تفسير سورة المؤمنون

المنتخب في تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه المنتخب . المتوفي سنة 2008 هـ
سورة مكية، وآياتها مائة وثمان عشرة آية، ابتدأت بإثبات الفلاح للمؤمنين، وأتبعت ذلك ببيان صفاتهم. ثم ذكرت أصل خلق الإنسان، وتطور أصله، وتسلسل سلالاته، وبعض مظاهر قدرة الله تعالي، وعقبت ذلك بقصص الأنبياء المردفة باتحاد الرسالات ووحدة الإنسان، وإن اختلف الناس إلي معترف ومنحرف، ووصفت طالب الهدى وصاحب الضلال، وبينت موقف المشركين من النبي صلي الله عليه وسلم وانتقلت من ذلك إلي مظهر قدرة اله في إحكام خلق الإنسان، وأخذ سبحانه فيها يسأل الناس ليجيبوه بفطرهم بما يقرر وجوده، ويثبت ألوهيته، ثم بينت السورة أحوال الناس في القيامة، وأنهم سيحاسبون، ويؤخذون بالعدل، وتختم السورة ببيان جلاله سبحانه وتعالي وتنبيه رسوله إلي طلب المغفرة والرحمة من أرحم الراحمين.

١- تَحَقَّق الفلاح للمؤمنين بالله وبما جاءت به الرسل، وفازوا بأمانيهم.
٢- الذين ضموا إلي إيمانهم العمل الصالح، هم في صلاتهم متوجهون إلي الله بقلوبهم، خائفون منه، متذللون له، يَحُسُّون بالخضوع المطلق له.
٣- هم مؤثرون للجد، معرضون عمَّا لا خير فيه من قول وعمل.
٤- وهم محافظون علي أداء الزكاة إلي مستحقيها، وبذلك يجمعون بين العبادات البدنية والعبادات المالية، وبين تطهير النفس وتطهير المال١.
١ ﴿والذين هم للزكاة فاعلون﴾: هدفت فريضة الزكاة إلي توثيق الروابط الاجتماعية بين المسلمين، وإشعار كل فرد منهم بأنه مسئول عن أخيه، يحس بإحساسه، ويتألم لألمه، فيعمل ما استطاع ليقيه نائبات الزمان ومرارة الحرمان، فلا يحقد فقير أو مسكين علي غني، بل يشعر الجميع بأنهم أسرة واحدة متعاونة معتصمة بحبل الله، ولا ييأس مدين من أن يعطي ما يفي به دينه إذا كان لا يملك ما يوفي به هذا الدين. ولا توهن عزيمة غاز في سبيل الله لنصرة دينه وتحرير وطنه حاجة إلي مال يعينه علي تحقيق غايته، ولا يعدم مسافر أو غريب محتاج أو منقطع عن ماله من يبذل له نفقة يستعين بها يصل إلي وطنه. والزكاة بجانب هذا كله وسيلة من الوسائل الفعالة التي اتخذها الإسلام لفك الرقاب وإلغاء الرق، ولقد توسع الإسلام في تحقيق أهدافه الاجتماعية العالمية، ونبذ التعصب الديني الممقوت، فأباح أن يعطي الكفار من الزكاة إذا دعت الحاجة إلي استئلافهم، وكذلك العاملون عليها، والمكاتبون، وأبناء السبيل، والغارمون لإصلاح ذات البين، والذين يعاونون المسلمين في قتال. أما الهدف الاقتصادي للزكاة فهو القضاء علي الفقر أينما حل، ومعاونة كل ذي حاجة علي النحو الذي تقدم..
٥- وهم يحافظون علي أنفسهم من أن تكون لها علاقة بالنساء١.
١ ﴿والذين هم لفروجهم حافظون، إلا علي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون﴾: تتصل هذه الآيات بآيات أخرى في سورة النور أولها: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة﴾. إن الآيات الكريمة المذكورة تشير إلي ما ينتج عن الزنا من آثار اجتماعية ضارة. أما من الناحية الاجتماعية فيؤدي اختلاط الأنساب. كما أنه من الناحية الطبية ينقسم تأثير الزنا إلي ناحيتين:
الأولي: هي الناحية الجسمانية وما ينتج عنها، مثل السيلان والزهري والقرحة والزفرة، ومن مضاعفاتها أن السيلان ينتهي بمضاعفات بولية تناسلية، أو مفصلية، أو رمدية قد ينتج عنها فقد الإبصار، أما الزهري فينتشر في الجسم كله ويصيب الأنسجة والشرايين والجهاز العصبي، وقد ينتهي بصاحبه إلي الجنون، كما يؤثر علي النسل، فيموت الجنين أو يشوه.
الثانية: التأثير العصبي، فإن الزناة منهم من قد يصاب بتأنيب الضمير والشعور بالإثم، وفي النهاية يصاب بانهيار عصبي، ومن كثرة الإفراط قد يؤدي به إلي طريق الجنون..

٦- إلا بطريق الزواج الشرعي أو بملكية الجواري١ فلا مؤاخذة عليهم فيه.
١ كان الرق في الماضي ثابتا، وكان للرجل أن يصطفي من جواريه من يتخذها كزوجة، والإسلام أباح الرق في القتال المشروع إذا كان الأعداء يسترقون من قبيل المعاملة بالمثل، فإن لم يسترق الأعداء فإن المسلمين لا يسترقون..
٧- فمن أراد الاتصال بالمرأة عن غير هذين الطريقين فهو متعدٍ للحدود المشروعة غاية التعدي.
٨- وهم محافظون علي كل ما ائتمنوا عليه من مال، أو قول، أو عمل، أو غير ذلك، وعلي كل عهد بينهم وبين الله أو بينهم وبين الناس، فلا يخونون الأمانات ولا ينقضون العهود.
٩- وهم مداومون علي أداء الصلاة في أوقاتها، محققون لأركانها وخشوعها، حتى تؤدى إلي المقصود منها، وهو الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.
١٠- هؤلاء الموصوفون هم الذين يرثون الخير كله، وينالونه يوم القيامة.
١١- هم الذين يتفضل الله عليهم بالفردوس، أعلي مكان في الجنة، يتمتعون فيه دون غيرهم.
١٢- وأن علي الناس أن ينظروا إلي أصل تكوينهم، فإنه من دلائل قدرتنا الموجبة للإيمان بالله وبالبعث، فإننا خلقنا الإنسان من خلاصة الطين.
١٣- ثم خلقنا نسله فجعلناه نطفة - أي ماء فيه كل عناصر الحياة الأولي - تستقر في الرحم، وهو مكان مستقر حصين.
١٤- ثم صيَّرنا هذه النطفة بعد تلقيح البويضة والإخصاب دما، ثم صيَّرنا الدم بعد ذلك قطعة لحم، ثم صيرناها هيكلا عظميا، ثم كسونا العظام باللحم، ثم أتممنا خلقه فصار في النهاية بعد نفخ الروح فيه خلقاً مغايراً لمبدأ تكوينه، فتعالي شأن الله في عظمته وقدرته، فهو لا يشبه أحد في خلقته وتصويره وإبداعه.
١٥- ثم إنكم - يا بني آدم - بعد ذلك الذي ذكرناه من أمركم صائرون إلي الموت لا محالة.
١٦- ثم إنكم تبعثون يوم القيامة للحساب والجزاء.
١٧- وإننا قد خلقنا سبع سموات مرتفعة فوقكم، فيها مخلوقات لم نغفل عنها فحفظناها ودبرناها، ونحن لا نغفل عن جميع المخلوقات، بل نحفظها كلها من الزوال والاختلال، وندبر كل أمورها بالحكمة١.
١ ﴿ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين﴾: الطرائق السبع في الآية كناية عن عدد السماوات، وأنها ليست بسماء واحدة، وهو ـ عز وجل ـ لا يغفل عن هذه السماوات وما فيها من خلق..
١٨- وأنزلنا من السماء مطراً بحكمة وتقدير في تكوينه وإنزاله، وتيسيراً للانتفاع به جعلناه مستقراً في الأرض علي ظهرها وفي جوفها، وإنا لقادرون علي إزالته وعدم تمكينكم من الانتفاع به، ولكنا لم نفعل رحمة بكم، فآمنوا بخالقه واشكروه١.
١ ﴿وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض، وإنا علي ذهاب به لقادرون﴾: تشير هذه الآية الكريمة إلي معان خاصة بالدورة المائية في الأرض، فمن المعلوم أن عمليان البخر من المحيطات والبحار تنشأ عنها إثارة السحب التي ينزل منها المطر الذي هو أساس المياه العذبة علي سطح الأرض والعنصر الأساسي للحياة عليها، ومن الأمطار تفيض الأنهار التي تهب الحياة للمناطق القاحلة والنائية. ثم هي أخيرا تصب في البحار، وتعيد الطبيعة الكرة من البحر إلي الجو إلي البر ثم إلي البحر ثانية. غير أن بعض مياه الأمطار في أثناء هذه الدورة الطبيعية يتسرب إلي باطن القشرة الأرضية مكونا المياه الجوفية التي تنتقل فيها من مكان إلي آخر، وكثيرا ما تستقر وتظل مختزنة في أحواض تركيبية شاسعة تحت السطح تقيدها في مكانها آمادا طويلة، كتلك التي توجد تحت الصحراء الغربية الليبية، والتي كشفت البحوث الحديثة عن أصلها القديم، وقد تعتري مثل هذه التراكيب الجيولوجية الخازنة تغيرات حرارية يسميها العلماء بالثورات الجيولوجية، فتذهب بها وما بها من ماء إلي أمكنة أخرى قاحلة، فتحييها بعد موتها.
وتشير هذه الآية إلي الحكة العالية في توزيع الماء بقدر أي بتقدير لائق حكيم، لاستجلاب المنافع ودفع المضار. وثم معنى آخر للآية الكريمة يفيد: أن مشيئة الخالق ـ جل وعلا ـ اقتضت أن يسكن في الأرض كمية معلومة من المياه في محيطاتها وبحارها تكفي لحدوث التوازن الحراري المناسب في هذا الكوكب، وعدم وجود فروق عظيمة بين درجات حرارة الصيف والشتاء لتلائم الحياة، كما في بعض الكواكب والتوابع كالقمر. كما أن مياه الأرض أنزلت بقدر معلوم لا يزيد فيغطي كل سطحها، ولا يقل فيقصر دون ري الجزء الربي منها..

١٩- فخلقنا لكم بهذا الماء حدائق من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة، ومنها تأكلون.
٢٠- وخلقنا لكم شجرة الزيتون التي تنبت في منطقة طور سيناء، وفي ثمارها زيت تنتفعون به، وهو إدام للآكلين١.
١ ﴿وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين﴾: تقرر هذه الآية الكريمة أن شجرة الزيتون من ضمن النعم التي أنعم الله بها علي الإنسان، وعدد بعضها في الآيات السابقة واللاحقة لهذه الآية. إذ أنها من الأشجار الخشبية التي تعمر طويلا لمدد تزيد علي مئات السنين، فلا يأخذ أمرها جهدا من الإنسان، وإنما تثمر أثمارا مستمرة طبيعية كما تتميز بأنها دائمة الخضرة جميلة المنظر. وتفيد الأبحاث العلمية أن الزيتون يعتبر مادة غذائية جيدة، ففيه نسبة كبيرة من البروتين، كما تتميز بوجود الأملاح الكلسية والحديدية والفسفورية، وهي مواد هامة وأساسية في غذاء الإنسان، وعلاوة علي ذلك فإن الزيتون يحتوي علي فيتامين "أ" وفيتامين "ب"، ويستخرج من الثمار وزيت الزيتون الذي يحتوي علي نسبة عالية من الدهون السائلة، وهذا الزيت يستعمل بكثرة في التغذية.
وتفيد الأبحاث الطبية إلي أن زيت الزيتون له فوائد عديدة، فهو يفيد الجهاز الهضمي عامة، والكبد خاصة، وهو يفضل كافة أنواع الدهون الأخرى نباتية أو حيوانية، إذ لا يسبب أمراضا للدورة الدموية أو الشرايين كغيره من الدهون، كما أنه ملطف للجلد، إذ يجعله ناعما ومرنا. ولزيت الزيتون استعمالات أخرى كثيرة صناعية، إذ يحضر منه بعض الصناعات، ويدخل في تركيب أفضل وأحسن أنواع الصابون، وفي غير ذلك من مختلف الصناعات الغذائية والصناعية..

٢١- وإن لكم في الأنعام - وهي الإبل والبقر والغنم - ما يدل علي قدرتنا وتفضلنا عليكم بالنعم، نسقيكم لبناً مستخرجاً مما في بطونها خالصاً سائغاً سهلا للشاربين، ولكم فيها سوى اللبن منافع كثيرة كاللحوم والأصواف والأوبار، ومنها تعيشون وترزقون.
٢٢- وعلي هذه الأنعام وعلي السفن تركبون وتحملون الأثقال، فخلقنا لكم وسائل الانتقال والحمل في البر والبحر، وبها يكون الاتصال بينكم.
٢٣- وفي قصص الأولين عبرة لكم لتؤمنوا، فقد أرسلنا نوحاً إلي قومه، فقال لهم : يا قوم اعبدوا الله وحده، فليس لكم إله يستحق العبادة غيره، ألا تخافون عقابه، وزوال نعمه إن عصيتم.
٢٤- فقال الكبراء من قومه الذين كفروا منكرين لدعوته صادِّين العامة عن اتباعه : لا فرق بين نوح وبينكم، فهو مثلكم في البشرية، ولكنه يريد أن يتميز عليكم بهذه الدعوة، ولو كان هناك رسل من الله - كما يزعم - لأرسلهم ملائكة، ما سمعنا في تاريخ آبائنا السابقين بهذه الدعوة، ولا بإرسال بشر رسولا.
٢٥- ما هو إلا رجل به جنون، ولذلك قالوا : فانتظروا واصبروا عليه حتى ينكشف جنونه، أو يحين هلاكه.
٢٦- دعا نوح ربه بعد ما يئس من إيمانهم، فقال : يا رب انصرني عليهم، وانتقم منهم بسبب تكذيبهم لدعوتي.
٢٧- فقلنا له عن طريق الوحي : اصنع السفينة وعنايتنا ترعاك، فتدفع عنك شرهم ونرشدك في عملك، فإذا حل ميعاد عذابهم، ورأيت التنور يفور ماء بأمرنا، فأدخل في السفينة من كل نوع من الكائنات الحية ذكراً وأنثى، وأدخل أهلك أيضاً إلا من تقرر تعذيبهم لعدم إيمانهم، ولا تسألني نجاة الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم بالكفر والطغيان، فإني حكمت بإغراقهم لظلمهم بالإشراك والعصيان١.
١ ﴿فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيينا ووحينا. فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم، ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون﴾: إن ما جاء في وصف حدوث الطوفان في الآيات الكريمة رغم أنه موجز، إلا أنه بالنسبة للعقل المفكر يتضمن من المعاني والحقائق العلمية ما يعزب عن كثير من البشر. والتنور لغة: هو الكانون يخبز فيه. أو هو وجه الأرض، وكل مفجر ماء، وكل محفل ماء.
ونحن عندما نحاول تحديد تاريخ حدوث الطوفان نجد أنه ليس بالأمر السهل. فقد حدثت طوفانات عديدة في أزمنة غير سحيقة في عهد البشرية، كما حدث في أرض بابل وفي الهند وفي الصين وفي الأمريكتين.
وجاء ذكر بعض هذه الطوفانات في القصص الشعبي، إلا أنه من المستبعد أن يكون لها علاقة بالطوفان العظيم أو طوفان نوح.
وقد ثبت من البحث والمشاهدة أن العالم انتابته طوفانات عالمية كثيرة، وأن آخر الطوفانات لعالمية كان سببه انقضاء عصر الجليد الأخير وانصهار معظم الثلوج المتجمدة في القطبين، ونحن لا نعلم علن اليقين متى انقلب الميزان وفار التنور ـ وجه الأرض ـ نتيجة للارتفاع المفاجئ في سرعة انصهار الجليد حتى علا منسوب الماء العام للبحار، وطفت المياه.
وجدير بالذكر أنه قد صاحب انصهار ثلوج العصر الجليدي الأخير مناخ شديد المطر في مناطق نائية عن القطبين، مثل حوض البحر الأبيض المتوسط.
ومهما يكن من شيء فمن المسلم به أنه ليس لدينا من الوثائق ما يمكننا من تحديد عصر نوح وقومه، فالظاهرة كلها معجزة إلهية. ومن الإعجاز أن ينصح نوح قومه ويحذرهم من غضب الله، ويوحي الله أنه مغرقهم إذا لم ينتصحوا، ثم يوحي إليه أن يصنع الفلك، ثم يأتي أمر الله، وينقلب الميزان، ويفوز التنور، وينهمر المطر تحقيقا لما أخبر الله به نوحا من أن الله يعلم أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن..

٢٨- فإذا ركبت واستقررت أنت ومن معك في السفينة فقل شاكراً ربك : الحمد لله الذي نجانا من شر القوم الكافرين الطاغين.
٢٩- وقل : يا رب مكّنِّى من النزول في منزل مبارك تطيب الإقامة فيه عند النزول إلي الأرض، وهبْ لي الأمن فيه، فأنت - وحدك - الذي تُنزل في مكان الخير والأمن والسلام.
٣٠- إن في هذه القصة عبراً ومواعظ، وإنا نختبر العباد بالخير وبالشر، وفي أنفسهم الاستعداد لكل منها.
٣١- ثم خلقنا من بعد نوح طبقة من الناس غيرهم وهم عاد.
٣٢- فأرسلنا إليهم هودا وهو منهم، وقلنا لهم علي لسانه : اعبدوا الله - وحده - فليس لكم إله يستحق العبادة غيره، وهو - وحده - الجدير بأن تخافوه، فهلا خفتم عقابه إن عصيتموه ؟.
٣٣- وقال الكبراء من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الله وما في الآخرة من حساب وجزاء، وأعطيناهم أكبر حظ من الترف والنعيم، قالوا منكرين عليه دعوته، صادين العامة عن اتباعه : لا فرق بين هود وبينكم، فما هو إلا بشر مماثل لكم في البشرية، يأكل من جنس ما تأكلون منه، ويشرب من جنس ما تشربون، ومثل هذا لا يكون رسولا لعدم تميزه عنكم.
٣٤- وحذروهم في قوة وتأكيد، فقالوا : إن أطعتم رجلا يماثلكم في البشرية، فأنتم حقاً خاسرون لعدم انتفاعكم بطاعته.
٣٥- وقالوا لهم أيضاً منكرين للبعث : أيعدكم - هود - أنكم تبعثون من قبوركم بعد أن تموتوا وتصيروا تراباً وعظاماً مجردة من اللحوم والأعصاب ؟
٣٦- إن ما وعدكم به بعيد جداً، ولن يكون أبداً.
٣٧- ليس هناك إلا حياة واحدة هي هذه الحياة الدنيا التي نجد فيها الموت والحياة يتواردان علينا، فمولود يولد وحى يموت، ولن نبعث بعد الموت أبداً.
٣٨- ما هو إلا رجل كذب علي الله، وادعى أن الله أرسله، وكذب فيما يدعو إليه، ولن نصدقه أبداً.
٣٩- قال هود بعد ما يئس من إيمانهم : يا رب انصرني عليهم وانتقم منهم، بسبب تكذيبهم لدعوتي.
٤٠- قال الله له مؤكداً وعده : سيندمون بعد قليل من الزمن علي ما فعلوا عندما يحل بهم العذاب.
٤١- فأخذتهم صيحة شديدة أهلكتهم لاستحقاقهم ذلك الهلاك، وجعلناهم في الحقارة والضعف كالشيء الذي يجرفه السيل أمامه من أعواد الشجر وأوراقه. هلاكاً وبُعداً عن الرحمة للظالمين بكفرهم وطغيانهم.
٤٢- ثم خلقنا من بعدهم أقواماً غيرهم، كقوم صالح ولوط وشعيب.
٤٣- لكل أمة زمنها المعيَّن لها، لا تتقدم عنه ولا تتأخر.
٤٤- ثم أرسلنا رسلنا متتابعين كلا إلي قومه، وكلما جاء رسول إلي قومه كذَّبوه في دعوته، فأهلكناهم متتابعين، وجعلنا أخبارهم أحاديث يرددها الناس ويعجبون منها، فَبُعْداً عن الرحمة وهلاكاً لقوم لا يصدقون الحق ولا يذعنون له.
٤٥- ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بالدلائل القاطعة الدالة علي صدقهما، وبحجة واضحة تبيِّن أنهما قد أرسلا من عندنا.
٤٦- أرسلناهما إلي فرعون وقومه فامتنعوا في تكبر عن الإيمان، وهم قوم موصوفون بالكبر والتعالي والقهر.
٤٧- وقالوا في تعجب وإنكار : أنؤمن بدعوة رجلين مماثلين لنا في البشرية، وقومها - بنو إسرائيل - خاضعون لنا ومطيعون كالعبيد ؟.
٤٨- فكذبوهما في دعوتهما فكانوا من المهلكين بالغرق.
٤٩- ولقد أوحينا إلي موسى بالتوراة، ليهتدي قومه بما فيها من إرشادات إلي الأحكام وأسباب السعادة.
٥٠- وجعلنا عيسى ابن مريم وأمه - في حملها به من غير أن يمسها بشر وولادته من غير أب - دلالة قاطعة علي قدرتنا البالغة، وأنزلناها في أرض مرتفعة منبسطة تستقر فيها الإقامة ويتوافر الماء الذي هو دعامة العيش الرغيد.
٥١- وقلنا للرسل ليبلغوا أقوامهم : كلوا من أنواع الحلال الطيب، وتمتعوا واشكروا نعمتي بعمل الصالحات، إني عليم بما تعملون ومجاز لكم عليه.
٥٢- وقلنا لهم ليبلغوا أقوامهم : إن هذا الدين الذي أرسلتكم به دين واحد في العقائد وأصول الشرائع، وإنكم أمة واحدة في كل الأجيال، منهم المهتدى ومنهم الضال، وأنا ربكم الذي أمرتكم باتباعه فخافوا عقابي إن عصيتم.
٥٣- فقطع الناس أمر دينهم، فمنهم المهتدون ومنهم الضالون الذين اتبعوا أهواءهم، فتفرقوا بسبب ذلك جماعات مختلفة متعادية، كل جماعة فرحة بما هي عليه، ظانة أنه - وحده - الصواب.
٥٤- فاترك الكافرين - يا محمد - في جهالتهم وغفلتهم ما دمت قد نصحتهم حتى يقضى الله فيهم بالعذاب بعد حين.
٥٥- أيظن هؤلاء العاصون أنا إذ نتركهم يتمتعون بما أعطيناهم من المال والبنين.
٥٦- نكون قد رضينا عنهم، فتفيض عليهم الخيرات بسرعة وكثرة، إنهم كالبهائم لا يشعرون لعدم استخدامهم عقولهم، إنني غير راض عنهم، وإن هذه النعم استدراج منا لهم.
٥٧- إن الذين هم يخشون الله ويهابونه وقد تربت فيهم المخافة منه سبحانه.
٥٨- والذين هم يؤمنون بآيات ربهم الموجودة في الكون، والمتلوة في الكتب المنزلة.
٥٩- والذين هم لا يشركون بالله أحداً.
٦٠- والذين يعطون مما رزقهم الله، ويؤدون عملهم وهم خائفون من التقصير، لأنهم راجعون إلي الله بالبعث ومحاسبون.
٦١- أولئك يسارعون بأعمالهم إلي نيل الخيرات، وهم سابقون غيرهم في نيلها.
٦٢- ونحن لا نكلف أحداً إلا بما يستطيع أن يؤديه، لأنه داخل في طاقته، وكل عمل من أعمال العباد مسجل عندنا في كتاب، وسنخبرهم به كما هو، وهم لا يظلمون بزيادة عقاب أو نقص ثواب.
٦٣- لكن الكافرين بسبب عنادهم وتعصبهم غافلون عن عمل الخير والتكليف بالمستطاع ودقة الحساب، وإلي جانب ذلك لهم أعمال أخرى خبيثة مداومون عليها.
٦٤- فإذا أوقعنا العذاب بالأغنياء المترفين ضجوا وصرخوا مستغيثين.
٦٥- فنقول لهم : لا تصرخوا ولا تستغيثوا الآن، فلن تفلتوا من عذابنا، ولن ينفعكم صراخكم شيئاً.
٦٦- لا عذر لكم، فقد كانت آياتي الموحَى بها تُقرأ عليكم، فكنتم تُعرضون عنها إعراضاً يقلب أحوالكم، ولا تصدقونها ولا تعملون بها.
٦٧- وكنتم في إعراضكم متكبرين مستهزئين، تصفون الوحي بالأوصاف القبيحة عندما تجتمعون للسمر.
٦٨- أَجَهِلَ هؤلاء المعرضون فلم يتدبروا القرآن ليعلموا أنه حق ؟ أم كانت دعوة محمد لهم غريبة عن الدعوات التي جاء بها الرسل إلي الأقوام السابقين الذين أدركهم آباؤهم ؟.
٦٩- أم لم يعرفوا رسولهم - محمداً - الذي نشأ بينهم في أخلاقه العالية التي لا يعهد معها الكذب، فهم ينكرون دعوته الآن بغياً وحسداً ؟.
٧٠- أم يقولون : إنه مجنون ؟ كلا : إنه جاءهم بالدين الحق، وأكثرهم كارهون للحق، لأنه يخالف شهواتهم وأهواءهم فلا يؤمنون به.
٧١- ولو كان الحق تابعاً لأهوائهم لشاع الفساد في الأرض ولتنازعت الأهواء، ولكنا أرسلنا إليهم القرآن الذي يُذَكِّرهم بالحق الذي يجب أن يجتمع عليه الجميع، ومع ذلك هم معرضون عنه١.
١ ﴿ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، بل آتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون﴾: كلمة "الحق" من الألفاظ المشتركة، قد يراد منها "الله" سبحانه وتعالي نحو قوله تعالي: ﴿فتعالي الله الملك الحق﴾ وقد يراد منها "القرآن" نحو قوله تعالي: ﴿إنا أرسلناك بالحق﴾ ويراد منها "الدين كله" بما فيه من القرآن وسنة صحيحة نحو قوله: ﴿وقل جاء الحق وزهق الباطل﴾ والأظهر في كلمة الحق هنا هو أن المراد المعنى الأول "الله" سبحانه وتعالي. ويكون المراد من الآية: لو جرت سنة الله علي مسايرة الكافرين فيما يشتهونه ويقترحونه لما استقام النظام الذي قام عليه شأن السماوات والأرض وما فيهما من خلائق، ولكن الله ذو حكمة عالية وقدرة نافذة وقد أحاط علمه بما خلق، وتكفلت حكمته بالتدبير المحكم. وتصريح القرآن بأن السماوات فيها خلائق إنما يوجهنا إلي هذا:
أولا: إلي أن الإيمان بذلك علي وجه الإجمال يقيني. تاركين التعرض إلي التفصيل إلي أن يشاء الله ـ سبحانه ـ بيانه بمقتضى قوله: ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم﴾.
ثانيا: يوجهنا أيضا إلي محاولة البحث العلمي إن استطعنا، لأن الوصول إلي هذه الحقيقة يؤكد إيماننا، والإيمان هو الهدف الهام من توجيهنا إلي تلك الآيات..

٧٢- بل أَتطلب منهم - أيها النبي - أجراً علي أداء الرسالة ؟ لم يكن ذلك، فإن أجر ربك خير مما عندهم، وهو خير المعطين.
٧٣- وإنك - يا محمد - لتدعوهم إلي الدين الذي هو الطريق المستقيم الموصل إلي السعادة.
٧٤- وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة وما فيها من نعيم أو جحيم يعدلون عن الطريق المستقيم الذي يأمن السائر فيه من السَّير إلي طريق الحيرة والاضطراب والفساد.
٧٥- ولو رحمناهم وأزلنا عنهم ما نزل بهم من ضرر في أبدانهم وقحط في أموالهم ونحو ذلك، لزادوا كفراً، وتمادوا في الطغيان.
٧٦- ولقد عذَّبناهم بعذاب أصابهم كالقتل أو الجوع فما خضعوا بعده لربهم، بل أقاموا علي عتوهم واستكبارهم بمجرد زواله.
٧٧- سيستمرون علي إعراضهم حتى إذا عذَّبناهم عذاباً شديداً بالجوع أو القتل في الدنيا صاروا حيارى يائسين من كل خير، لا يجدون مخلصاً.
٧٨- وكيف تكفرون بالله وهو الذي أنشأ لكم السمع لتسمعوا الحق، والأبصار لتروا الكون وما فيه، والعقول لتدركوا عظمته فتؤمنوا ؟. إنكم لم تشكروا خالقها بالإيمان والطاعة إلا قليلا أي قلة.
٧٩- وهو الذي خلقكم في الأرض، وإليه - وحده - تُجمعون للجزاء يوم القيامة.
٨٠- وهو الذي يحيى ويميت، وبأمره وقوانينه تعاقب الليل والنهار واختلافهما طولا وقصراً، ألا تعقلون دلالة ذلك علي قدرته ووجوب الإيمان به، وبالبعث ؟ ١.
١ ﴿وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا يعقلون﴾: وردت آيات الليل والنهار في مواضع كثيرة من القرآن الكريم مما يدل علي أن الحق ـ سبحانه وتعالي ـ يذكر عباده بهذه الآية الكونية، وبما تتضمنه من معان عميقة تحفز المفكرين إلي التأمل والبحث. واختلاف الليل والنهار ينصب ناحيتين رئيسيتين:
الأولي: الاختلاف الزمني طولا وقصرا.
والثانية: الاختلاف في الظواهر وغير المرئية.
أولا: الاختلاف الزمني:
النهار: هو الفترة الزمنية بين ظهور حاجب الشمس واختفائها من أفق المكان حيث يلامس سطح الأرض، وكما نشاهدها بالعين. وحيث إن موقع الحافة العليا للشمس في الحقيقة ليس عند الأفق. وإنما نشاهده كذلك لأن الإشعاع المنبعث منها يتقوس لدى انكساره أثناء مروره في طبقات الجو، حتى يصل إلي عين الراصد، فيشاهدها كما لو كانت عند الأفق. والواقع أن هذه الحافة منخفضة عن الأفق بمقدار ٣٥ دقيقة قوسية.
والليل: هو الفترة الزمنية المتممة لفترة النهار، حتى يبلغ مجوعها فترة دوران الأرض حول محورها من الغرب إلي الشرق.
وفيما بين الليل والنهار فترتان زمنيتان: هما فترة الشفق الغربي، وفترة الشفق الشرقي، وفترة النهار تختلف باختلاف عرض المكان وفصول السنة. وتختلف أيضا فترة الليل تبعا لذلك. وتحدد مواقيت الصلاة والصوم تبعا لوضع قرص الشمس بالنسبة للأفق.
ثانيا: الاختلاف في الظواهر الطبيعية:
وهذه هي الظواهر العديدة المختلفة الألوان، والتي تنشأ من تفاعل الإشعاع الشمسي ـ بما يحتويه من إشعاعات موجبة مرئية وغير مرئية. وجسيمات تحمل شحنات كهربائية ـ مع الغلاف الجوي وأسطح البحار والصحاري... الخ، كما أن هناك مشاهدات فلكية كالخسوف والكسوف والمذنبات والنجوم والكواكب السيارة والشهب والنيازك التي قد تحجبها شدة إضاءة الشمس أثناء النهار، بينما تظهر واضحة أثناء الليل.
وأهم الظواهر الفيزيائية التي تختلف فيها الليل عن النهار هي الضوء بالنهار، وسببه أن الإشعاع المباشر للشمس عندما يسقط علي الغلاف الجوي الذي يتألف من جزئيات صغيرة، ويحمل الذرات الغبارية، فإنه ينعكس في مختلف الاتجاهات ويتشتت فإذا ما كان الجو نقيا، وأحجام الذرات الغبارية صغيرة جدا، والشمس مرتفعة عن الأفق، فإن اللون الأكثر تشتتا وحساسية للعين هو اللون الأزرق، فتظهر السماء زرقاء، أما عند شروق الشمس أو غروبها فإن الأفق يظهر بلون برتقالي متدرجا إلي الأحمر، بينما يكون الضوء الأزرق المشتت قليلا نسبيا، ولذلك يميل لون السماء عند السمت إلي الزرقة الخافتة.
وفي لحظة غروب الشمس عند الأفق نشاهد لونا أخضر عند حافتها العليا لمدة ثانية أو أقل، وهذه الظاهرة تسمى بالوميض الأخضر. وتشاهد عادة علي سطح البحر أو وراء قمم الجبال أو حتى جدران المنازل. وترجع هذه الظاهرة إلي حيود الأشعة الشمسية الذي ينتج عنها تحلل طيفها إلي ألوان منها الضوء الأخضر.
والخلاصة أن الإشعاع الشمسي يتألف من مجموعة من الألوان المرتبة وغير المرتبة، ويتميز بعضها عن بعض بطول الموجة، وتخضع هذه الموجات لخصائص عديدة الانكسار والانعكاس والتشتت والتداخل والاستقطاب والحيود. فإذا ما تفاعلت مع الغلاف الجوي في حالات خاصة فإننا نشاهد نتيجة لهذا التفاعل ضوء النهار والسراب وأقواس قزح والهالة الشمسية إلي غير ذلك من آيات السماء (من الظواهر الكونية) وعندما تغيب الشمس وراء الأفق تظهر السماء بألوان مختلفة نظرا لتشتت الضوء في طبقات الجو العليا، وكلما انخفض قرص الشمس خفت ضوء الشفق، وقلت ألوانه الطبيعية، حتى إذا ما بلغ ٥و١٨ درجة قوسية أصبحت السماء قاتمة، وقد اصطلح الميقاتيون علي أن تلون هذه اللحظة "غسق الليل" إيذانا بصلاة العشاء وتلك اللحظة يبدأ عندها الضوء البروجي علي شكل مخروط قاعدته عند الأفق الغربي، ويمتد في ليالي الشتاء الصافية حتى تبلغ قمة المخروط السمت! وفي منتصف الليل تظهر الأضواء البروجية عند أولا كرأس قمة مخروط ضوئي خافت، تزداد في الارتفاع، وتمتد قاعدته عن الأفق الشرقي، حتى إذا بزغ الفجر، أي عندما تكون الشمس منخفضة عن الأفق الشرقي بمقدار ٥و١٨، وهي إيذان بصلاة الفجر، وتبدأ ألوان الشفق الشرقي في الظهور تدريجيا وعكسيا للشفق الغربي، وما الفجر الكاذب سوى الضوء البروجي الذي يبلغ أقصى شدته عندما تكون الشمس منخفضة عن الأفق الشرقي بأكثر من ٥و١٨ درجة قوسية.
ولقد تبين حديثا أن للشمس غلافا رقيقا يمتد امتدادا هائلا في الفضاء حتى يكاد يلامس جو الأرض، هذا هو الغلاف الرقيق الذي يسبب الأضواء البروجية بأشكالها المختلفة.
هذه الظواهر العديدة التي ذكرناها علي سبيل المثال لا الحصر تتكشف لنا إذا كانت السماء خالية من السحب والأعاصير المحملة بالتراب، لأنها تظهر عندئذ وهي قاتمة اللون، وإذا كانت السحب محملة بقطرات ماء المطر فهي تتفاعل مع الأشعة الشمسية، وتحدث أقواس قزح في أحوال مناسبة.
وإذا كان السحاب نوع السمحاق الذي يحمل حبيبات بلورية مسدسة من الماء المتجمد، فإن هذه البلورات تتفاعل مع الإشعاع الشمسي فتنكسر من سطحها إلي داخلها، وينعكس علي الأسطح الداخلية، ثم تنكسر إلي الخارج. وقد نشاهد في ظروف وأحوال مناسبة الهالة الشمسية بمظاهرها الجميلة وهي دائرة ملونة كبرى حول الشمس. وعند سواد الليل تظهر النجوم متلألئة علي سطح القبة السماوية كما لو كانت علي مسافة قريبة منا، وفي الواقع هي علي مسافات شاسعة تقاس بالسنين الضوئية، كما تظهر علي هذه القبة أيضا الكواكب السيارة والمذنبات والشهب والنيازك وهي تبدو قريبة جدا نسبيا، كما لو كانت فروق المسافات قد انعدمت. وهذا ما يجعلنا ندرك المعنى الخفي في قوله تعالي: ﴿وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون﴾. كما بينا سابقا بالإضافة إلي الإشعاعات الموجبة من الشمس هناك إشعاع من الجسيمات، ينبعث من مناطق شمسية شديدة النشاط، وتحمل شحنات كهربائية، كما تنبعث منها إشاعات شديدة فوق البنفسجية، وهذه الجسيمات والإشعاعات تتفاعل مع الطبقات الجوية العليا، وتتأثر بالمجال المغناطيسي حول الأرض، فتثير الأضواء الشمالية أو الجنوبية، وتظهر قائمة في السماء الشمالية، كأنها ستائر من الإضاءة الجميلة الألوان خضراء اللون، وتميل إلي الاحمرار والزرقة عند الحواف. هذه الأشكال قد تستمر ساعات طويلة في السماء الشمالية وتكاد تشاهد في ليال عديدة عندما تكون الشمس في أوج نشاطها، نرى هذه الستائر ليس فقط في العروض الشمالية بل أيضا في العروض المتوسطة الاستوائية.
وهناك شحنات كهربية في السحب والجو يتولد عنها البروق وإضاءة بعض السحب العالية. جميع هذه الظواهر العديدة التي نشاهدها تجعلنا ندرك المعنى الخفي في قوله سبحانه وتعالي: ﴿إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب﴾.
ومما سبق يتضح أن الاختلاف في الظواهر الفيزيائية إنما لأسباب لا يمكن للإنسان أن يتدخل فيها، وأن الله ـ جل شأنه ـ هو الذي له اختلاف الليل والنهر، ولا سبيل إطلاقا إلي تحكم الإنسان في أي يوم علي الليل والنهار. وهو ـ جل شأنه ـ بما وضع من موازين دقيقة وتقديرات محددة يتعاقب الليل والنهار، ويختلف علي مدار السنة طولا وقصرا..

٨١- لم يفعلوا ذلك، بل قلدوا السابقين المكذبين، فقالوا : مثل قولهم.
٨٢- قالوا منكرين للبعث : أنبعث بعد الموت وبعد أن نصير تراباً وعظاماً ؟.
٨٣- لقد وُعدنا ووعد آباؤنا من قبلنا بذلك، وما هذا الوعد إلا أكاذيب السابقين التي سَطروها.
٨٤- قل لهم يا محمد : من الذي ملك الأرض ومن فيها من الناس وسائر المخلوقات ؟ إن كان لكم علم فأجيبوني.
٨٥- سيقرون بأن الأرض لله، قل لهم إذن : فلم تشركون به ؟ ألا تذكرون أن من يملك ذلك جدير بأن يُعبد وحده ؟
٨٦- قل لهم أيضاً : من رب السموات السبع ورب العرش العظيم ؟
٨٧- سيقرون بأنه هو الله. قل لهم إذن : ألا تخافون عاقبة الشرك والكفر والعصيان لصاحب هذا الخلق العظيم ؟
٨٨- قل لهم أيضاً : من بيده مُلْك كل شيء، ومن له الحكم المطلق في كل شيء، وهو يحمى بقدرته من يشاء، ولا يمكن لأحد أن يحمى أحداً من عذابه ؟ إن كنتم تعلمون جواباً فأجيبوا.
٨٩- سيقرون بأنه هو الله، قل لهم : إذن كيف تُخْدعون بالهوى ووحي الشياطين، وتنصرفون عن طاعة الله.
٩٠- لقد بيَّنا لهم الحق علي لسان الرسل، وإنهم لكاذبون في كل ما يخالف هذا الحق.
٩١- ما اتخذ الله له ولدا، وقد تنزَّه عن ذلك، وما كان له شريك. إذ لو كان له شريك لاستبد كل بما خلق، وصار له ملكه، ولتناحر بعضهم مع بعض كما يُرى بين الملوك، ولفسد الكون بهذا التنازع، فتنزه الله عما يقوله المشركون مما يخالف الحق.
٩٢- هو محيط بكل شيء علما، يعلم ما يغيب عنا وما يظهر لنا، فتنزه الله عما ينسبه الكافرون إليه من وجود الشريك له.
٩٣- قل - يا أيها النبي - : يا رب، إن أنزلت بهم ما أوعدتهم من العذاب في الدنيا، وأنا موجود بينهم.
٩٤- فأتوسل إليك ألا تجعلني معذباً مع القوم الكافرين الطاغين.
٩٥- ونحن قادرون تماماً علي أن نريك ما أوعدناهم به من العذاب نازلا بهم، فاطمئن لنصرنا.
٩٦- استمر في دعوتك وقابل إساءتهم بالعمل الذي هو أحسن من العفو أو غيره، ونحن عالمون تماماً بما يصفونك به، ويصفون دعوتك من سوء وافتراء، وسنجازيهم عليه.
٩٧- وقل : يا رب أستعيذ بك من أثر وساوس الشياطين علي نفسي بعملي ما لا يرضيك.
٩٨- وأستعيذ بك يا رب، أن يكونوا معي في أي عمل من الأعمال، ليكون سليماً خالصاً لوجهك الكريم.
٩٩- سيستمرون علي تكذيبهم، حتى إذا حَلَّ موعد موت أحدهم ندم، وقال : يا رب رُدَّني إلي الدنيا.
١٠٠- لأعمل عملا صالحاً فيما تركته من مالي أو حياتي وعمري، ولن يجاب إلي طلبه، فهذا كلام يقوله دون فائدة لا يقبل منه، ولو استُجيب له لم يعمل به، ومع ذلك فلن يعود أبداً، فالموت حاجز بينهم وبين ما يتمنون إلي أن يبعثهم الله.
١٠١- فإذا جاء موعد البعث بعثناهم بدعوتهم إلي الخروج من مقابرهم، وذلك بما يشبه النفخ في البوق فيجيئون متفرقين، لا تنفع أحداً قرابة أحد، ولا يسأل بعضهم بعضا شيئاً ينفعه، فلكل منهم يومئذ ما يشغله.
١٠٢- فالعمل هو ميزان التقدير، فمن كانت لهم عقائد سليمة وأعمال صالحة لها وزن في ميزان الله، فأولئك هم الفائزون.
١٠٣- ومن لم يكن لهم حسنات أو أعمال لها وزن عند الله، فأولئك هم الذين خسروا أنفسهم ببيعها للشيطان، وهم معذَّبون في النار، خالدون فيها.
١٠٤- تحرق النار وجوههم، وهم فيها عابسون من سوء مصيرهم.
١٠٥- يؤنبهم الله ويقول لهم : قد كانت آياتي المنزلة تُقْرأ عليكم في الدنيا، فكنتم تكذبون بما فيها.
١٠٦- قالوا مقرين بخطئهم : ربنا كثرت معاصينا التي أورثتنا الشقاء، وكنا بذلك ضالين عن طريق الصواب.
١٠٧- وقالوا : ربنا، أخرجنا من النار وأعدنا إلي الدنيا، فإن عدنا إلي الكفر والعصيان كنا ظالمين لأنفسنا.
١٠٨- قال الله لهم تحقيراً : اسكتوا أذلاء مهانين، ولا تكلموني مطلقاً.
١٠٩- ما ظلمتكم بل ظلمتم أنفسكم، إذ كان المؤمنون الصالحون من عبادي يقولون في الدنيا : ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين.
١١٠- فكنتم تسخرون منهم دائماً، حتى أنساكم الاشتغال بالسخرية منهم ذكرى وعبادتي فلم تؤمنوا وتطيعوا، وكنتم منهم تضحكون استهزاء.
١١١- إني جزيتهم اليوم بالفلاح، لأنهم صبروا علي سخريتكم وإيذائكم.
١١٢- قال الله للكافرين : كم سنة عشتموها في الدنيا ؟.
١١٣- قالوا - استقصاراً لمدة معيشتهم بالنسبة لطول مكثهم في العذاب - : عشنا يوماً أو بعض يوم، فاسأل من يتمكنون من العدِّ، لأنا مشغولون بالعذاب.
١١٤- فيقول الله لهم : ما عشتم في الدنيا إلا زمناً قليلا. ولو أنكم كنتم تعلمون عاقبة الكفر والعصيان وأن متاع الدنيا قليل، لآمنتم وأطعتم.
١١٥- أظننتم أننا خلقناكم بغير حكمة فأفسدتم في الأرض، وظننتم أنكم لا تبعثون لمجازاتكم ؟ كلا.
١١٦- العظمة لله - وحده - هو مالك الملك كله، لا معبود بحق سواه، هو صاحب العرش العظيم.
١١٧- ومن يعبد مع الله إلهاً آخر لا دليل له علي استحقاقه العبودية. فإن الله يعاقبه علي شركه لا محالة، إن الكافرين لا يفلحون، وإنما الذي يفلح هم المؤمنون.
١١٨- وقل - يا أيها النبي - داعياً الله ضارعاً إليه - : يا رب اغفر لي ذنبي، وارحمني فأنت خير الراحمين، لأن رحمتك واسعة وقريبة من المحسنين.
Icon