هذه السورة مكية، ماعدا الآيات الثلاث الأخيرة منها فإنها مدنية. وعدد آياتها ثمان وعشرون ومائة ابتدأت السورة الكريمة بتأكيد وعيد الله تعالى للمشركين، وبيان قدرته سبحانه وتعالى على تنفيذه، بدليل خلقه السماوات والأرض، ثم بيان نعمه على الناس كافة بخلقه الإبل، وإنباته الزرع، وما خلق في البحر من أسماك تؤكل، وجواهر للزينة. ثم أشار إلى ما تستوجبه هذه النعم من شكره سبحانه ووجوب عبادته وحده واستقبال المشركين للدعوة إلى الوحدانية، وافترائهم على القرآن الكريم، وادعاء أنه من أساطير الأولين، ثم أشار سبحانه إلى عذاب المشركين يوم القيامة، ونعيم المؤمنين، ثم ذكر سبحانه إنكار المشركين للبعث ولجاجتهم في الإنكار، ويستنكر سبحانه جحودهم ببيان قدرته، ويؤكد وعده للمتقين ووعيده لهم، ثم يقرب البعث ببيان قدرته عليهم، وخضوع الوجود كله له سبحانه، وبيان أنه سبحانه هو الذي يكشف ويبين خرافات المشركين في اعتقادهم القدرة فيمن لا يملك نفعا ولا ضرا، وسوء رأيهم في المرأة طفلة وامرأة. وأشار سبحانه إلى الرسل السابقين، وساق سبحانه العبر في خلقه وتكوينه للأشياء وما فيها من نعم للإنسان. وتفاوت الأرزاق من أن يكون للغني فضل على الفقير، ونعمه على الإنسان في خلقه ذكرا أو أنثى والإنسال بالزواج منهما. وأخذ يضرب سبحانه الأمثال لبيان قدرته، ثم وجه الأنظار إلى عظم المخلوقات الدالة على عظمة الخالق وفائض نعمه، ومقابلة المشركين لهذه النعم الجليلة. وبعد أن بين مطالب الإسلام في العدل وصلة الرحم بالوفاء بالعهد وإعجاز القرآن، وكفر المشركين به وافترائهم عليه، أشار سبحانه إلى حال المشركين يوم القيامة. وبين كيف كانوا يحلون ويحرمون من غير حجة، وأشار إلى اليهود الذين يقاربون المشركين، وبين أنه يجب ألا يعاقبوا إلا بالمثل وأن على المؤمنين أن يصبروا وأن يلتزموا التقوى والإحسان.
ﰡ
١- تأكدوا - أيها المشركون - أن ما توعَّدكم الله به يوم القيامة واقع قريب الوقوع لا شك فيه، فلا تستهزئوا باستعجال وقوعه، تنزه الله عن أن يكون له شريك يُعبد من دونه، وعما تشركون به من آلهة لا تقدر على شيء.
٢- ينزل الملائكة بما يحيى القلوب من وحيه على من يختاره للرسالة من عباده، ليعلموا الناس أنه لا إله يُعبد بحق إلا أنا. فابتعدوا عما يغضبني ويعرضكم للعذاب، والتزموا الطاعات لتكون وقاية لكم من العذاب.
٣- خلق السماوات والأرض بمقتضى الحكمة، تنزه الله عن أن يكون له شريك يتصرف في شيء من ملكه، أو يستحق أن يعبد مثله.
٤- خلق كل فرد من أفراد الإنسان من مادة سائلة لا تماسك فيها وهي النطفة، فإذا به إنسان قوي مجادل عن نفسه، مكافح لخصومه، مبين لحجته.
٥- وقد تفضل اللَّه عليكم - أيها العباد - فخلق لكم الإبل والبقر والضأن والمعز لتتخذوا من أصوافها وأوبارها وأشعارها ما تستدفئون به، ومن لحومها تأكلون ما يحفظ حياتكم.
٦- ولكم فيها بهجة وسرور، حين ترونها راجعة من مراعيها ملأى البطون والضروع، وحين تذهب إلى الحقول والمراعى تُسرع الخطا إلى غذائها.
٧- وتحمل أمتعتكم الثقيلة إلى بلد لم تكونوا مستطيعين الوصول إليه بدونها إلا بتحميل أنفسكم أقصى جهدها ومشقتها. إن ربكم الذي هيأ ذلك لراحتكم لشديد الرأفة بكم، واسع الرحمة لكم.
٨- وخلق لكم الخيل والبغال والحمير لتركبوها، فتتخذوا منها زينة تُدخل السرور على قلوبكم، وسيخلق ما لا تعلمون الآن من وسائل الركوب وقطع المسافات، مما سخره اللَّه لبنى الإنسان، إذا استخدم عقله وفكر به واهتدى إلى استخدام كل القوى.
٩- وعلى اللَّه بمقتضى فضله ورحمته أن يُبيِّن لكم الطريق المستقيم الذي يوصلكم إلى الخير ومن الطريق ما هو مائل منحرف لا يوصل إلى الحق، ولو شاء هدايتكم جميعا لهداكم وحملكم على الطريق المستقيم، ولكنه خلق لكم عقولا تدرك، وإرادة توجه. وترككم لاختياركم.
١٠- هو الذي أنزل من جهة السماء ماء لكم منه شراب، وبعضه ينبت منه الشجر، وفي هذا الشجر ترسلون أنعامكم لتأكل منه، وتمدكم باللبن واللحوم، والأصواف والأوبار والأشعار.
١١- ينبت لكم بالماء الذي ينزل من السماء الزرع الذي نخرج منه الحبوب والزيتون والنخيل والأعناب، وغيرها من كل أنواع الثمرات التي تأكلونها غير ما ذكر، إن في إيجاد هذه الأشياء لعلامة هادية لقوم ينتفعون بعقولهم ويفكرون في القدرة التي أوجدتها.
١٢- وسخر لكم الليل إذ جعله مهيئا لراحتكم، والنهار إذ جعله مناسبا لسعيكم وحركتكم وأعمالكم، والشمس إذ تمدكم بالدفء والضوء، والقمر لتعرفوا به عدد السنين والحساب، والنجوم مسخرات بأمر اللَّه تهتدوا بها في الظلمات، إن في ذلك لعلامات وأدلة لقوم ينتفعون بما وهبهم اللَّه من عقل يدرك.
١٣- وبجوار ما خلقه لكم في السماء وهيأه لمنافعكم، خلق لكم على سطح الأرض كثيرا من أنواع الحيوان والنبات والجماد، وجعل في جوفها كثيرا من المعادن المختلفة الألوان والأشكال والخواص، وجعل كل ذلك لمنافعكم. إن في ذلك كله لأدلة واضحة كثيرة لقوم يتدبرون فيها فيتعظون، ويعرفون من خلالها قدرة خالقهم ورحمته بهم.
١٤- وهو الذي ذلل البحر وجعله في خدمتكم لتصطادوا ولتأكلوا منه لحم الأسماك طريا طازجا، وتستخرجوا منه ما تتحلون به كالمرجان واللؤلؤ. وترى - أيها الناظر المتأمل - السفن تجرى فيه شاقة مياهه تحمل الأمتعة والأقوات. سخره اللَّه لذلك لتنتفعوا بما فيه وتطلبوا من فضل اللَّه الرزق عن طريق التجارة وغيرها. ولتشكروه على ما هيَّأه لكم، وذلك لخدمتكم.
١٥- وجعل اللَّه في الأرض جبالا ثابتة تحفظها أن تضطرب، وجعل فيها أنهارا تجرى فيها المياه الصالحة للشرب والزرع، وطرقا ممهدة لتهتدوا بها في السير إلى مقاصدكم.
١٦- وجعل علامات ترشد الناس في أثناء سيرهم في الأرض، وهم في ذلك يسترشدون في أثناء سيرهم بالنجوم التي أودعها السماء إذا عميت عليهم السبل والتبست معالم الطرق.
١٧- هل يستوي في نظر العقل السليم التسوية بين القادر والعاجز فيجعل من يخلق هذه الأشياء كمن لا يستطيع خلق أي شيء ؟ أتعمون - أيها المشركون - عن آثار قدرة اللَّه. فلا تعتبروا وتشكروا عليها اللَّه ؟
١٨- وإن تحاولوا عد أنعم اللَّه عليكم فلن يمكنكم إحصاؤها، إن اللَّه كثير المغفرة واسع الرحمة، فتوبوا إليه وأخلصوا العبادة له، يغفر لكم ويرحمكم.
١٩- واللَّه يدرك بعلمه الشامل ما تخفون وما تظهرون، لا يخفي عليه شيء من سركم وجهركم.
٢٠- هذا الخالق المنعم العالم بكل شيء، هو - وحده - المستحق للعبادة، أما الأصنام التي تعبدونها، فهي عاجزة لا تستطيع أن تخلق شيئا، ولو كان ذبابا.. بل هي نفسها مخلوقة ربما صنعتموها بأيديكم.
٢١- وهي جمادات ميتة لا حس لها ولا حركة، ولا تدرى متى تكون القيامة والبعث لعابديها، فلا يليق بكم - أيها العقلاء - بعد هذا أن تظنوا أنها تنفعكم فتشركوها مع اللَّه في العبادة.
٢٢- وقد وضح بكل هذه الدلائل أن إلهكم الذي يجب أن تعبدوه وحده إله واحد لا شريك له، ومع ذلك فالذين لا يؤمنون بالبعث والحساب قلوبهم منكرة لوحدانيته، منعهم الاستكبار عن اتباع الحق والخضوع له.
٢٣- لا شك أن اللَّه يعلم ما يسرون وما يعلنون من عقائد وأقوال وأفعال، وسيحاسبهم على كل ذلك ويعاقبهم على استكبارهم، لأنه - سبحانه - لا يحب المستكبرين عن سماع الحق والخضوع له.
٢٤- وإذا سئل هؤلاء الكفار المستكبرون : أي شيء أنزله ربكم على محمد ؟ قالوا في عناد : هذا الذي يزعم أن اللَّه أنزله عليه ما هو إلا أباطيل وخرافات سطرها السابقون فنقلها وصار يرددها.
٢٥- قالوا ذلك، ليصدوا الناس عن اتباع رسول اللَّه، لتكون عاقبة أمرهم أنهم يعذبون يوم القيامة عذاب ضلالهم كاملا، وعذاب بعض الناس الذين خدعوهم وغرورا بهم حتى ضلوا دون علم أو بحث. تنبه - أيها السامع - لقبح ما ارتكب هؤلاء من ذنوب ما أشد عقابهم عليها.
٢٦- وقد سبق هؤلاء الكافرين المتكبرين أمثال لهم، دبَّروا المكائد لأنبيائهم، واحتالوا في إضلال الناس فأبطل اللَّه كيدهم، ودمر بلادهم ونزل بهم عذاب النار في الدنيا من حيث لا يتوقعون.
٢٧- ثم في الآخرة حيث يبعث الناس ويحاسبون على أعمالهم، ويوقفهم اللَّه موقف الخزي والعار، حين يفضحهم ويظهر ما كانت تخفيه صدورهم، ويقول لهم : أين هؤلاء الذين اتخذتموهم شركاء لي في العبادة ؟ وكنتم تحاربونني ورسلي في سبيلهم. أين هم حتى يمدوا لكم العون كما كنتم تزعمون، فلا يستطيعون جوابا، وحينئذ يقول الذين يعلمون الحق من الأنبياء والمؤمنين والملائكة : إن الخزي اليوم والعذاب المسيء واقعان على الجاحدين.
٢٨- الخزي على الكافرين الذين استمروا على كفرهم حتى قبضت الملائكة أرواحهم، وهم ظالمون لأنفسهم بالشرك وبارتكاب السوء، واستسلموا بعد طوال العناد إذ علموا حقيقة جرمهم، وقالوا كذبا من شدة دهشتهم : ما كنا في الدنيا نعمل شيئا من المعاصي، فتقول لهم الملائكة والأنبياء : كلا، إنكم كاذبون، وقد ارتكبتم أفظع المعاصي. واللَّه - سبحانه - محيط بكل صغيرة وكبيرة مما كنتم تعملونه في دنياكم، فلا يفيدكم إنكاركم.
٢٩- ويقال لهم بعد ذلك : مآلكم دخول النار والعذاب فيها عذابا مؤبدا لا ينقطع، وقبحت جهنم دارا ومقاما لكل متكبر على الانقياد إلى الحق والإيمان باللَّه ورسله.
٣٠- وقيل للذين آمنوا باللَّه وابتعدوا عما يغضبه من قول أو فعل أو عقيدة : ما الذي أنزله ربكم على رسوله ؟ قالوا : أنزل عليه القرآن، فيه خير الدنيا والآخرة للناس جميعا، فكانوا بذلك من المحسنين. واللَّه - سبحانه - يكافئ المحسنين بحياة طيبة في هذه الحياة الدنيا، ويكافئهم في الآخرة بما هو خير وأحسن مما نالوه في الدنيا. ولنعم الدار التي يقيم فيها المتقون في الآخرة.
٣١- وهي جنات ثابتة للإقامة، تجرى من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، لهم فيها ما يشاءون من النعيم، ومثل هذا الجزاء الحسن، يجزى اللَّه كل المتقين الذين آمنوا به، واتقوا ما يغضبه، وأحسنوا عملهم.
٣٢- وهم الذين تقبض أرواحهم الملائكة، وهم طاهرون من دنس الشرك والمعاصي، وتقول الملائكة تطمينا لهم : أمان من اللَّه لكم، فلا يصيبكم بعد اليوم مكروه، وأبشروا بالجنة تدخلونها بسبب ما قدمتم من أعمال صالحة في دنياكم.
٣٣- هؤلاء هم المتقون الذين استعدوا لآخرتهم، وذلك جزاؤهم. أما المشركون، فإنهم بعنادهم وبقائهم على شركهم، لا ينتظرون إلا الملائكة تقبض أرواحهم، وهم ظالمون لأنفسهم بالشرك وعمل الشر، ويأتيهم عذاب ربك بإهلاكهم جميعاً. ومثل ما فعل هؤلاء الكفار المعاندون، فعل الذين سبقوهم في ذلك مع أنبيائهم فعاقبهم الله على فعلهم، ولم يكن ظالماً لهم حين عاقبهم، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم حين عرضوها لعذاب الله بكفرهم.
٣٤- فأصابهم جزاء ما عملوا من سيئات، وأحاط بهم العذاب الذي كانوا ينكرونه ويستهزئون به.
٣٥- وقال الذين أشركوا عناداً ومغالطة : لو شاء الله أن نعبده - وحده - ونطيعه فيما يأمر به لما عبدنا غيره، ولما حرَّمنا من عندنا ما لم يحرمه، كالبحيرة والسائبة وهي حجة باطلة يستندون عليها في كفرهم. وقد احتج بها من سبقوهم من الكفار، بعد ما أرسلنا إليهم رسلنا، فأمروهم بالتوحيد وطاعة الله، ونهوهم عن الشرك وعن تحريم ما حَرَّمه الله، فقامت عليهم الحُجة، وأدى رسلنا ما أمرناهم بتبليغه، وعلينا نحن حسابهم، وليس على الرسل شيء بعد ذلك.
٣٦- ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ليقول لهم : اعبدوا الله - وحده - واجتنبوا كل طاغية مفسد، فبلغهم وأرشدهم، ففريق استمع إلى الإرشاد وتقبله، فهداه الله بحسن استعداده إلى الطريق المستقيم، وفريق أعرض عن سماع الحق فانحرف عن سواء السبيل، فأنزل الله به العذاب. وإذا كنتم في شك من هذا - يا مشركي مكة - فسيروا في الأرض، قريباً منكم، فانظروا وتأملوا كيف حل بالمكذبين - من عاد وثمود وقوم لوط - عذاب الله، وكيف كانت عاقبة أمرهم خسراناً وهلاكاً ؟ !.
٣٧- إن تكن حريصاً - أيها النبي - على هداية المشركين من قومك، باذلاً معهم أقصى ما في جهدك، فلا تهلك نفسك حزناً إذا لم يتحقق ما تريد، فقد تحكمت فيهم الشهوات، والله لا يجبر على الهداية من اختاروا الضلال وتمسكوا به، لأنه يتركهم لما اختاروا لأنفسهم، وسيلقون جزاءهم عذاباً عظيماً، ولا يجدون لهم يوم القيامة من ينصرهم ويحميهم من عذاب الله.
٣٨- وقد أضاف المشركون إلى شركهم بالله إنكارهم ليوم القيامة، فأقسموا بالله غاية طاقتهم في القسم، وأكدوا أن الله لا يبعث من يموت وهم كاذبون في قَسَمِهِمْ، وسيبعثهم الله جميعاً، لأنه أخذ العهد على نفسه بذلك، ولن يخلف الله عهده، ولكن أكثر الناس من الكفار لا يعلمون حكمة الله في خلْق هذا العالم وأنه لم يخلقه عبثاً، ولا عن حسابه في الآخرة ومجازاته.
٣٩- وأن من عدل الله في خلقه أن يبعثهم جميعاً بعد موتهم، فيظهر لهم حقائق الأمور التي اختلفوا فيها، ليعلم المؤمنون أنهم على حق، ويعلم الكافرون أنهم كانوا مخطئين في اتخاذهم شركاء.
٤٠- وليس بعث الناس يوم القيامة بعسير علينا حتى يستبعده هؤلاء الكفار، لأننا إذا أردنا شيئاً لا يحتاج إيجاده إلا أن نقول له : كن. فيكون كما نريد.
٤١- والمؤمنون الذين هاجروا من ديارهم لوجه الله تعالى، وإخلاصاً لعقيدتهم، من بعد ما وقع عليهم الظلم والعذاب من المشركين، لنُعوّضهم في الدنيا على إخلاصهم واحتمالهم للعذاب، حياة طيبة حسنة لا تأتى إلا بالجهاد، وسيكون أجرهم يوم القيامة أكبر، ونعيمهم في الجنة أعظم، لو كان المخالفون لهم يعلمون ذلك لما ظلموهم وظلموا أنفسهم.
٤٢- وهؤلاء المهاجرون هم الذين صبروا على ما تحملوه من عذاب في سبيل عقيدتهم، وفوضوا أمرهم إلى الله - وحده - غير مبالين بما سواه، ومن أجل هذا أحسنا لهم الجزاء.
٤٣- وما أرسلنا إلى الأمم السابقة قبل إرسالك إلى أمتك - أيها النبي - إلا رجالاً نوحي إليهم بما نريد تبليغه لهم، ولم نرسل ملائكة كما يريد كفار قومك، فاسألوا - أيها الكافرون - أهل العلم بالكتب السماوية، إن كنتم لا تعلمون ذلك، فستعرفون أن رسل الله جميعاً ما كانوا إلا رجالاً لا ملائكة.
٤٤- وقد أيدنا هؤلاء الرسل بالمعجزات والدلائل البينة لصدقهم، وأنزلنا عليهم الكتب تبين لهم شرعهم الذي فيه مصلحتهم، وأنزلنا إليك - أيها النبي - القرآن لتبين للناس ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام، وتدعوهم إلى التَّدبر فيه، رجاء أن يتدبروا فيتعظوا ويستقيم أمرهم.
٤٥- فكيف يصح بعد كل هذا أن يتمادى المشركون في عنادهم، ويدبروا المكائد للرسول ؟ هل أغراهم حلم الله بهم فاعتقدوا أنهم في مأمن من عذاب الله، فلا يخسف بهم الأرض كما فعل بقارون ؟ أو يأتيهم العذاب فجأة بصاعقة كما فعل بثمود وهم لا يدرون أين نزل.
٤٦- أو يهلكهم في أثناء تنقلهم في الأرض للتجارة بعيدين عن مساكنهم فلا يستطيعون الإفلات من عقاب الله، لأنه لا يعجزه شيء يريده.
٤٧- أو ينزل بهم العذاب في أنفسهم وأموالهم رويداً رويدا، وهم في كل لحظة في عذاب من الخوف منه والترقب لوقوعه، فلا تتمادوا - أيها المشركون - وتغتروا بتأخير عقوبتكم، فقد اقتضت رأفة الله الشاملة ورحمته الواسعة ألا يعاجلكم بالعقوبة في الدنيا، كي تتفكروا وتتدبروا لأنه - سبحانه - رؤوف رحيم.
٤٨- أغفل هؤلاء الكفار عن آيات الله حولهم، ولم ينظروا ويتدبروا فيما خلقه الله من الأشياء القائمة، تنتقل ظلالها وتمتد تارة يميناً وتارة شمالاً، تابعة في ذلك لحركة الشمس نهاراً والقمر ليلاً، وكل ذلك خاضع لأمر الله، منقاد لأحكام تدبيره. لو تدبر المشركون هذا لعلموا أن خالقه ومدبره هو - وحده - المستحق للعبادة والخضوع، القادر على إهلاكهم لو أراد.
٤٩- ولله - وحده - لا لغيره - يخضع وينقاد جميع ما خلقه في السماوات وما دب على الأرض ومشى على ظهرها من مخلوقات، وفي مقدمتهم الملائكة يخضعون له ولا يستكبرون عن طاعته.
٥٠- وحالهم أنهم دائماً على خوف من ربهم القادر القاهر، ويفعلون ما يأمرهم به.
٥١- وقال الله : لا تعبدوا اثنين، وتجعلوهما إلهين، لأن الإشراك في العبادة تنافي وحدانية الخلق والتّكون، إنما المعبود بحق إله واحد، فخافوني ولا تخافوا غيري.
٥٢- وله - وحده - ما في السماوات والأرض خلقاً، وملكاً، وعبيداً، فحقه - دون غيره - أن يُعبد ويُحمد، ويُخضع له، وتُرْجى رحمته، ويخاف عذابه.
٥٣- وأي شيء جاءكم من النعم، فهو من الله - وحده - ثم إذا لحقكم ما يضركم فلا تتضرعوا بأعلى أصواتكم إلا إليه.
٥٤- ثم إذا استجاب لدعائكم، ورفع ذلك الضر عنكم، نسي بعضكم حق الله عليه، من التوحيد وإخلاص العبادة له، فيشركون بخالقهم ومربيهم، ويعبدون معه غيره.
٥٥- ذلك يحدث منهم لتكون عاقبة أمرهم إنكار فضلنا على ما أعطيناهم، فتمتعوا - أيها الكافرون - بما لا تؤدون حق شكره، فسوف تعلمون عاقبة الكفر.
٥٦- ويجعل المشركون لأوثانهم، التي يسمونها بغير علم آلهة، نصيبا يتقربون بها إليها، من الرزق الذي أعطيناهم إياه من الحرث والأنعام وغيرهما. لأسألكم وعزتي - أيها المشركون - عما كنتم تختلقونه من الكذب وتفترونه من الباطل، وأجازيكم عليه.
٥٧- ويجعلون لله ما يكرهون، فيزعمون أن الملائكة بنات، ويعبدونها، تنزه الله عن ذلك، ويجعلون لأنفسهم ما يحبون، وهم الذكور من الأولاد.
٥٨- وهم إذا خُبِّر أحدهم بأنه ولدت له أنثى، صار وجهه مسودا من الحزن، وهو مملوء غيظاً يكظمه.
٥٩- يحاول الاختفاء عن أعين الناس، لئلا يروا كآبته، من الألم الذي أصابه من وجود المولود الذي أخبروه به، وتستولي عليه حيرة. أيبقيه حياً مع ما يلحقه من الهوان على ذلك في زعمه ؟ ! أم يدفنه في التراب، وهو حي حتى يموت تحته ؟ تنبه - أيها السامع - لفظاعة عمل هؤلاء. وقبح حكمهم، الذي ينسبون فيه لله ما يكرهون أن ينسب إلى أنفسهم.
٦٠- الذين لا يؤمنون بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب، الحال التي تسوء، وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور، وكراهة الإناث، ولله الصفة العليا، وهو الغني عن كل شيء، فلا يحتاج إلى الولد، وهو الغالب القوي، الذي لا يحتاج إلى معين.
٦١- ولو يعجل الله عقاب الناس بما ارتكبوا من ظلم، ما ترك على ظهر الأرض دابة، ولكنه بحلمه وحكمته يؤخر الظالمين إلى وقت عيَّنه، وهو وقت انتهاء آجالهم، فإذا جاء هذا الوقت لا يتأخرون عنه لحظة، كما لا يتقدمون عليه لحظة.
٦٢- وينسب المشركون إلى الله ما يكرهون أن ينسب إليهم من البنات والشركة، وتنطق ألسنتهم الكذب، إذ يزعمون مع ذلك أن لهم في الدنيا الغنى والسلطان الذي يقيهم العذاب، وأن لهم الجنة كذلك. والحق أن لهم النار، وأنهم مسوقون إليها قبل غيرهم.
٦٣- تأكد - أيها النبي - أننا أرسلنا رسلا إلى أمم من قبل بمثل ما أرسلناك به إلى الناس جميعاً، فحسَّن لهم الشيطان الكفر والشرك والمعاصي، فكذبوا رسلهم، وعصوهم، وصدقوا الشيطان وأطاعوه، فهو متولي أمورهم في الدنيا، يزين لهم ما يضرهم، ولهم في الآخرة عذاب شديد الألم.
٦٤- وما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين به للناس الحق فيما كان موضع خلافهم من الدين، وليكون هداية تامة، ورحمة عامة لقوم يؤمنون بالله وبالكتاب الذي أنزله.
٦٥- والله أنزل من السماء ماء يحمله السحاب، فجعل الأرض منبتة فيها حياة، بعد أن كانت قاحلة لا حياة فيها. إن في ذلك لدليلاً واضحاً على وجود مدبر حكيم.
٦٦- وإن لكم - أيها الناس - في الإبل والبقر والغنم لموعظة تعتبرون بها، وتنتقلون بتدبر عطائها إلى العلم بالصانع المبدع الحكيم، ونسقيكم من بعض ما في بطونها من بين فضلات الطعام والدم لبناً صافياً سهل التناول للشاربين.
٦٧- ومن ثمرات النخيل والأعناب التي أنعمنا بها عليكم ومكناكم منها تتخذون عصيراً مسكراً غير حسن، وطعاماً طيباً حسناً، إن في ذلك لعلامة دالة على القدرة والرحمة لقوم ينتفعون بعقولهم.
٦٨- وألهم ربك - أيها النبي - النحل أسباب حياتها، ووسائل معيشتها، بأن تتخذ من الجبال بيوتاً في كهوفها، ومن فجوات الشجر، ومن عرائش المنازل والكروم بيوتاً كذلك.
٦٩- ثم هداها - سبحانه - للأكل من كل ثمرات الشجر والنبات، وسهَّل لها أن تسلك لذلك طرقاً هيأها لها ربها مذللة سهلة، فيخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، إن في ذلك الصنع العجيب لأدلة قوية على وجود صانع قادر حكيم، ينتفع بها قوم يستعملون عقولهم بالتأمل فيفوزون بالسعادة الدائمة.
٧٠- والله خلقكم، وقدر لكم آجالا مختلفة، منكم من يتوفاه مبكراً، ومنكم من يبلغ أرذل العمر، فيرجع بذلك إلى حال الضعف ؛ إذ تأخذ حيويته في الضعف التدريجي، فيقل نشاط الخلايا، وتهن العظام والعضلات والأعصاب، فتكون عاقبته أن يفقد كل ما عليه. إن الله عليم بأسرار خلقه، قادر على تنفيذ ما يريده.
٧١- والله فضَّل بعضكم على بعض في الرزق. فجعل رزق السيد المالك أفضل من رزق مملوكه، فما الذين كثر رزقهم من السادة بمعطين نصف رزقهم لعبيدهم المملوكين لهم، حتى يصيروا مشاركين لهم في الرزق على حد المساواة، وإذا كان هؤلاء الكفار لا يرضون أن يشاركهم عبيدهم في الرزق الذي جاء من عند الله، مع أنهم بشر مثلهم، فكيف يرضون أن يشركوا مع الله بعض مخلوقاته فيما لا يليق إلا به تعالى، وهو استحقاق العبادة ؟ فهل تستمر بعد كل هذا بصائر هؤلاء المشركين مطموسة، فيجحدوا نعمة الله عليهم بإشراكهم معه غيره ؟.
٧٢- والله جعل لكم من جنس أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل لكم من أزواجكم بنين وأبناء بنين، ورزقكم ما أباحه لكم مما تطيب به نفوسكم. أبعد ذلك يشرك به بعض الناس ؟ فيؤمنون بالباطل، ويجحدون نعمة الله المشاهدة، وهي التي تستحق منهم الشكر، وإخلاص العبادة لله.
٧٣- ويعبدون غير الله من الأوثان وهي لا تملك أن ترزقهم رزقا - أي رزقٍ - ولو قليلا سواء كان هذا الرزق آتيا من جهة السماء كالماء، أم خارجاً من الأرض كثمر الأشجار والنبات، ولا تستطيع هذه الآلهة أن تفعل شيئاً من ذلك ولا أقل منه.
٧٤- وحيث ثبت لكم عدم نفع غير الله لكم، فلا تذكروا لله تعالى أشباهاً، وتبرروا عبادتها بأقيسة فاسدة، وتشبيهات غير صحيحة تعبدونها معه. إن الله يعلم فساد ما تعملون، وسيجازيكم عليه، وأنتم في غفلة لا تعلمون سوء مصيركم.
٧٥- جعل الله مثلا يوضح فساد ما عليه المشركون، بعبد مملوك لا يقدر على فعل شيء، وبحرّ رزقه الله رزقاً طيباً حلالا، فهو يتصرف فيه، وينفق منه في السر والجهر. هل يستوي العبيد الذين لا يقدرون على شيء، والأحرار الذين يملكون ويتصرفون فيما يملكون ؟ إن الله ملك كل شيء، فهو يتصرف في ملكوته كما يريد، وغيره لا يملك أي شيء فلا يستحق أن يُعبد ويُحمد، الثناء كله حق لله وحده، والتنزيه له وحده، وله العلو وحده ؛ لأن كل خير صدر عنه، وكل جميل مرده إليه، ولا يفعل هؤلاء ما يفعلون عن علم، وإنما يفعلون ما يفعلون تقليداً لرؤسائهم، بل أكثرهم لا يعلمون، فيضيفون نعمه إلى غيره، ويعبدونه من دونه.
٧٦- وجعل الله مثلا آخر هو رجلان : أحدهما أخرس أصم لا يُفْهم غيره : كَلٌّ على من يلي أمره، إذا وجهه سيده إلى جهة ما، لا يرجع بفائدة. هل يستوي هذا الرجل مع رجل فصيح قوي السمع، يأمر بالحق والعدل، وهو في نفسه على طريق قويم لا عوج فيه ؟ إن ذلك الأخرس الذي لا يسمع ولا يتكلم ولا يَفْهم ولا يُفهم، هو مثل الأصنام التي عبدوها من دون الله، فإنها لا تسمع ولا تنطق ولا تنفع، فلا يمكن أن تستوي مع السميع العليم الداعي إلى الخير والحق، وإلى الطريق المستقيم.
٧٧- ولله - وحده - علم ما غاب عن العباد في السماوات والأرض، وما أمر مجيء يوم القيامة، وبعث الناس فيه، عند الله في السرعة والسهولة، إلا كرد طرف العين بعد فتحها. بل هو أقرب سرعة من ذلك. إن الله عظيم القدرة، لا يعجزه أي شيء.
٧٨- والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تدركون شيئاً مما يحيط بكم، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، وسائل للعلم والإدراك، لتؤمنوا به عن طريق العلم، وتشكروه على ما تفضل به عليكم.
٧٩- ألم ينظر المشركون إلى الطير مذللات للطيران في الهواء إلى السماء، بما زودها الله به من أجنحة أوسع من جسمها تبسطها وتقبضها، وسخر الهواء لها، فما يمسكهن في الجو إلا الله بالنظام الذي خلقها عليه ؟ إن في النظر إليها والاعتبار بحكمة الله في خلقها، لدلالة عظيمة ينتفع بها المستعدون للإيمان.
٨٠- والله سبحانه وتعالى هو الذي جعلكم قادرين على إنشاء بيوت لكم تتخذون منها مساكن، وجعل لكم من جلود الإبل والبقر والغنم وغيرها أخبية تسكنون فيها، وتنقلونها في حلكم وترحالكم، وجعلكم تتخذون من صوفها وشعرها ووبرها فرشاً تتمتعون بها في هذه الدنيا إلى حين آجالكم.
٨١- والله جعل لكم من الأشجار التي خلقها وغيرها ظلالا تقيكم شر الحر، وجعل لكم من الجبال كهوفاً ومغارات تسكنون فيها كالبيوت، وجعل لكم ثياباً من الصوف والقطن والكتان وغيرها تصونكم من حرارة الشمس، ودروعاً من الحديد تصونكم من قسوة حروب أعدائكم، كما جعل لكم هذه الأشياء، يتم عليكم نعمته بالدين القيم ؛ لتنقادوا لأمره وتخلصوا عبادتكم له دون غيره.
٨٢- فإن أعرض عنك - أيها النبي - الذين تدعوهم إلى الإسلام، فلا تبعة عليك في إعراضهم، فليس عليك إلا التبليغ الواضح، وقد فعلت.
٨٣- إن إعراض هؤلاء الكفار ليس لأنهم يجهلون أن الله - سبحانه - هو مصدر كل النعم عليهم، ولكنهم يعملون عمل من ينكرها حيث لم يشكروه عليها، وأكثرهم جمد على تقليد الآباء في الكفر بالله، حتى كان أكثرهم هم الجاحدون.
٨٤- وحذر - أيها النبي - كل كافر بربه مما سيحصل، يوم نبعث من كل أمة نبيا ليشهد لها أو عليها بما قابلت به رسول ربها، وإذا أراد الكافر منهم أن يعتذر لا يؤذن له في الاعتذار، ولا يوجد لهم شفيع يمهد لشفاعته، بأن يطلب منهم الرجوع عن سبب غضب الله عليهم، لأن الآخرة ليست دار توبة.
٨٥- وإذا رأى الذين ظلموا أنفسهم بالكفر عذاب جهنم، وطلبوا أن يخففه اللَّه عنهم، لا يُجاب لهم طلب، ولا يؤخرون عن دخول جهنم لحظة.
٨٦- وإذا رأى الذين أشركوا آلهتهم التي عبدوها وزعموا أنها شركاء للَّه قالوا : يا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا نعبدهم مخطئين، فخفف عنا العذاب بإلقاء بعضه عليهم، فيجيبهم شركاؤهم قائلين : إنكم - أيها المشركون - لكاذبون في دعواكم أننا شركاء، وأنكم عبدتمونا، إنما عبدتم أهواءكم، ولسنا كما زعمتم شركاء.
٨٧- حينئذٍ استسلم المشركون للَّه، وخضعوا لقضائه، وغاب عنهم ما كانوا يختلقونه من أن معبوداتهم تشفع لهم، وتدفع العذاب عنهم.
٨٨- الذين كفروا ومنعوا غيرهم عن طريق اللَّه، وهو طريق الخير والحق، زدناهم عذابا فوق العذاب الذي استحقوه بالكفر، بسبب ما كانوا يتعمدونه من الإفساد وإضلال العباد.
٨٩- وحذر - أيها النبي - كفار قومك مما سيحصل يوم نُحضر من كل أمة شهيداً عليها، هو نبيها الذي يكون بين أبنائها، ليكون ذلك أقطع لعذرها، ونجيء بك - أيها النبي - شهيداً على هؤلاء الذين كذبوك، وعليهم أن يعتبروا من الآن، قد نزلنا القرآن فيه بيان كل شيء من الحق، وفيه الهداية، وفيه الرحمة والبشرى بالنعيم، للذين يذعنون له ويؤمنون به.
٩٠- إن اللَّه يأمر عباده بأن يعدلوا في أقوالهم وأفعالهم، ويقصدوا إلى الأحسن من كل الأمور، فيفضلوه على غيره، كما يأمر بإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه، لدعم روابط المحبة بين الأسر، وينهي عن فعل كل خطيئة، خصوصاً الذنوب المفرطة في القبح، وكل ما تنكره الشرائع والعقول السليمة، كما ينهي عن الاعتداء على الغير، واللَّه - سبحانه - بهذا يذكركم ويوجهكم إلى الصالح من أموركم، لعلكم تتذكرون فضله في حسن توجيهكم، فتمتثلوا كلامه.
٩١- وأوفوا بالعهود التي تقطعونها على أنفسكم، مشهدين اللَّه على الوفاء بها، ما دام الوفاء متسقا مع ما شرعه اللَّه، ولا تنقضوا الأيمان بالحِنث فيها، بعد تأكيدها بذكر اللَّه، وبالعزم وبالتصميم عليها، وقد راعيتم في عهودكم وحلفكم أن اللَّه يكفل وفاءكم، وأن اللَّه رقيب ومطلع عليكم، فكونوا عند عهودكم وأيمانكم ؛ لأن اللَّه - سبحانه - يعلم ما يكون منكم من وفاء وخُلف وبرّ وحِنث، فيجازيكم على ما تفعلون.
٩٢- ولا تكونوا في الحنث في أيمانكم بعد توكيدها مثل المرأة المجنونة التي تغزل الصوف وتحكم غزله، ثم تعود فتنقضه وتتركه محلولاً، متخذين أيمانكم وسيلة للتغرير والخداع لغيركم، مع أنكم مصرون على الغدر بهم ؛ لأنكم أكثر وأقوى منهم، أو تنوون الانضمام لأعدائهم الأقوى منهم، أو لترجون زيادة القوة بالغدر، وإنما يختبركم اللَّه، فإن آثرتم الوفاء كان لكم الغنم في الدنيا والآخرة، وإن اتجهتم إلى الغدر كان الخسران. وليبين لكم يوم القيامة حقيقة ما كنتم عليه، تختلفون عليه في الدنيا، ويجازيكم حسب أعمالكم.
٩٣- ولو شاء اللَّه لجعلكم أمة واحدة في الجنس واللون والإيمان، ليس بينها تخالف، وذلك بخلقكم خلقا آخر. كالملائكة لا اختيار لها، ولكن شاء اللَّه أن تختلفوا في الأجناس والألوان، وأن يجعل لكم اختيارا، فمن اختار شهوات الدنيا، وآثرها على رضا اللَّه تركه وما يريد، ومن أراد رضا اللَّه بالعمل الصالح سهّل له ما أراد. وتأكدوا بعد ذلك أنكم ستسألون جميعا يوم القيامة عما كنتم تعملون في الدنيا، وتجازون حسب أعمالكم.
٩٤- ولا تسلكوا سبيل الغدر، فتتخذوا الأيمان سبيلاً للتغرير والخديعة، فإنه بسبب ذلك تزل الأقدام فتبتعدوا عن المحجة المستقيمة، ويكون في ذلك إعراض عن سبيل اللَّه في الوفاء، وتكونون قدوة سيئة في الغدر، ويرى الناس فيكم صورة مشوهة للإسلام، فيعرضون عنه، وينزل السوء بكم في الدنيا لعدم الثقة فيكم، بسبب صدّكم عن طريق الحق، وينزل بكم عذاب مؤلم شديد الإيلام.
٩٥- ولا تستبدلوا بالوفاء بالعهود المؤكدة متاع الدنيا، فهو قليل مهما كان كثيرا ؛ لأن ما عند اللَّه من جزاء المحافظين على العهد في الدنيا، ومن نعيم الآخرة الدائم، خير لكم من كل ما يغريكم بنقض العهود، فتدبروا ذلك وافهموه إن كنتم من أهل العلم والتمييز بين الصالح وغير الصالح، ولا تفعلوا إلا ما فيه صلاح لكم في دنياكم وأخراكم.
٩٦- فإن ما عندكم - أيها الناس - من نعيم ينفد وينتهي مهما طال زمنه، وما عند اللَّه من نعيم الآخرة خالد لا ينقطع، ولنكافئن الذين صبروا على مشاق التكاليف بما وعدناهم به، من حسن الثواب المضاعف على أعمالهم، ينعمون به نعيما دائما في الآخرة.
٩٧- أن من عمل عملاً صالحا في هذه الدنيا، سواء كان ذكراً أو أنثى، مندفعا إلى هذا العمل الصالح بقوة الإيمان بكل ما يجب الإيمان به، فإننا لا بد أن نحييه في هذه الحياة الدنيا حياة طيبة لا تنغيص فيها، تغمرها القناعة والرضا والصبر على مصائب الدنيا، والشكر على نعم اللَّه فيها، وفي الآخرة لا بد أن نجزي هذا الفريق من الناس حسن الثواب المضاعف على أعمالهم في الدنيا.
٩٨- وإن الذي يحمي النفس من نزعات الهوى هو القرآن، فإذا تدبرت هذا - أيها المؤمن - وأردت أن تحيا بعيداً عن تلاعب الشيطان، وتفوز بطيب الحياة في الدارين، فإني أرشدك إلى أمر يعينك على هذا، وهو قراءة القرآن، وإذا أردت قراءة القرآن فاستفتح قراءته بالدعاء الخالص إلى اللَّه أن يمنع عنك وساوس الشيطان المطرود من رحمة اللَّه، أخذ العهد على نفسه أن يغوي الناس ويوقعهم في عصيان اللَّه.
٩٩- فإنك إن فعلت هذا مخلصا للَّه، حماك اللَّه منه، وَبعُدَت عنك وساوسه، إنه ليس له تأثير على الذين عمرت قلوبهم بالإيمان باللَّه، واستمداد العون منه - وحده - والاعتماد عليه.
١٠٠- إنما تأثيره وخطره على الذين خلت قلوبهم من التعلق باللَّه وحبه، فلم يكن لهم عاصم من تأثيره، فانقادوا له كما ينقاد الصديق لصديقه، حتى أوقعتهم في أن يُشركوا باللَّه في العبادة آلهة لا تضر ولا تنفع.
١٠١- وإذا جعلنا معجزة لك بدل معجزة مساوية لنبي سابق، فجئناك بالقرآن معجزة، رموك بالافتراء والكذب على اللَّه، واللَّه - وحده - هو العليم علما ليس فوقه علم بما ينزل على الأنبياء من معجزات، ولكن أكثرهم ليسوا من أهل العلم والمعرفة الصادقة.
١٠٢- قل لهم مبينا منزلة معجزتك - أيها النبي - : إن القرآن قد نزل عليّ من ربي، مع جبريل الروح الطاهر، مقترنا بالحق، مشتملا عليه، ليثبت به قلوب المؤمنين، وليكون هاديا للناس إلى الصواب، ومبشرا بالنعيم لكل المسلمين.
١٠٣- إننا لنعلم ما يقوله كفار مكة : إنه لا يُعلم محمدا هذا القرآن إلا رجل من البشر نعرفه، هو شاب رومي، وما ينزله عليه ملك من عند اللَّه كما يقول قولهم، وهذا باطل ؛ لأن الشاب الذي يقولونه عنه أنه يعلمك هذا التعليم، أعجمي لا يحسن العربية، والقرآن لغة عربية واضحة الفصاحة، إلى حد أنكم عجزتم أيها المكابرون عن محاكاتها، كيف يصح بعد ذلك اتهامكم ؟.
١٠٤- إن الذين لا يذعنون لآيات اللَّه التي عجزوا عن محاكاتها، وأصروا مع عجزهم، على كفرهم بها، لا يهديهم اللَّه، ولهم في الآخرة عذاب شديد بسبب كفرهم وعنادهم.
١٠٥- إنما يجرؤ على افتراء الكذب على اللَّه من لا يؤمنون بآيات اللَّه، وأولئك هم - وحدهم - البالغون في الكذب نهايته، ولست - أيها النبي - من هؤلاء حتى يتهموك بما اتهموك به.
١٠٦- إن الذين ينطقون بالكفر بعد الإيمان عليهم غضب من اللَّه، إلا من أكره على النطق بكلمة الكفر وهو عامر القلب بالإيمان، فإنه ناج من غضب اللَّه. أما الذين تنشرح قلوبهم للكفر، وتتجاوب مع قلوبهم ألسنتهم، فأولئك عليهم غضب شديد من اللَّه الذي أعد لهم عذابا عظيما في الآخرة.
١٠٧- وذلك الذي استحقوه من غضب اللَّه وعذابه إنما كان بسبب حبهم الشديد لنعيم الدنيا ومتاعها الزائل، حتى صرفهم هذا الحب عن الحق، وأعماهم عن الخير، فتركهم اللَّه وما يحبون من الكفر ؛ لأنه قد جرت سنته في خلقه بترك أمثال هؤلاء، وعدم هدايتهم لفسادهم، وتماديهم في الباطل.
١٠٨- هؤلاء هم الذين طبع اللَّه على قلوبهم، فصارت لا تقبل الحق، وعلى أسماعهم فلم يعودوا يسمعون سماع فهم وتدبر، كأنهم صم، وعلى أبصارهم فلا ترى ما في الكون أمامهم من عبر ودلالات، وأولئك هم الغارقون في الغفلة عن الحق، فلا خير فيهم إلا إذا أزالوا الغفلة من عقولهم.
١٠٩- وهؤلاء لا شك أنهم - وحدهم - هم الخاسرون لكل خير في الآخرة.
١١٠- ثم اعلم - أيها النبي - أن ربك مُعين وناصر للذين هاجروا من مكة فرارا بدينهم من الضغط، وبأنفسهم من عذاب المشركين، ثم جاهدوا بما يملكون الجهاد به من قول أو فعل، وصبروا على مشاق التكاليف، وعلى ما يلاقونه في سبيل دينهم، إن ربك من بعد ما تحملوا ذلك لغفور لما حصل منهم إن تابوا، رحيم بهم فلا يؤاخذهم على ما أكرهوا عليه.
١١١- اذكر لقومك - أيها النبي - محذراً إياهم يوم يأتي فيه كل إنسان لا يهمه إلا الدفاع عن نفسه، لا يشغله عنها والد ولا ولد، وهو يوم القيامة، ويوفي اللَّه فيه كل نفس جزاء ما كسبت من أعمال، خيراً كانت أو شراً، ولا يظلم ربك أحدا.
١١٢- وجعل اللَّه - سبحانه - لأهل مكة مثلاً يعتبرون به هو قصة قرية من القرى كان أهلها في أمن من العدو، وطمأنينة من ضيق العيش، يأتيهم رزقهم واسعاً من كل مكان، فجحدوا نعم اللَّه عليهم، ولم يشكروه بطاعته وامتثال أمره، فعاقبهم اللَّه بالمصائب التي أحاطت بهم من كل جانب، وذاقوا مرارة الجوع والخوف بعد الغنى والأمن، وذلك بسبب تماديهم في الكفر والمعاصي.
١١٣- ولقد جاءهم رسول منهم فكان يجب عليهم شكر اللَّه على ذلك، ولكنهم كذبوه عناداً وحسداً، فأخذهم العذاب حال تلبسهم بالظلم، وبسبب هذا الظلم.
١١٤- إذا كان المشركون يكفرون بنعم الله فيبدلها بؤسا، فاتجهوا - أيها المؤمنون - إلى الشكر، وكلوا مما رزقكم اللَّه، وجعله حلالا طيبا لكم، ولا تحرموه على أنفسكم، واشكروا نعمة اللَّه عليكم بطاعته - وحده - إن كنتم تخصونه حقا بالعبادة.
١١٥- فإن اللَّه لم يحرم عليكم إلا أكل الميتة، والدم الذي ينزل من الحيوان عند ذبحه، ولحم الخنزير، وما ذبح لغير اللَّه، فمن ألجأته ضرورة الجوع إلى تناول شيء مما حرَّمه اللَّه عليكم غير طالب له، ولا يتجاوز في أكله حد إزالة الضرورة، فإن اللَّه لا يؤاخذه على ذلك، ؛ لأنه - سبحانه - غفور لعباده يغفر لهم ما يقعون فيه من أخطاء لا يصرون عليها، رحيم بهم حين منعهم مما يضرهم، وأباح لهم ما يحفظ حياتهم.
١١٦- وإذا كان اللَّه قد بيَّن حكم الحلال والحرام، فالتزموا ما بيَّن لكم، ولا تجرءوا على التحليل والتحريم انطلاقاً وراء ألسنتكم، فتقولوا : هذا حلال وهذا حرام، فتكون عاقبة قولكم هذا : أنكم تفترون على اللَّه الكذب، وتنسبون إليه ما لم يقله، إن الذين يفترون على اللَّه الكذب لا يفوزون بخير ولا فلاح.
١١٧- وإذا كانوا يجرون بذلك وراء شهواتهم ومنافعهم الدنيوية فإن تمتعهم بها قليل زائل، ولهم في الآخرة عذاب شديد.
١١٨- ولم تحرم إلا على اليهود - وحدهم - ما قصصناه عليك - أيها النبي - من قبل نزول هذه الآيات، وهو كل ذي ظفر، وشحوم البقر والغنم، إلا ما حملت ظهورها، أو الحوايا أو ما اختلط بالعظام. وما ظلمناهم بهذا التحريم، ولكنهم الذين ظلموا أنفسهم، لتسببهم فيه بسبب تماديهم وشراهتهم وعدم وقوفهم عند الحلال.
١١٩- ثم إن الذين عملوا السوء تحت تأثير طيش وغفلة عن تدبر العواقب، ثم تابوا من ذلك الذنب، وأصلحوا نفوسهم وأعمالهم، فإن ربك - أيها النبي - يغفر لهم ذنوبهم، لأنه - سبحانه - بعد هذه التوبة كثير التجاوز عن السيئات، واسع الرحمة بالعباد.
١٢٠- إن إبراهيم الذي تفخرون به - أيها المشركون أنتم واليهود - كان جامعا لكل الفضائل، بعيدا عما أنتم عليه من باطل، خاضعاً لأمر ربه، ولم يكن مثلكم مشركا به.
١٢١- وكان شاكرا لنعم ربه عليه، ولهذا كله اختاره اللَّه لحمل رسالته، ووفقه لسلوك طريق الحق المستقيم الموصل للنعيم الدائم.
١٢٢- وجعلنا له في الدنيا ذكرا حسنا على كل لسان، وسيكون قطعا في الآخرة في زمرة الصالحين المنعَّمين بجنات اللَّه ورضوانه.
١٢٣- ثم أوحينا إليك - أيها النبي - بعد إبراهيم بقرون عديدة، وأمرناك باتباع إبراهيم فيما دعا إليه من التوحيد والفضائل والبعد عن الأديان الباطلة، فإنه لم يكن من الذين يشركون مع اللَّه آلهةً أخرى، كما يزعم هؤلاء المشركون.
١٢٤- وليس تعظيم يوم الجمعة، وترك تعظيم يوم السبت في الإسلام مخالفاً لما كان عليه إبراهيم كما يدعي اليهود، فإن تحريم الصيد يوم السبت احتراماً له لم يكن من شريعة إبراهيم، وإنما فرض على اليهود فقط، ومع ذلك لم يحترموه بل خرج بعضهم على هذا التعظيم، وخالفوا أمر ربهم فكيف يعيبون على غيرهم ممن لم يكلف بتعظيمه عدم تعظيمه، مع أنهم - وهم المكلفون بذلك - خرجوا عليه ؟ وتأكد - أيها النبي - أن ربك سيقضي بينهم يوم القيامة في الأمور التي اختلفوا فيها، ويجازي كلا منهم بعمله.
١٢٥- أيها النبي : ادع إلى طريق الحق الذي شرعه ربك مع قومك، واسلك في دعوتهم الطريق الذي يناسب كل واحد منهم، فادع خواصهم ذوي المدارك العالية بالقول الحكيم المناسب لقولهم، وادع عوامهم بما يناسبهم من إيراد المواعظ، وضرب الأمثال التي توجههم إلى الحق، وترشدهم من أقرب طريق مناسب لهم، وجادل أصحاب الملل السابقة من أهل الكتب بالمنطق والقول اللين، والمجادلة الحسنة التي لا يشوبها عنف ولا سِبَاب حتى تتمكن من إقناعهم واستمالتهم. هذا هو الطريق لدعوة الناس إلى اللَّه على اختلاف ميولهم، فاسلك هذا الطريق معهم، واترك أمرهم بعد ذلك إلى ربك الذي يعلم من غرق في الضلال منهم وابتعد عن طريق النجاة، من سلم طبعه فاهتدى وآمن بما جئت به.
١٢٦- وإن أردتم عقاب من يعتدي عليكم - أيها المسلمون - فعاقبوه بمثل ما فعل بكم، ولا تتجاوزوا هذا المثل، وتأكدوا لو صبرتم، ولم تقتصوا لأنفسكم، لكان خيرا لكم في الدنيا والآخرة، فعاقبوا لأجل الحق، ولا تعاقبوا لأجل أنفسكم.
١٢٧- واصبر أنت - أيها النبي - فإن ذلك يسهل عليك كثيرا من مشقات الحياة، ويعالج مشاكلها، ولا تحزن على عدم استجابة قومك لدعوتك، وإيمانهم بك، ولا يضق صدرك من مكرهم وتدابيرهم لخنق دعوتك، فإنك لن يضرك شيء من فعلهم، وقد أديت ما عليك واتقيت ربك.
١٢٨- فإن ربك مع الذين اتقوا غضب الله باجتناب نواهيه، وأحسنوا لله أعمالهم بالإقبال على طاعته، يعينهم وينصرهم في الدنيا ويجزيهم خير الجزاء في الآخرة.