تفسير سورة المؤمنون

أضواء البيان
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ابْتَدَأَ بِهَا أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَامَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ فَقَالَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [٢٣ ١] أَيْ: فَازُوا وَظَفِرُوا بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَفَلَاحُ الْمُؤْمِنِينَ مَذْكُورٌ ذِكْرًا كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [٣٣ ٤٧] وَقَوْلِهِ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [٢٣ ٢] أَصْلُ الْخُشُوعِ: السُّكُونُ، وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَالِانْخِفَاضُ وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبَيِّنُهُ وَنُؤًى كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثَلَمَ خَاشِعِ
وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: خَشْيَةٌ مِنَ اللَّهِ تَكُونُ فِي الْقَلْبِ، فَتَظْهَرُ آثَارُهَا عَلَى الْجَوَارِحِ.
وَقَدْ عَدَّ اللَّهُ الْخُشُوعَ مِنْ صِفَاتِ الَّذِينَ أَعَدَّ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا فِي قَوْلِهِ فِي الْأَحْزَابِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ إِلَى قَوْلِهِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [٣٣ ٣٥].
وَقَدْ عُدَّ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ هُنَا مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذَا الْخُشُوعِ تَصْعُبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [٢ ٤٥] وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ عَلَى أَنَّ مِنْ خُشُوعِ الْمُصَلِّي: أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ فِي صَلَاتِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، قَالُوا: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ حَيْثُ يَسْجُدُ.
وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيَهْقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى
السَّمَاءِ فَنَزَلَتْ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [٢٣ ٢] فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ» اهـ مِنْهُ.
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَلَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ، وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ الْجُمْهُورَ، فَقَالُوا: إِنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْظُرُ أَمَامَهُ لَا إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [٢ ١٤٤] قَالُوا: فَلَوْ نَظَرَ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ لَاحْتَاجَ أَنْ يَتَكَلَّفَ ذَلِكَ بِنَوْعٍ مِنَ الِانْحِنَاءِ، وَذَلِكَ يُنَافِي كَمَالَ الْقِيَامِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ; لِأَنَّ الْمُنْحَنِيَ بِوَجْهِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، لَيْسَ بِمُوَلٍّ وَجْهَهُ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِمْ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى أَفْلَحَ: نَالَ الْفَلَاحَ، وَالْفَلَاحُ يُطْلَقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ الْأَكْبَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
فَاعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقِلَ
أَيْ فَازَ مَنْ رُزِقَ الْعَقْلَ بِالْمَطْلُوبِ الْأَكْبَرِ.
وَالثَّانِي: هُوَ إِطْلَاقُ الْفَلَاحِ عَلَى الْبَقَاءِ السَّرْمَدِيِّ فِي النَّعِيمِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ أَيْضًا فِي رَجَزٍ لَهُ:
لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكُ الْفَلَاحِ لَنَالَهُ مُلَاعِبُ الرِّمَاحِ
يَعْنِي: مُدْرِكَ الْبَقَاءِ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ، أَوِ الْأَضْبَطِ بْنِ قُرَيْعٍ:
لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ وَالْمِسَى وَالصُّبْحُ لَا فَلَاحَ مَعَهْ.
أَيْ لَا بَقَاءَ مَعَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ دَخَلَ الْجَنَّةَ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ نَالَ الْفَلَاحَ بِمَعْنَيَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَالْمَعْنَيَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَا لِلْفَلَاحِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَسَّرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَدِيثَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي لَفْظَةِ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ إِعْرَاضَهُمْ عَنِ اللَّغْوِ، وَأَصْلُ اللَّغْوِ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ اللَّعِبُ وَاللَّهْوُ وَالْهَزْلُ، وَمَا تُوجِبُ الْمُرُوءَةُ تَرْكَهُ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [٢٣ ٣] أَيْ: عَنِ الْبَاطِلِ، وَهُوَ يَشْمَلُ
الشِّرْكَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَالْمَعَاصِي كَمَا قَالَهُ آخَرُونَ، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ اهـ مِنْهُ.
وَمَا أَثْنَى اللَّهُ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَشَارَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [٢٥ ٧٢] وَمِنْ مُرُورِهِمْ بِهِ كِرَامًا إِعْرَاضُهُمْ عَنْهُ، وَعَدَمُ مُشَارَكَتِهِمْ أَصْحَابَهُ فِيهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ الْآيَةَ [٢٨ ٥٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، فِي الْمُرَادِ بِالزَّكَاةِ هُنَا وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ، وَعَزَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ لِلْأَكْثَرِينَ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّكَاةِ هُنَا: زَكَاةُ النَّفْسِ أَيْ: تَطْهِيرُهَا مِنَ الشِّرْكِ، وَالْمَعَاصِي بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ كَالْمُرَادِ بِهَا فِي قَوْلِهِ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [٩١ ٩ - ١٠] وَقَوْلِهِ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى الْآيَةَ [٨٧ ١٤]، وَقَوْلِهِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [٢٤ ٢١] وَقَوْلِهِ خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً الْآيَةَ [١٨ ٨١] وَقَوْلِهِ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [٤١ ٦ - ٧] عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ بِثَلَاثِ قَرَائِنَ:
الْأُولَى: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، بِلَا خِلَافٍ، وَالزَّكَاةُ إِنَّمَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ نَزَلَ قَبْلَ فَرْضِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْمَعْرُوفَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُهَا.
الْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي زَكَاةِ الْأَمْوَالِ: أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ أَدَائِهَا بِالْإِيتَاءِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا الزَّكَاةَ [٢ ٤٣] وَقَوْلِهِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ [٢١ ٧٣] وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الزَّكَاةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا، لَمْ يُعَبَّرْ عَنْهَا بِالْإِيتَاءِ، بَلْ قَالَ تَعَالَى فِيهَا وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [٢٣ ٤] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّكَاةَ: أَفْعَالُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ، وَذَلِكَ أَوْلَى بِفِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ الْمَعَاصِي مِنْ أَدَاءِ مَالٍ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ تَكُونُ فِي الْقُرْآنِ عَادَةً مَقْرُونَةً بِالصَّلَاةِ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ
بَيْنَهُمَا كَقَوْلِهِ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [٢ ١١٠] وَقَوْلِهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [٢ ٢٧٧] وَقَوْلِهِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ [٢١ ٧٣] وَهَذِهِ الزَّكَاةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا فُصِلَ بَيْنَ ذِكْرِهَا، وَبَيْنَ ذِكْرِ الصَّلَاةِ بِجُمْلَةِ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [٢٣ ٣].
وَالَّذِينَ قَالُوا الْمُرَادُ بِهَا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ، قَالُوا: إِنَّ أَصْلَ الزَّكَاةِ فُرِضَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَأَنَّ الزَّكَاةَ الَّتِي فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ هِيَ ذَاتُ النُّصُبِ، وَالْمَقَادِيرِ الْخَاصَّةِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْقَوْلَ فِي الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [١٤١] وَقَدْ يُسْتَدَلُّ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُزَكَّى بِهَا النُّفُوسُ مِنْ دَنَسِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، بِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَا مَعْنَى الزَّكَاةِ عَلَى ذَلِكَ، كَانَ شَامِلًا لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَيَكُونُ كَالتَّكْرَارِ مَعَهَا، وَالْحَمْلُ عَلَى التَّأْسِيسِ وَالِاسْتِقْلَالِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [٦ ٩٧] وَالَّذِينَ قَالُوا: هِيَ زَكَاةُ الْأَمْوَالِ قَالُوا: فَاعِلُونَ أَيْ: مُؤَدُّونَ، قَالُوا: وَهِيَ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَصِيحَةٌ، وَمِنْهَا قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
الْمُطْعِمُونَ الطَّعَامَ فِي السَّنَةِ الْأَزْ مَةِ وَالْفَاعِلُونَ لِلزَّكَوَاتِ
وَهُوَ وَاضِحٌ، بِحَمْلِ الزَّكَاةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ بِمَعْنَى التَّزْكِيَةِ لِلْمَالِ ; لِأَنَّهَا فِعْلُ الْمُزَكِّي كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَطْهِيرَ النَّفْسِ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ، وَدَفْعِ زَكَاةِ الْمَالِ كِلَاهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ الْوَارِثِينَ الْجَنَّةَ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّكَاةِ هَا هُنَا: زَكَاةُ النَّفْسِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالدَّنَسِ إِلَى أَنْ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُرَادًا وَهُوَ زَكَاةُ النُّفُوسِ، وَزَكَاةُ الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ زَكَاةِ النُّفُوسِ، وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، اهـ مِنْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ وَيَخْلُدُونَ فِيهَا حِفْظَهُمْ لِفُرُوجِهِمْ أَيْ: مِنَ اللِّوَاطِ وَالزِّنَى، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّ
308
حِفْظَهُمْ فُرُوجَهُمْ، لَا يَلْزَمُهُمْ عَنْ نِسَائِهِمُ الَّذِينَ مَلَكُوا الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ بِعَقْدِ الزَّوَاجِ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّمَتُّعُ بِالسَّرَارِي، وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ فَرْجَهُ عَنْ زَوْجِهِ أَوْ سُرِّيَّتِهِ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَنِ ابْتَغَى تَمَتُّعًا بِفَرْجِهِ، وَرَاءَ ذَلِكَ غَيْرَ الْأَزْوَاجِ وَالْمَمْلُوكَاتِ فَهُوَ مِنَ الْعَادِينَ أَيِ: الْمُعْتَدِينَ الْمُتَعَدِّينَ حُدُودَ اللَّهِ، الْمُجَاوِزِينَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ إِلَى مَا حَرَّمَهُ.
وَبَيَّنَ مَعْنَى الْعَادِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قَوْمِ لُوطٍ: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [٢٦ ١٦٥ - ١٦٦] وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [٧٠ ٢٩ - ٣١].
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [٢٣ ٦] مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَالْمُرَادُ بِهَا مَنْ وَهِيَ مِنْ صِيغَ الْعُمُومِ، فَآيَةُ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [٢٣ ١] وَآيَةُ سَأَلَ سَائِلٌ [٧٠ ١] تَدُلُّ بِعُمُومِهَا الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِلَفْظَةِ مَا، فِي قَوْلِهِ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى جَوَازِ جَمْعِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي التَّسَرِّي بِهِمَا مَعًا لِدُخُولِهِمَا فِي عُمُومِ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وَبِهَذَا قَالَ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، وَمَنْ تَبِعَهُ: وَلَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [٤ ٢٣] يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى مَنْعِ جَمْعِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ; لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْأُخْتَيْنِ صِيغَةُ عُمُومٍ، تَشْمَلُ كُلَّ أُخْتَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَتَا بِعَقْدٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ وَلِذَا قَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَمَّا سُئِلَ عَنْ جَمْعِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ، وَحَرَّمَتْهُمَا أُخْرَى يَعْنِي بِالْآيَةِ الْمُحَلِّلَةِ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وَبِالْمُحَرِّمَةِ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمُهِمَّ مِمَّا ذَكَرْنَا فِيهِ وَنَزِيدُ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى زِيَادَتِهِ.
وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ، وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ تَعَارُضُهُمَا فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَجْتَمِعَانِ فِيهَا كَمَا قَالَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ، وَحَرَّمَتْهُمَا أُخْرَى وَإِيضَاحُهُ أَنَّ آيَةَ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ تَنْفَرِدُ عَنْ آيَةِ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فِي الْأُخْتَيْنِ الْمَجْمُوعِ بَيْنَهُمَا، بِعَقْدِ نِكَاحٍ
309
وَتَنْفَرِدُ آيَةُ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فِي الْأَمَةِ الْوَاحِدَةِ، أَوِ الْأَمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَيْسَتَا بِأُخْتَيْنِ، وَيَجْتَمِعَانِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَعُمُومُ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ، وَعُمُومُ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ يَقْتَضِي إِبَاحَتَهُ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْأَعَمَّانِ مِنْ وَجْهٍ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَجْتَمِعَانِ فِيهَا وَجَبَ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا، وَالرَّاجِحُ مِنْهُمَا، يُقَدَّمُ وَيُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ الْآخَرِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ يَكُ الْعُمُومُ مِنْ وَجْهٍ ظَهَرْ فَالْحُكْمُ بِالتَّرْجِيحِ حَتْمًا مُعْتَبَرْ
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ عُمُومَ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مُرَجَّحٌ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ عَلَى عُمُومِ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ:
الْأَوَّلُ: مِنْهَا أَنَّ عُمُومَ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نَصٌّ فِي مَحَلِّ الْمُدْرَكِ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ ; لِأَنَّ السُّورَةَ سُورَةُ النِّسَاءِ: وَهِيَ الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ تَحِلُّ مِنْهُنَّ، وَمَنْ لَا تَحِلُّ، وَآيَةُ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ تُذْكَرْ مِنْ أَجْلِ تَحْرِيمِ النِّسَاءِ، وَلَا تَحْلِيلِهِنَّ بَلْ ذَكَرَ اللَّهُ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يَدْخُلُونَ بِهَا الْجَنَّةَ، فَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا حِفْظَ الْفَرْجِ، فَاسْتَطْرَدَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ حِفْظُهُ عَنِ الزَّوْجَةِ وَالسُّرِّيَّةِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ أَخْذَ الْأَحْكَامِ مِنْ مَظَانِّهَا أَوْلَى مِنْ أَخْذِهَا، لَا مِنْ مَظَانِّهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ آيَةَ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لَيْسَتْ بَاقِيَةً عَلَى عُمُومِهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ الْأُخْتَ مِنَ الرَّضَاعِ لَا تَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، إِجْمَاعًا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ عُمُومَ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ يُخَصِّصُهُ عُمُومُ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ [٤ ٢٣] وَمَوْطُوءَةُ الْأَبِ لَا تَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ إِجْمَاعًا، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ عُمُومَ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ يُخَصِّصُهُ عُمُومُ وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ [٤ ٢٢]، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ فِي تَعَارُضِ الْعَامِّ الَّذِي دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، مَعَ الْعَامِّ الَّذِي لَمْ يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ: هُوَ تَقْدِيمُ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ، إِلَّا صَفِيَّ الدِّينِ الْهِنْدِيَّ، وَالسُّبْكِيَّ.
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْعَامَّ الْمُخَصَّصَ، اخْتَلَفَ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً فِي الْبَاقِي، بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَالَّذِينَ قَالُوا: هُوَ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي، قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: هُوَ مَجَازٌ فِي الْبَاقِي، وَمَا اتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ أَوْلَى مِمَّا اخْتُلِفَ فِي حُجِّيَّتِهِ، وَهَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ، أَوْ مَجَازٌ؟ وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحَ: أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي، وَحَقِيقَةٌ فِيهِ ;
310
لِأَنَّ مُطْلَقَ حُصُولِ الْخِلَافِ فِيهِ يَكْفِي فِي تَرْجِيحِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا حُجَّةُ صَفِيِّ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ وَالسُّبْكِيِّ، عَلَى تَقْدِيمِ الَّذِي دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ فَهِيَ أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْعَامِّ التَّخْصِيصُ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْغَالِبِ أَوْلَى، وَأَنَّ مَا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ يَبْعُدُ تَخْصِيصُهُ مَرَّةً أُخْرَى، بِخِلَافِ الْبَاقِي عَلَى عُمُومِهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ عُمُومَ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ غَيْرُ وَارِدٍ فِي مَعْرِضِ مَدْحٍ وَلَا ذَمٍّ وَعُمُومَ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وَارِدٌ فِي مَعْرِضِ مَدْحِ الْمُتَّقِينَ، وَالْعَامُّ الْوَارِدُ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ.
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اعْتِبَارِ عُمُومِهِ، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى أَنَّ عُمُومَهُ مُعْتَبَرٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [٨٢ ١٣ - ١٤] فَإِنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ بَرٍّ مَعَ أَنَّهُ لِلْمَدْحِ، وَكُلَّ فَاجِرٍ مَعَ أَنَّهُ لِلذَّمِّ قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ:
وَمَا أَتَى لِلْمَدْحِ أَوْ لِلذَّمِّ يَعُمُّ عِنْدَ جُلِّ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ: الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، قَائِلًا: إِنَّ الْعَامَّ الْوَارِدَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ، أَوِ الذَّمِّ لَا عُمُومَ لَهُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْحَثُّ فِي الْمَدْحِ وَالزَّجْرِ فِي الذَّمِّ، وَلِذَا لَمْ يَأْخُذِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [٩ ٣٤] فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِلذَّمِّ، فَلَا تَعُمُّ عِنْدَهُ الْحُلِيَّ الْمُبَاحَ.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِمَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَ عُمُومِهِ أَوْلَى مِنَ الْمُقْتَرِنِ بِمَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَ عُمُومِهِ، عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا الْمُعَارَضَةَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، فَالْأَصْلُ فِي الْفُرُوجِ التَّحْرِيمُ، حَتَّى يَدُلُّ دَلِيلٌ لَا مُعَارِضَ لَهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْعُمُومَ الْمُقْتَضِيَ لِلتَّحْرِيمِ أَوْلَى مِنَ الْمُقْتَضِي لِلْإِبَاحَةِ ; لِأَنَّ تَرْكَ مُبَاحٍ أَهْوَنُ مِنَ ارْتِكَابِ حَرَامٍ.
فَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الْخَمْسَةُ يُرَدُّ بِهَا اسْتِدْلَالُ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَمَنْ تَبِعَهُ عَلَى إِبَاحَتِهِ جَمْعَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ: أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وَلَكِنَّ دَاوُدَ يَحْتَجُّ بِآيَةٍ أُخْرَى يَعْسُرُ التَّخَلُّصُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِهَا، بِحَسَبِ الْمُقَرَّرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ الْمَالِكِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ أَنَّهُ إِنْ وَرَدَ اسْتِثْنَاءٌ
311
بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ، أَوْ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَةٍ، أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَذْكُورَ يَرْجِعُ لِجَمِيعِهَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ:
وَكُلُّ مَا يَكُونُ فِيهِ الْعَطْفُ مِنْ قَبْلِ الِاسْتِثْنَا فَكُلًّا يَقْفُو
دُونَ دَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ ذِي السَّمْعِ
، إِلَخْ.
وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ لِكُلِّ الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْوَاقِفُ فِي صِيغَةِ وَقْفِهِ: هُوَ وَقْفٌ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي زُهْرَةَ وَالْفُقَرَاءِ إِلَّا الْفَاسِقَ مِنْهُمْ، أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْوَقْفِ فَاسِقُ الْجَمِيعِ لِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَحْدَهُ هُوَ الْقَائِلُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ، وَلَوْ تَابَ وَأَصْلَحَ، وَصَارَ أَعْدَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [٢٤ ٤ - ٥] يَرْجِعُ عِنْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ لِلْأَخِيرَةِ فَقَطْ وَهِيَ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا أَيْ: فَقَدْ زَالَ عَنْهُمُ اسْمُ الْفِسْقِ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا، فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ بَلْ يَقُولُ: لَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا مُطْلَقًا بِلَا اسْتِثْنَاءٍ ; لِاخْتِصَاصِ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَهُ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ أَبُو حَنِيفَةَ أُصُولَهُ فِي قَوْلِهِ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا الْآيَةَ [٢٥ ٦٨ - ٧٠]، فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ لِجَمِيعِ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ قَبْلَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِ.
وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَصْلَهُ ; لِأَنَّ الْجُمَلَ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ جُمِعَتْ فِي الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، الَّتِي هِيَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [٢٥ ٦٨] ; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى الشِّرْكِ، وَالْقَتْلِ وَالزِّنَى فِي الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ قَبْلَهُ فَشَمَلَتِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ مَعَانِيَ الْجُمَلِ قَبْلَهَا، فَصَارَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ لَهَا وَحْدَهَا، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، عَلَى أَصْلِهِ الْمُقَرَّرِ: مُسْتَلْزِمًا لِرُجُوعِهِ لِلْجَمِيعِ.
وَإِذَا حَقَّقْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ دَاوُدَ يَحْتَجُّ لِجَوَازِ جَمْعِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَيْضًا
312
بِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِقَوْلِهِ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَيَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَقَوْلُهُ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ [٤ ٢٤] يَرْجِعُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا اسْتِثْنَاءٌ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ فِي مَحَلِّهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ احْتِجَاجَ دَاوُدَ بِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ جَارٍ عَلَى أُصُولِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَيَصْعُبُ عَلَيْهِمُ التَّخَلُّصُ مِنَ احْتِجَاجِ دَاوُدَ هَذَا.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْجَوَابَ عَنِ اسْتِدْلَالِ دَاوُدَ الْمَذْكُورِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا قَرِينَةً مَانِعَةً مِنْ رُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ، إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ: بِالسَّبْيِ خَاصَّةً مَعَ الْكُفْرِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ: وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُتَزَوِّجَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ; لِأَنَّ الْمُتَزَوِّجَةَ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِ زَوْجِهَا إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بِالسَّبْيِ مَعَ الْكُفْرِ فَإِنَّ السَّبْيَ يَرْفَعُ حُكْمَ الزَّوْجِيَّةِ عَنِ الْمَسْبِيَّةِ، وَتَحِلُّ لِسَابِيهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنَكَحَتْهَا رِمَاحُنَا حَلَالٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلَّقِ
وَإِذَا كَانَ مِلْكُ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فِي السَّبْيِ خَاصَّةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ رُجُوعِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ; لِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مُطْلَقًا، وَأَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا أَنَّهُ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَأَوْضَحْنَا الْأَدِلَّةَ عَلَى ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِي رُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِجَمِيعِ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْضِهَا، يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ; لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ يَدُلُّ عَلَى
313
رُجُوعِهِ لِلْجَمِيعِ أَوْ لِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَرُبَّمَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ رُجُوعِهِ لِلْأَخِيرَةِ الَّتِي تَلِيهِ، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رُبَّمَا كَانَ رَاجِعًا لِغَيْرِ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي تَلِيهِ، تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْحُكْمُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْجَمِيعِ إِلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَمَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ الْوَقْفُ عَنْ رُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْجَمِيعِ أَوْ بَعْضِهَا الْمُعَيَّنِ، دُونَ بَعْضٍ، إِلَّا بِدَلِيلٍ مَرْوِيٍّ عَنِ ابْنِ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْغَزَالِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْآمِدِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَاسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الْأَصَحُّ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ [٤ ٥٩] وَإِذَا رَدَدْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِلَى اللَّهِ، وَجَدْنَا الْقُرْآنَ دَالًّا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ أَيْضًا اسْتِدْلَالُ دَاوُدَ.
فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [٤ ٩٢] فَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ لِلدِّيَةِ، فَهِيَ تَسْقُطُ بِتَصَدُّقِ مُسْتَحِقِّهَا بِهَا، وَلَا يَرْجِعُ لِتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ قَوْلًا وَاحِدًا ; لِأَنَّ تَصَدُّقَ مُسْتَحِقِّ الدِّيَةِ بِهَا لَا يُسْقِطُ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ خَطَأً، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا الْآيَةَ [٢٤ ٤ - ٥] فَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يَرْجِعُ لِقَوْلِهِ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [٢٤ ٤] ; لِأَنَّ الْقَاذِفَ إِذَا تَابَ لَا تُسْقِطُ تَوْبَتُهُ حَدَّ الْقَذْفِ.
وَمَا يُرْوَى عَنِ الشَّعْبِيِّ مِنْ أَنَّهَا تُسْقِطُهُ، خِلَافُ التَّحْقِيقِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [٤ ٨٩ - ٩٠].
فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ الْآيَةَ لَا يُرْجِعُ قَوْلًا وَاحِدًا، إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، الَّتِي تَلِيهِ أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [٤ ٨٩] ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ أَبَدًا، وَلَوْ وَصَلُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ، وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، بَلْ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ لِلْأَخْذِ وَالْقَتْلِ فِي قَوْلِهِ: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ [٤ ٨٩] وَالْمَعْنَى: فَخُذُوهُمْ بِالْأَسْرِ وَاقْتُلُوهُمْ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ، وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، فَلَيْسَ لَكُمْ أَخْذُهُمْ بِأَسْرٍ، وَلَا قَتْلُهُمْ ; لِأَنَّ الْمِيثَاقَ الْكَائِنَ لِمَنْ وَصَلُوا إِلَيْهِمْ يَمْنَعُ مِنْ أَسْرِهِمْ، وَقَتْلِهِمْ كَمَا اشْتَرَطَهُ هِلَالُ بْنُ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيُّ فِي صُلْحِهِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا ذَكَرُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُدْلَجِيِّ، وَفِي بَنِي جَذِيمَةَ بْنِ عَامِرٍ وَإِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رُبَّمَا لَمْ يَرْجِعْ لِأَقْرَبِ الْجُمَلِ إِلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: الَّذِي هُوَ فِي الطَّرَفِ الْأَعْلَى
314
مِنَ الْإِعْجَازِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ نَصًّا فِي الرُّجُوعِ إِلَى غَيْرِهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [٤ ٨٣] عَلَى مَا قَالَهُ: جَمَاعَاتٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ; لِأَنَّهُ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعُوا الشَّيْطَانَ، كُلًّا بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ، قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ كَمَا تَرَى.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَرْجِعِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، فَقِيلَ: رَاجِعٌ لِقَوْلِهِ: أَذَاعُوا بِهِ [٤ ٨٣] وَقِيلَ: رَاجِعٌ لِقَوْلِهِ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [٤ ٨٣] وَإِذَا لَمْ يَرْجِعْ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهِ، لَمْ يَكُنْ نَصًّا فِي رُجُوعِهِ لِغَيْرِهَا.
وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ فِي الِاسْتِمْرَارِ، عَلَى مِلَّةِ آبَائِكُمْ مِنَ الْكُفْرِ، وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ إِلَّا قَلِيلًا كَمَنْ كَانَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَزَيْدِ بْنِ نُفَيْلٍ وَقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَأَمْثَالِهِمْ.
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ رَوَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا مَعْنَاهُ: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ كُلًّا، قَالَ: وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْقِلَّةَ، وَتُرِيدُ بِهَا الْعَدَمَ، وَاسْتَدَلَّ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِ الطِّرِمَّاحِ بْنِ حَكِيمٍ يَمْدَحُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ:
أَشَمُّ نَدِيٌّ كَثِيرُ النَّوَادِي قَلِيلُ الْمَثَالِبِ وَالْقَادِحَهْ
يَعْنِي: لَا مَثْلَبَةَ فِيهِ، وَلَا قَادِحَةَ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ كُلَّ الظُّهُورِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعَرَبُ تُطْلِقُ الْقِلَّةَ فِي لُغَتِهَا، وَتُرِيدُ بِهَا الْعَدَمَ كَقَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِأَرْضٍ قَلِيلٍ بِهَا الْكُرَّاثُ وَالْبَصَلُ، يَعْنُونَ لَا كُرَّاثَ فِيهَا وَلَا بَصَلَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
أُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ قَلِيلٌ بِهَا الْأَصْوَاتُ إِلَّا بُغَامُهَا
يُرِيدُ: أَنَّ تِلْكَ الْفَلَاةَ لَا صَوْتَ فِيهَا غَيْرُ بُغَامِ نَاقَتِهِ. وَقَوْلُ الْآخَرِ:
فَمَا بَأْسٌ لَوْ رَدَّتْ عَلَيْنَا تَحِيَّةً قَلِيلًا لَدَى مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ عَابَهَا
يَعْنِي لَا عَابَ فِيهَا أَيْ: لَا عَيْبَ فِيهَا عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَبِالْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا تَعْلَمُ: أَنَّ الْوَقْفَ عَنِ الْقَطْعِ بِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِجَمِيعِ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ قَبْلَهُ إِلَّا لِدَلِيلٍ، هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَبِدَلَالَتِهَا يَرُدُّ اسْتِدْلَالَ دَاوُدَ الْمَذْكُورَ أَيْضًا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
315
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي التَّمَتُّعِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [٢٣ ٥ - ٦] خَاصٌّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، فَلَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَسَرَّى عَبْدَهَا، وَتَتَمَتَّعَ بِهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَدْخُلْنَ فِي الْجُمُوعِ الْمُذَكَّرَةِ الصَّحِيحَةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ; كَمَا أَوْضَحْنَا أَدِلَّتَهُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ امْرَأَةً اتَّخَذَتْ مَمْلُوكَهَا، وَقَالَتْ: تَأَوَّلْتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأُتِيَ بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَالَ لَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَأَوَّلَتْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، قَالَ: فَضَرَبَ الْعَبْدَ، وَجَزَّ رَأَسَهُ وَقَالَ: أَنْتِ بَعْدَهُ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ مُنْقَطِعٌ، ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهُوَ هَهُنَا أَلْيَقُ وَإِنَّمَا حَرَّمَهَا عَلَى الرِّجَالِ، مُعَامَلَةً لَهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ: قَدْ رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: تَسَرَّرَتِ امْرَأَةٌ غُلَامَهَا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَسَأَلَهَا مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَتْ: كُنْتُ أَرَاهُ يَحِلُّ لِي بِمِلْكِ يَمِينِي، كَمَا تَحِلُّ لِلرَّجُلِ الْمَرْأَةُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَاسْتَشَارَ عُمَرُ فِي رَجْمِهَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالُوا: تَأَوَّلَتْ كِتَابَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ لَا رَجْمَ عَلَيْهَا، فَقَالَ عُمَرُ: لَا جَرَمَ، وَاللَّهِ لَا أُحِلُّكِ لِحُرٍّ بَعْدَهُ. عَاقَبَهَا بِذَلِكَ، وَدَرَأَ الْحَدَّ عَنْهَا، وَأَمَرَ الْعَبْدَ أَلَّا يَقْرَبَهَا.
وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: أَنَا حَضَرْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ بِغُلَامٍ لَهَا وَضِئٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي اسْتَسْرَرْتُهُ، فَمَنَعَنِي بَنُو عَمِّي عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَنَا بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْوَلِيدَةُ فَيَطَؤُهَا، فَإِنَّهُ عَنَى بَنِي عَمِّي فَقَالَ عُمَرُ: أَتَزَوَّجْتِ قَبْلَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا مَنْزِلَتُكِ مِنَ الْجَهَالَةِ لَرَجَمْتُكِ بِالْحِجَارَةِ، وَلَكِنِ اذْهَبُوا بِهِ فَبِيعُوهُ إِلَى مَنْ يَخْرُجُ بِهِ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهَا اهـ، مِنَ الْقُرْطُبِيِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ آيَةَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ هَذِهِ الَّتِي هِيَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [٢٣ ٧] تَدُلُّ بِعُمُومِهَا عَلَى مَنْعِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ الْمَعْرُوفِ، بِجَلْدِ عَمِيرَةَ، وَيُقَالُ لَهُ الْخَضْخَضَةُ ; لِأَنَّ مَنْ تَلَذَّذَ بِيَدِهِ حَتَّى أَنْزَلَ مَنِيَّهُ بِذَلِكَ، قَدِ ابْتَغَى وَرَاءَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، فَهُوَ مِنَ الْعَادِينَ بِنَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا، وَفِي سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ [٧٠ ١] وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَمَنْ تَبِعَهُ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ
316
الْآيَةِ، عَلَى مَنْعِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ حَرْمَلَةَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنِ الرَّجُلِ يَجْلِدُ عَمِيرَةَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَى قَوْلِهِ الْعَادُونَ [٢٣ ٥ - ٧].
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ اسْتِدْلَالَ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، عَلَى مَنْعِ جَلْدِ عَمِيرَةَ الَّذِي هُوَ الِاسْتِمْنَاءُ بِالْيَدِ اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ بِكِتَابِ اللَّهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ يُعَارِضُهُ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَعَ عِلْمِهِ، وَجَلَالَتِهِ وَوَرَعِهِ مِنْ إِبَاحَةِ جَلْدِ عَمِيرَةَ مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ قَائِلًا: هُوَ إِخْرَاجُ فَضْلَةٍ مِنَ الْبَدَنِ تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَى إِخْرَاجِهَا فَجَازَ، قِيَاسًا عَلَى الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ، كَمَا قَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
إِذَا حَلَلْتَ بِوَادٍ لَا أَنِيسَ بِهِ فَاجْلِدْ عَمِيرَةَ لَا عَارٌ وَلَا حَرَجُ
فَهُوَ خِلَافُ الصَّوَابِ، وَإِنْ كَانَ قَائِلُهُ فِي الْمَنْزِلَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا ; لِأَنَّهُ قِيَاسٌ يُخَالِفُ ظَاهِرَ عُمُومِ الْقُرْآنِ، وَالْقِيَاسُ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ رُدَّ بِالْقَادِحِ الْمُسَمَّى فَسَادَ الِاعْتِبَارِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ مِرَارًا وَذَكَرْنَا فِيهِ قَوْلَ صَاحِبِ مَرَاقِي السُّعُودِ:
وَالْخُلْفُ لِلنَّصِّ أَوْ إِجْمَاعٌ دَعَا فَسَادَ الِاعْتِبَارِ كُلُّ مَنْ وَعَى
فَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - قَالَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ الْبَتَّةَ إِلَّا النَّوْعَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وَصَرَّحَ بِرَفْعِ الْمَلَامَةِ فِي عَدَمِ حِفْظِ الْفَرْجِ، عَنِ الزَّوْجَةِ، وَالْمَمْلُوكَةِ فَقَطْ ثُمَّ جَاءَ بِصِيغَةٍ عَامَّةٍ شَامِلَةٍ لِغَيْرِ النَّوْعَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، دَالَّةٍ عَلَى الْمَنْعِ هِيَ قَوْلُهُ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [٢٣ ٧] وَهَذَا الْعُمُومُ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ بِظَاهِرِهِ، نَاكِحَ يَدِهِ، وَظَاهِرُ عُمُومِ الْقُرْآنِ، لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، إِلَّا لِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، أَمَّا الْقِيَاسُ الْمُخَالِفُ لَهُ فَهُوَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، كَمَا أَوْضَحْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَعْضَ مَنْ حَرَّمَ جَلْدَ عَمِيرَةَ، وَاسْتِدْلَالَهُمْ بِالْآيَةِ مَا نَصُّهُ: وَقَدِ اسْتَأْنَسُوا بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ فِي جُزْئِهِ الْمَشْهُورِ، حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ الْجَزَرِيُّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «سَبْعَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَجْمَعُهُمْ مَعَ الْعَامِلِينَ وَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ أَوَّلَ الدَّاخِلِينَ إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا وَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ
317
عَلَيْهِ: النَّاكِحُ يَدَهُ، وَالْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالضَّارِبُ وَالِدَيْهِ، حَتَّى يَسْتَغِيثَا، وَالْمُؤْذِي جِيرَانَهُ حَتَّى يَلْعَنُوهُ، وَالنَّاكِحُ حَلِيلَةَ جَارِهِ» اهـ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَإِسْنَادُهُ فِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ لِجَهَالَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى مِنْهُ. وَلَكِنَّهُ عَلَى ضَعْفِهِ يَشْهَدُ لَهُ فِي نِكَاحِ الْيَدِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ ; لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ: جَلَدَ عَمِيرَةَ ; لِأَنَّهُمْ يُكَنُّونَ بِعَمِيرَةَ عَنِ الذَّكَرِ.
لَطِيفَةٌ: قَدْ ذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الْمُغَفَّلِينَ، أَنَّ مُغَفَّلًا كَانَتْ أُمُّهُ تَمْلِكُ جَارِيَةً تُسَمَّى عَمِيرَةَ فَضَرَبَتْهَا مَرَّةً، فَصَاحَتِ الْجَارِيَةُ، فَسَمِعَ قَوْمٌ صِيَاحَهَا، فَجَاءُوا وَقَالُوا: مَا هَذَا الصِّيَاحُ؟ فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ الْمُغَفَّلُ: لَا بَأْسَ تِلْكَ أُمِّي كَانَتْ تَجْلِدُ عَمِيرَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ تَدُلُّ بِظَاهِرِهَا عَلَى مَنْعِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ; لِأَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - صَرَّحَ فِيهَا بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُ، وُجُوبُ حِفْظِ الْفَرْجِ عَنْ غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالسُّرِّيَّةِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمُبْتَغِيَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْعَادِينَ بِقَوْلِهِ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَأَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْتَمْتَعَ بِهَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، لَيْسَتْ زَوْجَةً، وَلَا مَمْلُوكَةً. أَمَّا كَوْنُهَا غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهَا غَيْرَ زَوْجَةٍ، فَهُوَ انْتِفَاءُ لَوَازِمِ الزَّوْجِيَّةِ عَنْهَا كَالْمِيرَاثِ وَالْعِدَّةِ وَالطَّلَاقِ وَالنَّفَقَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةً لَوَرِثَتْ وَاعْتَدَّتْ وَوَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، وَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ، فَلَمَّا انْتَفَتْ عَنْهَا لَوَازِمُ الزَّوْجِيَّةِ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ ; لِأَنَّ نَفْيَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمَلْزُومِ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ.
فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مُبْتَغِيَ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مِنَ الْعَادِينَ الْمُجَاوِزِينَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ إِلَى مَا حَرَّمَ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِأَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ مَمْنُوعٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ يَخْفَى عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ مَعْنَى لَفْظَةِ عَلَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ الْآيَةَ ; لِأَنَّ مَادَّةَ الْحِفْظِ، لَا تَتَعَدَّى إِلَى الْمَعْمُولِ الثَّانِي فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ بِعَلَى فَقِيلَ: إِنَّ عَلَى بِمَعْنَى: عَنْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ حَافِظُونَ فُرُوجَهُمْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِلَّا عَنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَحَفِظَ قَدْ تَتَعَدَّى بِعْنَ.
وَحَاوَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْجَوَابَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَلَى هُنَا فَقَالَ مَا نَصُّهُ
318
«عَلَى أَزْوَاجِهِمْ» فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: إِلَّا وَالِينَ، عَلَى أَزْوَاجِهِمْ، أَوْ قَوَّامِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ قَوْلِكَ: كَانَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانَةَ، فَمَاتَ عَنْهَا، فَخَلَفَ عَلَيْهَا فُلَانٌ، وَنَظِيرُهُ: كَانَ زِيَادٌ عَلَى الْبَصْرَةِ أَيْ: وَالِيًا عَلَيْهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانَةٌ تَحْتَ فُلَانٍ، وَمِنْ ثَمَّةَ سُمِّيَتِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ فِي كَافَّةِ الْأَحْوَالِ، إِلَّا فِي تَزَوُّجِهِمْ أَوْ تَسَرِّيهِمْ، أَوْ تَعَلُّقِ عَلَى بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ غَيْرُ مَلُومِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يُلَامُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَيْ: يُلَامُونَ عَلَى كُلِّ مُبَاشَرَةٍ إِلَّا عَلَى مَا أُطْلِقَ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ عَلَيْهِ، أَوْ تَجْعَلُهُ صِلَةً لِحَافِظِينَ مِنْ قَوْلِكَ: احْفَظْ عَلَيَّ عِنَانَ فَرَسِي عَلَى تَضْمِينِهِ، مَعْنَى النَّفْيِ كَمَا ضُمِّنَ قَوْلُهُمْ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ إِلَّا فَعَلْتَ، بِمَعْنَى: مَا طَلَبْتُ مِنْكَ إِلَّا فِعْلَكَ. اهـ مِنْهُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ الظُّهُورِ.
قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي تَكَلَّفَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ ظَاهِرٌ فِيهَا الْعُجْمَةُ، وَهِيَ مُتَكَلَّفَةٌ، ثُمَّ اسْتَظْهَرَ أَبُو حَيَّانَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مِنْ بَابِ التَّضْمِينِ، ضَمَّنَ حَافِظُونَ مَعْنَى: مُمْسِكُونَ أَوْ قَاصِرُونَ، وَكِلَاهُمَا يَتَعَدَّى بِعَلَى كَقَوْلِهِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [٣٣ ٣٧] وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ مَعَ أَنَّ الْمَمْلُوكَاتِ مِنْ جُمْلَةِ الْعُقَلَاءِ، وَالْعُقَلَاءُ يُعَبَّرُ عَنْهُمْ بِمَنْ لَا بِمَا هُوَ أَنَّ الْإِمَاءَ لَمَّا كُنَّ يَتَّصِفْنَ بِبَعْضِ صِفَاتِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ كَبَيْعِهِنَّ وَشِرَائِهِنَّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَانَ ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِإِطْلَاقِ لَفْظَةِ مَا عَلَيْهِنَّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ، هُوَ مَفْعُولُ ابْتَغَى أَيْ: ابْتَغَى سِوَى ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَفْعُولَ بِهِ مَحْذُوفٌ، وَوَرَاءَ ظَرْفٌ، أَيْ: فَمَنِ ابْتَغَى مُسْتَمْتِعًا لِفَرْجِهِ، وَرَاءَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ الْوَارِثِينَ الْفِرْدَوْسَ: أَنَّهُمْ رَاعُونَ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ، أَيْ: مُحَافِظُونَ عَلَى الْأَمَانَاتِ، وَالْعُهُودِ، وَالْأَمَانَةُ تَشْمَلُ: كُلَّ مَا اسْتَوْدَعَكَ اللَّهُ، وَأَمَرَكَ بِحِفْظِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهَا حِفْظُ جَوَارِحِكَ مِنْ كُلِّ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ، وَحِفْظُ مَا ائْتُمِنْتَ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ، وَالْعُهُودُ أَيْضًا تَشْمَلُ: كُلَّ مَا أُخِذَ عَلَيْكَ الْعَهْدُ بِحِفْظِهِ، مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، وَحُقُوقِ النَّاسِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ حِفْظِ الْأَمَانَاتِ وَالْعُهُودِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ;
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [٤ ٥٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [٨ ٢٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سَأَلَ سَائِلٌ: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [٧٠ ٣٢] وَقَوْلِهِ فِي الْعَهْدِ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [١٧ ٣٤] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الْآيَةَ [٥ ١]، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [٤٨ ١٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ [١٦ ٩١] وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ الْآيَةَ [٢١ ٧٨]، وَقَوْلِهِ: رَاعُونَ: جَمْعُ تَصْحِيحٍ لِلرَّاعِي، وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى الشَّيْءِ، بِحِفْظٍ أَوْ إِصْلَاحٍ كَرَاعِي الْغَنَمِ وَرَاعِي الرَّعِيَّةِ، وَفِي الْحَدِيثِ «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» الْحَدِيثَ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ: لِأَمَانَتِهِمْ بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ النُّونِ، عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَالْبَاقُونَ بِأَلِفٍ بَعْدَ النُّونِ، عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ الْوَارِثِينَ الْفِرْدَوْسَ: أَنَّهُمْ يُحَافِظُونَ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا تَشْمَلُ إِتْمَامَ أَرْكَانِهَا، وَشُرُوطِهَا، وَسُنَنِهَا، وَفِعْلِهَا فِي أَوْقَاتِهَا فِي الْجَمَاعَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ نَيْلِ الْفِرْدَوْسِ أَمَرَ تَعَالَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى الْآيَةَ [٢ ٢٣٨]، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [٧٠ ٣٤] وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ [٧٠ ٢٢ - ٢٣] وَذَمَّ وَتَوَعَّدَ مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [١٩ ٥٩].
وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ»، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الْآيَةَ [١٠٧ ٥٤]، وَقَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّ الْمُنَافِقِينَ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ الْآيَةَ [٤ ١٤٢]، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»
الْحَدِيثَ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَكِنَّ مَوْضُوعَ كِتَابِنَا بَيَانُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، وَلَا نَذْكُرُ غَالِبًا الْبَيَانَ مِنَ السُّنَّةِ، إِلَّا إِذَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ بَيَانٌ غَيْرُ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ، فَنُتَمِّمُ الْبَيَانَ مِنَ السُّنَّةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا، وَذَكَرْنَاهُ فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّصِفِينَ بِالصِّفَاتِ، الَّتِي قَدَّمْنَا هُمُ الْوَارِثُونَ، وَحَذَفَ مَفْعُولَ اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الْوَارِثُونَ ; لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ [٢٣ ١١] عَلَيْهِ. وَالْفِرْدَوْسُ: أَعْلَى الْجَنَّةِ، وَأَوْسَطُهَا، وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ - جَلَّ وَعَلَا -، وَعَبَّرَ تَعَالَى عَنْ نَيْلِ الْفِرْدَوْسِ هُنَا بَاسِمِ الْوِرَاثَةِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى الْوِرَاثَةِ وَالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [١٩ ٦٣] وَقَوْلِهِ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٧ ٤٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ الْآيَةَ [٣٩ ٧٤] فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [١٩ ٦٣] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ: حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: عَلَى صَلَاتِهِمْ بِغَيْرِ وَاوٍ، بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: عَلَى صَلَوَاتِهِمْ [٢٣ ٩] بِالْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ; لِأَنَّ الْمُفْرَدَ الَّذِي هُوَ اسْمُ جِنْسٍ، إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ، كَانَ صِيغَةَ عُمُومٍ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، أَيْ: بِلَا انْقِطَاعٍ أَبَدًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [١١ ١٠٨] أَيْ: غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [٣٨ ٥٤] وَقَالَ تَعَالَى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [١٦ ٩٦] كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَطْوَارَ خَلْقِهِ الْإِنْسَانَ وَنَقْلِهِ لَهُ، مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، لِيَدُلَّ خَلْقُهُ بِذَلِكَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا -، وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي
321
أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ مَعْنَى النذُّطْفَةِ، وَالْعَلَقَةِ، وَالْمُضْغَةِ، وَبَيَّنَّا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمُخَلَّقَةِ، وَغَيْرِ الْمُخَلَّقَةِ، وَالصَّحِيحِ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْضَحْنَا أَحْكَامَ الْحَمْلِ إِذَا سَقَطَ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً هَلْ تَنْقَضِي بِهِ عِدَّةُ الْحَامِلِ أَوْ لَا؟
وَهَلْ تَكُونُ الْأَمَةُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ إِنْ كَانَ مِنْ سَيِّدِهَا أَوْ لَا؟ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَمْلِ السَّاقِطِ، وَمَتَى يَرِثُ، وَيُوَرَّثُ، وَمَتَى يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَاتِ [٢٢ ٥]، وَسَنَذْكُرُ هُنَا مَا لَمْ نُبَيِّنْهُ هُنَالِكَ مَعَ ذِكْرِ الْآيَاتِ الَّتِي لَهَا تَعَلُّقٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، أَمَّا مَعْنَى السُّلَالَةِ: فَهِيَ فُعَالَةٌ مِنْ سَلَلْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ، إِذَا اسْتَخْرَجْتَهُ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
خَلَقَ الْبَرِيَّةَ مِنْ سُلَالَةِ مُنْتِنٍ وَإِلَى السُّلَالَةِ كُلِّهَا سَتَعُودُ
وَالْوَلَدُ سُلَالَةُ أَبِيهِ كَأَنَّهُ انْسَلَّ مِنْ ظَهْرِ أَبِيهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
فَجَاءَتْ بِهِ عَضْبَ الْأَدِيمِ غَضَنْفَرًا سُلَالَةُ فَرْجٍ كَانَ غَيْرَ حَصِينِ
وَبِنَاءُ الِاسْمِ عَلَى الْفُعَالَةِ، يَدُلُّ عَلَى الْقِلَّةِ كَقُلَامَةِ الظُّفْرِ، وَنُحَاتَةِ الشَّيْءِ الْمَنْحُوتِ، وَهِيَ مَا يَتَسَاقَطُ مِنْهُ عِنْدَ النَّحْتِ، وَالْمُرَادُ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ سُلَالَةِ الطِّينِ: خَلْقُ أَبِيهِمْ آدَمَ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [٣ ٥٩].
وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِيمَا مَضَى أَطْوَارَ ذَلِكَ التُّرَابِ، وَأَنَّهُ لَمَّا بُلَّ بِالْمَاءِ صَارَ طِيبًا وَلَمَّا خُمِّرَ صَارَ طِينًا لَازِبًا يُلْصَقُ بِالْيَدِ، وَصَارَ حَمَأً مَسْنُونًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: طِينًا أَسْوَدَ مُنْتِنًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَسْنُونُ: الْمُصَوَّرُ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، ثُمَّ لَمَّا خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ خَلَقَ مِنْهُ زَوْجَهُ حَوَّاءَ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ النِّسَاءِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [٤ ١] وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [٧ ١٨٩] وَقَالَ فِي الزُّمَرِ: ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [٣٩ ٦] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ كُلِّهِ، ثُمَّ لَمَّا خَلَقَ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ، كَانَ وُجُودُ جِنْسِ الْإِنْسَانِ مِنْهُمَا عَنْ طَرِيقِ التَّنَاسُلِ، فَأَوَّلُ أَطْوَارِهِ: النُّطْفَةُ، ثُمَّ الْعَلَقَةُ، إِلَخْ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَغْلَبَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ، وَقَوْلُهُ هُنَا: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ [٢٣ ١٢] يَعْنِي: بَدْأَهُ خَلْقَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ بِخَلْقِ آدَمَ، وَقَوْلُهُ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً [٢٣ ١٣]، أَيْ: بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ
322
لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، الَّذِي هُوَ النَّسْلُ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ أَيْ: وَنِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرُ، كَمَا أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [٣٢ ٦ - ٩] وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [٣٠ ٢٠] وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَطْوَارِ خَلْقِهِ الْإِنْسَانَ، أَمَرَ كُلَّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ إِلَّا لِدَلِيلٍ صَارِفٍ عَنْهُ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ الْآيَةَ [٨٦ ٥ - ٦]، وَقَدْ أَشَارَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، إِلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ بِنَقْلِهِ الْإِنْسَانَ فِي خَلْقِهِ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ، كَمَا أَوْضَحَهُ هُنَا ; وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [٧١ ١٣ - ١٤] وَبَيَّنَ أَنَّ انْصِرَافَ خَلْقِهِ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي هَذَا وَالِاعْتِبَارِ بِهِ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ التَّسَاؤُلَ وَالْعَجَبَ، وَأَنَّ مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِ قُدْرَتِهِ نَقْلَهُ الْإِنْسَانَ مِنَ النُّطْفَةِ، إِلَى الْعَلَقَةِ، وَمِنَ الْعَلَقَةِ إِلَى الْمُضْغَةِ إِلَخْ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَشُقَّ بَطْنَ أُمِّهِ بَلْ هُوَ مُسْتَتِرٌ بِثَلَاثِ ظُلُمَاتٍ: وَهِيَ ظُلْمَةُ الْبَطْنِ، وَظُلْمَةُ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةُ الْمَشِيمَةِ الْمُنْطَوِيَةِ عَلَى الْجَنِينِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا -: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [٣٩ ٦] فَتَأَمَّلْ مَعْنَى قَوْلِهِ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، أَيْ: عَنْ هَذِهِ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ، الَّتِي فَعَلَهَا فِيكُمْ رَبُّكُمْ وَمَعْبُودُكُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [٣ ٦] وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ [٢٢ ٥] ثُمَّ ذَكَرَ الْحِكْمَةَ فَقَالَ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ [٢٢ ٥] أَيْ: لِنُظْهِرَ لَكُمْ بِذَلِكَ عَظَمَتَنَا، وَكَمَالَ قُدْرَتِنَا، وَانْفِرَادَنَا بِالْإِلَهِيَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا [٤٠ ٦٧] وَقَالَ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [٧٥ ٣٦ - ٤٠] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَبْهَمَ هَذِهِ الْأَطْوَارَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ
323
كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ [٧٠ ٣٩] وَذَلِكَ الْإِبْهَامُ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِمْ وَعَظَمَةِ خَالِقِهِمْ - جَلَّ وَعَلَا -، فَسُبْحَانَهُ - جَلَّ وَعَلَا - مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ وَمَا أَكْمَلَ قُدْرَتَهُ، وَمَا أَظْهَرَ بَرَاهِينَ تَوْحِيدِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي آيَةِ الْمُؤْمِنُونَ هَذِهِ: أَنَّهُ يَخْلُقُ الْمُضْغَةَ عِظَامًا، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُ يُرَكِّبُ بَعْضَ تِلْكَ الْعِظَامِ مَعَ بَعْضٍ، تَرْكِيبًا قَوِيًّا، وَيَشُدُّ بَعْضَهَا مَعَ بَعْضٍ، عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَبْدَعِهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ الْآيَةَ [٧٦ ٢٨]، وَالْأَسْرُ: شَدُّ الْعِظَامِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، وَتَآسِيرُ السَّرْجِ وَمَرْكَبُ الْمَرْأَةِ السُّيُورُ الَّتِي يُشَدُّ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ:
وَمَا دَخَلَتْ فِي الْخَدْبِ حَتَّى تَنَقَّضَتْ تَآسِيرُ أَعْلَى قَدِّهِ وَتَحَطَّمَا
وَفِي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ: أَسَرَ قَتَبَهُ يَأْسِرُهُ أَسْرًا شَدَّهُ بِالْأَسَارِ وَهُوَ الْقَدُّ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْأَسِيرُ، وَكَانُوا يَشُدُّونَهُ بِالْقَدِّ، فَقَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَاللُّغَوِيِّينَ: أَسْرَهُمْ أَيْ: خَلْقَهُمْ فِيهِ قُصُورٌ فِي التَّفْسِيرِ ; لِأَنَّ الْأَسْرَ هُوَ الشَّدُّ الْقَوِيُّ بِالْأَسَارِ الَّذِي هُوَ الْقَدُّ، وَهُوَ السَّيْرُ الْمَقْطُوعُ مِنْ جِلْدِ الْبَعِيرِ وَنَحْوِهِ، الَّذِي لَمْ يُدْبَغْ وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَشُدُّ بَعْضَ الْعِظَامِ بِبَعْضٍ، شَدًّا مُحْكَمًا مُتَمَاسِكًا كَمَا يَشُدُّ الشَّيْءَ بِالْقَدِّ، وَالشَّدُّ بِهِ قَوِيٌّ جِدًّا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [٢٣ ١٣] الْقَرَارُ هُنَا: مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ، وَالْمَكِينُ: الْمُتَمَكِّنُ، وَصَفَ الْقَرَارَ بِهِ لِتَمَكُّنِهِ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا يُعْرَضُ لَهُ اخْتِلَالٌ، أَوْ لِتَمَكُّنِ مَنْ يَحِلُّ فِيهِ، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْقَرَارُ: الْمُسْتَقِرُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ: الرَّحِمُ وُصِفَتْ بِالْمَكَانَةِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْمُسْتَقِرِّ فِيهَا، أَوْ بِمَكَانَتِهَا فِي نَفْسِهَا ; لِأَنَّهَا مُكِّنَتْ بِحَيْثُ هِيَ وَأُحْرِزَتْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ [٢٣ ١٤] قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْ: خَلْقًا مُبَايِنًا لِلْخَلْقِ الْأَوَّلِ مُبَايَنَةً مَا أَبْعَدَهَا حَيْثُ جَعَلَهُ حَيَوَانًا وَكَانَ جَمَادًا، وَنَاطِقًا وَكَانَ أَبْكَمَ، وَسَمِيعًا وَكَانَ أَصَمَّ، وَبَصِيرًا وَكَانَ أَكْمَهَ وَأَوْدَعَ بَاطِنَهُ وَظَاهِرَهُ، بَلْ كُلُّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ عَجَائِبُ فِطْرَةٍ، وَغَرَائِبُ حِكْمَةٍ، لَا تُدْرَكُ بِوَصْفِ الْوَاصِفِ، وَلَا بِشَرْحِ الشَّارِحِ، انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتُلِفَ فِي الْخَلْقِ الْآخَرِ الْمَذْكُورِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: «هُوَ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَمَادًا» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «خُرُوجُهُ إِلَى الدُّنْيَا»، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَنْ فُرْقَةِ نَبَاتِ شَعْرِهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: خُرُوجُ الْأَسْنَانِ، وَنَبَاتُ الشَّعْرِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَمَالُ شَبَابِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالصَّحِيحُ، أَنَّهُ عَامٌّ فِي هَذَا وَفِي غَيْرِهِ مِنَ النُّطْقِ وَالْإِدْرَاكِ، وَتَحْصِيلِ الْمَعْقُولَاتِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ، اهـ مِنْهُ.
324
وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَمِيعَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ خَلْقًا آخَرَ أَنَّهُ صَارَ بَشَرًا سَوِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ نُطْفَةً، وَمُضْغَةً، وَعَلَقَةً، وَعِظَامًا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.
مَسْأَلَةٌ
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عَلَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ بَيْضَةً، فَأَفْرَخَتْ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْبَيْضَةَ، وَلَا يَرُدُّ الْفَرْخَ ; لِأَنَّ الْفَرْخَ خَلْقٌ آخَرُ سِوَى الْبَيْضَةِ، فَهُوَ غَيْرُ مَا غَصَبَ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ الْغَاصِبُ مَا غَصَبَ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [٢٣ ١٤] وَقَوْلُهُ فَتَبَارَكَ اللَّهُ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: تَبَارَكَ: فِعْلٌ مَاضٍ لَا يَنْصَرِفُ، وَمَعْنَاهُ: تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. اهـ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ أَيِ: الْمُقَدِّرِينَ وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْخَلْقَ وَتُرِيدُ التَّقْدِيرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
فَقَوْلُهُ: يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي، أَيْ: يُقَدِّرُ الْأَمْرَ، ثُمَّ لَا يُنَفِّذُهُ لِعَجْزِهِ عَنْهُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ مُخْتَلِفُونَ فِي صِيغَةِ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَعْرِفَةٍ، هَلْ إِضَافَتُهَا إِضَافَةٌ مَحْضَةٌ، أَوْ لَفْظِيَّةٌ غَيْرُ مَحْضَةٍ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ؟ فَمَنْ قَالَ: هِيَ مَحْضَةٌ أَعْرَبَ قَوْلَهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ نَعْتًا لِلَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَمَنْ قَالَ: هِيَ غَيْرُ مَحْضَةٍ أَعْرَبَهُ بَدَلًا، وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هُوَ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، وَقَرَأَ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا [٢٣ ١٣] وَقَوْلُهُ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ عَظْمًا: بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَإِسْكَانِ الظَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ فِيهِمَا، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: عِظَامًا بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الظَّاءِ، وَأَلِفٍ بَعْدَهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَشُعْبَةَ، فَالْمُرَادُ بِالْعَظْمِ: الْعِظَامُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا بِإِيضَاحٍ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْمُفْرَدَ إِنْ كَانَ اسْمَ جِنْسٍ، قَدْ تُطْلِقُهُ الْعَرَبُ، وَتُرِيدُ بِهِ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَأَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَكَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ تَعْرِيفِهِ وَتَنْكِيرِهِ وَإِضَافَتِهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
325
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ أَنْشَأَهُمْ خَلْقًا آخَرَ، فَأَخْرَجَ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ صَغِيرًا، ثُمَّ يَكُونُ مُحْتَلِمًا، ثُمَّ يَكُونُ شَابًّا، ثُمَّ يَكُونُ كَهْلًا، ثُمَّ يَكُونُ شَيْخًا، ثُمَّ هَرَمًا أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ مَنْ عُمِّرَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُعَمَّرْ، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ يُبْعَثُونَ أَحْيَاءً، يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذَا الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ الْمَذْكُورَانِ هُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ نَظِيرٌ آخَرُ ; لِأَنَّهُمَا إِمَاتَتَانِ وَإِحْيَاءَتَانِ ذُكِرَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَاحِدَةٌ هُنَا، وَذُكِرَ الْجَمِيعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [٢ ٢٨] وَقَوْلِهِ: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [٤٠ ١١] كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ وَالْبَقَرَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَلُزُومِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (١٧)، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «طَرَائِقَ» وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا قِيلَ لَهَا طَرَائِقُ ; لِأَنَّ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: طَارَقَ النَّعْلَ إِذَا صَيَّرَهَا طَاقًا فَوْقَ طَاقٍ، وَرَكَّبَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ» أَيِ: التِّرَاسُ الَّتِي جُعِلَتْ لَهَا طَبَقَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَصِفُ نَعْلًا لَهُ مُطَارَقَةٌ:
وَطِرَاقٌ مِنْ خَلْفِهِنَّ طِرَاقٌ سَاقِطَاتٌ تَلْوِي بِهَا الصَّحْرَاءُ
يَعْنِي: نِعَالَ الْإِبِلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: طَائِرٌ طَرَّاقُ الرِّيشِ، وَمَطْرَقَةٌ إِذَا رَكِبَ بَعْضُ رِيشِهِ بَعْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ يَصِفُ بَازِيًا:
أَهْوَى لَهَا أَسْفَعُ الْخَدَّيْنِ مُطْرِقٌ رِيشَ الْقَوَادِمِ لَمْ تُنْصَبْ لَهُ الشَّبَكُ
وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ يَصِفُ بَازِيًا أَيْضًا:
طِرَاقُ الْخَوَافِي وَاقِعٌ فَوْقَ رِيعِهِ نَدَى لَيْلِهِ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَقُ
وَقَوْلُ الْآخَرِ يَصِفُ قَطَاةً:
سَكَّاءُ مَخْطُومَةٌ فِي رِيشِهَا طَرْقٌ سُودٌ قَوَادِمُهَا كَدَّرَ خَوَافِيَهَا
فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ سَبْعَ طَرَائِقَ يُوَضِّحُ مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا الْآيَةَ [٧١ ١٥] وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا قِيلَ لَهَا طَرَائِقُ ; لِأَنَّهَا طُرُقُ الْمَلَائِكَةِ فِي النُّزُولِ وَالْعُرُوجِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا طَرَائِقُ الْكَوَاكِبِ فِي مَسِيرِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: قِيلَ لَهَا طَرَائِقُ ; لِأَنَّ لِكُلِّ سَمَاءٍ طَرِيقَةٌ وَهَيْئَةٌ غَيْرُ هَيْئَةِ الْأُخْرَى، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: طَرَائِقُ؟ أَيْ مَبْسُوطَاتٌ فَكِلَاهُمَا ظَاهِرُ الْبُعْدِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [٢٣ ١٧] قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ [٢٢ ٦٥] ; لِأَنَّ مَنْ يُمْسِكُ السَّمَاءَ لَوْ كَانَ يَغْفُلُ لَسَقَطَتْ فَأَهْلَكَتِ الْخَلْقَ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [٢٣ ١٧] بَلْ نَحْنُ الْقَائِمُونَ بِإِصْلَاحِ جَمِيعِ شُئُونِهِمْ، وَتَيْسِيرِ كُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ يَعْنِي: السَّمَاوَاتُ بُرْهَانٌ عَلَى قَوْلِهِ قَبْلَهُ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [٢٣ ١٦] ; لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ، مَعَ عِظَمِهَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [٤٠ ٥٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا الْآيَةَ [٧٩ ٢٧].
وَقَوْلِهِ: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [٣٦ ٨١] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا بَرَاهِينَ الْبَعْثِ الَّتِي هَذَا الْبُرْهَانُ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَأَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَتِهَا وَهِيَ مَذْكُورَةٌ هُنَا، وَلَمْ نُوَضِّحْهَا هُنَا لِأَنَّا أَوْضَحْنَاهَا فِيمَا سَبَقَ فِي النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُعَظِّمًا نَفْسَهُ - جَلَّ وَعَلَا - بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُرَادِ بِهَا التَّعْظِيمُ وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ أَسْكَنَهُ فِي الْأَرْضِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ فِي الْآبَارِ، وَالْعُيُونِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - قَادِرٌ عَلَى إِذْهَابِهِ لَوْ شَاءَ أَنْ يُذْهِبَهُ فَيَهْلِكُ جَمِيعُ الْخَلْقِ بِسَبَبِ ذَهَابِ الْمَاءِ مِنْ أَصْلِهِ جُوعًا وَعَطَشًا وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ " بِقَدَرٍ " أَيْ: بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَهُ يَحْصُلُ بِهِ نَفْعُ الْخَلْقِ وَلَا يُكَثِّرُهُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى يَكُونَ كَطُوفَانِ نُوحٍ لِئَلَّا يُهْلِكَهُمْ، فَهُوَ يُنْزِلُهُ بِالْقَدْرِ الَّذِي فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، دُونَ الْمَفْسَدَةِ سُبْحَانَهُ - جَلَّ وَعَلَا - مَا أَعْظَمَهُ وَمَا أَعْظَمَ لُطْفَهُ بِخَلْقِهِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، جَاءَتْ مُبَيَّنَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
327
الْأُولَى: الَّتِي هِيَ كَوْنُهُ: أَنْزَلَهُ بِقَدَرٍ أَشَارَ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [١٥ ٢١].
وَالثَّانِيَةُ: الَّتِي هِيَ إِسْكَانُهُ الْمَاءَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ فِي الْأَرْضِ بَيَّنَهَا فِي قَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ [٣٩ ٢١] وَالْيَنْبُوعُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ وَقَوْلُهُ: فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ [١٥ ٢٢] عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي الْحِجْرِ.
وَالثَّالِثَةُ: الَّتِي هِيَ قُدْرَتُهُ عَلَى إِذْهَابِهِ أَشَارَ لَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [٦٧] وَيُشْبِهُ مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [٥٦ ٧٠] ; لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ مِلْحًا أُجَاجًا لَا يُمْكِنُ الشُّرْبُ مِنْهُ، وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهِ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ، وَقَدْ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ إِنْزَالِهِ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ [٢٤ ٤٣] فَصَرَّحَ بِأَنَّ الْوَدْقَ الَّذِي هُوَ الْمَطَرُ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ الَّذِي هُوَ الْمُزْنُ، وَهُوَ الْوِعَاءُ الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ وَبَيَّنَ أَنَّ السَّحَابَةَ تَمْتَلِئُ مِنَ الْمَاءِ حَتَّى تَكُونَ ثَقِيلَةً لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ الْآيَةَ [٧ ٥٧] فَقَوْلُهُ: ثِقَالًا جَمْعُ ثَقِيلَةٍ، وَثِقَلُهَا إِنَّمَا هُوَ بِالْمَاءِ الَّذِي فِيهَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ [١٣ ١٢] جَمْعُ سَحَابَةٍ ثَقِيلَةٍ.
وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْمَاءَ فِي الْمُزْنِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ، وَخِلَالُ الشَّيْءِ ثُقُوبُهُ وَفُرُوجُهُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَسْدُودَةٍ، وَبَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُهُ وَيُصَرِّفُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، فَيُكْثِرُ الْمَطَرَ فِي بِلَادِ قَوْمٍ سَنَةً، حَتَّى يَكْثُرَ فِيهَا الْخِصْبُ وَتَتَزَايَدَ فِيهَا النِّعَمُ، لِيَبْتَلِيَ أَهْلَهَا فِي شُكْرِ النِّعْمَةِ، وَهَلْ يَعْتَبِرُونَ بِعِظَمِ الْآيَةِ فِي إِنْزَالِ الْمَاءِ، وَيُقِلُّ الْمَطَرَ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ السِّنِينَ، فَتَهْلِكُ مَوَاشِيهِمْ مِنَ الْجَدْبِ وَلَا تَنْبُتُ زُرُوعُهُمْ، وَلَا تُثْمِرُ أَشْجَارُهُمْ، لِيَبْتَلِيَهُمْ بِذَلِكَ، هَلْ يَتُوبُونَ إِلَيْهِ، وَيَرْجِعُونَ إِلَى مَا يُرْضِيهِ.
وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَعَ الْإِنْعَامِ الْعَامِّ عَلَى الْخَلْقِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ بِالْقَدْرِ الْمُصْلِحِ وَإِسْكَانِ مَائِهِ فِي الْأَرْضِ لِيَشْرَبُوا مِنْهُ هُمْ، وَأَنْعَامُهُمْ، وَيَنْتَفِعُوا بِهِ أَبَى أَكْثَرُهُمْ إِلَّا الْكُفْرَ بِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [٢٥ ٤٨ - ٥٠].
328
وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَبَى مِنْهُمْ إِلَّا كُفُورًا الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَطَرَ لَمْ يُنَزِّلْهُ مُنَزِّلٌ هُوَ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، وَإِنَّمَا نَزَلَ بِطَبِيعَتِهِ، فَالْمُنَزِّلُ لَهُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الطَّبِيعَةُ، وَأَنَّ طَبِيعَةَ الْمَاءِ التَّبَخُّرُ، إِذَا تَكَاثَرَتْ عَلَيْهِ دَرَجَاتُ الْحَرَارَةِ مِنَ الشَّمْسِ أَوْ الِاحْتِكَاكِ بِالرِّيحِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْبُخَارَ يَرْتَفِعُ بِطَبِيعَتِهِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ، ثُمَّ يَتَقَاطَرُ، وَأَنَّ تَقَاطُرَهُ ذَلِكَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ لَا فَاعِلَ لَهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَطَرُ. فَيُنْكِرُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي إِنْزَالِهِ الْمَطَرَ وَيُنْكِرُونَ دَلَالَةَ إِنْزَالِهِ عَلَى قُدْرَةِ مُنَزِّلِهِ، وَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ دَاخِلُونَ فِي قَوْلِهِ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا.
وَقَدْ صَرَّحَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى، هُوَ مُصَرِّفُ الْمَاءِ، وَمُنَزِّلُهُ حَيْثُ شَاءَ كَيْفَ شَاءَ. وَمِنْ قَبِيلِ هَذَا الْمَعْنَى: مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ " صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصُّبْحَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَثَرِ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: " هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ بِي: فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ ". هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِبُخَارِ كَذَا مُسْنِدًا ذَلِكَ لِلطَّبِيعَةِ، أَنَّهُ كَافِرٌ بِاللَّهِ مُؤْمِنٌ بِالطَّبِيعَةِ وَالْبُخَارِ، وَالْعَرَبُ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ بَعْضَ الْمَطَرِ أَصْلُهُ مِنَ الْبَحْرِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يُسْنِدُونَ فِعْلَ ذَلِكَ لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ - جَلَّ وَعَلَا -، وَمِنْ أَشْعَارِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ:
لَا تَلُمْنِي إِنَّهَا مِنْ نِسْوَةٍ رُقَّدِ الصَّيْفِ مَقَالِيتٍ نُزُرْ
كَبَنَاتِ الْبَحْرِ يَمْأَدْنَ إِذَا أَنْبَتَ الصَّيْفُ عَسَالِيجَ الْخُضَرْ
فَقَوْلُهُ: بَنَاتُ الْبَحْرِ يَعْنِي: الْمُزْنَ الَّتِي أَصْلُ مَائِهَا مِنَ الْبَحْرِ.
وَقَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
سَقَى أُمَّ عَمْرٍو كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ حَنَاتِمُ غُرٌّ مَاؤُهُنَّ ثَجِيجُ
شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ مَتَى لُجَجٌ خُضْرٌ لَهُنَّ نَئِيجُ
وَلَا شَكَّ أَنَّ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - جَلَّ وَعَلَا -، هُوَ مُنَزِّلُ الْمَطَرِ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَشَاءُ كَيْفَ يَشَاءُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
329
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضَّحَةَ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ الْآيَةَ [١٦ ١١] وَغَيْرَهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ، قَوْلُهُ: شَجَرَةً: مَعْطُوفٌ عَلَى: جَنَّاتٍ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مُسَوِّغَهُ مِرَارًا أَيْ: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ، وَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ وَهِيَ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ الْآيَةَ [٢٤ ٣٥]، وَالدُّهْنُ الَّذِي تَنْبُتُ بِهِ: هُوَ زَيْتُهَا الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ [٢٤ ٣٥] وَمَعَ الِاسْتِضَاءَةِ مِنْهَا، فَهِيَ صِبْغٌ لِلْآكِلِينَ أَيْ: إِدَامٌ يَأْتَدِمُونَ بِهِ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ: نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: سِينَاءُ بِكَسْرِ السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِفَتْحِهَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: تُنْبِتُ بِضَمِّ التَّاءِ، وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مُضَارِعُ أَنْبَتَ الرُّبَاعِيِّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: تَنْبُتُ بِفَتْحِ التَّاءِ، وَضَمِّ الْبَاءِ مُضَارِعُ: نَبَتَ الثُّلَاثِيِّ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي حَرْفِ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِالدُّهْنِ أَيْ: تَنْبُتُ مَصْحُوبَةً بِالدُّهْنِ الَّذِي يُسْتَخْرَجُ مِنْ زَيْتُونِهَا، وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو، فَفِي الْبَاءِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ: أَنَّ أَنْبَتَ الرُّبَاعِيَّ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَاءِ وَقَدْ قَدَّمْنَا النُّكْتَةَ فِي الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْبَاءِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ الْآيَةَ [١٩ ٢٥]، وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَنْبَتَ الرُّبَاعِيَّ، عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو هُنَا: لَازِمَةٌ لَا مُتَعَدِّيَةُ الْمَفْعُولِ، وَأَنْبَتَ تَتَعَدَّى، وَتَلْزَمُ فَمِنْ تَعَدِّيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ الْآيَةَ [١٦ ١١] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ [٥٠ ٩] وَمِنْ لُزُومِهَا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو الْمَذْكُورَةُ، وَنَظِيرُهَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
رَأَيْتُ ذَوِي الْحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ قَطِينًا بِهَا حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْلُ
فَقَوْلُهُ: أَنْبَتَ الْبَقْلُ لَازِمٌ بِمَعْنَى: نَبَتَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي قِرَاءَةِ: (تُنْبِتُ) بِضَمِّ التَّاءِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُضَارِعُ أَنْبَتَ الْمُتَعَدِّي: وَأَنَّ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفٌ أَيْ: تُنْبِتُ
زَيْتُونَهَا، وَفِيهِ الزَّيْتُ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: الطُّورُ: هُوَ الْجَبَلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يُسَمَّى طُورًا إِذَا كَانَ فِيهِ شَجَرٌ، فَإِنْ عُرِّيَ عَنِ الشَّجَرِ، سُمِّيَ جَبَلًا لَا طُورًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَطُورُ سَيْنَاءَ: هُوَ طُورُ سِنِينَ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الْجِبَالِ، الَّتِي فِيهَا شَجَرُ الزَّيْتُونِ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ مَقَالٍ، وَقَالَ فِيهِ الْعَجْلُونِيُّ فِي كَشْفِ الْخَفَاءِ وَمُزِيلِ الْإِلْبَاسِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُمَرَ وَابْنُ مَاجَهْ فَقَطْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِهِمَا ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. اهـ مِنْهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ الْآيَةَ [١٦ ٦٦] مَعَ بَيَانِ أَوْجُهِ الْقِرَاءَةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ، الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: «عَلَيْهَا» رَاجِعٌ إِلَى الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ [٢٣ ٢١] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ خَلْقَهُ عَلَى الْأَنْعَامِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْإِبِلُ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَيْهَا هُوَ الْأَغْلَبُ، وَعَلَى الْفُلْكِ: وَهِيَ السُّفُنُ وَلَفْظُ الْفُلْكِ، يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ مِنَ السُّفُنِ، وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَى خَلْقِهِ بِمَا يَسَّرَ لَهُمْ مِنَ الرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ، عَلَى الْأَنْعَامِ وَالسُّفُنِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [٤٠ ٧٩ - ٨٠] وَقَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [٣٦ ٧١ - ٧٢] وَقَوْلِهِ فِيهَا وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [١٦ ٧] وَقَوْلِهِ فِي
الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَعًا: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [٤٣ ١٢ - ١٤] وَقَوْلِهِ فِي السُّفُنِ: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [٣٦ ٤١ - ٤٢] وَقَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [٢٢ ٦٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [١٦ ١٤] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَهَذَا مِنْ نِعَمِهِ وَآيَاتِهِ، وَقَرَنَ الْأَنْعَامَ بِالْفُلْكِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ ; لِأَنَّ الْإِبِلَ سَفَائِنُ الْبَرِّ، كَمَا قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
أَلَا خُيِّلَتْ مِنِّي وَقَدْ نَامَ صُحْبَتِي فَمَا نَفَرَ التَّهْوِيمَ إِلَّا سَلَامُهَا طَرُوقًا
وَجُلَبُ الرَّحْلِ مَشْدُودَةٌ بِهَا سَفِينَةُ بَرٍّ تَحْتَ خَدِّي زِمَامُهَا
فَتَرَاهُ سَمَّى نَاقَتَهُ سَفِينَةَ بَرٍّ وَجُلَبُ الرَّحْلِ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ عِيدَانُهُ أَوِ الرَّحْلُ بِمَا فِيهِ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْلِهِ وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ، قَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ، الَّتِي لَهَا بَيَانٌ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ، بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ بَعْدَ إِرْسَالِ نُوحٍ وَالرَّسُولِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ تَتْرَى أَيْ: مُتَوَاتِرِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَكُلُّ مُتَتَابِعٍ مُتَتَالٍ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ مُتَوَاتِرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
يَعْلُو طَرِيقَةَ مَتْنِهَا مُتَوَاتِرٌ فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا
يَعْنِي: مَطَرًا مُتَتَابِعًا، أَوْ غُبَارَ رِيحٍ مُتَتَابِعًا، وَتَاءُ تَتْرَى مُبْدَلَةٌ مِنَ الْوَاوِ، وَأَنَّهُ كُلَّ مَا أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى أُمَّةٍ كَذَّبُوهُ فَأَهْلَكَهُمْ، وَأَتْبَعَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فِي الْإِهْلَاكِ الْمُتْسَأْصِلِ بِسَبَبِ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ بُيِّنَتْ آيَةُ اسْتِثْنَاءِ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذَا الْإِهْلَاكِ الْمَذْكُورِ.
أَمَّا الْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ فَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
332
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [٣٤ ٣٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [٤٣ ٢٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً الْآيَةَ [٧ ٩٤ - ٩٥] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
أَمَّا الْآيَةُ الَّتِي بَيَّنَتِ اسْتِثْنَاءَ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [١٠ ٩٨]، وَظَاهِرُ آيَةِ الصَّافَّاتِ أَنَّهُمْ آمَنُوا إِيمَانًا حَقًّا، وَأَنَّ اللَّهَ عَامَلَهُمْ بِهِ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي الصِّفَاتِ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [٣٧ ١٤٧ - ١٤٨] لِأَنَّ ظَاهِرَ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ: فَآمَنُوا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمِنَ الْأُمَمِ الَّتِي نَصَّ عَلَى أَنَّهُ أَهْلَكَهَا وَجَعَلَهَا أَحَادِيثَ سَبَأٌ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيهِمْ: فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ الْآيَةَ [٣٤ ١٩]، وَقَوْلُهُ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ أَيْ: أَخْبَارًا وَقِصَصًا يُسْمَرُ بِهَا، وَيُتَعَجَّبُ مِنْهَا، كَمَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ:
وَإِنَّمَا الْمَرْءُ حَدِيثُ بَعْدِهِ فَكُنْ حَدِيثًا حَسَنًا لِمَنْ وَعَى
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: تَتْرًا بِالتَّنْوِينِ: وَهِيَ لُغَةُ كِنَانَةَ، وَالْبَاقُونَ بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ الْمَقْصُورَةِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ: وَهِيَ لُغَةُ أَكْثَرِ الْعَرَبِ، وَسَهَّلَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ قَوْلِهِ: جَآءَ أُمَّةٍ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالتَّحْقِيقِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَقَوْلُهُ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [٢٣ ٤٤] مَصْدَرٌ لَا يَظْهَرُ عَامِلُهُ، وَقَدْ بَعُدَ بَعَدًا بِفَتْحَتَيْنِ، وَبُعْدًا بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: هَلَكَ فَقَوْلُهُ: بُعْدًا أَيْ: هَلَاكًا مُسْتَأْصِلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [١١ ٩٥] قَالَ الشَّاعِرُ:
قَلَّ الْغَنَاءُ إِذَا لَاقَى الْفَتَى تَلَفًا قَوْلُ الْأَحِبَّةِ لَا تَبْعُدْ وَقَدْ بَعُدَا
وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّ بُعْدًا وَسُحْقًا وَدَفْرًا أَيْ: نَتِنًا مِنَ الْمَصَادِرِ الْمَنْصُوبَةِ بِأَفْعَالٍ لَا تَظْهَرُ. اهـ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُمْ: سَقْيًا وَرَعْيًا، كَقَوْلِ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
333
نُبِّئْتُ نِعَمًا عَلَى الْهِجْرَانِ عَاتِيَةً سَقْيًا وَرَعْيًا لِذَاكَ الْعَاتِبِ الزَّارِي
وَالْأَحَادِيثُ فِي قَوْلِهِ: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ» فِي مُفْرَدِهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمْعُ حَدِيثٍ كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، تُرِيدُ بِالْأَحَادِيثِ جَمْعَ حَدِيثٍ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنَ الْجُمُوعِ الْجَارِيَةِ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ الْمُشَارِ لَهَا بِقَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَحَائِدٍ عَنِ الْقِيَاسِ كُلَّ مَا خَالَفَ فِي الْبَابَيْنِ حُكْمًا رَسْمَا
يَعْنِي بِالْبَابَيْنِ: التَّكْسِيرَ وَالتَّصْغِيرَ، كَتَكْسِيرِ حَدِيثٍ عَلَى أَحَادِيثَ وَبَاطِلٍ عَلَى أَبَاطِيلَ، وَكَتَصْغِيرِ مَغْرِبٍ، عَلَى مُغَيْرِبَانِ، وَعَشِيَّةً عَلَى عُشَيْشِيَّةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا اسْمُ جَمْعٍ لِلْحَدِيثِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَحَادِيثَ جَمْعُ أُحْدُوثَةٍ الَّتِي هِيَ مِثْلُ: أُضْحُوكَةٍ، وَأُلْعُوبَةٍ، وَأُعْجُوبَةٍ بِضَمِّ الْأَوَّلِ، وَإِسْكَانِ الثَّانِي: وَهِيَ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ تَلَهِيًّا وَتَعَجُّبًا. وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ تَوْبَةَ بْنِ الْحُمَيْرِ
:
مِنَ الْخَفِرَاتِ الْبِيْضِ وَدَّ جَلِيسُهَا إِذَا مَا انْقَضَتْ أُحْدُوثَةٌ لَوْ تُعِيدُهَا
وَهَذَا الْوَجْهُ أَنْسَبُ هُنَا لِجَرَيَانِ الْجَمْعِ فِيهِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَجَزَمَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، أَمَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رُسُلَهُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهُمْ، وَقْتَ نُزُولِهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ: وَهِيَ الْحَلَالُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَأَنْ يَعْمَلُوا الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ مِنَ الْحَلَالِ لَهُ أَثَرٌ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَهَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ الرُّسُلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَمَرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [٢ ١٧٢] وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ أَمَرَ فِي زَمَنِهِ بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَتَأْثِيرُ الْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ فِي الْأَعْمَالِ مَعْرُوفٌ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [٢٣ ٥١]
وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [٢ ١٧٢] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ يَا رَبِّ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ» وَهُوَ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً أَنَّ دُعَاءَهُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْقُرَبِ لَمْ يَنْفَعْهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْحَلَالِ وَلَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ، وَلَمْ يَرْكَبْ مِنْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، قَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَفَسَّرْنَا مَا يَحْتَاجُ مِنْهُمَا إِلَى تَفْسِيرٍ وَبَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَعْنَاهُمَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [٢١ ٩٢ - ٩٣] وَبَيَّنَّا الْمُرَادَ بِالْأُمَّةِ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبَيَّنَّا جَمْعَ مَعَانِي الْأُمَّةِ فِي الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ الْآيَةَ [١١ ٨] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ، أَمَرَ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَذَرَ الْكُفَّارَ أَيْ: يَتْرُكَهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ إِلَى حِينٍ، أَيْ: وَقْتٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَقْتُ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ بِقَتْلٍ أَوْ مَوْتٍ، وَصَيْرُورَتُهُمْ إِلَى مَا هُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنَ الْعَذَابِ الْبَرْزَخِيِّ، وَالْأُخْرَوِيِّ، وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِالْحِينِ الْمَذْكُورِ: وَقْتَ قَتْلِهِمْ، أَوْ مَوْتِهِمْ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بِغَيْرِ سَنَدٍ.
وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى غَمْرَتِهِمْ رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ; كَقَوْلِ الْكَلْبِيِّ فِي غَمْرَتِهِمْ أَيْ: جَهَالَتِهِمْ. وَقَوْلُ ابْنِ بَحْرٍ: فِي حَيْرَتِهِمْ. وَقَوْلُ ابْنِ سَلَامٍ: فِي غَفْلَتِهِمْ. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: فِي ضَلَالَتِهِمْ فَمَعْنَى كُلِّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّهُ، أَمَرَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالْمَعَاصِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْغَمْرَةُ: الْمَاءُ الَّذِي يَغْمُرُ الْقَامَةَ فَضُرِبَتْ مَثَلًا لِمَا هُمْ مَغْمُورُونَ فِيهِ مِنْ جَهْلِهِمْ، وَعَمَايَتِهِمْ أَوْ شُبِّهُوا بِاللَّاعِبِينَ فِي غَمْرَةِ الْمَاءِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
لَيَالِي اللَّهْوِ يُطْبِينِي فَأَتْبَعَهُ كَأَنَّنِي ضَارِبٌ فِي غَمْرَةٍ لَعِبِ
وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ [٢٣ ٥٤] لِلتَّهْدِيدِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي
فَنِّ الْأُصُولِ فِي مَبْحَثِ الْأَمْرِ وَفِي فَنِّ الْمَعَانِي فِي مَبْحَثِ الْإِنْشَاءِ، أَنَّ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَأْتِي لَهَا صِيغَةُ أَفْعَلَ التَّهْدِيدُ وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ تَهْدِيدِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [١٥ ٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [٨٦ ١٧] وَقَوْلِهِ: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [١٤] وَقَوْلِهِ: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [٣٩ ٨].
وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ، الْآيَةَ [١٥ ٣] وَتَكَلَّمْنَا هُنَاكَ عَلَى لَفْظِ ذَرْهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ، قَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [١٨ ٣٦] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ التَّخْفِيفِ فِي هَذِهِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، الَّتِي جَاءَ بِهَا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [٢٢ ٧٨] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، الْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْكِتَابِ: كِتَابُ الْأَعْمَالِ الَّذِي يُحْصِيهَا اللَّهُ فِيهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٤٥ ٢٩] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، الْآيَةَ [١٨ ٤٩] وَفِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا [١٧ ١٣].
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى نُطْقِ الْكِتَابِ بِالْحَقِّ: أَنَّ جَمِيعَ الْمَكْتُوبِ فِيهِ حَقٌّ، فَمَنْ قَرَأَ الْمَكْتُوبَ فِيهِ، كَأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ فِي قِرَاءَتِهِ لَهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَرُبَّمَا أَطْلَقَتِ الْعَرَبُ اسْمَ الْكَلَامِ عَلَى
الْخَطِّ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا بَيْنَ دَفَّتَيِ الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ، حَتَّى هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي يُبْتَدَأُ بَعْدَهَا الْكَلَامُ، وَالْكَلَامُ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ، وَالْعَذَابُ الَّذِي أَخَذَهُمْ رَبُّهُمْ بِهِ، قِيلَ: هُوَ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَقِيلَ: الْجُوعُ وَالْقَحْطُ الشَّدِيدُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، لَمَّا دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» فَأَصَابَهُمْ بِسَبَبِ دَعْوَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْجُوعِ الشَّدِيدِ، عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي أَنَّهُ أَخَذَهُمْ بِالْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ أَخَذَ مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ، وَالْمُتْرَفُونَ هُمْ أَصْحَابُ النِّعْمَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَهَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [٧٣ ١١ - ١٣] فَقَوْلُهُ: أُولِي النَّعْمَةِ يُرِيدُ بِهِمُ: الْمُتْرَفِينَ فِي الدُّنْيَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ سَيُعَذِّبُهُمْ بَعْدَ التَّهْدِيدِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: يَجْأَرُونَ، الْجُؤَارُ: الصُّرَاخُ بِاسْتِغَاثَةٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: جَأَرَ الثَّوْرُ يَجْأَرُ: صَاحَ، فَالْجُؤَارُ كَالْخُوَارِ وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ «عِجْلًا جَسَدًا لَهُ جُؤَارٌ» [٧ ١٤٨]، [٢٠ ٨٨] بِالْجِيمِ وَالْهَمْزَةِ، أَيْ: خُوَارٌ، وَجَأَرَ الرَّجُلُ إِلَى اللَّهِ: تَضَرَّعَ بِالدُّعَاءِ.
فَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُنَعَّمِينَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكُفَّارِ، إِذَا أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، صَاحُوا مُسْتَصْرِخِينَ مُسْتَغِيثِينَ، يَطْلُبُونَ الْخَلَاصَ مِمَّا هُمْ فِيهِ، وَصُرَاخُهُمْ وَاسْتِغَاثَتُهُمُ الْمُشَارُ لَهُ هُنَا، جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [٣٥ ٣٦ - ٣٧] فَقَوْلُهُ: يَصْطَرِخُونَ: يَفْتَعِلُونَ مِنَ الصُّرَاخِ، مُسْتَغِيثِينَ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ مِمَّا هُمْ فِيهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فَهَذَا الصُّرَاخُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَامُّ لِلْمُتْرَفِينَ وَغَيْرِهِمْ، هُوَ الْجُؤَارُ الْمَذْكُورُ عَنِ الْمُتْرَفِينَ هُنَا، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْعَرَبِ الْجُؤَارُ عَلَى الصُّرَاخِ وَالدُّعَاءِ لِلِاسْتِغَاثَةِ قَوْلُ الْأَعْشَى:
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِيكِ فَطَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارًا
وَالْجُؤَارُ الْمَذْكُورُ: هُوَ النِّدَاءُ فِي قَوْلِهِ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ [٣٨ ٣] ; لِأَنَّ نِدَاءَهُمْ نِدَاءُ اسْتِغَاثَةٍ وَاسْتِصْرَاخٍ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ الْآيَةَ [٤٣ ٧٧] ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الَّتِي يَطْلُبُونَهَا، فَيَسْتَغِيثُونَ بِالْمَوْتِ مِنْ دَوَامِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، أَجَارَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [٢٥ ١٣ - ١٤] وَذَلِكَ الدُّعَاءُ بِالثُّبُورِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْهَلَاكِ، وَالْوَيْلُ عَنْ أَنْوَاعِ جُؤَارِهِمْ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ [٢٣ ٦٥] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنِ اسْتَغَاثُوا لَمْ يُغَاثُوا، وَإِنِ اسْتَرْحَمُوا لَمْ يُرْحَمُوا، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [١٨ ٢٩].
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ، لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْمُتْرَفِينَ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا أَخَذَهُمْ رَبُّهُمْ بِالْعَذَابِ، ضَجُّوا وَصَاحُوا وَاسْتَغَاثُوا، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُغَاثُونَ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ آنِفًا بَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قَدْ كَانَتْ آيَاتِي، أَيِ: الَّتِي أَرْسَلْتُ بِهَا رُسُلِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ: تُقْرَأُ عَلَيْكُمْ وَاضِحَةً مُفَصَّلَةً، فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ: تَرْجِعُونَ عَنْهَا الْقَهْقَرَى، وَالْعَقِبُ: مُؤَخَّرُ الْقَدَمِ، وَالنُّكُوصُ: الرُّجُوعُ عَنِ الْأَمْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ [٨ ٤٨] وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
زَعَمُوا بِأَنَّهُمْ عَلَى سُبُلِ النَّجَاةِ وَإِنَّمَا نَكَصَ عَلَى الْأَعْقَابِ
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا: أَشَارَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [٤٠ ١١ - ١٢] فَكُفْرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ ذِكْرُ اللَّهِ وَحْدَهُ، مِنْ نُكُوصِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ، لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى النُّكُوصِ عَنْهَا، عَلَى أَعْقَابِهِمْ، بَلْ يَكَادُونَ يَبْطِشُونَ بِالَّذِي يَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ، لِشِدَّةِ بُغْضِهِمْ لَهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [٢٢ ٧٢]
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَظْهَرُ عِنْدَنَا مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَوْمُ بَدْرٍ أَوِ الْجُوعُ، وَمِنْ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ: أَنَّ الَّذِينَ يَجْأَرُونَ: هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُقْتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَّ جُؤَارَهُمْ مِنْ قِبَلِ إِخْوَانِهِمْ، فَكُلُّ ذَلِكَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَإِنْ قَالَهُ مَنْ قَالَهُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ، يَتَضَمَّنُ حَضَّهُمْ، عَلَى تَدَبُّرِ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ; لِأَنَّهُمْ إِنْ تَدَبَّرُوهُ تَدَبُّرًا صَادِقًا، عَلِمُوا أَنَّهُ حَقٌّ، وَأَنَّ اتِّبَاعَهُ وَاجِبٌ وَتَصْدِيقُ مَنْ جَاءَ بِهِ لَازِمٌ، وَقَدْ أَشَارَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [٤ ٨٢] وَقَوْلِهِ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [٤٧ ٢٤] وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ [٢٣ ٦٨] قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
فَأَنْكَرُوهُ، وَأَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقِيلَ: أَمْ بِمَعْنَى: بَلْ جَاءَهُمْ مَا لَا عَهْدَ لِآبَائِهِمْ بِهِ، فَلِذَلِكَ أَنْكَرُوهُ، وَتَرَكُوا التَّدَبُّرَ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَمْ جَاءَهُمْ أَمَانٌ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: قَرَّعَهُمْ أَوَّلًا بِتَرْكِ الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ، ثُمَّ ثَانِيًا بِأَنَّ مَا جَاءَهُمْ جَاءَ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ: إِرْسَالُ الرُّسُلِ لَيْسَ بِدْعًا، وَلَا مُسْتَغْرَبًا، بَلْ أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَعَرِفُوا ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ وَنَجَاةِ مَنْ آمَنَ، وَاسْتِئْصَالِ مَنْ كَذَبَ وَآبَاؤُهُمْ إِسْمَاعِيلُ وَأَعْقَابُهُ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مِنَ التَّفْسِيرِ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ الْآيَةَ [٤٦ ٩] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ يُونُسَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ الْآيَةَ [١٠ ١٦] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ، أَمِ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ بِأَمِ الْمُنْقَطِعَةِ، وَضَابِطُهَا أَلَّا تَتَقَدَّمَ عَلَيْهَا هَمْزَةُ تَسْوِيَةٍ نَحْوَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ الْآيَةَ [٢ ٦] أَوْ هَمْزَةٌ مُغْنِيَةٌ، عَنْ لَفْظَةٍ، أَيْ: كَقَوْلِكَ أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ أَيْ: أَيُّهُمَا عِنْدَكَ فَالْمَسْبُوقَةُ
339
بِإِحْدَى الْهَمْزَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ بِأَمِ الْمُتَّصِلَةِ، وَالَّتِي لَمْ تُسْبَقْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِالْمُنْقَطِعَةِ كَمَا هُنَا، وَأَمِ الْمُنْقَطِعَةُ تَأْتِي لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ.
الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى: بَلِ الْإِضْرَابِيَّةِ.
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى هَمْزَةِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ.
الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَاهُمَا مَعًا فَتَكُونُ جَامِعَةً بَيْنَ الْإِضْرَابِ وَالْإِنْكَارِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْأَكْثَرُ فِي مَعْنَاهَا، خِلَافًا لِابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى: بَلْ فِي قَوْلِهِ:
وَبِانْقِطَاعٍ وَبِمَعْنَى بَلْ وَفَتْ إِنْ تَكُ مِمَّا قُيِّدَتْ بِهِ خَلَتْ
وَمُرَادُهُ بِخُلُوِّهَا مِمَّا قُيِّدَتْ بِهِ: أَلَّا تَسْبِقَهَا إِحْدَى الْهَمْزَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، فَإِنْ سَبَقَتْهَا إِحْدَاهُمَا، فَهِيَ الْمُتَّصِلَةُ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فَيَكُونُ الْمَعْنَى مُتَضَمِّنًا لِلْإِضْرَابِ عَمَّا قَبْلَهُ إِضْرَابًا انْتِقَالِيًّا، مَعَ مَعْنَى اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ، فَتَضَمُّنُ الْآيَةِ الْإِنْكَارَ عَلَى الْكُفَّارِ فِي دَعْوَاهُمْ: أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ جِنَّةٌ أَيْ: جُنُونٌ يَعْنُونَ: أَنَّ هَذَا الْحَقَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ هَذَيَانُ مَجْنُونٍ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ مَا أَجْحَدَهُمْ لِلْحَقِّ! وَمَا أَكْفَرَهُمْ! وَدَعْوَاهُمْ عَلَيْهِ هَذِهِ أَنَّهُ مَجْنُونٌ كَذَّبَهَا اللَّهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ [٢٣ ٧٠] فَالْإِضْرَابُ بِبَلْ إِبْطَالِيٌّ.
وَالْمَعْنَى: لَيْسَ بِمَجْنُونٍ بَلْ هُوَ رَسُولٌ كَرِيمٌ جَاءَكُمْ بِالْحَقِّ الْوَاضِحِ، الْمُؤَيَّدِ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّذِي يَعْرِفُ كُلُّ عَاقِلٍ، أَنَّهُ حَقٌّ، وَلَكِنْ عَانَدْتُمْ وَكَفَرْتُمْ لِشِدَّةِ كَرَاهِيَتِكُمْ لِلْحَقِّ، وَمَا نَفَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ دَعْوَاهُمْ عَلَيْهِ الْجُنُونَ صَرَّحَ اللَّهُ بِنَفْيِهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [٨١ ٢٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ [٥٢ ٢٩] وَهَذَا الْجُنُونُ الَّذِي افْتُرِيَ عَلَى آخِرِ الْأَنْبِيَاءِ، افْتُرِيَ أَيْضًا عَلَى أَوَّلِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ أَنَّهُمْ قَالُوا فِيهِ: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ [٢٣ ٢٥] وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْ رَسُولًا إِلَّا قَالَ قَوْمُهُ: إِنَّهُ سَاحِرٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، كَأَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فَتَوَاصَوْا عَلَى ذَلِكَ لِتَوَاطُؤِ أَقْوَالِهِمْ لِرُسُلِهِمْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [٥١ ٥٢ - ٥٣] فَبَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ التَّوَاصِي بِهِ ; لِاخْتِلَافِ أَزْمِنَتِهِمْ، وَأَمْكِنَتِهِمْ، وَلَكِنَّ الَّذِي جَمَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ هُوَ مُشَابَهَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الطُّغْيَانِ، وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ
340
الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [٢ ١١٨] فَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ تَشَابُهِ مَقَالَاتِهِمْ لِرُسُلِهِمْ، هُوَ تَشَابُهُ قُلُوبِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَكَرَاهِيَةِ الْحَقِّ وَقَوْلُهُ: وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [٢٣ ٧٠] ذَكَرَ نَحْوَ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ الْآيَةَ [٢٢ ٧٢] وَذَلِكَ الْمُنْكَرُ الَّذِي تَعْرِفُهُ فِي وُجُوهِهِمْ، إِنَّمَا هُوَ لِشِدَّةِ كَرَاهِيَتِهِمْ لِلْحَقِّ، وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِكَرَاهِيَتِهِمْ لِلْحَقِّ، أَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ سَمَاعِهِ، وَيَسْتَعْمِلُونَ الْوَسَائِلَ الَّتِي تَمْنَعُهُمْ مِنْ أَنْ يَسْمَعُوهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَوَّلِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ بِتَوْحِيدِهِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَهُوَ نُوحٌ: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [٧١ ٧] وَإِنَّمَا جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ خَوْفَ أَنْ يَسْمَعُوا مَا يَقُولُهُ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مِنَ الْحَقِّ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي أُمَّةِ آخِرِ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ الْآيَةَ [٤١ ٢٦] فَتَرَى بَعْضَهُمْ يَنْهَى بَعْضًا عَنْ سَمَاعِهِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِاللَّغْوِ فِيهِ، كَالصِّيَاحِ وَالتَّصْفِيقِ الْمَانِعِ مِنَ السَّمَاعِ لِكَرَاهَتِهِمْ لِلْحَقِّ، وَمُحَاوَلَتِهِمْ أَنْ يَغْلِبُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ سُؤَالُ مَعْرُوفٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ: وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [٢٣ ٧٠] يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ، أَنَّ قَلِيلًا مِنَ الْكُفَّارِ، لَيْسُوا كَارِهِينَ لِلْحَقِّ، وَهَذَا السُّؤَالُ وَارِدٌ أَيْضًا عَلَى آيَةِ الزُّخْرُفِ الَّتِي ذَكَرْنَا آنِفًا، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [٤٣ ٧٨].
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: هُوَ مَا أَجَابَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ قَلِيلًا مِنَ الْكُفَّارِ، كَانُوا لَا يَكْرَهُونَ الْحَقَّ، وَسَبَبُ امْتِنَاعِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ هُوَ كَرَاهِيَتُهُمْ لِلْحَقِّ، وَلَكِنَّ سَبَبَهُ الْأَنَفَةُ وَالِاسْتِنْكَافُ مِنْ تَوْبِيخِ قَوْمِهِمْ، وَأَنْ يَقُولُوا صَبَؤُوا وَفَارَقُوا دِينَ آبَائِهِمْ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَنْ وَقَعَ لَهُ هَذَا أَبُو طَالِبٍ فَإِنَّهُ لَا يَكْرَهُ الْحَقَّ، الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ كَانَ يَشُدُّ عَضُدَهُ فِي تَبْلِيغِهِ رِسَالَتَهُ كَمَا قَدَّمْنَا فِي شِعْرِهِ فِي قَوْلِهِ:
اصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ
الْأَبْيَاتِ وَقَالَ فِيهَا:
341
وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينًا
وَقَالَ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا:
لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبَ لَدَيْنَا وَلَا يَعْنِي بِقَوْلِ الْأَبَاطِلِ
وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو طَالِبٍ فِي شِعْرِهِ: أَنَّ السَّبَبَ الْمَانِعَ لَهُ مِنَ اعْتِنَاقِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ كَرَاهِيَةَ الْحَقِّ، وَلَكِنَّهُ الْأَنَفَةُ وَالْخَوْفُ مِنْ مَلَامَةِ قَوْمِهِ أَوْ سَبِّهِمْ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حَذَارِ مَسَبَّةٍ لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ يَقِينًا
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْحَقِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَقُّ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [٢٤ ٢٥] وَقَوْلُهُ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ [٢٢ ٦] وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِالْحَقِّ فِي الْآيَةِ: هُوَ اللَّهَ عَزَاهُ الْقُرْطُبِيُّ لِلْأَكْثَرِينَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى لَوْ أَجَابَهُمُ اللَّهُ إِلَى تَشْرِيعِ مَا أَحَبُّوا تَشْرِيعَهُ وَإِرْسَالِ مَنِ اقْتَرَحُوا إِرْسَالَهُ، بِأَنْ جَعَلَ أَمْرَ التَّشْرِيعِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَابِعًا لِأَهْوَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَمَنْ فِيهِنَّ ; لِأَنَّ أَهْوَاءَهُمُ الْفَاسِدَةَ وَشَهَوَاتِهِمُ الْبَاطِلَةَ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهَا السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَذَلِكَ لِفَسَادِ أَهْوَائِهِمْ، وَاخْتِلَافِهَا. فَالْأَهْوَاءُ الْفَاسِدَةُ الْمُخْتَلِفَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا نِظَامُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، بَلْ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُتَّبَعَةَ لَفَسَدَ الْجَمِيعُ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ أَهْوَاءَهُمْ لَا تَصْلُحُ ; لِأَنْ تَكُونَ مُتَّبَعَةً قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [٤٣ ٣١] ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَوْ أُنْزِلَ عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهُوَ كَافِرٌ يَعْبُدُ الْأَوْثَانَ فَلَا فَسَادَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ الْآيَةَ [٤٣ ٣٢]، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا [٧ ١٠٠] وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [٤ ٥٣] قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَفِي هَذَا كُلِّهِ تَبْيِينُ عَجْزِ الْعِبَادِ، وَاخْتِلَافُ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ
الْكَامِلُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِخَلْقِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ الْحَقَّ لَوِ اتَّبَعَ الْأَهْوَاءَ الْفَاسِدَةَ الْمُخْتَلِفَةَ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [٢١ ٢٢] فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ فِي الْآيَةِ: الْحَقُّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْبَاطِلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [٢٣ ٧٠] وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ اخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَنْكَرَ الْأَوَّلَ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ كَوْنَ الْحَقِّ مُتَّبِعًا لِأَهْوَائِهِمْ، الَّتِي هِيَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَادِّعَاءُ الْأَوْلَادِ، وَالْأَنْدَادِ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَفَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ ; لِأَنَّ هَذَا الْفَرْضَ يَصِيرُ بِهِ الْحَقُّ، هُوَ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ نِظَامُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى شَيْءٍ، هُوَ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ ; لِأَنَّ اسْتِقَامَةَ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِقُدْرَةِ وَإِرَادَةِ إِلَهٍ هُوَ الْحَقُّ مُنْفَرِدٌ بِالتَّشْرِيعِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الذِّكْرِ فِي الْآيَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ذِكْرُهُمْ: فَخْرُهُمْ، وَشَرَفُهُمْ ; لِأَنَّ نُزُولَ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فِيهِ لَهُمْ أَكْبَرُ الْفَخْرِ وَالشَّرَفِ، وَعَلَى هَذَا، فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [٤٣ ٤٤] عَلَى تَفْسِيرِ الذِّكْرِ بِالْفَخْرِ وَالشَّرَفِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الذِّكْرُ فِي الْآيَةِ: الْوَعْظُ وَالتَّوْصِيَةُ، وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [٣ ٥٨] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الذِّكْرُ هُوَ مَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ فِي قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [٣٧ ١٦٨ - ١٦٩] وَعَلَيْهِ، فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ [٣٥ ٤٢] وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ: فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا الْآيَةَ [٣٥ ٤٢] كَقَوْلِهِ هُنَا، فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ، وَكَقَوْلِهِ: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [٦ ١٥٧] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَخِيرِ كَثِيرَةٌ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
الْمُرَادُ بِالْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ هُنَا: الْأَجْرُ وَالْجَزَاءُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ لَا تَسْأَلُهُمْ عَلَى مَا بَلَّغْتَهُمْ مِنَ الرِّسَالَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أُجْرَةً وَلَا جُعْلًا، وَأَصْلُ الْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ: هُوَ مَا تُخْرِجُهُ إِلَى كُلِّ عَامِلٍ فِي مُقَابَلَةِ أَجْرِهِ، أَوْ جَعْلٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَا يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا، فِي مُقَابَلَةِ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ لَا يَأْخُذُونَ الْأُجْرَةَ عَلَى التَّبْلِيغِ فِي سُورَةِ هُودٍ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ الْآيَةَ [١١ ٢٩] وَبَيَّنَّا وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ، مَعَ آيَةِ: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [٤٢ ٢٣] وَبَيَّنَّا هُنَاكَ حُكْمَ أَخْذِ الْأُجْرَةِ، عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَرَأَ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ ابْنُ عَامِرٍ: خَرْجًا فَخَرْجُ رَبِّكَ، بِإِسْكَانِ الرَّاءِ فِيهِمَا مَعًا، وَحَذْفِ الْأَلِفِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: خَرَاجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ بِفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ فِيهِمَا مَعًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، وَحَذْفِ الْأَلِفِ فِي الْأَوَّلِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ وَإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الثَّانِي، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مَعْنَى الْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ وَقِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ بَيْنَ مَعْنَاهُمَا فَرْقًا زَاعِمًا أَنَّ الْخَرْجَ مَا تَبَرَّعْتَ بِهِ، وَالْخَرَاجُ: مَا لَزِمَكَ أَدَاؤُهُ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يُسَاعِدُ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [٢٣ ٧٢] نَظَرًا إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَخْلُوقِينَ يَرْزُقُ بَعْضَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ [٤ ٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ الْآيَةَ [٢ ٢٣٣]، وَلَا شَكَّ أَنَّ فَضْلَ رِزْقِ اللَّهِ خَلْقَهُ، عَلَى رِزْقِ بَعْضِ خَلْقِهِ بَعْضِهِمْ كَفَضْلِ ذَاتِهِ، وَسَائِرِ صِفَاتِهِ عَلَى ذَوَاتِ خَلْقِهِ، وَصِفَاتِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ، لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [٢٢ ٦٧] فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، نَاكِبُونَ عَنِ الصِّرَاطِ، وَالْمُرَادُ بِالصِّرَاطِ، الَّذِي هُمْ نَاكِبُونَ عَنْهُ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ
الْمُوَصِّلُ إِلَى الْجَنَّةِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [٢٣ ٧٣] وَمَنْ نَكَبَ عَنْ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، دَخَلَ النَّارَ بِلَا شَكٍّ.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [٣٠ ١٦] وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَنَاكِبُونَ: عَادِلُونَ عَنْهُ، حَائِدُونَ غَيْرُ سَالِكِينَ إِيَّاهُ وَهُوَ مَعْنًى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نُصَيْبٍ:
خَلِيلِيَّ مِنْ كَعْبٍ أَلَمًا هَدَيْتُمَا بِزَيْنَبَ لَا تَفْقِدْكُمَا أَبَدًا كَعْبُ
مِنَ الْيَوْمِ زُورَاهَا فَإِنَّ رِكَابَنَا غَدَاةَ غَدٍ عَنْهَا وَعَنْ أَهْلِهَا نَكْبُ
جَمْعُ نَاكِبَةٍ، عَنْهَا أَيْ: عَادِلَةٌ عَنْهَا مُتَبَاعِدَةٌ عَنْهَا، وَعَنْ أَهْلِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْمَعْدُومَ الَّذِينَ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ أَنْ لَوْ وُجِدَ، كَيْفَ يَكُونُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [٦ ٢٨] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [٢٣ ٧٥] اللَّجَاجُ هُنَا: التَّمَادِي فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَهُوَ كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ، وَادِّعَاؤُهُمْ لَهُ الْأَوْلَادَ وَالشُّرَكَاءَ، وَقَوْلُهُ: يَعْمَهُونَ: يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَيِّرِينَ لَا يُمَيِّزُونَ حَقًّا، مِنْ بَاطِلٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْعَمَهُ: عَمَى الْقَلْبِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَخَذَ الْكُفَّارَ بِالْعَذَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُنَا: الْعَذَابُ الدُّنْيَوِيُّ كَالْجُوعِ وَالْقَحْطِ وَالْمَصَائِبِ، وَالْأَمْرَاضِ وَالشَّدَائِدِ، فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ أَيْ: مَا خَضَعُوا لَهُ، وَلَا ذَلُّوا وَمَا يَتَضَرَّعُونَ أَيْ: مَا يَبْتَهِلُونَ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ مُتَضَرِّعِينَ لَهُ، لِيَكْشِفَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابَ لِشِدَّةِ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ، وَبُعْدِهِمْ مِنَ الِاتِّعَاظِ، وَلَوْ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِمَا يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ مِنْ إِصَابَةِ عَذَابِ اللَّهِ لَهُمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [٦ ٤٢ - ٤٣] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ
الْأَعْرَافِ: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [٧ ٩٤ - ٩٥] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ، قَدْ ذَكَرْنَا الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا إِيضَاحٌ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [١٦ ٧٨] وَبَيَّنَّا هُنَاكَ وَجْهَ إِفْرَادِ السَّمْعِ مَعَ الْجَمْعِ لِلْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، ذَرَأَكُمْ مَعْنَاهُ: خَلَقَكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الْآيَةَ [٧ ١٧٩] وَقَوْلُهُ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: خَلَقَكُمْ وَبَثَّكُمْ فِي الْأَرْضِ، عَنْ طَرِيقِ التَّنَاسُلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً الْآيَةَ [٤ ١] وَقَالَ: ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [٣٠ ٢٠] وَقَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أَيْ: إِلَيْهِ وَحْدَهُ، تُجْمَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْيَاءً بَعْدَ الْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، مِنْ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ، وَبَثَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، جَاءَ مَعْنَاهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [٢٣ ١٢ - ١٦] وَذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - أَيْضًا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٦٧ ٢٣ - ٢٥] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْإِمَاتَتَيْنِ وَالْإِحْيَاءَتَيْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الدَّوَاعِي لِلْإِيمَانِ بِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [٢٢ ٢٦] وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [٢ ٢٨]، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ لَهُ اخْتِلَافَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، يَعْنِي: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْفَاعِلُ لَهُ وَهُوَ الَّذِي يَذْهَبُ بِاللَّيْلِ، وَيَأْتِي بِالنَّهَارِ، ثُمَّ يَذْهَبُ بِالنَّهَارِ وَيَأْتِي بِاللَّيْلِ، وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مِنَنِهِ عَلَى خَلْقِهِ كَمَا بَيَّنَ الْأَمْرَيْنِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الْآيَةَ [٢٨ ٧١ - ٧٣]، أَيْ: لِتَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ وَتَطْلُبُوا مَعَايِشَكُمْ بِالنَّهَارِ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ الْآيَةَ [٤١ ٣٧] وَقَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ [٣٦ ٣٧] وَقَوْلِهِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ الْآيَةَ [٧ ٥٤] وَقَوْلِهِ: وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ [٣٦ ٤٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ الْآيَةَ [١٤ ٣٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [١٠ ٦] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَيْ: تُدْرِكُونَ بِعُقُولِكُمْ أَنَّ الَّذِي يُنْشِئُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُخَالِفُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنَّهُ الْإِلَهُ الْحَقُّ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا -، الَّذِي لَا يَصِحُّ أَنْ يُسَوَّى بِهِ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، لَفَظَةُ بَلْ هُنَا لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَتِ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ، مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ ; لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي قَوْلِهِ: أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ إِنْكَارٌ مِنْهُمْ لِلْبَعْثِ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى إِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [٣٦ ٧٨] وَكَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [٦ ٢٩]
وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [٤٤ ٣٥] وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ [٧٩ ١١ - ١٢]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ كَثِيرَةٌ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ الْآيَةَ [٢ ٢١]، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ، وَغَيْرِهِمَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَوْرَدْنَا مِنْهَا كَثِيرًا كَقَوْلِهِ: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [٣٦ ٧٩]، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [٣٠ ٢٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَاتِ [٢٢ ٥]، وَأَوْضَحْنَا أَرْبَعَةَ بَرَاهِينَ قُرْآنِيَّةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَكْثَرْنَا مِنْ ذِكْرِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنِ التَّطْوِيلِ هُنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَئِذَا مِتْنَا قَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ، بِالِاسْتِفْهَامِ فِي: أَئِذَا مِتْنَا، وَحَذَفَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ، فِي أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، بَلْ قَرَأَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ لِدَلَالَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ، عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الثَّانِي الْمَحْذُوفِ وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِالْعَكْسِ، فَحَذَفَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ، مِنْ أَئِذَا، وَقَرَأَ إِذَا بِدُونِ اسْتِفْهَامٍ، وَأَثْبَتَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ وَقَدْ دَلَّ الِاسْتِفْهَامُ الثَّانِي الْمُثْبَتُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ الْمَحْذُوفِ فِيهَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ بِالِاسْتِفْهَامِ فِيهِمَا مَعًا: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ وَهُمْ عَلَى أُصُولِهِمْ فِي الْهَمْزَتَيْنِ، فَنَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو يُسَهِّلُونَ الثَّانِيَةَ، وَالْبَاقُونَ يُحَقِّقُونَهَا، وَأَدْخَلَ قَالُونُ، وَأَبُو عَمْرٍو وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ أَلِفًا بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْقَصْرِ دُونَ الْأَلِفِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ: مِتْنَا بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَالْبَاقُونَ: بِضَمِّ الْمِيمِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْآيَةَ [١٩ ٢٣] وَجْهَ كَسْرِ الْمِيمِ فِي إِسْنَادِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مَاتَ إِلَى تَاءِ الْفَاعِلِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ، وَأَوْضَحْنَا وُجْهَةَ غَايَةٍ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ قَالُوا: إِنَّهُمْ وُعِدُوا بِالْبَعْثِ، وَوُعِدَ بِهِ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ أَجْدَادَهُمْ، الَّذِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ، وَأَخْبَرَتْهُمْ بِأَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْبَعْثَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ
هُمْ وَآبَاؤُهُمْ كَذِبٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَأَنَّهُ مَا هُوَ إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: مَا سَطَّرُوهُ وَكَتَبُوهُ مِنَ الْأَبَاطِيلِ وَالتُّرَّهَاتِ، وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ، وَقِيلَ: جَمْعُ أُسْطَارَةٍ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْهُمْ مِنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ ذُكِرَ مِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي قَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [٢٧ ٦٧ - ٦٨]، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى الْبَعْثِ، الَّذِي أَنْكَرُوهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [٢٣ ٨٤ - ٨٩] ; لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْأَرْضُ، وَمَنْ فِيهَا، وَمَنْ هُوَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَمَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، لَا شَكَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا أَوْضَحْنَا فِيمَا مَرَّ الْبَرَاهِينَ الْقُرْآنِيَّةَ الْقَطْعِيَّةَ، الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ، قَدَّمْنَا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ كَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَأَوْصَافِ رُبُوبِيَّتِهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَفْتَرُونَ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [١٠ ٣١] وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [١٧ ٩] وَأَوْضَحْنَا دَلَالَةَ تَوْحِيدِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، عَلَى تَوْحِيدِهِ فِي عِبَادَتِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ الْإِيضَاحِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ الْمَلَكُوتُ: فَعَلُوتُ مِنَ الْمُلْكِ أَيْ: مَنْ بِيَدِهِ مُلْكُ كُلِّ شَيْءٍ، بِمَعْنَى: مَنْ هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ كَائِنًا مَا كَانَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: زِيَادَةُ الْوَاوِ وَالتَّاءِ فِي نَحْوِ: الْمَلَكُوتِ، وَالرَّحَمُوتِ، وَالرَّهَبُوتِ بِمَعْنَى الْمُلْكِ وَالرَّحْمَةِ، وَالرَّهْبَةِ: تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، أَيْ: هُوَ يَمْنَعُ مَنْ
349
شَاءَ مِمَّنْ شَاءَ، وَلَا يَمْنَعُ أَحَدٌ مِنْهُ أَحَدًا شَاءَ أَنْ يُهْلِكَهُ أَوْ يُعَذِّبَهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ وَحْدَهُ، عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَرَاكَ طَفِقْتَ تَظْلِمُ مَنْ أَجَرْنَا وَظُلْمُ الْجَارِ إِذْلَالُ الْمُجِيرِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أَيْ: كَيْفَ تُخْدَعُونَ، وَتُصْرَفُونَ عَنْ تَوْحِيدِ رَبِّكُمْ، وَطَاعَتِهِ مَعَ ظُهُورِ بَرَاهِينِهِ الْقَاطِعَةِ وَأَدِلَّتِهِ السَّاطِعَةِ، وَقِيلَ: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ، أَيْ: كَيْفَ يُخَيَّلُ إِلَيْكُمْ: أَنْ تُشْرِكُوا بِهِ مَا لَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ السِّحْرَ هُوَ التَّخْيِيلُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى السِّحْرِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ طه فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [٢٠ ٦٩] وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى تُسْحَرُونَ هُنَا: تُخْدَعُونَ بِالشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ فَيَذْهَبُ بِعُقُولِكُمْ، عَنِ الْحَقِّ كَمَا يُفْعَلُ بِالْمَسْحُورِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ لِإِدْغَامِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الذَّالِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الْأَوَّلُ: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَهَذِهِ اتَّفَقَ جَمِيعُ السَّبْعَةِ عَلَى قِرَاءَتِهَا بِلَامِ الْجَرِّ الدَّاخِلَةِ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ ; لِأَنَّهَا جَوَابُ الْمَجْرُورِ بِلَامِ الْجَرِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا فَجَوَابُ لِمَنِ الْأَرْضُ، هُوَ أَنْ تَقُولَ: لِلَّهِ، وَأَمَّا الثَّانِي الَّذِي هُوَ: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. وَالثَّالِثُ: الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ فَقَدْ قَرَأَهُمَا أَبُو عَمْرٍو بِحَذْفِ لَامِ الْجَرِّ وَرَفْعِ الْهَاءِ مِنْ لَفْظِ الْجَلَالَةِ.
وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو الْمَذْكُورَةِ وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي جَوَابِ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أَنْ تَقُولَ: اللَّهُ بِالرَّفْعِ، أَيْ: رَبُّ مَا ذُكِرَ هُوَ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ جَوَابُ قَوْلِهِ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ. فَالظَّاهِرُ فِي جَوَابِهِ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ بِالرَّفْعِ، أَيْ: الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، فَقِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو جَارِيَةٌ عَلَى الظَّاهِرِ، الَّذِي لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَقَرَأَ الْحَرْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ غَيْرُهُ مِنَ السَّبْعَةِ، بِحَرْفِ الْجَرِّ وَخَفْضِ الْهَاءِ مِنْ لَفْظِ الْجَلَالَةِ كَالْأَوَّلِ.
وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي هِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ الْإِتْيَانِ بِلَامِ الْجَرِّ، مَعَ أَنَّ السُّؤَالَ لَا يَسْتَوْجِبُ الْجَوَابَ بِهَا ; لِأَنَّ قَوْلَ
350
مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ فِي جَوَابِهِ: رَبُّهُمَا اللَّهُ، وَإِذًا يُشْكِلُ وَجْهُ الْإِتْيَانِ بِلَامِ الْجَرِّ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مَعْرُوفٌ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ مَعْنًى: مَنْ هُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالْعَرْشِ، وَكُلِّ شَيْءٍ فَيُحْسِنُ الْجَوَابَ بِأَنْ يُقَالَ: لِلَّهِ، أَيْ: كُلُّ ذَلِكَ مِلْكٌ لِلَّهِ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا قِيلَ مَنْ رَبُّ الْمَزَالِفِ وَالْقُرَى وَرَبُّ الْجِيَادِ الْجُرْدِ قُلْتُ لِخَالِدِ
لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ رَبُّ الْمَزَالِفِ فِيهِ مَعْنَى مَنْ هُوَ مَالِكُهَا، فَحَسُنَ الْجَوَابُ بِاللَّامِ: أَيْ هِيَ لِخَالِدٍ، وَالْمَزَالِفُ: مَزْلَفَةٌ كَمَرْحَلَةٍ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: هِيَ كُلُّ قَرْيَةٍ تَكُونُ بَيْنَ الْبَرِّ وَالرِّيفِ، وَجَمْعُهَا مَزَالِفُ.
حب
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَ مَسَائِلَ:
الْأُولَى: أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى اسْتِحَالَةِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ بِقَوْلِهِ:
إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. أَمَّا ادِّعَاؤُهُمْ لَهُ الْأَوْلَادَ، فَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عِظَمِ فِرْيَتِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَظُهُورِ بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ، وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ في مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةً، فَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ، عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى الْآيَةَ [١٦ ٥٧ - ٥٨]، وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْهُ فِي أَوَّلِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [١٨ ٤]، وَفِي مَوَاضِعَ غَيْرِ مَا ذُكِرَ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَأَمَّا تَفَرُّدُهُ تَعَالَى بِالْأُلُوهِيَّةِ مَعَ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَذَكَرْنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [١٧ ٤٢] وَلَمْ نَتَعَرَّضْ لِمَا يُسَمِّيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ دَلِيلَ التَّمَانُعِ، لِكَثْرَةِ الْمُنَاقَشَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَإِنَّمَا بَيَّنَّا الْآيَاتِ بِالْقُرْآنِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ الْقُرْآنِيِّ بِهَا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، أَمَرَ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ أَنْ يَقُولَ: رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ، أَيْ: أَنْ تُرِنِي مَا تُوعِدُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، بِأَنْ تُنْزِلَهُ بِهِمْ، وَأَنَا حَاضِرٌ شَاهِدٌ أَرَى نُزُولَهُ بِهِمْ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، أَيْ: لَا تَجْعَلْنِي فِي جُمْلَةِ الْمُعَذَّبِينَ الظَّالِمِينَ، بَلْ أَخْرِجْنِي مِنْهُمْ، وَنَجِّنِي مِنْ عَذَابِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ بِهِمُ الْعَذَابُ، وَهُوَ فِيهِمْ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ الْآيَةَ [٨ ٣٣]، وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُرِهِ الْعَذَابَ، الَّذِي وَعَدَهُمْ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ [٢٣ ٩٥] وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ، أَنَّهُ إِنْ ذَهَبَ بِهِ قَبْلَ تَعْذِيبِهِمْ، فَإِنَّهُ مُعَذِّبٌ لَهُمْ وَمُنْتَقِمٌ مِنْهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ إِنْ عَذَّبَهُمْ، وَهُوَ حَاضِرٌ فَهُوَ مُقْتَدِرٌ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [٤٣ ٤١ - ٤٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ، هَذَا الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلَ بِهِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ بِإِيضَاحٍ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ الْآيَةَ [٧ ١٩٩ - ٢٠٠]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أَيْ: بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الْخِصَالِ، وَالسَّيِّئَةُ مَفْعُولُ ادْفَعْ وَوَزْنُ السَّيِّئَةِ، فَيْعَلَةٌ أَصْلُهَا: سَيُّوئَةٌ وَحُرُوفُهَا الْأَصْلِيَّةُ السِّينُ وَالْوَاوُ وَالْهَمْزَةُ، وَقَدْ زِيدَتِ الْيَاءُ السَّاكِنَةُ بَيْنَ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ، فَوَجَبَ إِبْدَالُ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ يَاءً وَإِدْغَامُ يَاءِ الْفَيْعَلَةِ الزَّائِدَةِ فِيهَا عَلَى الْقَاعِدَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ:
إِنْ يُسَكَّنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا وَاتَّصَلَا وَمِنْ عَرُوضٍ عُرِّيَا
فَيَاءُ الْوَاوِ اقْلِبَنَّ مُدْغَمًا وَشَذَّ مُعْطَى غَيْرَ مَا قَدْ رَسَمَا
كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا.
وَالسَّيِّئَةُ فِي اللُّغَةِ: الْخَصْلَةُ مِنْ خِصَالِ السُّوءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ، أَيْ: بِمَا تَصِفُهُ أَلْسِنَتُهُمْ مِنَ الْكَذِبِ فِي تَكْذِيبِهِمْ لَكَ، وَادِّعَائِهِمْ
الْأَوْلَادَ وَالشُّرَكَاءَ لِلَّهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَنَّ اللِّينَ وَالصَّفْحَ الْمَطْلُوبَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ بَعْدَ نُزُولِ الْقِتَالِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، دُونَ الْكَافِرِينَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [٥ ٥٤] وَبَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَصْحَابِهِ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [٤٨ ٢٩] وَقَوْلِهِ: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [١٥ ٨٨]، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [٩ ٧٣] إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ: جَمْعُ هَمْزَةٍ وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنْ فِعْلِ الْهَمْزِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: النَّخْسُ وَالدَّفْعُ، وَهَمَزَاتُ الشَّيَاطِينِ: نَخَسَاتُهُمْ لِبَنِي آدَمَ لِيَحُثُّوهُمْ، وَيَحُضُّوهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي، كَمَا أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [١٩ ٨٣] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ الْآيَةَ [٤٣ ٣٦ - ٣٧].
وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أَنَّ الْمَعْنَى: أَعُوذُ بِكَ أَنْ يَحْضُرَنِي الشَّيْطَانُ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِي كَائِنًا مَا كَانَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ وَقْتَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [١٦ ٩٨] أَوْ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الشُّؤُونِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا، الظَّاهِرُ عِنْدِي: أَنَّ «حَتَّى» فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هِيَ الَّتِي يُبْتَدَأُ بَعْدَهَا الْكَلَامُ، وَيُقَالُ لَهَا: حَرْفُ ابْتِدَاءٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، خِلَافًا لِلزَّمَخْشَرِيِّ الْقَائِلِ: إِنَّهَا غَايَةٌ لِقَوْلِهِ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [٢٣ ٩٦] وَلِأَبِي حَيَّانَ الْقَائِلِ: إِنَّ الظَّاهِرَ لَهُ أَنَّ قَبْلَهَا جُمْلَةً مَحْذُوفَةً هِيَ غَايَةٌ لَهُ يَدُلُّ عَلَيْهَا مَا قَبْلَهَا، وَقَدَّرَ الْجُمْلَةَ الْمَذْكُورَةَ بِقَوْلِهِ فَلَا أَكُونُ كَالْكُفَّارِ الَّذِينَ تَهْمِزُهُمُ الشَّيَاطِينُ وَيَحْضُرُونَهُمْ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. وَنَظِيرُ حَذْفِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ الْفَرَزْدَقُ:
فَوَاعَجَبًا حَتَّى كُلَيْبٌ تَسُبُّنِي كَأَنَّ أَبَاهَا نَهْشَلٌ أَوْ مُجَاشِعُ
قَالَ: الْمَعْنَى: يَسُبُّنِي النَّاسُ حَتَّى كُلَيْبٌ، فَدَلَّ مَا بَعْدَ حَتَّى عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ
353
وَفِي الْآيَةِ دَلَّ مَا قَبْلَهَا عَلَيْهَا، انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ، وَلَا يَظْهَرُ عِنْدِي كُلَّ الظُّهُورِ.
بَلِ الْأَظْهَرُ عِنْدِي: هُوَ مَا قَدَّمْتُهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّ الْكَافِرَ وَالْمُفَرِّطَ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمَا الْمَوْتُ طَلَبَا الرَّجْعَةَ إِلَى الْحَيَاةِ، لِيَعْمَلَا الْعَمَلَ الصَّالِحَ الَّذِي يُدْخِلُهُمَا الْجَنَّةَ، وَيَتَدَارَكَا بِهِ مَا سَلَفَ مِنْهُمَا مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّفْرِيطِ وَأَنَّهُمَا لَا يُجَابَانِ لِذَلِكَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ الَّذِي هُوَ «كَلَّا» جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا الْآيَةَ [٦٣ ١٠ - ١١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [١٤ ٤٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَكَمَا أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، لِيُصْلِحُوا أَعْمَالَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يُجَابُونَ إِلَى ذَلِكَ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [٧ ٥٣] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [٣٢ ١٢] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [٦ ٢٧ - ٢٨] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [٤٢ ٤٤] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [٤٠ ١١] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [٣٥ ٣٧] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ [٣٤ ٥١ - ٥٣]، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ: أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ فَلَا
354
يُجَابُونَ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ، وَيَوْمَ النُّشُورِ وَوَقْتَ عَرْضِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَوَقْتَ عَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: رَبِّ ارْجِعُونِ وَلَمْ يَقُلْ: رَبِّ ارْجِعْنِي بِالْإِفْرَادِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْجَوَابَ عَنْ هَذَا فِي كِتَابِنَا: «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ»، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ يُجَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَظْهَرُهَا: أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: ارْجِعُونِ، لِتَعْظِيمِ الْمُخَاطَبِ وَذَلِكَ النَّادِمُ السَّائِلُ الرَّجْعَةَ يُظْهِرُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَعْظِيمَهُ رَبَّهُ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ غَيْرِهِ:
أَلَا فَارْحَمُونِي يَا إِلَهَ مُحَمَّدٍ فَإِنْ لَمْ أَكُنْ أَهْلًا فَأَنْتَ لَهُ أَهْلُ
وَقَوْلُ الْآخَرِ يُخَاطِبُ امْرَأَةً:
وَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ وَإِنْ شِئْتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا
وَالنُّقَاخُ: الْمَاءُ الْبَارِدُ. وَالْبَرْدُ: النَّوْمُ، وَقِيلَ: ضِدُّ الْحَرِّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: رَبِّ اسْتِغَاثَةٌ بِهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: ارْجِعُونِ: خِطَابٌ لِلْمَلَائِكَةِ، وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْوَجْهِ بِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ: «إِذَا عَايَنَ الْمُؤْمِنُ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا نُرْجِعُكَ إِلَى دَارِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: إِلَى دَارِ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، فَيَقُولُ: بَلْ قَدِّمُونِي إِلَى اللَّهِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَقُولُونَ لَهُ: نُرْجِعُكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ ارْجِعُونِ».
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمَازِنِيِّ: إِنَّهُ جَمَعَ الضَّمِيرَ لِيَدُلَّ عَلَى التَّكْرَارِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: رَبِّ ارْجِعْنِي ارْجِعْنِي ارْجِعْنِي، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا الْقَوْلِ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا الظَّاهِرُ أَنَّ لَعَلَّ فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ، أَيِ: ارْجِعُونِ ; لِأَجْلِ أَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا، وَقِيلَ: هِيَ لِلتَّرَجِّي وَالتَّوَقُّعِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ جَازِمٍ، بِأَنَّهُ إِذَا رُدَّ لِلدُّنْيَا عَمِلَ صَالِحًا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَالْحَجِّ الَّذِي كَانَ قَدْ فَرَّطَ فِيهِ وَالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَاةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ كَلَّا: كَلِمَةُ زَجْرٍ: وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ الَّتِي طَلَبَهَا لَا يُعْطَاهَا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.
355
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، سُؤَالَانِ مَعْرُوفَانِ يَحْتَاجَانِ إِلَى جَوَابٍ مُبَيِّنٍ لِلْمَقْصُودِ مُزِيلٍ لِلْإِشْكَالِ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ - وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ - أَنَّهُمْ لَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، فَيُقَالُ: مَا وَجْهُ نَفْيِ الْأَنْسَابِ بَيْنَهُمْ، مَعَ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [٨٠ ٣٣ - ٣٦] فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُبُوتُ الْأَنْسَابِ بَيْنَهُمْ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: وَلَا يَتَسَاءَلُونَ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يَتَسَاءَلُونَ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الطُّورِ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [٥٢ ٢٥] وَقَوْلِهِ فِي الصَّافَّاتِ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [٣٧ ٢٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْجَوَابَ عَنْ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ فِي كِتَابِنَا: «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» بِمَا حَاصِلُهُ:
إِنَّ الْجَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْأَنْسَابِ انْقِطَاعُ آثَارِهَا، الَّتِي كَانَتْ مُتَرَتِّبَةً عَلَيْهَا فِي دَارِ الدُّنْيَا، مِنَ التَّفَاخُرِ بِالْآبَاءِ، وَالنَّفْعِ وَالْعَوَاطِفِ وَالصِّلَاتِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَكُونُ الْإِنْسَانُ لَا يُهِمُّهُ إِلَّا نَفْسُهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ حَقِيقَةِ الْأَنْسَابِ، مِنْ أَصْلِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ الْآيَةَ [٨٠ ٣٤ - ٣٥].
وَإِنَّ الْجَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ نَفْيَ السُّؤَالِ بَعْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى، وَقَبْلَ الثَّانِيَةِ، وَإِثْبَاتَهُ بَعْدَهُمَا مَعًا، وَهَذَا الْجَوَابُ فِيمَا يَظْهَرُ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ.
الثَّانِي: أَنَّ نَفْيَ السُّؤَالِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِمْ بِالصَّعْقِ وَالْمُحَاسَبَةِ، وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ وَإِثْبَاتَهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ وَهُوَ عَنِ السُّدِّيِّ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ السُّؤَالَ الْمَنْفِيَّ سُؤَالٌ خَاصٌّ، وَهُوَ سُؤَالُ بَعْضِهِمُ الْعَفْوَ مِنْ بَعْضٍ، فِيمَا
بَيْنَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، لِقُنُوطِهِمْ مِنَ الْإِعْطَاءِ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْؤُولُ أَبًا أَوِ ابْنًا أَوْ أُمًّا أَوْ زَوْجَةً، ذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ صَاحِبُ الْإِتْقَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ، لِمَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ الْآيَةَ [٧ ٨ - ٩]، وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [١٨ ١٠٥] وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ، مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ، أَيْ: تَحْرِقُهَا إِحْرَاقًا شَدِيدًا، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ الْآيَةَ [٣٣ ٦٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [٢٧ ٩٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ الْآيَةَ [٢١ ٣٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ الْآيَةَ [١٤ ٥٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [٣٩ ٢٤] وَقَوْلِهِ: يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ الْآيَةَ [١٨ ٢٩]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلِهِ: وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [٢٣ ١٠٤] الْكَالِحُ: هُوَ الَّذِي تَقَلَّصَتْ شَفَتَاهُ حَتَّى بَدَتْ أَسْنَانُهُ، وَالنَّارُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَحْرِقُ شِفَاهَهُمْ، حَتَّى تَتَقَلَّصَ عَنْ أَسْنَانِهِمْ، كَمَا يُشَاهَدُ مَثَلُهُ فِي رَأْسِ الشَّاةِ الْمَشْوِيِّ فِي نَارٍ شَدِيدَةِ الْحَرِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
وَلَهُ الْمُقَدَّمُ لَا مَثَلَ لَهُ سَاعَةَ الشِّدْقِ عَنِ النَّابِ كَلِحُ
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَالِحُونَ: عَابِسُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ
357
مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يُسْأَلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ، أَيْ: فِي دَارِ الدُّنْيَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ، وَأَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُجِيبُوا الرُّسُلَ لِمَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِهِمُ الشَّقَاءَ وَهُمْ مُيَسَّرُونَ لِمَا خُلِقُوا لَهُ، فَلِذَلِكَ كَفَرُوا، وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ.
قَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [١٧ ١٥] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَوْلِهِ هُنَا: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا أَنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْهُمْ، وَأَنْذَرَتْهُمْ وَتَلَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ، وَلَكِنْ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ شَقَاوَتِهِمُ الْأَزَلِيَّةِ، غَلَبَ عَلَيْهِمْ، فَكَذَّبُوا الرُّسُلَ، لِيَصِيرُوا إِلَى مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ - جَلَّ وَعَلَا -، مِنْ شَقَاوَتِهِمْ، وَنَظِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [١٠ ٩٦ - ٩٧] وَقَوْلُهُ عَنْ أَهْلِ النَّارِ قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [٣٩ ٧١] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيْضَاحًا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [٦٤ ٢] وَقَوْلُهُ: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [١١ ١١٨ - ١١٩] عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ، اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِضَلَالِهِمْ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُ الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ وَلَا النَّدَمُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [٦٧ ١١] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَهَذَا الَّذِي فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَةَ، هُوَ الْأَظْهَرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي مَعْنَاهُ: غَلَبَتْ عَلَيْنَا لَذَّاتُنَا وَأَهْوَاؤُنَا، فَسَمَّى اللَّذَّاتِ وَالْأَهْوَاءَ شِقْوَةً ; لِأَنَّهُمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَيْهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [٤ ١٠] ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّيهِمْ إِلَى النَّارِ. اهـ، تَكَلُّفٌ مُخَالِفٌ لِلتَّحْقِيقِ.
ثُمَّ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ بِقِيلٍ ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ حُسْنُ الظَّنِّ بِالنَّفْسِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِالْخُلُقِ اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ مَا ذَكَرْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ هُنَا: قَوْمًا ضَالِّينَ
358
أَيْ: عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ، وَعَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ إِلَى طَرِيقِ النَّارِ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ: حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: شَقَاوَتُنَا بِفَتْحِ الشِّينِ، وَالْقَافِ وَأَلِفٌ بَعْدَهَا، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: بِكَسْرِ الشِّينِ، وَإِسْكَانِ الْقَافِ وَحَذْفِ الْأَلِفِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فِيهَا فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا إِلَى مَا لَا يُرْضِيكَ بَعْدَ إِخْرَاجِنَا مِنْهَا، فَإِنَّا ظَالِمُونَ، وَأَنَّ اللَّهَ يُجِيبُهُمْ بِقَوْلِهِ: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ، أَيِ: امْكُثُوا فِيهَا خَاسِئِينَ، أَيْ: أَذِلَّاءَ صَاغِرَيْنِ حَقِيرِينَ ; لِأَنَّ لَفْظَةَ اخْسَأْ إِنَّمَا تُقَالُ لِلْحَقِيرِ الذَّلِيلِ، كَالْكَلْبِ وَنَحْوِهِ، فَقَوْلُهُ: اخْسَئُوا فِيهَا، أَيْ: ذِلُّوا فِيهَا مَاكِثِينَ فِي الصَّغَارِ وَالْهَوَانِ.
وَهَذَا الْخُرُوجُ مِنَ النَّارِ الَّذِي طَلَبُوهُ قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَنَالُونَهُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [٥ ٣٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [٢ ١٦٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا الْآيَةَ [٢٢ ٢٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [٣٢ ٢٠] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَجْوِبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِطَلَبِ أَهْلِ النَّارِ فَهُنَا قَالُوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَأُجِيبُوا اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ وَفِي السَّجْدَةِ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا [٣٢ ١٢] فَأُجِيبُوا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ الْآيَةَ [٣٢ ١٣]، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [٤٠ ١١] فَأُجِيبُوا ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [٤٠ ١٢] وَفِي الزُّخْرُفِ وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [٤٣ ٧٧] فَأُجِيبُوا إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [٤٣ ٧٧] وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [١٤ ٤٤] فَيُجَابُونَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [١٤ ٤٤] وَفِي سُورَةِ فَاطِرٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [٣٥ ٣٧] فَيُجَابُونَ
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [٥٣ ٣٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ بَيْنَ كُلِّ طَلَبٍ مِنْهَا وَجَوَابِهِ أَلْفَ سَنَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَا تُكَلِّمُونِ أَيْ: فِي رَفْعِ الْعَذَابِ عَنْكُمْ، وَلَا إِخْرَاجِكُمْ مِنَ النَّارِ أَعَاذَنَا اللَّهُ، وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ. قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ، أَنَّ إِنَّ الْمَكْسُورَةَ الْمُشَدَّدَةَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، كَقَوْلِكَ: عَاقِبْهُ إِنَّهُ مُسِئٌ، أَيْ: لِأَجْلِ إِسَاءَتِهِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي، يَدُلُّ فِيهِ لَفْظُ إِنَّ الْمَكْسُورَةِ الْمُشَدَّدَةِ، عَلَى أَنَّ الْأَسْبَابَ الَّتِي أَدْخَلَتْهُمُ النَّارَ هُوَ اسْتِهْزَاؤُهُمْ، وَسُخْرِيَتُهُمْ مِنَ الْفَرِيقِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقُولُ: رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ، فَالْكُفَّارُ يَسْخَرُونَ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْسِيَهُمْ ذَلِكَ ذِكْرَ اللَّهِ، وَالْإِيمَانَ بِهِ فَيَدْخُلُونَ بِذَلِكَ النَّارَ.
وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ أَشَارَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [٨٣ ٢٩ - ٣٠] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا الْآيَةَ [٦ ٥٣] وَكُلُّ ذَلِكَ احْتِقَارٌ مِنْهُمْ لَهُمْ، وَإِنْكَارُهُمْ أَنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِخَيْرٍ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ الْآيَةَ [٧ ٤٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [٤٦ ١١] وَكُلُّ ذَلِكَ احْتِقَارٌ مِنْهُمْ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [٢٣ ١١٠] وَالسُّخْرِيُّ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ: مَصْدَرُ سَخِرَ مِنْهُ، إِذَا اسْتَهْزَأَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِقَارِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي يَاءِ النَّسَبِ: زِيَادَةٌ فِي الْفِعْلِ، كَمَا قِيلَ فِي الْخُصُوصِيَّةِ بِمَعْنَى الْخُصُوصِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْيَاءَ الْمُشَدَّدَةَ فِي آخِرِهِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ سُخْرِهِمْ مِنْهُمْ وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: سُخْرِيًّا بِضَمِّ السِّينِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ سُخْرِيَةُ الْكُفَّارِ وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا بَيَّنَّا، وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ: الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ، وَهُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ: أَنَّ السِّخْرِيَّ بِكَسْرِ السِّينِ مِنْ قَبِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَأَنَّ السُّخْرِيَّ بِضَمِّ السِّينِ مِنَ التَّسْخِيرِ، الَّذِي هُوَ التَّذْلِيلُ وَالْعُبُودِيَّةُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكُفَّارَ يُسَخِّرُونَ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَسْتَعْبِدُونَهُمْ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ بِبِلَالٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ مَا ذَكَرْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحَتَّى فِي قَوْلِهِ: حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي حَرْفُ غَايَةٍ ; لِاتِّخَاذِهِمْ إِيَّاهُمْ سِخْرِيًّا، أَيْ: لَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ، حَتَّى أَنْسَاهُمْ ذَلِكَ ذِكْرَ اللَّهِ وَالْإِيمَانَ بِهِ، فَكَانَ مَأْوَاهُمُ النَّارَ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ جَزَى أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي الدُّنْيَا بِالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَوْلُهُ: بِمَا صَبَرُوا، أَيْ: بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، عَلَى أَذَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ سِخْرِيًّا، وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ كَانَ الْكُفَّارُ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ، جَزَاهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْفَوْزَ بِجَنَّتِهِ، وَرِضْوَانَهُ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مَعَ بَيَانِ أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَهْزَؤُونَ بِالْكُفَّارِ، وَيَضْحَكُونَ مِنْهُمْ، وَالْكُفَّارُ فِي النَّارِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [٨٣ ٣٤ - ٣٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [٧ ٤٩] وَقَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [٢ ٢١٢] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: إِنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّ، وَعَلَى قِرَاءَتِهِمَا فَمَفْعُولُ جَزَيْتُهُمْ: مَحْذُوفٌ، أَيْ: جَزَيْتُهُمْ جَنَّتِي إِنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّ لِاسْتِئْنَافِ الْكَلَامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ، بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هَذِهِ فَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ، مِنْ أَنَّ وَصِلَتِهَا مَفْعُولٌ بِهِ لِجَزَيْتُهُمْ، أَيْ: جَزَيْتُهُمْ فَوْزَهُمْ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْفَوْزُ نَيْلُ الْمَطْلُوبِ الْأَعْظَمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ: وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا سُئِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ قَدْرِ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا أَجَابُوا بِأَنَّهُمْ لَبِثُوا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى أَنَّهُمْ أَجَابُوا بِغَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا [٢٠ ١٠٣] وَالْعَشْرُ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [٣٠ ٥٥]
وَالسَّاعَةُ: أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ، وَقَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [٧٩ ٤٦] وَقَوْلِهِ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [١٠ ٤٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ [٤٦ ٣٥].
وَقَدْ بَيَّنَّا الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي كِتَابِنَا: دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وَيَقُولُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْهُمْ: لَبِثْنَا سَاعَةً وَيَقُولُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْهُمْ: لَبِثْنَا عَشْرًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ أَقْوَاهُمْ إِدْرَاكًا، وَأَرْجَحَهُمْ عَقْلًا، وَأَمْثَلَهُمْ طَرِيقَةً هُوَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ مَا لَبِثُوا إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [٢٠ ١٠٣ - ١٠٤] فَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي اخْتِلَافِ أَقْوَالِهِمْ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا إِشْكَالَ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ، أَيِ: الْحَاسِبِينَ، الَّذِينَ يَضْبُطُونَ مُدَّةَ لُبْثِنَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى السِّينِ، وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَالْبَاقُونَ: فَاسْأَلْ بِغَيْرِ نَقْلٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: قُلْ كَمْ لَبِثْتُمْ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ بِفَتْحِ الْقَافِ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَفَتْحِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ قَالَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ، أَوْ إِلَى مَنْ أُمِرَ بِسُؤَالِهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ قُلْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَلَكِ الْمَأْمُورِ بِسُؤَالِهِمْ أَوْ بَعْضِ رُؤَسَاءِ أَهْلِ النَّارِ هَكَذَا قَالَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَدْ صَدَّقَهُمُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي قِلَّةِ لَبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [٢٣ ١١٤].
لِأَنَّ مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَلِيلَةٌ جِدًّا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى طُولِ مُدَّتِهِمْ خَالِدِينَ فِي النَّارِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: قُلْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَالْبَاقُونَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ لِلْإِنْكَارِ، وَالْحُسْبَانُ هُنَا مَعْنَاهُ: الظَّنُّ، يَعْنِي: أَظْنَنْتُمْ أَنَّا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا لَا لِحِكْمَةٍ، وَأَنَّكُمْ لَا تُرْجَعُونَ إِلَيْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنُجَازِيكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، ثُمَّ نَزَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - نَفْسَهُ، عَنْ أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُمْ عَبَثًا، وَأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ.
وَقَوْلُهُ: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أَيْ تَعَاظَمَ وَتَقَدَّسَ، وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَمِنْهُ خَلْقُكُمْ عَبَثًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ إِنْكَارِ الظَّنِّ الْمَذْكُورِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [٣٨ ٢٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [٤٤ ٣٨ - ٣٩] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [٧٥ ٣٦ - ٣٩] وَقَوْلُهُ: سُدًى، أَيْ: مُهْمَلًا لَا يُحَاسَبُ وَلَا يُجَازَى، وَهُوَ مَحَلُّ إِنْكَارِ ظَنِّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى وَقَوْلُهُ: عَبَثًا: يَجُوزُ إِعْرَابُهُ حَالًا، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مُنْكَرٌ، أَيْ: إِنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ فِي حَالِ كَوْنِنَا عَابِثِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ: إِنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ ; لِأَجْلِ الْعَبَثِ لَا لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ خَلْقَنَا إِيَّاكُمْ، وَأَعْرَبَهُ بَعْضُهُمْ مَفْعُولًا مُطْلَقًا، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَبَثًا: أَيْ مُهْمَلِينَ، وَالْعَبَثُ فِي اللُّغَةِ: اللَّعِبُ، وَيَدُلُّ عَلَى تَفْسِيرِهِ فِي الْآيَةِ بِاللَّعِبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ [٤٤ ٣٨] وَقَوْلُهُ: الْمَلِكُ الْحَقُّ [٢٣ ١٦١]، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَيِ: الَّذِي يَحِقُّ لَهُ الْمُلْكُ ; لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَلِكُ الْحَقُّ: الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَزُولُ مُلْكُهُ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا [١٦ ٥٢] وَإِنَّمَا وُصِفَ عَرْشُهُ بِالْكَرَمِ لِعَظَمَتِهِ وَكِبَرِ شَأْنِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: عَبَثًا ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ مِنْهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ.
الْبُرْهَانُ: الدَّلِيلُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ فِي الْحَقِّ لَبْسًا، وَقَوْلُهُ: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ كَقَوْلِهِ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا الْآيَةَ [٢٢ ٧١]، وَالسُّلْطَانُ: هُوَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ وَهُوَ بِمَعْنَى: الْبُرْهَانُ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ حِسَابَهُ الَّذِي عِنْدَ رَبِّهِ، لَا فَلَاحَ لَهُ فِيهِ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وَأَعْظَمُ الْكَافِرِينَ كُفْرًا هُوَ مَنْ يَدْعُو مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ، وَنَفْيُ الْفَلَاحِ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى هَلَاكِهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ حَذَّرَ اللَّهُ مِنْ دُعَاءِ إِلَهٍ مَعَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [٥١ ٥١] وَقَوْلِهِ: وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [٢٨ ٨٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [١٧ ٢٢] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ، فَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا مَنْ عَبَدَ مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ لَهُ بُرْهَانٌ بِهِ فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ ; لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ بُرْهَانٍ عَلَى عِبَادَةِ إِلَهٍ آخَرَ مَعَهُ، بَلِ الْبَرَاهِينُ الْقَطْعِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ، دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا - وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ دَلِيلٌ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْأُصُولِ أَنَّ مِنْ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، كَوْنَ تَخْصِيصِ الْوَصْفِ بِالذِّكْرِ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ فَيَرِدُ النَّصُّ ذَاكِرًا لِوَصْفِ الْمُوَافِقِ لِلْوَاقِعِ لِيُطَبَّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، فَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ إِذًا لَيْسَ لِإِخْرَاجِ الْمَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ، بَلْ لِتَخْصِيصِ الْوَصْفِ بِالذِّكْرِ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ وَصْفٌ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ ; لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ بِلَا بُرْهَانٍ، فَذَكَرَ الْوَصْفَ لِمُوَافَقَتِهِ الْوَاقِعَ، لَا لِإِخْرَاجِ الْمَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [٣ ٢٨] ; لِأَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ وَالُوا الْيَهُودَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَوْلُهُ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ذِكْرٌ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ لَا لِإِخْرَاجِ الْمَفْهُومِ، عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّخَاذَ
الْمُؤْمِنِينَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ، مَمْنُوعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي ذِكْرِهِ مَوَانِعَ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ بِقَوْلِهِ:
أَوِ امْتِنَانٌ أَوْ وِفَاقُ الْوَاقِعِ وَالْجَهْلُ وَالتَّأْكِيدُ عِنْدَ السَّامِعِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فِيهِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَرِيقَ، الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: (رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ). مُوَفَّقُونَ فِي دُعَائِهِمْ ذَلِكَ وَلِذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَأَمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ فِي ذَلِكَ، وَمَعْمُولُ اغْفِرْ وَارْحَمْ حُذِفَ هُنَا، لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا [٧ ١٥٥] وَالْمَغْفِرَةُ: سَتْرُ الذُّنُوبِ بِعَفْوِ اللَّهِ وَحِلْمِهِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ لَهَا أَثَرٌ يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُهَا، وَالرَّحْمَةُ صِفَةُ اللَّهِ الَّتِي اشْتَقَّ لِنَفْسِهِ مِنْهَا اسْمَهُ الرَّحْمَنَ، وَاسْمَهُ الرَّحِيمَ، وَهِيَ صِفَةٌ تَظْهَرُ آثَارُهَا فِي خَلْقِهِ الَّذِينَ يَرْحَمُهُمْ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ; لِأَنَّ الْمَخْلُوقِينَ قَدْ يَرْحَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تُخَالِفُ رَحْمَةَ خَلْقِهِ، كَمُخَالَفَةِ ذَاتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ لِذَوَاتِهِمْ، وَصِفَاتِهِمْ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [٧ ٥٤] وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
Icon