تفسير سورة الإنشقاق

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الإنشقاق من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

محالة، وأن الناس يلقون شدائد إلأهوال حتى يفرغوا من حسابهم، فيصير كل أحد إلى ما أعد له من جنة أو نار.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)﴾ إعرابه كإعراب ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١)﴾؛ أي: إذا انشقت وانفطرت وانفتحت بغمام أبيض.. يخرج منها، وهو نظير قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ﴾، والباء للآلة، كما في قولك: انشقت الأرض بالنبات.
وفي ذلك الغمام الملائكة ينزلون في أيديهم صحائف الأعمال، أو فيه ملائكة العذاب، وكان ذلك أشد وأفظع من حيث إنه جاء العذاب من موضع الخير، فيكون انشقاق السماء لنزول الملائكة بالأوامر الإلهية، وقيل: للسقوط والانتقاض، وقيل: لهول القيامة، وكيف لا تنشق وهي في قبضة قهره تعالى أقل من خردلة، ولا مانع من جميع هذه الأقوال، فإنها تنشق لهيبة الله تعالى، فتنزل الملائكة، ثم يؤول أمرها إلى الفساد والاختلال.
وعن علي رضي الله عنه: تنشق من المغيرة، وهي بفتح الميم بوزن المضرة باب السماء؛ أي: البياض المستطيل في وسط السماء من جانبها، وأهل الهيئة يقولون: إنها نجوم صغار مختلطة، غير متميزة في الحسن. اهـ من "القرطبي".
سميت بذلك لأنها كأثر المجر، والمجر: المحل الذي يجر عليه الحبل من البئر عند إلاستقاء. قيل: تنشق من ذلك الموضع، كأنه مفصل ملتئم، فتصدع منه
٢ - ﴿وَأَذِنَتْ﴾؛ أي: استمعت وأصغت ﴿لِرَبِّهَا﴾؛ أي: لأمر ربها إياها بالانشقاق، وأذعنت لتأثير قدرته تعالى فيها؛ حيث تعلقت قدرته بانشقاقها، وانقادت له انقياد المأمور المطواع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع، فهو استعارة تمثيلية متفرعة على المجاز المرسل، يعني: إذا أطلق الإذن، وهو: الاستماع في حق من له حاسة السمع، والاستماع بها: يراد بها الإجابة، والانقياد مجازًا، وإذا أطلق في حق نحو السماء مما ليس في شأنه الاستماع والقبول.. يكون استعارة تمثيلية، فقوله: ﴿أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ يدل على نفوذ القدرة في الإيجاد والإبداع من غير ممانعة أصلًا، وقوله: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا﴾ يدل على نفوذ القدرة في التفريق والإعدام من غير ممانعة أصلًا والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليها للإشعار بعلة الحكم ﴿وَحُقَّتْ﴾؛ أي:
السماء؛ أي: جعلت حقيقة حرية بالاستماع والانقياد، إذ هي مربوبة ومصنوعة له تعالى؛ أي: شأنها ذلك بالنسبة إلى القدرة القاهرة الربانية التي يتأتى بها كل مقدور، ولا يتخلف عنها أمر من الأمور، من قولهم: هو حقوق بكذا، وحقيق به، وقال الضحاك: وحقت؛ أي: أطاعت، وحق لها أن تطيع ربها؛ لأنه خلقها.
٣ - ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣)﴾؛ أي: بسطت بإزالة جبالها وآكامها عن مقرها، وتسويتها بحيث صارت كالصحيفة الملساء، أو زيدت سعة وبسطة من أحد وعشرين جزءًا إلى تسعة وتسعين جزءًا، لوقوف الخلائق عليها للحساب، وإلا لم تسعهم، من مده: بمعنى: أمده؛ أي: زاده، وفي الحديث: "إذا كان يوم القيامة.. مد الله الأرض مد الأديم، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه"، يعني: لكثرة الخلائق فيها، وقوله: "مد الأديم"؛ لأن الأديم إذا مد زال عنه كل انثناء فيه واستوى، وفي بعض الروايات: "مد الأديم العكاظي"، قال في "القاموس": - هو كغراب - سوق بصحراء بين النخلة والطائف، كانت تقوم هلال ذي القعدة، وتستمر عشرين يومًا تجتمع قبائل العرب، فيتعاكظون؛ أي: يتفاخرون ويتناشدون، ومنه مد الأديم العكاظي. انتهى..
٤ - ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا﴾؛ أي: رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز إلى ظاهرها، نظير قوله: ﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (٢)﴾، وهو من الإسناد المجازي، وإلا فالإلقاء والإخراج لله تعالى.
فإن قلت: إخراج الكنوز يكون وقت خروج الدجال لا يوم القيامة؟
قلت: يوم القيامة وقت متسع يجوز اعتباره من وقت خروجه ولو مجازًا؛ لأنه من أشراطه الكبرى، فيكون إخراج الكنوز عند قرب الساعة، وإخراج الموتى عند البعث ﴿وَتَخَلَّتْ﴾؛ أي: وخلت عما فيها غاية الخلو حتى لا يبقى فيها شيء منه، كأنها تكلفت في ذلك أقصى جهدها، كما يقال: تكرم الكريم، وترحم الرحيم، إذا بلغا جهدهما في الكرم والرحمة، وتكلفا فوق ما في طبعهما.
٥ - ﴿وَأَذِنَتْ﴾ وانقادت ﴿لِرَبِّهَا﴾؛ أي: لأمر ربها في الإلقاء والتخلي. ﴿وَحُقَّتْ﴾؛ أي: جعلت حقيقة حرية بذلك الانقياد؛ أي: شأنها ذلك بالنسبة إلى القدرة الربانية، وذكره مرتين؛ لأن الأول متصل بالسماء، والثاني بالأرض، وإذا اتصل كل واحد بغير ما اتصل به
256
الآخر.. لم يكن تكرارًا، وجواب ﴿إذا﴾ محذوف تقديره: أي: وإذا وقعت هذه الأمور.. كان من الأهوال ما تقصر عن بيانه العبارة، وقيل: إن الجواب قوله: ﴿فَمُلَاقِيهِ﴾؛ أي: فأنت ملاقيه، وبه قال الأخفش، وقال المبرد: إن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا؛ أي: يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه إذا السماء انشقت. وقال المبرد أيضًا: إن الجواب قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧)﴾، وبه قال الكسائي، والتقدير: إذا السماء انشقت، فمن أوتي كتابه بيمينه.. فحكمه كذا، وقيل: هو: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ﴾ على إضمار الفاء، وقيل إنه: يا أيها الإنسان على إضمار القول؛ أي: يقال له يا أيها الإنسان، وقيل: الجواب محذوف تقديره: بعثتم، أو لاقى كل إنسان عمله، وقيل: هو ما صرح به في سورة التكوير؛ أي: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (١٤)﴾.
وهذا كله على تقدير: أن ﴿إذا﴾ شرطية، وقيل ليست شرطية، بل هي مجردة عن معنى الشرط منصوبة بفعل محذوف؛ أي: اذكر يا محمد للناس قصة وقت انشقاق السماء، وقصة وقت مد الأرض، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته، والأول أولى وأوضح.
وحاصل معنى الآيات (١): إذا انشقت السماء لفساد تركيبها، واختلال نظامها حينما يريد الله سبحانه خراب هذا العالم بحدث من الأحداث، كأن يمر كوكب في سيره بالقرب من كوكب آخر، فيتجاذبان ويتصادمان، فيضطرب نظام العالم العلوي بأسره، ويحدث من ذلك غمام يظهر في مواضع متفرقة من هذا الفضاء الواسع.
﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا﴾؛ أي: استمعت، وانقادت لتأثير قدرته، وفعلت فعل المطواع الذي إذا أمر أنصت وأذعن وامتئل ما أمر به، وفي الحديث: "ما أذن الله لشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن". ﴿وَحُقَّتْ﴾؛ أي: وحق لها أن تمتثل؛ لأنها مخلوقة من مخلوقاته، وهي في قبضته، فإن أراد تبديد نظامها.. فعل، ولم يكن لها أن تعصي إرادته.
﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣)﴾؛ أي: وإذا اضطربت الأرض، ودكت جبالها،
(١) المراغي.
257
وتقطعت أوصالها، وفقدت ما بينها من التماسك، فليس لها هذا الاندماج المشاهد الآن، بل تمد مد الأديم العكاظي، كما روي عن ابن عباس: والأديم: الجلد، والعكاظي: المدبوغ في عكاظ. والمراد: أنه لا انشقاق فيها، ولا اعوجاج.
﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا﴾؛ أي: رمت ما في جوفها من الموتى والمعادن، وأخرجت كل ذلك إلى ظاهرها، ونحو هذا قوله تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (١) وَأَخْرَجَت الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (٢)﴾ وقوله: ﴿وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤)﴾، وقوله: ﴿إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ﴾. ﴿وَتَخَلَّتْ﴾؛ أي: خلت من جميع ما في جوفها، وربما قذفته الحركة العنيفة إلى ما يبعد عن سطحها، فيخلو منه باطن الأرض وظاهرها، وهي في ذلك خاضعة لأوامر ربها، منقادة لمشيئته.
﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٥)﴾؛ أي: واستمعت وأطاعت أوامره؛ لأنها في قبضة القدرة الإلهية تصرفها في الفناء، كما صرفتها في الابتداء. وجواب ﴿إذا﴾ الذي صدرت به السورة محذوفة، كما مر آنفًا؛ لإرادة التهويل على المخاطبين، فكأنه قيل: إذا كان الأمر كذا وكذا مما تقدم ذكره.. ترون جزاء ما عملتم من خير أو شر، فاكدحوا واجتهدوا لعمل ذلك اليوم تفوزوا بالنعيم.
وقصارى ذلك (١): وصف أحوال العالم يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وأنه يكون على غير حاله التي هو عليها في هذه الحياة، فتبدل الأرض غير الأرض، والسموات غير السموات، ويبرز الناس للحساب على ما قدموا في حياتهم من عمل، فيجازيهم على الإحسان إحسانًا وعلى الإساءة سوءًا، وعلينا أن نؤمن بذلك كله، ونكل علم حقيقته ومعرفة كنهه إلى الله تعالى الذي لا يعجزه شي في الأرض ولا في السماء.
٦ - ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ﴾ المراد به: جنس الإنسان، فيشمل المؤمن والكافر، وقيل: هو الإنسان الكافر، والأول أولى لما سيأتي من التفصيل؛ أي: يا جنس الإنسان الشامل للمؤمن والكافر والعاصي، فالخطاب عام لكل مكلف على سبيل البدل، ويقال: هذا أبلغ من العموم؛ لأنه يقوم مقام التنصيص في النداء على مخاطبة كل
(١) المراغي.
258
واحد بعينه، كأنه قيل: يا فلان ويا فلان إلى غير ذلك، ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ﴾؛ أي (١): جاهد ومجد؛ أي: ساع باجتهاد ومشقة وكد ﴿إِلَى﴾ لقاء ﴿رَبِّكَ﴾؛ أي: إلى وقت لقائه، وهو الموت وما بعده من الأحوال الممثلة باللقاء مبالغ في ذلك، وفي الخبر: أنهم قالوا يا رسول الله، فيما نكدح، وقد جفت الأقلام، ومضت المقادير، فقال: "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له"، وقوله: ﴿كَدْحًا﴾؛ أي: اجتهادًا بليغًا، مصدر مؤكد للوصف؛ أي: إنك مجتهد وساع في أشغالك من غير فرق بين أن يكون ذلك الشغل خيرًا أو شرًا؛ أي: مجتهد اجتهادًا بليغًا، وساع سعيًا شديدًا من غير فترة إلى لقاء ربك؛ أي: إلى انقضاء أجلك لا فراغ لك؛ أي: إنك مشغول بعملك مدة حياتك ﴿فَمُلَاقِيهِ﴾ معطوف على ﴿كَادِحٌ﴾: أي: فملاقٍ له؛ أي: لجزاء عملك من خير أو شر عقيب لقاء ربك لا محالة، من غير صارف يلويك عنه، ولا مفر لك منه، ويقال: المعنى: إنك عامل لربك عملًا فملاقٍ عملك يوم القيامة، يعني: أن جدك وسعيك إلى مباشرة الأعمال في الدنيا هو في الحقيقة سعي إلى لقاء جزائها في العقبى، فملاق ذلك الجزاء لا محالة، فعليك أن تباشر في الدنيا بما ينجيك في العقبى، واحذر عما يهلكك فيها، ويوقعك في الخجالة والافتضاح من سوء المعاملة، وفي الحديث: "النادم ينتظر الرحمة، والمعجب ينتظر المقت، وكل عامل سيقدم إلى ما أسلف".
قال القتيبي: معنى الآية: إنك كادح؛ أي: إنك عامل ناصب في طلب معيشتك وكسبك عملًا شديدًا لا فترة فيه إلى لقاء ربك بالموت فملاقيه؛ أي: فأنت ملاقٍ ربك بعملك، فمجازيك عليه خيرًا أو شرًا، وقيل: فملاق كتاب عملك؛ لأن العمل قد انقضى؛ أي (٢): إنك يا ابن آدم متعب نفسك في العمل في دنياك تعبًا حتى ترجع به إلى ربك في الآخرة، فملاق ذلك العمل خيرًا كان أو شرًا في الكتاب الذي فيه بيانه.
وحاصل المعنى (٣): أي أيها الإنسان إنك عامل في هذه الحياة، ومجد في
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
259
عملك، ومبالغ في إدراك الغاية إلى أن تنتهي حياتك، وإن كنت لا تشعر بجدك، أو تشعر به، وتلهو وكل خطوة في عملك فهي في الحقيقة خطوة إلى أجلك، وهناك لقاء الله تعالى، فالموت يكشف عن الروح غطاء الغفلة، ويجلو لها وجه الحق، فتعرف من الله ما كانت تنكره، ويوم البعث يرتفع الالتباس، ويعرف كل عامل ما جر إليه عمله،
٧ - والناس حينئذٍ صنفان:
١ - ﴿فَأَمَّا مَنْ﴾ وهو المؤمن السعيد، و ﴿مَنْ﴾ موصولة، وهو تفصيل لما أجمل فيما قبله ﴿أُوتِيَ﴾ وأعطي؛ أي: يؤتى، وعبر بالماضي لتحققه. ﴿كِتَابَهُ﴾ المكتوب فيه أعماله التي كدح في كسبها ﴿بِيَمِينِهِ﴾؛ لكون كدحه بالسعي فيما يكتبه كاتب اليمين.
والحكمة في الكتابة مع أن الله سبحانه لا يخفى عليه شيء (١): أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب وتعرض على رؤوس الأشهاد.. كان أزجر عن المعاصي، وأن العبد إذا وثق بلطف سيده، واعتمد على عفوه وستره.. لم يحتشم احتشامه من خدمة المطلعين عليه.
٨ - ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ﴾ يوم القيامة بعد مدة مقدرة على ما تقتضيه الحكمة ﴿حِسَابًا يَسِيرًا﴾؛ أي: سهلًا لا مناقشة فيه، ولا اعتراض بما يسوءه ويشق عليه، كما يناقش أصحاب الشمال. والحساب: بمعنى المحاسبة، والمراد به: عد أعمال العباد، وإظهارها للمجازاة، وعن الصديقة رضي الله عنها: هو - أي الحساب اليسير - أن يعرف ذنوبه ثم يتجاوز عنه. يعني: أن يعرض عليه أعماله، ويعرف أن الطاعة منها هذه، والمعصية هذه، ثم يثاب على الطاعة، ويتجاوز عن المعصية، فهذا هو الحساب اليسير؛ لأنه لا شدة على صاحبه ولا مناقشة، ولا يقال له: لم فعلت هذا؟، ولا يطالب بالعذر ولا بالحجة عليه، فانه متى طولب بذلك.. لم يجد عذرًا ولا حجةً، فيفتضح. قالوا إنَّ عصاة المؤمنين داخلة في هذا القسم، فقوله: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨)﴾ من وصف الكل بوصف البعض؛ أي: فالعصاة (٢)، وإن لم يكن لهم حساب يسير بالنسبة إلى المطيعين، لكن حسابهم كالعرض بالنسبة إلى مناقشة أصحاب الشمال، فأصحاب اليمين شاملة لهم، وقد
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
يقال: كتاب عصاة المؤمنين يعطى عند خروجهم من النار، وقيل: يجوز أن يعطوا من الشمال لا من وراء ظهورهم، وفيه أن الإعطاء من الشمال ومن وراء الظهر أمر واحد. وقيل: لم تتعرض الآية للعصاة الذين يدخلهم الله النار، وهو الظاهر، وقوله - ﷺ - في بعض صلاته: "اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا"، وإن دل على أن للأنبياء كتابًا، لكن الظاهر إرشاد الأمة وتعليمهم، وإلا فهم معصومون داخلون الجنة بلا حساب ولا كتاب.
٩ - ﴿وَيَنْقَلِبُ﴾؛ أي: يرجع المحاسب حسابًا يسيرًا بعد حسابه؛ أي: ينصرف ويرجع من مقام الحساب اليسير ﴿إِلَى أَهْلِهِ﴾ الذين هم في الجنة من عشيرته المؤمنين، أو إلى أهله الذين كانوا له في الدنيا من الزوجات والأولاد، أو إلى من أعده الله له في الجنة من الحور العين والولدان المخلدين، أو إلى جميع هؤلاء، أو إلى أهله الذين هم رفقاؤه في طريق السعادة والكرامة حال كونه ﴿مَسْرُورًا﴾؛ أي: مبتهجًا بحاله، وكونه من أهل النجاة مستبشرًا بما أوتي من الخير والكرامة، قائلًا: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾. قال صاحب "الروح": فهذا الانقلاب يكون في المحشر قبل دخول الجنة، لا كما قال في "عين المعاني" من أنه يدل على أن أهله يدخلون الجنة قبله. انتهى. ودعوة الناس إلى قراءة الكتاب علامة الفرح والنشاط وقوة العزيمة.
وحاصل المعنى (١): أي فأما من عرض عليه سجل أعماله، وتناوله بيمينه، فإنه يحاسب يسير الحساب؛ إذ تعرض عليه أعماله، فيعرف بطاعته وبمعاصيه، ثم يثاب على ما كان منها طاعة، ويتجاوز له عما كان منها معصية، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا" قلت: وما الحساب اليسير؟ قال: "ينظر في كتابه، ويتجاوز عن سيئاته، فأما من نوقش.. فقد هلك".
ومن حوسب هذا الحساب اليسير.. يرجع إلى أهله المؤمنين مسرورًا مبتهجًا قائلًا: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾.
(١) المراغي.
٢ - ١٠ ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ﴾ وأعطي ﴿كِتَابَهُ﴾؛ أي: صحيفة عمله، وتكرير (١) ﴿كِتَابَهُ﴾ بدون الاكتفاء بالإضمار لتغاير الكتابين، وتخالفهما بالاشتمال والحكم في المآل؛ أي: يؤتى كتاب عمله ﴿وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾؛ أي: خلف ظهره؛ أي: أوتي بشماله وراء ظهره وجانبه، و ﴿وَرَاءَ﴾ ظرف لـ ﴿أُوتِيَ﴾ مستعمل في المكان. وقال الكلبي: تغل يمينه، ثم تلوى يده اليسرى من ورائه، فيعطى كتابه بشماله، وهي خلف ظهره، فلا مخالفة حينئذٍ بين ما هنا، وبين ما في الحاقة حيث لم يذكر فيها الظهر، بل اكتفى بالشمال. قال الإمام: ويحتمل أن يكون بعضهم يعطى كتابه بشماله، وبعضهم من وراء ظهره. وقال قتادة ومقاتل: تفك ألوح صدره وعظامه، ثم تدخل يده اليسرى، وتخرج من ظهره، فيأخذ كتابه كذلك.
١١ - ﴿فَسَوْفَ يَدْعُو﴾؛ أي: إذا قرأ كتابه ﴿ثُبُورًا﴾؛ أي: هلاكًا، فيقول: يا ثبوراه، يا ويلاه؛ أي: يتمنى (٢) لنفسه الثبور، وهو الهلاك، ويدعوه: يا ثبوراه تعال فهذا أوانك، وأنى له ذلك، يعني: لما كان إيتاء الكتاب من غير يمينه علامة كونه من أهل النار.. كان كلامه: واثبوراه، ولا شك أن هذا قول المخذول الكاره لما عرض عليه. قيل: الثبور: مشتق من المثابرة على الشيء، وهو المواظبة عليه، وسمي هلاك الآخرة ثبورًا؛ لأنه لازم لا يزول، كما قال تعالى: ﴿لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (١٤)﴾.
١٢ - ﴿وَيَصْلَى سَعِيرًا (١٢)﴾؛ أي: يدخلها ويقاسي حرها وعذابها من غير حائل، وهذا يدل على أن دعاءهم بالثبور قبل الصلي، وبه صرح الإِمام، وأما قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (١٣)﴾ فيدل على أنه بعده، ولا منافاة في الجمع، فإنهم يدعونه أولًا وآخرًا بل دائمًا على أن الواو لمطلق الجمع لا للترتيب.
وقرأ قتادة وأبو جعفر وعيسى وطلحة والأعمش وعاصم وأبو عمرو وحمزة (٣): ﴿وَيَصْلَى﴾ بفتح الياء مبنيًا للفاعل، وباقي السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج: بضم الياء، وفتح الصاد، واللام المشددة، وأبو الأشهب وخارجة عن نافع وأبان وعاصم وعيسى أيضًا والعتكي وجماعة عن أبي عمرو: بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام مبنيًا للمفعول من المتعدي بالهمزة،
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
كما بني ويصلى المشدد للمفعول من المتعدي بالتضعيف.
والمعنى (١): أي وأما الذين أكثروا من ارتكاب الجرائم، واجتراح المعاصي، فيؤتون كتبهم بشمالهم من وراء ظهورهم، ومد اليسار إلى الكتاب دليل الكراهة، وأظهر في الدلالة على الكراهة، والنفور: أن يستدبره ويعرض عنه، فيكون من وراء ظهره.
وقصارى ما سلف: أن من عرض عليه كتابه، وقدم إليه ليأخذه، فاندفع إليه بعزيمة صادقة لشعوره بأنه مستودع الصالحات، وسجل البر والكرامات، فشأنه: كذا وكذا، ومن قدم إليه كتابه، وعرض عليه عمله، فخزيت نفسه وخارت عزيمته، فمد إليه يساره، أو أعرض عنه، فولاه ظهره لشعوره بأنه ديوان السيئات، وسجين المخازي، فأمره: كيت وكيت، يرشد إلى ذلك ما ورد من التفصيل في سورة الحاقة: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ إلخ.
والخلاصة: أن إيتاء الكتاب باليمين أو باليسار، أو من وراء الظهر تصوير لحال المطلع على أعماله في ذلك اليوم، فمن الناس من إذا كشف له عمله.. ابتهج واستبشر، وتناول كتابه بيمينه، ومنهم من إذا تكشفت له سوابق أعماله.. عبس وبسر، وأعرض عنها وأدبر، وتمنى لو لم تكشف له، وتناولها باليسار، أو من وراء الظهر، وحينئذٍ يدعو: واثبوراه؛ أي: يا هلاك أقبل، فإني لا أريد أن أبقى حيًا، علمًا منه بأن ذلك داعٍ إلى طول العذاب، وأنه سيدخل النار ويقاسي سعيرها.
١٣ - ثم ذكر سبحانه سببين في استحقاقه للعذاب في الآخرة، فقال:
١ - ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: لأن ذلك المعطى كتابه وراء ظهره، فالجملة (٢) مستأنفة مسوقة لبيان علة ما قبلها ﴿كَانَ﴾ في حياته الدنيا ﴿فِي أَهْلِهِ﴾؛ أي: فيما بين أهله وعشيرته أو معهم، على أنهم جميعًا كانوا مسرورين، كما يقال: جاءني فلان في جماعة، أي: معهم ﴿مَسْرُورًا﴾؛ أي: فرحًا بطرًا، لا يفكر في أمور الآخرة، ويقدم على المعاصي ظنًا منه أن لذاتها لا توجب الحسرة، ولا تورث التردي في نار
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
الجحيم، كديدن الفجار الذين لا يخطر ببالهم أمور الآخرة، ولا يتفكرون في العواقب، كسنّة الصلحاء والمتقين، كما قال تعالى حكاية عنهم؛ ﴿إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾، ومن ثمَّ أبدله الله بهذا النعيم الزائل عذابًا لا ينقطع، وآلامًا لا تنفذ.
والحاصل: أنه كان الكافر في الدنيا فارغًا عن همِّ الآخرة، وكان له مزمار في قلبه، فجوزي بالغم الباقي، بخلاف المؤمن، فإنه كان له نائحة في قلبه، فجوزي بالسرور الدائم.
٢ - ١٤ ﴿إِنَّهُ ظَنَّ﴾؛ أي: تيقن، كما في تفسير الفاتحة للفناري، وقال في "فتح الرحمن" الظن هنا على بابه بمعنى الحسبان، لا الظن الذي بمعنى اليقين، وهو تعليل لسروره في الدنيا؛ أي: إن هذا الكافر ظن في الدنيا. ﴿أَن﴾ مخففة من الثقيلة سادة مع ما في حيزها مسد مفعولي ﴿ظَنَّ﴾ أو أحدهما على الخلاف المشهور؛ أي: ظن أن الشأن والحال ﴿لَنْ يَحُورَ﴾ هو؛ أي: لن يرجع إلى ربه بالبعث.
والمعنى (١): أنه ظن أن لن يرجع إلى ربه، وأنه لن يبعث الخلق لحسابهم على ما قدموا، ولو علم أن الله يبدل سروره حزنًا وغمًا.. لأقلع عما هو فيه، ولترك هذا السرور العاجل السريع الفناء، وطلب من السرور ما يبقى ما بقيت الجنة التي لا يفنى نعيمها، ولا يزول سرور أهلها.
وفي الآية (٢) إيماء إلى أن المسخرين لشهواتهم، الساعين وراء لذاتهم، ليسوا بظانين فضلًا عن أن يكونوا مستيقنين بأنهم يرجعون إلى ربهم ليحاسبهم، بل الراجح عندهم: أنهم لا يحاسبون، وأن الله سبحانه مخلف وعده، وهذا هو الذي ينسيهم ذكره عند كل جرم يجرمونه، فهم وإن كانوا يزعمون الإيمان بالله، وبوعده ووعيده، فهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم،
١٥ - ثم رد عليه ظنه الخاطىء، فقال: ﴿بَلَى﴾ ايجاب لما بعد ﴿لَن﴾؛ أي: بلى ليحورن ألبتة، وليس الأمر كما يظن ﴿إِنَّ رَبَّهُ﴾ الذي خلقه ﴿كان به﴾، وبأعماله الموجبة للجزاء، والجار متعلق بقوله: ﴿بَصِيرًا﴾ بحيث لا يخفى منها خافية، فلا بد من رجعه وحسابه وجزائه عليها حتمًا؛ إذ لا
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
يجوز في حكمته أن يهمله، فلا يعاقبه على سوء أعماله، وهذا زجر لجميع المكلفين عن المعاصي كلها. قال الواسطي رحمه الله تعالى: كان بصيرًا به، إذ خلقه لماذا خلقه، ولأي شيء أوجده، وما قدر عليه من السعادة أو الشقاوة، وما كتب له أو عليه من أجله ورزقه. انتهى.
وحاصل المعنى (١): أي بلى ليحورن، وليبعثن، وليرجعن إلى ربه، وليحاسبنه على عمله حتى على النقير والقطمير، فيجزى على الخير خيرًا، وعلى الشر شرًا، فإن الذي يخلق الإنسان مستعدًا لما لا يتناهى من الكمال، وبما وهبه من العقل، لا ينشئه هذه النشأة الرفيعة، لتكون غايته غاية سائر الحيوان، بل تقتضي حكمته أن يجعل له حياة بعد هذه الحياة، ويثمر فيها أعماله، ويوافي فيها كماله.
١٦ - ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ كلمة ﴿لا﴾ زائدة للتوكيد، كما مر مرارًا، و ﴿الفاء﴾: استئنافية؛ أي: فأقسم لكم أيها العباد ﴿بِاَلشَفَقِ﴾، وهي (٢) الحمرة التي تشاهد في أفق المغرب بعد الغروب، وبغيبوبتها يخرج وقت المغرب، ويدخل وقت العشاء عند عامة العلماء، أو البياض الذي يعقبها، ولا يدخل وقت العشاء إلا بزواله، سمي به على كل من المعنيين لرقته، لكن مناسبته لمعنى البياض أكثر، وهو من الشفقة التي هي عبارة عن رقة القلب، ولا شك أن الشمس - أعني: ضوءها - يأخذ في الرقة والضعف من غيبة الشمس إلى أن يستولي سواد الليل على الآفاق كلها. وعن عكرمة ومجاهد: الشفق: هو النهار، بناءً على أن الشفق هو أثر الشمس، وهو كوكب نهاري، وأثره هو النهار، فعلى هذا يقع القسم بالليل والنهار اللذين أحدهما معاش، والآخر سكن، وبهما قوام أمور العالم، وفي "المفردات": الشفق: أختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس.
١٧ - ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧)﴾ قال الراغب: الوسق: جمع المتفردق؛ أي: وأقسم لكم بالليل وبما جمعه وما ضمه وستره بظلمته، فـ ﴿ما﴾ موصولة، يقال: وسقه فاتسق واستوسق، يعني: أن كلًّا منهما مطاوع لوسق؛ أي: جمعه فاجتمع.
و ﴿ما﴾ عبارة عما يجتمع بالليل، ويأوي إلى مكانه من الدواب والحشرات والهوام والسباع، وذلك أنه إذا أقبل الليل.. أقبل كل شيء إلى مأواه مما كان
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
منتشرًا بالنهار، وقيل: يجوز أن يكون المراد بما جمعه الليل: العباد المجتهدين بالليل؛ لأنه تعالى قد مدح المستغفرين بالأسحار، والأول أولى.
١٨ - ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨)﴾؛ أي: اجتمع وتكامل وتم بدرًا ليلة أربع عشرة. قال في "فتح الرحمن": امتلأ في الليالي البيض. وقال الفراء؛ امتلاؤه، واجتماعه، واستواؤه ليلة ثالث عشر ورابع عشر إلى ست عشرة. أقسم (١) سبحانه بهذه الأشياء؛ لأن في كل منها تحولًا من حال إلى آخر، فناسبت المقسم عليها، يعني: أن الله تعالى أقسم بتغيرات واقعة في الأفلاك والعناصر على تغير أحوال الخلق، فإن الشفق حالة مخالفة لما قبلها، وهو ضوء النهار، ولما بعدها، وهو ظلمة الليل، وكذا قوله: ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧)﴾ فإنه يدل على حدوث ظلمة بعد نور، وعلى تغير أحوال الحيوانات من اليقظة إلى النوم، وكذا قوله: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨)﴾ فإنه يدل على حصول كمال القمر بعد أن كان ناقصًا،
١٩ - وقوله: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا﴾ مفعول ﴿تَرْكَبُنَّ﴾ ﴿عَنْ طَبَقٍ﴾؛ أي: بعد طبق، جواب القسم؛ أي: لتلاقن أيها العباد حالًا بعد حال، كل واحدة منها مطابقة لأختها في الشدة والفظاعة، يقال: ما هذا يطبق هذا؛ أي: لا يطابقه. قال الراغب: المطابقة من الأسماء المتضايقة، وهو أن يجعل الشيء فوق آخر بقدره، ومنه: طابقت النعل بالنعل، ثم يستعمل الطباق في الشيء الذي يكون فوق الآخر تارة، وفيما يوافق غيره أخرى. وقيل: الطبق: جمع طبقة، وهي المرتبة، وهو الأوفق للركوب المنبىء عن الاعتلاء.
والمعنى: لتركبن أحوالًا بعد أحوال هي طبقات في الشدة، بعضها أرفع من بعض، وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة ودواهيها إلى حين المستقر في إحدى الدارين.
وقرأ عمر وعبد الله وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والأخوان - حمزة والكسائي - وابن كثير: ﴿لتركبَن﴾ بتاء الخطاب وفتح الباء، فقيل: هو خطاب للرسول الله - ﷺ -؛ أي: لتركبن يا محمد حالًا بعد حال في معالجة الكفار، فقال ابن عباس: لتركبن يا محمد سماعًا بعد سماع، وقيل: عدة له بالنصر؛ أي: لتركبن أمر العرب قبيلًا بعد
(١) روح البيان.
266
قبيل، وفتحًا بعد فتح كما كان ووجد بعد ذلك، وقال الزمخشري: وقرىء ﴿لتركبن﴾ على خطاب الإنسان في: ﴿أيها الإنسان﴾؛ أي: لتركبن أيها الإنسان حالًا بعد حال من كونك نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم حيًا وميتًا وغنيًا وفقيرًا، وقال ابن مسعود: المعنى: لتركبن السماء في أهوال القيامة حالًا بعد حال تكون كالمهل، وكالدهان، وتنفطر، وتنشق، فالتاء للتأنيث، وهو إخبار عن السماء بما يحدث لها، والضمير والفاعل عائد على السماء، وقرأ عمر وابن عباس أيضًا: بالياء من أسفل، وفتح الباء على ذكر الغائب، قال ابن عباس: ليركبن نبيكم - ﷺ - حالًا بعد حال، وقيل: الضمير الغائب يعود على القمر؛ لأنه يتغير أحوالًا من إسرار واستهلال وإبدار، وقال الزمخشري: ليركبن الإنسان، وقرأ عمر وابن عباس أيضًا وأبو جعفر والحسن وابن جبير وقتادة والأعمش وباقي السبعة بتاء الخطاب وضم الباء؛ أي: لتركبن أيها الإنسان، وقال الزمخشري: و ﴿لَتَرْكَبُنَّ﴾ بالضم على خطاب الجنس؛ لأن النداء للجنس.
والمعنى: لتركبن أيها الناس الشدائد: الموت والبعث والحساب حالًا بعد حال، أو يكون الأحوال من النطفة إلى الهرم، كما تقول: طبقة بعد طبق، وقال نحوه عكرمة، واختار أبو عبيدة وأبو حاتم هذه القراءة، قال: لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبي - ﷺ -، وقال مكحول وأبو عبيدة: لتركبن سنن من قبلكم، وقال ابن زيد: المعنى: لتركبن الآخرة الأولى، وقرأ عمر أيضًا: ﴿ليركبن﴾ بياء الغيبة وضم الباء، قيل: أراد به الكفار، أي: يركبون حالًا بعد أخرى من المذلة والهوان في الدنيا والآخرة، وقرأ ابن مسعود وابن عباس: ﴿لتركبن﴾ بكسر التاء، وهي لغة تميم، قيل: والخطاب للرسول الله - ﷺ -، وقرىء بالتاء وكسر الباء الموحدة على خطاب النفس. ومحل ﴿عَنْ طَبَقٍ﴾ النصب على أنه صفة لـ ﴿طَبَقًا﴾؛ أي: طبقًا مجاوزًا لطبق، أو على الحال من ضمير ﴿لتركبن﴾؛ أي: مجاوزين، أو مجاوزًا. وطبق الشيء: مطابقه؛ لأن كل حال مطابقة للأخرى في الشدة، وعن مكحول: كل عشرين عامًا تجدون أمرًا لم تكونوا عليه.
والمعنى (١): أي أقسم بهذه الأشياء التي إذا تدبر الإنسان أمرها.. استدل
(١) المراغي.
267
بجلالتها وعظمة شأنها على قدرة مبتدعها ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا﴾؛ أي: لتلاقن أيها الناس أمورًا بعد أمور، وأحوالًا بعد أحوال إلى أن تصيروا إلى ربكم، وهناك الخلود في جنة أو نار. ويدخل في هذه الأحوال جميع الأطوار التي مرت به بعد أن كان نطفة في بطن أمه إلى أن صار شخصًا، وما مر به في حياته الأولى من طفولة وشيخوخة، ثم موته، ثم حشره للحساب، ثم مصيره إلى الجنة أو النار.
والخلاصة: لتركبن حالًا بعد حال، والحال الثانية تطابق الأولى؛ أي: لتكونن في حياة أخرى تماثل هذه الحياة التي أنتم فيها، وتطابقها من حيث الحس والإدراك، والألم واللذة، وإن خالفت في بعض شؤونها الحياة الأولى.
٢٠ - وبعد أن ذكر الأدلة القاطعة على صحة البعث والحساب. ، أنكر عليهم استبعادهم له، فقال: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠)﴾، والاستفهام للإنكار، والفاء لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجيب على ما قبلها من أحوال يوم القيامة، أو من غيرها على الاختلاف السابق، و ﴿ما﴾: مبتدأ، و ﴿لَهُمْ﴾: خبره، وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ حال من الضمير في ﴿لَهُمْ﴾.
والمعنى (١): إذا كان حالهم يوم القيامة كما ذكر، وأردت التعجب من حالهم.. فأقول لك؛ أي شيء لكفار مكة، وأيُّ مانع لهم حال كونهم غير مؤمنين بمحمد - ﷺ -، وبما جاء به من القرآن، مع وجود موجبات الإيمان بذلك؛ أي: أي شيء يمنعهم من الإيمان مع تعاضد موجباته،
٢١ - وقوله: ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآن﴾ جملة شرطية، وقوله: ﴿لَا يَسْجُدُونَ﴾ جوابها، والجملة الشرطية مع جوابها في محل النصب على الحال من ضمير ﴿لَهُمْ﴾ عطفاَ على جملة ﴿لَا يُؤمِنُونَ﴾؛ أي: أيُّ مانع لهم حال عدم سجودهم وخضوعهم واستكانتهم عند قراءة النبي - ﷺ -، أو واحد من أصحابه وأمته القرآن، فإنهم من أهل اللسان، فيجب عليهم أن يجزموا بإعجاز القرآن عند سماعه، وبكونه كلامًا إلهيًا، ويعلموا بذلك صدق محمد - ﷺ - في دعوى النبوة، فيطيعوه في جوامع الأوامر والنواهي، ويجوز أن يراد به نفس السجود عند تلاوة آية السجدة على أن يكون المراد بالقرآن آية السجدة بخصوصها لا مطلق القرآن، كما روي أنه - ﷺ - قرأ ذات يوم: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾، فسجد هو ومن معه من
(١) روح البيان.
المؤمنين، وقريش تصفق فوق رؤوسهم، وتصفر استهزاء، وبه احتج أبو حنيفة على وجوب السجدة، فإن الذم على ترك الشيء يدل على وجوب ذلك الشيء.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - ﷺ - سجد فيها، وكذا الخلفاء، وهي الثالثة عشرة من أربع عشرة سجدة تجب عندها السجدة عند الحنفية على التالي والسامع، سواء قصده أم لا، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في المفصل سجدة، وكذا قال الحسن، وهي غير واجبة عند الأئمة الثلاثة، ثم إن الأئمة الثلاثة يسجدون عند قوله: ﴿لَا يَسْجُدُونَ﴾، والإمام مالك: عند آخر السورة.
وحاصل معنى قوله: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠)﴾؛ أي: فأي (١) شيء حدث لهم حتى جحدوا قدرة الله، وأنكروا صحة البعث، وكل شيء أمامهم ينادي بباهر قدرته، ويرشد إلي عظيم سلطانه.
وقصارى ذلك: أنه لا شبهة لهم يصح أن يستمسكوا بها على إنكار البعث والحساب.
ومعنى قوله: ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (٢١)﴾؛ أي: وما حدث لهم حتى صاروا إذا قرىء عليهم القرآن لا يعترفون بإعجازه، وبلوغه الغاية التي لا يمكن البشر أن يصلوا إليها، فأمرهم عجب، فهم أهل اللسان وأرباب البلاغة والبراعة، وذا يقتضي أن يعلموا إعجازه، ومتى علموه.. استكانوا وخضعوا له، وأدركوا صحة نبوة الرسول الذي جاء به، ووجبت عليهم طاعته.
٢٢ - ثم بين السبب في عدم إيمانهم به، وانقيادهم له، فقال: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢)﴾ بألقرآن الناطق بما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها، مع تحقق موجبات تصديقه، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته، وهذا من (٢) وضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالكفر، والإشعار بما هو العلة في عدم خضوعهم للقرآن، وفي بعض التفاسير: إن المراد: التكذيب بالقلب بمعنى عدم التصديق، فيكون الإضراب هنا إضراب ترق، فإنَّ عدم الإيمان يكون بالشك أيضًا، والتكذيب من شدة الكفر، وقوة الإنكار الحاملة على الإضراب، وقال هنا: ﴿يُكَذِّبُونَ﴾، وفي سورة
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
البروج: ﴿فِي تَكْذِيبٍ﴾ لمراعاة فواصل الآي في السورتين، مع صحة اللفظ وجودة المعنى.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يُكَذبوُنَ﴾ مشددًا، والضحاك وابن أبي عبلة مخففًا، وبفتح الياء.
ومعنى: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (٢٢)﴾؛ أي: إن (٢) الدلائل الموجبة للإيمان جلية واضحة، لكنهم قوم معاندون مصرون على التكذيب؛ إما لأنهم يحسدون الرسول - ﷺ -. على ما أتاه الله من فضله، وإما لخوفهم من فوت المناصب الدينية والرياسات التقليدية، وإما لأنهم يأبون أن يخالفوا ما وجدوا عليه آباءهم من عقائد زائفة وأفعال مستهجنة.
٢٣ - ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾؛ أي: بما يضمرونه في قلوبهم، ويجمعونه في صدورهم من الكفر والحسد والبغي والبغضاء، فيجازيهم على ذلك في الدنيا والآخرة، فـ ﴿ما﴾ موصولة، يقال: أوعيت الشيء: إذا جعلته في وعاء؛ أي: ظرف، ثم استعير هو والوعي لمعنى الحفظ، أو بما يجمعونه في صحفهم من أعمال السوء، ويدخرونه لأنفسهم من أنواع العذاب علمًا فعليًا تفصيليًا.
وقرأ أبو رجاء: ﴿بما يعون﴾ من وعى يعي.
والمعنى (٣): أي واللهُ سبحانه مطلع على ما في قلوبهم من أسباب الإصرار على الشرك، ودواعي العناد، والاستمرار على ما هم عليه.
٢٤ - ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾؛ أي: فبشر يا محمد الذين كفروا ﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾؛ أي: مؤلم غاية الإيلام جزاء استمرارهم على التكذيب والجحود، وإصرارهم على سيء العمل، وفاسد الاعتقاد، لأن علمه تعالى بذلك على الوجه المذكور، موجب لتعذيبهم حتمًا، وهو استهزاء بهم وتهكم، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾؛ لأن البشارة هي الإخبار بالخبر السار، وقد استعملت هنا في الخبر المؤلم.
٢٥ - وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إيمانًا صادقًا استثناء منقطع من الضمير المنصوب في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ الراجع إلى ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، والمستثنى - وهم المؤمنون -
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
270
خارج عنهم؛ أي: لكن الذين آمنوا بالله ورسوله إيمانًا صحيحًا ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ من الطاعات المأمور بها ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة عند ربهم ﴿أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾؛ أي: غير مقطوع، بل متصل دائم، من: منَّه منًا، بمعنى: قطعه قطعًا، أو غير ممنون به عليهم، فإن المنة تكدر النعمة، من: منَّ عليه منَّة، والأول هو الظاهر (١)، ولعل المراد من الثاني تحقيق الأجر، وأن المأجور استحق الأجر بعمله إطاعة لربه، وإن كان ذلك الاستحقاق من فضل الله، كما أن إعطاء القدرة على العمل والهداية إليه من فضله أيضًا، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلًا إن أريد من آمن منهم.
والمعنى: أي لكن الذين آمنوا بالله ورسوله، وخضعوا للقرآن الكريم، وعملوا بما جاء فيه، فأولئك لهم أجر لا ينقطع مدده، ولا ينقص منه، وفي هذا ترغيب في الطاعة، وزجر عن المعصية.
الإعراب
﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٥)﴾.
﴿إذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط، أو مجرد منه ﴿السَّمَاءُ﴾: فاعل بفعل محذوف يفسره المذكور، تقديره: إذا انشقت السماء انشقت، والجملة المحذوفة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، وجملة ﴿انْشَقَّتْ﴾ مفسرة لا محل لها من الإعراب، وجواب ﴿إِذَا﴾ محذوف جوازًا، تقديره: إذا انشقت السماء لاقى كل إنسان عمله، وجملة ﴿إِذَا﴾ مستأنفة، وقيل: لا جواب لها؛ لأنها مجردة عن معنى الشرط، فهي منصوبة باذكر مقدرًا نصب المفعول به ﴿وَأَذِنَتْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿أذنَت﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿السَّمَاءُ﴾، معطوفة على ﴿انْشَقَّتْ﴾، ﴿لِرَبِّهَا﴾: متعلق بـ ﴿أذنَت﴾، ﴿وَحُقَّتْ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿السَّمَاءُ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿انْشَقَّتْ﴾، وفي "الروح": وحق هذه الجملة أن تكون معترضة مقررة لما قبلها، لا معطوفة عليه، وقوله: ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣)﴾ معطوف على قوله: {إِذَا
(١) روح البيان.
271
السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)}، مماثل له في إعرابه، تقديره: وإذا مدت الأرض مدت، ﴿وَأَلْقَتْ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿الْأَرْضُ﴾، معطوف على مدت الأرض ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ ﴿ألقت﴾ ﴿فِيهَا﴾: متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة؛ أي: وألقت ما استقر فيها من الكنوز والموتى ﴿وَتَخَلَّتْ﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على ﴿الْأَرْضُ﴾، معطوف على ﴿أَلْقَتْ﴾، أي: صارت خالية عما فيها ﴿وَأَذِنَتْ﴾: معطوف على ما قبلها ﴿لِرَبِّهَا﴾: متعلق بـ ﴿أَذِنَتْ﴾، ﴿وَحُقَّتْ﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿الْأَرْضُ﴾، والجملة معطوفة على ما قبلها.
﴿يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (١١) وَيَصْلَى سَعِيرًا (١٢)﴾.
﴿يَاأَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة مبني على الضم، و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات ﴿أيُّ﴾ من الإضافة. ﴿الْإِنْسَانُ﴾: بدل من ﴿أي﴾، وجملة النداء مستأنفة، ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ﴾: ناصب واسمه وخبره ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾: متعلق بـ ﴿كَادِحٌ﴾. ﴿كَدْحًا﴾: مفعول مطلق منصوب بـ ﴿كَادِحٌ﴾. وجملة ﴿إنَّ﴾ جواب النداء لا محل لها من الإعراب، ﴿فَمُلَاقِيهِ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿ملاقيه﴾: معطوف على ﴿كَادِحٌ﴾، ويجوز أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: فأنت ملاقيه، فعلى الأول يكون من عطف المفرد على المفرد، وعلى الثاني يكون من عطف الجمل، ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن كل إنسان كادح إلى ربه فملاق عمله، وأردت بيان تفصيل أحوالهم في ذلك اليوم.. فأقول لك: ﴿أما من أوتي﴾: ﴿أما﴾: حرف شرط وتفصيل ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ ﴿أُوتِيَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿كِتَابَهُ﴾: مفعول ثانٍ لـ ﴿أوتِىَ﴾: لأنه بمعنى: أعطي، ﴿بِيَمِينِه﴾ متعلق بـ ﴿أُوتِيَ﴾، ﴿فَسَوْفَ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أما﴾ واقعة في غير موضعها؛ لأن موضعها موضع ﴿أما﴾ ﴿سوف﴾: حرف استقبال، ﴿يُحَاسَبُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿حِسَابًا﴾: مفعول مطلق
272
مبين للنوع ﴿يَسِيرًا﴾: صفة ﴿حِسَابًا﴾، وجملة ﴿يُحَاسَبُ﴾ في محل الرفع خبر لـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والجملة من المبتدأ والخبر جواب ﴿أما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿أما﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًا لا محل لها من الإعراب، ﴿وَيَنْقَلِبُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ الموصولة، معطوف على ﴿يُحَاسَبُ﴾، ﴿إِلَى أَهْلِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَنْقَلِبُ﴾ ﴿مَسْرُورًا﴾: حال من فاعل ﴿يَنقَلِبُ﴾، ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿أَمَّا﴾: حرف شرط، ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿أُوتِيَ كِتَابَهُ﴾: صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة ﴿وراء ظهره﴾: ﴿وَرَاءَ﴾ منصوب بنزع الخافض؛ أي: أوتي كتابه بشماله من وراء ظهره، و ﴿ظَهْرِهِ﴾: مضاف إليه ﴿فَسَوْفَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أما﴾، وجملة ﴿سوف يدعو﴾ خبر ﴿مَنْ﴾ الموصولة ﴿ثُبُورًا﴾: مفعول به لـ ﴿يَدْعُو﴾؛ أي: ينادي هلاكه بقوله: يا ثبوراه؛ لأن نداء ما لا يعقل يراد به التمني، فالدعاء بمعنى الطلب بالنداء، وجملة ﴿مَنْ﴾ الموصولة جواب ﴿أَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿أَمَّا﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَمَّا﴾ الأولى، وإن أردت الخوض والبيان في إعراب ﴿أَمَّا﴾ الشرطية، وما يتعلق بها، فراجع شروحنا على "متن الآجرومية" ﴿وَيَصْلَى﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ الموصولة معطوف على ﴿يَدْعُواْ﴾ ﴿سَعِيرًا﴾: مفعول به على التوسع لـ ﴿يصلى﴾ مثل: سكنت الشام، ودخلت البيت.
﴿إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (١٥)﴾.
﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿كَانَ﴾ خبره، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، ﴿فِي أَهْلِهِ﴾: حال من الضمير المستكن في ﴿مَسْرُورًا﴾، و ﴿مَسْرُورًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾، ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿ظَنَّ﴾ خبره، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل جملة ﴿إن﴾ الأولى، والظن هنا بمعنى: العلم واليقين. ﴿إن﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، ﴿لَنْ﴾: حرف نصب واستقبال، ﴿يَحُورَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر منصوب بـ ﴿لَن﴾، وجملة ﴿لَنْ يَحُورَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَن﴾ المخففة وجملة ﴿أَن﴾ المخففة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي
273
﴿ظَنَّ﴾، ﴿بَلَى﴾: حرف جواب لإيجاب ما بعد النفي ﴿إِنَّ رَبَّهُ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿كَانَ﴾ خبره، و ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿بَصِيرًا﴾ و ﴿بَصِيرًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾، وما في حيزها جواب قسم مقدر بعد ﴿بَلَى﴾؛ أي: بلى والله إن ربه كان به بصيرا، أو تعليل لما أفادته ﴿بَلَى﴾ من إيجاب لما بعد ﴿لَنْ﴾.
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (١٩)﴾.
﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية ﴿لا﴾: زائدة تأكيدًا للقسم، ﴿أُقْسِمُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله سبحانه، وجملة القسم مستأنفة ﴿بِالشَّفَقِ﴾: متعلق بـ ﴿أُقْسِمُ﴾، ﴿وَاللَّيْلِ﴾: معطوف على ﴿الشفق﴾، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الجر معطوف على ﴿اللَّيْلِ﴾، ﴿وَسَقَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّيْلِ﴾، والجملة صلة ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: وما وسقه الليل، ﴿وَالْقَمَرِ﴾: معطوف على ﴿الشفق﴾ أيضًا ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية، متعلق بفعل القسم، ﴿اتَّسَقَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على ﴿وَالْقَمَرِ﴾. ﴿وَالْقَمَرِ﴾ معطوفة على ﴿وَاللَّيْلِ﴾، والجملة في محل الخفض مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾؛ أي: وأقسم بالقمر وقت اتساقه وكماله ﴿لَتَرْكَبُنَّ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم ﴿تركبن﴾: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل، والنون نون التوكيد الثقيلة. ﴿طَبَقًا﴾: مفعول به ﴿عَنْ طَبَقٍ﴾: صفة ﴿طَبَقًا﴾، وعن: بمعنى: بعد؛ أي: لتركبن حالًا كائنًا بعد حال، كل واحدة منهما مطابقة لأختها في الشدة، يعني: أهوال يوم القيامة، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب.
﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)﴾.
﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر،
274
تقديره: إذا كان حال يوم القيامة كما ذكر، وأردت التعجب من حالهم.. فأقول لك: أي شيء لكفار مكة، وأيُّ مانع لهم؟ ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ﴿لَهُمْ﴾: خبر، وجملة ﴿لَا يُؤمِنُونَ﴾ في محل النصب حال من ضمير ﴿لَهُمْ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿وإذا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط، متعلق بالجواب الآتي ﴿قرىء﴾: فعل ماضٍ مغير الصيغة ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿قرىء﴾ ﴿الْقُرْآنُ﴾: نائب فاعل لـ ﴿قرىء﴾، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، وجملة ﴿لَا يَسْجُدُونَ﴾ جواب الشرط لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: وما لهم حال كونهم لا يسجدون وقت قراءة القرآن عليهم ﴿بَلْ﴾ حرف إضراب للإضراب الانتقالي ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول، وجملة ﴿يُكَذِّبُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جملة إضرابية لا محل لها من الإعراب ﴿وَاللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿أَعْلَمُ﴾ خبره، والجملة معطوفة على الجملة الإضرابية ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾ ﴿يُوعُونَ﴾: فعل مضارع وفاعل، مرفوع بثبات النون، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: بما يوعونه ويضمرونه، ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع ﴿بشرهم﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف مفرع على ﴿يُكَذِّبُونَ﴾، ﴿بِعَذَابٍ﴾: متعلق بـ ﴿بشرهم﴾. ﴿أَلِيمٍ﴾: صفة ﴿عذاب﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء منقطع بمعنى: لكن، أو متصل، وليس بالقوي، والمستثنى منه ضمير ﴿بشرهم﴾، ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول للجمع المذكر في محل الرفع مبتدأ، أو في محل النصب على الاستثناء، مبني على الفتح، أو على الياء، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿آمَنُوا﴾ ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿أَجْرٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾: صفة ﴿أَجْرٌ﴾، والجملة الاسمية خبر ﴿الَّذِينَ﴾، وجملة ﴿الَّذِينَ﴾ جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب، أو مستأنفة إن قلنا إن الاستثناء متصل.
275
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)﴾؛ أي: تشققت وتصدعت.
﴿وَأَذِنَتْ﴾؛ أي: استمعت لأمر ربها، يقال: أذنت لك؛ أي: استمعت كلامك، ومن استعمال الإذن في الاستماع قول الشاعر:
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوْا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُؤءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوْا
وقول الآخر:
إِنْ يَأْذَنُوْا سُبَّةً طَارُوْا بِهَا فَرَحًا مِنِّيْ وَمَا أَذِنُوْا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوْا
وفي "المختار": أذن له استمع، وبابه: طرب، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٢)﴾، ويقال: أذن يأذن أذنًا إليه وله: استمع له معجبًا، أو عام، ولرائحة الطعام: اشتهاه، وأذن بالشيء كسمع إذنًا بالكسر، ويحرك، وأذانًا وأذانة: علم به، ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ﴾؛ أي: كونوا على علم، وأذنه الأمر وبه: أعلمه، وأذن له في الشيء، كسمع إذنًا بالكسر، وأذينًا: أباحه له، واستأذنه: طلب منه الإذن، إلى آخر ما في هذه المادة العجيبة.
﴿وَحُقَّتْ﴾؛ أي: حق لها أن تمتثل ذلك، والفاعل في الأصل هو الله تعالى؛ أي: حق الله تعالى عليها ذلك؛ أي: سمعه وطاعته؛ أي: أوجبه عليها، وألزمها به، واقتضت حكمته وجوده منها، وكلام البيضاوي، يقتضي أن نائب الفاعل هو ضمير السماء المستكن في الفعل من غير تقدير، ونصه: حقت؛ أي جعلت حقيقة بالاستماع والانقياد. اهـ. وقال صاحب "الروح": فحق هذه الجملة أن تكون اعتراضًا مقررةً لما قبلها، لا معطوفة عليه. اهـ. كما مرَّ.
﴿مُدَّتْ﴾ من مده بمعنى: أمده؛ أي: زاده.
﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤)﴾ ووصفت الأرض بذلك؛ أي: بالإلقاء والتخلية توسعًا، وإلا فالتحقيق أن المخرج لما فيها هو الله تعالى. اهـ. "خطيب".
وقوله: ﴿ألقت﴾ فيه إعلال بالحذف، أصله: ألقي بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ولما اتصلت بالفعل تاء التأنيث، الساكنة.. التقى ساكنان، فحذفت الألف.
276
وقوله: ﴿وَتَخَلَّتْ﴾، وفيه أيضًا ما في ألقت من الإعلال، أصله: تخلي بوزن تفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم اتصلت بالفعل تاء التأنيث الساكنة، فالتقى ساكنان، فحذفت الألف.
﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٥)﴾ ليس تكرارًا مع مر؛ لأن الأول في السماء، وهذا في الأرض. اهـ "خطيب". ومعنى حقت، أي: حق لها أن تمتثل ذلك؛ أي: يجدر بها أن تكون كذلك، قال كثير:
فَإِنْ تَكُنِ الْعُتْبَى فَأَهْلًا وَمَرْحَبًا وَحُقَّتْ لَهَا الْعُتْبَى لَدَيْنَا وَقَلَّتِ
﴿كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا﴾؛ أي: جاهد مجد في عملك، قال شاعرهم:
وَمَضَتْ بَشَاشَةُ كُلِّ عَيْشٍ وَبَقِيْتُ أَكْدَحُ لِلْحَيَاةِ وَأَنْصَبُ
والكدح: جهد النفس في العمل والكد فيه، حتى يؤثر فيها، عن كدح جلده إذا خدشه، وفي "المختار" الكدح: العمل والسعىِ والكد والكسب، وهو الخدش أيضًا، وباب الكل: قطع. وقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا﴾؛ أي: ساع. وبوجهه كدوح؛ أي: خدوش، وهو يكدح لعياله، ويكتدح؛ أي: يكتسب اهـ.
﴿فَمُلَاقِيهِ﴾؛ أي: فملاق لعملك عقب ذلك؛ أي: لجزائه من خير أو شر.
﴿يَنقَلِبُ﴾؛ أي: يرجع ﴿إِلَى أَهْلِهِ﴾؛ أي: عشيرته المؤمنين، أو رفقائه في طريق السعادة والكرامة؛ أي: يرجع بنفسه من غير مزعج برغبة وقبول إلى أهله؛ أي: الذين أهل بهم في الجنة من الحور العين، والآدميات، والذريات، إذا كانوا مؤمنين. اهـ. "خطيب".
﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (١١)﴾، أي: يتمنى هلاكًا وأنى له، ويقول: واثبوراه، أقبل فهذا أوانك، والثبور: الهلاك، قيل: الثبور مشتق من المثابرة على الشيء، وهو المواظبة عليه، وسمي هلاك الآخرة ثبورًا؛ لأنه لازم لا يزول، كما مر، وفي "المصباح": ثبر الله الكافر ثبورًا - من باب قعد -: أهلكه، وثبر هو ثبورًا: هلك، يتعدى، ولا يتعدى.
﴿وَيَصْلَى﴾: أي: يقاسي، أصله: يصلي بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
277
﴿سَعِيرًا﴾؛ أي: نارًا مسعرة متقدة ﴿أَنْ لَنْ يَحُورَ﴾؛ أي: أصله: يحور بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى الحاء، فسكنت إثر ضم، فصارت حرف مد، فهو نظير: يقول، قال لبيد:
وَمَا الْمَرْءُ إِلا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ يَحُوْرُ رَمَادًا بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ
والمراد: أنه ظن أنه لن يرجع إلى الله للمجازاة تكذيبًا للمعاد، من: الحور، وهو: الرجوع، والمحار: المرجع والمصير، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما كنت أدري ما معنى ﴿يَحُورَ﴾ حتى سمعت أعرابيةً تقول لبنية لها: حوري حوري؛ أي: ارجعي. وحرْ إلى أهلك؛ أي: ارجع، ومنه الحديث: "نعوذ بالله من الحور بعد الكور"؛ أي: الرجوع عن حالة جميلة، والحواري: القصار؛ لرجعه الثياب إلى البياض، وفي "المختار": حار: رجع، وبابه: قال ودخل، والمصدر بوزن: قول، ودخول، يقال: حار حورًا وحؤرًا ومحارًا ومحارة. هذا وتأتي حار بمعنى: صار، فترفع الاسم وتنصب الخبر.
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦)﴾ هي الحمرة التي تشاهد في أفق المغرب بعد الغروب. وعبارة "القاموس": الشفق محركة: الحمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء الآخرة، أو إلى قربها، أو إلى قريب العتمة، وهذا هو الصحيح، ومنه قول الشاعر:
قُمْ يَا غُلَامُ أَعِنِّيْ غَيْرَ مُرْتَبِكٍ عَلَى الزَّمَانِ بِكَأْسٍ حَشْوُهَا شَفَقُ
﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧)﴾؛ أي: جمع وضم، يقال: وسق فاتسق واستوسق، ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين لثلاثيه: اتسع واستوسع، وفي "القاموس": وسقه يسقه من باب ضرب: جمعه وحمله، ومنه: ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧)﴾، ومنه سمي الوسق وسقًا: لجمعه الصيعان.
﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨)﴾؛ أي: اجتمع نوره واستوى ليلة أربع عشرة، وهو افتعل من الوسق، وهو الضم والجمع، كما تقدم، وأمر فلان متسق؛ أي: مجتمع على ما يسر، وأصله: إوتسق من الوسق، أبدلت الواو فاء الكلمة تاء، لمجيئها قبل تاء الافتعال، ثم أدغمت في تاء الافتعال، وإبل مستوسقة؛ أي: مجتمعة.
قال الشاعر:
278
إِنَّ لَنَا قَلَائِصًا حَقائِقَا مُسْتَوْسِقَاتٍ لَمْ يَجِدْنَ سَائِقَا
﴿لَتَرْكَبُنَّ﴾: لتلاقن، أصله: تركبونن، حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، ثم واو الجماعة لالتقاء الساكنين فصار: تركبن.
﴿طَبَقًا﴾ والطبق: الحال المطابقة لغيرها، قال الأقرع بن حابس:
إِنِّيْ امْرُؤٌ قَدْ حَلَبْتُ الدَّهْرَ اشْطُرَهُ وَسَاقَنِيْ طَبَقٌ مِنْهُ إِلَى طَبَقِ
والمراد: تركبن أحوالًا بعد أحوال هي: طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض، وهي الموت وما بعده.
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (٢٣)﴾؛ أي: يجمعون في صدورهم من الإعراض والجحود والحسد والبغي، أصله: يوعيون بوزن يفعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت التقى ساكنان؛ فحذفت الياء، ثم ضمت العين لمناسبة الواو، وحذفت همزة أفعل أيضًا، فوزنه: يفعون يقال: اْوعيت الشيء؛ أي: جعلته في وعاء؛ أي: ظرف، ثم استعير هو والوعي لمعنى الحفظ. كما مر.
﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾: والبشارة: الإخبار بما يسر، واستعملت في العذاب تهكمًا.
﴿مَمْنُونٍ﴾؛ أي: مقطوع، من قولهم: منَّ فلان الحبل: إذا قطعه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٥)﴾ فقد شبهت حال السماء في انقيادها لتأثير قدرة الله تعالى، حيث أراد انشقاقها بانقياد المستمع المطواع للأمر، ثم حذف المشبه به، واستعير لفظ الإذن والاستماع المستعمل في غايته.
وقيل: فيه استعارة تمثيلية متفرعة على المجاز المرسل، يعني: إذا أطلق الإذن؛ وهو الاستماع في حق من له حاسة السمع، والاستماع بها يراد بها: الإجابة والانقياد مجازًا، وإذا أطلق في حق نحو السماء مما ليس في شأنه الاستماع والقبول يكون: استعارة تمثيلية.
279
ومنها: التعرض لعنوان الربوبية في قوله: ﴿لِرَبِّهَا﴾ مع الإضافة إلى ضمير السماء، للإشارة بعلة الحكم.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤)﴾ فقد شبهت حال الأرض بحال المرأة الحامل، تلقي ما في بطنها عند الشدة والهول، ثم حذف المشبه به، واستعير لفظ الإلقاء.
ومنها: الطباق بين لفظ: ﴿السَّمَاءُ﴾ و ﴿الْأَرْضُ﴾.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤)﴾ لأن الإلقاء والإخراج حقيقةً لله سبحانه وتعالى، لا للأرض.
ومنها: التعبير بالماضي في قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ﴾؛ أي: يؤتى إشعارًا بتحقق وقوعه، كما في "الشهاب".
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧)﴾، وقوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (١٠)﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (١٠)﴾؛ أي: تكرير كتابه بدون الاكتفاء بالإضمار، لتغاير الكتابين وأختلافهما بالاشتمال والحكم في المآل.
ومنها: فن الالتزام في قوله: ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨)﴾ ويقال فيه: لزوم ما لايلزم، ومنهم من يسميه: الإعنات؛ وهو: أن يلتزم الشاعر في شعره، أو الناثر في نثره حرفًا أو حرفين فصاعدًا قبل حرف الروي على قدر طاقته مشروطًا بعدم الكلفة، فقد التزم هنا السين قبل القاف في الكلمتين، ولأبي العلاء المعري ديوان التزم فيه ما لا يلزم.
ومنها: الجناس الناقص بين كلمتي: ﴿وَسَقَ﴾ و ﴿اتَّسَقَ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (١٩)﴾؛ لأنه كنى به عن شدة الأهوال التي يلقاها الإنسان.
ومنها: استعارة عن لـ (بعد) في قوله: ﴿عَنْ طَبَقٍ﴾؛ لأن لفظ (عن) يفيد البعد والمجاوزة، فكان مشابهًا للفظ (بعد) فصح استعمال أحدهما بمعنى الآخر، قال
280
ابن الشيخ: ﴿عَنْ﴾ هنا بمعنى: بعد؛ لأن الإنسان إذا صار إلى الشيء مجاوزًا عن شيء آخر، فقد صار إلى الثاني بعد الأول، فصح أنه يستعمل فيه بعد وعن معًا.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢)﴾؛ للتسجيل علهيم بالكفر، وللإشعار بما هو العلة في عدم خضوعهم للقرآن؛ أي: للإشعار بأنهم لا يؤمنون، ولا يسجدون عند قراءة القرآن عليهم؛ لأنهم كافرون مكذبون. اهـ "كرخي".
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (٢٣)﴾؛ لأن الإيعاء حقيقة في جعل الشيء في وعاء؛ أي: ظرف، ثم استعير لمعنى الحفظ على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الأسلوب التهكمي في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾؛ لأن البشارة حقيقة في الإخبار بالخبر السار، وقد استعملت هنا في الخبر المؤلم استهزاءً بهم وتهكمًا.
ومنها: توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآي مثل قوله: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٢)﴾، وقوله: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (١٩)﴾؛ لأنه من المحسنات البديعية.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب
* * *
281
خلاصة ما اشتملت عليه السورة الكريمة من المقاصد
اشتملت هذه السورة على مقصدين:
١ - أن الإنسان يلاقي نتائج أعماله يوم القيامة، فيأخذ كتابه بيمينه، أو من وراء ظهره.
٢ - أن الناس في الدنيا يتنقلون في أحوالهم طبقة بعد طبقة؛ إما في نعيم مقيم، وإما في عذاب أليم.
وصلى الله سبحانه وتعالى وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. آمين آمين (١).
* * *
(١) إلى هنا تمت سورة الانشقاق بعون الملك الخلاق، يوم الأربعاء وقت الضحوة، اليوم الحادي عشر من شهر رمضان المبارك من شهور سنة: ١١/ ٩/ ١٤١٦ هـ. ألف وأربع مئة وست عشرة سنة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.
282
سورة البروج
سورة البروج مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة الشمس، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: نزلت: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (١)﴾ بمكة. وآياتها: اثنتان وعشرون آية. وكلماتها: مئة وتسع كلمات. وحروفها: أربع مئة وخمسة وستون حرفًا.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
١ - اشتمالها على وعد المؤمنين، ووعيد الكافرين، مع التنويه بشأن القرآن وفخامته.
٢ - أنه ذكر في السورة السابقة أنه عليم بما يجمعون للرسول - ﷺ - والمؤمنين من المكر والخداع، وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى، كالضرب، والقتل، والإلقاء في حمارة القيظ، وذكر هنا أن هذه شنشنة من تقدمهم من الأمم، فقد عذبوا المؤمنين بالنار، كما فعل أصحاب الأخدود، وفي هذه السورة عظة لقريش، وتثبيت من يعذَّبون من المؤمنين.
ومما ورد في فضائل هذه السورة:
ما أخرجه أحمد بسنده عن أبي هريرة: أن رسول الله - ﷺ -: كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق.
وما أخرجه الطيالسي وابن أبي شيبة في "المصنف" وأحمد والدارمي وأبو داوود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن حبان والطبراني والبيهقي في "سننه" عن جابر بن سمرة: أن النبي - ﷺ -: كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء والطارق، والسماء ذات البروج.
وما روي عن رسول الله - ﷺ -: "من قرأ سورة البروج.. أعطاه الله تعالى بعدد كل يوم جمعة وعرفة تكون في الدنيا عشر حسنات"، ولكنه لا أصل له.
وسميت سورة البروج: لذكر البروج فيها، وكلها محكمة لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
283

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)﴾.
المناسبة
قد تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة والسورة التي قبلها، فبدأ هذه السورة بأنه أقسم فيها بما هو غيب وشهود، وهو السماء ذات البروج، فإن كوكبها مشهود نورها، مرئي ضوؤها معروفة حركتها في طلوعها وغروبها، وكذلك البروج نشاهدها وفيها غيب لا تعرفه الحس، وهو حقيقة الكواكب، وما أودع الله فيها من القوى، وما فيها من عوالم لا نراها ولا ندرك حقيقتها، وأقسم بما هو غيب صرف، وهو اليوم الموعود، وما يكون فيه من حوادث البعث والحساب والعقاب والثواب، وأقسم بما هو شهادة صرفة، وهو الشاهد؛ أي: ذو الحسِّ، والمشهود: وهو ما يقع عليه الحس، فأقسم سبحانه بكل ما سلف على أن من قبلهم من المؤمنين الموحدين ابتلوا ببطش أعدائهم بهم، واشتدادهم في إيذائهم حتى خدوا لهم الأخاديد، وملؤوها بالنيران، وقذفوهم فيها، ولم تأخذهم بهم رأفة، بل كانوا يتشفون برؤية ما يحل بهم، وهم مع ذلك قد صبروا، وانتقم الله تعالى من أعدائهم، وممن أوقع بهم، وأخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر.
ولئن صبرتم أيها المؤمنون على الأذى ليوفينكم أجركم، وليأخذن أعداءكم، ولينزلن بهم ما لا قبَل لهم به، وقد حكى هذا القصص ليكون تثبيتًا لقلوب
284
المؤمنين، ووعدًا لعباده الصالحين، وحملًا لهم على الصبر والمجاهدة في سبيله، ووعيدًا للكافرين، وأنه سيحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم: ﴿سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾ ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر قصة أصحاب الأخدود وبيَّن ما فعلوه من الإيذاء والتنكيل بالمؤمنين، وذيل ذلك بما يدل على أنه لو شاء لمنع بعزته وجبروته أولئك الجبابرة عن هؤلاء المؤمنين، وأنه إنْ أمهل هؤلاء الفجرة عن العقاب في الدنيا.. فهو لم يهملهم، بل أجَّل عقابهم ليوم تشخص فيه الأبصار.. ذكر ما أعد للكفار من العذاب الأليم جزاء ما اجترحت أيديهم من السيئات التي منها إيذاء المؤمنين، وما أعد للمؤمين من جميل الثواب، وعظيم الجزاء.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر وعيد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، ووعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ووصف ما أعد لهم من الثواب كفاء أعمالهم.. أردف ذلك كله بما يدل على تمام تدرته على ذلك؛ ليكون ذلك بمثابة توكيد لما سبق من الوعيد والوعد، فالملك لا يعظم سلطانه وهيبته في النفوس إلا بأمرين:
١ - الجود الشامل، والإنعام الكامل، وبذا يرجى خيره.
٢ - الجيوش الجرارة، والأساطيل العظيمة التي توقع بأعدائه، وتنكل بهم، وبذلك يهاب جنابه، وإليهما أشار بقوله فيما سلف: ﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، وهنا زاد الأمر إيضاحًا، بقوله: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢)﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ...﴾ إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر قصص أصحاب الأخدود وبين حالهم، ووصف ما كان من إيذائهم للمؤمنين.. أردف ذلك ببيان أن حال الكفار في كل عصر، وشأنهم مع كل نبي وشيعته جارٍ على هذا النهج، فهم دائمًا يؤذون المؤمنين ويعادونهم، ولم يرسل الله نبيًا إلا لقي من قومه مثل ما لقي هؤلاء من أقوامهم، والغرض من هذا كله تسلية النبي - ﷺ - وصحبه، وشد عزائمهم على التذرع بالصبر، وأن كفار قومه سيصيبهم مثل ما أصاب الجنود فرعون وثمود.
285
Icon