص من ثواب أعمالهم وزن الذرة. قال الكلبي: وهي النملة الحميراء الصغيرة. ويقال: هو الذي يظهر في شعاع الشمس، ويقال: لا يظلم مثقال ذرة يعني لا يزيد عقوبة الكافر مثقال ذرة، ولا ينقص من ثواب المؤمنين مثقال ذرة.
ثم قال تعالى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها قرأ نافع وابن كثير: وإن تك حسنة بضم الهاء لأن اسم تك بمنزلة اسم كان. قرأ الباقون: حسنة بالنصب، وجعلوه خبر تك والاسم فيه مضمر معناه: وإن تكن الفعل حسنة يضاعفها، يعني: إذا زاد على حسناته مثقال ذرة من حسنة يضاعفها الله تعالى حتى يجعلها مثل أحد ويوجب له الجنة، فذلك قوله تعالى: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً يعني الجنة. وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: خمس آيات في سورة النساء أحب إلي من الدنيا وما فيها: قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [سورة النساء: ٣١] الآية. وقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [سورة النساء: ٦٤] الآية. وقوله:
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الآية. وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [سورة النساء: ٤٨] الآية. وقوله: ومَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [سورة النساء: ١٢٣] الآية.
وقوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ أي فكيف يصنعون؟ وكيف يكون حالهم؟
إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمة بشهيد، يعني بنبيها هو شاهد بتبليغ الرسالة من ربهم وَجِئْنا بِكَ يا
303
محمد عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً يعني على أمتك شهيداً بالتصديق لهم، لأن أمته يشهدون على الأمم المكذبة للرسالة، وذلك أنه إذا كان يَوْمُ الْقِيَامَةِ يقولُ الله تعالى للأمم الخالية: هل بلغتكم الرسل رسالاتي؟ فيقولون: لا. فقالت الرسل: قد بلغنا ولنا شهود، فيقول عز وجل: ومن شهودكم؟ فيقولون: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيؤتى بأمة محمد ﷺ فيشهدون بتبليغ الرسالة، بما أوحي إليهم من ربهم في كتابهم في قصة الأمم الخالية. فتقول الأمم الماضية: إن فيهم زواني وشارب الخمر، فلا يقبل شهادتهم، فيزكيهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم فيقول المشركون: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام: ٢٣] فيختم على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون، فذلك قوله تعالى يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي تخسف بهم الأرض. ويقال: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ الرسل يشهدون على قومهم بتبليغ الرسالة، ويشهد النبيّ صلّى الله عليه وسلم على أمته بتبليغ الرسالة من قبل ومن لم يقبل.
حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا أبو منيع، قال: حدّثنا أبو كامل، قال: حدّثنا فضيل عن يونس بن محمد بن فضالة عن أبيه، أن رسول الله ﷺ أتاهم من بني ظفر، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر، ومعه ابن مسعود، ومعاذ وناس من الصحابة، فأمر قارئاً فقرأ حتى إذا أتى على هذه الآية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً بكى رسول الله ﷺ حتى اخضلت وجنتاه فقال: «يَا رَبّ هذا عِلْمِي بِمَنْ أَنَا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ أَرَهُمْ؟».
ثم قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: يتمنى الذين كفروا يعني الكفار وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي يكونوا تراباً يمشي عليهم أهل الجمع وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وهو قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. قال الزجاج: قال بعضهم:
وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً مستأنف، لأن ما عملوا ظاهر عند الله تعالى لا يقدرون على كتمانه.
وقال بعضهم: هو كلام بناء يعني يودون أن الأرض سويت بهم، وأنهم لم يكتموا الله حديثاً لأنه مظهر كذبهم. قرأ حمزة والكسائي تُسَوَّى بنصب التاء وتخفيف السين وتشديد الواو يعني يخسف بهم، وقرأ عاصم وابن كثير وأبو عمرو تُسَوَّى بضم التاء فأدغم إحدى التاءين في الأخرى على فعل لم يسم فاعله، أي يصيروا تراباً وتسوى بهم الأرض. وقرأ نافع وابن عامر: تُسَوَّى بنصب التاء وتشديد السين والواو، لأن أصله تتسوى فأدغم إحدى التاءين في السين.
ثم قال تعالى:
304

[سورة النساء (٤) : آية ٤٣]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مآء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى قال مقاتل: وذلك أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً، فدعا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليا، وسعدا رضي الله عنهم، فأكلوا وسقاهم خمراً، فحضرت صلاة المغرب فأمهم علي فقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [سورة الكافرون: ١] على غير الوجه، فنزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وكان ذلك قبل تحريم الخمر. وقال لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى يعني موضع الصلاة، وهو المسجد حتى تعلموا ما تقولون. ويقال: حتى تصيروا بحال تعلمون ما تقولون، فحينئذٍ تقربوا المسجد لأنهم إذا لم يعلموا ما يقولون فلا يعرفون الحرمة. ثم قال تعالى: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ يقول: ولا تقربوا الصلاة جنبا إلا عابرى سبيل، يعني إلا أن يكون مسافراً فلا يجد الماء، فيتيمم ويصلي إذا كان جنباً. وقال الزجاج:
وحقيقته ألا تصلوا إذا كنتم جنباً حَتَّى تَغْتَسِلُوا إلا أن لا تقدروا على الماء. وقال القتبي: لا تقربوا الصلاة، يعني لا تقربوا المساجد وأنتم جنب إلا مجتازين. وقال بعضهم: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى من النوم. وروى السدي عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ قال: في السفر يتيمم ويصلي. ويقال: إلا أن تكون في المسجد عين، فيدخل ليغترف الماء.
ثم قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى نزلت في عبد الرحمن بن عوف، أصابته جنابة وهو جريح، فرخص له بأن يتيمم، ثم صارت الآية عامة في جميع الناس. وروي عن عبد الله بن عباس وجابر بن سمرة وغيرهما من الصحابة، أن رجلاً كان به جدري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابته جنابة فغسلوه فمات من ذلك، فأخبر بذلك رسول الله ﷺ فقال: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ الله فَهَلاَّ يَمَّمُوهُ». وروي عن ابن عباس أنه قال: وإن كنتم مرضى قال: فإنما هو المجذوم، والمجدور، والمقروح. ثم قال تعالى: أَوْ عَلى سَفَرٍ أي إذا كنتم مسافرين أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ والغائط في اللغة اسم المكان المطمئن من الأرض، وإنما هو كناية عن قضاء الحاجة. ثم قال تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قرأ حمزة والكسائي: أَوْ لامَسْتُمُ وقرأ الباقون لامَسْتُمُ من الملامسة. قال ابن عباس: يعني الجماع. وقال بعضهم: هو المس باليد فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً يعني: إذا أصابكم الحدث أو الجنابة، ولم تجدوا ماءً، فتيمموا صعيداً طيباً أي تراباً نظيفاً. ويقال: الصعيد هو ما علا وجه الأرض
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ قال بعضهم: الوجه والكفين، وهو قول الأعمش والأوزاعي.
وقال بعضهم: إلى المنكبين، وهو قول الزهري. وقال عامة أهل العلم: الوجه واليدين إلى المرفقين، وبذلك جاءت الآثار عن رسول الله ﷺ وعن عامة الصحابة اعتباراً بالوضوء. ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً أي ذو الفضل والعفو حين أجاز لكم التراب مكان الماء، غفوراً لتقصيركم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٤ الى ٤٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني: أعطوا حظا من علم التوراة يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يعني: يختارون الكفر على الإسلام. قال القتبي: وهذا من الاختصار، ومعناه يشترون الضلالة بالهدى، أي يستبدلون هذا بهذا، كقوله: إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا [سورة الإسراء: ٣٤] أي مسؤولاً عنه. ثم قال تعالى: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ أي تتركوا طريق الهدى، وهو طريق الإسلام وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ أي علم بعداوتهم إياكم، يعني هو يعلم بالحقيقة وأنتم تعلمون الظاهر. ويقال: هذا وعيد لهم، فكأنه يقول: هو أعلم بعذابهم كما قال في آية أخرى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ [سورة الأنعام: ٥٨] يعني عليم بعقوبتهم ومجازاتهم. ثم قال تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا أي ناصراً لكم، ومعيناً لكم وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً يعني مانعاً لكم.
قوله تعالى مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي مالوا عن الهدى. قال الزجاج: مِنَ الَّذِينَ هادُوا فيه قولان: فجائز أن يكون من صلة، والمعنى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من
306
الذين هادوا، ويجوز أن يكون معناه من الذين هادوا قوم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ أي يحرفون نعته عن مواضعه، وهو نعت محمد ﷺ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا قولك وَعَصَيْنا أمرك وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ منك وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ أي يلوون لسانهم بالسب وَطَعْناً فِي الدِّينِ أي في دين الإسلام. قال القتبي: كانوا يقولون للنبي ﷺ إذا حدثهم وأمرهم سمعنا، ويقولون في أنفسهم وعصينا. وإذا أرادوا أن يكلموه بشيء قالوا: اسمع يا أبا القاسم. ويقولون في أنفسهم: لا سمعت. ويقولون: راعنا يوهمونه في ظاهر اللفظ أنهم يريدون انظرنا حتى نكلمك بما تريد، ويريدون به السب بالرعونة لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ أي قلباً للكلام بها وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا مكان سمعنا وعصينا وَاسْمَعْ مكان اسمع لا سمعت وَانْظُرْنا مكان قولهم راعنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ أي وأصوب من التحريف والطعن. ثم قال تعالى:
وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي خذلهم الله وطردهم، مجازاة لهم بكفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا يعني: لا يؤمنون، إلا بالقليل، لأنهم لا يؤمنون بالقرآن، ولا يؤمنون بجميع ما عندهم، ولا بسائر الكتب، وإنما يصدقون ببعض ما عندهم. ويقال: لا يؤمنون إلا القليل منهم، وهم مؤمنو أهل الكتاب. ويقال: إنهم لا يؤمنون وهم بمنزلة رجل يقول: فلان قليل الخير، يعني لا خير فيه.
ثم خوفهم فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا أي صدقوا بالقرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أي موافقاً للتوراة في التوحيد وبعض الشرائع مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها وطمسها أن يردها على بصائر الهدى، ويقال طمسها أن يحول الوجوه إلى الأقفية. ويقال: يخسف الأنف والعين فيجعلها طمساً. ويقال: من قبل أن يطمس أي تسود الوجوه. قال بعضهم: يعني به في الآخرة. ويقال: هذا تهديد لهم في الدنيا. وذكر أن عبد الله بن سلام قدم من الشام، فلم يأتِ أهله حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي. ويقال: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً يعني وجه القلب، وهو كناية عن القسوة. وقال مقاتل: يعني من قبل أن تحول القبلة كقوله لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
[سورة البقرة: ١٤٨] ثم قال تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ أي نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت القردة. ثم قال وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أي كائناً، وهذا وعيد من الله تعالى لهم ليعتبروا ويرجعوا.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ أي دون الشرك لِمَنْ يَشاءُ يعني لمن مات موحداً نزلت الآية في شأن وحشي قاتل حمزة، وذلك أن الناس لما التقوا يوم أحد وقد جعل لوحشي جزاء إن قتل حمزة فقتله، لم يوف له، فلما قدم مكة ندم على صنعه الذي صنع هو وأصحابه معه، فكتبوا إلى رسول الله ﷺ كتاباً إنا قد ندمنا على ما صنعنا، وإنه ليس يمنعنا من الدخول معك إلا أنا سمعناك تقول: إذ كنت عندنا بمكة وَالَّذِينَ لاَ
307
يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ
[سورة الفرقان: ٦٨] إلى قوله يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [سورة الفرقان: ٦٩] وقد دعونا مع الله إلها آخر، وقتلنا النفس، وزنينا، فلولا هذه الآيات لا تبعناك، فنزل إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [سورة مريم: ٦٠] فبعث رسول الله ﷺ بهذه الآيات إلى وحشي وأصحابه، فلما قرءوا كتبوا إليه أن هذا شرط شديد، فنخاف ألا نعمل عملاً صالحاً فلا نكون من أهل هذه الآية. فنزل إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فبعث إليهم فقرؤوها، فبعثوا إليه فقالوا: إن في هذه الآية شرطاً أيضاً نخاف ألا نكون من أهل مشيئته، فنزل قوله قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [سورة الزمر: ٥٣] فبعثها إليهم، فلما قرءوها وجدوها أوسع مما كان قبلها، فدخل هو وأصحابه في الإسلام. وروي عن ابن عمر أنه قال: كنا إذا مات الرجل منا على كبيرة، شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فأمسكنا عن الشهادة. وهذه الآية رد على من يقول: إن من مات على كبيرة يخلد في النار، لأن الله تعالى قد ذكر في آية أخرى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [سورة هود: ١١٤] يعني ما دون الكبائر، فلم يبق لهذه المشيئة موضع سوى الكبائر. ثم قال تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً يعني اختلق على الله كذباً عظيماً. ويقال: فقد أذنب ذنباً عظيماً.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٩ الى ٥٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ يقول: يبرئون أنفسهم من الذنوب بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وذلك لأن رؤساء اليهود كانوا يقولون: هل على أولادنا من ذنب؟ فما نحن إلا كهيئتهم. فهذا الذي زكوا به أنفسهم، قال الله تعالى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أي يصلح
308
ويبرئ من يشاء من الذنوب. ويقال: يكرم من يشاء بالإسلام وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا قال الكلبي ومقاتل: الفتيل الذي يكون في شق النواة وهو الأبيض، ويقال: هو ما فتلته بين أصبعيك من الوسخ، إذا مسحت إحداهما بالأخرى، يعني: لا ينقصون من ثواب أعمالهم بذلك المقدار.
ثم قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي يختلقون على الله الكذب وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً أي ذنباً مبيناً. روى مقاتل عن الضحاك قال: الفتيل، والنقير، والقطمير كلها في النواة. ثم قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني أعطوا حظاً من علم التوراة يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ الجبت حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف.
وقال القتبي: كل معبود من حجر أو صورة أو شيطان فهو جبت وطاغوت. قال: ويقال:
الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. ويقال: في هذه السورة رجلان من اليهود، وإيمانهم بهما تصديقاً لهما وطاعتهم إياهما.
ثم قال تعالى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني لمشركي مكة هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا وذلك أن رؤساء اليهود قدموا مكة بعد قتال أُحد، ونقضوا العهد، وبايعوا المشركين وقالوا: أنتم أهدى سبيلاً من المسلمين. حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا الديبلي، قال: حدّثنا أبو عبيد الله، قال: حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة، قال:
جاء كعب بن الأشرف وفي رواية أخرى عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب إلى مكة، فأتيا قريشاً فقالت لهما قريش أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد، ديننا القديم ودين محمد الحديث، ونحن نصل الرحم، ونسقي الحجيج، ونفك العناة، ومحمد ﷺ صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، فنحن أهدى أم هو؟ قالا: بل أنتم أهدى سبيلاً منهم. فأنزل الله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ الآية إلى قوله وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا يعني أهدى ديناً من المهاجرين والأنصار.
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي خذلهم وطردهم الله من رحمته، ويقال:
عذبهم الله بالجزية وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أي مانعاً. قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ يقول: لو كان لهم، يعني لليهود حظ من الملك فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أي لا يعطون أحداً من بخلهم وحسدهم نقيراً، والنقير: النقطة التي على ظهر النواة أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ أي أيحسدون الناس. ويقال: بل يحسدون الناس يعني به محمداً ﷺ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من النبوة وكثرة تزوجه النساء، ويقولون: لو كان نبياً لشغلته النبوة عن كثرة النساء، فيحسدونه بذلك.
قال الله تعالى فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ يعني النبوة والعلم والفهم
309
وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فكان يوسف عليه السلام ملكاً على مصر، وكان سليمان بن داود عليهما السلام ملكاً، وكانت له ثلاثمائة امرأة حرّة سوى السرية، قال مقاتل هكذا. وقال الكلبي: كانت له سبعمائة امرأة، وثلاثمائة سرية، وكان لداود عليه السلام مائة امرأة، فلم يكن تمنعهم النبوة عن ذلك. ويقال: إن الفائدة في كثرة تزوجه أنه كانت له قوة أربعين نبياً، وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحاً. ويقال: إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة، لأن لكل امرأة قبيلتين، قبيلة من قبل الأب، وقبيلة من قبل الأم، فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه، فيكونون عوناً له على أعدائه. ويقال: إن كل من كان أتقى كانت شهوته أشد، لأن الذي لا يكون تقياً إنما ينفرج بالنظر واللمس، ألا ترى إلى ما روي في الخبر «العَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَاليَدَانِ تَزْنِيَانِ». فإذا كان في النظر وفي المس نوع من قضاء الشهوة، فلا ينظر التقي ولا يمس، فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه، فيكون أكثر جماعاً. وقال أبو بكر الوراق: كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع، فإنه يصفي القلب، ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام يفعلون ذلك.
قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ يعني من اليهود من آمن به، بالكتاب الذي أنزل على إبراهيم، وآمن بالكتاب الذي أنزل على محمد ﷺ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ يعني أعرض عنه مكذباً، وهذا قول الكلبي. وقال مقاتل: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ يعني من آل إبراهيم مَنْ آمَنَ بِهِ يعني بالكتاب الذي جاء به وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ لم يؤمن به. وقال الضحاك: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ يعني اليهود كانوا يحسدون قريشاً لأن النبوة فيهم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ يعني إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط. الْكِتابَ يعني التنزيل وَالْحِكْمَةَ يعني السنة وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً يعني قريشاً وبني هاشم مُلْكاً عَظِيماً يعني الخلافة لا تصلح إلا لقريش فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ يعني بمحمد ﷺ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أي كفر به. ثم قال تعالى: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أي وقوداً لمن كفر به. ثم بيّن مصير من كذب به، وموضع من آمن به، فقال تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا يعني بمحمد ﷺ وبالقرآن سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً أي ندخلهم ناراً في الآخرة. ويقال: صَلِيَ إذا دخل النار لأجل شيء، وأصلاه إذا أدخله للاحتراق.
والاصطلاء بالنار الاستدفاء. ثم قال تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ يقول: كلما احترقت جلودهم بَدَّلْناهُمْ يعني: جددنا لهم جُلُوداً غَيْرَها لأنهم إذا احترقوا خبت عنهم النار ساعة فبدلوا خلقاً جديداً، ثم عادت تحرقهم، فهذا دأبهم فيها. وقال مقاتل: تجدد في كل يوم سبع مرات. وقال الحسن: بلغني أنه ينضج كل يوم سبعين ألف مرة. وقال الضحاك: سبعين جلداً في كل يوم. وقد طعنت الزنادقة في هذا وقالوا: إن الجلد الذي تبدل لم يذنب، فكيف يستحق العقوبة والعذاب؟ وقيل لهم: إن ذلك الجلد هو الجلد الأول، ولكنه إذا أحرق أعيد إلى الحال الأول، كالنفس إذا صارت تراباً وصارت لا شيء ثم أحياها الله تعالى، فكذلك هاهنا. وقوله تعالى جُلُوداً غَيْرَها على وجه المجاز، كما قال في آية أخرى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [سورة إبراهيم: ٤٨] قال ابن عباس رضي الله عنه يعني يزاد في سعتها، وتسوى جبالها وأوديتها.
ثم قال تعالى: لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي لكي يجدوا مس العذاب إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً في نقمته حَكِيماً في أمره، حكم لهم بالنار، ثم بيّن مصير الذين صدقوا به فقال عز وجل:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني الطاعات التي أمرهم الله تعالى بها سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أي مقيمين فيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ في الخلق والخلق وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا قال الضحاك: يعني ظلال أشجار الجنة، وظلال قصورها. وقال الكلبي: يعني ظِلًّا ظَلِيلًا أي دائما. وقال مقاتل: يعني أكنان القصور ظَلِيلًا يعني لا خلل فيها.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وذلك أن مفتاح الكعبة كان في يد بني شيبة، وكانت السقاية في يد بني هاشم، فلما فتح رسول الله ﷺ مكة دعا عثمان بن طلحة وقال له: هات المفتاح. فخشي عثمان أن يعطيه إلى عمه العباس، فجاء بالمفتاح وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذه بأمانة الله: فدخل رسول الله ﷺ البيت، فإذا فيه تمثال إبراهيم عليه
311
السلام مصور على الحائط، وبيده قداح، وعنده إسماعيل والكبش مصوران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَاتَلَ الله الكُفَّارَ مَا لإبْرَاهِيمَ والقِدَاحِ» فأمر بالصور فمحيت، فقضى حاجته من البيت ثم خرج، فطلب منه العباس بأن يدفع إليه المفتاح، فنزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ثم صارت الآية عامة لجميع الناس برد الأمانات إلى أهلها. ويقال: نزلت في شأن اليهود، حيث كتموا نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت أمانة عندهم فمنعوها. ويقال: هذا أمر لجميع المسلمين بأداء الفرائض وجميع الطاعات، لأنها أمانة عندهم كقوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ- إِلَى قَوْلُهُ- وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ.
ثم قال تعالى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ يقول: بالحق، وقال الضحاك: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أي بين القوم أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أي بالبينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ يعني يأمركم بالعدل والنصيحة، والاستقامة، وأداء الأمانة إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بمقالة العباس بَصِيراً بردِّ المفتاح إلى أهله.
قرأ ابن عامر والكسائي وحمزة نِعِمَّا بنصب النون وكسر العين والاختلاف فيه كالاختلاف الذي في سورة البقرة، وذلك قوله تعالى إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ أي في الفرائض وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أي في السنن. ويقال: أطيعوا الله فيما فرض، وأطيعوا الرسول فيما بيّن. ويقال أَطِيعُوا اللَّهَ بقول لا إله إلا الله، وأطيعوا الرسول بقول محمد رسول الله وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. يعني: أطيعوا أولي الأمر منكم. قال الكلبي ومقاتل: يعني: أمراء السرايا. وقال الضحاك: يعني: الفقهاء والعلماء في الدين.
ويقال: الخلفاء والأمراء. ويجب طاعتهم ما لم يأمروا بالمعصية. قوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ من الحلال والحرام والشرائع فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ يعني إلى أمر الله فيما يأمر بالوحي، وإلى أمر الرسول فيما يخبر عن الوحي، ثم بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما انقطع الوحي يرد إلى كتاب الله تعالى، وإلى سنة رسول عليه الصلاة والسلام. ويقال: معناه إذا أشكل عليكم شيء، فقولوا: الله ورسوله أعلم. وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. وقال الخليل بن أحمد البصري: الناس أربعة: رجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فهذا أحمق فاجتنبوه. ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري، فهذا جاهل فعلِّموه. ورجل يدري ولا يدري أنه يدري، فهذا نائم فأيقظوه. ورجل يدري وهو يدري أنه يدري، فهذا عالم فاتبعوه.
ثم قال تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني إن كنتم تصدقون بالله واليوم الآخر ثم قال: ذلِكَ خَيْرٌ أي الرد إلى كتاب الله، وإلى سنة رسوله خير من الاختلاف وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي وأحسن عاقبة. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:
حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة إلى أهلها، فإذا فعل ذلك وجب على
312
المسلمين أن يطيعوه، فإن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمرنا بطاعتهم. وقال مجاهد: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ العلماء والفقهاء، وهكذا روي عن جابر. وقوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٠ الى ٦٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وذلك أنَّ منافقاً يقال له بشر، كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد ﷺ وكانت تلك الخصومة في حكم الإسلام على المنافق، وفي حكم اليهود على اليهودي. فقال اليهودي: نأتي محمدا ﷺ يحكم بيننا. وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف حتى يحكم بيننا. فكانا في ذلك إذ سمع عمر بن الخطاب قولهما، فقال: ما شأنكما؟ فأخبراه بالقصة. فقال عمر: أنا أحكم بينكما.
فأجلسهما، ثم دخل البيت وخرج بالسيف، وقتل المنافق، فنزلت هذه الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني بالقرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعني سائر الكتب المنزلة يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وهو كعب بن الأشرف وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ يعني أمروا بتكذيبه. وقال الضحاك: نزلت الآية في شأن المنافقين، لأنهم آمنوا بلسانهم ولم يؤمنوا بقلوبهم، وركنوا إلى قول اليهود ومالوا إلى خلاف النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فذلك قوله:
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا يعني: إلى كهنة اليهود وسحرتهم.
ثم قال: وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ عَنِ الهدى وَعَن الحق ضَلالًا بَعِيداً ثم قال: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ يعني: إلى ما أمر الله في كتابه، وإلى ما أمر الرسول، وإلى ما أنزل إلى الرسول رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً أي يعرضون عنك إعراضاً. ويقال: صدّ يصد يكون لازماً ويكون متعدياً، وإنما يتبين ذلك بالمصدر. ويقال:
صدّ يصدّ صدّاً إذا صرف غيره. كقوله تعالى فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وصدّ يصدّ صدوداً، إذا
أعرض بنفسه كقوله تعالى فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وكقوله رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ يقول: فكيف يصنعون إذا أصابتهم عقوبة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بما عملت أيديهم ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ قال في رواية الكلبي: نزلت في شأن ثعلبة بن حاطب، كانت بينه وبين الزبير بن العوام خصومة، فقضى رسول الله ﷺ للزبير، فخرجا من عنده فمرا على المقدام بن الأسود، فقال المقدام لمن كان القضاء يا ثعلبة؟ فقال ثعلبة: قضى لابن عمته الزبير ولوى شدقه على وجه الاستهزاء، فنزلت هذه الآية فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بليه شدقه، فلما نزلت هذه الآية أقبل إلى رسول الله ﷺ يعتذر إليه ويحلف. وذلك قوله: ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً أي ما أردنا إلا الإحسان في المقالة وَتَوْفِيقاً يقول: صواباً. وقال الضحاك ومقاتل: نزلت في شأن الذين بنوا مسجد ضرار، فلما أظهر الله نفاقهم وأمر بهدم المسجد، حلفوا لرسول الله ﷺ دفعاً عن أنفسهم: ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة الله وموافقة الكتاب.
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ من الضمير. وقال الزجاج: معناه قد علم الله أنهم منافقون، والفائدة لنا أن اعلموا أنهم منافقون. قال: ومعنى قوله: وَتَوْفِيقاً أي طلباً لما وافق الحق. ثم قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تعاقبهم وَعِظْهُمْ بلسانك وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً يقول: خوفهم وهددهم إن فعلتم الثاني عاقبتكم. قال مقاتل: تقدم إليه تقدماً وثيقاً ثم نسخ بقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة: ٧٣]. وقوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٤ الى ٦٨]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ ومن صلة فكأنه يقول: وما أرسلنا رسولاً إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
أي لكي يطاع بأمر الله. ثم قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بصنعهم جاؤُكَ بالتوبة فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ لذنوبهم وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً أي متجاوزاً.
قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ كقول القائل: لا والله لا يؤمنون حَتَّى يُحَكِّمُوكَ حتى يقروا ويرضوا بحكمك يا محمد فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي فيما اختلفوا فيه. ويقال: تشاجرا أي اختلفا. ويقال: فيما التبس عليهم. قال الفقيه: حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا الديبلي، قال: حدّثنا أبو عبيد الله عن سفيان عن عمرو، عن رجل من ولد أم سلمة، عن أم سلمة أنها قالت: كان بين الزبير بن العوام وبين رجل خصومة، فقضى النبيّ صلّى الله عليه وسلم للزبير، فقال الرجل: إنما قضى له لأنه ابن عمته. فأنزل الله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي في قلوبهم حَرَجاً أي شكّاً مِمَّا قَضَيْتَ أنه الحق وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي ويخضعوا لأمرك في القضاء خضوعاً. وقال الزجاج: تسليماً مصدر مؤكد، فإذا قلت ضربه ضرباً فكأنك قلت: لا شك فيه، كذلك وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي ويسلمون لحكمك تسليماً، لا يدخلون على أنفسهم شكّاً.
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يعني: لو فرضنا عليهم القتل أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ والقليل منهم: عمار بن ياسر، وابن مسعود، وثابت بن قيس، قالوا: لو أن الله تعالى أمرنا بأن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «الإيمانُ أثْبَتُ في قُلُوبِ الرِّجَالِ مِنَ الجِبالِ الرَّوَاسِي» قرأ ابن عامر إلا قليلاً منهم بالألف وهكذا في مصاحف أهل الشام. وقرأ الباقون بغير الألف بالضم. فمن قرأ بالضم فمعناه ما فعلوه، ويفعله قليل منهم على معنى الاستئناف. ومن قرأ بالنصب على معنى أنه على خلاف الأول للاستثناء. كقوله تعالى إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ [النساء: ٩٨].
ثم قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ أي ما يؤمرون به لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي الثواب في الآخرة وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً أي تحقيقاً في الدنيا. قوله تعالى وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ يقول:
حينئذٍ لأعطيناهم مِنْ لَدُنَّا أي من عندنا أَجْراً عَظِيماً في الآخرة يعني الجنة وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي ديناً قيماً يرضاه لهم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٩ الى ٧٣]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (٧٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣)
315
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ قال في رواية الكلبي: نزلت الآية في شأن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحب له، وكان قليل الصبر عنه حتى تغير لونه ونحل جسمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا غَيَّرَ لَوْنَكَ» ؟ فقال: ما بي من مرض، ولكني إذا لم أرك استوحشت وحشة عظيمة حتى ألقاك، وأذكر الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك. فنزل قوله تعالى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ في الجنة. وقال في رواية الضحاك: وذلك أن نفراً من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: يا نبيَّ الله، وإن صرنا إلى الجنة فإنك تفضلنا في الدرجات، كما أنك تفضلنا بدرجات النبوة، فلا نراك. فنزل فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الآية.
حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا أبو العباس، قال: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا جهضم، عن عطاء بن السائب، عن الشعبي أن رجلا من الأنصار أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي وولدي وأهلي، فلولا أني آتيك فأراك لا ريب- أي لا شك- أني سوف أموت. قال: وبكى الأنصاري. فقال: «مَا أَبْكَاكَ؟» قال: ذكرت أنك تموت ونموت وترفع مع النبيين، ونكون نحن وإن دخلنا الجنة دونك، فلم يجبه بشيء، فأنزل الله تعالى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ أي من المسلمين. ثم قال: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً في الجنة، أي رفقاء كقوله تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج: ٥] أي أطفالاً، وكقوله كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون: ٤] أي الأعداء ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ أي المنّ والعطية من فضل الله وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بالثواب في الآخرة.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ أي عدتكم من السلاح فَانْفِرُوا ثُباتٍ يعني عصباً سرايا أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً مع النبي ﷺ بأجمعكم. وقال عز وجل: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فاللام الأولى زيادة للتأكيد، واللام الثانية للقسم. أي وإن منكم من يتثاقل ويتخلف عن الجهاد، يعني المنافقين، فهذا الخطاب للمؤمنين، فكأنه يقول: إن فيكم منافقين يتثاقلون ويتخلفون عن الجهاد فَإِنْ أَصابَتْكُمْ معشر المسلمين مُصِيبَةٌ يعني نكبة وشدة وهزيمة من العدو قالَ ذلك المنافق الذي فيكم وتخلف عن الجهاد: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ
316
بالجلوس إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً أي حاضراً في تلك الغزوة. قوله تعالى: وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ يعني الفتح والغنيمة لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ، أي معرفة ووداً في الدين يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ في تلك الغزوة فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً فأصيب غنائم كثيرة. وقال مقاتل: في الآية تقديم وتأخير، ومعناه: فإن أصابتكم مصيبة قال: قد أنعم الله عليَّ إذ لم أكن معهم شهيداً، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة في الدين ولا ولاية. قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بالتاء لأن المودة مؤنثة، وقرأ الباقون بالياء لأن تأنيثه ليس بحقيقي.
ثم أمر المنافقين بأن يقاتلوا لوجه الله تعالى، فقال عز وجل:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦)
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني فليقاتل الذين معكم في طاعة الله الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي يختارون الدنيا على الآخرة. ويقال: هذا الخطاب للمؤمنين، فكأنه يقول: فليقاتل في سبيل الله الكفار الذين يشرون الحياة الدنيا بِالْآخِرَةِ. ثم قال تعالى: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله فَيُقْتَلْ يقول فيستشهد: أَوْ يَغْلِبْ أي يقتل العدو ويهزمهم فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً أي ثواباً عظيماً في الجنة، فجعل ثوابهما واحداً، يعني: إذ غلب أو غلب يستوجب الثواب في الوجهين جميعاً، وقال الضحاك في قوله: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
قال: ومن قاتل في سبيل الله فواق ناقة، غفرت له ذنوبه ووجبت له الجنة. والفواق بالرفع: ما بين الحلبتين. والفواق: بالنصب الراحة. وذلك قوله: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً أي ثواباً عظيماً في الجنة.
ثم حث المؤمنين على القتال فقال تعالى: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ أي وعن المستضعفين مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ويقال: وما لكم لا
تقاتلون في سبيل الله وسبيل المستضعفين. ويقال: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وفي خلاص المستضعفين. وقال الضحاك: وذلك أن كفار قريش أسروا سبعة نفر من المسلمين وكانوا يعذبونهم، فأمر الله تعالى بقتال الكفار ليستنقذوا الأسرى من أيديهم الَّذِينَ يَقُولُونَ يعني المستضعفين بمكة، يدعون الله تعالى ويقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها بالشرك وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا أي من عندك حافظاً يحفظنا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً أي مانعاً يمنعنا منهم. قال الكلبي: لما فتح رسول الله ﷺ مكة، جعل الله لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم ولياً، وعتاب بن أسيد نصيراً، وكان عتاب بن أسيد ينصف الضعيف من الشديد، فنصرهم الله به وأعانهم، وكانوا أعز من بمكة من الظلمة قبل ذلك، فصار المسلمون الضعفاء أعزاء كما كان الكفار قبل ذلك.
ثم مدح الله المؤمنين بقتالهم لوجه الله تعالى، فقال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله وإعزاز الدين وذم المنافقين، وبيّن أن قتالهم للشيطان، فقال تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ أي في طاعة الشيطان. ثم حرض المؤمنين على القتال فقال: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ أي جند الشيطان وهم المشركون إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ أي مكر الشيطان كانَ ضَعِيفاً أي واهياً. ويقال: أراد به يوم بدر حيث قال لهم الشيطان أي الكفار: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه.
ويقال: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أي مكره ضعيف لا يدوم، وهذا كما يقال للحق دولة وللباطل جولة أي ما له ري.
ثم قال عز وجل:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ يعني ألم تخبر عنهم، ويقال: إن معناه ألا
318
ترى إلى هؤلاء، وذلك أن أصحاب رسول الله ﷺ حين كانوا بمكة استأذنوا في قتل كفار مكة سراً، لما كانوا يلقون منهم من الأذى، فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم: مهلاً كفوا أيديكم عن قتالهم وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فإني لم أؤمر بقتالهم، فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة أمره الله تعالى بالقتال، فكره بعضهم فنزلت هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عن القتل وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي أتموها وَآتُوا الزَّكاةَ يعني: أقروا بها وأعطوها إذا وجبت عليكم فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ أي فرض عليهم القتال بالمدينة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ أي يخشون عذاب الكفار كَخَشْيَةِ اللَّهِ أي كخشيتهم من عذاب الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً أي بل أشد خشية، ويقال: معناه أو أشد خشية يعني أكثر خوفاً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ أي لم فرضت علينا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنا أي يقولوا هلاّ أجلتنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وهو الموت، فبيّن الله تعالى لهم أن الدنيا فانية فقال: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ أي منفعة الدنيا قليلة لأنها لا تدوم.
وقال عليه الصلاة والسلام: «مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا».
ثم قال تعالى: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى يقول: ثواب الآخرة أفضل لمن اتقى الشرك والمعاصي وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا وقد ذكرناه. قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: (ولا تظلمون) بالتاء على معنى المخاطبة. وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر يعني المتقين. قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ أي في الأرض يأتيكم الموت وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أي في القصور الطوال المشيدة المبنية إلى السماء، حتى لا يخلص إليه أحد من بني آدم. وقال القتبي: «البروج» : الحصون، و «المشيدة» : المطولة وذلك أنهم لما تثاقلوا عن الخروج إلى الجهاد مخافة الموت، فأخبرهم الله تعالى أنهم لا يموتون قبل الأجل، إذا جاء أجلهم لا ينجون من الموت، وإن كانوا في موضع حصين. وهذا قوله تعالى: قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: ١٦٨].
ثم أخبر عن المنافقين فقال: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا أي الفتح والغنيمة والخصب يقولوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي نكبة وهزيمة يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أي من شؤمك، يعني: أصابتنا بسببك، أنت الذي حملتنا على هذا. قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يقال:
الرخاء والشدة، ويقال: القدر خيره وشره من الله تعالى. ثم قال تعالى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكادُونَ يَفْقَهُونَ يعني المنافقين لا يكادون يفقهون حَدِيثاً أي لا يفهمون قولاً أن الشدة والرخاء من الله تعالى، أي لا يسمعون ولا يفهمون ما يحدثهم ربهم في القرآن.
قوله تعالى:
319

[سورة النساء (٤) : الآيات ٧٩ الى ٨١]

ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٨١)
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ يعني: النعمة وهو الفتح والغنيمة فَمِنَ اللَّهِ أي: وبفضله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ يعني: البلاء والشدة من العدو أو الشدة في العيش فَمِنْ نَفْسِكَ أي فبذنبك، وأنا قضيته عليك. ويقال: ما أصابك من حسنة يوم بدر فمن الله، وما أصابك من سيئة يوم أحد فمن نفسك، أي بذنب أصحابك، يعني بتركهم المركز. ويقال: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ يعني الدلائل والعلامات لنبوتك فمن الله، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ يعني انقطاع الوحي فمن نفسك يعني بترك الاستثناء، حيث انقطع عنك جبريل أياماً بترك استثنائك به. ويقال: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ يعني تكثير الأمة فمن الله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ من أذى الكفار فبتعجيلك كقوله تعالى: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا ويقال: فيه تقديم وتأخير ومعناه فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً بقولهم مَّا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ قل: كلٌّ من عند الله.
ثُمَّ قال تعالى: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا أي ليس عليك سوى تبليغ الرسالة وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على مقالتهم وفعلهم. ثم قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ يعني من يطع الرسول فيما أمره فقد أطاع الله، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان يدعوهم بأمر الله تعالى، وفي طاعة الله تعالى، ويقال: إن النبي ﷺ قال: «مَنْ أحَبّنِي فَقَدْ أحَبَّ الله وَمَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله» «١» فقال المنافقون: إن هذا الرجل يريد أن نتخذه حناناً، فأنزل الله تعالى تصديقاً لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: ٣١] وقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ ثم قال تعالى: وَمَنْ تَوَلَّى أي أعرض عن طاعة الله وطاعة رسوله فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي رقيباً، وكان ذلك قبل الأمر بالقتال.
ثم أخبر عن أمر المنافقين فقال: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ أي يقولون بحضرتك: قولك طاعة.
وأمرك معروف، فمرنا بما شئت فنحن لأمرك نتبع فَإِذا بَرَزُوا أي خرجوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ
(١) لم أجد الحديث في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، ولم أجده في صحيح البخاري ولا في مسند الإمام أحمد. وإنما ورد في صحيح البخاري (٥٦) كتاب الجهاد والسير (١٠٩) باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به رقم الحديث (٢٩٥٧) «من أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله، ومن عصاني فقد عصى الله... إلخ».
أي ألغت ويقال غيرت طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وقال الزجاج: لكل أمر قضي بليل قد بيت، قرأ أبو عمرو وحمزة بَيَّتَ طائِفَةٌ بالإدغام لقرب مخرج التاء من الطاء، وقرأ الباقون بالإظهار لأنهما كلمتان. ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ يعني: يحفظ عليهم ما يغيرون. وقال الزجاج: وَاللَّهُ يَكْتُبُ له وجهان، يجوز أن يكون ينزله إليك في كتابه، وجائز أن يكون: يحفظ ما جاءوا به. ثم قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي اتركهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي شهيداً. ويقال: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي ثق بالله وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي شهيداً. أو يقال: وتوكل على الله ثقة لك. ثم نسخ بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: ٧٣، والتحريم: ٩].
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٢ الى ٨٤]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤)
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يعني أفلا يتفكرون في مواعظ القرآن ليعتبروا بها، ويقال: أفلا يتفكرون في معاني القرآن فيعلمون أنه من عند الله تعالى؟ لأنه وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً أي تناقضاً كثيراً، ويقال: أباطيل وكذباً كثيراً لأن الاختلاف في قول الناس، وقول الله تعالى لا اختلاف فيه، فلهذا قال أهل النظر: إن الإجماع حجة، لأن الإجماع من الله تعالى، ولو لم يكن من الله تعالى لوقع فيه الاختلاف. ولهذا قالوا: إن القياس إذا انتقض سقط الاحتجاج به لأنه لو كان حكم الله تعالى لم يرد عليه النقض. قوله تعالى:
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ يعني المنافقين إذا جاءهم خبر من أمر السرية بالفتح والغلبة على العدو، سكتوا وقصروا عما جاءهم من الخبر أو الخوف، أي وإن جاءهم خبر من السرية ببلاء وشدة نزلت بالمؤمنين أَذاعُوا بِهِ أي أفشوه وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ قال الكلبي: يقول لو سكتوا عن إفشائه حتى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يفشيه وأولو الأمر منهم مثل أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ يقول: يبتغونه مِنْهُمْ فيكون هؤلاء الذين يستمعونه ويفشونه ويعلمونه إلا قليلاً منهم.
يقول الله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي لولا منُّ الله عليكم ورحمته ونعمته لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ فيه تقديم وتأخير. وقال مقاتل: أذاعوا به أي أفشوه إِلَّا قَلِيلًا منهم لا يفشون الخبر. وقال الزجاج: أَذاعُوا بِهِ أي أظهروه. ومعنى يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي يستخرجونه، وأصله من النبط وهو أول الماء الذي يخرج من البئر إذا حفرت، ولو ردوا ذلك إلى أن يأخذوا من قبل الرسول ومن قبل أولي الأمر منهم، لعلمه هؤلاء الذين أذاعوا به من ضعف المسلمين وعلموا من النبي ﷺ وذوي العلم، وكانوا يعلمون مع ذلك. وقال عكرمة لعلمه الذين يخوضون فيه ويسألون عنه. وقال أبو العالية: يعني الذين يستحسنونه منهم. وقال الضحاك: ولو ردوا أمرهم في الحلال والحرام إلى الرسول في التصديق به والقبول منه، وإلى أولى الامر منهم، يعني حملة الفقه والحكمة، لعلمه الذين يستنبطونه منهم، يعني يتفحصون عن العلم. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالقرآن لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا وهم الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى. وفي هذه الآية دليل على جواز الاستنباط من الخبر والكتاب، لأن الله تعالى قد أجاز الاستنباط من قبل الرسول وأهل العلم.
ثم قال: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله لاَ تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ قال مقاتل:
يعني ليس عليك ذنب غيرك. وقال الزجاج: أمر الله تعالى رسوله ﷺ بالجهاد وإن قاتل وحده، لأنه قد ضمن له النصر. وقال أبو بكر في أهل الردة: لو خالفتني يميني لجاهدت بشمالي. ويقال: واعد رسول الله ﷺ أبا سفيان بأن يخرج إلى بدر الصغرى، فكره المسلمون الخروج فأمره الله تعالى بأن يخرج وإن كان وحده. فقال: وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي على القتال، يعني على الجهاد بقتال أعداء الله عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يمنع قتال الذين كفروا. والبأس هو القتال، كما قال في آية أخرى وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة: ١٧٧] ثم قال تعالى: وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً أي عذاباً. ويقال: وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أي أشد عقوبة في الآخرة عن عقوبة الكفار في الدنيا.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٥ الى ٨٧]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (٨٧)
قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها قال الضحاك: يعني مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً في الإسلام، فله أجرها وأجر من عمل بها، من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
322
وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أي من سنّ في الإسلام سنة قبيحة محدثة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. وقال الكلبي:
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يعني: يصلح بين اثنين يكن له أجر منها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يمشي بالنميمة والغيبة، يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها يعني إثم منها. وقال مجاهد: إنما هي شفاعة في الناس بعضهم لبعض، يعني يشفع لأخيه المسلم في دفع المظلمة عنه. وروى سفيان عن عمرو بن دينار أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «اشْفَعُوا إِلَيَّ تُؤْجَرُوا فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ يَسْأَلُنِي الأمْرَ فَأَمْنَعُهُ كَيْ مَا تَشْفَعُوا فَتُؤْجَرُوا». وقال الحسن: الشفاعة تجري أجرها لصاحبها ما جرت منفعتها، والكفل في اللغة النصيب. كقوله تعالى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد: ٢٨] ثم قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً والمقيت المقتدر. يقال: أقات على الشيء يعني اقتدر. ويقال:
المقيت الشاهد على الشيء، الحافظ له، ويقال: مقيتاً يعني: بيده الرزق وعليه قوت كل دابة، كقوله تعالى وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها [فصلت: ١٠].
قوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ يعني إذا سلم عليكم فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أي ردوا جوابها بأحسن منها أَوْ رُدُّوها أي مثلها، فأمر الله تعالى المسلمين برد السلام، بأن يردوا بأحسن منها، وهو أن يقولوا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أو يرد مثله، فيقول:
وعليكم السلام، وقال قتادة: فحيوا بأحسن منها للمسلمين، أو ردوها لأهل الذمة، فيقول لهم: وعليكم، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً دخل عليه، وقال: السلام عليكم، فقال له: «وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ». ودخل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه فقال: «لَكَ عِشْرُونَ حَسَنَةً». ودخل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه فقال: «لَكَ ثَلاثُونَ حَسَنَةً». وروي عنه أنه نهى أن ينقص الرجل من سلامه أو من ردّه، وهو أن يقول: السلام عليك، ولكن ليقل: السلام عليكم. ويقال: إنما ذلك للمؤمنين، لأن المؤمن لا يكون وحده ولكن يكون معه الملائكة. وفي هذه الآية دليل أن السلام سنة، والرد واجب لأن الله تعالى أمر بالرد، والأمر من الله تعالى واجب ويقال: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها يعني إذا أهدي إليكم بهدية، فكافئوا بأفضل منها أو مثلها. وهذا التأويل ذكر عن أبي حنيفة.
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً أي مجازياً.
قوله تعالى: اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ نزلت في شأن الذين شكوا في البعث، فأقسم الله تعالى بنفسه لَيَجْمَعَنَّكُمْ وهذه لام القسم، وكل لام بعدها نون مشددة فهي لام القسم. وقوله:
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ قال بعضهم: إلى صلة في الكلام، معناه ليجمعنكم يوم القيامة. ويقال:
ليجمعنكم في الموت وفي قبوركم إلى يوم القيامة، ثم يبعثكم لاَ رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه،
323
وهو البعث. يعني: لا شك فيه عند المؤمنين، ويقال: يعني لا ينبغي أن يشك فِيهِ. ثم قال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً أي من أوفى من الله قولاً وعهداً. قرأ حمزة والكسائي:
(وَمِنْ أزدق) بالزاي. وقرأ الباقون: أَصْدَقُ وأصله الصاد، إلا أنه لقرب مخرجيهما يجعل مكانه زاي.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٨ الى ٩١]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١)
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ نزلت في تسعة نفر ارتدوا عن الإسلام، فخرجوا من أموالهم. ويقال: كان قوم من المنافقين بمكة، خرجوا إلى الشام، فاختلف المسلمون في أمرهم، فبيّن الله تعالى للمسلمين نفاقهم، فقال تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ يعني صرتم في المنافقين فئتين، أي فريقين تختصمون في أمرهم وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي أذلهم.
ويقال: أهلكهم. ويقال: أركسهم أي ردهم إلى كفرهم. ويقال: ركست الشيء وأركسته إذا رددته إلى الحال الأول.
ثم قال تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ يعني: أترشدون إلى الهدى من أضله الله وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن الهدى فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا يعني ديناً. ويقال: مخرجاً. ثم قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ أي ترجعون عن هجرتكم كَما كَفَرُوا أي كما رجعوا
324
فَتَكُونُونَ أنتم وهم على الكفر سَواءً ومن هذا يقال في المثل: إن من أحرق يوماً كدسه يتمنى حرق أكداس الأمم. فكذلك الكفار كانوا يتمنون أن يكون الناس كلهم كفاراً، حتى يحترقوا معهم. قال الله تعالى: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ في الدين والنصرة حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حتى يتوبوا ويرجعوا إلى دار الهجرة بالمدينة فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني: أبوا الهجرة فَخُذُوهُمْ يعني: فأسروهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ يعني: أين وجدتموهم من الأرض وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً في العون. ثم استثنى الذين كان بينهم وبين المسلمين عهد فقال: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وهم خزاعة، وبنو مدلج، وبنو خزيمة، وهلال بن عويمر الأسلمي وأصحابه، صالحهم رسول الله ﷺ على أن كل من أتاهم من المسلمين فهو آمن، ومن جاء منهم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فهو آمن. وفي هذه الآية إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام، إذا كانت في الموادعة مصلحة للمسلمين.
ثم قال تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أي ضاقت قلوبهم أَنْ يُقاتِلُوكُمْ من قبل العهد أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ معكم من قبل القرابة. ثم قال تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ ذكر منته على المؤمنين أنه يدفع عنهم البلاء ومنعهم عن قتالهم، ثم قال تعالى فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ في القتال فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي الصلح، معناه أنهم لو ثبتوا على صلحهم فلا تقاتلوهم، فذلك قوله: فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا أي حجة وسلطاناً في قتالهم.
ثم قال عز وجل: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ وهم أسد وغطفان، كانوا إذا أتوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقولون: آمنا بك. وإذا رجعوا إلى قومهم قالوا: آمنا بالعقرب والخنفساء. يقول: إنهم لم يريدوا بذلك تصديق النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وإنما أرادوا به الاستهزاء. وقال مجاهد: هم ناس من أهل مكة، كانوا يأتون النبيّ صلّى الله عليه وسلم ويسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون بالأوثان، ويريدون أن يأمنوا هاهنا وهاهنا. فذلك قوله تعالى:
كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ يقول: كلما دعوا إلى الشرك أُرْكِسُوا فِيها يقول: عادوا إليه ودخلوا فيه فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ في القتال وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي لم يلقوا إليكم الصلح وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عن قتالكم، يعني إن لم يكفوا أيديهم فَخُذُوهُمْ يعني أسروهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ يعني: حيث أدركتموهم ووجدتموهم وَأُولئِكُمْ يعني أهل هذه الصفة جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً يعني: حجة مُبِيناً أي حجة مبينة في القتال.
وقوله تعالى:
325

[سورة النساء (٤) : آية ٩٢]

وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢)
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً يقول: وما جاز لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً متعمداً إلا خطأ، بغير قصد منه. ويقال: معناه: ولا خطأ أي ما جاز له يقتل عمداً ولا خطأ. ثم قال تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً نزلت الآية في شأن عياش بن أبي ربيعة، حين قتل الحارث بن زيد، وذلك أن عياشاً هاجر إلى المدينة مؤمناً، فجاءه أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام، وهما أخواه لأمه، ومعهما الحارث بن زيد فقالوا له: إن أمك تناشدك بحقها ورحمها أن ترجع إليها وإنك أحب الأولاد إليها، وقد حلفت ألا يظلها بيت ولا تأكل طعاماً، ولا تشرب شراباً حتى ترجع إليها، فارجع إليها وكن على دينك. فخرج معهم، فلما خرج من المدينة أوثقوه بحبل وضربوه، وحملوه إلى مكة، وألقوه في الشمس، وحلفت أمه بأن لا يحله أحد ما لم يكفر بالله، فتركوه على حاله حتى أعطاهم الذي أرادوه، فحلُّوه من الوثاق فقال له الحارث بن زيد: إن كان الذي كنت عليه هدى فقد تركته، وإن كان ضلالة، فقد كنت في ضلالة، فحلف عياش بأن يقتل الحارث بن زيد إذا لقيه خالياً. ثم إن عياشاً خرج إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم الحارث بن زيد بعد ذلك، فلقيه عياش في بعض سكك المدينة ولم يعلم بإسلامه فقتله، ثم علم بإسلامه فأتى رسول الله ﷺ فأخبره بالأمر الذي كان منه، فنزلت هذه الآية فيه، وصارت الآية عامة لجميع الناس. وهو قوله: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي فعليه عتق رقبة مؤمنة، ولو أعتق رقبة كافرة لم يجز بالإجماع وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي وعليه دية مسلمة إلى أهل القتيل، والدية مائة من الإبل إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا وأصله يتصدقوا، فأدغم التاء في الصاد، وأقيم التشديد مقامه. ومعناه: إلا أن يعفو عنه أولياء القتيل، ولا يأخذوا منه شيئاً.
ثم قال: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ يعني إن كان القتيل من أهل الحرب وقد أسلم في دار الحرب، فقتله رجل في دار الحرب، فعلى القاتل الكفارة عتق رقبة مؤمنة، ولا دية عليه. وهذا بالإجماع. وقد نزلت في شأن أسامة بن زيد، قتل رجلاً يقال له مرداس وكان مسلماً، فنزلت هذه الآية. وروى عن عطاء بن السائب عن ابن عباس أنه قال: كان الرجل يأتي فيسلم، ثم يأتي قومه وهم مشركون فيقيم فيهم، فتغزوهم جيوش من جيوش
رسول الله ﷺ فيقتل الرجل، فنزلت هذه الآية فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وليس عليه دية. ثم قال: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ يعني إن كان المقتول من أهل الذمة فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ أي فعليه دية مسلمة إِلى أَهْلِهِ وَعليه أيضاً تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن مستأمنين دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكساهما وحملهما، فلما خرجا من عنده لقيهما عمرو بن أمية الضمري فقتلهما، ولم يعلم أنهما مستأمنان، ففداهما رسول الله ﷺ بدية حرّين مسلمين، فنزلت هذه الآية وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ولهذا قال علماؤنا رحمهم الله: إن دية الذمي والمسلم سواء. وهكذا روي عن أبي بكر، وعمر، وعثمان- رضي الله عنهم- إن دية الذمي والمسلم سواء، مائة من الإبل. ثم قال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي قاتل الخطأ، إذا لم يجد رقبة مؤمنة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي فعليه صيام شهرين مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أي تلك الكفارة توبة للقاتل من الله تعالى، ويقال سبب التجاوز من الله. ثم قال: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً يعني عليماً بالقاتل حَكِيماً حكم بالكفارة على من قتل خطأ
[سورة النساء (٤) : آية ٩٣]
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣)
قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ روي عن سالم بن أبي الجعد قال: كنت عند عبد الله بن عباس بعد ما كفّ بصره، فجاءه رجل فناداه: ما تقول فيمن قتل مؤمناً متعمداً؟ فقال: جزاؤه جهنم خالداً فيها. وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً فقال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال: وأنى له الهدى، سمعت نبيكم ﷺ يقول: «يَأَتِي قَاتِلُ المُؤْمِنِ مُتَعَمِّداً وَيَتَعَلَّقُ بِهِ المَقْتُولُ عِنْدَ عَرْشِ الرحمن، فَيَقُولُ يَا رَبِّ سَلْ هذا فيم قتلني؟» فو الذي نفسي بيده في هذا أنزلت هذه الآية، فما نسختها آية بعد نبيكم، وما نزل بعده من برهان. وروي عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما قالا: لا توبة له. وقال غيرهم: له التوبة لأن الله تعالى ذكر الشرك والقتل والزنى ثم قال: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ- إلى قوله- فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: ٧٠] ويقال: معناه فجزاؤه جهنم خالداً فيها، أي داخلاً فيها لأنه لم يذكر فيها الأبد، كما أن الرجل يقول: خلدت فلاناً في السجن أي أدخلته.
ويقال فجزاؤه جهنم أي إن جازاه. وروى أنس بن مالك عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إِذَا وَعَدَ الله لِعَبْدِهِ ثَوَاباً فَهُوَ مُنْجِزُهُ، وَإِنْ أَوْعَدَ لَهُ العقوبة فله المشيئة إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْه». ويقال: معناه من يقتل مؤمناً متعمداً يعني مستحّلاً لقتله، فجزاؤه جهنم خالداً فيها، لأنه كفر باستحلاله. ويقال:
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً يعني يقتله متعمداً لأجل إيمانه، كما روي في الأثر أن بغض الأنصار كفر إن كان بغضهم لأجل نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكذلك هاهنا إذا قتله لأجل إيمانه صار كافراً. ويقال هو منسوخ بقوله تعالى وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨، ١١٦] ويقال: معناه فجزاؤهم جهنم بقتله خالداً فيها بارتداده، لأن الآية نزلت في شأن رجل قتل مؤمناً متعمداً ثم ارتد عن الإسلام، وهو مقيس بن ضبابة، وجد أخاه هشام بن ضبابة قتيلاً في بني النجار، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث معه رسول الله ﷺ رجلاً من بني فهر إلى بني النجار، وأمره بأن يقرئهم السلام ويأمرهم بأن يطلبوا قاتله، فإن وجدوه قتلوه، وإن لم يجدوه حلفوا خمسين يميناً وغرموا الدية، فلما أتاهم مقيس بن ضبابة رسول الله ﷺ وبلغهم الرسالة، فقالوا سمعاً وطاعة لأمر الله ورسوله. وقالوا: ما نعرف قاتله، فحلفوا وغرموا الدية. فلما رجع مقيس بن ضبابة قال في نفسه: إني بعت دم أخي بمائة من الإبل. ودخلت فيه حمية الجاهلية، وقال: أقتل هذا الفهري مكان أخي، وتكون الدية فضلاً لي. فقتله وتوجه إلى مكة وقال في ذلك شعراً.
قتلت به فهراً وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع
فأدركت ثأري واضطجعت موسدا وكنت إلى الأوثان أول راجع
فنزلت هذه الآية في شأنه إن جزاؤه جهنم خالداً فيها وكل من يعمل مثل عمله.
ثم قال عز وجل:
[سورة النساء (٤) : آية ٩٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي يقول إذا خرجتم وصرتم في الجهاد فَتَبَيَّنُوا نزلت الآية في شأن أسامة بن زيد، لقي رجلاً يقال له مرداس فقال له مرداس: لا إله إلا الله. وسلم عليهم وقال: السلام عليكم إني مؤمن، فقتله أسامة ولم يصدقه بأنه مسلم، فأخبر بذلك رسول الله ﷺ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَقَتَلْتَ رَجُلاً يَقُولُ لا إله إلا الله» ؟ فقال أسامة: إنه قال بلسانه دون قلبه فقال صلى الله عليه وسلم: «هَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ» فقال أسامة: استغفر لي فقال له: «فَكَيْفَ لَكَ بلا إله إلا الله». ثلاث مرات. ثم استغفر له الرابعة، وأمره بأن يعتق رقبة.
328
وروى شهر بن حوشب عن جندب بن سفيان، عن رجل من بجيلة قال: كنت عند رسول الله ﷺ إذ جاءه بشير من السرية فأخبره بالفتح وقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما نحن نطلب القوم وقد هزمهم الله تعالى، فقصدت رجلاً بالسيف، فلما أحس أن السيف واقع به فقال إني مسلم فقتلته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَقَتَلْتَ مُسْلِماً!» فقال: يا رسول الله أنه قال متعوّذا فقال صلى الله عليه وسلم: «أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ!» فقال يا رسول الله: استغفر لي فقال: «لاَ أَسْتَغْفِرُ لَكَ».
فمات الرجل فدفنوه، ثم أصبح على وجه الأرض ثم دفنوه، ثم أصبح على وجه الأرض ثلاث مرات، فلما رأى ذلك قومه استحيوا وحزنوا، فحملوه وألقوه في شعب من تلك الشعاب فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا أي قفوا وانظروا من تقتلون. قرأ حمزة والكسائي فَتَثَبَّتُوا بالثاء، وقرأ الباقون فَتَبَيَّنُوا بالباء، فمن قرأ بالثاء فهو من التثبت يقول: قفوا ولا تعجلوا في الأمر حتى يتبين لكم الكافر من المسلم. ومن قرأ بالباء فهو من التبين ومعناهما قريب.
ثم قال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً قرأ أبو عمرو وعاصم وابن كثير والكسائي: السَّلامَ بالألف. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة السلم بغير ألف.
وأما من قرأ السَّلامَ فلأن مرداساً قال لهم: السلام عليكم. وأما من قرأ السلم فهو الدخول والانقياد والمتابعة، يعني إن انقاد لكم وتابعكم فلا تقولوا له لست مؤمناً، وأسلم واستسلم بمعنى واحد، أي دخل في الانقياد. كما تقول: أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء، وأربع إذا دخل في الربيع. ثم قال: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وذلك أن الرجل كانت معه غنيمة حين قتلوه، وأخذوا ما كان معه من الغنيمة، فعيّرهم الله تعالى بطمعهم في المال. ثم قال: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ أي عند الله ثواب كثير في الآخرة لمن اتقى، ويقال: غنائم كثيرة في الدنيا، فاطلبوا من حيث أذن لكم وأبيح لكم.
ثم قال تعالى: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أي هكذا كنتم من قبل الهجرة بمنزلة مرداس، تأمنون في قومكم بالتوحيد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تخيفوا أحداً، وكنتم تأمنون بمثله قبل هجرتكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالهجرة ويقال: هكذا كنتم يعني كنتم تكتمون إيمانكم من قبل، ويقال: أي كنتم كفاراً، فمنَّ الله عليكم بالإسلام. ثم قال تعالى: فَتَبَيَّنُوا أي قفوا وانظروا في أمركم لكي لا تقتلوا مؤمناً، فصارت الآية عامة لجميع السرايا إذا دخلوا دار الحرب ينبغي أن يتبينوا لكي لا يقتلوا مؤمناً. ثم قال: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي عالماً بكم وبأعمالكم.
ثم قال تعالى:
329

[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٥ الى ٩٦]

لاَّ يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦)
لاَّ يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني القاعدين عن الجهاد لا يكون حالهم مثل حال الذين يجاهدون في الثواب والأجر غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ أي القاعدين الذين لا عذر لهم، ومن كان له عذر فهو خارج من هذا. قال ابن عباس: يعني ابن أم مكتوم ومحمد بن جحش.
ويقال: عبد الله بن جحش. فقال: إنا عميان فهل لنا من رخصة فنزلت غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ.
حدّثنا أبو الفضل بن أبي حفص، قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي، قال: حدثنا إبراهيم بن داود، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأوسي، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد الساعدي قال: رأيت مروان بن الحكم جالساً في المسجد، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله ﷺ أملى عليه لاَّ يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليَّ، فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت. وكان رجلاً أعمى، فأنزل الله تعالى على رسوله ﷺ وفخذه على فخذي فثقلت عليَّ حتى خفت أن يرضَّ فخذي، ثم سري عنه أي زال عنه التغير فأنزل الله تعالى: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ يعني: إلا أن يكون أولي الضرر.
قرأ نافع والكسائي وابن عامر: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بنصب الراء، وقرأ حمزة وعاصم وابن كثير وأبو عمرو غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بالضم. وقرأ بعضهم غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بالكسر.
فمن قرأ بالضم جعله نعتاً للقاعدين، أي يعني لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر. ومن قرأ بالنصب فهو على معنى الاستثناء، ويقال: هو نصب على الحال. ومن قرأ بالكسر فلحرف الكسر وهو من قوله تعالى: وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ أي بغير عذر دَرَجَةً أي فضيلة في الآخرة وَكُلًّا يعني:
المجاهدين والقاعدين والمعذورين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي وعد الله لهم الثواب وهو الجنة.
ثم قال تعالى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً أي بغير عذر، ثم بيّن الأجر فقال: دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً أي فضائل من الله في الجنة أي سبعين درجة. روى هشام بن حسان، عن جبلة بن عطية، عن ابن محيريز قال: ما بين الدرجتين حضر الفرس أو الجواد سبعين عاماً. ثم قال تعالى: وَمَغْفِرَةً يعني مغفرة لذنوبهم وَرَحْمَةً نعمة في الجنة
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لمن جاهد رَحِيماً إذ سوّى بين من له عذر بالفضل مع غيره.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يعني ملك الموت يقبض أرواحهم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ يعني الذين أسلموا بمكة، وتخلفوا عن الهجرة، وخرجوا مع المشركين إلى بدر، فلما رأوا قلة المؤمنين شكوا وكفروا، فقتل بعضهم، فأخبر الله تعالى عن حالهم فقال تعالى: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ يعني الملائكة تقول لهم: في أي شيء كنتم؟ ويقال: أين كنتم عن الهجرة؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ أي يقولون: كنا مقهورين في أرض مكة، لا نقدر أن نظهر الإيمان قالُوا أي: قالت الملائكة أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً يعني المدينة مطمئنة آمنة فَتُهاجِرُوا يعني: تهاجروا إليها. فقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي منزلهم ومصيرهم إلى النار وَساءَتْ مَصِيراً أي بئس المصير صاروا إليها. حدّثنا أبو الفضل بن أبي حفص، قال: حدّثنا الطحاوي قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: حدّثنا أبو عبد الرحمن المقري، عن حيوة بن شريح، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إن ناساً من المسلمين مع المشركين، يكثرون سواد المشركين يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الاْيَةَ.
ثم استثنى أهل العذر فقال: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ أي المقهورين مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ فليس مأواهم جهنم وهم الذين لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أي لا يجدون سعة الخروج عنهم إلى المدينة، ولا يعرفون طريقاً إلى المدينة فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ أي يتجاوز عنهم، وعسى من الله واجب وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا عنهم غَفُوراً لهم فلا يعاقبهم، فقال عبد الله بن عباس: أنا ممن استثنى الله يومئذٍ وكنت غلاماً صغيراً وكان ذلك قبل نسخ الهجرة، ثم نسخت الهجرة بعد فتح مكة. حدّثنا أبو الفضل بن أبي حفص، قال: حدّثنا الطحاوي، قال: حدّثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم، قال: حدّثنا عبيد الله بن
موسى، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: لما فتح رسول الله ﷺ مكة، خطب الناس فقال في خطبته:
«وَلاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ» وروى طاوس عن ابن عباس، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: «إِنَّهُ لاَ هِجْرَةَ ولكن جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا».
ثم قال تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١)
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يقول: في طاعة الله إلى المدينة يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً يقول: ملجأ ومحولاً من الكفر إلى الإيمان وَسَعَةً من الرزق. وقال القتبي: المراغم والمهاجر واحد. ويقال: راغمت وهاجرت، لأنه إذا أسلم خرج مراغماً لأهله أي مغايظاً لهم، والمهاجر المنقطع. وقيل للذاهب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم هجرة مراغم، لأنه إذا خرج هجر قومه.
وروي عن معمر عن قتادة قال: لما نزلت إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية.
فقال رجل من المسلمين وهو مريض: والله ما لي عذر إني أجد الدليل في الطريق وإني لموسر فاحملوني فحملوه فأدركه الموت في الطريق، فقال أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم: لو بلغ إلينا لتمّ أجره وقد مات بالتنعيم، وجاء بنوه إلى رسول الله ﷺ وأخبروه بالقصة، فنزلت هذه الآية: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ يعني في الطريق فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي ثوابه على الله الجنة وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما كان منه في الشرك رَحِيماً حين قبل توبته، وكان اسمه جندع بن ضمرة.
قوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يعني إذا خرجتم إلى السفر فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ويقول: لا مأثم ولا حرج عليكم أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني يقتلكم. والفتنة في أصل اللغة الاختبار، ثم سمي القتل فتنة لأن معنى الاختبار كما قال عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يونس: ٨٣] أي يقتلهم. فالله تعالى قد أباح قصر الصلاة عند الخوف، ثم صار ذلك عاماً لجميع المسافرين أن يقصروا من الصلاة خافوا أو لم يخافوا. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله ﷺ عن ذلك، فقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ الله بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ». ثم قال تعالى: إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة، ومعناه كونوا بالحذر منهم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : آية ١٠٢]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢)
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ يعني بالمؤمنين، ومعناه: إذا كنت بحضرة العدو وحضرت الصلاة فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي جماعة منهم مَعَكَ في الصلاة وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ يعني الذين يصلون معك، ويقال: وليأخذوا أسلحتهم الذين هم بإزاء العدو فَإِذا سَجَدُوا يعني: إذ صلوا الذين خلف الإمام ركعة واحدة فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ أي ينصرفون إلى موضع العدو، ويقفون هناك وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا كانوا بإزاء العدو فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ركعة أخرى، ولم يذكر في الآية لكل طائفة إلا ركعة واحدة ولكن ذكر في الخبر عن عبد الله بن عمر وغيره، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم حين صلى صلاة الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعة، وبالطائفة الأخرى ركعة كما ذكر في الآية ثم جاءت الطائفة الأولى، وذهبت هذه الطائفة إلى موضع العدو، حتى قضت الطائفة الأولى الركعة الأخرى وسلموا، ثم جاءت الطائفة الأخرى، وقضوا الركعة الأولى وسلموا، حتى صارت لكل طائفة ركعتان. وهذا اختيار أصحابنا في صلاة الخوف ثم قال تعالى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يقول: تمنى الذين كفروا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ يعني أمتعة الحرب فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً يعني: يحملون عليكم حملة واحدة، وإنما حذرهم لكي يكونوا بالحذر منهم.
ثم قال تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان في غزوة أنمار، فهزمهم وسبى ذريتهم، فلما رجعوا أصابهم المطر، فنزلوا وادياً تحت الأشجار، فوضع النبيّ صلّى الله عليه وسلم سلاحه وذهب إلى الجانب الآخر من الوادي وحده، فجاء السيل فحال بينه وبين أصحابه. وكان بعض المشركين على ذلك الجبل، فرآه حين حال السيل بينه وبين أصحابه، فجاءه واحد منهم يقال له
حويرث بن الحارث، وقال: أنا أقتله، فأتاه وقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال: «الله عزَّ وَجَلَّ» فسلَّ سيفه وأراد أن يضربه، فدفع النبي ﷺ الكافر في صدره دفعة، فسقط السيف من يده. فوثب عليه رسول الله ﷺ وأخذ سيفه وقال: «مَنْ يُخَلِّصُكَ مِنِّي؟» فقال: لا أحد. فقال له: «إِنْ أَسْلَمْتَ حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْكَ سَيْفَكَ» فقال: لا أسلم. ولكن أعاهد الله تعالى ألا أكون لك ولا عليك أبداً، فرد عليه سيفه فقال الرجل: يا محمد أنت خير مني، لأنك قدرت على قتلي فلم تقتلني، فرجع الكافر إلى أصحابه، فأخبرهم بالقصة فآمن بعضهم ثم انقطع السيل. وجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأخبرهم بالقصة، وقرأ عليهم هذه الآية وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أي أصابتكم الجراحات أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ من العدو يعني كونوا بالحذر منهم. وقال الضحاك: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ أي تقلدوا سيوفكم، فإنما ذلك هيبة الغزاة. ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ في الآخرة عَذاباً مُهِيناً يهانون فيه.
ثم قال عز وجل:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤)
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ قال بعضهم: فإذا فرغتم من الصلاة فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالقلب واللسان على أي حال كنتم قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ إن لم تستطيعوا القيام، ويقال: فإذا قضيتم الصلاة، أي إذا صليتم في دار الحرب فصلوا على الدوابّ، أو قياماً أو قعوداً أو على جنوبكم إن لم تستطيعوا القيام، إذا كان خوفاً أو مرضاً. وهذا كما قال في آية أخرى فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [البقرة: ٢٣٩] يقال: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء: ١٠٣] أي فرغتم من صلاة الخوف فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فصلوا لله، وصلاة الصحيح قياماً والمريض قاعداً، أو على جنوبكم إن كان المرض أشد من ذلك. ثم قال تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ يقول: أمنتم ورجعتم إلى منازلكم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني: فأتموا الصلاة أربعاً. وهذا كقوله يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ أي مطمئنين.
ثم قال: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً يعني فرضاً مفروضاً معلوماً،
للمسافر ركعتان، وللمقيم أربع. وقال مقاتل: كِتاباً مَوْقُوتاً يعني فريضة معلومة كقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ [البقرة: ١٧٨ وغيرها] أي فرض عليكم. وقال الزجاج: كِتاباً مَوْقُوتاً أي مفروضاً موقتاً فرضه.
قوله تعالى وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ يقول: لا تضعفوا في ابتغاء القوم، أي في طلب المشركين أبي سفيان وأصحابه بعد يوم أحد، وذلك أن المسلمين لما أصابتهم الجراحات يوم أحد، وكانوا يضعفون عن الخروج إلى الجهاد، فأمرهم الله تعالى بأن يظهروا من أنفسهم الجد والقوة، وهذا الخطاب لهم، ولجميع المسلمين الغزاة إلى يوم القيامة. قوله: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ قال عكرمة: الألم الوجع، وكذلك قال الضحاك والسدي: إن أصابكم الوجع والجراحات في الحرب فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ أي يصيبهم الوجع مثل ما يصيبكم، ولكم زيادة ليست للمشركين، وذلك قوله تعالى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ يعني الثواب في الآخرة وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بما كان حَكِيماً بما يكون. ثم قال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٩]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩)
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ يعني: أنزلنا عليك جبريل عليه السلام، ليقرأ عليك القرآن بالعدل والأمر والنهي لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ أي بما أعلمك الله وألهمك، وبما أوحي إليك وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ولا تكن للسارقين معيناً. وروى محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر، عن جده قتادة بن النعمان، قال: كان بنو أبيرق وكانوا ثلاثة:
بشر، وبشير، ومبشر. فكان بشر يكنى أبا طعمة، وكان شاعراً، وكان منافقاً، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم ثم يقول: قال فلان وكان لعمي رفاعة بن زيد علية «١» فيها
(١) علية: غرفة.
335
طعام وسلاح، فطرقه بشر من الليل، فأخذ ما فيها من الطعام والسلاح، فلما أصبح عمي دعاني وقال لي: إنه أغير علينا الليلة فقلت: من فعله؟ فقال: بشير وأخوه. فجئت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته أن بشيراً قد سرق من عمي الطعام والسلاح، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، وأما السلاح فليردوه علينا، فجاء قومه وكانوا أهل لسان وبيان فقالوا: إن رفاعة وابن أخيه عمدوا إلى أهل بيت منا يتهمونهم بالسرقة، فوقع قولهم عند النبيّ صلّى الله عليه وسلم موقعاً، فبين الله خيانتهم فنزل: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً وهو ابن طعمة. وقال الضحاك: سرق طعمة بن أبيرق اليهودي درعاً للزبير بن العوام، فاختصما إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال للزبير: «لاَ بُدَّ لَكَ مِنْ أَنْ تَأْتِيَ عَلَى ذلك بِحُجَّةٍ قَيِّمَةٍ وَشَهَادَةٍ صَحِيحَةٍ». فأنزل الله تعالى تصديقاً لقوله: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً. وقال مقاتل: سرق طعمة بن أبيرق المنافق درعاً من يهودي، فلما جاءوا إلى بيته بالأثر، رمى الدرع في دار رجل من الأنصار وأنكر، فجاء قومه ليبرئوه من السرقة فنزلت هذه الآية. وقال الكلبي: سرق طعمة بن أبيرق درعاً من جار له يقال له قتادة بن النعمان، فوضعه عند رجل من اليهود يقال له زيد بن السمين، وأنكر السرقة فجاء قومه يخاصمون عنه، فنزلت هذه الآية وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً.
قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ عن جدالك عن طعمة حين جادلت عنه إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ثم قال تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
يقول: ولا تخاصم عن الذين يضرون أنفسهم بالسرقة إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً
أي خائناً بالسرقة فاجراً برميه على غيره. ثم قال تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
قال الضحاك: لما سرق الدرع اتخذ حفرة في بيته، وجعل الدرع تحت التراب فنزل يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
بالتراب وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
يقول: لا يخفى مكان الدرع على الله وَهُوَ مَعَهُمْ
أي رقيب حفيظ عليهم. ويقال:
يستخفون يعني يستترون من الناس وهم قوم طعمة، ولا يستخفون من الله يقال: ولا يقدرون أن يستتروا من الله وَهُوَ مَعَهُمْ
يعني عالماً بهم وبخيانتهم إِذْ يُبَيِّتُونَ
يقول: إذ يؤلفون ويغيرون مَا لاَ يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
يقول: ما لا يرضو لأنفسهم من القول وهم سرقوا، ويقال:
ما لا يرضى الله ولا يحبه. ثم قال: وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
أي عالماً بهم وبخيانتهم، ثم أقبل على قوم طعمة فقال: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
يقول: ها أنتم هؤلاء جادَلْتُمْ
أي خاصمتم عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
يقول: فمن يخاصم الله عنهم يوم القيامة أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
أي كفيلاً، ويقال خصيماً.
وقال الضحاك: أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يقيم الحد على طعمة بن أبيرق، وكان طعمة مطاعاً في اليهود، فجاءت اليهود شاكين في السلاح، وهربوا بطعمة وجادلوا عنه، فنزل ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
يعني اليهود الآية.
336
ثم قال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١٠ الى ١١٣]
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
قال الضحاك: نزلت الآية في شأن وحشيّ قاتل حمزة رضي الله عنه، أشرك بالله وقتل، ثم جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: إني لنادم فهل لي من توبة؟ فنزل وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
الآية. وقال الكلبي: نزلت في شأن طعمة وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
بسرقة الدرع أو يظلم نفسه برميه غيره وجحوده، ثم يستغفر الله أي يتوب إلى الله يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً
متجاوزاً رَحِيماً
لمن اتقى الشرك. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت حديثاً من رسول الله ﷺ نفعني الله به ما شاء، وإذا سمعته من غيره حلفته. وحدثني أبو بكر الصديق، وصدق أبو بكر رضي الله عنه قال: ما من عبد يذنب ذنباً ثم يتوضأ ويصلي ركعتين، ويستغفر الله تعالى إلا غفر الله له. وتلا هذه الآية وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
الآية.
ثم قال تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً
يعني الشرك بالله تعالى فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
أي يضر بنفسه وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
ثم قال: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
يعني عمل بالمعصية ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
قال مقاتل: وهو طعمة حين رمى بالدرع في دار الأنصاري واتهمه به، وهو قوله ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
. وقال الضحاك: يعني به المنافقين حيث قالوا في عائشة رضي الله عنها قولاً عظيماً، فقال: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
بالمعاصي ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
يعني عائشة وصفوان. ثم قال تعالى: فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
يقول: فقد قال كذباً وَإِثْماً مُبِيناً
ذنباً طاهراً. قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
يعني فضل الله عليك بالنبوة، ورحمته بالوحي لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
أي جماعة أَنْ يُضِلُّوكَ
أي يخطئون في الحكم وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
أي وما يرجع وبال ذلك إلا على أنفسهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ
شَيْءٍ
وإنما يضرون بأنفسهم. قال الضحاك: نزلت الآية في وفد ثقيف، قدموا إلى رسول الله ﷺ وقالوا: جئناك لنبايعك على أن لا تكسر أصنامنا ولا تعشرنا، فلم يجبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
وقال الكلبي: يعني قوم طعمة. ثم قال:
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
يعني القرآن وَالْحِكْمَةَ
يعني يعني القضاء والمواعظ وَعَلَّمَكَ
بالوحي مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
قبل الوحي وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
بالنبوة. ثم قال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥)
لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ وهو ما يتناجون فيما بينهم، ويقال: في كثير من أحاديثهم، وهم وفد ثقيف أو قوم طعمة إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ يقول: إلا نجوى من أمر بصدقة أَوْ مَعْرُوفٍ يعني لقرض، كقوله فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: ٦] ويقال: المعروف يعني القول بالمعروف والنهي عن المنكر أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ يعني: يذهب فيما بين اثنين ليصلح بينهما وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الذي ذكرنا ابْتِغاءَ يعني طلباً مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ يعني في الآخرة أَجْراً عَظِيماً قرأ حمزة وأبو عمرو نُؤْتِيهِ بالياء، أي يؤتيه الله تعالى. وقرأ الباقون نُؤْتِيهِ بالنون، أي نحن نعطيه في الآخرة أجرا عظيما أي ثواباً عظيماً.
قوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ يعني يخالفه في التوحيد مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي من بعد ما تبين لهم التوحيد وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي يتبع ديناً غير دين المؤمنين، ويقال: يتبع طريقاً أو مذهباً غير طريق المؤمنين. وفي الآية دليل إن الإجماع حجة، لأن من خالف الإجماع فقد خالف سبيل المؤمنين. وقال الضحاك: قدم نفر من قريش المدينة وأسلموا، ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين، فنزلت هذه الآية وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي دين الإسلام وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ المسلمين نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى نكله إلى الأصنام يوم القيامة، وهم لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً، ولا ينجونهم من عذاب الله تعالى.
وقال مقاتل: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى أي نتركه وما اختار لنفسه. وقال الكلبي: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى يعني نوله في الآخرة ما تولى في الدنيا، وهذا كما قال بعض الحكماء: من أراد أن يعلم كيف يعامل معه في الآخرة، فلينظر كيف يعامل هو في الدنيا. وقال الكلبي: نزلت الآية في شأن طعمة، لما ظهر حاله وسرقته هرب إلى مكة وارتد، فنقب بمكة حائطاً لرجل، فسقط حجر فبقي في
النقب حتى وجدوه على حاله، فأخرجوه من مكة فخرج إلى الشام، فسرق بعض أموال القافلة فرجموه وقتلوه، فنزل قوله: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى. وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً قرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو نُوَلّهِ وَنُصْلِهِ بجزم الهاء، وقرأ الباقون بالكسر وهما لغتان.
ثم قال تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١٦ الى ١٢١]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠)
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١)
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ قال الضحاك: وذلك أن شيخاً من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا، إلا أني لم أشرك بالله شيئاً مذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه ولياً، ولم أواقع المعاصي جرأة على الله، ولا مكابرة له، وإني لنادم وتائب مستغفر، فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ويقال: نزل في شأن وحشيّ، وقد ذكرناه من قبل. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي من يعبد غير الله فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً يعني فقد ضل عن الهدى ضلالا بعيدا عن الحق. ثم قال تعالى في ذم الكفار وبيّن جهلهم فقال: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً يقول: ما يعبدون مِن دُونِ الله إلا أصناماً أمواتاً، وهذا قول ابن العباس. وعن الحسن أنه قال: الإناث الشيء الميت الذي ليس فيه روح. وقال السدي: سموها إناثاً: اللات والعزى ومناة. ثم قال تعالى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وذلك أن الشيطان كان يدخل في الصنم ويكلمهم، وهم يعبدون الصنم وفيه الشيطان. ويقال: إبليس زين لهم عبادة الأصنام، وإذا عبدوا بإذنه فكأنهم عبدوا الشيطان. ثم قال: مريداً أي مارداً مثل قدير وقادر، والمارد العاتي. ويقال: كل فاسد مفسد يكون مريداً، أي يكون فاسداً لنفسه ويفسد غيره.
ثم قال تعالى: لَعَنَهُ اللَّهُ يعني طرده الله من رحمته وهو إبليس، حيث لم يسجد لآدم فلما لعنه وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً أي حظاً معلوماً، قال مقاتل: يعني من كل ألف واحد في الجنة وسائرهم في النار، فهذا نصيب مفروض. ثم قال: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ يعني عن الهدى والحق وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ يعني لأخبرنهم بالباطل أنه لا جنة ولا نار ولا بعث وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وهي البحيرة، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يشقون آذان الأنعام ويسمونها بحيرة، وذكر قصتهم في سورة المائدة. ثم قال: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ قال عكرمة:
هو الخصاء، وهكذا روي عن ابن عباس وأنس بن مالك. وروي عن سعيد بن جبير قال: هو دين الله، وهكذا قال الضحاك ومجاهد. وقيل لمجاهد: إن عكرمة يقول: هو الخصاء فقال:
ما له لعنه الله وهو يعلم أنه غير الخصاء. فبلغ ذلك عكرمة، فقال: هو فطرة الله. وقال الزجاج: إن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها فحرموها على أنفسهم، وخلق الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا خلق الله عز وجل. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا أي يعبد الشيطان ويطيعه مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني ترك أمر الله تعالى وطاعته فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً أي ضلّ ضلالاً مبيناً بيناً عن الحق. ثم قال تعالى: يَعِدُهُمْ يعني الشيطان، يخوفهم بالفقر حتى لا يصلوا رحماً ولا ينفقوا في خير وَيُمَنِّيهِمْ أي يخبرهم بالباطل أنه لا ثواب لهم في ذلك العمل وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي باطلاً. قوله تعالى: أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ يعني الذين يطيعون الشيطان مصيرهم إلى جهنم وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً أي مفرّاً ومهربا.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٤]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (١٢٢) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي صدقوا بالله تعالى والرسول والقرآن، وأدوا الفرائض، وانتهوا عن المحارم سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ وهي البساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهي أربعة أنهار: نهر من ماء غير آسن، ونهر من لبن، ونهر من خمر، ونهر من عسل مصفى. خالِدِينَ فِيها أَبَداً يعني مطمئنين فيها، لا يتغير بهم الحال. فهذا وعد من الله
340
تعالى. ثم قال: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي صدقاً وكائناً، أنجز لهم ما وعد لهم من الجنة وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أي قولاً ووعداً، قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ وذلك أن أهل الكتاب قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. وقال المؤمنون: إنا أسلمنا لا تضرنا الذنوب فنزل: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ يقول: ليس لكم يا معشر المسلمين ما تمنيتم، ولا أهل الكتاب ما تمنوا مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ أي من يعمل معصية دون الشرك يعاقب به. وقال الزجاج: معناه ليس ثواب الله بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب، وقد جرى ما يدل على إضمار الثواب وهو قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي إنما يدخل الجنة من آمن وعمل صالحاً، ليس كما تمنيتم ومَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ أي لا ينفعه تمنيه.
ويقال: لما نزلت هذه الآية مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ شق ذلك على المسلمين. وقال أبو بكر رضي الله عنه: كيف الفلاح بعد هذه الآية يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أَلَسْتَ تَمْرَضُ؟
أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللأواءُ؟ أي الشدة فذَلِكَ كُلُّهُ جَزَاؤُهُ»
. حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا العباسي، قال: حدّثنا الحسن بن صباح، قال: حدّثنا عبد الوهاب الخفاف، عن زياد، عن علي بن زيد، عن مجاهد قال: مرّ ابن عمر على ابن الزبير وهو مصلوب، فنظر إليه فقال:
يغفر الله لك ثلاثاً، والله ما علمتك إلا كنت صواماً قواماً وصّالاً للرحم، أما والله إني لأرجو مع مساوئ ما أصبت أن لا يعذبك الله بعدها أبداً، ثم التفت فقال: سمعت أبا بكر الصديق يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَعْمَل سُوءاً يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيَا» وروى محمد بن قيس، عن أبي هريرة قال: لما نزلت مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ شق ذلك على المسلمين، فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ فقال: «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَكُلُّ مَا يُصِيبُ المُؤْمِنَ كَفَّارَةٌ حَتَّى الشَّوْكَةُ تُشَاكُهُ والنَّكْبَةُ تَنْكُبُهُ». وقال الضحاك: السوء الكفر. وقال مجاهد: قالت قريش: لن نبعث ولن نعذب، فنزلت: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ أي أماني كفار قريش ولا أمانى أهل الكتاب مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ أي يعاقب عليه.
ثم قال تعالى: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يعني الكافر لا يجد لنفسه مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من عذاب الله ولياً يمنعه وَلا نَصِيراً ينفعه ويمنعه من العذاب. ثم قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ يعني يؤدي الفرائض وينتهي عن المحارم مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى أي من رجل أو امرأة وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي مصدق بالثواب والعقاب فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ لا شك فيها وَلا يُظْلَمُونَ أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم نَقِيراً وهي النقرة التي تكون على ظهر النواة. قرأ أبو عمرو وابن كثير فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بضم الياء ونصب الخاء، على معنى فعل ما لم يسم فاعله. وقرأ الباقون بنصب الياء وضم الخاء، أي يدخلون الجنة بأعمالهم.
341
ثم فضل دين الإسلام على سائر الأديان فقال تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٢٥ الى ١٢٧]
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ أي أخلص دينه لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ في عمله ويقال: وهو موحد وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي مستقيما، ويقال: مائلاً إلى دين الإسلام.
ثم قال تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وذلك أن إبراهيم عليه السلام كان يوسع على الضعفاء الطعام، واحتاج في بعض الأوقات إلى الطعام، فبعث غلمانه مع الجمال إلى خليل له بمصر ليقرضه شيئاً من الطعام فيرد عليه إذا أدرك إنزاله، فلما انتهوا إليه قال: إِنّى أَخَافُ أَن أحتاج قبل إدراك الإنزال، فلم يدفع إليهم ورجعوا، فاستحيا الغلامان أن يدخلوا في قرية إبراهيم والناس ينظرون إليهم وليس معهم شيء، فجعلوا الرحل في الجواليق وحملوا على الجمال، وجاءوا إلى منزل إبراهيم عليه السلام وألقوا الأحمال وتفرقوا، وجاء واحد منهم وأخبر إبراهيم بالقصة فاغتمّ لذلك ودخل البيت ونام، فخرجت جواريه ونظرن إلى الأحمال فإذا الجواليق دقيق، فرفعن منها وجعلن يخبزن خبزاً، حتى إذا استيقظ إبراهيم عليه السلام وخرج وقال: من أين هذا الدقيق؟ فقلن: من عند خليلك المصري. فقال إبراهيم:
ليس هذا من عند خليلي المصري ولكن من عند خليل السماء. فاتخذه الله تعالى خليلاً بذلك.
ويقال: لما دخلت عليه الملائكة في شبه الآدميين، وجاءهم بعجل سمين فلم يأكلوا منه، وقالوا: إنا لا نأكل شيئاً بغير ثمن. فقال لهم: أعطوني ثمنه وكلوه. قالوا: وما ثمنه؟
قال: أن تقولوا في أوله بسم الله وفي آخره الحمد لله. فقالوا فيما بينهم: حقاً على الله أن يتخذه خليلاً فاتخذه الله خليلاً.
ويقال: إنه أضاف رؤساء الكفار، وأهدى لهم هدايا وأحسن إليهم فقالوا له: ما حاجتك؟ فقال: حاجتي أن تسجدوا لله سجدة، فسجدوا. فدعا الله تعالى وقال: اللهم إني قد فعلت ما أمكنني، فافعل أنت ما أنت أهل لذلك. فوفقهم الله تعالى للإسلام فاتخذه الله خليلاً لذلك.
وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله ﷺ أنه قال: «اتَّخَذَ الله إِبْراهِيمَ خَلِيلاً لإطْعَامِهِ الطَّعَامَ وَإِفْشَائِهِ السَّلاَمَ وَصَلاَتِهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ». ثم قال عز وجل: وَلِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كلهم عبيده وفي ملكه وحكمه نافذ فيهم وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً أحاط علمه بكل شيء.
قوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ أي يسألونك عن ميراث النساء، نزلت في أم كجة التي ذكرنا في أول السورة قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ أي يبين لكم ما لهن من الميراث وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أي وكتاب الله يفتيكم بذلك فِي يَتامَى النِّساءِ يعني في ميراث يتامى النساء اللَّاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ لا تعطونهن مَا كُتِبَ لَهُنَّ أي ما فرض لهن من الميراث وَتَرْغَبُونَ أي وتزهدون أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لدمامتهن. وروى معمر عن إبراهيم قال: كان الرجل يكون عنده اليتيمة الدميمة ولها مال، ويكره أن يزوجها من غيره من أجل مالها. قال إبراهيم: وكان عمر يأمر الرجل إذا كانت عنده اليتيمة الدميمة ولها مال، أن يتزوجها. وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت يتيمة في حجر رجل، فأراد أن يتزوجها ولم يكمل صداق نصابها، فأمروا بإكمال الصداق. وقال مجاهد: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان شيئاً، ويقولون: لا يغزون، ففرض الله لهم الميراث وأمر لليتيم بالقسط. ثم قال تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ يقول: يسألونك عن ميراث المستضعفين مِنَ الْوِلْدانِ ويقال:
يفتيكم في المستضعفين من الولدان وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ أي بالعدل وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً يجازيكم. وفي هذه الآية دليل على أن ما سوى الأب والجد إذا زوج اليتيمة جاز، وفيه أنه إذا زوج من نفسه جاز إذا كانت غير ذي رحم محرم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٢٨ الى ١٣٠]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ أي علمت مِنْ بَعْلِها يعني زوجها نُشُوزاً يعني عصياناً في الأثرة أَوْ إِعْراضاً عنها وترك محادثتها، نزلت في رافع بن خديج تزوج امرأة أشبّ من
343
امرأته خولة بنت محمد بن مسلمة. وقال في رواية الكلبي: نزلت في ابنة محمد بن مسلمة، وفي زوجها أسعد بن الزبير تزوجها وهي شابة، فلما أدبرت وعلاها الكبر تزوج عليها امرأة شابة وآثرها عليها، وجفا بنت محمد بن مسلمة، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فشكت إليه فنزل: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً يعني ترك مجامعتها أَوْ إِعْراضاً يعني يعرض بوجهه ويقل مجالستها ومحادثتها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي لا إثم على الزوج والمرأة أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما بضم الياء والتخفيف، وهو من الصلح. وقرأ الباقون أن يصالحا بالألف وتشديد الصاد، لأن أصله وتصالحا فأدغمت التاء في الصاد، وأقيم التشديد مكانه، ثم قال: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ يعني الصلح خير من الفرقة. ويقال: الصلح خير من النشوز، ويقال: الصلح خير من الخصومة والخلاف. وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً قال: قول الرجل لامرأته أنت كبيرة، وإني أريد أن أستبدل بك شابة، فقري على ولدك ولا أقسم لك من نفسي شيئاً ورضيت بذلك، فذلك الصلح بينهما. قال: وهذا قول أبي السنابل بن بعكك حين جرى بينهما هذا الصلح، ثم صارت الآية عامة في جواز الصلح الذي يجري فيما بين الناس، لقوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ. ثم قال تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ يعني الشح حملها على أن تدع نصيبها، ويقال: شحت المرأة بنصيبها من زوجها أن تدعه للأخرى، وشحّ الرجل بنصيبه من الأخرى.
وقال مقاتل: طمعها وحرصها يجرها إلى أن ترضى. ثم قال تعالى: وَإِنْ تُحْسِنُوا يقول تحسنوا إليهن وَتَتَّقُوا الميل والجور فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً في الإحسان والجور.
قوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ يقول: لن تقدروا أن تسووا بين النساء في الحب بين الشابة والكبيرة وَلَوْ حَرَصْتُمْ أي ولو جهدتم، ولكن اعدلوا في القسمة والنفقة فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ بالنفقة والقسمة إلى الشابة فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ بغير قسمة كالمسجونة لا أيم ولا ذات بعل. وروي عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَالَ إِلَى إحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ». وفي رواية أخرى «وَأَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ». وروى أبو أيوب عن أبي قلابة قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل في القسمة ويقول: «اللَّهُمَ هذا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلا أَمْلِكُ». يعني الحب والجماع.
ثم قال تعالى: وَإِنْ تُصْلِحُوا يعني تصلحوا بينهما بالسوية وَتَتَّقُوا الجور والميل فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً حيث رخص لكم في الصلح. ثم قال عز وجل: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يعني الزوج والمرأة يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ يعني من رزقه. وقال مجاهد: يعني الطلاق.
وروي عن جعفر بن محمد أن رجلاً شكا إليه الفقر فأمره بالنكاح، فذهب الرجل وتزوج ثم
344
جاء إليه فشكا إليه الفقر، فأمره بالطلاق، فسئل عن ذلك فقال: أمرته بالنكاح. وقلت: لعله من أهل هذه الآية إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور: ٣٢] فلما لم يكن من أهل هذه الآية. قلت: فلعله من أهل هذه الآية (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كلاًّ من سعته) وروي عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ فَتَذَرُوهَا كَأَنَّهَا مسجونة ثم قال: وَكانَ اللَّهُ واسِعاً يعني واسع الفضل حَكِيماً حكم بفرقتهما وتسويتهما.
ثم قال تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣١ الى ١٣٤]
وَلِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤)
وَلِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا أي أمرنا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني أهل التوراة والإنجيل وَإِيَّاكُمْ يعني أمرناكم يا أمة محمد عليه السلام في كتابكم أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ فيما أوصاكم به في كتابكم من التوحيد، ثم بعد التوحيد بالشرائع وَإِنْ تَكْفُرُوا يقول: تجحدوا بما أوصاكم وبوحدانية الله تعالى فَإِنَّ لِلَّهِ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
يعني هو غني عن عبادتكم وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا عن إيمان الخلق وطاعتهم حَمِيداً محموداً في أفعاله. وقوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني كلهم عبيده وإماؤه، ويقال: هذا موصولاً بالأول، وكان الله غنياً حميداً في أفعاله، لأن له ما في السموات وَمَا فِي الارض، وَهُوَ رازقهم والمدبر في أمورهم. ثم قال: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي حفيظاً وربّاً، ثم ذكر التهديد لمن رجع عن عبادته فقال: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أي يهلككم إذا عصيتموه وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أي يخلق خلقاً جديداً غيركم من هو أطوع لله منكم، وهذا كما قال في آية أخرى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: ٣٨].
ثم قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً أي يذهبكم ويأتِ بغيركم. ويقال: في الآية تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية أو إمارة أو رئاسة، فلا يعدل في رعيته أو كان عالماً، فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس أن يذهبه ويأتي بغيره.
قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا يعني من كان يطلب الدنيا بعمله الذي يعمل ولا يريد به وجه الله، فليعمل لآخرته كما قال: فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ يعني الرزق في الدنيا والثواب في الآخرة، وهو الجنة. ويقال: في الآية مضمر فكأنه يقول: من كان يريد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يريد ثواب الاخرة نؤته منها، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة. وقال الزجاج: كان المشركون مقرين بأن الله خالقهم، وأنه يعطيهم خير الدنيا، فأخبر الله تعالى أن خير الدنيا والآخرة إليه. وروي عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين: أنتم لا تريدون الدنيا ولا الآخرة، لأن الدنيا والآخرة لله تعالى، فاعبدوه إما لأجل الدنيا وإما لأجل الآخرة. وروي في بعض الأخبار أن في جهنم وادياً تتعوذ منه جهنم، أعد للقراء المرائين. ثم قال: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً يعني عالماً بنية كل واحد منهم. وروى سهل بن سعد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
«نِيَّةُ المُؤمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، وَعَمَلُ المُنَافِقِ خَيْرٌ مِنْ نِيَّتِهِ». وكان يعمل على نيته.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣٥ الى ١٣٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ أي كونوا قوامين بالعدل، وأقيموا الشهادة لله بالعدل، ومعناه قولوا الحق وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي وإذا كانت عندكم شهادة، فأدوا الشهادة ولو كانت الشهادة على أنفسكم أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ثم قال:
إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً أي أدوا الشهادة لا تكتموها، سواء كان لغني أو لفقير، ولا تميلوا إلى الغني لأجل غناه، ولا تكتموا الشهادة على الفقير لأجل فقره. ويقال: اشهدوا على الوالدين كانا غنيين أو فقيرين فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أي بالغني وبالفقير. ويقال: أولى بالوالدين وأرحم بهما إن كانا غنيين أو فقيرين. ثم قال: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أي لا تشهدوا بهواكم، ولكن اشهدوا على ما شهدتم عليه.
ثم قال تعالى: أَنْ تَعْدِلُوا يعني أولى بهما أن تعدلوا على وجه التقديم والتأخير.
346
ويقال: فلا تتبعوا الهوى أن لا تعدلوا. وقال مقاتل: يعني فلا تتبعوا الهوى للقرابة، واتقوا الله أن تعدلوا عن الحق إلى الهوى.
وقال تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا أي تحرفوا الشهادة وتلجلجوا بها ألسنتكم، فلا تقيموها على الوجه لتبطل به الشهادة أَوْ تُعْرِضُوا عنها فلا تشهدوا بها عند الحاكم. قرأ حمزة وابن عامر:
وَأَنْ تلوا بواو واحدة يعني من الولاية، يعني أقيموا الشهادة إذا وليتم. وقرأ الباقون:
تَلْوُوا بواوين من التحريف فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من كتمان الشهادة وإقامتها خَبِيراً يعني عالماً. فهذا تهديد للشاهد لكيلا لا يقصروا في أداء الشهادة ولا يكتموها. وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم «مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُقِمْ شَهَادَتَهُ عَلَى مَنْ كَانَتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخِرِ فَلا يَجْحَد لِحَقَ هُوَ عَلَيْهِ بَلْ يُؤَدِّهِ، وَلاَ يُلْجِئْهُ إِلَى السُّلْطَانِ والخصومة».
قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قال الضحاك: يعني أخبار أهل الكتابين الذين آمنوا بموسى وعيسى، آمنوا بالله ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلم. وقال في رواية الكلبي:
نزلت في عبد الله بن سلام وأسيد وأسد ابني كعب، وثعلبة بن قيس وغيرهم، قالوا: يا رسول الله نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وبعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل. فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «بَلْ آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ محمد ﷺ وَكِتَابِهِ القُرْآنِ، وَبِكُلِّ كِتَابٍ كَانَ مِنْ قَبْلُ».
فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ويقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خاطب به جميع المؤمنين، آمنوا بالله يعني اثبتوا على الإيمان. وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني يوم الميثاق آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ويقال: نزلت في شأن أهل الكتاب لأنه علم أن فيهم من يؤمن، فلقربهم من الإيمان سماهم مؤمنين كما قال: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [الدخان: ٢٤] وكانوا لم يغرقوا بعد. ويقال: إنهم كانوا يقولون نحن مؤمنون فقال لهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أي بزعمهم كما قال ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: ٤٩] أي بزعمه. قرأ نافع وعاصم عن حمزة والكسائي وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ بنصب النون والزاي وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ
بنصب الألف. وقرأ الباقون (نزل) بضم النون وكسر الزاي، ونزل وأنزل بضم الألف على معنى فعل ما لم يسم فاعله.
ثم قال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي من يجحد بوحدانية الله تعالى وملائكته أنهم عبيده، وبرسله أنهم أنبياؤه وعبيده، وبالبعث بعد الموت فَقَدْ ضَلَّ عن الهدى ضَلالًا بَعِيداً عن الحق. وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا قال مقاتل: يعني آمنوا بالتوراة وبموسى عليه السلام، ثم كفروا من بعد موسى، ثم آمنوا بعيسى عليه السلام والإنجيل، ثم كفروا من بعده ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بمحمد صلّى الله عليه وسلم وبالقرآن. ويقال: إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى، ثم آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم مِن قَبْلُ أن
347
يبعث، ثم كفروا به بعد ما بعث، ثم ازدادوا كفراً يعني ثبتوا على كفرهم. وقال في رواية الكلبي: آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا به بعده، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا يعني بمحمد صلّى الله عليه وسلم. وقال في رواية الضحاك: نزلت في شأن أبي عامر الراهب، وهو الذي بنى مسجد الضرار، آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلم ثم كفر، ثم آمن ثم كفر ومات على كفره. وقال الزجاج: يجوز أن يكون محارباً آمن ثم كفر، ثم آمن ثم كفر، ويجوز أن يكون منافقاً أظهر الإيمان وأبطن الكفر، ثم آمن ثم كفر، ثم ازداد كفراً بإقامته على النفاق. فإن قيل: إن الله تعالى لا يغفر كفراً مرة واحدة فأيش الفائدة في قوله آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا؟ قيل له: لأن الكافر إذا أسلم فقد غفر له ما قد سلف من ذنبه، فإذا كفر بعد إيمانه لم يغفر الله له الكفر الأول، فهو مطالب بجميع ما فعل في كفره الأول، فذلك قوله عز وجل: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ يعني إذا ماتوا على كفرهم وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أي يوفقهم طريقاً.
ثم قال تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣٨ الى ١٤٠]
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠)
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ وذلك أنه لما نزل قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: ٢] فقال المؤمنون هذا لك فما لنا؟ فنزل قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: ٤٧] فقال المنافقون: فما لنا؟ فنزل قوله تعالى بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً في الآخرة. ثم نعت المنافقين فقال: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ يعني اليهود أَوْلِياءَ في العون والنصرة مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ثم عيّرهم بذلك فقال أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ يعني يطلبون عندهم المنعة والظفر على محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، العزة في اللغة المنفعة والغلبة كما يقال: من عزَّ بزَّ، أي من غلب سلب. ويقال: عز الشيء إذا اشتد وجوده، ثم ذكر أنه لا نصرة لهم من الكفار، والنصرة من الله تعالى، فقال: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً يعني الظفر والنصر كله من الله تعالى، وهذا كما قال في آية أخرى وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: ٨].
ثم قال: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ وذلك أن المشركين بمكة كانوا يستهزئون بالقرآن، فنهى الله تعالى المسلمين عن القعود معهم، وهو قوله وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ- إلى قوله- فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: ٦٨] فامتنع المسلمون عن القعود معهم، فلما قدموا المدينة كانوا يجلسون مع اليهود والمنافقين، وكان اليهود يستهزئون بالقرآن، فنزلت هذه الآية وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها أي يجحد بها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي حتى يأخذوا في كلام أحسن. ثم قال تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ يعني: لو جلستم معهم كنتم معهم في الوزر، وفي هذه الآية دليل أن من جلس في مجلس المعصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية أو عملوا بها، فإن لم يقدر بأن ينكر عليهم ينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية. وروى جويبر عن الضحاك أنه قال: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة. قرأ عاصم وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ بنصب النون والزاي، وقرأ الباقون بضم النون وكسر الزاي على فعل ما لم يسم فاعله.
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً يعني إذا ماتوا على كفرهم ونفاقهم، فبدأ بالمنافقين لأنهم شر من الكفار، وجعل مأواهم جميعاً النار. وقال في رواية الكلبي: قوله تعالى فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ نسخ بقوله عز وجل وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٦٩] وقال عامة المفسرين: إنها محكمة وليست بمنسوخة.
ثم أخبر عن المنافقين، فقال تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤١ الى ١٤٤]
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ يعني ينتظرون بكم الدوائر، وهو تغيير الحال عليكم فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ يعني النصرة والغلبة على العدو قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ فأعطونا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ يعني الظفر والغلبة على المؤمنين قالُوا للكفار أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ يعني: ألم نخبركم بصورة المسلمين ونطلعكم على سرهم، ونخبركم عن حالهم.
ويقال: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ يعني: ألم نغلب عليكم بالمودة لكم. والاستحواذ هو الاستيلاء على الشيء، كقوله تعالى اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ [المجادلة: ١٩] ثم قال: وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني نجادل المؤمنين عنكم ونجنبهم عنكم. قال الله تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي بين المؤمنين والمنافقين والكافرين وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أي الحجة، ويقال: دولة دائمة أي لا تدوم دولتهم. وروي عن علي كرم الله وجهه، أنه سئل عن قوله عز وجل إن الله تعالى يقول: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وهم يسلطون علينا ويغلبوننا، فقال: لا يسلط الكافر على المؤمن في الآخرة يوم القيامة.
ثم بين حال المنافقين في الدنيا وخداعهم، فقال تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ
أي يظنون أنهم يخادعون الله وَهُوَ خادِعُهُمْ
أي يجازيهم جزاء خداعهم، وهو أنهم يمشون مع المؤمنين على الصراط يوم القيامة، ثم يسلبهم النور فيبكون في ظلمة. ثم قال تعالى:
وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ
يعني المنافقين قامُوا كُسالى
أي متثاقلين يُراؤُنَ النَّاسَ
أي لا يرونها حقاً، ويصلون مراءاة للناس وسمعة وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
قال ابن عباس: لو كان ذلك القليل لله تعالى لكان كثيراً وتقبل منهم، ولكن لن يريدوا به وجه الله تعالى. ثم قال:
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ أي مترددين. ويقال: منفضحين بين ذلك لاَ إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ يعني ليسوا مع المؤمنين في التصديق، ولا مع اليهود في الظاهر وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي من يخذله الله عن الهدى فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي مخرجا. ثم قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أي صدقوا. قال مقاتل: الذين آمنوا بزعمهم وهم المنافقون لاَ تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ويقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في الظاهر وأسروا النفاق. ويقال: يعني المؤمنين المخلصين، كانت بينهم وبين اليهود صداقة، وكانوا يأتونهم فنهاهم الله تعالى عن ذلك.
فقال: لاَ تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. ثم قال تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً يعني حجة مبينة في الآخرة.
ثم بين مأوى المنافقين في الآخرة فقال تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٧]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧)
350
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ المنافق في اللغة اشتقاقه من نافقاء اليربوع، ويقال: لليربوع جحران أحدهما نافقاء، والآخر قاصعاء، فيظهر نفسه في أحدهما ويخرج من الآخر، ولهذا يسمى المنافق منافقاً لأنه يظهر من نفسه أنه مسلم، ويخرج عن الإسلام إلى الكفر. قرأ أهل الكوفة حمزة والكسائي وعاصم الدرك بجزم الراء، وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان: الدرك والدرك، وجماعتهما أدراك وهي المنازل بعضها أسفل من بعض، فأعد للمنافقين الدرك الأسفل من النار وهي الهاوية.
ثم قال تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً أي مانعاً يمنعهم من العذاب. ثم قال تعالى:
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِن النفاق وَأَصْلَحُوا أعمالهم وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي تمسكوا بدين الله وبتوحيده وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ أي بتوحيدهم لله بالإخلاص، فإن فعلوا ذلك فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي المصدقين على دينهم لهم، ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. ثم قال: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أي يعطي الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً يعني ثواباً عظيماً في الآخرة. وفي هذه الآية دليل أن المنافقين هم شر خلق الله، لأنه أوعدهم الدرك الأسفل من النار. ثم استثنى لهم أربعة أشياء التوبة والإخلاص والإصلاح والاعتصام. ثم قال بعد هذا كله: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل هم المؤمنون. ثم قال: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل: سوف يؤتيهم الله بغضاً لهم وإعراضاً عنهم، والمنافقون هم الزنادقة والقرامطة الذين هم بين المؤمنين، يظهرون من أنفسهم الإسلام وإذا اجتمعوا فيما بينهم يسخرون بالإسلام وأهله، فهم من أهل هذه الآية ومأواهم الهاوية. قوله تعالى: مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ أي ما يصنع الله بعذابكم إِنْ شَكَرْتُمْ يعني إن آمنتم بالله تعالى ووحدتموه، ويقال: معناه ما حاجة الله إلى تعذيبكم لو كنتم موحدين شاكرين له وَآمَنْتُمْ به وصدقتم رسله. ثم قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً أي شاكراً للقليل من أعمالكم، عليماً بأعمالكم وثوابكم. ويقال: شاكراً يقبل اليسير ويعطي الجزيل، عليماً بما في صدوركم. ويقال: بمن شكر وآمن فلا يعذب شاكراً ولا مؤمنا.
قوله تعالى:
351

[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٨ الى ١٥٢]

لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢)
لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أي لا يحب أن يذكر بالقول القبيح لأحد من الناس إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فيقتص من القول بمثل ما ظلم، فلا جناح عليه. نزلت الآية في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، شتمه رجل فسكت أبو بكر مراراً، ثم ردّ عليه، ويقال: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فيدعو الله تعالى على ظالمه. وقال الفراء: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ يعني ولا من ظلم. وقال السدي: يقول من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم فليس عليه جناح. وقال الضحاك: لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ أي لا يحب لكم أن تنزلوا برجل، فإذا ارتحلتم عنه تذمون طعامه إلا رجلاً أردتم النزول عليه عند حاجتكم فمنعكم. وقال مجاهد: هو في الضيافة إذا دخل الرجل المسافر إلى القوم، يريد أن ينزل عليهم فلم يضيفوه، فقد رخص له أن يذكر كلاماً عنهم ويقول فيهم. ويقال: يعني يسبه مثل ما سبه ما لم يكن كلاماً فيه حد أو كلمة لا تصلح، ولو لم يقل كان أفضل. وقرأ بعضهم: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ متصل بما يفعل الله بعذابكم إلا من ظلم، يعني من إشراك بالله، وهو شاذ من القراءة ثم قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً أي سميعاً بدعاء المظلوم، عليماً بعقوبة الظالم.
ثم أخبر عن التجاوز أنه خير من الانتصار، فقال تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً يعني إن تظهروا حسنة أَوْ تُخْفُوهُ يعني الحسنة أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ يعني يتجاوز عن ظالمه ولا يجهر بالسوء عنه، فهو أفضل لأن الله تعالى قادر على عباده فيعفو عنهم، وذلك قوله فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً يعني أن الله أقدر على العقوبة لكم، فيعفو عنكم. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ قال ابن عباس: نزلت الآية في أهل الكتاب، يؤمنون بموسى وعيسى ويكفرون بغيرهما، وهو قوله: وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني يريدون أن يتخذوا ديناً لم يأمر به الله ورسوله وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ بموسى وعزير والتوراة وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ بمحمد صلّى الله عليه وسلم وبعيسى والإنجيل والقرآن وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا يعني بين
اليهودية والإسلام. قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا حين كفروا ببعض الرسل وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً يهانون فيه. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني أقروا بوحدانية الله تعالى وصدقوا بجميع الرسل وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ في الإيمان والتصديق، يعني لم يكفروا ولم يجحدوا بأحد من الأنبياء والرسل عليهم السلام، ويصدقون بجميع الكتب أُولئِكَ يعني أهل هذه الصفة سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ أي سنعطيهم ثوابهم في الجنة وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لذنوبهم رَحِيماً بهم لما كان منهم في الشرك. قرأ عاصم في رواية حفص: يُؤْتِيهِمْ بالياء وقرأ الباقون نؤتيهم بالنون.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٣ الى ١٥٨]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨)
قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ يعني جملة واحدة كما جاء به موسى عليه السلام. ويقال: إن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء وأصحابهما قالوا: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تنزل علينا كتاباً تحمله الملائكة إلينا فتقرؤه. قال الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلم: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ يعني إن هؤلاء من أصل أولئك القوم الذين فَقالُوا لموسى عليه السلام أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً يعني عياناً، وهم القوم الذين ساروا مع موسى عليه السلام إلى طور سيناء فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي أحرقتهم النار بِظُلْمِهِمْ أي بقولهم وسؤالهم ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي ومع ذلك، قد عبدوا العجل وهم قوم موسى في حال غيبته مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي جاءهم موسى بالآيات والعلامات فَعَفَوْنا عَنْ
353
ذلِكَ
كله ولم نستأصلهم وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة بينة، وهي اليد والعصا وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ يقول: قلعنا فوقهم الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ يعني بإقرارهم بما في التوراة حين أبوا أن يتقبلوا الشرائع وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً يعني باب أريحة منحنية أصلابهم وَقُلْنا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ يقول: لا تستحلوا أخذ السمك في يوم السبت. قرأ نافع في رواية ورش لاَ تَعْدُوا بالتشديد، لأن أصله لا تعتدوا، فأدغم التاء في الدال وأقيم التشديد مقامه.
وقرأ الباقون لاَ تَعْدُوا بالتخفيف من عدا يعدو عدواناً.
ثم قال تعالى: وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً يعني إقراراً وثيقاً شديداً في التوراة، يعني تركوا هذه الأشياء كلها ونقضوا الميثاق. ثم قال عز وجل: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ولم يذكر في هذه الآية جوابهم، والجواب فيه مضمر فكأنه قال: وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غليظاً، فبنقضهم الميثاق لعنهم الله تعالى وخذلهم كقوله فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النساء: ١٥٥] ثم قال: وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ يعني بكفرهم بآيات الله لعنهم الله وخذلهم. ثم قال تعالى: وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ يعني: وبقتلهم الأنبياء بغير جرم وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ يعني: ذا غلاف ولا نفقه حديثك، وقرأ بعضهم: غلف بضم اللام وجماعة الغلاف يعني أن قلوبنا أوعية لكل علم ولا نفقه حديثك. قال الله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها يعني ختم الله على قلوبهم بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي لا يؤمنون إلا قليل منهم ويقال لا يؤمنون إلا بالقليل لأنهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض. وقال مقاتل: يعني ما أقل ما يؤمنون، يقول: بأنهم لا يؤمنون البتة.
ثم قال تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً وذلك أن مريم كانت متعبدة لله تعالى ناسكة، اصطفاها الله تعالى بولد بغير أب، فعيرها اليهود واتهموها وقذفوها بيوسف بن ماثان، وكان يوسف خادم بيت المقدس ويقال: كان ابن عمها، فأنزل الله تعالى إكذاباً لقولهم وبيّن بهتانهم فقال: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً يعني لعنهم الله وخذلهم بذلك وَقَوْلِهِمْ أي وبقولهم إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ هذا قول الله لا قول اليهود وقول اليهود إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مَرْيَمَ. ثم قال الله تعالى رَسُولَ اللَّهِ يعني الذي هو رسول الله وذلك أن اليهود لما اجتمعوا على قتله هرب منهم ودخل في بيت، فأمر ملك اليهود رجلاً يدخل البيت يقال له يهوذا ويقال ططيانوس، فجاء جبريل عليه السلام ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء، فلما دخل الرجل إلى البيت لم يجده، فألقى الله شبه عيسى عليه، فلما خرج ظنوا أنه عيسى فقتلوه وصلبوه. ثم قالوا: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فاختلفوا فيما بينهم، فأنزل الله تعالى إكذاباً لقولهم فقال: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ يعني ألقي شبه عيسى على غيره فقتلوه. ثم قال وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من قتله مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ يعني لم يكن عندهم علم يقين أنه قتل أو لم يقتل إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ أي قالوا قولاً بالظن وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً أي لم
354
يستيقنوا بقتله، ويقال: يقيناً ما قتلوه بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وقال مقاتل: بل رفعه الله إلى السماء في شهر رمضان ليلة القدر. وقال الضحاك: رفعه في يوم عاشوراء بين صلاتي المغرب والعشاء. ثم قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً أي منيعاً حين منع عيسى من القتل حَكِيماً حين حكم رفعه إلى السماء.
وقوله عز وجل:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٩ الى ١٦١]
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يقول: وما من أهل الكتاب إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ يعني بعيسى عليه السلام قَبْلَ مَوْتِهِ وذلك أن اليهودي إذا حضرته الوفاة وعاين أمر الآخرة ضربته الملائكة، وقالت له: يا عدو الله أتاك عزير فكذبته، ويقال للنصراني: يا عدو الله أتاك عبد الله ورسوله، وهو عيسى، فزعمت أنه ابن الله، فيؤمن عند ذلك ويقر أنه عبد الله ورسوله، ولا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت، ويكون إيمانهم عليهم شهيداً يوم القيامة. وروي عن مجاهد أنه قال: ما من أحد من أهل الكتاب إِلاَّ ويؤمن بعيسى عليه السلام قبل موته، فقيل له: وإن غرق أو احترق أو أكله السبع يؤمن بعيسى عليه السلام؟ فقال: نعم. وروي أن الحجاج بن يوسف سأل شهر بن حوشب عن هذه الآية فقال إني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى، فآمر بضرب عنقه، وأنظر إليه في ذلك الوقت فلا أرى منه الإيمان، فقال له شهر بن حوشب: إنه حين يعاين أمر الآخرة يقر بأن عيسى عبد الله ورسوله فيؤمن به ولا ينفعه. فقال له الحجاج: من أين أخذت هذا؟ قال: أخذته من محمد بن الحنفية. فقال له الحجاج: لقد أخذت من عين صافية.
وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: قَبْلَ مَوْتِهِ يعني قبل موت عيسى عليه السلام هكذا قال الحسن.
قال الفقيه: حدثنا عمر بن محمد، قال: حدّثنا أبو بكر الواسطي، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن رجل، عن الحسن في قوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: قبل موت عيسى، والله إنه لحي عند الله الآن، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون. وروي عن ابن عباس أنه قال: يمكث عيسى عليه السلام في
الأرض أربعين سنة نبياً إماماً مهدياً، ثم يموت وتصلي عليه هذه الأمة. وقال الضحاك: يهبط عيسى عليه السلام من السماء إلى الارض بعد خروج الدجال، فيكون هبوطه على صخرة بيت المقدس، ثم يقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويهدم البيع والكنائس، ولا يبقى على وجه الأرض يهودي ولا نصراني إلا آمن بالمسيح ودخل في الإسلام.
ثم قال تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يعني يكون عليهم عيسى عليه السلام شهيداً، بأنه قد بلغهم الرسالة. قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ يعني بشركهم حرمنا عليهم أشياء كانت حلالاً لهم، وهو كل ذي ظفر وشحوم البقر والغنم أحلت لهم وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً أي بصرفهم كثيراً من الناس عن دين الله على وجه التقديم وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا أي حرم عليهم الحلال بكفرهم، ويصرف الناس عن دين الله، وبأخذهم الربا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ أي يعني عن أخذ الربا في التوراة وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وهو أخذ الرشوة في الحكم وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي هيأنا لهم عذاباً وجيعاً دائماً.
[سورة النساء (٤) : آية ١٦٢]
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢)
وقوله: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ يعني المبالغون في العلم الذين أدركوا علم الحقيقة، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا: هذه الأشياء كانت حراماً في الأصل وأنت تحلها، ولم تكن حرمت بظلمنا، فنزل لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ يصدقون بما أنزل إليك أنه الحق، ويقال: إن مؤمني أهل الكتاب يعلمون أن الذى أُنزِلَ إِلَيْكَ من القرآن هو الحق، وأنك نبي مبعوث وهو مكتوب عندهم. ثم قال: وَالْمُؤْمِنُونَ يعني أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ثم قال: وَالمؤمنون بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني يصدقون بالقرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ويصدقون بما أنزل من قبلك من كتب الله.
ثم وصفهم فقال: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ قال بعض الجهال: هذا غلط الكاتب حيث كتب مصحف الإمام، كان ينبغي أن يكتب والمقيمون فأوهم وكتب والمقيمين. واحتج بما روي عن عائشة أنها قالت: ثلاثة أحرف في المصحف غلط من الكاتب: قوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وقوله وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى وقوله إِنْ هذانِ لَساحِرانِ وروي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال: أرى فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها، ولكن هذا بعيد عند أهل العلم والخبر، لم يثبت عن عثمان ولا عن عائشة رضي الله عنهما، لأن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا حماة الدين والقدوة في الشرائع والأحكام، فلا يظن بهم أنهم تركوا في كتاب الله تصحيفاً
يصلحه غيرهم، وهم أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى في قوله وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ قال بعضهم: يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة، يعني بالنبيين المقيمين الصلاة. وقال بعضهم: لكن الراسخون فى العلم منهم، ومن المقيمين الصلاة يؤمنون بما أنزل إليك.
ثم قال تعالى: وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ يعني الذين يعطون الزكاة المفروضة وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني المقرون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت. ثم قال: أُولئِكَ يعني أهل هذه الصفة سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً أي يعطيهم الله في الآخرة ثواباً عظيماً وهو الجنة. قرأ حمزة سيؤتيهم بالياء وقرأ الباقون بالنون.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٤]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤)
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يعني أرسلنا إليك جبريل كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ يعني كما أرسلنا إلى نوح، ويقال: أوحينا إليك بأن تثبت على التوحيد وتأمر الناس بالتوحيد، كما أوحينا إلى نوح بأن يثبت على التوحيد، ويدعو الناس إلى التوحيد وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ أي أوحينا إليهم بذلك وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وهما ابنا إبراهيم عليهم السلام وَيَعْقُوبَ وهو ابن إسحاق وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب عليه السلام، كانوا اثني عشر سبطاً، أوحينا إلى أنبيائهم بأن يثبتوا على التوحيد، ويدعوا الناس إلى ذلك وَأوحينا إلى عِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً قرأ حمزة: زَبُوراً بضم الزاي. وقرأ الباقون بالنصب في جميع القرآن، ومعناهما واحد، وهو عبارة عن الكتاب. ثم قال: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ يعني قد سميناهم لك من قبل، يعني بمكة وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ يعني لم نسمهم لك، وقد أرسلناك كما أرسلنا هؤلاء. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: كان الأنبياء ألفي ألف ومائتي ألف. وقال مقاتل: كان الأنبياء ألف ألف، وأربعمائة ألف، وأربعة وعشرين ألفاً. وروي عن أنس بن مالك عن رسول الله ﷺ أنه قال: «بُعِثْتُ عَلَى أَثَرِ ثَمَانِيَةِ آلافٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْهُمْ أَرَبَعَةُ آلافٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ» «١». قال الفقيه أبو الليث: حدثنا
(١) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ٣/ ١٦٢ بلفظ: «بُعِثْتُ عَلَى أَثَرِ ثَمَانِيَةِ آلاف نبي منهم أربعة آلاف نبيّ من بني إسرائيل».
الفقيه أبو جعفر، قال: حدثنا أحمد بن محمد القاضي، قال: حدثنا إبراهيم بن حشيش البصري، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن الحارث الأعور، عن أبي ذر الغفاري قال: قلت يا نبي الله كم كانت الأنبياء؟ وكم كان المرسلون فقال صلى الله عليه وسلم: «كَانَتِ الأنْبِياءُ مِائَةَ ألْفِ نَبِيٍّ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ نَبِيٍّ، وَكَانَ المُرْسَلُونَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ». ثم قال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً قال بعضهم: معناه إنه قد أوحى إليه، وإنما سماه كلاماً على وجه المجاز كما قال في آية أخرى أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ [الروم: ٣٥] أي يستدلون بذلك، والعرب تقول: قال الحائط كذا. وقال عامة المفسرين وأهل العلم: إن هذا كلام حقيقة لا كلام مجاز، لأنه قد أكده بالمصدر حيث قال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً والمجاز لا يؤكد لأنه لا يقال: قال الحائط قولاً، فلما أكده بالمصدر نفى عنه المجاز، وقال في موضع آخر: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: ٤٠] وقد أكده بالتكرار ونفى عنه المجاز. وقال في موضع آخر وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [الشورى: ٥١] يعني الأنبياء الذين لم يكونوا مرسلين، فأراهم في المنام أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ بكلام مثل ما كلم الله موسى، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً وهو رسالة جبريل إلى المسلمين. ثم قال تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٩]
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٦٩)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أي أرسلنا رسلاً مبشرين بالجنة ومنذرين بالنار لِئَلَّا يَكُونَ يقول: لكيلا يكون لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يعني: بعد إرسال الرسل، كي لا يقولوا يوم القيامة إنك لم ترسل إلينا رسولاً. ولو إن الله تعالى لم يرسل رسولاً كان ذلك عدلاً منه إذ أعطى كل واحد من خلقه من العقل ما يعرفه، ولكن أرسل تفضلاً منه، ولكي يكون زيادة في الحجة عليهم. ثم قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. عَزِيزاً بالنقمة لمن يجحده حَكِيماً حكم إرسال الرسل والأنبياء عليهم السلام. قوله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ قال ابن عباس: وذلك أن رؤساء مكة أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا سألنا
اليهود عن صفتك ونعتك، فزعموا أنهم لا يعرفونك في كتابهم، فأتِنا بمن يشهد لك بأنك نبي مبعوث فنزل: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ يعني إن لم يشهد لك أحد منهم، فالله تعالى أعظم شهادة من خلقه، هو يشهد لك بأنك نبيّ ويظهر نبوتك. قال القتبي: هذا من الاختصار لأنه لما نزل إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ [سورة النساء: ١٦٣] قال المشركون: لا نشهد لك بهذا فمن يشهد لك؟ فنزلت هذه الآية حكاية قولهم. فقال تعالى لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ لأن كلمة لكن إنما تجيء بعد نفي شيء، فوجب ذلك الشيء بها.
ثم قال تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي بأمره. ويقال: أنزل القرآن الذي فيه علمه. ثم قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ أيضاً على شهادتك بالذي شهدت أنه الحق وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً فلا أحد أفضل من الله تعالى، شهادة بأنه أنزل عليك القرآن. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني صرفوا الناس عن دين الله قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً عن الحق. ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا أي جحدوا وأشركوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ أي ما داموا على كفرهم وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً يعني: لا يوفقهم لطريق الإسلام إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ يعني: يتركهم ويخذلهم في طريق الكفر عقوبة لكفرهم ولجحودهم وهو طريق جهنم. ويقال:
إلا العمل الذي يجبرهم إلى جهنم. وقال الضحاك: لا يهديهم طريقاً يوم القيامة، أي لا يرفع لهم إلا طريق جهنم. وذلك أن أهل الإيمان يرفع لهم في الموقف طريق تأخذ بهم إلى الجنة، ويرفع لأهل الكفر طريق ينتهي بهم إلى النار. ثم قال تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي دائمين فيها وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي خلودهم وعذابهم في النار هيّن على الله تعالى.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧٠ الى ١٧١]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٧١)
يا أَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس: يعني أهل مكة قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ
أي بشهادة أن لا إله إلا الله، ويقال: ببيان الحق. ويقال: للحق، يعني للعرض والحجة وقوله تعالى: قَدْ جاءَكُمُ على وجه المجاز، لأن رسول الله ﷺ قد كان فيهم، ولكن معناه أنه قد ظهر فيكم رسول الله ﷺ كما قال في آية أخرى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [سورة التوبة: ١٢٨] أي ظهر فيكم ثم قال: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ أي صدقوا بوحدانية الله تعالى، والقرآن الذي جاءكم به محمد ﷺ خيراً لكم من عبادة الأوثان، لأن عبادة الأوثان لا تغنيكم شيئاً. ثم قال تعالى: وَإِنْ تَكْفُرُوا أي إن تجحدوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ الله غنيٌّ عَنكُمْ فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كلهم عبيده وإماؤه وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بخلقه حَكِيماً في أمره.
ثم قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ قال الضحاك: أي لا تكذبوا في دينكم. وقال بعض أهل اللغة: الغلو مجاوزة القدر في الظلم. ويقال: الغلو أن تجاوز ما حدَّ لك. وقال القتبي: يعني لا تفرطوا في دينكم، فإن دين الله بين المقصر والغالي. وغلا في القول إذا تجاوز المقدار. وقال ابن عباس: وذلك أن اليعقوبية وهم صنف من النصارى قالوا:
عيسى هو الله. وقالت النسطورية: هو ابن الله. وقالت المرقوسية- ويقال لهم الملكانية-: هو ثالث ثلاثة، فنزل يا أَهْلَ الْكِتابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ. قال مقاتل: الغلو في الدين أن يقول على الله غير الحق. ويقال: لا تتعمقوا في دينكم. ثم قال تعالى: وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يعني: لا تصنعوا بالله بما لا يليق بصفاته، فإن الله تعالى واحد لا شريك له ولا ولد له.
ثم قال تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وهو قوله كُنْ فَيَكُونُ [سورة النحل: ٤٠] ثم قال: وَرُوحٌ مِنْهُ قال ابن عباس في رواية الكلبي:
يعني أمر منه فأتاها جبريل، فنفخ في جيب درعها فدخلت تلك النفخة بطنها، ثم وصل إلى عيسى ابن مريم فتحرك في بطنها وأمه أمة الله تعالى فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني: صدّقوا بوحدانية الله تعالى وبما جاءكم به الرسل من الله تعالى وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ يعني: لا تقولوا إن الله ثالث ثلاثة انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ يقول: توبوا إلى الله تعالى من مقالتكم، فالتوبة خيرٌ لكن من الإصرار على الكفر إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ ثم نزّه نفسه عما قال الكفار فقال: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ. ثم قال تعالى: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
من الخلق وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يعني كفيلاً ويقال شاهداً ولا شاهد أفضل منه.
قوله تعالى:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٣]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣)
ْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
يعني: لن يتعظم ولن يأنف ولن يتكبر.
ويقال: لن يحتشم أن يكون عبدا لله. ويقال: إن وفد نجران أتوا رسول الله ﷺ وناظروه في أمر عيسى عليه السلام، فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم: كان عبد الله ورسوله، فقالوا: لا تقل هكذا فإن عيسى يأنف عن هذا القول، فنزل تكذيباً لقولهم نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
يعني كان عيسى مقرّاً بالعبودية. ثم قال تعالى: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
يعني حملة العرش لن يأنفوا عن الإقرار بالعبودية. وقال مقاتل: الملائكة المقربون أقرب إليه، فلم يأنفوا عن عبادته فكيف يأنف عيسى عليه السلام وهو عبد من عباده؟
ثم قال تعالى: مَنْ يَسْتَنْكِفْ
أي يتعظم نْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
والاستكبار هو الاستنكاف، يقال: استنكف واستكبر يعني استكبر عن طاعته سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
يأمر بهم إلى النار. ثم قال عز وجل: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أي يوفر لهم ثواب أعمالهم وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي من رزقه في الجنة وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا عن عبادة الله تعالى فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي وجيعاً دائماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني من عذاب الله وَلِيًّا يعينهم وَلا نَصِيراً مانعاً يمنعهم.
ثم قال عز وجل:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧٤ الى ١٧٦]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)
361
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي بياناً من ربكم وحجة من ربكم، وهو محمد ﷺ والقرآن وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً أي بياناً من العمى وبيان الحلال من الحرام، وهو القرآن. قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ أي صدقوا بوحدانية الله تعالى وَاعْتَصَمُوا بِهِ أي تمسكوا بدينه فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ يعني الجنة وَفَضْلٍ أي الثواب وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أي يرشدهم إلى دينه، ويوفقهم لذلك. وفي الآية تقديم وتأخير فكأنه يقول: يهديهم في الدنيا صِراطاً مُسْتَقِيماً أي ديناً لا عوج فيه، ويثيبهم على ذلك ويدخلهم في الآخرة في رحمة منه وفضل وهو الجنة والكرامة.
قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ يعني يسألونك في حكم الميراث قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ روي عن قتادة أنه قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد، وكذلك قال ابن عباس:
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: أنى قد رأيت رأياً فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن نفسي ومن الشيطان: الكلالة ما عدا الوالد والولد. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ثلاث لا يكون رسول الله ﷺ بينهن لنا كان أحب إلي من الدنيا وما فيها: الكلالة، والخلافة، وأبواب الربا. وروي عن النبي ﷺ أنه سئل عن الكلالة فقال: «أَلَمْ تَرَ الآيةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ» يعني هذا تفسير الكلالة. وهذه الآية نزلت في شأن جابر بن عبد الله، سأل رسول الله ﷺ فقال: إن لي أختاً فما لي من ميراثها؟ فنزلت هذه الآية، فبيّن ميراث جابر أولاً ثم ميراث أخته، فصارت الآية عامة لجميع الناس. قال: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ يعني إن مات رجل لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ من المال وَهُوَ يَرِثُها يعني إذا ماتت الأخت والأخ حيّ ورثها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ وقد ذكرت الآية حكم الأخ والأخت إذا لم يكن لهما ولد، ولم يبين أنه لو كان لأحدهما ولد فمات أحدهما فما حكمه؟ ولكن بيّن على لسان رسوله ﷺ أن للابنة النصف، وما بقي فللأخت وإن كانت الأخت هي التي ماتت وتركت ابنة وأخاً، فللابنة النصف وما بقي فللأخ. وفي هذا إجماع وفي الأول اختلاف قال ابن عباس: لا ترث الأخت مع الابنة شيئاً، وخالفه جميع الصحابة وقالوا كلهم: الأخوات مع البنات عصبة.
ثم قال تعالى: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ يعني: إذا كان للميت أختان أو أكثر فلهما الثلثان إذا كانتا اثنتين، وإن كنَّ أكثر من ذلك فلهنَّ الثلثان أيضاً بالإجماع. ثم قال:
وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً يعني إخوة وأخوات فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يعني لكل أخٍ سهمان ولكل أخت سهم، هذا إذا كانت الإخوة والأخوات من الأب والأم أو من الأب خاصة، فأما إذا كانوا من قبل الأم فهم شركاء في الثلث، ليس لهم أكثر من ذلك كما ذكرنا في أول السورة، وهذا بالإجماع. ثم قال عز وجل: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أي يبين الله لكم قسمة المواريث لكي لا تضلوا ولا تخطئوا في قسمتها. وقد يحذف لا فيراد به إثباته كقوله
362
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [سورة لقمان: ١٠] يعني أن لا تميد بكم، وقد يذكر لا ويراد حذفه كقوله قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [سورة الأعراف: ١٢] يعني أن تسجد وكقوله لا أُقْسِمُ [سورة القيامة: ١] أقسم ثم قال تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ من قسمة المواريث وغيره، أي اتبعوا مَا أَنزَلَ الله تعالى وبيّن لكم في كتابه، والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما.
363
Icon