تفسير سورة المرسلات

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة المرسلات
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» كلمة من سمعها بسمع الوجد وفي له فلم ينظر إلى أحد، ومن سمعها بسمع العلم جادله فلم يبخل بروحه على أحد.
ومن سمعها بسمع التوحيد جرّد سرّه عن إيثار «١» ما سواه في الدنيا والعقبى عينا وأثرا فما كان هذا كله إلا حاصلا به كائنا منه.
قوله جل ذكره:
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ١ الى ١٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥)
«الْمُرْسَلاتِ» : الملائكة، «عُرْفاً» أي: أرسلوا بالمعروف من الأمر، أو كثيرين كعرف الفرس.
«فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً» الرياح الشديدة (العواصف تأتى بالعصف وهو ورق الزرع وحطامه).
«وَالنَّاشِراتِ نَشْراً» الأمطار (لأنها تنشر النبات. فالنشر بمعنى الإحياء). ويقال: السّحب تنشر الغيث.
ويقال: الملائكة.
«فَالْفارِقاتِ فَرْقاً» الملائكة تفرق بين الحلال والحرام.
«فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً».
(١) هكذا في ص وهي في م (ثياب) وهي خطأ من الناسخ.
الملائكة: تلقى الوحى على الأنبياء عليهم السلام إعذارا وإنذارا..
وجواب القسم:
«إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ» فأقسم بهذه الأشياء: إنّ القيامة لحقّ.
قوله جل ذكره: «فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ» إنما تكون هذه القيامة. و «طُمِسَتْ» : ذهب ضوؤها.
«وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ» ذهب بها كلّها بسرعة، حتى لا يبقى لها أثر.
«وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ» أي: جعل لها وقتا وأجلا لفصل القضاء يوم القيامة.
ويقال: أرسلت لأوقات معلومة.
«وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ» على جهة التعظيم له.
«وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» مضى تفسير معنى الويل.
ويقال في الإشارات: فإذا نجوم المعارف طمست بوقوع الغيبة.
وإذا الجبال نسفت: القلوب الساكنة بيقين الشهود حرّكت عقوبة على ما همّت بالذي لا يجوز. فويل يومئذ لأرباب الدعاوى الباطلة الحاصلة من ذوى القلوب المطبقة الخالية من المعاني.
قوله جل ذكره:
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ١٦ الى ٢٠]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠)
الذين كذّبوا رسلهم، وجحدوا آياتنا فمثلما أهلكنا الأولين كذلك نفعل بالمجرمين إذا فعلوا مثل فعلهم.
«وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» الذين لا يستوى ظاهرهم وباطنهم في التصديق.
وهكذا كان المتقدمون من أهل الزّلّة والفترة في الطريقة، والخيانة في أحكام المحبة فعذّبوا بالحرمان في عاجلهم، ولم يذوقوا من المعاني شيئا.
قوله جل ذكره: «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» ؟.
أي: حقير. وإذ قد علمتم ذلك فلم لم تقيسوا أمر البعث عليه؟
ويقال: ذكّرهم أصل خلقتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم فإنه لا جنس من المخلوقين والمخلوقات أشدّ دعوى من بنى آدم. فمن الواجب أن يتفكّر الإنسان في أصله... كان نطفة وفي انتهائه يكون جيفة، وفي وسائط حاله كنيف في قميص!! فبالحريّ ألّا يدلّ ولا يفتخر:
كيف يزهو من رجيعه... أبد الدهر ضجيعه
فهو منه وإليه... وأخوه ورضيعه
وهو يدعوه إلى الحشّ «١»... بصغر فيطيعه؟!!
ويقال: يذكّرهم أصلهم.. كيف كان كذلك.. ومع ذلك فقد نقلهم إلى أحسن صورة، قال تعالى:
«وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ»، والذي يفعل ذلك قادر على أن يرقّيك من الأحوال الخسيسة إلى تلك المنازل الشريفة.
قوله جل ذكره:
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٢٥ الى ٣١]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩)
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١)
«كِفاتاً» أي: ذات جمع فالأرض تضمهم وتجمعهم أحياء وأمواتا فهم يعيشون على ظهرها، ويودعون بعد الموت في بطنها..
«وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً».
(١) الحش بفتح الحاء وضمها- الكنيف.
والمقصود: كيف ترهو أيها الإنسان، وإن ما يقذفه جسمك من فضلات ملازم لك حياتك: ليلك ونهارك، وأنت تطيعه صاغرا إذا أمرك ودعاك بالذهاب إلى الحش؟
أي: جبالا مرتفعات، وجعلنا بها الماء سقيا لكم. يذكّرهم عظيم منّته بذلك عليهم.
والإشارة فيه إلى عظيم منّته أنّه لم يخسف بكم الأرض- وإن عملتم ما عملتم.
«انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» يقال لهم: انطلقوا إلى النار التي كذّبتم بها.
«انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ» كذلك إذا لم يعرف العبد قدر انفتاح طريقه إلى الله بقلبه، وتعزّزه بتوكله.. فإذا رجع إلى الخلق عند استيلاء الغفلة نزع الله عن قلبه الرحمة، وانسدّت عليه طرق رشده، فيتردد من هذا إلى هذا إلى هذا.
ويقال لهم: انطلقوا إلى ما كنتم به تكذّبون. والاستقلال بالله جنّة المأوى، والرجوع إلى الخلق قرع باب جهنم... وفي معناه أنشدوا:
ولم أر قبلى من يفارق جنّة ويقرع بالتطفيل باب جهنم
ثم يقال لهم إذا أخذوا في التنصّل والاعتذار:
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٨]
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨)
فإلى أن تنتهى مدّة العقوبة فحينئذ: ان استأنفت وقتا استؤنف لك وقت. فأمّا الآن...
فصبرا حتى تنقضى أيام العقاب.
«هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ» فعلنا بكم ما فعلنا بهم في الدنيا من الخذلان، كذلك اليوم سنفعل بكم ما نفعل بهم من دخول النيران قوله جل ذكره:
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٤١ الى ٤٨]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨)
673
اليوم... فى ظلال العناية والحماية، وغدا... هم في ظلال الرحمة والكلاءة.
اليوم.. فى ظلال التوحيد، وغدا.. فى ظلال حسن المزيد.
اليوم.. فى ظلال المعارف، وغدا.. فى ظلال اللطائف.
اليوم.. فى ظلال التعريف، وغدا.. فى ظلال التشريف.
«كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» اليوم تشربون على ذكره.. وغدا تشربون على شهوده، اليوم تشربون بكاسات الصفاء وغدا تشربون بكاسات الولاء.
«إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» والإحسان من العبد ترك الكلّ لأجله! كذلك غدا: يجازيك بترك كلّ الحاصل عليك لأجلك.
قوله جل ذكره: «كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ» هذا خطاب للكفار، وهذا تهديد ووعيد، والويل يومئذ لكم.
قوله جل ذكره: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ» كانوا يصروّن على الإباء والاستكبار فسوف يقاسون البلاء العظيم «١».
[ذكر في التفسير: أن المتقين دائما في ظلال الأشجار، وقصور الدرّ مع الأبرار، وعيون جارية وأنهار. ، وألوان من الفاكهة والثمار... من كل ما يريدون من الملك الجبّار. ويقال لهم في الجنة: كلوا من ثمار الجنات، واشربوا شرابا سليمان من الآفات. «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» من الطاعات. «كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» من الكرامات. قيل: كُلُوا وَاشْرَبُوا «هَنِيئاً» :
لا تبعة عليكم من جهة الخصومات، ولا أذيّة في المأكولات والمشروبات.
وقيل: الهنيء الذي لا تبعة فيه على صاحبه، ولا أذيّة فيه من مكروه لغيره.]
(١) إلى هنا انتهى تفسير السورة في م النسخة ص. وكل ما بين القوسين الكبيرين موجود في النسخة م. [.....]
674
Icon