تفسير سورة الدّخان

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ٥٩.

تفسير سورة الدّخان
وهي مكّيّة
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣)
حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ... الآية، قوله: وَالْكِتابِ الْمُبِينِ قَسَمٌ أقسم اللَّه تعالى به، وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ يحتمل أنْ يقَعَ القَسَمُ عليه، ويحتملُ أَنْ يكون وصفاً للكتاب، ويكون الذي وقع القَسَمُ عليه إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، / واخْتُلِفَ في تعيين الليلة المباركة، فقال قتادَةُ، والحسن، وابن زيد: هي ليلة القَدْرِ «١»، ومعنى هذا النزول أَنَّ ابتداء نزوله كان في ليلة القَدْرِ وهذا قول الجمهور، ، وقال عِكْرَمَةَ:
الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان «٢»، قال القرطبيّ: الصحيح أَنَّ الليلةَ التي يُفْرَقُ فِيهَا كُلَّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، ليلةُ القَدْرِ مِنْ شَهْر رمضانَ، وهي الليلة المباركة، انتهى من «التذكرة»، ونحوُهُ لابن العربيّ.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٤ الى ١٧]
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨)
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣)
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧)
وقوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ معناه يُفْصَلُ من غيره وَيَتَخَلَّصُ، فعن عِكْرِمَةَ أَنَّ اللَّه تعالى يَفْصِلُ ذلك للملائكة في ليلة النصف من شعبان «٣»، وفي بعض
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٢٢٠) برقم: (٣١٠٢٦، ٣١٠٢٨) عن قتادة، وابن زيد، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٤٨) عنهما، وابن عطية (٥/ ٦٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٧٣٨)، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة.
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ٦٨).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٢٢٣) برقم: (٣١٠٣٩).
الأحاديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «تُقْطَعُ الآجَالُ مِنْ شَعْبَانَ إلَى شَعْبَانَ، حتى إنَّ الرَّجُلَ ليَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهُ، وَلَقَدْ خَرَجَ اسمه في الموتى «١» » وقال قتادة، والحسن، ومجاهد: يُفْصَلُ في ليلة القدر كُلُّ ما في العامِ المُقْبِلِ، من الأقدار، والأرزاقِ، والآجال، وغير ذلك، وأَمْراً نُصِبَ على المصدر «٢».
وقوله: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يحتمل أنْ يريدَ الرُّسُلَ والأَشْيَاءَ، ويحتمل أَنْ يريدَ الرحمة التي ذكر بَعْدُ، واختلف الناس في «الدخان» الذي أمر اللَّه تعالى بارتقابه، فقالت فرقة منها عليٌّ، وابن عباس، وابن عمر، والحَسَنُ بْنُ أبي الحَسَنِ، وأبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ: هو دُخَانٌ يجيء قَبْلَ يومِ القيامة، يُصِيبُ المؤمنَ منه مِثْلُ الزكام، ويَنْضَحُ رُؤُوسَ المنافِقِينَ والكافِرِينَ، حتى تكونَ كأنَّها مَصْلِيَّةٌ حنيذة «٣»، وقالت فرقة، منها ابن مسعود: هذا الدخان قد رأته قريشٌ حين دعا عليهم النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فكان الرجُلُ يرى من الجُوع دُخَاناً بينه وبين السماء «٤» وما/ يأتي من الآيات يُؤَيِّدُ هذا التأويلَ، وقولهم: إِنَّا مُؤْمِنُونَ كان ذلك منهم مِنْ غَيْرِ حقيقةٍ، ثم قال تعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي: من أين لهم التَّذَكُّرُ وَالاتعاظُ بعد حُلُولِ العذاب؟ وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ يعني: محمداً صلّى الله عليه وسلّم ف تَوَلَّوْا عَنْهُ، أي: أعرضوا وَقالُوا: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ.
وقوله: إِنَّكُمْ عائِدُونَ أي: إلى الكفر، واختلف في يوم البَطْشَةِ الكبرى، فقالتْ فرقةٌ: هو يوم القيامة، وقال ابن مسعود وغيره: هو يوم بدر «٥».
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٨ الى ٢٤]
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢)
فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤)
(١) أخرجه الديلمي في «مسند الفردوس» (٢/ ١١٥) (٢٢٢٨)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٢٦)، وذكره الهندي في «كنز العمال» (١٥/ ٦٩٤) (٤٢٧٨٠) وكلاهما عزاه إلى ابن زنجويه.
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٢٢٢) برقم: (٣١٠٣٥) عن مجاهد، (٣١٠٣٦- ٣١٠٣٧) عن قتادة، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٤٨)، وابن عطية (٥/ ٦٨)، والسيوطي في «الدر المنثور»، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن نصر، والبيهقي عن قتادة.
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٦٩).
(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٧٤٤)، وعزاه إلى البيهقي في «دلائل النبوة».
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٢٣٠) برقم: (٣١٠٧٠) عن ابن مسعود، (٣١٠٧١) عن مسروق، (٣١٠٧٢) عن ابن مسعود، (٣١٠٧٣- ٣١٠٧٤) عن مجاهد، (٣١٠٧٥) عن أبي العالية، (٣١٠٧٦) عن ابن عبّاس، (٣١٠٧٩) عن أبي بن كعب، (٣١٠٨٠) عن الضحاك، وذكره ابن عطية (٥/ ٧٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٧٤٥)، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه.
195
وقوله: أَنْ أَدُّوا مأخوذ من الأداء، كأنَّه يقول: أنِ ادْفَعُوا إليَّ، وأعطوني، ومَكِّنُوني من بني إسرائيل، وَإيَّاهم أراد بقوله: عِبادَ اللَّهِ، وقال ابن عباس: المعنى:
اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحَقِّ «١»، فعباد اللَّه على هذا مُنَادًى مضافٌ، والمؤدى هي الطاعة، والظاهر من شرع موسى ع أَنَّهُ بُعِثَ إلى دعاء فرعونَ إلَى الإيمَان، وأَنْ يرسل بني إسرائيل، فلمَّا أبى أَنْ يُؤمن ثبتت المكافحة في أنْ يرسل بني إسرائيل، وقوله بعد: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ كالنَّصَّ في أَنَّه آخر الأمرِ، إنَّما يطلب إرسال بني إسرائيل فقط.
وقوله: وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ... الآية: المعنى: كانت رسالته، وقوله: أَنْ أَدُّوا وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أيْ: على شرع اللَّه، وَعَبَّرَ بالعلوّ عن الطغيان والعتوّ، وأَنْ تَرْجُمُونِ معناه: الرجم بالحجارة المُؤَدِّي إلى القتل قاله قتادة وغيره «٢»، وقيل:
أراد الرجم بالقول، والأول أظهر لأنَّه الذي عاذَ منه، ولم يَعُذْ من الآخر.
- قلت-: وعن ابن عمر قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنِ استعاذ باللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ باللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنِ استجار باللَّهِ فَأَجِيرُوهُ، وَمَنْ أتى إلَيْكُمْ بِمَعْرُوفٍ/ فَكَافِئوهُ، فَإنْ لَمْ تَقْدِرُوا فادعوا لَهُ حتى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ «٣» »، رواه أبو داود، والنسائيُّ، والحاكم، وابن حِبَّانَ في «صحيحيهما»، واللفظ للنِّسَائِيِّ، وقال الحاكم: صحيحٌ على شَرْطِ الشيخَيْنِ- يعني البخاريَّ ومسلماً- اهـ من «السلاح».
وقوله: فَاعْتَزِلُونِ متاركَةٌ صريحةٌ، قال قتادة: أراد خلّوا سبيلي.
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ٧٠).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٢٣٣) برقم: (٣١٠٩٨- ٣١٠٩٩) عن قتادة، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٥١) عنه، وابن عطية في «تفسيره» (٥/ ٧١)، وابن كثير (٤/ ١٤١).
(٣) أخرجه أبو داود (١/ ٥٢٤) كتاب «الزكاة» باب: عطية من سأل بالله عز وجل (١٦٧٢)، (٢/ ٧٥٠) كتاب «الأدب» باب: في الرجل يستعيذ من الرجل (٥١٠٩)، وأحمد (٢/ ٦٨، ١٢٧)، والنسائي (٥/ ٨٢) كتاب «الزكاة» باب: من سأل بالله عز وجل (٢٥٦٧)، والحاكم (١/ ٤١٢)، وابن حبان (٨/ ١٩٩) كتاب «الزكاة» باب: المسألة والأخذ وما يتعلق به من المكافأة والثناء والشكر، ذكر الأمر بالمكافأة لمن صنع إليه معروف (٣٤٠٨)، وأبو نعيم في «الحلية» (٩/ ٥٦).
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، قد تابع عمار بن زريق على إقامة هذا الإسناد:
أبو عوانة، وجرير بن عبد الله الحميد، وعبد العزيز بن مسلم القملي عن الأعمش.
196
وقوله: فَدَعا رَبَّهُ قبله محذوفٌ، تقديرُهُ: فما أجابوه لِمَا طُلِبَ منهم.
وقوله: فَأَسْرِ قبله محذوفٌ، أي: قَالَ اللَّهُ له فَأَسْرِ بِعبادِي، قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «١» : السرى: سَيْرُ الليل، و «الإدْلاَجُ» سَيْرُ السَّحَرِ، و «التَّأْوِيبُ» : سير النهار، ويقال: سرى وأسرى، انتهى.
واخْتُلِفَ في قوله تعالى: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً متى قالها لموسى؟ فقالت فرقة: هو كلامٌ مُتَّصِلٌ بما قبله، وقال قتادَةُ وغيره: خُوطِبَ به بعد ما جاز البحر «٢»، وذلك أَنَّهُ هَمَّ أَنْ يضرب البَحْر ليلتئم خَشْيَةَ أن يدخل فرعون وجنوده وراءه، ورَهْواً معناه: ساكناً كما جُزْتَهُ، قاله ابن عباس «٣»، وهذا القول هو الذي تؤيِّده اللغَةُ ومنه قول القُطَامِيِّ:
[البسيط]
يَمْشِينَ رَهْواً فَلاَ الأَعْجَازُ خَاذِلَة وَلاَ الصُّدُورُ عَلَى الأَعْجَازِ تَتَّكِلُ «٤»
ومنه: [البسيط]
وَأُمَّةٌ خَرَجَتْ رَهْواً إلى عِيد.........
أي: خرجوا في سكون وتمهّل.
فقيل لموسى ع: اترك البَحْرَ سَاكِناً على حاله من الانفراق ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٢٥ الى ٣٦]
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤)
إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦)
(١) ينظر: «أحكام القرآن» (٤/ ١٦٩١).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٢٣٤) برقم: (٣١١٠١- ٣١١٠٢) عن قتادة نحوه، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٥١)، وابن عطية (٥/ ٧٢). [.....]
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٢٣٤- ٢٣٥) برقم: (٣١١٠٣، ٣١١٠٥)، وذكره ابن عطية (٥/ ٧٢)، وابن كثير (٤/ ١٤١).
(٤) البيت في «ديوانه» ص: (٤)، وينظر: «البحر المحيط» (٨/ ٣١)، و «المحرر الوجيز» (٥/ ٧٢)، و «الدر المصون» (٦/ ١١٥)، في «المحرر» :«يمشون».
197
وقوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا «كم» للتكثير، أي: كَمْ تَرَكَ هؤلاءِ المُغْتَرُّونَ من كثرة الجنَّات والعيونِ، فَرُوِيَ أَنَّ الجناتِ كَانَتْ مُتَّصِلَةً/ ضِفَّتَيِ النيلِ جميعاً من رشيد إلى أُسْوَانَ، وأَمَّا العيونُ فيحتملُ أَنَّه أراد الخُلْجَانَ، فشبهها بالعيون، ويحتمل أَنَّها كانت ونَضِبَتْ، ذكر الطُّرْطُوشِيُّ في «سِرَاجِ الملوك» له، قال: قال أبو عبد اللَّه بن حَمْدُونَ: كنت مع المُتَوَكِّلِ لما خرج إلى دمشقَ، فركِبَ يوماً إلى رُصَافَةِ هشام بن عبد الملك، فنظر إلى قُصُورِها، ثم خرج، فنظر إلى دَيْرٍ هناك قديمٍ حَسَنِ البناءِ بين مزارعَ وأشجارٍ، فدخله، فبينما هو يطوفُ به إذ بَصُرَ برُقْعَةٍ قد أُلْصِقَتْ في صدره فأمر بقلعها، فإذا فيها مكتوبٌ هذه الأبياتُ: [الطويل]
أَيَا مَنْزِلاً بالدَّيْرِ أَصْبَحَ خَالِياً تَلاَعَبُ فِيهِ شَمْأَلٌ وَدَبُورُ
كَأَنَّكَ لَمْ يَسْكُنْكَ بِيضٌ أَوانِسٌ وَلَمْ تَتَبَخْتَرْ في قِبَابِكَ حُورُ
وَأَبْنَاءُ أَمْلاَكٍ غَوَاشِمُ سَادَةٌ صَغِيرُهُمُو عِنْدَ الأَنَامِ كَبِيرُ
إذَا لَبِسُوا أَدْرَاعَهُمْ فَعَوَابِس وَإنْ لَبِسُوا تِيجَانَهُمْ فَبُدُورُ
على أَنَّهُمْ يَوْمَ اللِّقَاءِ ضَرَاغِمٌ وَأَنَّهُمُو يَوْمَ النَّوَالِ بُحُورُ
لَيَالِي هِشَامٌ بالرُّصَافَةِ قَاطِنٌ وَفِيكَ ابنه يَا دَيْرُ وَهْوَ أَمِيرُ
إذِ الْعَيْشُ غَضٌّ وَالخِلاَفَةُ لَذَّةٌ وَأَنْتَ طَرُوبٌ وَالزَّمَانُ غَرِيرُ
وَرَوْضُكَ مُرْتَادٌ وَنَوْرُكَ مُزْهِرٌ وَعَيْشُ بَنِي مَرْوَانَ فِيكَ نَضِيرُ
بلى فَسَقَاكَ الْغَيْثُ صَوْبَ سَحَائِب عَلَيْكَ لَهَا بَعْدَ الرَّوَاحِ بُكُورُ
تَذَكَّرْتُ قَوْمِي فِيكُمَا فَبَكَيْتُهُمْ بِشَجْوٍ وَمِثْلِي بِالْبُكَاءِ جَدِيرُ
فَعَزَّيْتُ نَفْسِي وَهْيَ نَفْسٌ إذَا جرى لَهَا ذِكْرُ قَوْمِي- أَنَّةٌ وَزَفِيرُ
لعلّ زمانا جار يوما عليهم و لَهُمْ بِالَّذِي تَهْوَى النُّفُوسُ- يَدُورُ
فَيَفْرَحَ مَحْزُونٌ وَيَنْعَمَ بَائِسٌ وَيُطْلَقَ مِنْ ضِيقِ الوَثَاقِ أَسِيرُ
رُوَيْدَكَ إنَّ/ الدَّهْرَ يَتْبَعُهُ غَدٌ وَإنَّ صُرُوفَ الدَّائِرَاتِ تَدُورُ
فلما قرأها المتوكِّل، ارتاع، ثم دعا صاحب الدَّيْرِ، فسأله عَمَّن كتبها، فقال: لا عِلْمَ لي به، وانصرف، انتهى، وفي هذا وشبهه عِبْرَة لأولِي البصائر المستَيْقِظِينَ، اللهم، لا تجعلْنَا مِمَّنْ اغتر بزَخَارِفِ هذه الدارِ!!.
[من الطويل]
198
أَلاَ إنَّما الدُّنْيَا كَأَحْلاَمِ نَائِم وَمَا خَيْرُ عَيْشٍ لاَ يَكُونُ بِدَائِمِ
وقرأ جمهور الناس: «ومَقَامٍ» - بفتح الميم- «١» قال ابن عباس وغيره: أراد المنابر «٢».
وعلى قراءة ضم الميم «٣» قال قتادة: أراد: المواضِعَ الحِسَانَ من المساكِنِ وغيرِهَا «٤»، والقولُ بالمنابرِ بعيدٌ جدًّا، و «النَّعْمَةُ» - بفتح النون-: غَضَارَةُ العيشِ ولَذَاذَةُ الحياة، «والنِّعْمَةُ» - بكسر النون-: أَعَمُّ من هذا كُلُّه، وقد تكون الأمراضُ والمصائبُ نِعَماً، ولا يقال فيها: «نَعْمَةٌ» - بالفتح-، وقرأ الجمهور: «فاكهين» «٥» ومعناه: فَرِحينَ مسرورين كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ أي: بعد القِبْطِ، وقال قتادة: هم بنو إسرائيل «٦»، وفيه ضعف، وقد ذكر الثعلبيُّ عن الحَسَنِ أَنَّ بني إسرائيل رَجَعُوا إلى مِصْرَ بعد هلاك فِرْعَوْنَ «٧»، واختلف المتأوِّلُون في معنى قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ، فقال ابن عباس وغيره: وذلك أَنَّ الرجُلَ المؤمنَ إذا مَاتَ، بكى عليه من الأرض موضِعُ عباداتِهِ أربعين صَبَاحاً، وبكى عليه من السماءِ مَوْضِعُ صُعُودِ عمله، قالوا: ولم يكن في قوم فرعونَ مَنْ هذه حَالُهُ، فَتَبْكِي عليهم السماء والأرض «٨»، قال- عليه السلام «٩» -: والمعنى الجَيِّدُ في الآية: أَنَّها استعارةٌ فصيحةٌ تَتَضمَّن تحقير أمرهم، وأَنَّه لم يتغير لأجل هلاكهم شيء، ومثله قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ»، وفي الحديثِ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم/ أنّه قال: «ما مات
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٧٢)، و «البحر المحيط» (٨/ ٣٦)، و «الدر المصون» (٦/ ١١٥).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٢٣٦) برقم: (٣١١١٥- ٣١١١٦) عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وذكره ابن عطية (٥/ ٧٢)، وابن كثير (٤/ ١٤١) عن مجاهد، وسعيد بن جبير، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٧٤٧)، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
(٣) وقرأ بها ابن هرمز، وقتادة، وابن السميفع، ونافع في رواية خارجة.
ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ٣٦)، و «الدر المصون» (٦/ ١١٥).
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٢٣٦) برقم: (٣١١١٧) عن قتادة نحوه، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٥١)، وابن عطية (٥/ ٧٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٧٤٧)، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٧٣)، و «البحر المحيط» (٨/ ٣٦)، و «الدر المصون» (٦/ ١١٥).
(٦) أخرجه الطبري (١١/ ١٣٩) برقم: (٣١١١٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ٧٣).
(٧) ذكره ابن عطية (٥/ ٧٣).
(٨) أخرجه الطبري (١١/ ٢٣٧- ٢٣٨) برقم: (٣١١٢٢، ٣١١٢٧)، وذكره ابن عطية (٥/ ٧٣)، وابن كثير (٤/ ١٤٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٧٤٧)، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في «شعب الإيمان».
(٩) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٧٣).
199
مُؤْمِنٌ في غُرْبَةٍ غَابَتْ عَنْهُ فِيهَا بَوَاكِيهِ، إلاَّ بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ والأَرْضُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآية، وَقَالَ: إنَّهُمَا لاَ يَبْكِيَانِ على كافر» «١» قال الداوديّ. وعن مجاهد: ما مات مؤمنٌ إلاَّ بكَتْ عليه السماءُ والأرضُ، وقال: أفي هذا عجبٌ؟! وما للأرضِ لا تَبْكِي على عبدٍ كانَ يَعْمُرُها بالرُّكُوعِ والسجودِ، وما للسماء لا تَبْكِي على عبدٍ كان لتسبيحِهِ وتكبيرِهِ فيها دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ؟! «٢» انتهى.
وروى ابنُ المبارك في «رقائقه» قال: أخبرنا الأوْزاعيُّ قال: حدَّثني عطاءٌ الخُرَاسَانِيُّ، قال: مَا مِنْ عَبْدٍ يسجد للَّهِ سَجْدَةً في بُقْعَةٍ من بِقَاعِ الأرضِ، إلاَّ شَهِدَتْ له يَوْمَ القيامةِ، وبَكَتْ عليه يَوْمَ يَمُوتُ، انتهى، وروى ابن المبارك أَيْضاً عن أبي عُبَيْدٍ صاحبِ سليمانَ «أَنَّ العبد المؤمن إذا مات تنادَتْ بِقَاعُ الأرضِ: عَبْدُ اللَّهِ المُؤْمِنُ مَاتَ قَالَ: فَتَبْكِي عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ، فيقولُ الرحمن تبارَكَ وتعالى: مَا يُبْكِيكُمَا على عَبْدِي؟ فَيَقُولاَنِ: يَا رَبَّنَا، لَمْ يَمْشِ على نَاحِيَةٍ مِنَّا قَطُّ إلاَّ وَهُوَ يَذْكُرُكَ». اهـ.
ومُنْظَرِينَ أي: مؤخّرين والْعَذابِ الْمُهِينِ: هو ذبح الأبناءِ، والتَّسْخِيرُ، وغيْرُ ذلك.
وقوله: عَلى عِلْمٍ أي: على شَيْءٍ قد سَبَقَ عندنا فِيهِمْ، وثَبَتَ في علمنا أَنَّه سَيَنْفُذُ، ويحتملُ أنْ يكون معناه: على علمٍ لهم وفضائلَ فيهم على العالمين، أي: عَالِمِي زمانهم بدليل أَنَّ أُمَّةَ محمد خير أُمَّةٍ أخرجت للناس وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ: لفظ جامع لما أجرى اللَّه من الآيات على يدي موسى، ولما أنعم به على بني إسرائيل، والبلاء في هذا الموضع: الاختبارُ والاِمتحانُ كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: ٣٥] الآية، ومُبِينٌ بمعنى: بَيِّنٌ ثم ذَكَرَ تعالى قريشاً على جهة الإنكار لقولهم وإنكارهم للبَعْثِ، فقال: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ أي: ما هي إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي: بمبعوثين، وقول قريش: فَأْتُوا بِآبائِنا مخاطبة للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم طلبوا منه أَنْ يُحْيَي اللَّهُ لَهُمْ بَعْضَ آبائِهِمْ، وَسَمَّوْا له قُصَيًّا وغيره، كي يسألوهم عمّا رأوا في آخرتهم.
(١) أخرجه ابن جرير (١١/ ٢٣٨) برقم: (٣١١٢٩)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٧٤٨)، وعزاه إلى ابن أبي الدنيا.
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٢٣٨) برقم: (٣١١٢٥، ٣١١٢٨) عن مجاهد، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ١٤٢).
200

[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٧ الى ٤٢]

أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١)
إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢)
وقوله سبحانه: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ... الآية، آية تقرير ووعيد، وتُبَّعٍ: مَلِكٌ حِمْيَرِيٌّ، وكان يقال لكل ملك منهم: «تُبَّع» إلاَّ أَنَّ المُشَارَ إليه في هذه الآية رجل صالح روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من طريق سَهْلِ بنِ سَعْدٍ «أَنَّ تُبَّعاً هَذَا أَسْلَمَ وَآمَنَ بِاللَّهِ» «١»، وقد ذكره ابن إسْحَاقَ في السيرة، قال السُّهَيْلِيُّ: وبَعْدَ ما غزا تُبَّعٌ المدينة، وأراد خَرَابَهَا أُخْبِرَ بِأَنَّها مُهَاجَرُ نَبِيٍّ اسمه أَحْمَدُ، فانصرف عَنْهَا، وقال فيه شعراً وأودعه عند أهلها، فكانوا يتوارثونه كابراً عن كابر، إلى أَنْ هاجر إليهم النبي ع فَأَدَّوْهُ إليه، ويقال: إنَّ الكتاب والشعر [كانا] عند أبي أيوبَ الأنصاريِّ [ومنه] :[من المتقارب]
شَهِدتُّ على أَحْمَدٍ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بَارِي النَّسَمْ
فَلَوْ مُدَّ عُمْرِي إلى عُمْرِهِ لَكُنْتُ وَزِيراً لَهُ وابن عَمّ «٢»
وذكر الزَّجَّاجُ «٣»، وابن أبي الدنيا: أَنَّه حُفِرَ قَبْرٌ ب «صنعاء» في الإِسلام، فَوُجِدَ فيه امرأتانِ صحيحتان، وعند رأسهما لَوْحٌ من فِضَّةٍ مكتوبٌ فيه بالذَّهَبِ: هذا قَبْرُ حبى ولَمِيسَ، ويروى: وتُماضِرَ ابنتي تُبَّعٍ، ماتتا وهما تَشْهَدَانِ أَنْ لاَ إله إلاَّ اللَّه، ولا تُشْرِكَانِ به شَيْئاً، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما، انتهى، ويَوْمَ الْفَصْلِ: هو يَوْمُ القيامة وهذا هو الإخْبَارُ بِالبَعْثِ، و «المولى» في هذه الآية: يَعُمُّ جميع الموالي.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٤٣ الى ٤٩]
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)
وقوله سبحانه: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ روي عن ابن زيد أنّ الأثيم
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٧٤٩)، وعزاه إلى الطبراني، وابن مردويه. [.....]
(٢) وبعدها:
وجاهدت بالسيف أعداءه وفرّجت عن صدره كلّ هم
ينظر: «الروض الأنف» (١/ ٣٥).
(٣) ينظر: «معاني القرآن» (٤/ ٤٢٧).
المشار إليه أَبُو جَهْلٍ، ثم هي بالمعنى تتنَاوَلُ كُلَّ أثيمٍ، وهو كُلُّ فاجر، رُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ، جَمَعَ أبو جَهْلٍ عَجْوَةً وَزُبْداً، وقال لأصحابه: تَزَقَّمُوا، فهذا هو الزَّقُّومُ، وهو طَعَامِي الذي حَدَّثَ به محمَّدٌ، قال ع «١» : وإنَّما قصد بذلك ضَرْباً من المغالطة والتلبيس عَلَى الجَهَلَةِ.
وقوله سبحانه: كَالْمُهْلِ قال ابن عباس، وابن عمر «٢» :«المُهْلُ» : دُرْدِيُّ الزَّيْتِ وعَكَرُهُ، وقال ابن مَسْعُودٍ وغيره «٣» :«المُهْلُ» : ما ذاب مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، والمعنى: أَنَّ هذه الشجَرَةَ إذا طَعِمَهَا الكافِرُ في جَهَنَّمَ، صارَتْ في جوفه تَفْعَلُ كما يفعل المُهْلُ المذاب من الإحراق والإفساد، ، والْحَمِيمِ: الماءُ السُّخْنُ الذي يتطايَرُ من غليانه.
وقوله: خُذُوهُ... الآية، أي: يقال يومئذ للملائكة: خذوه، يعني الأثيم فَاعْتِلُوهُ و «العَتْلُ» : السَّوْقُ بعُنْفٍ وإهانةٍ، ودَفْعٌ قَوِيٌّ مُتَّصِلٌ، كما يُسَاقُ أبداً مرتكبُ الجرائمِ، و «السَّوَاء» : الوَسَط، وقيل: المُعْظمُ، وذلك متلازِمٌ.
وقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ مخاطبة على معنى التّقريع.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٥٠ الى ٥٤]
إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤)
وقوله سبحانه: إِنَّ هذا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ: عبارة عن قولٍ يُقَالُ للكَفَرَةِ، ثم ذكر تعالى حالة المُتَّقِينَ، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ أي: مأمون، «والسُّنْدُسُ» : رقيقُ الحَرِيرِ، و «الإسْتَبْرَقُ» : خَشِنُهُ.
وقوله: مُتَقابِلِينَ: وَصْفٌ لمجالسِ أهل الجَنَّةِ، لأَنَّ بعضهم لا يستدبر بعضاً في المجالس، وقرأ الجمهور: وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ وقرأ ابن مسعود: «بعِيسٍ عِينٍ»، وهو جمع «عَيْسَاءَ»، وهي البيضاء «٤» وكذلك هي من النوق، وروى أبو قرصافة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «إخْرَاجُ القُمَامَةِ مِنَ المَسْجِدِ مُهُورُ الحُورِ العِينِ» قال الثعلبيُّ: قال مجاهد: يَحَارُ
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٧٦).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٢٤٣- ٢٤٤) برقم: (٣١١٥٢- ٣١١٥٥) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية (٥/ ٧٦).
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ٢١٨) برقم: (٢٣٠٤٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ٧٦).
(٤) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (١٣٨)، و «المحتسب» (٢/ ٢٦١)، و «الكشاف» (٤/ ٢٨٣)، و «المحرر الوجيز» (٥/ ٧٨).
فِيهِنَّ الطَّرْفُ من بياضهنَّ وصفاء لونهنَّ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِنَّ من وراء ثيابِهِنَّ، ويَرَى الناظر وَجْهَهُ في كعب إحداهُنَّ كالمرآة من رِقَّةِ الجلد وصفاء اللون «١»، انتهى.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٥٥ الى ٥٩]
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)
وقوله سبحانه: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ أي: يدعون الخَدَمَةَ والمتصرِّفين.
قال أبو حيان «٢» : إِلَّا الْمَوْتَةَ: استثناء مُنْقَطِعٌ، أي: لكن الموتة الأولى ذَاقُوهَا، انتهى، ، والضمير في يَسَّرْناهُ عائدٌ على القرآن بِلِسانِكَ أي: بِلُغَة العرب قال الوَاحِدِيُّ: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ: أي: يَتَّعِظُون، انتهى، وفي قوله تعالى: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ وعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم ووعيد للكافرين.
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٢٤٨) برقم: (٣١١٧٦)، عن ابن نجيح عن مجاهد، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٥٥).
(٢) ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ٤١).
Icon