تفسير سورة الفرقان

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سميت هذه السورة سورة الفرقان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبمسمع منه. ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلبيته بردائه فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها.. الحديث.
ولا يعرف لهذه السورة اسم غير هذا. والمؤدبون من أهل تونس يسمونها ﴿ تبارك الفرقان ﴾ كما يسمون ﴿ سورة الملك ﴾ تبارك، وتبارك الملك.
ووجه تسميتها ﴿ سورة الفرقان ﴾ لوقوع لفظ الفرقان فيها. ثلاث مرات في أولها ووسطها وآخرها.
وهي مكية عند الجمهور. وروي عن ابن عباس أنه استثنى منها ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى ﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ﴾ إلى قوله ﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾. والصحيح عنه أن هذه الآيات الثلاث مكية كما في صحيح البخاري في تفسير الفرقان :﴿ عن القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جيبر : هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ فقرأت عليه { ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ﴾. فقال سعيد : قرأتها على ابن عباس كما قرأتها علي؟ فقال : هذه مكية نسختها آية مدنية التي في سورة النساء. يريد قوله تعالى ﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا ﴾ الآية }. وعن الضحاك : أنها مدنية إلا الآيات الثلاث من أولها إلى قوله ﴿ ولا نشورا ﴾.
وأسلوب السورة وأغراضها شاهدة بأنها مكية.
وهي السورة الثانية والأربعون في ترتيب النزول، نزلت بعد سورة يس وقبل سورة فاطر، وعدد آياتها سبع وسبعون باتفاق أهل العدد.
أغراض هذه السورة
واشتملت هذه السورة على الابتداء بتحميد الله تعالى وإنشاء الثناء عليه، ووصفه بصفات الإلهية والوحدانية فيها.
وأدمج في ذلك التنويه بالقرآن، وجلال منزله، وما فيه من الهدى، وتعريض بالامتنان على الناس بهديه وإرشاده إلى اتقاء المهالك، والتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأقيمت هذه السورة على ثلاث دعائم : الأولى : إثبات القرآن منزل من عند الله، والتنويه بالرسول المنزل عليه صلى الله عليه وسلم، ودلائل صدقه، ورفعة شأنه عن أن تكون له حظوظ الدنيا، وأنه على طريقة غيره من الرسل، ومن ذلك تلقى قومه دعوته بالتكذيب.
الدعامة الثانية : إثبات البعث والجزاء، والإنذار بالجزاء في الآخرة، والتبشير بالثواب فيها للصالحين، وإنذار المشركين بسوء حظهم يومئذ، وتكون لهم الندامة على تكذيبهم الرسول وعلى إشراكهم واتباع أئمة كفرهم.
الدعامة الثالثة : الاستدلال على وحدانية الله، وتفرده بالخلق، وتنزيهه عن أن يكون له ولد أو شريك، وإبطال إلهية الأصنام، وإبطال ما زعموه من بنوة الملائكة لله تعالى.
وافتتحت في آيات كل دعامة من هذه الثلاث بجملة ﴿ تبارك الذي ﴾ الخ.
قال الطيبي : مدار هذه السورة على كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الناس كافة ينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم ولهذا جعل براعة استهلالها ﴿ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ﴾ وذكر بدائع من صنعه تعالى جميعا بين الاستدلال والتذكير.
وأعقب ذلك بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوته ومقاومته الكافرين.
وضرب الأمثال للحالين ببعثة الرسل السابقين وما لقوا من أقوامهم مثل قوم موسى وقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط.
والتوكل على الله، والثناء على المؤمنين به، ومدح خصالهم ومزايا أخلاقهم، والإشارة إلى عذاب قريب يحل بالمكذبين.

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفرْقَان: ١].
وَذَكَرَ بَدَائِعَ مِنْ صُنْعِهِ تَعَالَى جَمْعًا بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّذْكِيرِ.
وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَعْوَتِهِ وَمُقَاوَمَتِهِ الْكَافِرِينَ.
وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ لِلْحَالَيْنِ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ وَمَا لَقَوْا مِنْ أَقْوَامِهِمْ مِثْلَ قَوْمِ مُوسَى وَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ وَقَوْمِ لُوطٍ.
وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ، وَالثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَمَدْحُ خِصَالِهِمْ وَمَزَايَا أَخْلَاقِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى عَذَابٍ قَرِيبٍ يحل بالمكذبين.
[١]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١)
افْتِتَاحٌ بَدِيعٌ لِنُدْرَةِ أَمْثَالِهِ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ لِأَنَّ غَالِبَ فَوَاتِحِهِمْ أَنْ تَكُونَ بِالْأَسْمَاءِ مُجَرَّدَةً أَوْ مُقْتَرِنَةً بِحَرْفٍ غَيْرِ مُنْفَصِلٍ، مِثْلَ قَوْلِ طَرَفَةَ:
لِخَوْلَةَ أَطْلَالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ أَوْ بِأَفْعَالِ الْمُضَارَعَةِ وَنَحْوِهَا كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
قِفَا نَبْكِ الْبَيْتَ أَوْ بِحُرُوفِ التَّأْكِيدِ أَوْ الِاسْتِفْهَامِ أَوِ التَّنْبِيهِ مِثْلَ (إِنَّ) وَ (قَدْ) وَالْهَمْزَةُ وَ (هَلْ).
وَمِنْ قَبِيلِ هَذَا الِافْتِتَاحِ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ:
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ وَقَوْلُ النَّابِغَةِ:
كَتَمْتُكَ لَيْلًا بِالْجَمُومَيْنِ سَاهِرًا وَهَمَّيْنِ هَمًّا مُسْتَكِنًّا وَظَاهِرَا
وَبِهَذِهِ النُّدْرَةِ يَكُونُ فِي طَالِعِ هَذِهِ السُّورَةِ بَرَاعَةُ الْمَطْلَعِ لِأَنَّ النُّدْرَةَ مِنَِِ
315
الْعِزَّةِ، وَالْعِزَّةُ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَلْفَاظِ وَضِدُّهَا الِابْتِذَالُ.
وَتَبَارَكَ: تَعَاظَمَ خَيْرُهُ وَتَوَفَّرَ، وَالْمُرَادُ بِخَيْرِهِ كَمَالَاتُهُ وَتَنَزُّهَاتُهُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤].
وَالْبَرَكَةُ: الْخَيْرُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٤٨] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً فِي سُورَةِ النُّورِ [٦١].
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ عَظَمَةِ اللَّهِ وَتَوَفُّرِ كَمَالَاتِهِ فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّعْلِيمُ وَالْإِيقَاظُ، وَيَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ إِنْشَاءِ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْشَأَ اللَّهُ بِهِ ثَنَاءً عَلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاء: ١] عَلَى طَرِيقَةِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ فِي إِنْشَاءِ التَّعَجُّبِ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَكَلِّمِ فِي مَقَامِ الْفَخْرِ وَالْعَظَمَةِ، أَو إِظْهَار غرايب صَدَرَتْ، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي فِيَا عَجَبًا مِنْ كَوْرِهَا الْمُتَحَمِّلِ
وَإِنَّمَا يَتَعَجَّبُ مِنْ إِقْدَامِهِ عَلَى أَنْ جَعَلَ كَوْرَ الْمَطِيَّةِ يَحْمِلُهُ هُوَ بَعْدَ عَقْرِهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ الْفِنْدِ الزِّمَّانِيِّ:
أَيَا طَعْنَةَ مَا شَيْخٍ كَبِيرٍ يَفَنٍ بَالِي
يُرِيدُ طَعْنَةً طَعَنَهَا قِرْنَهُ.
وَالَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الصِّلَةُ مِنْ خَصَائِصِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ الْفِعْلُ كَالْمُسْنَدِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: تَبَارَكت.
والموصول يومىء إِلَى عِلَّةِ مَا قَبْلَهُ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْفُرْقَانِ وَبَرَكَتِهِ عَلَى النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. فَتِلْكَ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ تُوجِبُ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ. وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَام.
وَالتَّعْرِيفُ بِالْمَوْصُولِ هُنَا لِكَوْنِ الصِّلَةِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ يُنْكِرُونَهَا لَكِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ الرَّسُولَ أَعْلَنَهَا فَاللَّهُ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَعْرِفَةً بِالْوَجْهِ لَا بِالْكُنْهِ الَّذِي يُنْكِرُونَهُ.
316
وَالْفُرْقَانُ: الْقُرْآنُ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ فَرَّقَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ [الْأَنْفَال: ٤١] وَقَوْلِهِ: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الْأَنْفَال: ٢٩]. وَجُعِلَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ لِمَا بَيَّنَ مَنْ دَلَائِلِ الْحَقِّ وَدَحْضِ الْبَاطِلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٤].
وَإِيثَارُ اسْمِ الْفُرْقَانِ بِالذِّكْرِ هُنَا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ مَا سَيُذْكَرُ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ دَلَائِلُ قَيِّمَةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
وَوَصْفُ النَّبِيءِ بِ عَبْدِهِ تَقْرِيبٌ لَهُ وَتَمْهِيدٌ لِإِبْطَالِ طَلَبِهِمْ مِنْهُ فِي قَوْله: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: ٧] الْآيَةَ.
وَالْمرَاد ب لِلْعالَمِينَ جَمِيعُ الْأُمَمِ مِنَ الْبَشَرِ لِأَنَّ الْعَالَمَ يُطْلَقُ عَلَى الْجِنْسِ وَعَلَى النَّوْعِ وَعَلَى الصِّنْفِ بِحَسَبِ مَا يَسْمَحُ بِهِ الْمَقَامُ، وَالنِّذَارَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْعُقَلَاءِ مِمَّنْ قُصِدُوا بِالتَّكْلِيفِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [٢].
وَالنَّذِيرُ: الْمُخْبِرُ بِسُوءٍ يَقَعُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٌ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِثْلَ الْحَكِيمِ.
وَالِاقْتِصَارُ فِي وَصْفِ الرَّسُولِ هُنَا عَلَى النَّذِيرِ دُونَ الْبَشِيرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا
كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً
[سبأ: ٢٨] لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا لِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ وَبِالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَكَانَ مُقْتَضِيًا لِذِكْرِ النِّذَارَةِ دُونَ الْبِشَارَةِ، وَفِي ذَلِكَ اكْتِفَاءٌ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ تَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ عِنْدَ ذِكْرِ النِّذَارَةِ. وَسَيَجِيءُ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٥٦].
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ جَمَعَ بَيْنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ وَتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ النَّبِيءِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَرِفْعَةِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعُمُوم رسَالَته.
[٢]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٢]
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً
317
(٢)
أُجْرِيَتْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعُ بِطَرِيقِ تَعْرِيفِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِأَنَّ بَعْضَ الصِّلَاتِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ اتِّصَافُ اللَّهِ بِهِ وَهُمَا الصِّفَتَانِ الْأُولَى وَالرَّابِعَةُ وَإِذْ قَدْ كَانَتَا مَعْلُومَتَيْنِ كَانَتِ الصِّلَتَانِ الْأُخْرَيَانِ الْمَذْكُورَتَانِ مَعَهُمَا فِي حُكْمِ الْمَعْرُوفِ لِأَنَّهُمَا أُجْرِيَتَا عَلَى مَنْ عُرِفَ بِالصِّلَتَيْنِ الْأُولَى وَالرَّابِعَةِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا يَمْتَرُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ الْآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٨٦، ٨٧]، وَلَكِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ وَلَدًا وَشَرِيكًا فِي الْمُلْكِ.
وَمِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ أَنْ جَعَلَ الْوَصْفَانِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِمَا مَعَهُمْ مُتَوَسِّطَيْنِ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا مِرْيَةَ فِيهِمَا حَتَّى يَكُونَ الْوَصْفَانِ الْمُسَلَّمَيْنِ كَالدَّلِيلِ أَوَّلًا وَالنَّتِيجَةِ آخِرًا، فَإِنَّ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا وَلَا أَنْ يَتَّخِذَ شَرِيكًا لِأَنَّ مُلْكَهُ الْعَظِيمَ يَقْتَضِي غِنَاهُ الْمُطْلَقَ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اتِّخَاذُهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا عَبَثًا إِذْ لَا غَايَةَ لَهُ، وَإِذَا كَانَتْ أَفْعَالُ الْعُقَلَاءِ تُصَانُ عَنِ الْعَبَثِ فَكَيْفَ بِأَفْعَالِ أَحْكَمِ الْحُكَمَاءِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ.
فَقَوْلُهُ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَدَلٌ مِنَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ [الْفُرْقَانَ: ١].
وَإِعَادَةُ اسْمِ الْمَوْصُولِ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ مِنَ الصِّلَتَيْنِ لِأَنَّ الصِّلَةَ الْأُولَى فِي غَرَضِ الِامْتِنَانِ بِتَنْزِيلِ الْقُرْآنِ لِلْهُدَى، وَالصِّلَةَ الثَّانِيَةَ فِي غَرَضِ اتِّصَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ.
وَفِي الْمُلْكِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمُلْكِ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْمُلْكِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا يَلِيقُ بِهِ غَيْرُهَا.
وَالْخَلْقُ: الْإِيجَادُ، أَيْ أَوْجَدَ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنْ عَظِيمِ الْأَشْيَاءِ وَحَقِيرِهَا. وَفُرِعَ عَلَى خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إِتْقَانِ الْخَلْقِ إِتْقَانًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَالِقَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ.
318
وَمَعْنَى (قَدَّرَهُ) جَعَلَهُ عَلَى مِقْدَارٍ وَحَدٍّ مُعَيَّنٍ لَا مُجَرَّدَ مُصَادَفَةٍ، أَيْ خَلَقَهُ مُقَدَّرًا، أَيْ مُحْكَمًا مَضْبُوطًا صَالِحًا لِمَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ وَلَا خَلَلَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ خَلَقَهُ بِإِرَادَةٍ وَعِلْمٍ عَلَى كَيْفِيَّةٍ أَرَادَهَا وَعَيَّنَهَا كَقَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [الْقَمَر: ٤٩]. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١٧].
وَتَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ بِقَوْلِهِ: تَقْدِيراً لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ تَقْدِيرٌ كَامِلٌ فِي نَوْعِ التَّقَادِيرِ.
وَمَا جَاءَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ بِأَغْرَاضِهَا وَهُوَ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ خُطْبَةِ الْكِتَابِ أَو الرسَالَة.
[٣]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٣]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣)
اسْتِطْرَادٌ لِانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ لِوَصْفِ ضَلَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَسَفَالَةِ تَفْكِيرِهِمْ، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفرْقَان: ٢] وَمَا تَلَاهَا مِمَّا هُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، وَأُرْدِفَتْ بِقَوْلِهِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الْفرْقَان: ٢] الشَّامِلِ لِكَوْنِ مَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْآلِهَةِ مَخْلُوقَاتٍ فَكَانَ مَا تَقَدَّمَ مُهَيِّئًا لِلتَّعْجِيبِ مِنَ اتِّخَاذِ الْمُشْرِكِينَ آلِهَةً دُونَ ذَلِكَ الْإِلَهِ الْمَنْعُوتِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ.
فَالْخَبَرُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ الْإِفَادَةُ بَلْ هُوَ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ قَابَلُوا نِعْمَةَ إِنْزَالِ الْفُرْقَانِ بِالْجَحْدِ وَالطُّغْيَانِ وَكَيْفَ أَشْرَكُوا بِالَّذِي تِلْكَ صِفَاتُهُ آلِهَةً أُخْرَى صِفَاتُهُمْ عَلَى الضِّدِّ مِنْ صِفَاتِ مَنْ أَشْرَكُوهُمْ بِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْمُشْرِكِينَ آلِهَةً أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فَلَا يُقْصَدُ إِفَادَتُهُمْ لِحُكْمِ الْخَبَرِ.
وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الْفرْقَان: ٢] وَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وَضَمِيرُ: اتَّخَذُوا عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ ذِكْرٌ فِي الْكَلَامِ وَإِنَّمَا
319
هُمْ
مَعْرُوفُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ وَخَاصَّةً مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الْفرْقَان: ٢].
وَجُمْلَةُ: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً مُقَابِلَةٌ جُمْلَةَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفرْقَان: ٢].
وَجُمْلَةُ: وَهُمْ يُخْلَقُونَ مُقَابِلَةٌ جُمْلَةَ: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الْفرْقَان: ٢] لِأَنَّ وَلَدَ الْخَالِقِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّدًا مِنْهُ فَلَا يَكُونُ مَخْلُوقًا.
وَجُمْلَةُ: وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً مُقَابِلَةٌ جُمْلَةَ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الْفرْقَان: ٢] لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْمُلْكِ تَقْتَضِي الشَّرِكَةَ فِي التَّصَرُّفِ.
وَضَمِيرُ: لِأَنْفُسِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى آلِهَةً أَيْ لَا تَقْدِرُ الْأَصْنَامُ وَنَحْوُهَا عَلَى ضُرِّ أَنْفُسِهِمْ وَلَا عَلَى نَفْعِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ وَاتَّخَذُوا أَيْ لَا تَقْدِرُ الْأَصْنَامُ عَلَى نَفْعِ الَّذِينَ عَبَدُوهُمْ وَلَا عَلَى ضُرِّهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ضَرًّا وَلا نَفْعاً هُنَا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ لِقَصْدِ الْإِحَاطَةِ بِالْأَحْوَالِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَهَذَا نَظِيرُ أَنْ يُقَالَ: شَرْقًا وَغَرْبًا، وَلَيْلًا وَنَهَارًا. وَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ مَا يشكل فِي بادىء الرَّأْيِ مِنْ وَجْهِ نَفْيِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى إِضْرَارِ أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ لَا تَتَعَلَّقُ إِرَادَةُ أَحَدٍ بِضُرِّ نَفْسِهِ، وَبِذَلِكَ أَيْضًا لَا يُتَطَلَّبُ وَجْهٌ لِتَقْدِيمِ الضُّرِّ عَلَى النَّفْعِ، لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَالْمُتَكَلِّمُ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ وَالْمُخَالِفَةُ بَيْنَ الْآيَاتِ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ.
وَالْمَجْرُورُ فِي لِأَنْفُسِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَمْلِكُونَ.
وَالضُّرُّ- بِفَتْحِ الضَّادِ- مَصْدَرُ ضَرَّهُ، إِذَا أَصَابَهُ بِمَكْرُوهٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٤٩].
وَجُمْلَةُ: وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً مُقَابِلَةٌ جُمْلَةَ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الْفرْقَان: ٢] لِأَنَّ أَعْظَمَ مَظَاهِرِ تَقْدِيرِ الْخَلْقِ هُوَ مَظْهَرُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَذَلِكَ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلا نُشُوراً فَهُوَ تَكْمِيلٌ لِقَرْعِ الْمُشْرِكِينَ نُفَاةِ الْبَعْثِ لِأَنَّ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ الْآلِهَةُ يَمْلِكُونَ نُشُورًا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ حَقِيقَةِ النُّشُورِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِذِ الْأَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ
320
يَقْتَضِي تحقق مَاهِيَّتِهِ. وَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
على لَا حب لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ
يُرِيدُ لَا مَنَارَ فِيهِ. وَقَوْلِ ابْنِ أَحْمَرَ:
لَا تُفْزِعُ الْأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ
أَرَادَ: إِنَّهَا لَا أَرْنَبَ فِيهَا وَلَا ضَبَّ. فَهُوَ من قبيل التلميح.
ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الْمُقَابَلَةُ لِلْجُمَلِ الْمَوْصُوفِ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى اهْتِمَامًا بِإِبْطَالِ كُفْرِهِمُ الْمُتَعَلِّقِ بِصِفَاتِ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلُ الْكُفْرِ وَمَادَّتُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى: وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَهُمْ يُصْنَعُونَ، أَيْ يَصْنَعُهُمُ الصَّانِعُونَ لِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ كُلَّهَا حِجَارَةٌ مَنْحُوتَةٌ فَقَدْ قَوَّمَتْهَا الصَّنْعَةُ، فَأَطْلَقَ الْخَلْقَ عَلَى التَّشْكِيلِ وَالنَّحْتِ مِنْ فِعْلِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ الْخَلْقُ شَاعَ فِي الْإِيجَادِ بَعْدَ الْعَدَمِ إِمَّا اعْتِبَارًا بِأَصْلِ مَادَّةِ الْخَلْقِ وَهُوَ تَقْدِيرُ مِقْدَارِ الْجِلْدِ قَبْل فَرْيِهِ كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ضُ النَّاسِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
فَأَطْلَقَ الْخَلْقَ عَلَى النَّحْتِ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، وَإِمَّا مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً.
وَالْمِلْكُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٧]، وَقَوْلِهِ فِيهَا: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً [الْمَائِدَة: ٧٦]، أَيْ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ضَرِّكُمْ وَلَا نَفْعِكُمْ. فَقَوْلُهُ هُنَا: لِأَنْفُسِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَمْلِكُونَ، وَاللَّامُ فِيهِ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَجْلِ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ لِفَائِدَتِهَا.
ثُمَّ إِن المُرَاد بِأَنْفسِهِم يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ عَلَى الْآحَادِ الْمُفَادَةِ بِضَمِيرِ يَمْلِكُونَ، أَيْ لَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ لِنَفْسِهِ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالضُّرِّ دَفْعَهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ لِأَنَّ
321
الشَّخْصَ لَا يَتَعَلَّقُ غَرَضُهُ بِضُرِّ نَفْسِهِ حَتَّى يُقَرَّعَ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ ضُرِّ نَفْسِهِ.
وَتَنْكِيرُ مَوْتاً- وحَياةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِلْعُمُومِ، أَيْ مَوْتُ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ وَلَا حَيَاتُهُ.
وَالنُّشُورُ: الْإِحْيَاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَصْلُهُ نَشْرُ الشَّيْء المطوي.
[٤]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٤]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤)
انْتِقَالٌ مَنْ ذِكْرِ كُفْرِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ إِلَى ذِكْرِ كُفْرِهِمْ بِأَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ.
وَالْإِظْهَارُ هُنَا لِإِفَادَةِ أَنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ هُوَ عِلَّةُ قَوْلِهِمْ هَذَا، أَيْ مَا جَرَّأَهُمْ عَلَى هَذَا الْبُهْتَانِ إِلَّا إِشْرَاكُهُمْ وَتَصَلُّبُهُمْ فِيهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِشُبْهَةٍ تَبْعَثُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِانْتِفَاءِ شُبْهَةِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا حُكِيَ آنِفًا مِنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ فَإِنَّهُمْ تَلَقَّوْهُ مِنْ آبَائِهِمْ، فَالْوَصْفُ الَّذِي أُجْرِيَ عَلَيْهِمْ هُنَا مُنَاسِبٌ لِمَقَالَتِهِمْ لِأَنَّهَا أَصْلُ كُفْرِهِمْ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَابِلَةٌ جُمْلَةَ: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: ١] فَهِيَ الْمَقْصُودُ مِنِ افْتِتَاحِ الْكَلَامِ كَمَا آذَنَتْ بِذَلِكَ فَاتِحَةُ السُّورَةِ. وَإِنَّمَا أُخِّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي تُقَابِلُ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْمُقَابَلَةِ أَنْ تُذْكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ قَبْلَ جُمْلَةِ:
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً [الْفرْقَان: ٣] اهْتِمَامًا بِإِبْطَالِ الْكُفْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِصِفَاتِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَالْقَصْرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُمُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (إِنِ) النَّافِيَةِ وَ (إِلَّا) قَصْرُ قَلْبٍ زَعَمُوا بِهِ رَدَّ دَعْوَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَمِمَّنْ قَالَ هَذِهِ الْمُقَابَلَةَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ، وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ.
فَإِسْنَادُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَكُلُّهُمْ يَتَنَاقَلُونَهُ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَأْلُوفَةٌ فِي نِسْبَةِ أَمْرٍ إِلَى الْقَبِيلَةِ كَمَا يُقَالُ: بَنُو أَسَدٍ قَتَلُوا حُجْرًا.
322
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْقُرْآنِ حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ حِينَ يَسْمَعُونَ آيَاتِ الْقُرْآنِ.
وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي افْتَراهُ عَائِدٌ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْلِهِ: عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: ١].
وَالْإِفْكُ: الْكَذِبُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ فِي سُورَةِ النُّورِ [١١]. وَالِافْتِرَاءُ: اخْتِلَاقُ الْأَخْبَارِ، أَيْ ابْتِكَارُهَا وَهُوَ الْكَذِبُ عَنْ عَمْدٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٠٣].
وَأَعانَهُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا يَقُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْمٌ آخَرُونَ لَقَّنُوهُ بَعْضَ مَا يَقُولُهُ، وَأَرَادُوا بِالْقَوْمِ الْآخَرِينَ الْيَهُودَ. رُوِيَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَشَارُوا إِلَى عَبِيدٍ أَرْبَعَةٍ كَانُوا لِلْعَرَبِ مِنَ الْفُرْسِ وَهُمْ: عَدَّاسٌ مَوْلَى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَيَسَارٌ أَبُو
فَكِيهَةَ الرُّومِيُّ مَوْلَى الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَفِي «سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ» أَنَّهُ مَوْلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ مُحَرِّثٍ، وَجَبْرٌ مَوْلَى عَامِرٍ. وَكَانَ هَؤُلَاءِ مِنْ مَوَالِي قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ مِمَّنْ دَانُوا بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَكَانُوا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ثُمَّ أَسْلَمُوا، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فَزَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى هَؤُلَاءِ وَيَسْتَمِدُّ مِنْهُمْ أَخْبَارَ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ مُتَسَلِّطٌ عَلَى كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ، أَيْ لَا يَخْلُو هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، هُمَا: أَنْ يَكُونَ افْتَرَى بَعْضَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَعَانَهُ قَوْمٌ عَلَى بَعْضِهِ.
وَفَرَّعَ عَلَى حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ هَذَا ظُهُورَ أَنَّهُمُ ارْتَكَبُوا بِقَوْلِهِمْ ظُلْمًا وَزُورًا لِأَنَّهُمْ حِينَ قَالُوا ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُمْ زُورٌ وَظُلْمٌ لِأَنَّهُ اخْتِلَاق واعتداء.
وجاؤُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى (عَمِلُوا) وَهُوَ مَجَازٌ فِي الْعِنَايَةِ بِالْعَمَلِ وَالْقَصْدِ إِلَيْهِ لِأَنَّ مَنِ اهْتَمَّ بِتَحْصِيلِ شَيْءٍ مَشَى إِلَيْهِ، وَبِهَذَا الِاسْتِعْمَالِ صَحَّ تَعْدِيَتُهُ إِلَى مَفْعُولٍ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالظُّلْمُ: الِاعْتِدَاءُ بِغَيْرِ حَقٍّ بِقَوْلٍ أَوْ فَعَلٍ قَالَ تَعَالَى: قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ [ص: ٢٤]
323
وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٤]. وَالظُّلْمُ الَّذِي أَتَوْهُ هُوَ نِسْبَتُهُمُ الرَّسُولَ إِلَى الِاخْتِلَاقِ فَإِنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّهِ الَّذِي هُوَ الصِّدْقُ.
وَالزُّورُ: الْكَذِبُ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الزُّورِ: إِنَّهُ الْكَذِبُ الْمُحَسَّنُ الْمُمَوَّهُ بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ بِالصِّدْقِ.
وَكَوْنُ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ كَذِبًا ظَاهِرٌ لِمُخَالَفَتِهِ الْوَاقِعَ فَالْقُرْآنُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْإِفْكِ، وَالَّذِينَ زَعَمُوهُمْ مُعِينِينَ عَلَيْهِ لَا يَسْتَطِيعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ عَرَبِيٍّ بَالِغٍ غَايَةَ الْبَلَاغَةِ وَمُرْتَقٍ إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ، وَإِذَا كَانَ لِبَعْضِهِمْ مَعْرِفَةٌ بِبَعْضِ أَخْبَارِ الرُّسُلِ فَمَا هِيَ إِلَّا مَعْرِفَةٌ ضَئِيلَةٌ غَيْرُ مُحَقَّقَةٍ كَشَأْنِ مَعْرِفَةِ الْعَامَّة والدهماء.
[٥]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٥]
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥)
الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَمَدْلُولُ الصِّلَةِ مُرَاعًى فِي هَذَا الضَّمِيرِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ
هَذَا الْقَوْلَ مِنْ آثَارِ كُفْرِهِمْ.
الأساطير: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ كَالْأُحْدُوثَةِ وَالْأَحَادِيثِ، وَالْأُغْلُوطَةِ وَالْأَغَالِيطِ، وَهِيَ الْقِصَّةُ الْمَسْطُورَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا مُفَصَّلًا عِنْدَ قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٥]. وَقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْعَبْدَرِيُّ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ قِصَصٌ مِنْ قِصَصِ الْمَاضِينَ.
وَكَانَ النَّضْرُ هَذَا قَدْ تَعَلَّمَ بِالْحِيرَةِ قِصَصَ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَأَحَادِيثَ رُسْتُمَ وَإِسْفِنْدِيَارَ فَكَانَ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ: أَنَا وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ مُحَمَّدٍ فَهَلُمَّ أُحَدِّثْكُمْ وَكَانَ يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ: هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا ذُكِرَ فِيهِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي الْقُرْآنِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قَوْلُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ.
وَجُمْلَةُ: اكْتَتَبَها نَعْتٌ أَوْ حَالٌ لِ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وَالِاكْتِتَابُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْكِتَابَةِ، وَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ تَدُلُّ عَلَى التَّكَلُّفِ لِحُصُولِ الْفِعْلِ، أَيْ حُصُولُهُ مِنْ فَاعِلِ الْفِعْلِ، فَيُفِيدُ قَوْلُهُ: اكْتَتَبَها أَنَّهُ تَكَلَّفَ أَنْ يَكْتُبَهَا. وَمَعْنَى هَذَا التَّكَلُّفِ أَنَّ النَّبِيءَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا كَانَ أُمِّيًّا كَانَ إِسْنَادُ الْكِتَابَةِ إِلَيْهِ إِسْنَادًا مجازيا فيؤول الْمَعْنَى: أَنَّهُ سَأَلَ مَنْ يَكْتُبُهَا لَهُ، أَيْ يَنْقُلُهَا، فَكَانَ إِسْنَادُ الِاكْتِتَابِ إِلَيْهِ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا لِأَنَّهُ سَبَبُهُ، وَالْقَرِينَةُ مَا هُوَ مُقَرَّرٌ لَدَى الْجَمِيعِ مِنْ أَنَّهُ أُمِّيٌّ لَا يَكْتُبُ، وَمِنْ قَوْلِهِ: فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَتَبَهَا لنَفسِهِ لَكَانَ يَقْرَأها بِنَفْسِهِ. فَالْمَعْنَى: اسْتَنْسَخَهَا. وَهَذَا كُلُّهُ حِكَايَةٌ لِكَلَامِ النَّضْرِ بِلَفْظِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، وَمُرَادُ النَّضْرِ بِهَذَا الْوَصْفِ تَرْوِيجُ بُهْتَانِهِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الزُّورَ مَكْشُوفٌ قَدْ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ النَّاسِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ النَّبِيءَ أُمِّيٌّ فَكَيْفَ يَسْتَمِدُّ قُرْآنَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ فَهَيَّأَ لِقَبُولِ ذَلِكَ أَنَّهُ كُتِبَتْ لَهُ، فَاتَّخَذَهَا عِنْدَهُ فَهُوَ يُنَاوِلُهَا لِمَنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ فَيُمْلِي عَلَيْهِ مَا يَقُصُّهُ الْقُرْآنُ.
وَالْإِمْلَاءُ: هُوَ الْإِمْلَالُ وَهُوَ إِلْقَاءُ الْكَلَامِ لِمَنْ يَكْتُبُ أَلْفَاظَهُ أَوْ يَرْوِيهَا أَوْ يَحْفَظُهَا.
وَتَفْرِيعُ الْإِمْلَاءِ عَلَى الِاكْتِتَابِ كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ إِمْلَاءَهَا عَلَيْهِ لِيَقْرَأَهَا أَوْ لِيَحْفَظَهَا.
وَالْبُكْرَةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ. وَالْأَصِيلُ: آخِرُ الْمَسَاءِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ [٢٠٥]، أَيْ تُمْلَى عَلَيْهِ طَرَفَيِ النَّهَارِ. وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ كَثْرَةِ الْمُمَارَسَةِ لتلقي الأساطير.
[٦]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٦]
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦)
لَقَّنَ اللَّهُ رَسُولَهُ الْجَوَابَ لِرَدِّ بُهْتَانِ الْقَائِلِينَ إِنْ هَذَا الْقُرْآنَ إِلَّا إِفْكٌ، وَإِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ.
وَعَبَّرَ عَنْ مُنْزِلِ الْقُرْآنِ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِ لِمَا تَقْتَضِيهِ الصِّلَةُ مِنِ اسْتِشْهَادِ الرَّسُولِ اللَّهَ عَلَى مَا فِي سِرِّهِ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كُلَّ سِرٍّ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
فَجُمْلَةُ الصِّلَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ وَهُوَ كَوْنُ الْمُتَكَلِّمِ، أَيِ الرَّسُولِ، عَالِمًا بِذَلِكَ. وَفِي ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ مُرَاقَبَتِهِ اللَّهَ فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنْهُ. وَفِي ذَلِكَ إِيقَاظٌ لَهُمْ بِأَنْ يَتَدَبَّرُوا فِي هَذَا الَّذِي زَعَمُوهُ إِفْكًا أَوْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ لِيَظْهَرَ لَهُمُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْحَقَائِقِ النَّاصِعَةِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ، فَيُوقِنُوا أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ إِنْزَالِهِ، وَلِيَعْلَمُوا بَرَاءَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِمَنْ زَعَمُوهُمْ يُعِينُونَهُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي السِّرَّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ يَسْتَغْرِقُ كُلَّ سِرٍّ، وَمِنْهُ إِسْرَارُ الطَّاعِنِينَ فِي الْقُرْآنِ عَنْ مُكَابَرَةٍ وَبُهْتَانٍ، أَيْ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يَعْتَقِدُونَهُ ظُلْمًا وَزُورًا مِنْهُمْ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ مُوقِعُ جُمْلَةِ: إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الْإِقْلَاعِ عَنْ هَذِهِ الْمُكَابَرَةِ وَفِي اتِّبَاعِ دِينِ الْحَقِّ لِيَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وَيَرْحَمَهُمْ، وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُقْلِعُوا وَيَتُوبُوا حَقَّ عَلَيْهِمُ الْغَضَبُ وَالنِّقْمَةُ.
[٧- ٩]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٧ الى ٩]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩)
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها.
انْتِقَالٌ مِنْ حِكَايَةِ مَطَاعِنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَبَيَانِ إِبْطَالِهَا إِلَى حِكَايَةِ مَطَاعِنِهِمْ فِي الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَمَدْلُولُ الصِّفَةِ مُرَاعًى كَمَا تَقَدَّمَ.
326
وَقَدْ أَوْرَدُوا طَعْنَهُمْ فِي نُبُوءَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْحَالَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ إِذْ أَوْرَدُوا اسْمَ الِاسْتِفْهَامِ وَلَامَ الِاخْتِصَاصِ وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ الَّتِي مَضْمُونُهَا مَثَارُ الِاسْتِفْهَامِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَعَجِيبِيٌّ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ بُطْلَانُ كَوْنِهِ رَسُولًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّعَجُّبَ مِنَ الدَّعْوَى يَقْتَضِي اسْتِحَالَتَهَا أَوْ بُطْلَانَهَا. وَتَرْكِيبُ مَا لِهذَا وَنَحْوُهُ يُفِيدُ الِاسْتِفْهَامَ عَنْ أَمْرٍ ثَابِتٍ لَهُ، فَاسْمُ الِاسْتِفْهَامِ مُبْتَدَأٌ ولِهذَا خَبَرٌ عَنْهُ فَمَثَارُ الِاسْتِفْهَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ ثُبُوتُ حَالِ أَكْلِ الطَّعَامِ وَالْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ لِلَّذِي يَدَّعِي الرِّسَالَةَ مِنَ اللَّهِ.
فَجُمْلَةُ: يَأْكُلُ الطَّعامَ جُمْلَةُ حَالٍ. وَقَوْلُهُمْ: لِهذَا الرَّسُولِ أَجْرَوْا عَلَيْهِ وَصْفَ الرِّسَالَةِ مُجَارَاةً مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَكِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَيْهِ لِيَتَأَتَّى لَهُمُ التَّعَجُّبُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِحَالَةُ وَالْإِبْطَالُ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْإِشَارَةَ مَا بَعْدَهَا مِنَ اسْمٍ مُعَرَّفٍ بِلَامِ الْعَهْدِ وَهُوَ الرَّسُولُ.
وَكَنَّوْا بِأَكْلِ الطَّعَامِ وَالْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ عَنْ مُمَاثَلَةِ أَحْوَالِهِ لِأَحْوَالِ النَّاسِ تَذَرُّعًا مِنْهُمْ إِلَى إِبْطَالِ كَوْنِهِ رَسُولًا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ عَنِ اللَّهِ تَكُونُ أَحْوَالُهُ غَيْرَ مُمَاثِلَةٍ لِأَحْوَالِ النَّاسِ، وَخَصُّوا أَكْلَ الطَّعَامِ وَالْمَشْيَ فِي الْأَسْوَاقِ لِأَنَّهُمَا مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُشَاهَدَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ، وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: ٢٠]. ثُمَّ انْتَقَلُوا إِلَى اقْتِرَاحِ أَشْيَاءَ تُؤَيِّدُ رِسَالَتَهُ فَقَالُوا: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. وَخَصُّوا مِنْ أَحْوَالِ الرَّسُولِ حَالَ النِّذَارَةِ لِأَنَّهَا الَّتِي أَنْبَتَتْ حِقْدَهُمْ عَلَيْهِ.
وَ (لَوْلَا) حَرْفُ تَحْضِيضٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ، أَيْ لَوْ أُنْزِلَ إِلَيْهِ ملك لَا تَبِعْنَاهُ.
وَانْتَصَبَ (فَيَكُونَ) عَلَى جَوَابِ التَّحْضِيضِ.
وَ (أَوْ) لِلتَّخْيِيرِ فِي دَلَائِلِ الرِّسَالَةِ فِي وَهْمِهِمْ.
327
وَمَعْنَى يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَيْ يَنْزِلُ إِلَيْهِ كَنْزٌ مِنَ السَّمَاءِ، إِذْ كَانَ الْغِنَى فِتْنَةً لِقُلُوبِهِمْ.
وَالْإِلْقَاءُ: الرَّمْيُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِعْطَاءِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ يَتَخَيَّلُونَ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ.
وَالْكَنْزُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ فِي سُورَةِ هُودٍ [١٢].
وَجَعَلُوا إِعْطَاءَ جَنَّةٍ لَهُ عَلَامَةً عَلَى النُّبُوءَةِ لِأَنَّ وُجُودَ الْجَنَّةِ فِي مَكَّةَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَأْكُلُ مِنْها بِيَاءِ الْغَائِبِ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ عَائِدٌ إِلَى هَذَا الرَّسُولِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ نَأْكُلَ مِنْها بِنُونِ الْجَمَاعَةِ. وَالْمَعْنَى: لِيَتَيَقَّنُوا أَنَّ ثَمَرَهَا حَقِيقَةٌ لَا سِحْرٌ.
ذَكَرَ أَصْحَابُ السِّيَرِ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ صَدَرَتْ مِنْ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَفِي مَجْلِسٍ لَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ عَتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَأَبَا الْبَخْتَرِيِّ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَزَمْعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَأَبَا جَهِلِ بْنَ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبي أُميَّة، والعاصي بْنَ وَائِلٍ، وَنُبَيْهَ بْنَ الْحَجَّاجِ وَمُنَبِّهَ بْنَ الْحَجَّاجِ، وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ذَكَرُوهَا تَدَاوَلهَا أَهَّلُ الْمَجْلِسِ إِذْ لَمْ يُعَيِّنْ أَهْلُ السِّيَرِ قَائِلَهَا.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَشَاعُوا ذَلِكَ فِي النَّاسِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ.
وَكُتِبَتْ لَام مَا لِهذَا مُنْفَصِلَةً عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي بَعْدَهَا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فَاتَّبَعَتْهُ الْمَصَاحِفُ لِأَنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ فِيهِ، كَمَا كتب مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٤٩]، وكما كتب: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ فِي سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ [٣٦]، وكما كتب: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٧٨]. وَلَعَلَّ وَجْهَ هَذَا الِانْفِصَالِ أَنَّهُ طَرِيقَةُ رَسْمٍ قَدِيمٍ كَانَتِ الْحُرُوفُ تُكْتَبُ مُنْفَصِلًا بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَلَا سِيَّمَا حُرُوفُ الْمَعَانِي فَعَامَلُوا
328
مَا كَانَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مُعَامَلَةَ مَا كَانَ عَلَى حَرْفَيْنِ فَبَقِيَتْ عَلَى يَدِ أَحَدِ كُتَّابِ الْمُصْحَفِ أَثَارَةٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَصْلُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ كُلِّهَا الِانْفِصَالُ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي الْخُطُوطِ الْقَدِيمَةِ لِلْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ وَصْلُ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ تَحْسِينًا لِلرَّسْمِ وَتَسْهِيلًا لِتَبَادُرِ الْمَعْنَى، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ فَوَصْلُهُ اصْطِلَاحٌ.
وَأَكْثَرُ مَا وصلوا مِنْهُ هُوَ الْكَلِمَةُ الْمَوْضُوعَةُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِثْلُ حُرُوفِ الْقَسَمِ أَوْ كَالْوَاحِدِ مِثْلُ (أَلْ). وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا
فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا
الظَّالِمُونَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَغَيَّرَ عُنْوَانَهُمُ الْأَوَّلَ إِلَى عُنْوَانِ الظُّلْمِ وَهُمْ هُمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ فِي هَذَا الْقَوْلِ اعْتِدَاءً عَلَى الرَّسُولِ بِنَبْزِهِ بِمَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَظُلْمُهُمْ لَهُ أَشَدُّ ظُلْمٍ، وَصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّ قَائِلَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى، أَيْ هُوَ مُبْتَكِرُ هَذَا الْبُهْتَانِ وَإِنَّمَا أُسْنِدَ الْقَوْلُ إِلَى جَمِيعِ الظَّالِمِينَ لِأَنَّهُمْ تَلَقَّفُوهُ وَلَهَجُوا بِهِ.
وَالْمَسْحُورُ: الَّذِي أَصَابَهُ السِّحْرُ، وَهُوَ يُورِثُ اخْتِلَالَ الْعَقْلِ عِنْدَهُمْ، أَيْ مَا تَتْبَعُونَ إِلَّا رَجُلًا أَصَابَهُ خَلَلُ الْعَقْلِ فَهُوَ يَقُولُ مَا لَا يَقُولُ مِثْلَهُ الْعُقَلَاءُ.
وَذَكَرَ رَجُلًا هُنَا لِتَمْهِيدِ اسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ رَسُولًا لِأَنَّهُ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ. وَهَذَا الْخِطَابُ خَاطَبُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَعْنَى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا أَنَّهُمْ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ الْبَاطِلَةَ بِأَنْ مَثَّلُوكَ بِرَجُلٍ مَسْحُورٍ.
329
وَقَوْلُهُ: انْظُرْ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْعِلْمِ تَشْبِيهًا لِلْأَمْرِ الْمَعْقُولِ بِالْأَمْرِ الْمَرْئِيِّ لِشِدَّةِ وُضُوحِهِ.
وَ (كَيْفَ) اسْمٌ لِلْكَيْفِيَّةِ وَالْحَالَةِ مُجَرَّدٌ هُنَا عَنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا التَّعْجِيبِ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ ضَلُّوا فِي تَلْفِيقِ الْمَطَاعِنِ فِي رِسَالَةِ الرَّسُولِ فَسَلَكُوا طَرَائِقَ لَا تَصِلُ بِهِمْ إِلَى دَلِيلٍ مُقْنِعٍ عَلَى مُرَادِهِمْ، فَفِعْلُ ضَلُّوا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْهِ الْمَجَازِيَّيْنِ هُمَا: مَعْنَى عَدَمِ التَّوَفُّقِ فِي الْحُجَّةِ، وَمَعْنَى عَدَمِ الْوُصُولِ لِلدِّينِ الْحَقِّ، وَهُوَ هُنَا تَعْجِيبٌ مِنْ خَطَلِهِمْ وَإِعْرَاضٌ عَن مجاوبتهم.
[١٠]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ١٠]
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠)
ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ وَثَنَائِهِ عَلَى أَنْ أَنْزَلَ الْفَرْقَانَ عَلَى رَسُولِهِ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا تَلَقَّى بِهِ الْمُشْرِكُونَ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ مِنَ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ النَّاشِئِ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِمَا اتَّخَذُوهُ مِنْ آلِهَةٍ مِنْ صِفَاتِهِمْ مَا يُنَافِي الْإِلَهِيَّةَ، ثُمَّ طَعَنُوا فِي الْقُرْآنِ وَالَّذِي جَاءَ بِهِ بِمَا هُوَ كُفْرَانٌ لِلنِّعْمَةِ وَمَنْ جَاءَ بِهَا.
فَلَمَّا أُرِيدَ الْإِعْرَاضُ عَنْ بَاطِلِهِمْ وَالْإِقْبَالُ عَلَى خِطَابِ الرَّسُولِ بِتَثْبِيتِهِ وَتَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ أُعِيدَ اللَّفْظُ الَّذِي ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَةُ عَلَى طَرِيقَةِ وَصْلِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ [الْفرْقَان: ٨] إِلَخْ، أَيْ إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنَ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ، أَيْ أَفْضَلَ مِنْهُ، أَيْ إِنْ شَاءَ عَجَّلَهُ لَكَ فِي الدُّنْيَا، فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجَنَّاتِ وَالْقُصُورِ جَنَّاتٍ فِي الدُّنْيَا وَقُصُورًا فِيهَا، أَيْ خَيْرًا مِنَ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِكَ فِي زَعْمِهِمْ بِأَنْ تَكُونَ عِدَّةَ جَنَّاتٍ وَفِيهَا قُصُورٌ. وَبِهَذَا فَسَّرَ
جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَكُونُ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةُ وَاقِعَةً مَوْقِعَ (لَوْ)، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ وَلَوْ شَاءَهُ لَفَعَلَهُ وَلَكِنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ عَدَمَ الْبَسْطِ لِلرَّسُولِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُدْرِكُونَ الْمَطَالِبَ الْعَالِيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجَنَّاتِ وَالْقُصُورِ لَيْسَتِ الَّتِي فِي الدُّنْيَا، أَيْ هِيَ جَنَّاتُ الْخُلْدِ وَقُصُورُ الْجَنَّةِ فَيَكُونُ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ.
وَاقْتِرَانُ هَذَا الْوَعْدِ بِشَرْطِ الْمَشِيئَةِ جَارٍ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْعَظَمَةُ الْإِلَهِيَّةُ وَإِلَّا فَسِيَاقُ الْوَعْدِ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِحُصُولِهِ، فَاللَّهُ شَاءَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، بِأَنْ يُقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ. فَمَوْقِعُ إِنْ شاءَ اعْتِرَاضٌ.
وَأَصْلُ الْمَعْنَى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ إِلَى آخِرِهِ. وَيُسَاعِدُ هَذَا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَأَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً بِرَفْعِ يَجْعَلْ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ دُونَ إِعْمَالِ حَرْفِ الشَّرْطِ، وَقِرَاءَةُ الْأَكْثَرِ بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ وَفِعْلُ الشَّرْطِ مُحَقَّقُ الْحُصُولِ بِالْقَرِينَةِ، وَهَذَا الْمَحْمِلُ أَشَدُّ تَبْكِيتًا لِلْمُشْرِكِينَ وَقَطْعًا لِمُجَادَلَتِهِمْ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً [الْفرْقَان:
١١]، وَهُوَ ضِدٌّ وَمُقَابِلٌ لِمَا أَعَدَّهُ لِرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ.
وَالْقُصُورُ: الْمَبَانِي الْعَظِيمَةُ الْوَاسِعَةُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٧٤]، وَقَوْلِهِ: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ فِي سُورَة الْحَج [٤٥].
[١١]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ١١]
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١)
بَلْ لِلْإِضْرَابِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِضْرَابَ انْتِقَالٍ مِنْ ذِكْرِ ضَلَالِهِمْ فِي صِفَةِ
الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذِكْرِ ضَلَالِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ عَلَى تَأْوِيلِ الْجُمْهُورِ قَوْلَهُ: إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ [الْفرْقَان: ١٠] كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِضْرَابَ إِبْطَالٍ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ
عَلَى تَأْوِيلِ ابْنِ عَطِيَّةَ مِنَ الْوَعْدِ بِإِيتَائِهِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ بَلْ هُمْ لَا يَقْنَعُونَ بِأَنَّ حَظَّ الرَّسُولِ عِنْدَ رَبِّهِ لَيْسَ فِي مَتَاعِ الدُّنْيَا الْفَانِي الْحَقِيرِ وَلَكِنَّهُ فِي خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ الْخَالِدَةِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ، أَيْ أَنَّ هَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَمُقْنِعٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يُصَدِّقُونَ بِالسَّاعَةِ وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهَا فَهُمْ مُتَمَادُونَ عَلَى ضَلَالِهِمْ لَا تُقْنِعُهُمُ الْحُجَجُ.
وَالسَّاعَةُ: اسْمٌ غَلَبَ عَلَى عَالَمِ الْخُلُودِ، تَسْمِيَةً بِاسْمِ مَبْدَئِهِ وَهُوَ سَاعَةُ الْبَعْثِ. وَإِنَّمَا قَصَرَ تَكْذِيبَهُمْ عَلَى السَّاعَةِ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ فَهُمْ بِمَا وَرَاءَهُ أَحْرَى تَكْذِيبًا.
وَجُمْلَةُ: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً مُعْتَرِضَةٌ بِالْوَعِيدِ لَهُمْ، وَهُوَ لِعُمُومِهِ يَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ، فَهُوَ تَذْيِيلٌ. وَمِنْ غَرَضِهِ مُقَابَلَةُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْعَاقِبَةِ بِمَا أَعَدَّهُ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَالسَّعِيرُ: الِالْتِهَابُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَسْعُورٌ، أَيْ زِيدَ فِيهَا الْوَقُودُ، وَهُوَ مُعَامَلٌ مُعَامَلَةَ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْوَالِ اللَّهَبِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٩٧]. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى جَهَنَّمَ وَذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَات سعير.
[١٢- ١٤]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٤]
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤)
تَخَلَّصَ مِنَ الْيَأْسِ مِنِ اقْتِنَاعِهِمْ إِلَى وَصْفِ السَّعِيرِ الَّذِي أُعِدَّ لَهُمْ، وَأُجْرِيَ عَلَى السَّعِيرِ ضَمِيرُ رَأَتْهُمْ بِالتَّأْنِيثِ لِتَأْوِيلِ السَّعِيرِ بِجَهَنَّمَ إِذْ هُوَ عَلَمٌ عَلَيْهَا بِالْغَلَبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَإِسْنَادُ الرُّؤْيَةِ إِلَى النَّارِ اسْتِعَارَةٌ وَالْمَعْنَى: إِذَا سِيقُوا إِلَيْهَا فَكَانُوا مِنَ النَّارِ بِمَكَانٍ مَا يَرَى الرَّائِي مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا مِنْ مَكَانٍ
332
بَعِيدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى:
رَأَتْهُمْ رَآهُمْ مَلَائِكَتُهَا أَطْلَقُوا مَنَافِذَهَا فَانْطَلَقَتْ أَلْسِنَتُهَا بِأَصْوَاتِ اللَّهِيبِ كَأَصْوَاتِ الْمُتَغَيِّظِ وَزَفِيرِهِ فَيَكُونُ إِسْنَادُ الرُّؤْيَةِ إِلَى جَهَنَّمَ مَجَازًا عَقْلِيًّا.
وَالتَّغَيُّظُ: شِدَّةُ الْغَيْظِ. وَالْغَيْظُ: الْغَضَبُ الشَّدِيدُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١١٩]. فَصِيغَةُ التَّفَعُّلِ هُنَا الْمَوْضُوعَةُ فِي الْأَصْلِ لِتَكَلُّفِ الْفِعْلِ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي قُوَّتِهِ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّفَ لِفِعْلٍ يَأْتِي بِهِ كَأَشَدِّ مَا يَكُونُ.
وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا صَوْتُ الْمُتَغَيِّظِ، بِقَرِينَةِ تَعَلُّقِهِ بِفِعْلِ: سَمِعُوا فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ.
وَالزَّفِيرُ: امْتِدَادُ النَّفَسِ مِنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ وَضِيقِ الصَّدْرِ، أَيْ صَوْتًا كَالزَّفِيرِ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أَيْضًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ خَلَقَ لِجَهَنَّمَ إِدْرَاكًا لِلْمَرْئِيَّاتِ بِحَيْثُ تَشْتَدُّ أَحْوَالُهَا عِنْدَ انْطِبَاعِ الْمَرْئِيَّاتِ فِيهَا فَتَضْطَرِبُ وَتَفِيضُ وَتَتَهَيَّأُ لِالْتِهَامِ بَعْثِهَا فَتَحْصُلُ مِنْهَا أَصْوَاتُ التَّغَيُّظِ وَالزَّفِيرِ فَيَكُونُ إِسْنَادُ الرُّؤْيَةِ وَالتَّغَيُّظِ وَالزَّفِيرِ حَقِيقَةً، وَأُمُورُ الْعَالَمِ الْأُخْرَى لَا تُقَاسُ عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي الدُّنْيَا.
وَعَلَى هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: ٣٠]،
وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الصَّيْفِ وَنَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ» رَوَاهُ فِي «الْمُوَطَّأِ» : زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «فَمَا تَرَوْنَ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ فَذَلِكَ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا وَمَا تَرَوْنَ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ فَهُوَ مِنْ سَمُومِهَا»
. وَجُعِلَ إِزْجَاؤُهُمْ إِلَى النَّارِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ زِيَادَة فِي الْكِنَايَة بِهِمْ لِأَنَّ بُعْدَ الْمَكَانِ يَقْتَضِي زِيَادَةَ الْمَشَقَّةِ إِلَى الْوُصُولِ وَيَقْتَضِي طُولَ الرُّعْبِ مِمَّا سَمِعُوا.
وَوَصَفَ وُصُولَهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ وَوَضْعَهُمْ فِيهَا بِقَوْلِهِ: وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً فَصِيغَ نَظْمُهُ فِي صُورَةِ تَوْصِيفِ ضَجِيجِ أَهْلِ النَّارِ مِنْ قَوْلِهِ: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً، وَأَدْمَجَ فِي خِلَالِ
333
ذَلِكَ وَصْفَ دَاخِلِ جَهَنَّمَ وَوَصْفَ وَضْعِ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: مَكاناً ضَيِّقاً وَقَوْلِهِ: مُقَرَّنِينَ تَفَنُّنًا فِي أُسْلُوبِ الْكَلَامِ.
وَالْإِلْقَاءُ: الرَّمْيُ. وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِهَانَةِ.
وَانْتَصَبَ مَكاناً عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ضَيِّقاً بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ضَيِّقاً بِسُكُونِ الْيَاءِ وَكِلَاهُمَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ مِثْلُ: مَيِّتٍ وَمَيْتٍ، لِأَنَّ الضَّيِّقَ بِالتَّشْدِيدِ صِيغَةُ تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنَ الْمَوْصُوفِ، وَالضَّيْقَ بِالسُّكُونِ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ.
ومُقَرَّنِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ أُلْقُوا أَيْ مُقَرَّنًا بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ كَحَالِ الْأَسْرَى وَالْمَسَاجِينِ أَنْ يُقْرَنَ عَدَدٌ مِنْهُمْ فِي وِثَاقٍ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ [ص: ٣٨]. وَالْمُقَرَّنُ: الْمَقْرُونُ، صِيغَتْ لَهُ مَادَّةُ التَّفْعِيلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى شِدَّةِ الْقَرْنِ.
وَالدُّعَاءُ: النِّدَاءُ بِأَعْلَى الصَّوْتِ، وَالثُّبُورُ: الْهَلَاكُ، أَيْ نَادَوْا: يَا ثبورنا، أَو وَا ثبوراه بِصِيغَةِ النُّدْبَةِ، وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَالنِّدَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَنِّي، أَيْ تَمَنَّوْا حُلُولَ الْهَلَاكِ فَنَادَوْهُ كَمَا يُنَادَى مَنْ يُطْلَبُ حُضُورُهُ، أَوْ نَدَبُوهُ كَمَا يُنْدَبُ مَنْ يُتَحَسَّرُ عَلَى فَقْدِهِ، أَيْ تَمَنَّوُا الْهَلَاكَ لِلِاسْتِرَاحَةِ مِنْ فَظِيعِ الْعَذَابِ.
وَجُمْلَةُ: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً إِلَى آخِرِهَا مَقُولَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ، وَوصف الثبور با لكثير إِمَّا لِكَثْرَةِ نِدَائِهِ بِالتَّكْرِيرِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ حُصُولِ الثُّبُورِ لِأَنَّ انْتِهَاءَ النِّدَاءِ يَكُونُ بِحُضُورِ الْمُنَادَى، أَوْ هُوَ يَأْسٌ يَقْتَضِي تَكْرِيرَ التَّمَنِّي أَو التحسر.
[١٥، ١٦]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً
334
(١٦)
الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ يَقْتَضِي مُخَاطَبًا مَقُولًا لَهُ ذَلِكَ: فَيَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ: قُلْ لَهُمْ، أَيْ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْوَعِيدَ وَالتَّهْدِيدَ السَّابِقَ: «أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمِ الْجَنَّةُ» ؟ فَالْجُمَلُ مُتَّصِلَةُ السِّيَاقِ، وَالِاسْتِفْهَامُ حِينَئِذٍ لِلتَّهَكُّمِ إِذْ لَا شُبْهَةَ فِي كَوْنِ الْجَنَّةِ الْمَوْصُوفَةِ خَيْرًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ آيَاتِ الْوَعِيدِ لِمُنَاسَبَةِ إِبْدَاءِ الْبَوْنِ بَيْنَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَحَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالِاسْتِفْهَامُ حِينَئِذٍ مُسْتَعْمل فِي التلميح وَالتَّلَطُّفِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ:
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٦٢].
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَكَانِ الضَّيِّقِ فِي جَهَنَّمَ.
وخَيْرٌ اسْمُ تَفْضِيلٍ، وَأَصْلُهُ (أَخْيَرُ) بِوَزْنِ اسْمِ التَّفْضِيلِ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَالتَّفْضِيلُ عَلَى الْمَحْمِلِ الْأَوَّلِ فِي مَوْقِعِ الْآيَةِ مُسْتَعْمَلٌ لِلتَّهَكُّمِ بِالْمُشْرِكِينَ.
وَعَلَى الْمَحْمِلِ الثَّانِي مُسْتَعْمَلٌ لِلتَّمْلِيحِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِظْهَارِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَوَصْفُ الْمَوْعُودِينَ بِأَنَّهُمْ مُتَّقُونَ عَلَى الْمَحْمِلِ الْأَوَّلِ جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَعَلَى الْمَحْمِلِ الثَّانِي جَارٍ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِر أَن يُؤْتى بِضَمِيرِ الْخِطَابِ، فَوَجْهُ الْعُدُولِ إِلَى الْإِظْهَارِ مَا يُفِيدُهُ الْمُتَّقُونَ مِنَ الْعُمُومِ لِلْمُخَاطَبِينَ وَمَنْ
يَجِيءُ بَعْدَهُمْ.
وَجُمْلَةُ: كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ: جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْجَنَّةِ بِتَنْكِيرِ جَزاءً وَمَصِيراً مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُمْ وُعِدُوا بِهَا وَعْدَ مُجَازَاةٍ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً [الْكَهْف: ٣١] وَقَوله:
بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٣١- ٢٩].
وَجُمْلَةُ: لَهُمْ فِيها مَا يَشاؤُنَ، حَالٌ مِنْ جَنَّةُ الْخُلْدِ أَوْ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ. وَجُمْلَةُ:
كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا حَالٌ ثَانِيَةٌ وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَعْدًا لَهُمْ.
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي: كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً عَائِدٌ إِمَّا إِلَى الْوَعْدِ الْمَفْهُومِ
335
مِنْ قَوْلِهِ:
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، أَيْ كَانَ الْوَعْد وَعدا مسؤولا وَأَخْبَرَ عَنِ الْوَعْدِ بِ وَعْداً وَهُوَ عَيْنُهُ ليبنى عَلَيْهِ مَسْؤُلًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ إِلَى مَا يَشاؤُنَ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِ وَعْداً مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ وَالْمُرَادُ الْمَفْعُولُ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ.
وَيَتَعَلَّقُ: عَلى رَبِّكَ بِ وَعْداً لِتَضْمِينِ وَعْداً مَعْنَى (حَقًّا) لِإِفَادَةِ أَنَّهُ وَعْداً لَا يُخْلَفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٤].
وَالْمَسْئُولُ: الَّذِي يَسْأَلُهُ مُسْتَحِقُّهُ وَيُطَالِبُ بِهِ، أَيْ حَقًّا لِلْمُتَّقِينَ أَنْ يَتَرَقَّبُوا حُصُولَهُ كَأَنَّهُ أَجْرٌ لَهُمْ عَنْ عَمَلٍ. وَهَذَا مَسُوقٌ مَسَاقَ الْمُبَالَغَةِ فِي تَحْقِيقِ الْوَعْدِ وَالْكَرَمِ كَمَا يَشْكُرُكَ شَاكِرٌ عَلَى إِحْسَانٍ فَتَقُولُ: مَا أَتَيْتُ إِلَّا وَاجِبًا، إِذْ لَا يَتَبَادَرُ هُنَا غَيْرُ هَذَا الْمَعْنَى، إِذْ لَا مَعْنَى لِلْوُجُوبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى سِوَى أَنَّهُ تَفَضُّلٌ وَتَعَهُّدٌ بِهِ، وَلَا يَخْتَلِفُ فِي هَذَا أَهْلُ الْمِلَّةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ إخلاف الْوَعْد.
[١٧، ١٨]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ١٧ إِلَى ١٨]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨)
عُطِفَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ إِمَّا عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ [الْفرْقَان: ١٥] إِنْ كَانَ الْمُرَادُ: قُلْ لِلْمُشْرِكِينَ، أَوْ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً [الْفرْقَان:
١١] عَلَى جَوَازِ أَنَّ الْمُرَادَ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَانْتِصَابُ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ
336
مَعْلُومٍ فِي سِيَاقِ أَمْثَالِهِ، تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِأَنَّهُ لَمَّا تَوَعَّدَهُمْ بِالسَّعِيرِ وَمَا يُلَاقُونَ مِنْ هَوْلِهَا بَيَّنَ لَهُمْ حَالَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ وَهُوَ حَالُهُمْ فِي الْحَشْرِ مَعَ أَصْنَامِهِمْ. وَهَذَا مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْهَوْلِ لَهُمْ فِي الْمَحْشَرِ إِذْ يُشَاهِدُونَ خَيْبَةَ آمَالِهِمْ فِي آلِهَتِهِمْ إِذْ يَرَوْنَ حَقَارَتَهَا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَتَبَرُّؤَهَا مِنْ عُبَّادِهَا وَشَهَادَتَهَا عَلَيْهِمْ بِكُفْرَانِهِمْ نِعْمَةَ اللَّهِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ، وَإِذْ يَسْمَعُونَ تَكْذِيبَ مَنْ عَبَدُوهُمْ مِنَ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْجِنِّ وَنَسَبُوا إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَمَرُوهُمْ بِالضَّلَالَاتِ.
وَعُمُومُ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما يَعْبُدُونَ شَامِلٌ لِأَصْنَافِ الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي عَبَدُوهَا وَلِذَلِكَ أُوثِرَتْ (مَا) الْمَوْصُولَةُ لِأَنَّهَا تَصْدُقُ عَلَى الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ. عَلَى أَنَّ التَّغْلِيبَ هُنَا لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ. وَالْخِطَابُ فِي أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ لِلْعُقَلَاءِ بِقَرِينَةِ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ.
فَجُمْلَةُ: قالُوا سُبْحانَكَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ، فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَحْشُرُهُمْ بِالنُّونِ وَيَقُول بِالْيَاءِ فَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوب يَحْشُرُهُمْ وفَيَقُولُ لَهما بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ نَحْشُرُهُمْ وَنَقُولُ كِلَيْهِمَا بِالنُّونِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ لِلِاسْتِنْطَاقِ وَالِاسْتِشْهَادِ. وَالْمَعْنَى: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمُوهُمْ أَمْ ضَلُّوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ دُونَ تَضْلِيلٍ مِنْكُمْ. فَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ.
وَأَخْبَرَ بِفِعْلِ: أَضْلَلْتُمْ عَنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ الْمُنْفَصِلِ وَبِفِعْلِ ضَلُّوا عَنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِينَ الْمُنْفَصِلِ لِيُفِيدَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمَا عَلَى الْخَبَرَيْنِ الْفِعْلِيَّيْنِ تَقَوِّي الْحُكْمِ الْمُقَرَّرِ بِهِ لِإِشْعَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا مَنَاصَ لَهُمْ مِنَ الْإِقْرَارِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَأَنَّ أَحَدَهُمْ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ لَا مَحَالَةَ. فَالْمَقْصُودُ بِالتَّقْوِيَةِ هُوَ مُعَادِلُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ: أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ.
337
وَالْمُجِيبُونَ هُمُ الْعُقَلَاءُ مِنَ الْمَعْبُودِينَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقَوْلُهُمْ: سُبْحانَكَ كَلِمَةُ تَنْزِيهٍ كُنِّيَ بِهَا عَنِ التَّعَجُّبِ مِنْ قَوْلٍ فَظِيعٍ. كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
قَدْ قُلْتُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ
وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النُّورِ [١٦] : سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ ضَمِيرِ
نَحْشُرُهُمْ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَرَّعَتْهُمُ الْآيَةُ بِالْوَعِيدِ وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ إِلَى قَوْله: مَسْحُوراً [الْفرْقَان: ٧، ٨] لَكِنْ مَا يَقْتَضِيهِ وَصْفُهُمْ بِ الظَّالِمُونَ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ:
لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ [الْفرْقَان: ١١] مِنْ شُمُولِ كُلِّ مَنْ تَحَقَّقَ فِيهِ مَضْمُونُ الصِّلَةِ، كُلُّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ نَحْشُرُهُمْ عَائِدًا إِلَى لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ فَيَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ الْمَوْجُودِينَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ وَمَنِ انْقَرَضَ مِنْهُمْ بَعْدَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَمَنْ سَيَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَوَصْفُ الْعِبَادِ هُنَا تَسْجِيلٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْعُبُودِيَّةِ وَتَعْرِيضٌ بِكُفْرَانِهِمْ حَقَّهَا.
وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِمْ لِتَمْيِيزِهِمْ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْعِبَادِ.
وَهَذَا أَصْلٌ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى عَيْنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَدَى الْقَاضِي.
وَإِسْنَادُ الْقَوْلِ إِلَى مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ فِي الْأَصْنَامِ نُطْقًا يَسْمَعُهُ عَبَدَتُهَا، أَمَّا غَيْرُ الْأَصْنَامِ مِمَّنْ عُبِدَ مِنَ الْعُقَلَاءِ فَالْقَوْلُ فِيهِمْ ظَاهِرٌ.
وَإِعَادَةُ فِعْلِ ضَلُّوا فِي قَوْلِهِ: أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ لِيَجْرِيَ عَلَى ضَمِيرِهِمْ مُسْنَدٌ فِعْلِيٌّ فَيُفِيدُ التَّقَوِّيَ فِي نِسْبَةِ الضَّلَالِ إِلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَمْ هُمْ ضَلُّوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ دُونَ تَضْلِيلٍ مِنْكُمْ. وَحَقُّ الْفِعْلِ أَنْ يُعَدَّى بِ (عَنْ) وَلَكِنَّهُ عُدِّيَ بِنَفْسِهِ لتَضَمّنه معنى (أخطؤوا)، أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ.
وسُبْحانَكَ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي مَقَامِ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنْ أَنْ يَدَّعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مُشَارَكَتَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ.
338
وَمَعْنَى: مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا مَا يُطَاوِعُنَا طَلَبُ أَنْ نَتَّخِذَ عَبَدَةً لِأَنَّ (انْبَغَى) مُطَاوِعُ (بَغَاهُ) إِذَا طَلَبَهُ. فَالْمَعْنَى: لَا يُمْكِنُ لَنَا اتِّخَاذُنَا أَوْلِيَاءَ، أَيْ عِبَادًا، قَالَ تَعَالَى: وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: ٣٥]. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٩٢]. وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ طَلَبِهِمْ هَذَا الِاتِّخَاذَ انْتِفَاءً شَدِيدًا، أَيْ نَتَبَرَّأُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ نَفْيَ (كَانَ) وَجَعْلَ الْمَطْلُوبِ نَفْيُهُ خَبَرًا عَنْ (كَانَ) أَقْوَى فِي النَّفْيِ وَلِذَلِكَ يُسَمَّى جُحُودًا. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ فَائِدَتِهِ، أَيْ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَنَا فَكَيْفَ نُحَاوِلُهُ.
(وَمن) فِي قَوْلِهِ: مِنْ دُونِكَ لِلِابْتِدَاءِ لِأَنَّ أَصْلَ (دُونَ) أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ، وَيُقَدَّرُ
مُضَافٌ مَحْذُوفٌ يُضَافُ إِلَيْهِ (دُونَ) نَحْوُ: جَلَسْتُ دُونَ، أَيْ دُونَ مَكَانِهِ، فَمَوْقِعُ (مِنْ) هُنَا مَوْقِعُ الْحَالِ مِنْ أَوْلِياءَ. وَأَصْلُهَا صِفَةٌ لِ أَوْلِياءَ فَلَمَّا قُدِّمَتِ الصِّفَةُ عَلَى الْمَوْصُوفِ صَارَتْ حَالًا. وَالْمَعْنَى: لَا نَتَّخِذُ أَوْلِيَاءَ لَنَا مَوْصُوفِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ جَانِبٍ دُونَ جَانِبِكَ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَعْتَرِفُونَ لَكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَهُمْ يُشْرِكُونَ مَعَكَ فِي الْإِلَهِيَّةِ.
وَعَنِ ابْنِ جِنِّيٍّ: أَنَّ (مِنْ) هُنَا زَائِدَةٌ. وَأَجَازَ زِيَادَةَ (مِنْ) فِي الْمَفْعُولِ.
و (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَوْلِياءَ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ عُمُومِ النَّفْيِ، أَيِ اسْتِغْرَاقِهِ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ.
وَالْأَوْلِيَاءُ: جَمْعُ الْوَلِيِّ بِمَعْنَى التَّابِعِ فِي الْوَلَاءِ فَإِنَّ الْوَلِيَّ يُرَادِفُ الْمَوْلَى فَيَصْدُقُ عَلَى كِلَا طَرَفَيِ الْوَلَاءِ، أَيْ عَلَى السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ، أَوِ النَّاصِرِ وَالْمَنْصُورِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْوَلِيُّ التَّابِعُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٤٥]، أَيْ لَا نَطْلُبُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا عَابِدِينَ لَنَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَتَّخِذَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ نَتَّخِذَ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ أَنْ يَتَّخِذَنَا النَّاسُ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ مِنْ دُونِكَ. فَمَوْقِعُ مِنْ دُونِكَ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ نَتَّخِذَ. وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: أَنهم يتبرّؤون مِنْ أَنْ يَدْعُوا النَّاسَ لِعِبَادَتِهِمْ، وَهَذَا تَسْفِيهٌ لِلَّذِينَ عَبَدُوهُمْ
339
وَنَسَبُوا إِلَيْهِمْ مُوَالَاتَهُمْ. وَالْمَعْنَى لَا نَتَّخِذُ مَنْ يُوَالِينَا دُونَكَ، أَيْ مَنْ يَعْبُدُنَا دُونَكَ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ الَّذِي أَفَادَهُ (لَكِن) ناشىء عَن التبري مِنْ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُضِلِّينَ لَهُمْ بِتَعْقِيبِهِ بِبَيَانِ سَبَبِ ضَلَالِهِمْ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ تَبْرِئَةَ أَنْفُسِهِمْ مِنْ إِضْلَالِهِمْ يَرْفَعُ تَبِعَةَ الضَّلَالِ عَنِ الضَّالِّينَ. وَالْمَقْصُودُ بِالِاسْتِدْرَاكِ مَا بَعْدَ (حَتَّى) وَهُوَ نَسُوا الذِّكْرَ. وَأَمَّا مَا قَبْلَهَا فَقَدْ أُدْمِجَ بَيْنَ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ وَمَدْخُولِهِ مَا يُسَجِّلُ عَلَيْهِمْ فَظَاعَةَ ضَلَالِهِمْ بِأَنَّهُمْ قَابَلُوا رَحْمَةَ اللَّهِ وَنِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى آبَائِهِمْ بِالْكُفْرَانِ، فَالْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ مَتَّعَ الضَّالِّينَ وَآبَاءَهُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِسَعَةِ الرَّحْمَةِ، وَفِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مُقَابَلَةَ النِّعْمَةِ بِالْكُفْرَانِ غَضَبًا عَلَيْهِمْ.
وَجَعَلَ نِسْيَانَهُمُ الذِّكْرَ غَايَةً لِلتَّمْتِيعِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّمْتِيعَ أَفْضَى إِلَى الْكُفْرَانِ لِخُبْثِ نُفُوسِهِمْ فَهُوَ كَجَوْدٍ فِي أَرْضٍ سَبِخَةٍ قَالَ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: ٨٢].
وَالتَّعَرُّضُ إِلَى تَمْتِيعِ آبَائِهِمْ هُنَا مَعَ أَنَّ نِسْيَانَ الذِّكْرِ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ وَنَسُوا الذِّكْرَ، أَيْ الْقُرْآنَ، هُوَ زِيَادَةُ تَعْظِيمِ نِعْمَةِ التَّمْتِيعِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهَا نِعْمَةٌ مُتَأَثِّلَةٌ تَلِيدَةٌ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ قَدِ انْجَرَّ لَهُمْ مِنْ آبَائِهِمُ الَّذِينَ سَنُّوا لَهُمْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ. فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِشَنَاعَةِ الْإِشْرَاكِ وَلَوْ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ ضَمِيرَ نَسُوا وَضَمِيرَ كانُوا عَائِدَانِ إِلَى الظَّالِمِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْإِسْلَامِ دُونَ آبَائِهِمْ لِأَنَّ الْآبَاءَ لَمْ يَسْمَعُوا الذِّكْرَ.
وَالنِّسْيَانُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ عَمْدٍ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّهُ إِعْرَاضٌ يُشْبِهُ النِّسْيَانَ فِي كَوْنِهِ عَنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ وَلَا بَصِيرَةٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤١].
وَالذِّكْرُ: الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ يَتَذَكَّرُ بِهِ الْحَقَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
340
وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٦].
وَالْبُورُ: جَمْعُ بَائِرٍ كَالْعُوذِ جَمْعِ عَائِذٍ، وَالْبَائِرُ: هُوَ الَّذِي أَصَابَهُ الْبَوَارُ، أَيِ الْهَلَاكُ.
وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ [إِبْرَاهِيم: ٢٨] أَيِ الْمَوْتِ. وَقَدِ اسْتُعِيرَ الْبَوْرُ لِشِدَّةِ سُوءِ الْحَالَةِ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ الَّذِي يَعُدُّ الْهَلَاكَ آخِرَ مَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ الْحَيُّ مِنْ سُوءِ الْحَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ [التَّوْبَة: ٤٢]، أَيْ سُوءُ حَالِهِمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ. وَقِيلَ: الْبَوَارُ الْفَسَادُ فِي لُغَةِ الْأَزْدِ وَأَنَّهُ وَمَا اشْتُقَّ مِنْهُ مِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ لُغَةِ مُضَرَ.
وَاجْتِلَابُ فِعْلِ (كَانَ) وَبِنَاءُ بُوراً عَلَى قَوْماً دُونَ أَنْ يُقَالَ: حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَبَارُوا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْبَوَارِ مِنْهُمْ بِمَا تَقْتَضِيهِ (كَانَ) مَنْ تَمَكُّنِ مَعْنَى الْخَبَرِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ (قَوْمًا) مِنْ كَوْنِ الْبَوَارِ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
[١٩]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ١٩]
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً.
الْفَاءُ فَصِيحَةٌ، أَيْ إِفْصَاحٌ عَنْ حُجَّةٍ بَعْدَ تَهْيِئَةِ مَا يَقْتَضِيهَا، وَهُوَ إِفْصَاحٌ رَائِعٌ وَزَادَهُ
الِالْتِفَاتُ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبُوكُمْ.
وَفِي الْكَلَامِ حَذْفُ فِعْلِ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ قُلْتُمْ هَؤُلَاءِ آلِهَتُنَا فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ، وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ:
قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا
أَيْ إِنْ قُلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَ. وَفِي حَذْفِ فِعْلِ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِحْضَارٌ لِصُورَةِ الْمَقَامِ كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ غَيْرُ مَحْكِيٍّ وَكَأَنَّ السَّامِعَ آخِرَ الْآيَةِ قَدْ سَمِعَ لِهَذِهِ الْمُحَاوَرَةِ مُبَاشَرَةً دُونَ حِكَايَةٍ فَقَرَعَ سَمْعَهُ شَهَادَةُ الْأَصْنَامِ عَلَيْهِمْ
ثُمَّ قَرَعَ سَمْعَهُ تُوَجُّهُ خِطَابِ التَّكْذِيبِ إِلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ تَفَنُّنٌ بَدِيعٌ فِي الْحِكَايَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى تَخْيِيلِ الْمَحْكِيِّ وَاقِعًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [الْقَمَر: ٤٨]. فَجُمْلَةُ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ هُوَ إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الْحَاضِرِينَ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الِالْتِفَاتِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ بَعْدَ قَوْلِهِ: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [يُوسُف: ٢٩].
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما تَقُولُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ كَذَّبُوكُمْ تَكْذِيبًا وَاقِعًا فِيمَا تَقُولُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ كَذَّبُوكُمْ بِسَبَبِ مَا تَقُولُونَ.
و (مَا) مَوْصُولَةٌ. وَالَّذِي قَالُوهُ هُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُمْ دَعَوْهُمْ إِلَى أَنْ يَعْبُدُوهُمْ.
وَفُرِّعَ عَلَى الْإِعْلَانِ بِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُمْ تَأْيِيسُهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ إِذْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا، أَيْ صَرْفَ ضُرٍّ عَنْهُمْ، وَلَا نَصْرًا، أَيْ إِلْحَاقَ ضُرٍّ بِمَنْ يَغْلِبُهُمْ. وَوَجْهُ التَّفْرِيعِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلهم سُبْحانَكَ [الْفرْقَان: ١٨] الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّهُمْ فِي مَوْقِفِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَسْتَطِيعُونَ بِيَاءِ الْغَائِبِ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً.
تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ يَشْمَلُ عُمُومُهُ جَمِيعَ النَّاسِ، وَيَكُونُ خِطَابُ مِنْكُمْ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ.
وَيُفِيدُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ مُعَذَّبُونَ عَذَابًا كَبِيرًا: وَالْعَذَابُ الْكَبِيرُ هُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ.
[٢٠]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٢٠]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠)
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ.
342
هَذَا رَدٌّ على قَوْلهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان:
٧] بَعْدَ أَنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها [الْفرْقَان: ٨] بِقَوْلِهِ:
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ [الْفرْقَان: ١٠]، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُمْ: أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ حَالَةً لَمْ تُعْطَ للرسل فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا كَانَ رَدُّ قَوْلِهِمْ فِيهَا بِأَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ.
وَأما قَوْلهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ فَقَدْ تَوَسَّلُوا بِهِ إِلَى إِبْطَالِ رِسَالَتِهِ بِثُبُوتِ صِفَاتِ الْبَشَرِ لَهُ، فَكَانَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِصِفَاتِ الْبَشَرِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ مُنْكِرِينَ وُجُودَ رُسُلٍ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ قَالُوا:
فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥]، وَإِذ كَانُوا مَوْجُودِينَ فَبِالضَّرُورَةِ كَانُوا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ إِذْ هُمْ مِنَ الْبَشَرِ وَيَمْشُونَ فِي أَسْوَاقِ الْمُدُنِ وَالْبَادِيَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ تَكُونُ فِي مَجَامِع النَّاسِ. وَقَدْ قَالَ مُوسَى مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه: ٥٩]. وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو قُرَيْشًا فِي مَجَامِعِهِمْ وَنَوَادِيهِمْ وَيَدْعُو سَائِرَ الْعَرَبِ فِي عُكَاظٍ وَفِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ.
وَجُمْلَةُ: لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عُمُومُ الْأَحْوَالِ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فِي حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ.
وَالتَّوْكِيدُ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ لِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْحَالِ تَنْزِيلًا لِلْمُشْرِكِينَ فِي تَنَاسِيهِمْ أَحْوَالَ الرُّسُلِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ الرُّسُلُ السَّابِقُونَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ. وَلَمْ تَقْتَرِنْ جُمْلَةُ الْحَالِ بِالْوَاوِ لِأَنَّ وُجُودَ أَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ كَافٍ فِي الرَّبْطِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ تَأَكَّدَ الرَّبْطُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ فَلَا يُزَادُ حَرْفٌ آخَرُ فَيَتَوَالَى أَرْبَعَةُ حُرُوفٍ وَهِيَ: إِلَّا، وَإِنَّ، وَاللَّامُ، وَيُزَادُ الْوَاوُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الْحجر: ٤]، وَقَوْلِهِ:
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشُّعَرَاء: ٢٠٨].
وَإِنَّمَا أَبْقَى اللَّهُ الرُّسُلَ عَلَى الْحَالَةِ الْمُعْتَادَةِ لِلْبَشَرِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أَسْبَابِ الْحَيَاةِ الْمَادِّيَّةِ إِذْ لَا حِكْمَةَ فِي تَغْيِيرِ حَالِهِمْ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُغَيِّرُ اللَّهُ حَيَاتَهُمُ
343
النَّفْسِيَّةَ لِأَنَّ فِي تَغْيِيرِهَا
إِعْدَادَ نُفُوسِهِمْ لِتَلَقِّي الْفَيُوضَاتِ الْإِلَهِيَّةِ.
وَلِلَّهِ تَعَالَى حِفَاظٌ عَلَى نَوَامِيسِ نِظَامِ الْخَلَائِقِ وَالْعَوَالِمِ لِأَنَّهُ مَا خَلَقَهَا عَبَثًا فَهُوَ لَا يُغَيِّرُهَا إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَتُهُ مِنْ تَأْيِيدِ الرُّسُلِ بِالْمُعْجِزَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً.
تَذْيِيلٌ، فَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: بَعْضَكُمْ يَعُمُّ جَمِيعَ النَّاسِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ. وَكِلَا الْبَعْضَيْنِ مُبْهَمٌ يُبَيِّنُهُ الْمَقَامُ. وَحَالُ الْفِتْنَةِ فِي كِلَا الْبَعْضَيْنِ مُخْتَلِفٌ، فَبَعْضُهَا فِتْنَةٌ فِي الْعَقِيدَةِ، وَبَعْضُهَا فِتْنَةٌ فِي الْأَمْنِ، وَبَعْضُهَا فِتْنَةٌ فِي الْأَبْدَانِ.
وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِ فِتْنَةً مَجَازِيٌّ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْفِتْنَةِ، وَشَمِلَ أَحَدُ الْبَعْضَيْنِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ حَالُ الرَّسُولِ فِتْنَةً لِلْمُشْرِكِينَ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ حَالَهُ مُنَافٍ لِلرِّسَالَةِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَكَانَ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ فِي ضَعْفِهِمْ فِتْنَةً لِلْمُشْرِكِينَ إِذْ تَرَفَّعُوا عَنِ الْإِيمَانِ الَّذِي يُسَوِّيهِمْ بِهِمْ، فَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلٍ وَالْوَلِيدُ بن الْمُغيرَة والعاصي بْنُ وَائِلٍ وَأَضْرَابُهُمْ يَقُولُونَ: إِنْ أَسْلَمْنَا وَقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَصُهَيْبٌ وَبِلَالٌ تَرَفَّعُوا عَلَيْنَا إِدْلَالًا بِالسَّابِقَةِ. وَهَذَا كَقَوْلِ صَنَادِيدِ قَوْمِ نُوحٍ لَا نُؤْمِنُ حَتَّى تَطْرُدَ الَّذِينَ آمَنُوا بِكَ فَقَالَ:
وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [هود: ٢٩، ٣٠].
وَقَالَ تَعَالَى لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الْأَنْعَام: ٥٢، ٥٣].
344
وَالْكَلَامُ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِعْرَاضِ بَعْضِ قَوْمِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ:
أَتَصْبِرُونَ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحَثِّ وَالْأَمْرِ كَقَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [الْمَائِدَة:
٩١].
وَمَوْقِعُ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً مَوْقِعُ الْحَثِّ عَلَى الصَّبْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِالصَّابِرِينَ، وَإِيذَانٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ جَزَاءَ الرَّسُولِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ وَأَنَّهُ نَاصِرُهُ عَلَيْهِمْ.
وَفِي الْإِسْنَادِ إِلَى وَصْفِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ إِلْمَاعٌ إِلَى هَذَا الْوَعْدِ فَإِنَّ
الرَّبَّ لَا يُضَيِّعُ أَوْلِيَاءَهُ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحجر: ٩٧- ٩٩] أَيِ النَّصْر الْمُحَقق.
345

[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٢١]

وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١)
حِكَايَةُ مُقَالَةٍ أُخْرَى مِنْ مَقَالَاتِ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ عَنْوَنَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَعَنْوَنَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَقَالَاتِ السَّابِقَةِ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْفرْقَان: ٤] وب الظَّالِمُونَ [الْفرْقَان: ٨] لِأَنَّ بَيْنَ هَذَا الْوَصْفِ وَبَين مقالتهم انْتِقَاض، فهم قد كَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ بِمَا فِيهِ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَطَلَبُوا رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَنُزُولَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَرَادُوا تَلَقِّيَ الدِّينِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنَ اللَّهِ مُبَاشَرَةً، فَكَانَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ وَذِكْرِ وَصْفِهِمْ تَعْجِيبٌ مِنْ تَنَاقُضِ مَدَارِكِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ شَهِدُوا أَنْفُسُهُمْ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ وَتَوَهَّمُوا أَنَّ شُبْهَتَهُمْ فِي إِنْكَارِهِ أَقْوَى حُجَّةٍ لَهُمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَيْضًا جَعَلَ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ طَرِيقًا لِتَعْرِيفِهِمْ بِالْمَوْصُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ [١٥].
ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ وَالِاسْتِحَالَةِ، أَيْ هَلَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ فَنُؤْمِنُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، يَعْنُونَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا فَلْيَسْأَلْ مِنْ رَبِّهِ وَسِيلَةً أُخْرَى لِإِبْلَاغِ الدِّينِ إِلَيْهِمْ.
وَمَعْنَى: لَا يَرْجُونَ لَا يَظُنُّونَ ظَنًّا قَرِيبًا، أَيْ يَعُدُّونَ لِقَاءَ اللَّهِ مُحَالًا. وَمَقْصِدُهُمْ مِنْ مَقَالِهِمْ أَنَّهُمْ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَتَلَقَّوُا الدِّينَ مِنْ رَجُلٍ مِثْلِهِمْ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً عَلَى مَعْنَى التَّعْجِيبِ مِنَ ازْدِهَائِهِمْ وَغُرُورِهِمُ الْبَاطِلِ.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ جَوَابٍ عَنْ قَوْلِهِمْ. وَالتَّأْكِيدُ بِلَامِ الْقَسَمِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى التَّعْجِيبِ لِأَنَّ الْقَسَمَ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّعَجُّبِ كَقَوْلِ أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ أَوْ بَنِي نُمَيْرٍ أَنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ فِي «مَجَالِسِهِ» وَالْقَالِيُّ فِي «أَمَالِيهِ» :
أَلَا يَا سَنَا بَرْقٍ عَلَى قُلَلِ الْحِمَى لَهِنَّكَ مِنْ بَرْقٍ عَلَيَّ كَرِيمُ
فَإِنَّ قَوْلَهُ: مِنْ بَرْقٍ، فِي قُوَّةِ التَّمْيِيزِ وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّمْيِيزُ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّعَجُّبِ.
وَالِاسْتِكْبَارُ: مُبَالَغَةٌ فِي التَّكَبُّرِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ اسْتَجَابَ.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ شُبِّهَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالظُّرُوفِ فِي تَمَكُّنِ الْمَظْرُوفِ مِنْهَا، أَيْ هُوَ اسْتِكْبَارٌ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي لِلتَّعْلِيلِ كَمَا
فِي الْحَدِيثِ «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا»
الْحَدِيثَ، أَيِ اسْتَكْبَرُوا لِأَجْلِ عَظَمَةِ أَنْفُسِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ. وَلَيْسَتِ الظَّرْفِيَّةُ حَقِيقِيَّةً لِقِلَّةِ جَدْوَى ذَلِكَ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الِاسْتِكْبَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّفْسِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ النَّفْسِيَّةِ.
وَالْعُتُوُّ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فِي الْأَعْرَافِ [٧٧]. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا ظُلْمًا لِأَنَّهُمْ تَجَاوَزُوا مِقْدَارَ مَا خَوَّلَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْقَابِلِيَّةِ.
وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ النُّبُوءَةَ لَا تَكُونُ بِالِاكْتِسَابِ وَإِنَّمَا هِيَ إِعْدَادٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: ١٢٤].
[٢٢]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٢٢]
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢)
اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ جَوَابٌ عَنْ مَقَالَتِهِمْ، فَبَعْدَ إِبْدَاءِ التَّعْجِيبِ مِنْهَا عَقَّبَ بِوَعِيدٍ لَهُمْ، فِيهِ حُصُولُ بَعْضِ مَا طَلَبُوا حُصُولَهُ الْآنَ، أَيْ هُمْ سَيَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ وَلَكِنَّهَا رُؤْيَةٌ تَسُوءُهُمْ حِينَ يَرَوْنَ زَبَانِيَةَ الْعَذَابِ يَسُوقُونَهُمْ إِلَى النَّارِ، فَفِي هَذَا الِاسْتِئْنَاف تلميح وَتَهَكُّمٌ بِهِمْ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ مُطَمِّعٌ بِالِاسْتِجَابَةِ وَآخِرَهُ مُؤَيَّسٌ بِالْوَعِيدِ، فَالْكَلَامُ جَرَى
6
عَلَى طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ تَوَرُّكِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ إِبْلَاغُهُ لَهُمْ حِينَ يَسْمَعُونَهُ. وَانْتَصَبَ يَوْمَ يَرَوْنَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِ لَا بُشْرى. وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِإِثَارَةِ الطَّمَعِ وَلِلتَّشْوِيقِ إِلَى تَعْيِينِ إِبَّانِهِ حَتَّى إِذَا وَرَدَ مَا فِيهِ خَيْبَةُ طَمَعِهِمْ كَانَ لَهُ وَقْعُ الْكَآبَةِ عَلَى نُفُوسِهِمْ حِينَمَا يَسْمَعُونَهُ. وَإِعَادَةُ يَوْمَئِذٍ تَأْكِيدٌ.
وَذِكْرُ وَصْفِ الْمُجْرِمِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ بَعْدَ أَنْ وُصِفُوا بِالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْيَأْسِ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ. وَانْتِفَاءُ الْبُشْرَى مُسْتَعْمَلٌ فِي إِثْبَاتِ ضِدِّهِ وَهُوَ الْحُزْنُ.
وَ (حِجْرٌ) - بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَيُقَالُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَضَمِّهَا عَلَى النُّدْرَةِ- فَهِيَ
كَلِمَةٌ يَقُولُونَهَا عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يُخَافُ مِنْ إِصَابَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِعَاذَةِ. قَالَ الْخَلِيلُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ:
كَانَ الرَّجُلُ إِذَا رَأَى الرَّجُلَ الَّذِي يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَقْتُلَهُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ يَقُولُ لَهُ: حِجْراً مَحْجُوراً، أَيْ حَرَامٌ قَتْلِي، وَهِيَ عُوذَةٌ.
وَ (حِجْرٌ) مَصْدَرُ: حَجَرَهُ، إِذَا مَنَعَهُ، قَالَ تَعَالَى وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الْأَنْعَام: ١٣٨]، وَهُوَ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَازِمُ النَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمَنْصُوبِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ مِثْلُ: مَعَاذَ اللَّهِ، وَأَمَّا رَفْعُهُ فِي قَول الرّاجز:
قَالَت فِيهَا حَيْدَةٌ وَذُعْرُ عَوْذٌ بِرَبِّي مِنْكُمُ وَحِجْرُ
فَهُوَ تَصَرُّفٌ فِيهِ، وَلَعَلَّهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الرَّفْعَ فِي اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي هَذَا الْغَرَضِ وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الرَّاجِزُ. وَأَمَّا رَفْعُ (حِجْرٌ) فِي غَيْرِ حَالَةِ اسْتِعْمَالِهِ لِلتَّعَوُّذِ فَلَا مَانِعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مَنْصُوبًا لَا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً [الْفرْقَان: ٥٣]، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَفْعُولِ جَعَلَ وَسَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ قَرِيبًا.
ومَحْجُوراً وَصَفٌ لِ حِجْراً مُشْتَقٌّ مِنْ مَادَّتِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ كَمَا قَالُوا: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَذَيْلٌ ذَائِلٌ، وَشعر شَاعِر.
7

[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٢٣]

وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣)
كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعُدُّونَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مَجْلَبَةً لِخَيْرِ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى فَيُجَازِيهِمْ بِنِعَمٍ فِي الدُّنْيَا إِذَ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ،
وَقَدْ قَالَتْ خَدِيجَةُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَحَيَّرَ فِي أَمْرِ مَا بَدَأَهُ مِنَ الْوَحْيِ وَقَالَ لَهَا: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي»، فَقَالَتْ: «وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا. إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتُقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ»
. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِذَا سَمِعُوا آيَاتِ الْوَعِيدِ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: لَئِنْ كَانَ الْبَعْثُ حَقًّا لَنَجِدَنَّ أَعْمَالًا عَمِلْنَاهَا مِنَ الْبِرِّ تَكُونُ سَبَبًا لِنَجَاتِنَا، فَعَلِمَ اللَّهُ مَا فِي نُفُوسِهِمْ فَأَخْبَرَ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ تَكُونُ كَالْعَدَمِ يَوْمَئِذٍ.
وَالْقُدُومُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْعَمْدِ وَالْإِرَادَةِ، وَأَفْعَالُ الْمَشْيِ وَالْمَجِيءِ تَجِيءُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِمَعَانِي الْقَصْدِ وَالْعَزْمِ وَالشُّرُوعِ مِثْلُ: قَامَ يَفْعَلُ، وَذَهَبَ يَقُولُ، وَأَقْبَلَ، وَنَحْوِهَا. وأصل ذَلِك ناشىء عَنْ تَمْثِيلِ حَالِ الْعَامِدِ إِلَى فِعْلٍ بِاهْتِمَامٍ بِحَالِ مَنْ يَمْشِي إِلَيْهِ، فَمَوْقِعُهُ فِي الْكَلَامِ أَرْشَقُ مِنْ أَن يَقُول: وعمدنا أَوْ أَرَدْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ عَمَلٍ بَيَانِيَّةٌ لِإِبْهَامِ مَا وَتَنْكِيرُ عَمَلٍ لِلنَّوْعِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَمَلُ الْخَيْرِ، أَيْ إِلَى مَا عَمِلُوهُ مِنْ جِنْسِ عَمَلِ الْخَيْرِ.
وَالْهَبَاءُ: كَائِنَاتٌ جِسْمِيَّةٌ دَقِيقَةٌ لَا تُرَى إِلَّا فِي أَشِعَّةِ الشَّمْسِ الْمُنْحَصِرَةِ فِي كُوَّةٍ وَنَحْوِهَا، تَلُوحُ كَأَنَّهَا سَابِحَةٌ فِي الْهَوَاءِ وَهِيَ أَدَقُّ مِنَ الْغُبَارِ، أَيْ فَجَعَلْنَاهُ كَهَبَاءٍ مَنْثُورٍ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ لِأَعْمَالِهِمْ- فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا مَعَ كَوْنِهَا مَوْجُودَةً- بِالْهَبَاءِ فِي عَدَمِ إِمْسَاكِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَوْجُودًا، وَهَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ وَهُوَ هُنَا رَشِيقٌ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الْوَاقِعَة: ٥، ٦].
وَالْمَنْثُورُ: غَيْرُ الْمُنْتَظِمِ، وَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِأَنَّ الْهَبَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَنْثُورًا، فَذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا فِي الْهَبَاءِ مِنَ الْحَقَارَةِ وَمن التَّفَرُّق.
[٢٤]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٢٤]
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جِيءَ بِهِ لِمُقَابَلَةِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآخِرَةِ بِضِدِّهَا مِنْ حَالِ
أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ حَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْآخِرَةِ عُلِمَ أَنْ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فَتَعَيَّنَتِ الْجَنَّةُ لِغَيْرِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، إِذْ أَهْلُ مَكَّةَ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَرِيقَانِ: مُشْرِكُونَ ومُؤْمِنُونَ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ: الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ وَهُمْ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا.
وَالْخَيْرُ هُنَا: تَفْضِيلٌ، وَهُوَ تَهَكُّمٌ بِالْمُشْرِكِينَ، وَكَذَلِكَ أَحْسَنُ.
وَالْمُسْتَقَرُّ: مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ.
وَالْمَقِيلُ: الْمَكَان الَّذِي يؤوى إِلَيْهِ فِي الْقَيْلُولَةِ وَالِاسْتِرَاحَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ عَادَة المترفين.
[٢٥، ٢٦]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٢٥ إِلَى ٢٦]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ [الْفرْقَان: ٢٢]. وَالْمَقْصُودُ تَأْيِيسِهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِأَعْمَالِهِمْ وَبِآلِهَتِهِمْ وَتَأْكِيدُ وَعِيدِهِمْ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ وصف بعض شؤون ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَنَّهُ يَوْمُ تَنْزِيلِ الْمَلَائِكَةِ بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ.
وَأُعِيدَ لَفْظُ يَوْمَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَوْمًا وَاحِدًا لِبُعْدِ مَا بَيْنَ الْمَعَادِ وَمَكَانِ الضَّمِيرِ.
وَالتَّشَقُّقُ: التَّفَتُّحُ بَيْنَ أَجْزَاءٍ مُلْتَئِمَةٍ، وَمِنْهُ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: ١]. وَلَعَلَّهُ انْخِرَاقٌ يَحْصُلُ فِي كُوَرِ تِلْكَ الْعَوَالِمِ، وَالَّذين قَالُوا: السَّمَوَات لَا تَقْبَلُ الْخَرْقَ ثُمَّ الِالْتِئَامَ بَنَوْهُ عَلَى تَخَيُّلِهِمْ إِيَّاهَا كَقِبَابٍ مِنْ مَعَادِنَ صُلْبَةٍ، وَالْحُكَمَاءُ لَمْ يَصِلُوا إِلَى حَقِيقَتِهَا حَتَّى الْآنَ.
وَتَشَقُّقُ السَّمَاءِ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ تَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَعْنَاهُ زَوَالُ الْحَوَاجِزِ وَالْحُدُودِ الَّتِي كَانَتْ تَمْنَعُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ مُبَارَحَةِ سَمَاوَاتِهِمْ إِلَّا مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِذَلِكَ، فَاللَّامُ فِي الْمَلَائِكَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ بَيْنَ جَمْعِ الْمَلَائِكَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: يَوْمَ تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاء. قَالَ [تَعَالَى] : وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: ١٩] عَلَى أَنَّ التَّشَقُّقَ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى انْجِلَاءِ النُّورِ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
9
فَانْشَقَّ عَنْهَا عَمُودُ الصُّبْحِ جَافِلَةً عَدْوَ النَّحُوصِ تَخَافُ الْقَانِصَ اللَّحِمَا
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ هُنَالِكَ انْبِثَاقًا وَانْتِفَاقًا يُقَارِنُهُ نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الِانْشِقَاقَ إِذْنٌ لِلْمَلَائِكَةِ بِالْحُضُورِ إِلَى مَوْقِعِ الْحَشْرِ وَالْحِسَابِ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالتَّنْزِيلِ يَقْتَضِي أَن السَّمَوَات الَّتِي تَنْشَقُّ عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَعْلَى مِنْ مَكَانِ حُضُورِ الْمَلَائِكَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَشَقَّقُ بِتَشْدِيدِ الشِّينِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِتَخْفِيفِ الشِّينِ.
وَالْغَمَامُ: السَّحَابُ الرَّقِيقُ. وَهُوَ مَا يَغْشَى مَكَانَ الْحِسَابِ، قَالَ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٠].
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْغَمامِ قِيلَ بِمَعْنَى (عَنْ) أَيْ تَشَقَّقَ عَنْ غَمَامٍ يَحُفُّ بِالْمَلَائِكَةِ.
وَقِيلَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ يَكُونُ غَمَامٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِيهِ قُوَّةٌ تَنْشَقُّ بِهَا السَّمَاءُ لِيَنْزِلَ الْمَلَائِكَةُ مِثْلُ قُوَّةِ الْبَرْقِ الَّتِي تَشُقُّ السَّحَابَ. وَقِيلَ الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ تَشَقَّقُ مُلَابِسَةً لِغَمَامٍ يَظْهَرُ حِينَئِذٍ.
وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي مُقَارَنَةَ التَّشَقُّقِ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مُقَارَنَةَ الْغَمَام الْمَلَائِكَة، فَدَعِ الْفَهْمَ يَذْهَبْ فِي تَرْتِيبِ ذَلِكَ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ.
وَأَكَّدَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ نُزُولٌ بِالذَّاتِ لَا بِمُجَرَّدِ الِاتِّصَالِ النُّورَانِيِّ مِثْلِ الْخَوَاطِرِ الْمَلَكِيَّةِ الَّتِي تُشَعْشِعُ فِي نُفُوسِ أَهْلِ الْكَمَالِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَرَفْعِ الْمَلائِكَةُ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَنُنَزِّلُ بِنُونَيْنِ أُولَاهُمَا مَضْمُومَةٌ وَالثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ وَبِضَمِّ اللَّامِ وَنَصْبِ الْمَلائِكَةُ.
وَقَوْلُهُ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ هُوَ صَدْرُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ عَلَيْهِ لِلْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي تَقْدِيمِ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ [الْفرْقَان:
٢٢] وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَكْرِيرِ يَوْمَئِذٍ.
10
والْحَقُّ: الْخَالِصُ، كَقَوْلِكَ: هَذَا ذَهَبٌ حَقًّا. وَهُوَ الْمُلْكُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُمَاثِلُهُ مُلْكٌ، لِأَنَّ حَالَةَ الْمُلْكِ فِي الدُّنْيَا مُتَفَاوِتَةٌ. وَالْمُلْكُ الْكَامِلُ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ الْعُقُولَ قَدْ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى مَا فِي الْمُلُوكِ مِنْ نَقْصٍ وَعَجْزٍ وَتَبْهَرُهُمْ بَهْرَجَةُ تَصَرُّفَاتِهِمْ وَعَطَايَاهُمْ فَيَنْسَوْنَ الْحَقَائِقَ، فَأَمَّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَالْحَقَائِقُ مُنْكَشِفَةٌ وَلَيْسَ ثَمَّةَ مِنْ يَدَّعِي شَيْئًا مِنَ التَّصَرُّفِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ»
. وَوُصِفَ الْيَوْمُ بِعَسِيرٍ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ أُمُورٍ عَسِيرَةٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَتَقْدِيمُ عَلَى الْكافِرِينَ لِلْحَصْرِ. وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ دون الْمُؤمنِينَ.
[٢٧- ٢٩]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٩]
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩)
هَذَا هُوَ ذَلِكَ الْيَوْمُ أُعِيدَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ حَالٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ حَالِ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ الْمَقْصُودِ مِنَ الْآيَةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الظَّالِمُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ الشِّرْكُ فَيَعُمُّ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بَعْدَ ظُهُورِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا إِعْلَامًا بِمَا لَا تَخْلُو عَنْهُ مِنْ صُحْبَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَإِغْرَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى مُنَاوَاةِ الْإِسْلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ الْمَخْصُوصِ. وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ الِاعْتِدَاءُ الْخَاصُّ الْمَعْهُودُ مِنْ
قِصَّةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ قِصَّةُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَمَا أَغْرَاهُ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ: كَانَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ خَلِيلًا لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَكَانَ عُقْبَةُ لَا يَقْدُمُ مِنْ سَفَرٍ إِلَّا صَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا إِلَيْهِ أَشْرَافَ قَوْمِهِ، وَكَانَ يُكْثِرُ مُجَالَسَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمَ مِنْ بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَصَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] فَلَمَّا قَرَّبُوا الطَّعَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] :
مَا أَنَا بِآكِلٍ مِنْ طَعَامِكَ حَتَّى تَشْهَدَ أَنْ لَا
11
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ عُقْبَةُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ طَعَامِهِ. وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ غَائِبًا فَلَمَّا قَدِمَ أُخْبِرَ بِقَضِيَّتِهِ، فَقَالَ: صَبَأْتَ يَا عُقْبَةُ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا صَبَأْتُ وَلَكِنْ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِي حَتَّى أَشْهَدَ لَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِي وَلَمْ يَطْعَمْ، فَشَهِدْتُ لَهُ فَطَعِمَ، فَقَالَ أُبَيٌّ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَرْضَى عَنْكَ أَبَدًا إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُ فَتَبْصُقَ فِي وَجْهِهِ، فَكَفَرَ عُقْبَةُ وَأَخَذَ فِي امْتِثَالِ مَا أَمَرَهُ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ
، فَيَكُونُ المُرَاد ب (فلَان) الْكِنَايَةَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ فَخُصُوصُهُ يَقْتَضِي لِحَاقَ أَمْثَالِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَطَاعُوا أَخِلَّتَهُمْ فِي الشِّرْكِ وَلَمْ يَتَّبِعُوا سَبِيلَ الرَّسُولِ، وَلَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ خَلِيلٍ مُشْرِكٍ مِثْلِهِ يَصُدُّهُ عَنْ مُتَابَعَةِ الْإِسْلَامِ إِذا همّ بِهِ وَيُثَبِّتُهُ عَلَى دِينِ الشِّرْكِ فَيَتَنَدَّمُ يَوْمَ الْجَزَاءِ عَلَى طَاعَتِهِ وَيُذْكُرُهُ بِاسْمِهِ.
وَالْعَضُّ: الشَّدُّ بِالْأَسْنَانِ عَلَى الشَّيْءِ لِيُؤْلِمَهُ أَوْ لِيُمْسِكَهُ، وَحَقُّهُ التَّعْدِيَةُ بِنَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُ كَثُرَتْ تَعْدِيَتُهُ بِ عَلى لِإِفَادَةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْمَعْضُوضِ إِذَا قَصَدُوا عَضًّا شَدِيدًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْعَضُّ عَلَى الْيَدِ كِنَايَةٌ عَنِ النَّدَامَةِ لِأَنَّهُمْ تَعَارَفُوا فِي بَعْضِ أَغْرَاضِ الْكَلَامِ أَنْ يَصْحَبُوهَا بِحَرَكَاتٍ بِالْجَسَدِ مِثْلِ التَّشَذُّرِ، وَهُوَ رفع الْيَد عِنْد كَلَامِ الْغَضَبِ قَالَ، لَبِيدٌ:
غُلْبٌ تَشَذَّرُ بِالدَّخُولِ كَأَنَّهُمْ جِنُّ الْبَدِيِّ رَوَاسِيًا أَقْدَامُهَا
وَمِثْلِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ. قَالَ تَعَالَى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إِبْرَاهِيم: ٩]. وَمِنْهُ فِي النَّدَمِ قَرْعُ السِّنِّ بِالْأُصْبُعِ، وَعَضُّ السَّبَّابَةِ، وَعَضُّ الْيَدِ. وَيُقَالُ: حَرَّقَ أَسْنَانَهُ وَحَرَّقَ الْأُرَّمَ (بِوَزْنِ رُكَّعٍ) الْأَضْرَاسَ أَوْ أَطْرَافَ الْأَصَابِعِ، وَفِي الْغَيْظِ عَضُّ الْأَنَامِلِ قَالَ تَعَالَى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١١٩]، وَكَانَتْ كِنَايَاتٍ بِنَاءً عَلَى مَا يُلَازِمُهَا فِي الْعُرْفِ مِنْ مَعَانٍ نَفْسِيَّةٍ، وَأَصْلُ نَشْأَتِهَا عَنْ تَهَيُّجِ الْقُوَّةِ الْعَصَبِيَّةِ مِنْ جَرَّاءِ غَضَبٍ أَوْ تَلَهُّفٍ.
وَالرَّسُولُ: هُوَ الْمَعْهُودُ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
12
وَاتِّخَاذُ السَّبِيلِ: أَخْذُهُ، وَأَصْلُ الْأَخْذِ: التَّنَاوُلُ بِالْيَدِ، فَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى قَصْدِ السَّيْرِ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ [الْكَهْف: ٦٣].
ومَعَ الرَّسُولِ أَيْ مُتَابِعًا لِلرَّسُولِ كَمَا يُتَابِعُ الْمُسَافِرُ دَلِيلًا يَسْلُكُ بِهِ أَحْسَنَ الطُّرُقِ وَأَفْضَاهَا إِلَى الْمَكَانِ الْمَقْصُودِ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِفِعْلِ الِاتِّبَاعِ وَنَحْوِهِ بِأَنْ يُقَالَ: يَا لَيْتَنِي اتَّبَعْتُ الرَّسُولَ، إِلَى هَذَا التَّرْكِيبِ الْمُطْنَبِ لِأَنَّ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ تَمْثِيلَ هَيْئَةِ الِاقْتِدَاءِ بِهَيْئَةِ مُسَايِرَةِ الدَّلِيلِ تَمْثِيلًا مُحْتَوِيًا عَلَى تَشْبِيهِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ بِالسَّبِيلِ، وَمُتَضَمِّنًا تَشْبِيهَ مَا يَحْصُلُ عَنْ سُلُوكِ ذَلِكَ السَّبِيلِ مِنَ النَّجَاةِ بِبُلُوغِ السَّائِرِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمَقْصُودِ، فَكَانَ حُصُولُ هَذِهِ الْمَعَانِي صَائِرًا بِالْإِطْنَابِ إِلَى إِيجَازٍ، وَأَمَّا لَفْظُ الْمُتَابَعَةِ فَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ فَهُوَ غَيْرُ مُشْعِرٍ بِهَذَا التَّمْثِيلِ. وَعَلِمَ أَنَّ هَذَا السَّبِيلَ سَبِيلُ نَجَاحِ مَنْ تَمَنَّاهُ لِأَنَّ التَّمَنِّيَ طلب الْأَمر المحبوب الْعَزِيزِ الْمَنَالِ.
وَيَا لَيْتَنِي نِدَاءٌ لِلْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى التَّمَنِّي بِتَنْزِيلِ الْكَلِمَةِ مَنْزِلَةَ الْعَاقِلِ الَّذِي يُطْلَبُ حُضُورُهُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ فِي حَالَةِ النَّدَامَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذَا مَقَامُكِ فَاحْضُرِي، عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣١]. وَهَذَا النِّدَاءُ يَزِيدُ الْمُتَمَنِّيَ اسْتِبْعَادًا لِلْحُصُولِ.
وَكَذَلِكَ قَوْله: يَا وَيْلَتى هُوَ تَحَسُّرٌ بِطْرِيقِ نِدَاءِ الْوَيْلِ. وَالْوَيْلُ: سُوءُ الْحَالِ، وَالْأَلِفُ عِوَضٌ عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ تَعْوِيضٌ مَشْهُورٌ فِي نِدَاءِ الْمُضَافِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْوَيْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧٩]. وَعَلَى يَا وَيْلَتَنا فِي قَوْلِهِ: يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٤٩].
وَأَتْبَعَ التَّحَسُّرَ بِتَمَنِّي أَنْ لَا يَكُونَ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا.
وَجُمْلَةُ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِأَنَّ اتِّبَاعَ سَبِيلِ الرَّسُولِ يَشْتَمِلُ عَلَى نَبْذِ خُلَّةِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِهِ فَتَمَنِّي وُقُوعِ أَوَّلِهِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى تَمَنِّي وُقُوعِ الثَّانِي.
13
وَجُمْلَةُ (يَا وَيْلَتَا) مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا وَجُمْلَةِ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا.
وَ (فُلَانٌ) : اسْمٌ يُكَنِّي عَمَّنْ لَا يُذْكَرُ اسْمُهُ الْعَلَمُ، كَمَا يُكَنَّى بِ (فُلَانَةٍ) عَمَّنْ لَا يُرَادُ
ذِكْرُ اسْمِهَا الْعَلَمِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحِكَايَةِ أَمْ فِي غَيْرِهَا. قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ وَابْنُ مَالِكٍ خِلَافًا لِابْنِ السَّرَّاجِ وَابْنِ الْحَاجِبِ فِي اشْتِرَاطِ وُقُوعِهِ فِي حِكَايَةٍ بِالْقَوْلِ، فَيُعَامَلُ (فُلَانٌ) مُعَامَلَةَ الْعَلَمِ الْمَقْرُونِ بِالنُّونِ الزَّائِدَةِ و (فُلَانَةٌ) مُعَامَلَةَ الْعَلَمِ الْمُقْتَرِنِ بِهَاءِ التَّأْنِيثِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَا قَاتَلَ اللَّهُ الْوُشَاةَ وَقَوْلَهُمْ فُلَانَةُ أَضْحَتْ خُلَّةً لِفُلَانِ
أَرَادَ نَفْسَهُ وَحَبِيبَتَهُ.
وَقَالَ الْمَرَّارُ الْعَبْسِيُّ:
وَإِذَا فُلَانٌ مَاتَ عَنْ أُكْرُومَةٍ دَفَعُوا مَعَاوِزَ فَقْدِهِ بِفُلَانِ
أَرَادَ: إِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ اسْمٌ مِنْهُمْ أَخْلَفُوهُ بِغَيْرِهِ فِي السُّؤْدُدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَعْنِ بْنِ أَوْسٍ:
وَحَتَّى سَأَلْتُ الْقَرْضَ مِنْ كُلِّ ذِي الْغِنَى وَرَدَّ فُلَانٌ حَاجَتِي وَفُلَانُ
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي «نَوَادِرِهِ» : أَنْشَدَنِي الْمُفَضِّلُ لِرَجُلٍ مِنْ ضَبَّةَ هَلَكَ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ، أَيْ فِي أَوَاسِطِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ لِلْهِجْرَةِ:
إِنَّ لَسَعِدٍ عِنْدَنَا دِيوَانَا يُخْزِي فَلَانًا وَابْنَهُ فُلَانَا
وَالدَّاعِي إِلَى الْكِنَايَةِ بِفُلَانٍ إِمَّا قَصْدُ إِخْفَاءِ اسْمِهِ خِيفَةً عَلَيْهِ أَوْ خِيفَةً مِنْ أَهْلِهِمْ أَوْ لِلْجَهْلِ بِهِ، أَوْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ لِذِكْرِهِ، أَوْ لِقَصْدِ نَوْعِ مَنْ لَهُ اسْمٌ عَلَمٌ. وَهَذَانِ الْأَخِيرَانِ هُمَا اللَّذَانِ يَجْرِيَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ حُمِلَتْ عَلَى إِرَادَةِ خُصُوصِ عُقْبَةَ وَأُبَيٍّ أَوْ حُمِلَتْ عَلَى إِرَادَةِ كُلِّ مُشْرِكٍ لَهُ خَلِيلٌ صَدَّهُ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ.
وَإِنَّمَا تَمَنَّى أَنْ لَا يَكُونَ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا دُونَ تَمَنِّي أَنْ يَكُونَ عَصَاهُ فِيمَا سَوَّلَ لَهُ قَصْدًا لِلِاشْمِئْزَازِ مَنْ خُلَّتِهِ مِنْ أَصِلِهَا إِذْ كَانَ الْإِضْلَالُ مِنْ أَحْوَالِهَا.
وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ شَأْنَ الْخُلَّةِ الثِّقَةُ بِالْخَلِيلِ وَحَمْلُ مَشُورَتِهِ عَلَى النُّصْحِ فَلَا يَنْبَغِي
14
أَنْ يَضَعَ الْمَرْءُ خُلَّتَهُ إِلَّا حَيْثُ يُوقِنُ بِالسَّلَامَةِ مِنْ إِشَارَاتِ السُّوءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمرَان: ١١٨] فَعَلَى مَنْ يُرِيدُ اصْطِفَاءَ خَلِيلٍ أَنْ يَسِيرَ سِيرَتَهُ فِي خُوَيِّصَّتِهِ فَإِنَّهُ سَيَحْمِلُ مَنْ يَخَالُّهِ عَلَى مَا يَسِيرُ بِهِ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ قَالَ خَالِدُ بْنُ زُهَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا وَهَذَا عِنْدِي هُوَ مَحْمِلُ
قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غير ربّي لَا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا»
فَإِنَّ مَقَامَ النُّبُوءَةِ يَسْتَدْعِي مِنَ الْأَخْلَاقِ مَا هُوَ فَوْقَ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي النَّاسِ فَلَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا مُتَابَعَةُ مَا لِلَّهِ مِنَ الْكَمَالَاتِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ وَلِهَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ. وَعَلِمْنَا بِهَذَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ مَكَارِمَ أَخْلَاقٍ بَعْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ النَّبِيءَ جَعَلَهُ الْمُخَيَّرَ لِخُلَّتِهِ لَوْ كَانَ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي تَعْلِيلِيَّةٌ لِتَمَنِّيهِ أَنْ لَا يَكُونَ اتَّخَذَ فُلَانًا خَلِيلًا بِأَنَّهُ قَدْ صَدَرَ عَنْ خُلَّتِهِ أَعْظَمُ خُسْرَانٍ لِخَلِيلِهِ إِذْ أَضَلَّهُ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ كَادَ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ مَعْنَاهُ سَوَّلَ لِيَ الِانْصِرَافَ عَنِ الْحَقِّ. وَالضَّلَالُ: إِضَاعَةُ الطَّرِيقِ وَخَطَؤُهُ بِحَيْثُ يَسْلُكُ طَرِيقًا غَيْرَ الْمَقْصُودِ فَيَقَعُ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَهُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ أَوْ فِي مَسْبَعَةٍ. وَيُسْتَعَارُ الضَّلَالُ لِلْحِيَادِ عَنِ الْحَقِّ وَالرُّشْدِ إِلَى الْبَاطِلِ وَالسَّفَهِ كَمَا يُسْتَعَارُ ضِدُهُ وَهُوَ الْهُدَى (الَّذِي هُوَ إِصَابَةُ الطَّرِيقِ) لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ حَتَّى تَسَاوَى الْمَعْنَيَانِ الْحَقِيقِيَّانِ وَالْمَعْنَيَانِ الْمَجَازِيَّانِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَلِذَلِكَ سَمَّوُا الدَّلِيلَ الَّذِي يَسْلُكُ بِالرَّكْبِ الطَّرِيقَ الْمَقْصُودَ هَادِيًا.
وَالْإِضْلَالُ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلصَّرْفِ عَنِ الْحَقِّ لِمُنَاسَبَةِ اسْتِعَارَةِ السَّبِيلِ لِهَدْيِ الرَّسُولِ وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا هُنَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي غَلَبَ عَلَى الْبَاطِلِ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِحَرْفِ عَنِ فِي قَوْلِهِ: عَنِ الذِّكْرِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِضْلَالُ هُوَ تَسْوِيلَ الضَّلَالِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى تَعْدِيَتِهِ وَلَكِنْ أُرِيدَ هُنَا مُتَابَعَةُ التَّمْثِيلِ السَّابِقِ. فَفِي قَوْلِهِ: أَضَلَّنِي مَكْنِيَّةٌ تَقْتَضِي تَشْبِيهَ الذِّكْرِ بِالسَّبِيلِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْمَنْجَى، وَإِثْبَاتُ الْإِضْلَالِ عَنْهُ تَخْيِيلٌ كَإِثْبَاتِ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ، فَهَذِهِ نُكَتٌ مِنْ بَلَاغَةِ نَظْمِ الْآيَةِ.
15
والذِّكْرِ: هُوَ الْقُرْآنُ، أَيْ نَهَانِي عَنِ التَّدَبُّرِ فِيهِ وَالِاسْتِمَاعِ لَهُ بَعْدَ أَنْ قَارَبْتُ فَهْمَهُ.
وَالْمَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ جاءَنِي مُسْتَعْمَلٌ فِي إِسْمَاعِهِ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءٍ حَلَّ عِنْدَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَتَانِي نَبَأُ كَذَا، قَالَ النَّابِغَةُ:
أَتَانِي- أَبَيْتَ اللَّعْنَ- أَنَّكَ لُمْتَنِي فَإِذَا حُمِلَ الظَّالِمُ فِي قَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ عَلَى مُعَيَّنٍ وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ
أَبِي مُعَيْطٍ فَمَعْنَى مَجِيءِ الذِّكْرِ إِيَّاهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْنَسُ إِلَيْهِ حَتَّى صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَحَمَلَهُ عَلَى عَدَاوَتِهِ وَأَذَاتِهِ، وَإِذَا حُمِلَ الظَّالِمُ عَلَى الْعُمُومِ فَمَجِيءُ الذِّكْرِ هُوَ شُيُوعُ الْقُرْآنِ بَيْنَهُمْ، وَإِمْكَانُ اسْتِمَاعِهِمْ إِيَّاهُ. وَإِضْلَالُ خِلَّانِهِمْ إِيَّاهُمْ صَرْفُ كُلِّ وَاحِدٍ خَلِيلَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَعَاوُنُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي ذَلِكَ.
وَقِيلَ: الذِّكْرِ: كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ، بِنَاءً عَلَى تَخْصِيصِ الظَّالِمِ بِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَأْتِي فِي ذَلِكَ الْوُجُوهُ الْمُتَقَدِّمَةُ، فَإِنَّ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ النَّجَاةِ مُثِّلَتْ بِسَبِيلِ الرَّسُولِ الْهَادِي، وَمُثِّلَ الصَّرْفُ عَنْهَا بِالْإِضْلَالِ عَنِ السَّبِيلِ.
وإِذْ ظَرْفٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي، أَيْ بَعْدَ وَقْتٍ جَاءَنِي فِيهِ الذِّكْرُ، وَالْإِتْيَانُ بِالظَّرْفِ هُنَا دُونَ أَنْ يُقَالَ: بَعْدَ مَا جَاءَنِي، أَوْ بَعْدَ أَنْ جَاءَنِي، لِلْإِشَارَةِ إِلَى شِدَّةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الذِّكْرِ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي زَمَنٍ وَتَحَقَّقَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ [التَّوْبَة: ١١٥] أَيْ تَمَكَّنَ هَدْيُهُ مِنْهُمْ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا تَذْيِيلٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَلَامِ الظَّالِمِ تَنْبِيهًا لِلنَّاسِ عَلَى أَنَّ كُلَّ هَذَا الْإِضْلَالِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَهُوَ الَّذِي يُسَوِّلُ لِخَلِيلِ الظَّالِمِ إِضْلَالَ خَلِيلِهِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ خَذُولُ الْإِنْسَانِ، أَيْ مَجْبُولٌ عَلَى شِدَّةِ خَذْلِهِ.
وَالْخَذْلُ: تَرْكُ نَصْرِ الْمُسْتَنْجِدِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى نَصْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٦٠].
فَإِذَا أَعَانَ عَلَى الْهَزِيمَةِ فَهُوَ أَشَدُّ الْخَذْلِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي
16
وَصْفِ الشَّيْطَانِ بِخَذْلِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَكِيدُ الْإِنْسَانَ فَيُوَرِّطُهُ فِي الضُّرِّ فَهُوَ خذول.
[٣٠]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٣٠]
وَقالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠)
عَطْفٌ عَلَى أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمُنَاسَبَتُهُ لِقَوْلِهِ: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ [الْفرْقَان: ٢٩] أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ الْقُرْآنُ فَحُكِيَتْ شِكَايَةُ الرَّسُولِ إِلَى رَبِّهِ قَوْمَهُ مِنْ نَبْذِهِمُ الْقُرْآنَ بِتَسْوِيلِ زُعَمَائِهِمْ وَسَادَتِهِمُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ، أَيْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِيهِ بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمْ وَتَمَكَّنُوا مِنَ النَّظَرِ، وَهَذَا الْقَوْلُ وَاقِعٌ فِي الدُّنْيَا وَالرَّسُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الشِّكَايَةِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الرَّسُولِ إِنْذَارُ قُرَيْشٍ بِأَنَّ الرَّسُولَ تَوَجَّهَ إِلَى رَبِّهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ فَهُوَ يَسْتَنْصِرُ بِهِ وَيُوشِكُ أَنْ يَنْصُرَهُ، وَتَأْكِيدُهُ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِيَكُونَ التَّشَكِّي
أَقْوَى. وَالتَّعْبِيرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِ قَوْمِي لِزِيَادَةِ التَّذَمُّرِ مِنْ فِعْلِهِمْ مَعَهُ لِأَنَّ شَأْنَ قَوْمِ الرَّجُلِ أَنْ يُوَافِقُوهُ.
وَفِعْلُ الِاتِّخَاذِ إِذَا قُيِّدَ بِحَالَةٍ يُفِيدُ شِدَّةَ اعْتِنَاءِ الْمُتَّخِذِ بِتِلْكَ الْحَالَةِ بِحَيْثُ ارْتَكَبَ الْفِعْلَ لِأَجْلِهَا وَجَعَلَهُ لَهَا قَصْدًا. فَهَذَا أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي هَجْرِهِمُ الْقُرْآنَ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْمِي هَجَرُوا الْقُرْآنَ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي هذَا الْقُرْآنَ لِتَعْظِيمِهِ وَأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُتَّخَذُ مَهْجُورًا بَلْ هُوَ جَدِيرٌ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ.
وَالْمَهْجُورُ: الْمَتْرُوكُ وَالْمُفَارَقُ. وَالْمُرَادُ هَنَا تُرْكُ الِاعْتِنَاءِ بِهِ وسماعه.
[٣١]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٣١]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١)
هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَا لَقِيَهُ مِنْ بَعْضِ قَوْمِهِ هُوَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْأُمَمِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ.
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لِلْمُشْرِكِينَ لِيَعْرِضُوا أَحْوَالَهُمْ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ التَّارِيخِيِّ فَيَعْلَمُوا
أَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِ مَنْ كَذَّبُوا مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ.
وَالْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣]. وَالْعَدُوُّ: اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ وَالْمُرَادُ هُنَا الْجَمْعُ.
وَوَصَفَ أَعْدَاءَ الْأَنْبِيَاءِ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، أَيْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُجْرِمِينَ، فَإِنَّ الْإِجْرَامَ أَعَمُّ مِنْ عَدَاوَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ أَعْظَمُهَا. وَإِنَّمَا أُرِيدَ هُنَا تَحْقِيقُ انْضِوَاءِ أَعْدَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فِي زُمْرَةِ الْمُجْرِمِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: عَدُوًّا مُجْرِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧].
وَأَعْقَبَ التَّسْلِيَةَ بِالْوَعْدِ بِهِدَايَةِ كَثِيرٍ مِمَّنْ هُمْ يَوْمَئِذٍ مُعْرِضُونَ عَنْهُ كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ»
وَبِأَنَّهُ يَنْصُرُهُ عَلَى الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى عَدَاوَتِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً تَعْرِيضٌ بِأَنْ يُفَوِّضَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ كَافٍ فِي الْهِدَايَةِ وَالنَّصْرِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِرَبِّكَ تَأْكِيدٌ لِاتِّصَالِ الْفَاعِلِ بِالْفِعْلِ. وَأَصْلُهُ: كَفَى رَبُّكَ فِي هَذِه الْحَالة.
[٣٢]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٣٢]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢)
عَوْدٌ إِلَى مَعَاذِيرِهِمْ وَتَعَلُّلَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ إِذْ طَعَنُوا فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ نُزِّلَ مُنَجَّمًا وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَنَزَلَ كِتَابًا جُمْلَةً وَاحِدَة. وَضمير وَقالَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ مِنْهُمْ بِنِسْبَةِ كُتُبِ الرُّسُلِ فَإِنَّهَا لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ مِنْهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا كَانَتْ وَحْيًا مُفَرَّقًا فَالتَّوْرَاةُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَلْوَاحِ هِيَ عَشْرُ كَلِمَاتٍ بِمِقْدَارِ سُورَةِ اللَّيْلِ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا كَانَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا أَقْوَالًا يَنْطِقُ بِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَلَأِ، وَكَذَلِكَ الزَّبُورُ نَزَلَ قِطَعًا كَثِيرَة، فالمشركون نسوا ذَلِكَ أَوْ جَهِلُوا فَقَالُوا:
هَلَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى مُحَمَّدٍ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَنَعْلَمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِنَّ قَائِلَ هَذَا الْيَهُودُ أَوِ النَّصَارَى، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ بُهْتَانٌ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَمْ تَنْزِلِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ إِلَّا مُفَرَّقَةً.
18
فَخَوْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَةِ رَسُولِنَا مِنَ الْأُمِّيَّةِ وَحَالَةِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمُ الْكُتُبُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا طَائِلَ فِيهِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْكُتُبَ لَمْ تَنْزِلْ أَسْفَارًا تَامَّةً قَطُّ.
ونُزِّلَ هُنَا مُرَادِفُ أُنْزِلَ وَلَيْسَ فِيهِ إِيذَانٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّفْعِيلُ مِنَ التَّكْثِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ: جُمْلَةً واحِدَةً.
وَقَدْ جَاءَ قَوْلُهُ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ رَدًّا عَلَى طَعْنِهِمْ، فَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ فِيهِ رَدٌّ لِمَا أَرَادُوهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً وَعَدَلَ فِيهِ عَنْ خِطَابِهِمْ إِلَى خِطَابِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِعْلَامًا لَهُ بِحِكْمَةِ تَنْزِيلِهِ مُفَرَّقًا، وَفِي ضِمْنِهِ امْتِنَانٌ عَلَى الرَّسُولِ بِمَا فِيهِ تَثْبِيتُ قَلْبِهِ وَالتَّيْسِيرُ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً إِشَارَةٌ إِلَى الْإِنْزَالِ الْمَفْهُوم من «لَو نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ» وَهُوَ حَالَةُ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ كَذَلِكَ الْإِنْزَالِ، أَيِ الْمُنَجَّمِ، أَيْ كَذَلِكَ الْإِنْزَالِ الَّذِي جَهِلُوا حِكْمَتَهُ، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ جَاءَ بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ. فَالتَّقْدِيرُ: أَنْزَلْنَاهُ إِنْزَالًا كَذَلِكَ الْإِنْزَالِ الْمُنَجَّمِ. فَمَوْقِعُ جُمْلَةِ كَذلِكَ مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ فِي الْمُحَاوَرَةِ. وَاللَّامُ فِي لِنُثَبِّتَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَذلِكَ. وَالتَّثْبِيتُ: جَعْلُ الشَّيْءِ ثَابِتًا.
وَالثَّبَاتُ: اسْتِقْرَارُ الشَّيْءِ فِي مَكَانِهِ غَيْرَ مُتَزَلْزِلٍ قَالَ تَعَالَى: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ
[إِبْرَاهِيم: ٢٤]. وَيُسْتَعَارُ الثَّبَاتُ لِلْيَقِينِ وَلِلِاطْمِئْنَانِ بِحُصُولِ الْخَيْرِ لِصَاحِبِهِ قَالَ تَعَالَى: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النِّسَاء: ٦٦]، وَهِيَ اسْتِعَارَاتٌ شَائِعَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ حُصُولِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي النَّفْسِ بِاضْطِرَابِ الشَّيْءِ فِي الْمَكَانِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. وَالْفُؤَادُ: هُنَا الْعَقْلُ. وَتَثْبِيتُهُ بِذَلِكَ الْإِنْزَالِ جَعْلُهُ ثَابِتًا فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ لَا يَضْطَرِبُ فِيهِ.
وَجَاءَ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ وَهِيَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ لِأَنَّ تَثْبِيتَ الْفُؤَادِ يَقْتَضِي كُلَّ مَا بِهِ خَيْرٌ لِلنَّفْسِ، فَمِنْهُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي تَفْرِيقِهِ أَنْ نُقَوِّيَ بِتَفْرِيقِهِ فُؤَادَكَ حَتَّى تَعِيَهُ وَتَحْفَظَهُ، لِأَنَّ الْمُتَلَقِّنَ إِنَّمَا يَقْوَى قَلْبُهُ عَلَى حِفْظِ الْعِلْمِ يلقى إِلَيْهِ إِذْ أُلْقِيَ إِلَيْهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَجُزْءًا
19
عَقِبَ جُزْءٍ، وَمَا قَالَهُ أَيْضًا: «أَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى حَسَبِ الدَّوَاعِي وَالْحَوَادِثِ وَجَوَّابَاتِ السَّائِلِينَ» اه، أَيْ فَيَكُونُونَ أَوْعَى لِمَا يَنْزِلُ فِيهِ لِأَنَّهُمْ بِحَاجَةٍ إِلَى عِلْمِهِ، فَيَكْثُرُ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ وَذَلِكَ مِمَّا يُثَبِّتُ فُؤَادَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَشْرَحُ صَدْرَهُ.
وَمَا قَالَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: «إِنَّ تَنْزِيلَهُ مُفَرَّقًا وَتَحَدِّيَهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِبَعْضِ تِلْكَ التَّفَارُقِ كُلَّمَا نَزَلَ شَيْءٌ مِنْهَا، أَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ وَأَنْوَرُ لِلْحُجَّةِ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ كُلُّهُ جُمْلَةً» اه.
وَمِنْهُ مَا قَالَهُ الْجَدُّ الْوَزِيرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَوْ لَمْ يَنْزِلْ مُنَجَّمًا عَلَى حَسَبِ الْحَوَادِثِ لِمَا ظَهَرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِهِ مُطَابَقَتُهَا لِمُقْتَضَى الْحَالِ وَمُنَاسَبَتُهَا لِلْمَقَامِ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ إِعْجَازِهَا. وَقُلْتُ: إِنَّ نُزُولَهُ مُنَجَّمًا أَعُونُ لِحُفَّاظِهِ عَلَى فَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا عُطِفَ عَلَى قَوْله كَذلِكَ، أَي أَنْزَلْنَاهُ مُنَجَّمًا وَرَتَّلْنَاهُ، وَالتَّرْتِيلُ يُوصَفُ بِهِ الْكَلَامُ إِذَا كَانَ حَسَنَ التَّأْلِيفِ بَيِّنَ الدَّلَالَةِ. وَاتَّفَقَتْ أَقْوَالُ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْتِيلَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَغْرٌ مُرَتَّلٌ، وَرَتِلٌ، إِذَا كَانَتْ أَسْنَانُهُ مُفَلَّجَةً تُشْبِهُ نُورَ الْأُقْحُوَانِ. وَلَمْ يُورِدُوا شَاهِدًا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَالتَّرْتِيلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالَةً لِنُزُولِ الْقُرْآنِ، أَيْ نَزَّلْنَاهُ مُفَرَّقًا مُنَسَّقًا فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ غَيْرَ مُتَرَاكِمٍ فَهُوَ مُفَرَّقٌ فِي الزَّمَانِ فَإِذَا كَمُلَ إِنْزَالُ سُورَةٍ جَاءَتْ آيَاتُهَا مَرَتَّبَةً مُتَنَاسِبَةً كَأَنَّهَا أُنْزِلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَمُفَرَّقٌ فِي التَّأْلِيفِ بِأَنَّهُ مُفَصَّلٌ وَاضِحٌ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ شَأْنَ كَلَامِ النَّاسِ إِذَا فُرِّقَ تَأْلِيفُهُ عَلَى أَزْمِنَةٍ مُتَبَاعِدَةٍ أَنْ يَعْتَوِرَهُ التَّفَكُّكُ وَعَدَمُ تَشَابُهِ الْجُمَلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِ رَتَّلْناهُ أَمَرْنَا بِتَرْتِيلِهِ، أَيْ بِقِرَاءَتِهِ مُرَتَّلًا، أَيْ بِتَمَهُّلٍ بِأَنْ لَا يُعَجَّلَ فِي قِرَاءَتِهِ بِأَنْ تُبَيَّنَ جَمِيعُ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ بِمَهَلٍ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [٤]
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا.
وتَرْتِيلًا مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ قُصِدَ بِهِ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فَصَارَ الْمَصْدَرُ مُبَيِّنًا لنَوْع الترتيل.
20

[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٣٣]

وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣)
لَمَّا اسْتَقْصَى أَكْثَرَ مَعَاذِيرِهِمْ وَتَعَلُّلَاتِهِمْ وَأَلْقَمَهُمْ أَحْجَارَ الرَّدِّ إِلَى لَهَوَاتِهِمْ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ فَذْلَكَةً جَامِعَةً تَعُمُّ مَا تَقَدَّمَ وَمَا عَسَى أَنْ يَأْتُوا بِهِ مِنَ الشُّكُوكِ وَالتَّمْوِيهِ بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَدْحُوضٌ بِالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ الْكَاشِفَةِ لِتُرَّهَاتِهِمْ.
وَالْمِثْلُ: الْمُشَابِهُ. وَفِعْلُ الْإِتْيَانِ مَجَازٌ فِي أَقْوَالِهِمْ وَالْمُحَاجَّةِ بِهِ، وَتَنْكِيرُ (مَثَلٍ) فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ بِكُلِّ مَثَلٍ. وَالْمَقْصُودُ: مَثَلٌ مِنْ نَوْعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْثَالِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ ابْتِدَاءً من قَوْله [تَعَالَى] : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الْفرْقَان: ٤]، وقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النَّحْل: ٢٤] بِقَرِينَةِ سَوْقِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ اسْتِقْصَاءِ شُبْهَتِهِمْ، وقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: ٧] وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفرْقَان: ٨] وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الْفرْقَان: ٢١] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان:
٣٢]. وَدَلَّ عَلَى إِرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ: بِمَثَلٍ قَوْلُهُ آنِفًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ [الْفرْقَان: ٩] عَقِبَ قَوْلِهِ: وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفرْقَان:
٨]. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَأْتُونَكَ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِفَادَةِ أَنَّ إِتْيَانَهُمْ بالْأَمْثَالِ يَقْصِدُونَ بِهِ أَنْ يُفْحِمُوهُ.
وَالْإِتْيَانُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِظْهَارِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَأْتُونَكَ بِشَبَهٍ يُشَبِّهُونَ بِهِ حَالًا مِنْ أَحْوَالِكَ يَبْتَغُونَ إِظْهَارَ أَنَّ حَالَكَ لَا يُشْبِهُ حَالَ رَسُولٍ مِنَ اللَّهِ إِلَّا أَبْطَلْنَا تَشْبِيهَهُمْ وَأَرَيْنَاهُمْ أَنَّ حَالَةَ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ لَا تُلَازِمُ مَا زَعَمُوهُ سَوَاءٌ كَانَ مَا أَتَوْا بِهِ تَشْبِيهًا صَرِيحًا بِأَحْوَالِ غَيْرِ الرُّسُلِ كَقَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها [الْفرْقَان: ٥] وَقَوْلِهِمْ مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: ٧]، وَقَوْلِهِمْ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفرْقَان: ٨]، أَمْ كَانَ نَفْيُ مُشَابَهَةِ حَالِهِ بِأَحْوَالِ الرُّسُلِ فِي زَعْمِهِمْ فَإِنَّ نَفْيَ مُشَابَهَةِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ ضِدِّهِ كَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الْفرْقَان: ٢١] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] إِذَا كَانُوا قَالُوهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ
مُخَالِفٌ لِحَالِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. فَهَذَا نَفِيُ تَمْثِيلِ حَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ الرُّسُلِ الْأَسْبَقِينَ فِي زَعْمِهِمْ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ مَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ تَقْتَضِيهِ النُّبُوءَةُ مِنَ الْمَكَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَسْأَلَهُ، فَيُجَابَ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها [الْفرْقَان: ٧، ٨].
21
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَأْتُونَكَ تَشْمَلُ مَا عَسَى أَنْ يَأْتُوا بِهِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَقَوْلِهِمْ: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الْإِسْرَاء: ٩٢].
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ يَقْتَضِيهَا عُمُومُ الْأَمْثَالِ لِأَنَّ عُمُومَ الْأَشْخَاصِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَحْوَالِ.
وَجُمْلَةُ جِئْناكَ حَالِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الْفرْقَان: ٢٠].
وَقَوْلُهُ جِئْناكَ بِالْحَقِّ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: لَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ وَهُوَ مَجِيءٌ مَجَازِيٌّ. وَمُقَابَلَةُ جِئْناكَ بِالْحَقِّ لِقَوْلِهِ: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا يَأْتُونَ بِهِ بَاطِلٌ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: ٧]، أَبْطَلَهُ قَوْلُهُ:
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان:
٢٠].
وَالتَّعْبِيرُ فِي جَانِبِ مَا يُؤَيِّدُهُ اللَّهُ مِنَ الْحُجَّةِ بِ جِئْناكَ دُونَ: أَتَيْنَاكَ، كَمَا عُبِّرَ عَمَّا يَجِيئُونَ بِهِ بِ يَأْتُونَكَ إِمَّا لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ، وَإِمَّا لِأَنَّ فِعْلَ الْإِتْيَانِ إِذَا اسْتُعْمِلَ مَجَازًا كَثُرَ فِيمَا يَسُوءُ وَمَا يُكْرَهُ، كَالْوَعِيدِ وَالْهِجَاءِ، قَالَ شَقِيقُ بْنُ شَرِيكٍ الْأَسَدِيُّ:
أَتَانِي مِنْ أَبِي أَنَسٍ وَعِيدٌ فَسُلَّ لِغَيْظَةِ الضَّحَّاكِ جِسْمِي
وَقَوْلُ النَّابِغَةِ:
أَتَانِي- أَبَيْتَ اللَّعْنَ- أَنَّكَ لُمْتَنِي وَقَوْلُهُ:
فَلَيَأْتِيَنْكَ قَصَائِدٌ وَلَيَدْفَعَنْ جَيْشًا إِلَيْكَ قَوَادِمُ الْأَكْوَارِ
يُرِيدُ قَصَائِدَ الْهِجَاءِ. وَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ لِلُوطٍ وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ [الْحجر: ٦٤] أَيْ عَذَابُ قَوْمِهِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا لَهُ فِي الْمَجِيءِ الْحَقِيقِيِّ بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ. وَتَقَدَّمَ فِي
سُورَةِ الْحِجْرِ [٦٣]، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً [يُونُس: ٢٤] أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: ١] فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الْحَشْر: ٢]، بِخِلَافِ فِعْلِ الْمَجِيءِ إِذَا
22
اسْتُعْمِلَ فِي مَجَازِهِ فَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي وُصُولِ الْخَيْرِ وَالْوَعْدِ وَالنَّصْرِ وَالشَّيْءِ الْعَظِيمِ، قَالَ تَعَالَى: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النِّسَاء: ١٧٤] وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفجْر: ٢٢] إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ [النَّصْر: ١]،
وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: «... مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ»
، وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: ٨١]، وَقَدْ يَكُونُ مُتَعَلِّقُ الْفِعْلِ ذَا وَجْهَيْنِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ فَيُطْلَقُ كِلَا الْفِعْلَيْنِ نَحْوَ حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ [هود: ٤٠]، فَإِنَّ الْأَمْرَ هَنَا مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى كَوْنِهِ تَأْيِيدًا نَافِعًا لِنُوحٍ.
وَالتَّفْسِيرُ: الْبَيَانُ وَالْكَشْفُ عَنِ الْمَعْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مُفَصَّلًا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْكِتَابِ، وَالْمُرَادُ هُنَا كَشْفُ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ.
وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَحْسَنَ، أَنَّهُ أَحَقُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ، فَالتَّفْضِيلُ لِلْمُبَالَغَةِ إِذْ لَيْسَ فِي حُجَّتِهِمْ حُسْنٌ أَوْ يُرَادُ بِالْحُسْنِ مَا يَبْدُو مِنْ بَهْرَجَةِ سَفْسَطَتِهِمْ وَشُبَهِهِمْ فَيَجِيءُ الْكَشْفُ عَنِ الْحَقِّ أَحْسَنَ وَقْعًا فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ مِنْ مُغَالَطَاتِهِمْ، فَيَكُونُ التَّفْضِيلُ بِهَذَا الْوَجْهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَهَذِهِ نُكْتَةٌ مِنْ دَقَائِقِ الِاسْتِعْمَالِ ودقائق التَّنْزِيل.
[٣٤]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٣٤]
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَذَمِّهِمْ.
وَالْمَوْصُولُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: هُمْ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَحْصِيلِ فَائِدَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الضَّمِيرِ ثَبَتَ لَهُمْ مَضْمُونُ الصِّلَةِ، وَلِيَبْنِيَ عَلَى الصِّلَةِ مَوْقِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ النَّظْمِ أَنْ يُقَالَ: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا، هُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا، وَنَحْشُرُهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٩٧] وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عَقِبَ قَوْلِهِ: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: ٩٤] وَيُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ أَنَّ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ هُمُ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِالْأَمْثَالِ تَكْذِيبًا
لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذْ كَانَ قَصْدُهُمْ مِمَّا يَأْتُونَ بِهِ مِنَ
الْأَمْثَالِ تَنْقِيصَ شَأْنِ النَّبِيءِ ذُكِّرُوا بِأَنَّهُمْ أَهْلُ شَرِّ الْمَكَانِ وَضَلَالِ السَّبِيلِ دُونَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَالْمَوْصُولُ مُبْتَدَأٌ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ خَبَرٌ عَنْهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٩٧] عِنْدَ قَوْلِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ. وَتَقدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيثِ فِي السُّؤَالِ عَنْ كَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
وَشَرٌّ: اسْمُ تَفْضِيلٍ. وَأَصْلُهُ أَشَرُّ وَصِيغَتَا التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ شَرٌّ، وأَضَلُّ مُسْتَعْمَلَتَانِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الِاتِّصَافِ بِالشَّرِّ وَالضَّلَالِ كَقَوْلِهِ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً [يُوسُف: ٧٧] فِي جَوَابِ قَوْلِ إِخْوَةِ يُوسُفَ إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يُوسُف: ٧٧].
وَتَعْرِيفُ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ يُفِيدُ الْقَصْرَ وَهُوَ قَصْرٌ لِلْمُبَالِغَةِ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنِ انْحَصَرَ الشَّرُّ وَالضَّلَالُ فِيهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: هُمْ شَرُّ الْخُلُقِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَيَكُونُ الْقَصْرُ قَصْرَ قَلْبٍ، أَيْ هُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا لَا الْمُسْلِمُونَ، وَصِيغَتَا التَّفْضِيلِ مَسْلُوبَتَا الْمُفَاضَلَةِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ.
وَالْمَكَانُ: الْمَقَرُّ. وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ، مَكَانُهُمْ جَهَنَّمُ، وطريقهم الطَّرِيق الْموصل إِلَيْهَا وَهُوَ الَّذِي يُحْشَرُونَ فِيهِ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَقِبَ مَا تَقَدَّمَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ أَحْرِيَاءُ بِالْمَكَانِ الْأَشِرِ وَالسَّبِيلِ الْأَضَلِّ، لِأَجْلِ مَا سَبَقَ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي مِنْهَا قَوْلُهُمْ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢].
وسَبِيلًا تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ، فَأَصْلُهُ: وَضَلَّ سَبِيلُهُمْ. وَإِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَى السَّبِيلِ فِي التَّرْكِيبِ الْمُحَوَّلِ عَنْهُ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ السَّبِيلَ سَبَب ضلالهم.
[٣٥، ٣٦]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٣٥ إِلَى ٣٦]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦)
لَمَّا جَرَى الْوَعِيدُ وَالتَّسْلِيَةُ بِذِكْرِ حَالِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
24
عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ تَمْثِيلَهُمْ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ رُسُلَهُمْ لِيَحْصُلَ مِنْ ذَلِكَ مَوْعِظَةُ هَؤُلَاءِ وَزِيَادَةُ تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ وَالتَّعْرِيضُ بِوَعْدِهِ بِالِانْتِصَارِ لَهُ.
وَابْتُدِئَ بِذِكْرِ مُوسَى وَقَوْمِهِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ زَمَنًا مِنَ الَّذِينَ ذُكِرُوا بَعْدَهُ وَلِأَنَّ بَقَايَا شَرْعِهِ
وَأُمَّتِهِ لَمْ تَزَلْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْعَرَبِ، فَإِنْ صَحَّ مَا رُوِيَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] الْيَهُودُ، فَوَجْهُ الِابْتِدَاءِ بِذِكْرِ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَظْهَرُ.
وَحَرْفُ التَّحْقِيقِ وَلَامُ الْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِاعْتِبَارِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ بِتَدْمِيرِهِمْ. وَأُرِيدَ بِالْكِتَابِ الْوَحْيُ الَّذِي يُكْتَبُ وَيُحْفَظُ وَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ مَا ابْتُدِئَ بِوَحْيِهِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْأَلْوَاحَ لِأَنَّ إِيتَاءَهُ الْأَلْوَاحَ كَانَ بَعْدَ زَمَنِ قَوْلِهِ اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ، فَقَوْلُهُ فَقُلْنَا اذْهَبا مُفَرَّعٌ عَنْ إِيتَاءِ الْكِتَابِ، فَالْإِيتَاءُ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ.
وَفِي وَصْفِ الْوَحْيِ بِالْكِتَابِ تَعْرِيضٌ بِجَهَالَةِ الْمُشْرِكِينَ الْقَائِلِينَ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢]، فَإِنَّ الْكُتُبَ الَّتِي أُوتِيَهَا الرُّسُلُ مَا كَانَتْ إِلَّا وَحْيًا نَزَلَ مُنَجَّمًا فَجَمَعَهُ الرُّسُلُ وَكتبه أتباعهم.
والتعرض هُنَا إِلَى تَأْيِيدِ مُوسَى بِهَارُونَ تَعْرِيض بِالرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ قَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الْفرْقَان: ٧] فَإِنَّ مُوسَى لَمَّا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ تَأْيِيدَهُ لَمْ يُؤَيَّدْ بِمَلَكٍ وَلَكِنَّهُ أُيِّدَ بِرَسُولٍ مِثْلِهِ.
وَالْوَزِيرُ: الْمُؤَازِرُ وَهُوَ الْمُعَاوِنُ الْمُظَاهِرُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَزْرِ وَهُوَ الْقُوَّةُ. وَأَصْلُ الْأَزْرِ:
شَدُّ الظَّهْرِ بِإِزَارٍ عِنْدَ الْإِقْبَالِ عَلَى عَمَلٍ ذِي تَعَبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طَهَ. وَكَانَ هَارُونُ رَسُولًا ثَانِيًا وَمُوسَى هُوَ الْأَصْلُ. وَالْقَوْمُ هُمْ قِبْطُ مِصْرَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ.
والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَصْفٌ لِلْقَوْمِ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْمَقُولِ لِمُوسَى وَهَارُونَ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ حِينَئِذٍ لَمَّا يَقَعْ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ وَصْفٌ لِإِفَادَةِ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ بَلَّغَا الرِّسَالَةَ وَأَظْهَرَ اللَّهُ مِنْهُمَا الْآيَاتِ فَكَذَّبَ بِهَا قَوْمُ فِرْعَوْنَ فَاسْتَحَقُّوا التَّدْمِيرَ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَمْهِيدًا لِلتَّفْرِيعِ بِ فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّسْلِيَةِ.
25
وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ بِالتَّدْمِيرِ.
وَقَدْ حَصَلَ بِهَذَا النَّظْمِ إِيجَازٌ عَجِيبٌ اخْتُصِرَتْ بِهِ الْقِصَّةُ فَذُكِرَ مِنْهَا حَاشِيَتَاهَا: أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا لِأَنَّهُمَا الْمَقْصُودُ بِالْقِصَّةِ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْأُمَمِ التَّدْمِيرَ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ.
وَالتَّدْمِيرُ: الْإِهْلَاكُ، وَالْهَلَاكُ: دُمُورٌ.
وَإِتْبَاعُ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِمَا فِي تَنْكِيرِ الْمَصْدَرِ مِنْ تَعْظِيمِ التَّدْمِيرِ وَهُوَ الْإِغْرَاقُ
فِي اليمّ.
[٣٧]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٣٧]
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الْفرْقَان: ٣٥] بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَصْفُ قَوْمِهِ بالتكذيب والإخبار عَنْهُم بِالتَّدْمِيرِ.
وَانْتَصَبَ قَوْمَ نُوحٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ أَغْرَقْناهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِاشْتِغَالِ، وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بِكَلِمَةِ لَمَّا لِأَنَّهَا كَالظَّرْفِ، وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مُفَسِّرُ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ، وَفِي هَذَا النَّظْمِ اهْتِمَامٌ بِقَوْمِ نُوحٍ لِأَنَّ حَالَهُمْ هُوَ مَحَلُّ الْعِبْرَةِ فَقَدَّمَ ذَكْرَهُمْ ثُمَّ أَكَّدَ بِضَمِيرِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقَوْمَ نُوحٍ عَطْفًا عَلَى ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي قَوْله فَدَمَّرْناهُمْ [الْفرْقَان: ٣٦] أَيْ وَدَمَّرْنَا قَوْمَ نُوحٍ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ مبيّنة لجملة فَدَمَّرْناهُمْ.
وَالْآيَةُ: الدَّلِيلُ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ دَلِيلًا عَلَى مَصِيرِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَهُمْ. وَجَعْلُهُمْ آيَةً:
هُوَ تَوَاتُرُ خَبَرِهِمْ بِالْغَرَقِ آيَةٌ.
وَجُعِلَ قَوْمُ نُوحٍ مُكَذِّبِينَ الرُّسُلَ مَعَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولًا وَاحِدًا لِأَنَّهُمُ اسْتَنَدُوا فِي تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُمْ إِلَى إِحَالَةِ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ بَشَرًا لِأَنَّهُمْ قَالُوا:
مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ
[الْمُؤْمِنُونَ: ٢٤] فَكَانَ تَكْذِيبُهُمْ مُسْتَلْزِمًا تَكْذِيبَ عُمُومِ الرُّسُلِ، وَلِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ كَذَّبَ رَسُولَهُمْ، فَكَانُوا قُدْوَةً لِلْمُكَذِّبِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَقِصَّةُ قَوْمِ نُوحٍ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ هُودٍ.
وَجُمْلَةُ وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً عَطْفٌ عَلَى أَغْرَقْناهُمْ. وَالْمَعْنَى:
عَذَّبْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْغَرَقِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الْآخِرَةِ. وَوَقَعَ الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ عِوَضًا عَنْ: أَعْتَدْنَا لَهُمْ، لِإِفَادَةِ أَنَّ عَذَابَهُمْ جَزَاءٌ عَلَى ظُلْمِهِمْ بِالشِّرْكِ وَتَكْذيب الرَّسُول.
[٣٨، ٣٩]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٣٨ إِلَى ٣٩]
وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩)
انْتَصَبَتِ الْأَسْمَاءُ الْأَرْبَعَةُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ تَبَّرْنا. وَفِي تَقْدِيمِهَا تَشْوِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا سَيُخْبِرُ بِهِ عَنْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ مَنْصُوبَةً بِالْعَطْفِ عَلَى ضَمِيرِ النَّصْبِ مِنْ قَوْلِهِ: فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً [الْفرْقَان: ٣٦].
وتنوين عاداً وَثَمُودَ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ الْأُمَّتَانِ. فَأَمَّا تَنْوِينُ عَادًا فَهُوَ وَجْهٌ وَجِيهٌ لِأَنَّهُ اسْمٌ عَرِيَ عَنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ وَغَيْرُ زَائِدٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَحَقُّهُ الصَّرْفُ. وَأما صرف ثَمُودَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَعَلَى اعْتِبَارِ اسْمِ الْأَبِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ تَنْوِينَهُ لِلْمُزَاوَجَةِ مَعَ عَادًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً [الْإِنْسَان: ٤].
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اسْمِ الْأُمَّةِ مِنَ التَّأْنِيثِ الْمَعْنَوِيِّ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ عَادٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَأَمَّا أَصْحابَ الرَّسِّ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِهِمْ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّسَّ بِئْرٌ عَظِيمَةٌ أَوْ حَفِيرٌ كَبِيرٌ. وَلَمَّا كَانَ اسْمًا لِنَوْعٍ مِنْ أَمَاكِنِ الْأَرْضِ أَطْلَقَهُ الْعَرَبُ عَلَى أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ.
قَالَ زُهَيْرٌ:
27
بَكَرْنَ بُكُورًا وَاسْتَحَرْنَ بِسَحْرَةٍ فَهُنَّ وَوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ
وَسَمَّوْا بِالرَّسِّ مَا عَرَفُوهُ مِنْ بِلَادِ فَارِسَ، وَإِضَافَةُ أَصْحابَ إِلَى الرَّسِّ إِمَّا لِأَنَّهُمْ أَصَابَهُمُ الْخَسْفُ فِي رَسٍّ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ نَازِلُونَ عَلَى رَسٍّ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمُ احْتَفَرُوا رَسًّا، كَمَا سُمِّيَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ الَّذِينَ خَدُّوهُ وَأَضْرَمُوهُ. وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بِلَادِ الْيَمَامَةِ وَيُسَمَّى «فَلْجًا» (١).
وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْنِيِّ مِنْ أَصْحابَ الرَّسِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقِيلَ هُمْ قَوْمٌ مِنْ بَقَايَا ثَمُودَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُمْ قَوْمٌ كَانُوا فِي عَدَنٍ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ رَسُولًا.
وَكَانَتِ الْعَنْقَاءُ وَهِيَ طَائِرٌ أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الطَّيْرِ (سُمِّيَتِ الْعَنْقَاءَ لِطُولِ عُنُقِهَا) وَكَانَتْ تَسْكُنُ فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ «فَتْحٌ» (٢)، وَكَانَتْ تَنْقَضُّ عَلَى صِبْيَانِهِمْ فَتَخْطَفُهُمْ إِنْ أَعْوَزَهَا الصَّيْدُ
فَدَعَا عَلَيْهَا حَنْظَلَةُ فَأَهْلَكَهَا اللَّهُ بِالصَّوَاعِقِ. وَقَدْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَقَتَلُوا نَبِيئَهُمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ.
قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: خُسِفَ بِهِمْ وَبِدِيَارِهِمْ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ. وَقِيلَ: قَوْمٌ كَانُوا مَعَ قَوْمِ شُعَيْبٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: الرَّسُّ بِئْرٌ بِأَنْطَاكِيَةَ، وَأَصْحَابُ الرَّسِّ أَهْلُ أَنْطَاكِيَةَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ حَبِيبٌ النَّجَّارُ فَقَتَلُوهُ وَرَسُّوهُ فِي بِئْرٍ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ يس [٢٠] وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ الْآيَاتِ. وَقِيلَ: الرَّسُّ وَادٍ فِي «أَذْرَبِيجَانَ» فِي «أَرَّانَ» يَخْرُجُ مِنْ «قَالِيقَلَا» وَيَصُبُّ فِي بُحَيْرَةِ «جُرْجَانَ» وَلَا أَحْسَبُ أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَعَلَّهُ مِنْ تَشَابُهِ الْأَسْمَاءِ يُقَالُ: كَانَتْ عَلَيْهِ أَلْفُ مَدِينَةٍ هَلَكَتْ بِالْخَسْفِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَبْعَدُ.
وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ فَإِنَّ الْقَرْنَ يُطْلَقُ عَلَى الْأُمَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فِي أَوَّلِ الْأَنْعَامِ [٦].
وَفِي الْحَدِيثِ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»
الْحَدِيثَ.
_________
(١) فلج بِفتْحَتَيْنِ. وَقَالَ ياقوت: بِفَتْح فَسُكُون اسْم بلد، وَيُقَال: بطن فلج من همى ضريّة.
(٢) وَهُوَ أول الدهناء بفاء أُخْت الْقَاف ومثناة فوقية بعْدهَا خاء مُعْجمَة، وَقيل حاء مُهْملَة: جبل أَو قَرْيَة لأهل الرسّ لم يذكرهُ ياقوت، وَذكر فتاح وَقَالَ: جمع فتح وَقَالَ: أَرض بالدهناء ذَات رمال.
28
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَ ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْأُمَمِ. وَمَعْنَى بَيْنَ ذلِكَ أَنَّ أُمَمًا تَخَلَّلَتْ تِلْكَ الْأَقْوَامَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْمِ نُوحٍ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِيذَانٌ بِطُولِ مُدَدِ هَذِهِ الْقُرُونِ وَكَثْرَتِهَا.
وَالتَّنْوِينُ فِي كُلًّا تَنْوِينُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَكُلُّهُمْ ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَانْتَصَبَ كُلًّا الْأَوَّلُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ضَرَبْنا لَهُ تَقْدِيرُهُ: خَاطَبْنَا أَوْ حَذَّرْنَا كُلًّا وَضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ، وَانْتَصَبَ كُلًّا الثَّانِي بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَبَّرْنا وَكِلَاهُمَا مِنْ قَبِيلِ الِاشْتِغَالِ.
وَالتَّتْبِيرُ: التَّفْتِيتُ لِلْأَجْسَامِ الصُّلْبَةِ كَالزُّجَاجِ وَالْحَدِيدِ. أطلق التَّتْبِيرُ عَلَى الْإِهْلَاكِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ تَبَعِيَّةً فِي تَبَّرْنا وَأَصْلِيَّةً فِي تَتْبِيراً، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٩]، وَقَوْلِهِ: وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٧]. وَانْتَصَبَ تَتْبِيراً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ لِإِفَادَةِ شِدَّةِ هَذَا الْإِهْلَاكِ.
وَمَعْنَى ضَرْبِ الْأَمْثَالِ: قَوْلُهَا وَتَبْيِينُهَا وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
وَالْمِثْلُ: النَّظِيرُ وَالْمُشَابِهُ، أَيْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْأَشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِيَعْرِضُوا
حَالَ أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهَا. قَالَ تَعَالَى: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ [إِبْرَاهِيم: ٤٥].
[٤٠]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٤٠]
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠)
لَمَّا كَانَ سَوْقُ خَبَرِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْقُرُونِ مَقْصُودًا لِاعْتِبَارِ قُرَيْشٍ بِمَصَائِرِهِمْ نُقِلَ نَظْمُ الْكَلَامِ هُنَا إِلَى إِضَاعَتِهِمُ الِاعْتِبَارَ بِذَلِكَ وَبِمَا هُوَ أَظْهَرُ مِنْهُ لِأَنْظَارِهِمْ، وَهُوَ آثَارُ الْعَذَابِ الَّذِي نَزَلَ بِقَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ.
وَاقْتِرَانُ الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى التَّعْجِيبِ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ [الْفرْقَان: ٢١]. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ يَمُرُّونَ بِدِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ فِي أَسْفَارِهِمْ
29
لِلتِّجَارَةِ إِلَى الشَّامِ فَكَانَتْ دِيَارُهُمْ يَمُرُّ بِهَا طَرِيقُهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات: ١٣٧، ١٣٨]. وَكَانَ طَرِيقُ تِجَارَتِهِمْ مِنْ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَيَدْخُلُونَ أَرْضَ فِلَسْطِينَ فَيَمُرُّونَ حَذْوَ بُحَيْرَةِ لُوطٍ الَّتِي عَلَى شَافَّتِهَا بَقَايَا مَدِينَةِ «سَدُومَ» وَمُعْظَمُهَا غَمَرَهَا الْمَاءُ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٧٩].
وَالْإِتْيَانُ: الْمَجِيءُ. وَتَعْدِيَتُهُ بِ عَلَى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: مَرُّوا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِمَجِيءِ الْقَرْيَةِ التَّذْكِيرُ بِمَصِيرِ أَهْلِهَا فَكَأَنَّ مَجِيئَهُمْ إِيَّاهَا مُرُورٌ بِأَهْلِهَا، فَضَمَّنَ الْمَجِيءَ مَعْنَى الْمُرُورِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمُرُورَ، فَإِنَّ الْمُرُورَ يَتَعَلَّقُ بِالسُّكَّانِ وَالْمَجِيءَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَكَانِ فَيُقَالُ:
جِئْنَا خُرَاسَانَ، وَلَا يُقَالُ: مَرَرْنَا بِخُرَاسَانَ. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات: ١٣٧، ١٣٨].
وَوَصَفَ الْقَرْيَةَ بِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ لِأَنَّهَا اشْتُهِرَتْ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَأهل الْكِتَابِ. وَهَذِهِ الْقَرْيَةُ هِيَ الْمُسَمَّاةُ «سَدُومَ» بِفَتْحِ السِّينِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ وَكَانَتْ لِقَوْمِ لُوطٍ قُرًى خَمْسٌ أَعْظَمُهَا «سَدُومُ». وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٨٠].
ومَطَرَ السَّوْءِ هُوَ عَذَابٌ نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ وَرَمَادٍ، وَتَسْمِيَتُهُ مَطَرًا عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَطَرِ مَاءُ السَّمَاءِ.
وَالسَّوْءُ بِفَتْحِ السِّينِ: الضُّرُّ وَالْعَذَابُ، وَأَمَّا بِضَمِّ السِّينِ فَهُوَ مَا يَسُوءُ. وَالْفَتْحُ هُوَ الْأَصْلُ فِي مَصْدَرِ سَاءَهُ، وَأَمَّا السُّوءُ بِالضَّمِّ فَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ، فَغَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْمَصْدَرِ فِي الَّذِي يَسُوءُ بِضُرٍّ، وَاسْتِعْمَالُ اسْمِ الْمَصْدَرِ فِي ضِدِّ الْإِحْسَانِ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى تَحْقِيقِ إِتْيَانِهِمْ عَلَى الْقَرْيَةِ مَعَ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهِ اسْتِفْهَامٌ صُورِيٌّ عَنِ انْتِفَاءِ رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهَا حِينَمَا يَأْتُونَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَتَّعِظُوا بِهَا كَانُوا بِحَالِ مَنْ يَسْأَلُ عَنْهُمْ: هَلْ رَأَوْهَا، فَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ لِإِيقَاظِ الْعُقُولِ لِلْبَحْثِ عَنْ حَالِهِمْ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِمَّا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّهْدِيدِ، وَإِمَّا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِيقَاظِ لِمَعْرِفَةِ سَبَبِ عَدَمِ اتِّعَاظِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَلْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ
30
انْتِقَالًا مِنْ وَصْفِ تَكْذِيبِهِمْ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَمِ اتِّعَاظِهِمْ بِمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْأُمَمِ إِلَى ذِكْرِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ، فَيَكُونُ انْتِهَاءُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي الِاسْتِفْهَامِ. وَعَبَّرَ عَنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بِعَدَمِ رَجَائِهِ لِأَنَّ مُنْكِرَ الْبَعْثِ لَا يَرْجُو مِنْهُ نَفْعًا وَلَا يَخْشَى مِنْهُ ضُرًّا، فَعَبَّرَ عَنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ بِأَحَدِ شِقَّيِ الْإِنْكَارِ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِثْلَ الْمُؤْمِنِينَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ.
وَالنُّشُورُ: مَصْدَرُ نَشَرَ الْمَيِّتَ أَحْيَاهُ، فَنَشَرَ، أَيْ حَيِيَ. وَهُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي جَرَتْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى مَعْنَى التَّخَيُّلِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَيُرْوَى لِلْمُهَلْهِلِ فِي قِتَالِهِ لِبَنِي بَكْرِ ابْن وَائِلٍ الَّذِينَ قَتَلُوا أَخَاهُ كُلَيْبًا قَوْلُهُ:
يَا لَبَكْرٍ انْشُرُوا لِي كُلَيْبًا يَا لَبَكْرٍ أَيْنَ أَيْنَ الْفِرَارُ
فَإِذَا صَحَّتْ نِسْبَةُ الْبَيْتِ إِلَيْهِ كَانَ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ تَعْجِيزَهُمْ لِيُتَوَسَّلَ إِلَى قِتَالِهِمْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ اسْتِعْدَادٌ لِلِاعْتِبَارِ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ يَنْشَأُ عَنِ الْمُرَاقَبَةِ وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ لِطَلَبِ النَّجَاةِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُشْركُونَ لما نشأوا عَلَى إِهْمَالِ الِاسْتِعْدَادِ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ قَصُرَتْ أَفْهَامُهُمْ عَلَى هَذَا الْعَالَمِ الْعَاجِلِ فَلَمْ يُعْنَوْا إِلَّا بِأَسْبَابِ وَسَائِلِ الْعَاجِلَةِ، فَهُمْ مَعَ زَكَانَتِهِمْ فِي تَفَرُّسِ الذَّوَاتِ وَالشِّيَاتِ وَمُرَاقَبَةِ سَيْرِ النُّجُومِ وَأَنْوَاءِ الْمَطَرِ وَالرِّيحِ وَرَائِحَةِ أَتْرِبَةِ مَنَازِلِ الْأَحْيَاءِ، هُمْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّه مُعْرِضُونَ بِأَنْظَارِهِمْ عَنْ تَوَسُّمِ الْإِلَهِيَّاتِ وَحَيَاةِ الْأَنْفُسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَصْلُ ذَلِكَ الضَّلَالِ كُلِّهِ انْجَرَّ لَهُمْ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ فَلِذَلِكَ جُعِلَ هُنَا عِلَّةً لِانْتِفَاءِ اعْتِبَارِهِمْ بِمَصِيرِ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولهَا وَعَصَتْ رَبَّهَا. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الْحجر: ٧٥] أَيْ دُونَ مَنْ لَا
يتوسمون.
[٤١، ٤٢]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢)
كَانَ مَا تَقَدَّمَتْ حِكَايَتُهُ مِنْ صُنُوفِ أَذَاهُمُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقْوَالًاِِ
31
فِي مَغِيبِهِ، فَعُطِفَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَذًى خَاصٌّ وَهُوَ الْأَذَى حِينَ يَرَوْنَهُ. وَهَذَا صِنْفٌ مِنَ الْأَذَى تَبْعَثُهُمْ إِلَيْهِ مُشَاهَدَةُ الرَّسُولِ فِي غَيْرِ زِيِّ الْكُبَرَاءِ وَالْمُتْرَفِينَ لَا يَجُرُّ الْمَطَارِفَ وَلَا يَرْكَبُ النَّجَائِبَ وَلَا يَمْشِي مَرَحًا وَلَا يَنْظُرُ خُيَلَاءَ وَيُجَالِسُ الصَّالِحِينَ وَيُعْرِضُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَرْفُقُ بِالضُّعَفَاءِ وَيُوَاصِلُ الْفُقَرَاءَ، وَأُولَئِكَ يَسْتَخِفُّونَ بِالْخُلُقِ الْحَسَنِ، لِمَا غَلَبَ عَلَى آرَائِهِمْ مِنْ أَفَنٍ، لِذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ عِنْدَهُمْ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ إِذَا رَأَوْهُ بِأَنَّ حَالَهُ لَيْسَتْ حَالَ مَنْ يَخْتَارُهُ اللَّهُ لِرِسَالَتِهِ دُونَهُمْ، وَلَا هُوَ أَهْلٌ لِقِيَادَتِهِمْ وَسِيَاسَتِهِمْ. وَهَذَا الْكَلَامُ صَدَرَ مِنْ أَبِي جَهْلٍ وَأَهْلِ نَادِيهِ.
وإِذا ظَرْفُ زَمَانٍ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ فَلِذَلِكَ يُجْعَلُ مُتَعَلِّقُهُ جَوَابًا لَهُ. فَجُمْلَةُ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً جَوَابُ إِذا. وَالْهُزُؤُ بِضَمَّتَيْنِ: مَصْدَرُ هَزَأَ بِهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْله:
[تَعَالَى] قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧]. وَالْوَصْفُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ نَفْسُ الْهُزُؤِ لِأَنَّهُمْ مَحَّضُوهُ لِذَلِكَ، وَإِسْنَادُ يَتَّخِذُونَكَ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ جَمَاعَاتِهِمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ إِذَا رَأَوْهُ وَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ وَمُنْتَدَيَاتِهِمْ. وَصِيغَةُ الْحَصْرِ لِلتَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمُ انْحَصَرَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهُ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ يُلَازِمُونَهُ وَيَدْأَبُونَ عَلَيْهِ وَلَا يَخْلِطُونَ مَعَهُ شَيْئًا مِنْ تَذَكُّرِ أَقْوَالِهِ وَدَعْوَتِهِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الْمَنْفِيَّةِ، أَيْ لَا يَتَّخِذُونَكَ فِي حَالَةٍ إِلَّا فِي حَالَةِ الِاسْتِهْزَاءِ.
وَجُمْلَةُ أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ مِنْ قَبِيلِ الْقَوْلِ فَكَانَ بَيَانُهُ بِمَا هُوَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَمُجَاذَبَتِهِمُ الْأَحَادِيثَ بَيْنَهُمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِأَنْ يَكُونَ بَعَثَهُ اللَّهُ رَسُولًا.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِصْغَارِ كَمَا عَلِمْتَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ رَسُولًا لِأَنَّ فِي الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ مَا يَكْفِي لِلْقَطْعِ
بِانْتِفَاءِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي زَعْمِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٣٦]، سِوَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ هُنَالِكَ تَعَجُّبِيٌّ فَانْظُرْهُ.
32
أَمَّا قَوْلُهُمْ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَفَاخُرُهُمْ بِتَصَلُّبِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَأَنَّهُمْ كَادُوا أَنْ يَتَّبِعُوا دَعْوَةَ الرَّسُولِ بِمَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِقْنَاعِ وَالْإِلْحَاحِ فَكَانَ تَأَثُّرُ أَسْمَاعِهِمْ بِأَقْوَالِهِ يُوشِكُ بِهِمْ أَنْ يَرْفُضُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ لَوْلَا أَنَّهُمْ تَرَيَّثُوا، فَكَانَ فِي الرَّيْثِ أَنْ أَفَاقُوا مِنْ غِشَاوَةِ أَقْوَالِهِ وَخِلَابَةِ اسْتِدْلَالِهِ وَاسْتَبْصَرُوا مَرْآهُ فَانْجَلَى لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَسْتَأْهِلُ أَنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَقَدْ جَمَعُوا مِنْ كَلَامِهِمْ بَيْنَ تَزْيِيفِ حُجَّتِهِ وَتَنْوِيهِ ثَبَاتِهِمْ فِي مَقَامٍ يَسْتَفِزُّ غَيْرَ الرَّاسِخِينَ فِي الْكُفْرِ. وَهَذَا الْكَلَامُ مَشُوبٌ بِفَسَادِ الْوَضْعِ وَمُؤَلَّفٌ عَلَى طَرَائِقِ الدَّهْمَاءِ إِذْ يَتَكَلَّمُونَ كَمَا يَشْتَهُونَ وَيَسْتَبْلِهُونَ السَّامِعِينَ. وَمِنْ خِلَابَةِ الْمُغَالَطَةِ إِسْنَادُهُمْ مُقَارَبَةَ الْإِضْلَالِ إِلَى الرَّسُولِ دُونَ أَنْفُسِهِمْ تَرَفُّعًا عَلَى أَنْ يَكُونُوا قَارَبُوا الضَّلَالَ عَنْ آلِهَتِهِمْ مَعَ أَنَّ مُقَارَبَتَهُ إِضْلَالَهُمْ تَسْتَلْزِمُ اقْتِرَابَهُمْ مِنَ الضَّلَالِ.
وإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةِ، وَالْأَكْثَرُ فِي الْكَلَامِ إِهْمَالُهَا، أَيْ تَرْكُ عَمَلِهَا نَصْبَ الِاسْمِ وَرَفْعَ الْخَبَرِ، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي تَلِيهَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مُفْتَتَحَةً بِفِعْلٍ مِنْ أَخَوَاتِ كَانَ أَو من أَخَوَاتِ ظَنَّ وَهَذَا مِنْ غَرَائِبِ الِاسْتِعْمَالِ. وَلَوْ ذَهَبْنَا إِلَى أَنَّ اسْمَهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ وَأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي بَعْدَهَا خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ كَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ إِذَا خُفِّفَتْ لَمَا كَانَ ذَلِكَ بَعِيدًا. وَفِي كَلَامِ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» مَا يَشْهَدُ لَهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٦٤]، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا مُسْتَأْنَفَةٌ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَيُضِلُّنا هِيَ الْفَارِقَةُ بَين (إِن) المحققة وَبَين (إِنْ) النَّافِيَةِ.
وَالصَّبْرُ: الِاسْتِمْرَارُ عَلَى مَا يَشُقُّ عَمَلُهُ عَلَى النَّفْسِ. وَيُعَدَّى فِعْلُهُ بِحَرْفِ (عَلَى) لِمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ التَّمَكُّنِ مِنَ الشَّيْءِ الْمُسْتَمِرِّ عَلَيْهِ.
ولَوْلا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيْ امْتِنَاعُ وُقُوعِ جَوَابِهَا لِأَجْلِ وُجُودِ شَرْطِهَا فَتَقْتَضِي جَوَابًا لِشَرْطِهَا، وَالْجَوَابُ هُنَا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَ لَوْلا عَلَيْهِ، وَهُوَ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا. وَفَائِدَةُ نَسْجِ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِأَدَاةِ الشَّرْطِ ابْتِدَاءً مَتْلُوَّةً بِجَوَابِهَا قَصْدُ الْعِنَايَةِ بِالْخَبَرِ ابْتِدَاءً بِأَنَّهُ حَاصِل ثمَّ يُؤْتى بِالشَّرْطِ بَعْدَهُ تَقْيِيدًا لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ فَالصِّنَاعَةُ النَّحْوِيَّةُ تَعْتَبِرُ الْمُقَدَّمَ دَلِيلَ الْجَوَابِ، وَالْجَوَابَ مَحْذُوفًا لِأَنَّ نَظَرَ النَّحْوِيِّ لِإِقَامَةِ أَصْلِ التَّرْكِيبِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْبَلَاغَةِ فَيَعْتَبِرُونَ
33
ذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ وَتَقْيِيدُ الْخَبَرِ بَعْدَ إِطْلَاقِهِ، وَلِذَا
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«لَوْلا فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ جَارٍ مَجْرَى التَّقْيِيدِ لِلْحُكْمِ الْمُطْلَقِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصَّنْعَةِ» فَهَذَا شَأْنُ الشُّرُوطِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ كَلَامٍ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي [الممتحنة: ١] فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتُمْ قَيْدٌ فِي الْمَعْنَى لِلنَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ.
وَتَأْخِيرُ الشَّرْطِ لِيَظْهَرَ أَنَّهُ قَيْدٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الْجَوَابِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ لَا تَتَّخِذُوا يَعْنِي: لَا تَتَوَلَّوْا أعدائي إِنْ كُنْتُمْ أَوْلِيَائِي. وَقَوْلُ النَّحْوِيِّينَ فِي مِثْلِهِ هُوَ شَرْطٌ جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةٍ مَا قَبْلُهُ عَلَيْهِ» اه. وَكَذَلِكَ مَا قُدِّمَ فِيهِ عَلَى الشَّرْطِ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ تَقْدِيمًا لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْجَوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمرَان: ٩٣].
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا.
هَذَا جَوَابُ قَوْلِهِمْ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها الْمُتَضَمِّنِ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى فِي دِينِهِمْ، وَكَانَ الْجَوَابُ بِقَطْعِ مُجَادَلَتِهِمْ وَإِحَالَتِهِمْ عَلَى حِينِ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ يَنْزِلُ بِهِمْ، فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ وَعِيدًا بِعَذَابٍ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ عَذَابُ السَّيْفِ النَّازِلِ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمِمَّنْ رَآهُ أَبُو جَهْلٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي، وَزَعِيمُ الْقَالَةِ فِي ذَلِكَ النَّادِي.
وَلَمَّا كَانَ الْجَوَابُ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُحَاجَّةِ ارْتُكِبَ فِيهِ أُسْلُوبُ التَّهَكُّمِ بِجَعْلِ مَا يَنْكَشِفُ عَنْهُ الْمُسْتَقْبَلُ هُوَ مَعْرِفَةُ مَنْ هُوَ أَشَدُّ ضَلَالًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُجَارَاةِ وإرخاء الْعَنَان للمخطىء إِلَى أَنْ يَقِفَ عَلَى خَطَئِهِ وَقَدْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ مُثْخَنٌ بِالْجِرَاحِ فِي حَالَةِ النَّزْعِ لَمَّا قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ فَقَالَ: «وَهَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلِ قَتَلَهُ قَوْمُهُ».
ومَنْ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ أَوْجَبَتْ تَعْلِيقَ فِعْلِ يَعْلَمُونَ عَن الْعَمَل.
[٤٣]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٤٣]
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣)
اسْتِئْنَافٌ خُوطِبَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَخْطُرُ بِنَفْسِهِ مِنَ الْحُزْنِ عَلَى تَكَرُّرِ
34
إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَتِهِ إِذْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هُدَاهُمْ وَالْإِلْحَاحِ فِي دَعْوَتِهِمْ، فَأَعْلَمَهُ بِأَنَّ مِثْلَهُمْ لَا يُرْجَى اهْتِدَاؤُهُ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا هَوَاهُمْ إِلَهَهُمْ، فَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِعْلُ اتَّخَذَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ التَّصْيِيرِ الْمُلْحَقَةِ بِأَفْعَالِ الظَّنِّ فِي
الْعَمَلِ، وَهُوَ إِلَى بَابِ كَسَا وَأَعْطَى أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى بَابِ ظَنَّ، فَإِنَّ اتَّخَذَ مَعْنَاهُ صَيَّرَ شَيْئًا إِلَى حَالَةٍ غَيْرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ إِلَى صُورَةٍ أُخْرَى. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَفْعُولَهُ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي أُدْخِلَ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ إِلَى حَالِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي فَكَانَ الْحَقُّ أَنْ لَا يُقَدَّمَ مَفْعُولُهُ الثَّانِي عَلَى مَفْعُولِهِ الْأَوَّلِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ لَبْسٌ يَلْتَبِسُ فِيهِ الْمَعْنَى فَلَا يُدْرَى أَيُّ الْمَفْعُولَيْنِ وَقَعَ تَغْيِيرُهُ إِلَى مَدْلُولِ الْمَفْعُولِ الْآخَرِ، أَوْ كَانَ الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنَ التَّقْدِيمِ مُسَاوِيًا لِلْمَعْنَى الْحَاصِلِ مِنَ التَّرْتِيبِ فِي كَوْنِهِ مُرَادًا لِلْمُتَكَلِّمِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ إِذَا أُجْرِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ كَانَ مَعْنَاهُ جَعَلَ إِلَهَهُ الشَّيْءَ الَّذِي يَهْوَى عِبَادَتَهُ، أَيْ مَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا لَهُ، أَيْ لِمُجَرَّدِ الشَّهْوَةِ لَا لِأَنَّ إِلَهَهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْإِلَهِيَّةِ، فَالْمَعْنَى: مَنِ اتَّخَذَ رَبًّا لَهُ مَحْبُوبَهُ فَإِنَّ الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ كَانَتْ شَهْوَتُهُمْ فِي أَنْ يَعْبُدُوهَا وَلَيْسَتْ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا الْعِبَادَةَ. فَإِطْلَاقُ إِلهَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِطْلَاقٌ حَقِيقِيٌّ. وَهَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ قَبْلَهُ إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا [الْفرْقَان: ٤٢]، وَمَعْنَاهُ مَنْقُولٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَجَزَمَ بِأَنَّهُ الصَّوَابُ دُونَ غَيْرِهِ وَلَيْسَ جَزْمُهُ بِذَلِكَ بِوَجِيهٍ وَقَدْ بَحَثَ مَعَهُ بَعْضُ طَلَبَتِهِ.
وَإِذَا أُجْرِيَ عَلَى اعْتِبَارِ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي كَانَ الْمَعْنَى: مَنِ اتَّخَذَ هَوَاهُ قُدْوَةً لَهُ فِي أَعْمَالِهِ لَا يَأْتِي عَمَلًا إِلَّا إِذَا كَانَ وِفَاقًا لِشَهْوَتِهِ فَكَأَنَّ هَوَاهُ إِلَهُهُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى إِلهَهُ شَبِيهًا بِإِلَهِهِ فِي إِطَاعَتِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى أَشْمَلُ فِي الذَّمِّ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ عِبَادَتَهُمُ الْأَصْنَامَ وَيَشْمَلُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْفَوَاحِشِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ. وَنَحَا إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَابْنُ عَطِيَّةَ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحْمِلًا لِلْآيَةِ.
وَاعْلَم أَنه إِن كَانَ مَجْمُوعُ جُمْلَتَيْ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا كَلَامًا وَاحِدًا مُتَّصِلًا ثَانِيهِ بِأَوَّلِهِ اتِّصَالَ الْمَفْعُولِ بِعَامِلِهِ، تَعَيَّنَ فِعْلُ
35
«رَأَيْتَ» لِأَنْ يَكُونَ فِعْلًا قَلْبِيًّا بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ إِنْكَارِيًّا كَالثَّانِي فِي قَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا وَكَانَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ كَلَامًا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ. وَالْمَعْنَى: أَرَأَيْتَكَ تَكُونُ وَكِيلًا عَلَى مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَتَكُونُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ أَفَأَنْتَ فَاءَ الْجَوَابِ لِلْمَوْصُولِ لِمُعَامَلَتِهِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْإِسْرَاء: ٤٩] عَلَى قِرَاءَة إِعَادَة همزَة الِاسْتِفْهَامِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا
عِوَضًا عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ أَرَأَيْتَ، وَالْفِعْلُ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِيهِ بِسَبَبِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر: ١٩] وَعَلَيْهِ لَا يُوقَفُ عَلَى قَوْلِهِ هَواهُ بَلْ يُوصَلُ الْكَلَامُ. وَهَذَا النَّظْمُ هُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ كَلَامُ «الْكَشَّافِ».
وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّةً عَنِ الْأُخْرَى فِي نَظْمِ الْكَلَامِ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا إِلَهَهُمْ هَوَاهُمْ تَعْجِيبًا مَشُوبًا بِالْإِنْكَارِ، وَكَانَتِ الْفَاءُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى ذَلِكَ التَّعْجِيبِ وَالْإِنْكَارِ، وَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا إِنْكَارِيًّا بِمَعْنَى: أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ قَلْعَهُ عَنْ ضَلَالِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الْفرْقَان: ٤٢].
ومَنْ صَادِقَةٌ عَلَى الْجَمْعِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ [الْفرْقَان: ٤٢] وَرُوعِيَ فِي ضَمَائِرِ الصِّلَةِ لَفْظُ مَنْ فَأُفْرِدَتِ الضَّمَائِرُ. وَالْمَعْنَى:
مَنِ اتَّخَذُوا هَوَاهُمْ إِلَهًا لَهُمْ أَوْ مَنِ اتَّخَذُوا آلِهَةً لِأَجْلِ هَوَاهُمْ.
وَ «إِلَهٌ» جِنْسٌ يَصْدُقُ بِعِدَّةِ آلِهَةٍ إِنْ أُرِيدَ مَعْنَى اتَّخَذُوا آلِهَةً لِأَجْلِ هَوَاهُمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْله فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا لِلتَّقَوِّي إِشَارَةً إِلَى إِنْكَارِ مَا حَمَّلَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَفْسَهُ مِنَ الْحِرْصِ وَالْحُزْنِ فِي طَلَبِ إِقْلَاعِهِمْ عَنِ الْهَوَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يُونُس: ٩٩]. وَالْمَعْنَى:
تَكُونُ وَكِيلًا عَلَيْهِ فِي حَالِ إِيمَانِهِ بِحَيْثُ لَا تُفَارِقُ إِعَادَةَ دَعْوَتِهِ إِلَى الْإِيمَانِ حَتَّى تلجئه إِلَيْهِ.
36

[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٤٤]

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)
انْتِقَالٌ عَنِ التَّأْيِيسِ مِنِ اهْتِدَائِهِمْ لِغَلَبَةِ الْهَوَى عَلَى عُقُولِهِمْ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ إِدْرَاكُ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ، وَهَذَا تَوْجِيهٌ ثَانٍ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ مُجَادَلَتِهِمُ الَّتِي أَنْبَأَ عَنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الْفرْقَان: ٤٢]، فَ أَمْ مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ إِنْكَارٍ إِلَى إِنْكَارٍ وَهِيَ مُؤْذِنَةٌ بِاسْتِفْهَامٍ عَطَفَتْهُ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي قَبْلَهَا. وَالتَّقْدِيرُ: أَمْ أَتَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ.
وَالْمُرَادُ مِنْ نَفْيِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ نَفْيُ أَثَرِ السَّمَاعِ وَهُوَ فَهْمُ الْحَقِّ لِأَنَّ مَا يلقيه إِلَيْهِم الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إِلَّا مَنْ هُوَ كَالَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا
تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ
[النَّمْل: ٨٠].
وَعَطْفُ أَوْ يَعْقِلُونَ عَلَى يَسْمَعُونَ لِنَفْيِ أَنْ يَكُونُوا يَعْقِلُونَ الدَّلَائِلَ غَيْرَ الْمَقَالِيَّةِ وَهِيَ دَلَائِلُ الْكَائِنَاتِ قَالَ تَعَالَى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُس: ١٠١].
وَإِنَّمَا نُفِيَ فَهْمُ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ عَنْ أَكْثَرِهِمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ، لِأَنَّ هَذَا حَالُ دَهْمَائِهِمْ وَمُقَلِّدِيهِمْ، وَفِيهِمْ مَعْشَرٌ عُقَلَاءُ يَفْهَمُونَ وَيَسْتَدِلُّونَ بِالْكَائِنَاتِ وَلَكِنَّهُمْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ حُبُّ الرِّئَاسَةِ وَأَنِفُوا مِنْ أَنْ يَعُودُوا أَتْبَاعًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُسَاوِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ ضُعَفَاءِ قُرَيْشٍ وَعَبِيدِهِمْ مِثْلِ عَمَّارٍ، وَبِلَالٍ.
وَجُمْلَةُ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِنْكَارِ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِينَ سُؤَالًا عَنْ نَفْيِ فَهْمِهِمْ لِمَا يَسْمَعُونَ مَعَ سَلَامَةِ حَوَاسِّ السَّمْعِ مِنْهُمْ، فَكَانَ تَشْبِيهُهُمْ بِالْأَنْعَامِ تَبْيِينًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ حُصُولِ اختراق أصوات الدعْوَة آذَانَهُمْ مَعَ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا لِعَدَمِ تَهَيُّئِهِمْ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا، فَالْغَرَضُ مِنَ التَّشْبِيهِ التَّقْرِيبُ وَالْإِمْكَانُ كَقَوْلِ أَبِي الطَّيِّبِ:
فَإِنْ تَفُقِ الْأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ
وَضَمَائِرُ الْجَمْعِ عَائِدَةٌ إِلَى أَكْثَرِهِمْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى لَفْظِهِ كَمَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ يَسْمَعُونَ.
وَانْتُقِلَ فِي صِفَةِ حَالِهِمْ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ حَالِ الْأَنْعَامِ بِأَنَّهُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا مِنَ الْأَنْعَامِ. وَضَلَالُ السَّبِيلِ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ لِلْمَقْصُودِ لِأَنَّ الْأَنْعَامَ تَفْقَهُ بَعْضَ مَا تَسْمَعُهُ مِنْ أَصْوَاتِ الزَّجْرِ وَنَحْوِهَا مِنْ رُعَاتِهَا وَسَائِقِيهَا وَهَؤُلَاءِ لَا يَفْقَهُونَ شَيْئًا مِنْ أَصْوَاتِ مُرْشِدِهِمْ وَسَائِسِهِمْ وَهُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ [الْبَقَرَة: ٧٤] الْآيَة.
[٤٥، ٤٦]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٤٥ إِلَى ٤٦]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ فِيهِ انْتِقَالٌ مِنْ إِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِثْبَاتِ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَصِفَاتِ الرُّسُلِ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْوَعِيدِ وَهُوَ مِنْ هَذَا الِاعْتِبَارِ
مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] الْآيَةَ.
وَفِيهِ انْتِقَالٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ وَإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِلَّهِ وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً [الْفرْقَان: ٣] الْآيَةَ.
وَتَوْجِيهُ الْخِطَابِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتَضِي أَنَّ الْكَلَامَ مُتَّصِلٌ بِنَظِيرِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الْفرْقَان: ٦]. وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ [الْفرْقَان: ١٥] وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الْفرْقَان: ٢٠] وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً [الْفرْقَان: ٣١] فَكُلُّهَا مُخَاطَبَاتٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ جُعِلَ مَدُّ الظِّلِّ وَقَبْضُهُ تَمْثِيلًا لِحِكْمَةِ التَّدْرِيجِ فِي التَّكْوِينَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْعُدُولِ بِهَا عَنِ الطَّفْرَةِ فِي الْإِيجَادِ لِيَكُونَ هَذَا التَّمْثِيلُ بِمَنْزِلَةِ كُبْرَى الْقِيَاسِ لِلتَّدْلِيلِ عَلَى أَنَّ تَنْزِيلَ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا جَارٍ عَلَى حِكْمَةِ التَّدَرُّجِ لِأَنَّهُ أَمْكَنُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سَابِقًا كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفرْقَان: ٣٢]. فَكَانَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ... الْآيَةَ زِيَادَةٌ فِي التَّعْلِيلِ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفرْقَان: ٣٢].
وَيَسْتَتْبِعُ هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى تَمْثِيلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِظُهُورِ شَمْسٍ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَانَتْ
38
مُظَلَّلَةً إِذْ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا فَإِنَّ حَالَ النَّاسِ فِي الضَّلَالَةِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ تُشَبَّهُ بِحَالِ امْتِدَادِ ظُلْمَةِ الظِّلِّ، وَصَارَ مَا كَانَ مُظَلَّلًا ضَاحِيًا بِالشَّمْسِ وَكَانَ زَوَالُ ذَلِكَ الظِّلِّ تَدْرِيجًا حَتَّى يَنْعَدِمَ الْفَيْءُ.
فَنَظْمُ الْآيَةِ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ التَّمْثِيلِ أَفَادَ تَمْثِيلَ هَيْئَةِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ مُنَجَّمًا بِهَيْئَةِ مَدِّ الظِّلَّ مُدَرَّجًا وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا.
وَكَانَ نَظْمُهَا بِحَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَةِ تَرْكِيبِهِ مُفِيدا الْعبْرَة بعد الظِّلِّ وَقَبْضِهِ فِي إِثْبَاتِ دَقَائِقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَانِ الْمُفَادَانِ مِنْ قَبِيلِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ. وَكَانَ نَظْمُ الْكَلَامِ بِمَعْنَى مَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ التَّصْرِيحِيَّةِ مِنْ تَشْبِيهِ الْهِدَايَةِ بِنور الشَّمْس، وتقلّص ضلال الْكفْر بانقباض الظل بعد أَن كَانَ مديدا قبل طُلُوع الشَّمْسِ. وَبِهَذِهِ النُّكْتَةِ عُطِفَ قَوْلُهُ ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً إِلَى قَوْلِهِ وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً [الْفرْقَان: ٤٧].
والاستفهام تقريري فَهُوَ صَالِحٌ لِطَبَقَاتِ السَّامِعِينَ: مِنْ غَافَلٍ يُسْأَلُ عَنْ غَفْلَتِهِ لِيُقِرَّ بِهَا
تَحْرِيضًا عَلَى النَّظَرِ، وَمِنْ جَاحِدٍ يُنْكَرُ عَلَيْهِ إِهْمَالُهُ النَّظَرَ، وَمِنْ مُوَفَّقٍ يُحَثُّ عَلَى زِيَادَةِ النَّظَرِ.
وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، وَقَدْ ضُمِّنَ الْفِعْلُ مَعْنَى النَّظَرِ فَعُدِّيَ إِلَى الْمَرْئِيِّ بِحَرْفِ (إِلَى).
وَالْمَدُّ: بَسْطُ الشَّيْءِ الْمُنْقَبِضِ الْمُتَدَاخِلِ يُقَالُ: مَدَّ الْحَبْلَ وَمَدَّ يَدَهُ، وَيُطْلَقُ الْمَدُّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الشَّيْءِ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ شَائِعَةٌ، وَهُوَ هُنَا الزِّيَادَةُ فِي مِقْدَارِ الظِّلِّ.
ثُمَّ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ حَالَةً مِنْ أَحْوَالِ الذَّاتِ تَصِحُّ رُؤْيَتُهَا فَلَكَ تَعْدِيَةُ الْفِعْلِ إِلَى الْحَالَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الْفِيلِ: ١] أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [نوح: ١٥]، وَصَحَّ تَعْدِيَتُهُ إِلَى اسْمِ الذَّاتِ مُقَيَّدَةً بِالْحَالَةِ الْمَقْصُودَةِ بِحَالٍ أَوْ ظَرْفٍ أَوْ صِلَةٍ نَحْوِ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: ١٧] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [الْبَقَرَة: ٢٥٨] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لنبيء لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً [الْبَقَرَة: ٢٤٦].
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْدِيَتَيْنِ أَنَّ الْأُولَى يُقْصَدُ مِنْهَا الْعِنَايَةُ بِالْحَالَةِ لَا بِصَاحِبِهَا، فَالْمَقْصُودُ مِنْ آيَةِ سُورَةِ الْفِيلِ: الِامْتِنَانُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِمَا حَلَّ بِالَّذِينَ انْتَهَكُوا حُرْمَتَهَا مِنَ
39
الِاسْتِئْصَالِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ آيَةِ سُورَةِ الْغَاشِيَةِ الْعِبْرَةُ بِكَيْفِيَّةِ خَلْقِهِ الْإِبِلَ لِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ عَجِيبِ الْمَنَافِعِ، وَكَذَلِكَ الْآيَتَانِ الْأَخِيرَتَانِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَقَامُ هُنَا مَقَامَ إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ الْحَقِّ لِلَّهِ تَعَالَى، أُوثِرَ تَعَلُّقُ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ بِاسْمِ الذَّاتِ ابْتِدَاءً ثُمَّ مَجِيءُ الْحَالِ بَعْدَ ذَلِكَ مَجِيئًا كَمَجِيءِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ نُوحٍ [١٥] أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ دُونَ أَنْ يُقَالَ: أَلَمْ تَرَوْا رَبَّكُمْ كَيْفَ خَلَقَ، لِأَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا مُتَصَلِّبِينَ فِي الْكُفْرِ وَكَانَ قَدْ جَادَلَهُمْ فِي اللَّهِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَعَلِمَ أَنَّهُ إِنِ ابْتَدَأَهُمْ بِالدَّعْوَةِ إِلَى النَّظَرِ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ فَلَمْ يَسْمَعُوا إِلَيْهِ فَبَادَأَهُمْ بِاسْتِدْعَاءِ النَّظَرِ إِلَى كَيْفِيَّةِ الْخَلْقِ.
وَعَلَى كُلٍّ فَإِنَّ كَيْفَ هُنَا مُجَرَّدَةٌ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ وَهِيَ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ فَهِيَ فِي مَحَلٍّ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ رَبِّكَ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ إِلَى هَيْئَةِ مَدِّهِ الظِّلَّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ خُرُوجِ (كَيْفَ) عَنِ الِاسْتِفْهَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانِ [٦]، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو النَّهَارُ مِنْ وُجُودِ الظِّلِّ.
وَفِي وُجُودِ الظِّلِّ دَقَائِقُ مِنْ أَحْوَالِ النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ فَإِنَّ الظِّلَّ مِقْدَارٌ مُحَدَّدٌ مِنَ الظُّلْمَةِ
يَحْصُلُ مِنْ حَيْلُولَةِ جِسْمٍ بَيْنَ شُعَاعِ الشَّمْسِ وَبَيْنَ الْمَكَانِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الشُّعَاعُ فَيَنْطَبِعُ عَلَى الْمَكَانِ مِقْدَارٌ مِنَ الظِّلِّ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارِ كَيْفِيَّةِ الْجِسْمِ الْحَائِلِ بَيْنَ الشُّعَاعِ وَبَيْنَ مَوْقِعِ الشُّعَاعِ عَلَى حَسَبِ اتِّجَاهِ ذَلِكَ الْجِسْمِ الْحَائِلِ مِنْ جِهَتِهِ الدَّقِيقَةِ أَوِ الضَّخْمَةِ، وَيَكُونُ امْتِدَادُ تِلْكَ الظلمَة المكيّفية بِكَيْفِيَّةِ ذَلِكَ الْجِسْمِ مُتَفَاوِتًا عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ بُعْدِ اتِّجَاهِ الْأَشِعَةِ مِنْ مَوْقِعِهَا وَمِنَ الْجِسْمِ الْحَائِلِ وَمُخْتَلِفًا بِاسْتِوَاءِ الْمَكَانِ وَتَحَدُّبِهِ، فَذَلِكَ التَّفَاوُتُ فِي مَقَادِيرِ ظِلِّ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَدِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ كُلَّمَا زَادَ مِقْدَار الظلمَة المكيّفية لِكَيْفِيَّةِ الْحَائِلِ زَادَ امْتِدَادُ الظِّلِّ. فَتِلْكَ كُلُّهَا دَلَائِلُ كَثِيرَةٌ مِنْ دَقَائِقِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ وَالْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ.
وَقَدْ أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى كَامِلًا فِعْلُ مَدَّ.
40
وَهَذَا الِامْتِدَادُ يَكْثُرُ عَلَى حَسَبِ مُقَابَلَةِ الْأَشِعَةِ لِلْحَائِلِ فَكُلَّمَا اتَّجَهَتِ الْأَشِعَةُ إِلَى الْجِسْمِ مِنْ أَخْفَضِ جِهَةٍ كَانَ الظِّلُّ أَوْسَعَ، وَإِذَا اتَّجَهَتْ إِلَيْهِ مُرْتَفِعَةً عَنْهُ تَقَلَّصَ ظِلُّهُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا إِلَى أَنْ تَصِيرَ الْأَشِعَةُ مُسَامِتَةً أَعْلَى الْجِسْمِ سَاقِطَةً عَلَيْهِ فَيَزُولَ ظِلُّهُ تَمَامًا أَوْ يَكَادُ يَزُولُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أَيْ غَيْرَ مُتَزَايِدٍ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَدُّ الظِّلِّ يُشْبِهُ صُورَةَ التَّحَرُّكِ أُطْلِقَ عَلَى انْتِفَاءِ الِامْتِدَادِ اسْمُ السُّكُونِ بِأَنْ يُلَازِمَ مِقْدَارًا وَاحِدًا لَا يَنْقُصُ وَلَا يَزِيدُ، أَيْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَ الْأَرْضَ ثَابِتَةً فِي سَمْتٍ وَاحِدٍ تِجَاهَ أَشِعَةِ الشَّمْسِ فَلَا يَخْتَلِفُ مِقْدَارُ ظَلِّ الْأَجْسَامِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ وَتَلْزَمُ ظِلَالُهَا حَالَةً وَاحِدَةً فَتَنْعَدِمُ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ.
وَدَلَّتْ مُقَابَلَةُ قَوْلِهِ: مَدَّ الظِّلَّ بِقَوْلِهِ لَجَعَلَهُ ساكِناً عَلَى حَالَةٍ مَطْوِيَّةٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَهِيَ حَالَةُ عُمُومِ الظِّلِّ جَمِيعَ وَجْهِ الْأَرْضِ، أَيْ حَالَةُ الظُّلْمَةِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي سَبَقَتِ اتِّجَاهَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ إِلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُ التَّوْرَاةِ «وَكَانَتِ الْأَرْضُ خَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْقَمَرِ ظُلْمَةٌ» ثُمَّ قَالَ «وَقَالَ اللَّهُ لِيَكُنْ نُورٌ فَكَانَ نُورٌ... » وَفَصَلَ اللَّهُ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ (إِصْحَاحُ وَاحِدٍ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ)، فَاسْتِدْلَالُ الْقُرْآنِ بِالظِّلِّ أَجْدَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالظُّلْمَةِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ لَا يَكَادُ يَحْصُلُ الشُّعُورُ بِجَمَالِهَا بِخِلَافِ الظِّلِّ فَهُوَ جَامِعٌ بَيْنَ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ فَكِلَا دَلَالَتَيْهِ وَاضِحَةٌ.
وَجُمْلَةُ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ فِي الظِّلِّ مِنَّةً.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَدَّ الظِّلَّ وَأَفَادَتْ ثُمَّ أَنَّ مَدْلُولَ الْمَعْطُوفِ بِهَا مُتَرَاخٍ فِي الرُّتْبَةِ عَنْ مَدْلُولِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ شَأْنَ ثُمَّ إِذَا عَطَفَتِ الْجُمْلَةَ. وَمَعْنَى تَرَاخِي الرُّتْبَةِ أَنَّهَا أَبْعَدُ اعْتِبَارًا، أَيْ أَنَّهَا أَرْفَعُ فِي التَّأْثِيرِ أَوْ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّ وُجُودَ الشَّمْسِ هُوَ عِلَّةُ وُجُودِ الظِّلِّ لِلْأَجْسَامِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ وَالسَّبَبُ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنَ الْمُسَبَّبِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ مَدَّ الظِّلَّ بِأَنْ جَعَلَ الشَّمْسَ دَلِيلًا عَلَى مَقَادِيرِ امْتِدَادِهِ. وَلَمْ
يُفْصِحِ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِفْصَاحًا شَافِيًا.
وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلْنَا لِأَنَّ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ
41
أَدْخَلُ فِي الِامْتِنَانِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذَا الْجَعْلَ نِعْمَةٌ وَهِيَ نِعْمَةُ النُّورِ الَّذِي بِهِ تَمْيِيزُ أَحْوَالِ الْمَرْئِيَّاتِ وَعَلِيهِ فَقَوله [تَعَالَى] : ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ارْتِقَاءٌ فِي الْمِنَّةِ.
وَالدَّلِيلُ: الْمُرْشِدُ إِلَى الطَّرِيقِ وَالْهَادِي إِلَيْهِ، فَجُعِلَ امْتِدَادُ الظِّلِّ لِاخْتِلَافِ مَقَادِيرِهِ كَامْتِدَادِ الطَّرِيقِ وَعَلَامَاتِ مَقَادِيرَ مِثْلِ صُوَى الطَّرِيقِ، وَجُعِلَتِ الشَّمْسُ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ سَبَبًا فِي ظُهُورِ مَقَادِيرِ الظِّلِّ كَالْهَادِي إِلَى مَرَاحِلَ، بِطَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، فَكَمَا أَنَّ الْهَادِيَ يُخْبِرُ السَّائِرَ أَيْنَ يَنْزِلُ مِنَ الطَّرِيقِ، كَذَلِكَ الشَّمْسُ بِتَسَبُّبِهَا فِي مَقَادِيرِ امْتِدَادِ الظِّلِّ تُعَرِّفُ الْمُسْتَدِلَّ بِالظِّلِّ بِأَوْقَاتِ أَعْمَالِهِ لِيَشْرَعَ فِيهَا.
وَتَعْدِيَةُ دَلِيلًا بِحَرْفِ (عَلَى) تُفِيدُ أَنَّ دَلَالَةَ الشَّمْسِ عَلَى الظِّلِّ هُنَا دَلَالَةُ تَنْبِيهٍ عَلَى شَيْءٍ قَدْ يَخْفَى كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
«إِلَّا عَلَيَّ دَلِيلٌ» (١) وَشَمِلَ هَذَا حَالَتَيِ الْمَدِّ وَالْقَبْضِ.
وَجُمْلَةُ ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَدَّ الظِّلَّ، أَوْ عَلَى جُمْلَةِ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا لِأَنَّ قَبْضَ الظِّلِّ مِنْ آثَارِ جَعْلِ الشَّمْسِ دَلِيلًا عَلَى الظِّلِّ.
وثُمَّ الثَّانِيَةُ مِثْلُ الْأُولَى مُفِيدَةٌ التَّرَاخِيَ الرُّتْبِيَّ، لِأَنَّ مَضْمُونَ جُمْلَةِ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً أَهَمُّ فِي الِاعْتِبَارِ بِمَضْمُونِهَا مِنْ مَضْمُونِ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا إِذْ فِي قَبْضِ الظِّلِّ دَلَالَةٌ مِنْ دَلَالَةِ الشَّمْسِ هِيَ عَكْسُ دَلَالَتِهَا عَلَى امْتِدَادِهِ فَكَانَتْ أَعْجَبَ إِذْ هِيَ عَمَلٌ ضِدٌّ لِلْعَمَلِ الْأَوَّلِ، وَصُدُورُ الضِّدَّيْنِ مِنَ السَّبَبِ الْوَاحِدِ أَعْجَبُ مِنْ صُدُورِ أَحَدِهِمَا السَّابِقِ فِي الذِّكْرِ.
وَالْقَبْضُ: ضِدُّ الْمَدِّ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّقْصِ، أَيْ نَقَصْنَا امْتِدَادَهُ، وَالْقَبْضُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلنَّقْصِ. وَتَعْدِيَتُهُ بِقَوْلِهِ: إِلَيْنا تَخْيِيلٌ، شُبِّهَ الظِّلُّ بِحَبْلٍ أَوْ ثَوْبٍ
_________
(١) أَوله:
إِلَى الله أَشْكُو أنني لست مَاشِيا وَلَا جائيا إِلَّا عليّ دَلِيل
أَي: رَقِيب يدل عليّ.
42
طَوَاهُ صَاحِبُهُ بَعْدَ أَنْ بَسَطَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَةِ، وَحَرْفُ (إِلَى) وَمَجْرُورُهُ تَخْيِيلٌ.
وَمَوْقِعُ وَصْفِ الْقَبْضِ بِيَسِيرٍ هُنَا أَنَّهُ أُرِيدَ أَنَّ هَذَا الْقَبْضَ يَحْصُلُ بِبُطْءٍ دُونَ طَفْرَةٍ، فَإِنَّ فِي التَّرَيُّثِ تَسْهِيلًا لِقَبْضِهِ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمُجَزَّأَ أَيْسَرُ عَلَى النُّفُوسِ مِنَ الْمُجْتَمِعِ غَالِبًا، فَأُطْلِقُ الْيُسْرُ وَأُرِيدَ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ عُرْفًا، وَهُوَ التَّدْرِيجُ بِبُطْءٍ، عَلَى طَرِيقَةِ الْكِنَايَةِ، لِيَكُونَ صَالِحًا لِمَعْنًى آخَرَ سَنَتَعَرَّضُ إِلَيْهِ فِي آخِرِ كَلَامِنَا.
وَتَعْدِيَةُ الْقَبْضِ بِ إِلَيْنا لِأَنَّهُ ضِدُّ الْمَدِّ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: مَدَّ الظِّلَّ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ مَعْنَى قَبَضْناهُ أَنَّ هَذَا الْقَبْضَ وَاقِعٌ بَعْدَ الْمَدِّ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ.
وَفِي مَدِّ الظِّلِّ وَقَبْضِهِ نِعْمَةُ مَعْرِفَةِ أَوْقَاتِ النَّهَارِ لِلصَّلَوَاتِ وَأَعْمَالِ النَّاسِ، وَنِعْمَةُ التَّنَاوُبِ فِي انْتِفَاعِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْطَارِ بِفَوَائِدِ شُعَاعِ الشَّمْسِ وَفَوَائِدِ الْفَيْءِ بِحَيْثُ إِنَّ الْفَرِيقَ الَّذِي كَانَ تَحْتَ الْأَشِعَةِ يَتَبَرَّدُ بِحُلُولِ الظِّلِّ، وَالْفَرِيقَ الَّذِي كَانَ فِي الظِّلِّ يَنْتَفِعُ بِانْقِبَاضِهِ.
هَذَا مَحَلُّ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ اللَّتَيْنِ تَتَنَاوَلُهُمَا عُقُولُ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ مَدَارِكِهِمْ. وَوَرَاءَ ذَلِكَ عِبْرَةٌ عِلْمِيَّةٌ كُبْرَى تُوَضِّحُهَا قَوَاعِدُ النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَحَرَكَةُ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ وَظُهُورُ الظُّلْمَةِ وَالضِّيَاءِ، فَلَيْسَ الظِّلُّ إِلَّا أَثَرَ الظُّلْمَةِ فَإِنَّ الظُّلْمَةَ هِيَ أَصْلُ كَيْفِيَّاتِ الْأَكْوَانِ ثُمَّ انْبَثَقَ النُّورُ بِالشَّمْسِ وَنَشَأَ عَنْ تَدَاوُلِ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ نِظَامُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَعَنْ ذَلِكَ نِظَامُ الْفُصُولِ وَخُطُوطِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ لِلْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَبِهَا عُرِفَتْ مَنَاطِقُ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ.
وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَصْلِ الْمَخْلُوقَاتِ كَيْفَ طَرَأَ عَلَيْهَا الْإِيجَادُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عَدَمًا، وَكَيْفَ يَمْتَدُّ وُجُودُهَا فِي طَوْرِ نَمَائِهَا، ثُمَّ كَيْفَ تَعُودُ إِلَى الْعَدَمِ تَدْرِيجًا فِي طَوْرِ انْحِطَاطِهَا إِلَى أَنْ تَصِيرَ إِلَى الْعَدَمِ، فَذَلِكَ مِمَّا يُشِيرُ إِلَيْهِ ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً فَيَكُونُ قَدْ حَصَلَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَحْوَالِ الظِّلِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الْمِنَّةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى نِظَامِ الْقُدْرَةِ تَقْرِيبٌ لِحَالَةِ إِيجَادِ النَّاسِ وَأَحْوَالِ الشَّبَابِ وَتَقَدُّمِ السِّنِّ،
43
وَأَنَّهُمْ عَقِبَ ذَلِكَ صَائِرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ يَوْمَ الْبَعْثِ مَصِيرًا لَا إِحَالَةَ فِيهِ وَلَا بُعْدَ، كَمَا يَزْعُمُونَ، فَلَمَّا صَارَ قَبْضُ الظِّلِّ مَثَلًا لِمَصِيرِ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ بِالْبَعْثِ وُصِفَ الْقَبْضُ بِيَسِيرٍ تَلْمِيحًا إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: ٤٤].
وَفِي هَذَا التَّمْثِيلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحَيَاةَ فِي الدُّنْيَا كَظِلٍّ يَمْتَدُّ وَيَنْقَبِضُ وَمَا هُوَ إِلَّا ظِلٌّ.
فَهَذَانِ الْمَحْمِلَانِ فِي الْآيَةِ مِنْ معجزات الْقُرْآن العملية.
[٤٧]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٤٧]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧)
مُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِ الظِّلِّ وَالضَّحَاءِ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ظَاهِرَةٌ، فَاللَّيْلُ يُشْبِهُ الظِّلَّ فِي أَنَّهُ ظُلْمَةٌ تَعْقُبُ نُورَ الشَّمْسِ.
وَمَوْرِدُ الِاسْتِدْلَالِ الْمَقْصِدُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ، أَيْ لَا يُشْرِكُهُ غَيْرُهُ فِي جَعْلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. أَمَّا كَوْنُ الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ بِخَلْقِ اللَّهِ فَهُمْ يُقِرُّونَ بِهِ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ عَلَى الْإِجْمَالِ أُبْطِلَتْ شَرِكَتُهُمْ بِقَصْرِ التَّصَرُّفِ فِي الْأَزْمَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ إِذَا بَطُلَ تَصَرُّفُهُمْ فِي بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ اخْتَلَّتْ حَقِيقَةُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُمْ إِذِ الْإِلَهِيَّةُ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ.
ولَكُمُ مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلَ أَيْ مِنْ جُمْلَةِ مَا خُلِقَ لَهُ اللَّيْلُ أَنَّهُ يَكُونُ لِبَاسًا لَكُمْ. وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّيْلَ خُلِقَ لِذَلِكَ فَقَطْ لِأَنَّ اللَّيْلَ عَوْدُ الظَّلَمَةِ إِلَى جَانِبٍ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ الْمُحْتَجِبِ عَنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ بِاسْتِدَارَاتِهِ فَتَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ فَوَائِدُ جَمَّةٌ مِنْهَا مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ... [الْفرْقَان: ٦٢] إِلَخْ.
وَقَدْ رَجَعَ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ.
ولِباساً مُشَبَّهٌ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ سَاتِرًا لَكُمْ يَسْتُرُ بَعْضَكُمْ
44
عَنْ بَعْضٍ. وَفِي هَذَا السَّتْرِ مِنَنٌ كَثِيرَةٌ لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ الَّتِي يَجِبُ إِخْفَاؤُهَا.
وَتَقْدِيمُ الِاعْتِبَارِ بِحَالَةِ سَتْرِ اللَّيْلِ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِحَالَةِ النَّوْمِ لِرَعْيِ مُنَاسِبَةِ اللَّيْلِ بِالظِّلِّ كَمَا تَقَدَّمَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً فِي سُورَةِ النَّبَأِ [٨- ١٠]، فَإِنَّ نِعْمَةَ النَّوْمِ أَهَمُّ مِنْ نِعْمَةِ السَّتْرِ، وَلِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ نِعْمَةِ خَلْقِ الْأَزْوَاجِ وَبَيْنَ النَّوْمِ أَشَدُّ.
وَقَدْ جَمَعَتِ الْآيَةُ اسْتِدْلَالًا وَامْتِنَانًا فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ الْخَالِقِ، وَهِيَ أَيْضًا تَذْكِيرٌ بِنِعَمِهِ، فَإِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ آيَاتٍ جَمَّةً لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حُصُولُ الظُّلْمَةِ مِنْ دِقَّةِ نِظَامِ دَوَرَانِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ وَمِنْ دِقَّةِ نِظَامِ خَلْقِ الشَّمْسِ، وَلِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ النَّهَارِ مِنْ تَغَيُّرِ دَوَرَانِ الْأَرْضِ وَمِنْ فَوَائِدِ نُورِ الشَّمْسِ، ثُمَّ مَا فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنْ نِظَامِ النَّوْمِ الْمُنَاسِبِ لِلظُّلْمَةِ حِينَ تَرْتَخِي أَعْصَابُ النَّاسِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ بِالنَّوْمِ تَجَدُّدُ نَشَاطِهِمْ، وَمِنَ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى التَّسَتُّرِ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَمِنْ نِظَامِ النَّهَارِ مِنْ تَجَدُّدِ النَّشَاطِ وَانْبِعَاثِ النَّاس لِلْعَمَلِ وَسَآمَتِهِمْ مِنَ الدَّعَةِ، مَعَ مَا هُوَ مُلَائِمٌ لِذَلِكَ مِنَ النُّورِ الَّذِي بِهِ إِبْصَارُ مَا يَقْصِدُهُ الْعَامِلُونَ.
وَالسُّبَاتُ لَهُ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ فِي اللُّغَةِ نَاشِئَةٌ عَنِ التَّوَسُّعِ فِي مَادَّةِ السَّبْتِ وَهُوَ الْقَطْعُ.
وَأَنْسَبُ الْمَعَانِي بِمَقَامِ الِامْتِنَانِ هُوَ مَعْنَى الرَّاحَةِ وَإِنْ كَانَ فِي كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ اعْتِبَارٌ بِدَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيّ السبات بِالْمَوْتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ نَاظِرًا فِي ذَلِكَ إِلَى مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً.
وَإِعَادَةُ فِعْلِ جَعَلَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً دُونَ أَنْ يُعَادَ فِي قَوْلِهِ وَالنَّوْمَ سُباتاً مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ تَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّهُ جَعْلٌ مُخَالِفٌ لِجَعْلِ اللَّيْلِ لِبَاسًا. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ نُشُوراً، وَالنُّشُورُ: بَعْثُ الْأَمْوَاتِ، وَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلتَّذْكِيرِ بِالْبَعْثِ وَتَعْرِيضٌ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَنْ أَحَالُوهُ، بِتَقْرِيبِهِ بِالْهُبُوبِ فِي النَّهَارِ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصْبَحَ «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ إِذْ أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»
. وَالنُّشُورُ: الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً [الْفرْقَان: ٤٠]. وَهُوَ هُنَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ الْبُرُوزُ وَالِانْتِشَارُ فَيَكُونُ ضِدَّ
45
اللِّبَاسِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ بِهِ عَنِ النَّهَارِ حَقِيقِيًّا، وَالْمِنَّةُ فِي أَنَّ النَّهَارَ يَنْتَشِرُ فِيهِ النَّاسُ لِحَوَائِجِهِمْ وَاكْتِسَابِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ بَعْثُ الْأَجْسَادِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَيَكُونُ الْإِخْبَارُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيه البليغ.
[٤٨- ٥٠]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٤٨ إِلَى ٥٠]
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠)
اسْتِدْلَالٌ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ وَامْتِنَانٌ بِتَكْوِينِ الرِّيَاحِ وَالْأَسْحِبَةِ وَالْمَطَرِ. وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ مِنْ حَيْثُ مَا فِي الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ حَالِ النُّشُورِ وَالِامْتِنَانِ بِهِ فَانْتَقَلَ إِلَى مَا فِي الرِّيَاحِ مِنَ النُّشُورِ بِذِكْرِ وَصْفِهَا بِأَنَّهَا نُشُرٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، أَوْ لِكَوْنِهَا كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ عَلَى قِرَاءَةِ عَاصِمٍ. وَمَرْدُودُ الِاسْتِدْلَالِ قَصْرُ إِرْسَالِ الرِّيَاحِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِبْطَالًا لِادِّعَاءِ الشُّرَكَاءِ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ بِنَفْيِ الشَّرِكَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الْكَائِنَاتِ وَذَلِكَ مَا لَا يُنْكِرُهُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً [الْفرْقَان: ٤٧] إِلَخْ..
وَأُطْلِقَ عَلَى تَكْوِينِ الرِّيَاحِ فِعْلُ أَرْسَلَ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي بَعْثِ شَيْءٍ وَتَوْجِيهِهِ، لِأَنَّ حَرَكَةَ الرِّيَاحِ تُشْبِهُ السَّيْرَ. وَقَدْ شَاعَ اسْتِعْمَالُ الْإِرْسَالِ فِي إِطْلَاقِ الْعَنَانِ لِخَيْلِ السباق.
وَهَذَا الِاسْتِدْلَال بدقيق صنع اللَّهِ فِي تَكْوِينِ الرِّيَاحِ، فَالْعَامَّةُ يَعْتَبِرُونَ بِمَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ
مُشَاهَدَتِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَالْخَاصَّةُ يُدْرِكُونَ كَيْفِيَّةَ حُدُوثِ الرِّيَاحِ وَهُبُوبِهَا واختلافها، وَذَلِكَ ناشىء عَنِ الْتِقَاءِ حَرَارَةِ جَانِبٍ مِنَ الْجَوِّ بِبُرُودَةِ جَانِبٍ آخَرَ. ثُمَّ إِنَّ الرِّيَاحَ بِهُبُوبِهَا حَارَّةً مَرَّةً وَبَارِدَةً أُخْرَى تُكَوِّنُ الْأَسْحِبَةَ وَتُؤْذِنُ بِالْمَطَرِ فَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِأَنَّهَا نُشُرٌ بَيْنَ يَدَيِ الْمَطَرِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَرْسَلَ الرِّياحَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ الرِّيحَ
46
بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ عَلَى مَعْنَى الْجِنْسِ. وَالْقِرَاءَتَانِ مُتَّحِدَتَانِ فِي الْمَعْنَى، وَلَكِنْ غَلَبَ جَمْعُ الرِّيحِ فِي رِيحِ الْخَيْرِ وَإِفْرَادُ الرِّيحِ فِي رِيحِ الْعَذَابِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَتَقَدَّمَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نُشُرًا بِنُونٍ فِي أَوَّلِهِ وَبِضَمَّتَيْنِ جَمْعَ نَشُورٍ كَرَسُولٍ وَرُسُلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ عَلَى تَخْفِيفِ الْحَرَكَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الشِّينِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، وَكُلُّهَا مِنَ النَّشْرِ وَهُوَ الْبَسْطُ كَمَا يُنْشَرُ الثَّوْبُ الْمَطْوِيُّ لِأَنَّ الرِّيَاحَ تَنْشُرُ السَّحَابَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ الشِّينِ جَمْعَ بَشُورٍ مِنَ التَّبْشِيرِ لِأَنَّهَا تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ نَشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٧].
وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَة إِلَى التَّكَلُّم فِي قَوْلِهِ وَأَنْزَلْنا- لِنُحْيِيَ- ونُسْقِيَهُ- ولَقَدْ صَرَّفْناهُ لِلدَّاعِي الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ آنِفًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا [الْفرْقَان:
٤٥، ٤٦].
وَالْمُرَادُ بِ رَحْمَتِهِ الْمَطَرُ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلنَّاسِ وَالْحَيَوَانِ بِمَا يُنْبِتُهُ مِنَ الشَّجَرِ وَالْمَرْعَى.
وَجُمْلَةُ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ أَرْسَلَ الرِّياحَ إِلَخْ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ الْقَصْرِ، أَيْ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا. وَضَمِيرُ أَنْزَلْنا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ أَلْيَقُ بِمَقَامِ الِامْتِنَانِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى إِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩].
وَالطَّهُورُ بِفَتْحِ الطَّاءِ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ صَبُورٌ.
وَمَاءُ الْمَطَرِ بَالِغٌ مُنْتَهَى الطَّهَارَةِ إِذْ لَمْ يَخْتَلِطْ بِهِ شَيْءٌ يُكَدِّرُهُ أَوْ يُقَذِّرُهُ وَهُوَ فِي عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ أَنْقَى الْمِيَاهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ جَمِيعِ الْجَرَاثِيمِ فَهُوَ الصَّافِي حَقًّا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَاءَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ هُوَ بَالِغُ نِهَايَةِ الطَّهَارَةِ فِي جِنْسِهِ مِنَ الْمِيَاهِ وَوَصْفُ الْمَاءِ بِالطَّهُورِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ إِذِ الْعُدُولُ عَنْ صِيغَةِ فَاعِلٍ إِلَى صِيغَةِ فَعُولٍ لِزِيَادَةِ مَعْنًى فِي الْوَصْفِ، فَاقْتِضَاؤُهُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ اقْتِضَاءٌ الْتِزَامِيٌّ
47
لِيَكُونَ مُسْتَكْمِلًا وَصْفَ الطَّهَارَةِ الْقَاصِرَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ، فَيَكُونَ ذِكْرُ هَذَا الْوَصْفِ إِدْمَاجًا لِمِنَّةٍ فِي أَثْنَاءِ المنن الْمَقْصُودَة، وَيكون كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الْأَنْفَال: ١١] وَصَفَ الطَّهَارَةَ الذَّاتِيَّةَ وَتَطْهِيرَهُ، فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ إِدْمَاجًا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْأَحَقُّ بِمَقَامِ الِامْتِنَانِ وَصْفُ الْمَاءِ بِالصَّفَاءِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْبَلْدَةُ: الْأَرْضُ. وَوَصْفُهَا بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ مَجَازَانِ لِلرَّيِّ وَالْجَفَافِ لِأَنَّ رَيَّ الْأَرْضِ يَنْشَأُ عَنْهُ النَّبَاتُ وَهُوَ يُشْبِهُ الْحَيَّ، وَجَفَافُ الْأَرْضِ يَجِفُّ بِهِ النَّبَاتُ فَيُشْبِهُ الْمَيِّتَ.
وَلِمَاءِ الْمَطَرِ خَاصِّيَّةُ الْإِحْيَاءِ لِكُلِّ أَرْضٍ لِأَنَّهُ لِخُلُوِّهِ مِنَ الْجَرَاثِيمِ وَمِنْ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْمَعْدِنِيَّةِ وَالتُّرَابِيَّةِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا مِيَاهُ الْعُيُونِ وَمِيَاهُ الْأَنْهَارِ وَالْأَوْدِيَةِ كَانَ صَالِحًا بِكُلِّ أَرْضٍ وَبِكُلِّ نَبَاتٍ عَلَى اخْتِلَافِ طِبَاعِ الْأَرَضِينَ وَالْمَنَابِتِ.
وَالْبَلْدَةُ: الْبَلَدُ. وَالْبَلَدُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ أَسْمَاءِ أَجْنَاسِ الْبِقَاعِ كَمَا قَالُوا: دَارٌ وَدَارَةٌ. وَوُصِفَتِ الْبَلْدَةُ بِمَيِّتٍ، وَهُوَ وَصْفٌ مُذَكِّرٌ لِتَأْوِيلِ بَلْدَةً بِمَعْنَى مَكَانٍ لِقَصْدِ التَّخْفِيفِ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» مَا مَعْنَاهُ: إِنَّهُ لَمَّا دَلَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الِاتِّصَافِ بِالْمَوْتِ وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ الْجَامِدِ (أَيْ فَلَمْ يُغَيَّرْ). وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْمَيِّتِ، وَوَصْفُ الْبَلْدَةِ بِهِ وَصْفٌ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ.
وَفِي قَوْلِهِ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً إِيمَاءٌ إِلَى تَقْرِيبِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ.
ونُسْقِيَهُ بِضَمِّ النُّونِ مُضَارِعُ أَسْقَى مِثْلَ الَّذِي بِفَتْحِ النُّونِ فَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ:
أَسْقَى وَسَقَى. قَالَ تَعَالَى: قالَتا لَا نَسْقِي [الْقَصَص: ٢٣] بِفَتْحِ النُّونِ. وَقِيلَ: سَقَى: أَعْطَى الشَّرَابَ، وَأَسْقَى: هَيَّأَ الْمَاءَ لِلشُّرْبِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَسَدُّ لِأَنَّ الْفُرُوقَ بَيْنَ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ مِنْ مَحَاسِنِ اللُّغَةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى هَيَّأْنَاهُ لِشُرْبِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ فَكُلُّ مَنِ احْتَاجَ لِلشُّرْبِ شَرِبَ مِنْهُ سَوَاءٌ مَنْ شَرِبَ وَمَنْ لَمْ يَشْرَبْ.
وأَنْعاماً مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ نُسْقِيَهُ. وَقَوْلُهُ: مِمَّا خَلَقْنا حَالٌ مِنْ أَنْعاماً وَأَناسِيَّ. و (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ. وَ (مَا) مَوْصُولَةٌ، أَيْ بَعْضَ مَا خَلَقْنَاهُ، وَالْمَوْصُولُ لِلْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ، أَيْ نُسْقِيهِمْ لِأَنَّهُمْ مَخْلُوقَاتٌ. فَفَائِدَةُ هَذَا الْحَالِ الْإِشَارَةُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ بِهَا لِأَنَّهَا خَلْقُهُ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَنْوَاعًا أُخْرَى مِنَ
48
الْخَلَائِقِ تُسْقَى بِمَاءِ السَّمَاءِ، وَلَكِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذِكْرِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ لِأَنَّهُمَا مَوْقِعُ الْمِنَّةِ، فَالْأَنْعَامُ بِهَا صَلَاحُ حَالِ الْبَادِينَ
بِأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَشْعَارِهَا وَلُحُومِهَا، وَهِيَ تَشْرَبُ مِنْ مِيَاهِ الْمَطَرِ مِنَ الْأَحْوَاضِ وَالْغُدْرَانِ.
وَالْأَنَاسِيُّ: جَمْعُ إِنْسِيٍّ، وَهُوَ مُرَادِفُ إِنْسَانٍ. فَالْيَاءُ فِيهِ لَيْسَتْ لِلنَّسَبِ. وَجُمِعَ عَلَى فَعَالِيَّ مِثْلِ كُرْسِيِّ وَكَرَاسِيَّ. وَلَوْ كَانَتْ يَاؤُهُ نَسَبٌ لَجُمِعَ عَلَى أَنَاسِيَةٍ كَمَا قَالُوا: صَيْرَفِيٌّ وَصَيَارِفَةٌ. وَوُصِفَ الْأَنَاسِيُّ بِ كَثِيراً لِأَنَّ بَعْضَ الْأَنَاسِيِّ لَا يَشْرَبُونَ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ مِنْ مِيَاهِ الْأَنْهَارِ كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ، وَالْآبَارِ وَالصَّهَارِيجِ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ الْعَرَبُ بِأَنَّهُمْ بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ. فَالْمِنَّةُ أَخَصُّ بِهِمْ، قَالَ زِيَادَةُ الْحَارِثِيُّ (١) :
وَنَحْنُ بَنُو مَاءِ السَّمَاءِ فَلَا نَرَى لِأَنْفُسِنَا مِنْ دُونِ مَمْلَكَةٍ قَصْرًا (٢)
وَفِي أَحَادِيثِ ذِكْرِ هَاجَرَ زَوْجِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ «فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ» يَعْنِي الْعَرَبَ. وَمَاءُ الْمَطَرِ لِنَقَاوَتِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا صَالِحٌ بِأَمْعَاءِ كُلِّ النَّاسِ وَكُلِّ الْأَنْعَامِ دُونَ بَعْضِ مِيَاهِ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ.
وَوَصَفَ أَنَاسِيَّ وَهُوَ جَمْعٌ بِكَثِيرٍ وَهُوَ مُفْرَدٌ لِأَنَّ فَعِيلًا قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُتَعَدِّدُ مِثْلَ رَفِيقٍ وَكَذَلِكَ قَلِيلٌ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا [الْأَعْرَاف: ٨٦].
وَتَقْدِيمُ ذِكْرُ الْأَنْعَامِ عَلَى الْأَنَاسِيِّ اقْتَضَاهُ نَسْجُ الْكَلَامِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَحْكَامِ فِي تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا، وَلَوْ قُدِّمَ ذِكْرُ أَناسِيَّ لَتَفَكَّكَ النَّظْمُ. وَلَمْ يُقَدَّمْ ذِكْرُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [٣٣] لِانْتِفَاءِ الدَّاعِي لِلتَّقْدِيمِ فَجَاءَ عَلَى أَصْلِ التَّرْتِيبِ.
وَضَمِيرُ صَرَّفْناهُ عَائِدٌ إِلَى مَاءً طَهُوراً. وَالتَّصْرِيفُ: التَّغْيِيرُ. وَالْمُرَادُ هُنَا تَغْيِيرُ أَحْوَالِ الْمَاءِ، أَيْ مَقَادِيرِهِ وَمَوَاقِعِهِ.
وَتَوْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَ (قَدْ) لِتَحْقِيقِ التَّعْلِيلِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَطَرِ مُحَقَّقٌ لَا
_________
(١) هُوَ من قضاعة، إسلامي مَاتَ قَتِيلا فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، قَتله هدبة بن خثرم.
(٢) المملكة: التَّمَلُّك، أَي الْعِزَّة، وَهِي بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام، وَالْقصر: الْغَايَة.
49
يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْكِيدِ وَإِنَّمَا الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِهِ هُوَ أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ تَصْرِيفِهِ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مَعَ نُزُولِهِ عَلَيْهِمْ وَفِي حَالَةِ إِمْسَاكِهِ عَنْهُمْ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يَقْدُرُ قَدْرَ النِّعْمَةِ إِلَّا عِنْدَ فَقْدِهَا فَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّبُّ الْوَاحِدُ الْمُخْتَارُ فِي خَلْقِ
الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَقَدْ كَانُوا لَا يَتَدَبَّرُونَ حِكْمَةَ الْخَالِقِ وَيُسْنِدُونَ الْآثَارَ إِلَى مُؤَثِّرَاتٍ وَهْمِيَّةٍ أَوْ صُورِيَّةٍ.
وَلَمَّا كَانَ التَّذَكُّرُ شَامِلًا لِشُكْرِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ بِإِصَابَةِ الْمَطَرِ وَلِتَفَطُّنِ الْمَحْرُومِينَ إِلَى سَبَبِ حِرْمَانِهِمْ إِيَّاهُ لَعَلَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، جِيءَ فِي التَّعْلِيلِ بِفِعْلِ لِيَذَّكَّرُوا لِيَكُونَ عِلَّةً لِحَالَتَيِ التَّصْرِيفِ بَيْنَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً تَرْكِيبٌ جَرَى بِمَادَّتِهِ وَهَيْئَتِهِ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ تَصْمِيمِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُودَ الصَّارِفِ عَنِ الْمُسْتَثْنَى، أَيْ فَصَمَّمُوا عَلَى الْكُفُورِ لَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ عُمُومِ أَشْيَاءٍ مُبْهَمَةٍ جُعِلَتْ كُلُّهَا مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِبَاءُ كَأَنَّ الْآبِينَ قَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ- مِنَ النَّاسِ أَوْ مِنْ خَوَاطِرِهِمْ- أُمُورٌ وَرَاجَعُوا فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهَا إِلَّا الْكُفُورَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ عَرْضٌ وَلَا إِبَاءٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: [٣٢] وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي مَقَامِ مُعَارَضَةِ الْمُشْرِكِينَ لِلتَّوْحِيدِ وَفِي سُورَةِ بَرَاءَةَ فِي مَقَامِ مُعَارَضَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِلْإِسْلَامِ. وَشِدَّةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي كُفْرِهِمْ مَعْلُومَةٌ مَكْشُوفَةٌ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصّفّ: [٨] : يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ.
وَالْكُفُورُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْكُفْرِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، أَيْ أَبَوْا إِلَّا الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ وَعَدَمَ التَّذَكُّرِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِيَذَّكَّرُوا بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ مُدْغَمَةً فِيهَا التَّاءُ وَأَصْلُهُ لِيَتَذَكَّرُوا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِسُكُونِ الذَّالِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ مَضْمُومَةً، أَيْ لِيَذْكُرُوا مَا هُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ.
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمَاءَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ لَا يَخْتَلِفُ مِقْدَارُهُ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ مَقَادِيرُ تَوْزِيعِهِ عَلَى مَوَاقِعِ الْقَطْرِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا عَامٌ أَقَلُّ مَطَرًا مِنْ عَامٍ وَلَكِنَّ
50
اللَّهَ قَسَّمَ ذَلِكَ بَيْنَ عِبَادِهِ عَلَى مَا شَاءَ. وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ سَنَةٍ بِأَمْطَرَ مِنْ أُخْرَى وَلَكِنْ إِذَا عَمِلَ قَوْمٌ الْمَعَاصِيَ صَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِمْ فَإِذَا عَصَوْا جَمِيعًا صَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَى الْفَيَافِيِ وَالْبِحَارِ»
اه. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمِقْدَارَ الَّذِي تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمَطَرِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ لَا تَخْتَلِفُ كِمِّيَّتُهُ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ تَوْزِيعُهُ. وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ قَرَّرَهَا عُلَمَاءُ حَوَادِثِ الْجَوِّ فِي الْقَرْنِ الْحَاضِرِ، فَهُوَ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْجِهَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ لِهَذَا التَّفْسِيرِ.
وَجَوَّزَ فَرِيقٌ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ صَرَّفْناهُ عَائِدًا إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ مَعْلُومٍ فِي الْمَقَامِ مُرَادٍ بِهِ الْقُرْآنُ قَالُوا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَإِنَّهَا افْتُتِحَتْ بِذِكْرِهِ، وَتَكَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الْفرْقَان: ٣٠]. وَأَصْلُ هَذَا التَّأْوِيلِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ، وَلِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الْفرْقَان: ٥٢].
وَقِيلَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ، أَيْ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا هَذَا الْكَلَامَ وَكَرَّرْنَاهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُل ليذّكروا.
[٥١، ٥٢]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٥١ إِلَى ٥٢]
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢)
جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ ذِكْرِ دَلَائِلِ تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْخَلْقِ وَذِكْرِ مِنَّتِهِ عَلَى الْخَلْقِ. وَمُنَاسِبَةُ مَوْقِعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَتَفْرِيعِهَا بِمَوْقِعِ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا خَفِيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً: اقْتِضَابٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ. تَقْدِيرُهُ: وَلَكِنَّا أَفْرَدْنَاكَ بِالنِّذَارَةِ وَحَمَّلْنَاكَ فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ اه.
فَإِنْ كَانَ عَنَى بِقَوْلِهِ: اقْتِضَابٌ، مَعْنَى الِاقْتِضَابِ الِاصْطِلَاحِيِّ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَدَبِ وَالْبَيَانِ، وَهُوَ عَدَمُ مُرَاعَاةِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْكَلَامِ الْمُنْتَقَلِ مِنْهُ وَالْكَلَامِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ، كَانَ عُدُولًا عَنِ الْتِزَامِ تَطَلُّبِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَيْسَ الْخُلُوُّ عَنِ الْمُنَاسَبَةِ بِبِدَعٍ فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ «تَلْخِيصِ الْمِفْتَاحِ» «وَقَدْ يُنْقَلُ مِنْهُ (أَيْ مِمَّا شُبِّبَ بِهِ الْكَلَامُ) إِلَى مَا لَا يُلَائِمُهُ (أَيْ لَا يُنَاسِبُ الْمُنْتَقَلَ مِنْهُ) وَيُسَمَّى الِاقْتِضَابَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْعَرَبِ وَمَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْمُخَضْرَمِينَ» إِلَخْ. وَإِذَا كَانَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنَى
51
بِالِاقْتِضَابِ مَعْنَى الْقَطْعِ (أَيِ الْحَذْفِ مِنَ الْكَلَامِ) أَيْ إِيجَازِ الْحَذْفِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ «يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ تَقْدِيرُهُ إِلَخْ»، كَانَ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِي «الْكَشَّافِ» :«وَلَوْ شِئْنَا لَخَفَّفْنَا عَنْكَ أعباء نذارة جَمِيع الْقُرَى وَلَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَبِيئًا يُنْذِرُهَا، وَإِنَّمَا قَصَرْنَا الْأَمْرَ عَلَيْكَ وَعَظَّمْنَاكَ عَلَى سَائِرِ الرُّسُلِ (أَيْ بِعُمُومِ الدَّعْوَةِ) فَقَابَلَ ذَلِكَ بِالتَّصَبُّرِ» اه. وَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ: «وَمَدَارُ السُّورَةِ عَلَى كَوْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِمَا يُثْبِتُ عُمُومَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الْفرْقَان: ١].
وَلَيْسَ فِي كَلَامِ «الْكَشَّافِ» وَالطِّيبِيِّ إِلَّا بَيَانُ مُنَاسَبَةِ الْآيَةِ لِمُهِمِّ أَغْرَاضِ السُّورَةِ دُونَ
بَيَانِ مُنَاسَبَتِهَا لِلَّتِي قَبْلَهَا.
وَالَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] الْآيَةَ، فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ إِبْطَالَ طَعْنِهِمْ فَقَالَ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفرْقَان: ٣٢] انْتَقَلَ إِلَى تَنْظِيرِ الْقُرْآنِ بِالْكِتَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَيْفَ اسْتَأْصَلَ اللَّهُ مَنْ كَذَّبُوهُ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ بِذِكْرِ أُمَمٍ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى اسْتِهْزَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشَارَ إِلَى تَحَرُّجِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنْ دَعْوَتِهِ بِقَوْلِهِ:
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الْفرْقَان: ٤٣].
وَتَسَلْسُلِ الْكَلَامِ بِضَرْبِ الْمَثَلِ بِمَدِّ الظِّلِّ وَقَبْضِهِ، وَبِحَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَبِإِرْسَالِ الرِّيَاحِ، أَمَارَةٌ عَلَى رَحْمَةِ غَيْثِهِ الَّذِي تَحْيَا بِهِ الْمَوَاتُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا اشْتِمَالُ التَّفْرِيعِ عَلَى ضَمِيرِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَجاهِدْهُمْ بِهِ.
وَمِمَّا يَزِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ اتِّصَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] أَنَّ فِي بَعْثِ نَذِيرٍ إِلَى كُلِّ قَرْيَةٍ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ مُجَزَّأً فَلَوْ بَعَثَ اللَّهُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا لَقَالَ الَّذين كفرُوا: لَوْلَا أُرْسِلَ رَسُولٌ وَاحِدٌ إِلَى النَّاسِ جَمِيعًا فَإِنَّ مَطَاعِنَهُمْ لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ فِي سُورَة حم فصلت
52
وَتَفْرِيعُ فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَهُمْ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْكَفَّ عَنْ دَعْوَتِهِمْ وَعَنْ تَنَقُّصِ أَصْنَامِهِمْ.
وَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْذِيرِ وَالتَّذْكِيرِ، وَفِعْلُ تُطِعِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ يُفِيدُ عُمُومَ التَّحْذِيرِ مِنْ أَدْنَى طَاعَةٍ.
وَالطَّاعَةُ: عَمَلُ الْمَرْءِ بِمَا يُطْلَبُ مِنْهُ، أَيْ فَلَا تَهِنْ فِي الدَّعْوَةِ رَعْيًا لِرَغْبَتِهِمْ أَنْ تَلِينَ لَهُمْ.
وَبَعْدَ أَنْ حَذَّرَهُ مِنَ الْوَهَنِ فِي الدَّعْوَةِ أَمَرَهُ بِالْحِرْصِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهَا. وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْجِهَادِ وَهُوَ الِاسْمُ الْجَامِعُ لِمُنْتَهَى الطَّاقَةِ. وَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ فِيهِ لِيُفِيدَ مُقَابَلَةَ مَجْهُودِهِمْ بِمَجْهُودِهِ فَلَا يَهِنُ وَلَا يَضْعُفُ وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِالْجِهَادِ الْكَبِيرِ، أَيِ الْجَامِعِ لِكُلِّ مُجَاهَدَةٍ.
وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ: فَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ مَقَامِ النِّذَارَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَفْهُومِ مِنْ «لَا تُطِعْ» وَهُوَ الثَّبَاتُ عَلَى دَعْوَتِهِ بِأَنْ يَعْصِيَهُمْ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ كَمَا دلّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي حَيَّةَ النُّمَيْرِيِّ:
فَقُلْنَ لَهَا سِرًّا فَدِينَاكِ لَا يَرُحْ صَحِيحًا وَإِنْ لَمْ تَقْتُلِيهِ فَأَلْمِمِ
فَقَابَلَ قَوْلَهُ: «لَا يَرُحْ صَحِيحًا» بِقَوْلِهِ: «وَإِنْ لَمْ تَقْتُلِيهِ فَأَلْمِمِ» كَأَنَّهُ قَالَ: فَدَيْنَاكِ فَاقْتُلِيهِ.
وَالْمَعْنَى: قَاوِمْهُمْ بِصَبْرِكَ. وَكِبَرُ الْجِهَادِ تَكْرِيرُهُ وَالْعَزْمُ فِيهِ وَشِدَّةُ مَا يَلْقَاهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ. وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ عِنْدَ قُفُولِهِ مِنْ بَعْضِ غَزَوَاتِهِ «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ». قَالُوا: «وَمَا الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ» ؟ - قَالَ: مُجَاهَدَةُ الْعَبْدِ هَوَاهُ»
. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَد ضَعِيف.
[٥٣]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٥٣]
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣)
عَوْدٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ. جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اسْتِدْلَالًا وَتَمْثِيلًا
53
وَتَثْبِيتًا وَوَعْدًا فَصَرِيحُهَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى شَيْءٍ عَظِيمٍ مِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُوَ الْتِقَاءُ الْأَنْهَارِ وَالْأَبْحُرِ كَمَا سَيَأْتِي، وَفِي ضِمْنِهَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فِي مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ وَاخْتِلَاطُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِحَالِ تَجَاوُزِ الْبَحْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَالْآخَرُ مِلْحٌ أُجَاجٌ. وَتَمْثِيلُ الْإِيمَانِ بِالْعَذْبِ الْفُرَاتِ وَالشِّرْكِ بِالْمِلْحِ الْأُجَاجِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ بَرْزَخًا يَحْفَظُ الْعَذْبَ مِنْ أَنْ يُكَدِّرَهُ الْأُجَاجُ، كَذَلِكَ حَجَزَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَلَا يَسْتَطِيعُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَدُسُّوا كُفْرَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي هَذَا تَثْبِيتٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يَحْجِزُ عَنْهُمْ ضُرَّ الْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمرَان:
١١١]. وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ كِنَائِيٌّ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ لِهَذَا الدِّينِ مِنْ أَنْ يُكَدِّرَهُ الشِّرْكُ.
وَلِأَجْلِ مَا فِيهَا مِنَ التَّمْثِيلِ وَالتَّثْبِيتِ وَالْوَعْدِ كَانَ لِمَوْقِعِهَا عَقِبَ جُمْلَةِ فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الْفرْقَان: ٥٢] أَكْمَلُ حُسْنٍ. وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الْفرْقَان: ٤٨]. وَمُنَاسَبَةُ وُقُوعِهَا عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ كِلْتَيْهِمَا اسْتِدْلَالٌ بِآثَارِ الْقُدْرَةِ فِي تَكْوِينِ الْمِيَاهِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَمُفَادُ الْقَصْرِ هَنَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَتَيْنِ السابقتين.
والمرج: الْخَلْطُ. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِشِدَّةِ الْمُجَاوَرَةِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً. وَالْبَحْرُ: الْمَاءُ الْمُسْتَبْحِرُ، أَيْ الْكَثِيرُ الْعَظِيمُ. وَالْعَذْبُ: الْحُلْوُ.
وَالْفُرَاتُ: شَدِيدُ الْحَلَاوَةِ. وَالْمِلْحُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وُصِفَ بِهِ بِمَعْنَى الْمَالِحِ، وَلَا يُقَالُ فِي الْفَصِيحِ إِلَّا مِلْحٌ وَأَمَا مَالِحٌ فَقَلِيلٌ. وَأُرِيدَ هُنَا مُلْتَقَى مَاءِ نَهْرَيِ الْفُرَاتِ وَالدَّجْلَةِ مَعَ مَاءِ بَحْرِ خَلِيجِ الْعَجَمِ.
وَالْبَرْزَخُ: الْحَائِلُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. وَالْمُرَادُ بِالْبَرْزَخِ تَشْبِيهُ مَا فِي تَرْكِيبِ الْمَاءِ الْمِلْحِ مِمَّا يَدْفَعُ تَخَلُّلَ الْمَاءِ الْعَذْبِ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَيَبْقَى كِلَاهُمَا حَافِظًا لِطَعْمِهِ عِنْدَ الْمَصَبِّ.
وحِجْراً مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ على مفعول جعل.
وَلَيْسَ هُنَا مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعَوُّذِ كَالَّذِي تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً [الْفرْقَان: ٢٢]. ومَحْجُوراً وَصْفٌ لِ حِجْراً مُشْتَقٌّ مِنْ مَادَّتِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ كَمَا قَالُوا: لَيْلٌ أَلْيَلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» تُكَلُّفٌ بِجَعْلِ حِجْراً مَحْجُوراً هُنَا بِمَعْنَى التَّعَوُّذِ
54
كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً [الْفرْقَان: ٢٢] وَلَا دَاعِيَ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنِ اسْتِعْمَالِ حِجْراً مَحْجُوراً فِي التَّعَوُّذِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا كَذَلِك.
[٥٤]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٥٤]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤)
مُنَاسِبَةُ مَوْقِعِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بَعْدَ مَا قَبْلَهُ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِدَقِيقِ آثَارِ الْقُدْرَةِ فِي تَكْوِينِ الْمِيَاهِ وَجَعْلِهَا سَبَبَ حَيَاةٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَشْكَالِ وَالْأَوْضَاعِ. وَمِنْ أَعْظَمِهَا دَقَائِقُ الْمَاءِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ أَشْرَفُ الْأَنْوَاعِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ نُطْفَةُ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهَا سَبَبُ تَكْوِينِ النَّسْلِ لِلْبَشَرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوَّلَ أَمْرِهِ مَاءً ثُمَّ يَتَخَلَّقُ مِنْهُ الْبَشَرُ الْعَظِيمُ، فَالتَّنْوِينُ فِي قَوْلِهِ بَشَراً لِلتَّعْظِيمِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ من تَعْرِيف الجزءين قَصْرُ إِفْرَادٍ لِإِبْطَالِ دَعْوَى شَرِكَةِ الْأَصْنَامِ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ.
وَالْبَشَرُ: الْإِنْسَانُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [١٧]. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي فَجَعَلَهُ عَائِدٌ إِلَى الْبَشَرِ، أَيْ فَجَعَلَ الْبَشَرَ الَّذِي خَلَقَهُ مِنَ الْمَاءِ نَسَبًا وَصِهْرًا، أَيْ قَسَّمَ اللَّهُ الْبَشَرَ قِسْمَيْنِ: نَسَبٍ، وَصِهْرٍ. فَالْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ بِمَعْنَى (أَوْ) وَالْوَاوُ أَجْوَدُ مِنْ (أَوْ) فِي التَّقْسِيمِ.
ونَسَباً وَصِهْراً مَصْدَرَانِ سُمِّيَ بِهِمَا صِنْفَانِ مِنَ الْقَرَابَةِ عَلَى تَقْدِيرِ: ذَا نَسَبٍ وَصِهْرٍ وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ.
وَالنَّسَبُ لَا يَخْلُو مِنْ أُبُوَّةٍ وَبُنُوَّةٍ وَأُخُوَّةٍ لِأُولَئِكَ وَبُنُوَّةٍ لِتِلْكَ الْأُخُوَّةِ.
وَأَمَّا الصِّهْرُ فَهُوَ: اسْمٌ لِمَا بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ قَرَابَةِ زَوْجِهِ وَأَقَارِبِهِ مِنَ الْعَلَاقَةِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا مُصَاهَرَةً لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَهُوَ آصِرَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ تَتَقَوَّمُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، فَصِهْرُ الرَّجُلِ قَرَابَةُ امْرَأَتِهِ، وَصِهْرُ الْمَرْأَةِ قَرَابَةُ زَوْجِهَا، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: صَاهَرَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا تَزَوَّجَ مِنْ قَرَابَتِهِ وَلَوْ قَرَابَةً بَعِيدَةً كَقَرَابَةِ الْقَبِيلَةِ. وَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْهُ الْبَشَرُ الْمُتَزَوِّجُ وَغَيْرُ الْمُتَزَوِّجِ.
وَيُطْلَقُ الصِّهْرُ على مَعَ لَهُ مَنْ الْآخَرِ عَلَاقَةُ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ فِي
مَوْضِعِ الْوَصْفِ فَالْأَكْثَرُ حِينَئِذٍ أَنْ يُخَصَّ بِقَرِيبِ زَوْجِ الرَّجُلِ، وَأَمَا قَرِيبُ زَوْجِ الْمَرْأَةِ فَهُوَ خَتَنٌ لَهَا أَوْ حَمٌ. وَلَا يَخْلُو أَحَدٌ عَنْ آصِرَةِ صِهْرٍ وَلَوْ بَعِيدًا. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى مَا فِي هَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ مِنْ دَقَائِقِ نِظَامِ إِيجَادٍ طَبِيعِيٍّ وَاجْتِمَاعِيٍّ بِقَوْلِهِ: وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً، أَيْ عَظِيمَ الْقُدْرَةِ إِذْ أَوْجَدَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ خَلْقًا عَظِيمًا صَاحِبَ عَقْلٍ وَتَفْكِيرٍ فَاخْتُصَّ بِاتِّصَالِ أَوَاصِرِ النَّسَبِ وَأَوَاصِرِ الصِّهْرِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَصْلَ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ لِتَكْوِينِ الْقَبَائِلِ وَالشُّعُوبِ وَتَعَاوُنِهِمْ مِمَّا جَاءَ بِهَذِهِ الْحَضَارَةِ الْمُرْتَقِيَةِ مَعَ الْعُصُورِ وَالْأَقْطَارِ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا [الحجرات: ١٣].
وَفِي تَرْكِيبِ وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً مِنْ دَقِيقِ الْإِيذَانِ بِأَنَّ قُدْرَتَهُ رَاسِخَةٌ وَاجِبَةٌ لَهُ مُتَّصِفٌ بِهَا فِي الْأَزَلِ بِمَا اقْتَضَاهُ فِعْلُ كانَ، وَمَا فِي صِيغَةِ «قَدِيرٍ» مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى قُوَّةِ الْقُدْرَةِ الْمُقْتَضِيَةِ تَمَامَ الْإِرَادَة وَالْعلم.
[٥٥]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٥٥]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥)
الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنِ اسْتِمْرَارِهِمْ فِي الشِّرْكِ، أَعْقَبَ ذِكْرَ مَا نَفَعَ اللَّهُ بِهِ النَّاسَ مِنْ إِلْطَافِهِ بِهِمْ فِي تَصَارِيفِ الْكَائِنَاتِ إِذْ جَعَلَ لَهُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَخَلَقَ لَهُمُ الْمَاءَ فَأَنْبَتَ بِهِ الزَّرْعَ وَسَقَى بِهِ النَّاسَ وَالْأَنْعَامَ، مَعَ مَا قَارَنَهُ مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ بِذِكْرِ عِبَادَتِهِمْ مَا لَا يَنْفَعُ النَّاسَ عَوْدًا إِلَى حِكَايَةِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ مُشْرِكِي مَكَّةَ.
وَنَفْيُ الضُّرِّ بَعْدَ نَفْيِ النَّفْعِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى انْتِفَاءِ شُبْهَةِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ فِي شِرْكِهِمْ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعِبَادَةِ إِمَّا رَجَاءُ النَّفْعِ وَإِمَّا اتِّقَاءُ ضُرِّ الْمَعْبُودِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ عَنِ الْأَصْنَامِ بِالْمُشَاهَدَةِ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ وَعَدَمِ إِجْدَاءِ الدَّلَائِلِ الْمُقْلَعَةِ عَنْهَا فِي جَانِبِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ، فَاللَّامُ فِي تَعْرِيفِ الْكافِرُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ كُلُّ كَافِرٍ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرٌ.
وَجَعَلَ الْخَبَرَ عَنِ الْكَافِرِ خَبَرًا لِ كانَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اتِّصَافَهُ بِالْخَبَرِ أَمْرٌ مُتَقَرِّرٌ مُعْتَادٌ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ.
وَالظَّهِيرُ: الْمُظَاهِرُ، أَيِ الْمُعِينُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٨٨] وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ، أَيْ مَظَاهِرٍ مِثْلَ حَكِيمٍ بِمَعْنَى مُحْكِمٍ، وَعَوِينٍ بِمَعْنَى مُعَاوِنٍ. وَقَوْلُ عمر بن معد يكرب:
أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعِ أَيِ الْمُسْمِعِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«وَمَجِيءُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ غَيْرُ عَزِيزٍ». وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ: ظَاهَرَ عَلَيْهِ، إِذَا أَعَانَ مَنْ يُغَالِبُهُ عَلَى غَلَبِهِ، وَأَصْلُهُ الْأَصِيلُ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ اسْمُ الظَّهْرِ مِنَ الْإِنْسَانِ أَوِ الدَّابَّةِ لِأَنَّ الْمُعَاوِنَ أَحَدًا عَلَى غَلَبِ غَيْرِهِ كَأَنَّهُ يَحْمِلُ الْغَالِبَ عَلَى الْمَغْلُوبِ كَمَا يُحْمَلُ عَلَى ظَهْرِ الْحَامِلِ، جَعَلَ الْمُشْرِكَ فِي إِشْرَاكِهِ مَعَ وُضُوحِ دَلَالَةِ عَدَمِ اسْتِئْهَالِ الْأَصْنَامِ لِلْإِلَهِيَّةِ كَأَنَّهُ يَنْصُرُ الْأَصْنَامَ عَلَى رَبِّهِ الْحَقِّ. وَفِي ذِكْرِ الرَّبِّ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْكَافِرَ عَاقٌّ لِمَوْلَاهُ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: ظَهِيرٌ بِمَعْنَى مَظْهُورٍ، أَيْ كُفْرُ الْكَافِرِ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، يَعْنِي أَيْ فَعِيلًا فِيهِ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلى مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ كانَ أَيْ كَانَ عَلَى الله هيّنا.
[٥٦، ٥٧]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٥٦ إِلَى ٥٧]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧)
لَمَّا أَفْضَى الْكَلَامُ بِأَفَانِينِ انْتِقَالَاتِهِ إِلَى التَّعْجِيبِ مِنِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى أَنْ يَعْبُدُوا مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ أعقب بِمَا يومىء إِلَى اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَى
الرِّسَالَةِ بِنِسْبَةِ مَا بَلَّغَهُ إِلَيْهِمْ إِلَى الْإِفْكِ، وَأَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّهُ سِحْرٌ، فَأُبْطِلَتْ دَعَاوِيهِمْ كُلُّهَا بِوَصْفِ النَّبِيءِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ، وَقَصْرُهُ عَلَى صِفَتَيِ التَّبْشِيرِ وَالنِّذَارَةِ. وَهَذَا الْكَلَامُ الْوَارِدُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ جَامِعٌ بَيْنَ إِبْطَالِ إِنْكَارِهِمْ لِرِسَالَتِهِ وَبَيْنَ تَأْنِيسِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُضِلٍّ وَلَكِنَّهُ مُبَشِّرٌ وَنَذِيرٌ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنْ لَا يَحْزَنَ لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ.
ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِأَنَّهُ غَيْرُ طَامِعٍ مِنْ دَعْوَتِهِمْ فِي أَنْ يَعْتَزَّ بِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ
57
حَتَّى يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ إِنْ أَعْرَضُوا عَنْهُ فَقَدْ بَلَغُوا مِنَ النِّكَايَةِ بِهِ أَمَلَهُمْ، بَلْ مَا عَلَيْهِ إِلَّا التَّبْلِيغُ بِالتَّبْشِيرِ وَالنِّذَارَةِ لِفَائِدَتِهِمْ لَا يُرِيدُ مِنْهُمُ الْجَزَاءَ عَلَى عَمَلِهِ ذَلِكَ.
وَالْأَجْرُ: الْعِوَضُ عَلَى الْعَمَلِ وَلَوْ بِعَمَلٍ آخَرَ يُقْصَدُ بِهِ الْجَزَاءُ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ عَامَّةٍ مَحْذُوفٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِعْيَارُ الْعُمُومِ فَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُجْعَلَ تَأْكِيدُ الْفِعْلِ فِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَيُسَمَّى تَأْكِيدَ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَبِعِبَارَةٍ أَتْقَنَ تَأْكِيدَ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ وَهُوَ مَرْتَبَتَانِ: مِنْهُ مَا هُوَ تَأْكِيدٌ مَحْضٌ وَهُوَ مَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى فِيهِ مُنْقَطِعًا عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَصْلًا كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
فَإِنَّ فُلُولَ سُيُوفِهِمْ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعَيْبِ فِيهِمْ بِحَالٍ وَمِنْهُ مَرْتَبَةُ مَا هُوَ تَأْكِيدٌ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ مَا الْمُسْتَثْنَى فِيهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَكِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ بِالْمُشَابَهَةِ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ بِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِثْنَاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣]، أَلَا تَرَى أَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي قَوْله تَعَالَى قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: ٨٦]. فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا مِنْ قَبِيلِ الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يُنَاسِبُ أَجْرًا إِذِ التَّقْدِيرُ: إِلَّا عَمَلَ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا، وَذَلِكَ هُوَ اتِّبَاعُ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا إِجَابَةً لِدَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْبَهَ الْأَجْرَ عَلَى تِلْكَ الدَّعْوَةِ فَكَانَ نَظِيرَ قَوْلِهِ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣]. وَقَدْ يُسَمُّونَ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ وَيُقَدِّرُونَهُ كَالِاسْتِدْرَاكِ.
وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ. وَاتِّخَاذُ السَّبِيلِ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الْفرْقَان: ٢٧]. وَجُعِلَ السَّبِيلُ هُنَا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى إِجَابَتِهِ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَهَذَا
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً [النبأ: ٣٩].
وَذِكْرُ وَصْفِ الرَّبِّ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ السَّيْرَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَحْقُوقٌ بِأَنْ يَرْجِعَ إِلَى رَبِّهِ وَإِلَّا كَانَ آبقا.
58

[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٥٨]

وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الْفرْقَان: ٥٧] أَيْ قُلْ لَهُمْ ذَلِكَ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي دَعْوَتِكَ إِلَى الدِّينِ فَهُوَ الَّذِي يُجَازِيكَ عَلَى ذَلِكَ وَيُجَازِيهِمْ.
وَالتَّوَكُّلُ: الِاعْتِمَادُ وَإِسْلَامُ الْأُمُورِ إِلَى الْمُتَوَكَّلِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْوَكِيلُ، أَيْ الْمُتَوَلِّي مُهِمَّاتِ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٥٩].
والْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَدَلَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ مِنْ تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الدَّائِمُ فَيُفِيدُ ذَلِكَ مَعْنَى حَصْرِ التَّوَكُّلِ فِي الْكَوْنِ عَلَيْهِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَيِّ لِلْكَامِلِ، أَيْ الْكَامِلِ حَيَاتُهُ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ بَاقِيَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ وَحَيَاةُ غَيْرِهِ مُعَرِّضَةٌ لِلزَّوَالِ بِالْمَوْتِ وَمُعَرَّضَةٌ لِاخْتِلَالِ أَثَرِهَا بِالذُّهُولِ كَالنَّوْمِ وَنَحْوِهُ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَوْتِ، فَالتَّوَكُّلُ عَلَى غَيْرِهِ مُعَرَّضٌ لِلِاخْتِلَالِ وَلِلِانْخِرَامِ. وَفِي ذِكْرِ الْوَصْفَيْنِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ نَاطُوا آمَالَهُمْ بِالْأَصْنَامِ وَهِيَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ.
وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَرْءَ الْكَامِلَ لَا يَثِقُ إِلَّا بِاللَّهِ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى الْأَحْيَاءِ الْمُعَرَّضِينَ لِلْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُفِيدُ أَحْيَانًا لَكِنَّهُ لَا يَدُومُ.
وَأَمَّا أَمْرُهُ بِالتَّسْبِيحِ فَهُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ وَأَوَّلُ ذَلِكَ الشَّرِكَةُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، أَيْ إِذَا أَهَمَّكَ أَمْرُ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ فَنَزَّهَ اللَّهَ.
وَالْبَاءُ فِي بِحَمْدِهِ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ سَبَّحَهُ تَسْبِيحًا مُصَاحِبًا لِلثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ.
فَقَدْ جُمِعَ لَهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ التَّخْلِيَةُ وَالتَّحْلِيَةُ مُقَدَّمًا التَّخْلِيَةَ لِأَنَّ شَأْنَ الْإِصْلَاحِ أَنْ يَبْدَأَ بِإِزَالَةِ النَّقْصِ.
وَأَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْمَلُ الْأُمَّةَ مَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، فَيُفِيدُ مَعْنَى التَّذْيِيلِ
لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى عُمُومِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِذُنُوبِ الْخَلْقِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَحْوَالُ
الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ غَرَضُ الْكَلَامِ. فَفِي (ذُنُوب عِبَادِهِ) عُمُومَانِ: عُمُومُ ذُنُوبِهِمْ كُلِّهَا لِإِفَادَةِ الْجَمْعِ الْمُضَافِ عُمُومَ إِفْرَادِ الْمُضَافِ، وَعُمُومُ النَّاسِ لِإِضَافَةِ (عِبَادٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، أَيْ جَمِيعُ عِبَادِهِ، مَعَ مَا فِي صِيغَةِ (خَبِيرٍ) مِنْ شِدَّةِ الْعِلْمِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْعُمُومَ فَكَانَ كَعُمُومٍ ثَالِثٍ.
وَالْكِفَايَةُ: الْإِجْزَاءُ، وَفِي فِعْلِ كَفى إِفَادَةُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَمْرِ بِالِاكْتِفَاءِ بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ.
وَالْبَاءُ لِتَأْكِيدِ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ. وَقَدْ كَثُرَ دُخُولُ بَاءِ التَّأْكِيدِ بَعْدَ فِعْلِ الْكِفَايَةِ عَلَى فَاعِلِهِ أَوْ مَفْعُولِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [١٤]. وخَبِيراً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ بِهِ أَيْ كَفَى بِهِ مِنْ حَيْثُ الْخِبْرَةِ.
وَالْعِلْمُ بِالذُّنُوبِ كِنَايَةٌ عَنْ لَازمه وَهُوَ أَنه يجازيهم على ذُنُوبِهِمْ، وَالشِّرْكُ جَامِعُ الذُّنُوبِ. وَفِي الْكَلَامِ أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ من أذاهم.
[٥٩]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٥٩]
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩)
أُجْرِيَتْ هَذِهِ الصِّلَةُ وَصْفًا ثَانِيًا لِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الْفرْقَان: ٥٨] لِاقْتِضَائِهَا سِعَةَ الْعِلْمِ وَسِعَةَ الْقُدْرَةِ وَعَظِيمَ الْمَجْدِ، فَصَاحِبُهَا حَقِيقٌ بِأَنْ يُتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيُفَوَّضَ أَمْرُ الْجَزَاءِ إِلَيْهِ. وَهَذَا تَخَلُّصٌ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَعَلَى الِاسْتِوَاءِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
والرَّحْمنُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَي هُوَ الرحمان. وَهَذَا مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْغَالِبِ فِي الِاسْتِعْمَال عِنْد مَا تَتَقَدَّمُ أَخْبَارٌ أَوْ أَوْصَافٌ لِصَاحِبِهَا، ثُمَّ يُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِمَا هُوَ إِفْصَاحٌ عَنْ وَصْفٍ جَامِعٍ لِمَا مَضَى أَوْ أَهَمَّ فِي الْغَرَضِ مِمَّا تَقَدَّمَهُ، فَإِنَّ وَصْفَ الرَّحْمَنِ أَهَمُّ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ وَهُوَ الْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ وَصْفٌ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُدَبِّرُ أُمُورَ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ بِقَوِيِّ الْإِسْعَافِ.
وَفُرِّعَ عَلَى وَصْفِهِ بِ الرَّحْمنُ قَوْله فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ فِي رَحْمَتِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالشُّمُولِ مَا لَا تَفِي فِيهِ الْعِبَارَةُ فَيَعْدِلُ عَنْ زِيَادَةِ التَّوْصِيفِ إِلَى الْحِوَالَة على
عليم بِتَصَارِيفِ رَحْمَتِهِ مُجَرِّبٌ لَهَا مُتَلَقٍّ أَحَادِيثَهَا مِمَّنْ عَلِمَهَا وَجَرَّبَهَا.
وَتَنْكِيرُ خَبِيراً لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعُمُومِ، فَلَا يُظَنُّ خَبِيرًا مُعَيَّنًا، لِأَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا تَعَلَّقَ بهَا فعل الْأَمر اقْتَضَتْ عُمُومًا بِدَلِيلِ أَيِّ خَبِيرٍ سَأَلْتَهُ أَعْلَمَكَ.
وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ وَلَعَلَّهُ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ نَظِيرَ قَوْلِ الْعَرَبِ: «عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ» يَقُولُهَا الْعَارِفُ بِالشَّيْءِ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ. وَالْمَثَلَانِ وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي عَدَدِ الْحُرُوفِ الْمَنْطُوقِ بِهَا فَالْمَثَلُ الْقُرْآنِيُّ أَفْصَحُ لِسَلَامَتِهِ مِنْ ثِقَلِ تَلَاقِي الْقَافِ وَالطَّاءِ وَالتَّاءِ فِي (سَقَطْتَ). وَهُوَ أَيْضًا أَشْرَفُ لِسَلَامَتِهِ مِنْ مَعْنَى السُّقُوطِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مَعْنًى لِمَا فِيهِ مِنْ عُمُومِ كُلِّ خَبِيرٍ، بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، لِأَنَّهَا إِنَّمَا يَقُولُهَا الْوَاحِدُ الْمُعَيَّنُ. وَقَرِيبٌ من معنى فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً قَوْلُ النَّابِغَةِ:
هَلَّا سَأَلْتَ بَنِي ذُبْيَانَ مَا حَسَبِي إِذَا الدُّخَانُ تَغَشَّى الْأَشْمَطَ الْبَرِمَا
إِلَى قَوْلِهِ:
يُخْبِرُكُ ذُو عِرْضِهِمْ عَنِّي وَعَالِمُهُمْ وَلَيْسَ جَاهِلُ شَيْءٍ مِثْلَ مَنْ عَلِمَا
وَالْبَاءُ فِي بِهِ بِمَعْنَى (عَنْ) أَيْ فَاسْأَلْ عَنْهُ كَقَوْلِ عَلْقَمَةَ:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةً بِ خَبِيراً وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَلِلِاهْتِمَامِ، فَلهُ سببان.
[٦٠]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٦٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠)
لِمَا جَرَى وَصْفُ الله تَعَالَى بالرحمان مَعَ صِفَاتٍ أُخُرَ اسْتَطْرَدَ ذِكْرُ كُفْرِ الْمُشْرِكِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ. وَقَدْ عَلِمْتَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى باسم (الرحمان) هُوَ مِنْ وَضْعِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا لِلْعَرَبِ، وَأَمَّا قَوْلُ شَاعِرِ الْيَمَامَةِ فِي مَدْحِ مُسَيْلِمَةَ:
61
سَمَوْتَ بِالْمَجْدِ يَا ابْنَ الْأَكْرَمِينَ أَبًا وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْتَ رَحْمَانَا
فَذَلِكَ بَعْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِي مُدَّةِ الرِّدَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سَمِعُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَنْكَرُوهُ قَصْدًا بِالتَّوَرُّكِ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَنْ جَهْلٍ بِمَدْلُولِ هَذَا الْوَصْفِ وَلَا بِكَوْنِهِ جَارِيًا عَلَى
مَقَايِيسِ لُغَتِهِمْ وَلَا أَنَّهُ إِذَا وُصِفُ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ رَبٌّ وَاحِدٌ وَأَنَّ التَّعَدُّدَ فِي الْأَسْمَاءِ فَكَانُوا يَقُولُونَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الصابىء يَنْهَانَا أَنْ نَدْعُوَ إِلَهَيْنِ وَهُوَ يَدْعُو اللَّهَ وَيَدْعُو الرَّحْمَنَ. وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [١١٠] وَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى آيَةِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ.
وَالْخَبَرُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً فِي التَّعْجِيبِ مِنْ عِنَادِهِمْ وَبُهْتَانِهِمْ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِفَادَةَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنْ شَأْنِهِمْ.
وَالسُّجُودُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ سُجُودُ الِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَهُوَ شِعَارُ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنِ السُّجُودُ مِنْ عِبَادَتِهِمْ وَإِنَّمَا كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْأَصْنَامِ، وَأَمَّا سُجُودُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا إِذْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ وَلَا فَائِدَةَ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ
حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ أَرْسَلَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ
إِلَخْ. وَمَسْأَلَةُ تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا.
وَوَاوُ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِمْ وَمَا الرَّحْمنُ لِعَطْفِهِمُ الْكَلَامَ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي وُجِّهَ إِلَيْهِمْ فِي أَمرهم بِالسُّجُود للرحمان، عَلَى طَرِيقَةِ دُخُولِ الْعَطْفِ بَيْنَ كَلَامَيْ مُتَكَلِّمَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة:
١٢٤]. ومَا مِنْ قَوْلِهِ وَمَا الرَّحْمنُ اسْتِفْهَامِيَّةٌ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِغْرَابِ، يَعْنُونَ تَجَاهُلَ هَذَا الِاسْمِ، وَلِذَلِكَ اسْتَفْهَمُوا عَنْهُ بِمَا دُونَ (مَنْ) بِاعْتِبَارِ السُّؤَالِ عَنْ مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا إِنْكَارٌ وَامْتِنَاعٌ، أَيْ لَا نَسْجُدُ لِشَيْءٍ
62
تَأْمُرُنَا بِالسُّجُودِ لَهُ عَلَى أَنَّ مَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، أَوْ لَا نَسْجُدُ لِلَّذِي تَأْمُرُنَا بِالسُّجُودِ لَهُ إِنْ كَانَتْ مَا مَوْصُولَةً، وَحُذِفَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّفَةِ أَوِ الصِّلَةِ مَعَ مَا اتَّصَلَ هُوَ بِهِ لِدَلَالَةِ مَا سَبَقَ عَلَيْهِ، وَمَقْصِدُهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِبَاءُ السُّجُودِ لِلَّهِ لِأَنَّ السُّجُودَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ سُجُودٌ لِلَّهِ بِنِيَّةِ انْفِرَاد الله بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُمْ لَا يُجِيبُونَ إِلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ [الْقَلَم: ٤٣]، أَيْ فَيَأْبَوْنَ، وَقَالَ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ [المرسلات: ٤٨]. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ وَزادَهُمْ نُفُوراً فَالنُّفُورُ مِنَ السُّجُودِ سَابِقٌ قَبْلَ سَمَاعِ
اسْمِ الرَّحْمَنِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَأْمُرُنا بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ يَقُولُونَهُ بَيْنَهُمْ وَلَا يُشَافِهُونَ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي زادَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ.
وَالنُّفُورُ: الْفِرَارُ مِنَ الشَّيْءِ. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ الْبُعْدُ. وَإسْنَاد زِيَادَة لنفور إِلَى الْقَوْلِ لِأَنَّهُ سَبَبُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ نُفُورٍ مِنْ سُجُودٍ لِلَّهِ فَلَمَّا أمروا بِالسُّجُود للرحمان زَادُوا بُعْدًا مِنَ الْإِيمَانِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ نُوحٍ [٦] فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً.
وَهَذَا مَوْضِعُ سَجْدَةٍ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ بِالِاتِّفَاقِ. وَوَجْهُ السُّجُودِ هُنَا إِظْهَارُ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ أَبَوا السُّجُود للرحمان، فَلَمَّا حُكِيَ إِبَاؤُهُمْ من السُّجُود للرحمان فِي مَعْرِضِ التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِهِمْ عُزِّزَ ذَلِكَ بِالْعَمَلِ بِخِلَافِهِمْ فَسَجَدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا مُخَالِفًا لَهُمْ مُخَالَفَةً بِالْفِعْلِ مُبَالَغَةً فِي مُخَالَفَتِهِ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ كُفْرَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الْفرْقَان: ٥٨] الْآيَاتِ الثَّلَاثَ. وَسَنَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ السُّجُودَ فِي هَذَا الْموضع.
[٦١]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٦١]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جُعِلَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الْفرْقَان: ٦٣] الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ مَحْصُولُ الدِّعَامَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الدَّعَائِمِ الثَّلَاثِ الَّتِي أُقِيمَ عَلَيْهَا بِنَاءُ هَذِهِ السُّورَةِ، وَافْتُتِحَتْ كُلُّ دِعَامَةٍ مِنْهَا بِ تَبارَكَ الَّذِي... إِلَخْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي
صَدْرِ السُّورَةِ. وَافْتُتِحَ ذَلِكَ بِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِالْبِرْكَةِ وَالْخَيْرِ لِمَا جَعَلَهُ لِلْخَلْقِ مِنَ الْمَنَافِعِ. وَتَقَدَّمَ تَبارَكَ أَوَّلَ السُّورَةِ [١] وَفِي قَوْلِهِ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فِي الْأَعْرَافِ [٥٤].
وَالْبُرُوجُ: مَنَازِلُ مُرُورِ الشَّمْسِ فِيمَا يَرَى الرَّاصِدُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحِجْرِ [١٦].
وَالِامْتِنَانُ بِهَا لِأَنَّ النَّاسَ يُوَقِّتُونَ بِهَا أَزْمَانَهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سِراجاً بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ. وَالسِّرَاجُ: الشَّمْسُ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً فِي سُورَةِ نُوحٍ [١٦]. وَمُنَاسَبَةُ ذَلِكَ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً...
[الْفرْقَان: ٦٢].
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ سُرُجًا بِضَمِّ السِّينِ وَالرَّاءِ جَمْعُ سِرَاجٍ فَيَشْمَلُ مَعَ الشَّمْسِ النُّجُومَ، فَيَكُونُ امْتِنَانًا بِحُسْنِ مَنْظَرِهَا لِلنَّاسِ كَقَوْلِهِ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الْملك: ٥]. وَالِامْتِنَانُ بِمَحَاسِنِ الْمَخْلُوقَاتِ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النَّحْل: ٦].
وَالْكَلَامُ جَارٍ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ السِّرَاجِ: الْمِصْبَاحُ الزَّاهِرُ الضِّيَاءَ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ جَعَلَ الشَّمْسَ مُزِيلَةً لِلظُّلْمَةِ كَالسِّرَاجِ، أَوْ خَلَقَ النُّجُومَ كَالسِّرَاجِ فِي التَّلَأْلُؤِ وَحُسْنِ الْمَنْظَرِ.
وَدَلَالَةُ خلق البروج وَخلق الشَّمْس وَالْقَمَرِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَة دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ لِلْعَاقِلِ، وَكَذَلِكَ دَلَالَتُهُ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ وَنِظَامِهِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلُّ وَلَا يَخْتَلِفُ حَتَّى تَسَنَّى لِلنَّاسِ رَصْدُ أَحْوَالِهَا وَإِنَاطَةُ حسابهم بهَا.
[٦٢]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٦٢]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢)
الِاسْتِدْلَالُ هَذَا بِمَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنِ اخْتِلَافِ الْحَالِ بَيْنَ ظُلْمَةٍ وَنُورٍ، وَبَرْدٍ
64
وَحَرٍّ، مِمَّا يَكُونُ بَعْضُهُ أَلْيَقَ بِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ بَعْضٍ بِبَعْضٍ آخَرَ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلِاسْتِدْلَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً [الْفرْقَان: ٤٧]، فَهَذِهِ دلَالَة أُخْرَى ونعمة أُخْرَى وَالْحِكَمُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَثِيرَةٌ.
وَالْقَصْرُ هُنَا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ وَلَيْسَ إِضَافِيًّا فَلِذَلِكَ لَا يُرَادُ بِهِ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِخِلَافِ صِيَغِ الْقَصْرِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً إِلَى قَوْلِهِ وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً [الْفرْقَان: ٤٧- ٥٤].
وَالْخِلْفَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ: اسْمٌ لِمَا يَخْلُفُ غَيْرَهُ فِي بَعْضِ مَا يَصْلُحُ لَهُ.
صِيغَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى زِنَةِ فِعْلَةٍ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ ذُو خِلْفَةٍ، أَيْ صَاحِبُ حَالَةٍ خَلَفَ فِيهَا غَيْرَهُ ثُمَّ شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فَصَارَ اسْمًا، قَالَ زُهَيْرٌ:
بِهَا الْعِينُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ
أَيْ يَمْشِي سِرْبٌ وَيَخْلُفُهُ سِرْبٌ آخَرُ ثُمَّ يَتَعَاقَبُ هَكَذَا. فَالْمَعْنَى: جَعَلَ اللَّيْلَ خِلْفَةً
وَالنَّهَارَ خِلْفَةً: أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِلْفَةً عَنِ الْآخَرِ، أَيْ فِيمَا يَعْمَلُ فِيهَا مِنَ التَّدَبُّرِ فِي أَدِلَّةِ الْعَقِيدَةِ وَالتَّعَبُّدِ وَالتَّذَكُّرِ.
وَاللَّامُ فِي لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ لَامُ التَّعْلِيلِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ جَعَلَ، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْجَعْلَ نَافِعٌ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شَكُورًا.
وَالتَّذَكُّرُ: تَفَعُّلٌ مِنَ الذِّكْرِ، أَيْ تَكَلِّفُ الذِّكْرِ. وَالذِّكْرُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى التَّأَمُّلِ فِي أَدِلَّةِ الدِّينِ، وَجَاءَ بِمَعْنَى: تَذَكُّرِ فَائِتٍ أَوْ مَنْسِيٍّ، وَيَجْمَعُ الْمَعْنَيَيْنِ اسْتِظْهَارُ مَا احْتُجِبَ عَنِ الْفِكْرِ.
وَالشُّكُورُ: بِضَمِّ الشِّينِ مَصْدَرٌ مُرَادِفُ الشُّكْرِ، وَالشُّكْرُ: عِرْفَانُ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِ.
وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْعِبَادَةُ لِأَنَّهَا شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
فَتُفِيدُ الْآيَةُ مَعْنَى: لِيَنْظُرَ فِي اخْتِلَافِهِمَا الْمُتَفَكِّرُ فَيَعْلَمَ أَنْ لَا بُدَّ لِانْتِقَالِهِمَا مَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ مُؤْثَرٍ حَكِيمٍ فَيَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى تَوْحِيدِ الْخَالِقِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ عَظِيمُ الْقُدْرَةِ فَيُوقِنُ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ الْإِلَهِيَّةَ، وَلِيَشْكُرَ الشَّاكِرَ عَلَى مَا فِي اخْتِلَافِ
65
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ نِعَمٍ عَظِيمَةٍ مِنْهَا مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً [الْفرْقَان: ٤٧] فَيَكْثُرُ الشَّاكِرُونَ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَمُنَاسَبَاتِهِمْ، وَتُفِيدُ مَعْنَى:
لِيَتَدَارَكَ النَّاسِي مَا فَاتَهُ فِي اللَّيْلِ بِسَبَبِ غَلَبَةِ النَّوْمِ أَوِ التَّعَبِ فَيَقْضِيَهُ فِي النَّهَارِ أَوْ مَا شَغَلَهُ عَنْهُ شَوَاغِلُ الْعَمَلِ فِي النَّهَارِ فَيَقْضِيَهُ بِاللَّيْلِ عِنْدَ التَّفَرُّغِ فَلَا يَرْزَؤُهُ ذَلِكَ ثَوَابَ أَعْمَالِهِ. رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَطَالَ صَلَاةَ الضُّحَى يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ: صَنَعْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ؟
فَقَالَ: إِنَّهُ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ وِرْدِي شَيْءٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَقْضِيَهُ وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً الْآيَةَ. وَلِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ شُكْرًا لَهُ بِصَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ فَيَكُونَ اللَّيْلُ أَسْعَدَ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَالنَّهَارُ أَسْعَدَ بِبَعْضٍ، فَهَذَا مُفَادٌ عَظِيمٌ فِي إِيجَازٍ بَدِيعٍ.
وَجِيءَ فِي جَانِبِ الْمُتَذَكِّرِينَ بِقَوْلِهِ أَنْ يَذَّكَّرَ لِدَلَالَةِ الْمُضَارِعِ عَلَى التَّجَدُّدِ. وَاقْتَصَرَ فِي جَانِبِ الشَّاكِرِينَ عَلَى الْمَصْدَرِ بِقَوْلِهِ أَوْ أَرادَ شُكُوراً لِأَنَّ الشُّكْرَ يَحْصُلُ دُفْعَةً.
وَلِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ النَّظْمَيْنِ أُعِيدَ فِعْلُ أَرادَ إِذْ لَا يَلْتَئِمُ عَطْفُ شُكُوراً عَلَى أَنْ يَذَّكَّرَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يَذَّكَّرَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ مَفْتُوحَةً، وَأَصْلُهُ: يَتَذَكَّرُ فَأُدْغِمَتِ التَّاءَ فِي الذَّالِ لِتَقَارُبِهِمَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ أَنْ يَذَّكَّرَ بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ وَهُوَ بِمَعْنَى
الْمُشَدَّدِ إِلَّا أَنَّ الْمُشَدَّدَ أَشَدُّ عَمَلًا، وَكِلَا الْعَمَلَيْنِ يُسْتَدْرَكَانِ فِي اللَّيْل وَالنَّهَار.
[٦٣]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٦٣]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣)
عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، فَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ هِيَ عِبادُ الرَّحْمنِ إِلَخْ، فَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً إِلَخْ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا [الْفرْقَان: ٧٥]. وَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا جُمْلَةُ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الْفرْقَان: ٦٢] إِلَخْ. فَبِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ تُخُلِّصَ إِلَى خِصَالِ الْمُؤْمِنِينَ أَتْبَاعِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ السُّورَةُ أَغْرَاضَ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ وَمَنِ اتَّبَعُوهُ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْإِلْمَامِ بِأَهَمِّ أَغْرَاضِهَا فِي طَالِعَةِ تَفْسِيرِهَا. وَهَذَا مِنْ
66
أَبْدَعِ التَّخَلُّصِ إِذْ كَانَ مُفَاجِئًا لِلسَّامِعِ مُطْمِعًا أَنَّهُ اسْتِطْرَادٌ عَارِضٌ كَسَوَابِقِهِ حَتَّى يُفَاجِئَهُ مَا يُؤْذِنُ بِالْخِتَامِ وَهُوَ قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي [الْفرْقَان: ٧٧] الْآيَةَ.
وَالْمُرَاد بِ عِبادُ الرَّحْمنِ بادىء ذِي بَدْءٍ أَصْحَابُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالصلات الثَّمَانِ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ حِكَايَةٌ لِأَوْصَافِهِمُ الَّتِي اخْتُصُّوا بِهَا.
وَإِذْ قَدْ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الصِّفَاتُ فِي مَقَامِ الثَّنَاءِ وَالْوَعْدِ بِجَزَاءِ الْجَنَّةِ عُلِمَ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ مَوْعُودٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ وَقَدْ شَرَّفَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ جَعَلَ عُنْوَانَهُمْ عِبَادَهُ، وَاخْتَارَ لَهُمْ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى اسْمِهِ اسْمَ الرَّحْمَنِ لِوُقُوعِ ذِكْرِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ الْفَرِيقِ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ. قالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠]. فَإِذَا جُعِلَ الْمُرَادُ مِنْ عِبادُ الرَّحْمنِ أَصْحَابُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً إِلَى آخَرِ الْمَعْطُوفَاتِ وَكَانَ قَوْلُهُ الْآتِي أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا [الْفرْقَان: ٧٥] اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ كَوْنِهِمْ أَحْرِيَاءَ بِمَا بَعَدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ عِبادُ الرَّحْمنِ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّصِفِينَ بِمَضْمُونِ تِلْكَ الصِّلَاتِ كَانَتْ تِلْكَ الْمَوْصُولَاتُ وَصِلَاتُهَا نُعُوتًا لِ عِبادُ الرَّحْمنِ وَكَانَ الْخَبَرُ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ [الْفرْقَان: ٧٥] إِلَخْ.
وَفِي الْإِطْنَابِ بِصِفَاتِهِمُ الطَّيِّبَةِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ أَبَوا السُّجُود للرحمان وَزَادَهُمْ نُفُورًا هُمْ عَلَى الضِّدِّ مِنْ تِلْكَ الْمَحَامِدِ، تَعْرِيضًا تُشْعِرُ بِهِ إِضَافَةُ عِبادُ إِلَى الرَّحْمنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الصِّلَاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى عِبادُ الرَّحْمنِ جَاءَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ هُوَ مِنَ التَّحَلِّي بِالْكِمَالَاتِ الدِّينِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي ابْتُدِئَ بِهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً إِلَى قَوْله سَلاماً [الْفرْقَان: ٧٥].
وَقِسْمٌ هُوَ مِنَ التَّخَلِّي عَنْ ضَلَالَاتِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَهُوَ الَّذِي مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْفرْقَان: ٦٨].
وَقِسْمٌ هُوَ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً [الْفرْقَان: ٦٤]،
67
وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا [الْفرْقَان: ٦٧] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ:
وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ إِلَى قَوْلِهِ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الْفرْقَان: ٦٨- ٧٢] إِلَخْ.
وَقِسْمٌ مِنْ تَطَلُّبِ الزِّيَادَةِ مِنْ صَلَاحِ الْحَالِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا إِلَى قَوْلِهِ: لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الْفرْقَان: ٧٤].
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أَنَّهُ مَدْحٌ لِمِشْيَةٍ بِالْأَرْجُلِ وَهُوَ الَّذِي حَمَلَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَجَوَّزَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ يَمْشُونَ عِبَارَةً عَنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ فِي مُعَاشَرَةِ النَّاسِ فَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالِانْتِقَالِ فِي الْأَرْضِ وَتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مَأْخُوذٌ مِمَّا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ ابْن أَسْلَمَ كَمَا سَيَأْتِي. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ تَقْيِيدُ الْمَشْيِ بِأَنَّهُ عَلَى الْأَرْضِ لِيَكُونَ فِي وَصْفِهِ بِالْهَوْنِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَمْشُونَ كَذَلِكَ اخْتِيَارًا وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَشْيِ فِي الصُّعُدَاتِ أَوْ عَلَى الْجَنَادِلِ.
وَالْهَوْنُ: اللِّينُ وَالرِّفْقُ. وَوَقَعَ هُنَا صِفَةً لِمَصْدَرِ الْمَشْيِ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ (مَشْيًا) فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ.
وَالْمَشْيُ الْهَوْنُ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ ضَرْبٌ بِالْأَقْدَامِ وَخَفْقُ النِّعَالِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَشْيِ الْمُتَجَبِّرِينَ الْمُعْجَبِينَ بِنُفُوسِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ. وَهَذَا الْهون ناشىء عَنِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالتَّخَلُّقِ بِآدَابِ النَّفْسِ الْعَالِيَةِ وَزَوَالِ بَطَرِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْمِشْيَةُ مِنْ خِلَالِ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى الضِّدِّ مِنْ مَشْيِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ رَأَى غُلَامًا يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ فَقَالَ لَهُ «إِنَّ الْبَخْتَرَةَ مِشْيَةٌ تُكْرَهُ إِلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى أَقْوَامًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً فاقصد فِي مِشْيَتِكَ، وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَن لُقْمَان قَوْله لِابْنِهِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً [الْإِسْرَاء: ٣٧].
وَالتَّخَلُّقُ بِهَذَا الْخُلُقِ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّخَلُّقِ بِالرَّحْمَةِ الْمُنَاسب لعباد الرحمان لِأَنَّ الرَّحْمَةَ ضِدُّ الشِّدَّةِ، فَالْهَوْنُ يُنَاسِبُ مَاهِيَّتَهَا وَفِيهِ سَلَامَةٌ مِنْ صَدْمِ الْمَارِّينَ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً
68
فَمَا وَجَدْتُ فِي ذَلِكَ شِفَاءً فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ مَنْ جَاءَنِي فَقَالَ لِي: «هُمُ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ». فَهَذَا رَأْيٌ لِزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أُلْهِمَهُ يَجْعَلُ مَعْنَى يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ لِلْعَمَلِ فِي الْأَرْضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها [الْبَقَرَة: ٢٠٥] وَأَنَّ الْهَوْنَ مُسْتَعَارٌ لِفِعْلِ الْخَيْرِ لِأَنَّهُ هَوَّنَ عَلَى النَّاسِ كَمَا يُسَمَّى بِالْمَعْرُوفِ.
وَقُرِنَ وَصَفُهُمْ بِالتَّوَاضُعِ فِي سَمْتِهِمْ وَهُوَ الْمَشْيُ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا بِوَصْفٍ آخَرَ يُنَاسِبُ التَّوَاضُعَ وَكَرَاهِيَةَ التَّطَاوُلِ وَهُوَ مُتَارَكَةُ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ عَلَيْهِمْ فِي الْخِطَابِ بِالْأَذَى وَالشَّتْمِ وَهَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ يَوْمَئِذٍ هُمُ الْمُشْرِكُونَ إِذْ كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْأَذَى وَالشَّتْمِ فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ مُتَارَكَةَ السُّفَهَاءِ، فَالْجَهْلُ هُنَا ضِدُّ الْحِلْمِ، وَذَلِكَ أَشْهَرُ إِطْلَاقَاتِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الشِّعْرِ وَالنَّثْرِ.
وَانْتُصِبَ سَلاماً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. وَذَكَّرَهُمْ بِصِفَةِ الْجَاهِلِينَ دُونَ غَيْرِهَا مِمَّا هُوَ أَشَدُّ مَذَمَّةً مِثْلَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْخِطَابَ الصَّادِرَ مِنْهُمْ خِطَابُ الْجَهَالَةِ وَالْجَفْوَةِ.
وَ (السَّلَامُ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى السَّلَامَةِ، أَيْ لَا خَيْرَ بَيْنَنَا وَلَا شَرَّ فَنَحْنُ مُسَلَّمُونَ مِنْكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ لَفْظُ التَّحِيَّةِ فَيَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي لَازِمِهِ وَهُوَ الْمُتَارَكَةُ لِأَنَّ أَصْلَ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ السَّلَامِ فِي التَّحِيَّةِ أَنَّهُ يُؤْذِنُ بِالتَّأْمِينِ، أَي عدم لإهاجة، وَالتَّأْمِينُ: أَوَّلُ مَا يَلْقَى بِهِ الْمَرْءُ مَنْ يُرِيدُ إِكْرَامَهُ، فَتَكُونُ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [الْقَصَص: ٥٥].
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأُرِيتُ فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ وَكَانَ مِنَ الْمَائِلِينَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَوْمًا بِحَضْرَةِ الْمَأْمُونِ (١) وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ: كُنْتُ أَرَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي النَّوْمِ فَكُنْتُ أَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَكَانَ يَقُولُ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ، فَكُنْتُ أَجِيءُ مَعَهُ إِلَى قَنْطَرَةٍ فَيَذْهَبُ فَيَتَقَدَّمُنِي فِي عبورها فَكنت أَقُولُ: إِنَّمَا تَدَّعِي هَذَا الْأَمْرَ بِامْرَأَةٍ وَنَحْنُ أَحَقُّ
_________
(١) لِأَن الْمَأْمُون كَانَ متشيعا للعلويين.
69
بِهِ مِنْكَ، فَمَا رَأَيْتُ لَهُ فِي الْجَوَابِ بَلَاغَةً كَمَا يُذْكَرُ عَنْهُ، قَالَ الْمَأْمُونُ: وَبِمَاذَا جَاوَبَكَ؟ قَالَ: فَكَانَ يَقُولُ لِي: سَلَامًا. قَالَ الرَّاوِي: فَكَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ لَا يَحْفَظُ الْآيَةَ أَوْ ذَهَبَتْ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَنَبَّهَ الْمَأْمُونُ عَلَى الْآيَةِ مَنْ حَضَرَهُ وَقَالَ: هُوَ وَاللَّهِ يَا عَمِّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ جَاوَبَكَ بِأَبْلَغِ جَوَابٍ، فَخُزِيَ إِبْرَاهِيمُ وَاسْتَحْيَا. وَلِأَجْلِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ عُطِفَتْ هَذِهِ عَلَى الصِّلَةِ الْأُولَى. وَلَمْ يُكَرَّرِ اسْمُ الْمَوْصُولِ كَمَا كُرِّرَ فِي الصِّفَات بعْدهَا.
[٦٤]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٦٤]
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤)
عَطْفُ صِفَةٍ أُخْرَى عَلَى صِفَتَيْهِمُ السَّابِقَتَيْنِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرِمِ وَابْنِ الْهُمَامِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ
وَإِعَادَةُ الْمَوْصُولِ لِتَأْكِيدِ أَنَّهُمْ يُعْرَفُونَ بِهَذِهِ الصِّلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمَوْصُولَاتِ وَصِلَاتِهَا كُلَّهَا أَخْبَارٌ أَوْ أَوْصَاف لعباد الرحمان. رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الْفرْقَان: ٦٣] قَالَ: هَذَا وَصْفُ نَهَارِهِمْ، ثُمَّ إِذَا قَرَأَ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً قَالَ: هَذَا وَصْفُ لَيْلِهِمْ.
وَالْقِيَامُ: جَمْعُ قَائِمٍ كَالصِّحَابِ، وَالسُّجُودُ وَالْقِيَامُ رُكْنَا الصَّلَاةِ، فَالْمَعْنَى: يَبِيتُونَ يُصَلُّونَ، فَوَقَعَ إِطْنَابٌ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الصَّلَاةِ بِرُكْنَيْهَا تَنْوِيهًا بِكِلَيْهِمَا. وَتَقْدِيمُ سُجَّداً عَلَى قِياماً لِلرَّعْيِ عَلَى الْفَاصِلَةِ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِالسُّجُودِ وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ
النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ»
. وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرِي التَّهَجُّدِ كَمَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السَّجْدَة: ١٦].
[٦٥، ٦٦]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٦٥ إِلَى ٦٦]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦)
دُعَاؤُهُمْ هَذَا أَمَارَةٌ عَلَى شِدَّةِ مَخَافَتِهِمُ الذُّنُوبَ فَهُمْ يَسْعَوْنَ فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِمْ لِيَنْجُوا مِنَ الْعَذَابِ، فَالْمُرَادُ بِصَرْفِ الْعَذَابِ: إِنْجَاؤُهُمْ مِنْهُ بِتَيْسِيرِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَتَوْفِيرِهِ وَاجْتِنَابِ السَّيِّئَاتِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حِكَايَةً مِنْ كَلَامِ الْقَائِلِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَرِضَةً بَيْنَ اسْمَيِ الْمَوْصُولِ، وَعَلَى كُلٍّ فَهِيَ تَعْلِيلٌ لِسُؤَالِ صَرْفِ عَذَابِهَا عَنْهُمْ.
وَالْغَرَامُ: الْهَلَاكُ الْمُلِحُّ الدَّائِمُ، وَغَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الشَّرِّ الْمُسْتَمِرِّ.
وَجُمْلَةُ إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حِكَايَةً لِكَلَامِ الْقَائِلِينَ فَتَكُونَ تَعْلِيلًا ثَانِيًا مُؤَكِّدًا لِتَعْلِيلِهِمُ الْأَوَّلِ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الَّتِي قَبْلَهَا فَتَكُونَ تَأْيِيدًا لِتَعْلِيلِ الْقَائِلِينَ. وَأَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا فَتَكُونَ تَكْرِيرًا لِلِاعْتِرَاضِ.
وَالْمُسْتَقَرُّ: مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ. وَالِاسْتِقْرَارُ: قُوَّةُ الْقَرَارِ. وَالْمُقَامُ: اسْمُ مَكَانِ الْإِقَامَةِ، أَيْ سَاءَتْ مَوْضِعًا لِمَنْ يَسْتَقِرُّ فِيهَا بِدُونِ إِقَامَةٍ مِثْلَ عُصَاةِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَلِمَنْ يُقِيمُ فِيهَا مِنَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ المبعوثين إِلَيْهِم.
[٦٧]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٦٧]
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)
أَفَادَ قَوْلُهُ إِذا أَنْفَقُوا أَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْ خِصَالِهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ وَإِذَا أَنْفَقُوا إِلَخْ. وَأُرِيدَ بِالْإِنْفَاقِ هُنَا الْإِنْفَاقُ غَيْرُ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ إِنْفَاقُ الْمَرْءِ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ الْوَاجِبَ لَا يُذَمُّ الْإِسْرَافُ فِيهِ، وَالْإِنْفَاقُ الْحَرَامُ لَا يُحْمَدُ مُطْلَقًا بَلَهْ أَنْ يُذَمَّ الْإِقْتَارُ فِيهِ عَلَى أَنَّ فِي قَوْلِهِ إِذا أَنْفَقُوا إِشْعَارًا بِأَنَّهُمُ اخْتَارُوا أَنْ يُنْفِقُوا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ.
وَالْإِسْرَافُ: تَجَاوُزُ الْحَدِّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْإِنْفَاقُ بِحَسَبِ حَالِ الْمُنْفِقِ وَحَالِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْإِسْرَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦]، وَقَوْلِهِ: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤١].
وَالْإِقْتَارُ عَكْسُهُ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُسْرِفُونَ فِي النَّفَقَةِ فِي اللَّذَّاتِ وَيُغْلُونَ السِّبَاءَ فِي الْخَمْرِ وَيُتَمِّمُونَ الْأَيْسَارَ فِي الْمَيْسِرِ. وَأَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي أَشْعَارِهِمْ
71
وَهِيَ فِي مُعَلَّقَةِ طَرَفَةَ وَفِي مُعَلَّقَةِ لَبِيَدٍ وَفِي مِيمِيَّةِ النَّابِغَةِ، وَيَفْتَخِرُونَ بِإِتْلَافِ الْمَالِ لِيَتَحَدَّثَ الْعُظَمَاءُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ مَادِحًا:
مُفِيدٌ وَمِتْلَافٌ إِذَا مَا أَتَيْتَهُ تَهَلَّلَ وَاهْتَزَّ اهْتِزَازَ الْمُهَنَّدِ
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَر وَلَا يُقْتِرُوا بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ مِنَ الْإِقْتَارِ وَهُوَ مُرَادِفُ التَّقْتِيرِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ مِنْ قَتَرَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَهُوَ لُغَةٌ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ مِنْ فِعْلِ قَتَرَ مِنْ بَابِ نَصَرَ.
والإقتار والقتر: الإجحاف وَالنَّقْصُ مِمَّا تَسَعُهُ الثَّرْوَةُ وَيَقْتَضِيهِ حَالُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ.
وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُقْتِرُونَ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالضُّعَفَاءِ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ثَنَاءَ الْعُظَمَاءِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ [الْبَقَرَة: ١٨٠].
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَ ذلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، أَيِ الْإِسْرَافُ وَالْإِقْتَارُ.
وَالْقَوَامُ بِفَتْحِ الْقَافِ: الْعَدْلُ وَالْقَصْدُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَضَعُونَ النَّفَقَاتِ مَوَاضِعَهَا الصَّالِحَةَ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ فَيَدُومُ إِنْفَاقُهُمْ وَقَدْ رَغَّبَ الْإِسْلَامُ فِي الْعَمَلِ الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَلِيَسِيرَ نِظَامُ الْجَمَاعَةِ عَلَى كِفَايَةٍ دُونَ تَعْرِيضِهِ لِلتَّعْطِيلِ فَإِنَّ الْإِسْرَافَ مِنْ شَأْنِهِ اسْتِنْفَادُ الْمَالِ فَلَا يَدُومُ الْإِنْفَاقُ، وَأَمَّا الْإِقْتَارُ فَمِنْ شَأْنِهِ إِمْسَاكُ الْمَالِ فَيُحْرَمُ مَنْ يَسْتَأْهِلُهُ.
وَقَوْلُهُ: بَيْنَ ذلِكَ خَبَرُ كانَ وقَواماً حَال موكّدة لِمَعْنَى بَيْنَ ذلِكَ. وَفِيهَا إِشْعَارٌ بِمَدْحِ مَا بَيْنَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الصَّوَابُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَواماً خَبَرَ كانَ وبَيْنَ ذلِكَ ظَرْفًا مُتَعَلِّقًا بِهِ. وَقَدْ جَرَتِ الْآيَةُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْأَحْوَالِ الْغَالِبَةِ فِي إِنْفَاقِ النَّاسِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْقَوَامُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ عِيَالِهِ وَحَالِهِ وَلِهَذَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَمَنَعَ غَيْرَهُ من ذَلِك.
72

[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٦٨ إِلَى ٦٩]

وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩)
هَذَا قِسْمٌ آخَرُ مِنْ صِفَات عباد الرحمان، وَهُوَ قِسْمُ التَّخَلِّي عَنِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي كَانَتْ مُلَازِمَةً لِقَوْمِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَتَنَزَّهَ عِبَادُ الرَّحْمَنِ عَنْهَا بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ، وَذُكِرَ هُنَا تَنَزُّهُهُمْ عَنِ الشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَالزِّنَا، وَهَذِهِ الْقَبَائِحُ الثَّلَاثُ كَانَتْ غَالِبَةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَوَصْفُ النَّفْسِ بِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ بَيَان لِحُرْمَةِ النَّفْسِ الَّتِي تَقَرَّرَتْ مِنْ عَهْدِ آدَمَ فِيمَا
حَكَى اللَّهُ من محاورة وَلَدي آدَمَ بِقَوْلِهِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ [الْمَائِدَة: ٢٧] الْآيَاتِ، فَتَقَرَّرَ تَحْرِيمُ قَتْلِ النَّفْسِ مِنْ أَقْدَمِ أَزْمَانِ الْبَشَرِ وَلَمْ يَجْهَلْهُ أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، فَذَلِكَ مَعْنَى وَصْفِ النَّفْسِ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ. وَكَانَ قَتْلُ النَّفْسِ مُتَفَشِّيًا فِي الْعَرَبِ بِالْعَدَاوَاتِ، وَالْغَارَاتِ، وَبِالْوَأْدِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْقَبَائِلِ بَنَاتِهِمْ، وَبِالْقَتْلِ لِفَرْطِ الْغَيْرَةِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا إِلَيْهَا وَمَعْشَرًا عَلَيَّ حُرَّاصًا لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي
وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
عُلِّقْتُهَا عَرْضًا وَأَقْتُلُ قَوْمَهَا زَعْمًا لَعَمْرُ أَبِيكَ لَيْسَ بِمَزْعَمِ
وَقَوْلُهُ إِلَّا بِالْحَقِّ الْمُرَادُ بِهِ يَوْمَئِذٍ: قَتْلُ قَاتِلِ أَحَدِهِمْ، وَهُوَ تَهْيِئَةٌ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْجِهَادِ عَقِبَ مُدَّةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. وَلَمْ يَكُنْ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ سُلْطَانٌ لِإِقَامَةِ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ. وَمَضَى الْكَلَام على الزِّنَا فِي سُورَةِ سُبْحَانَ.
وَقَدْ جُمِعَ التَّخَلِّي عَنْ هَذِهِ الْجَرَائِمِ الثَّلَاثِ فِي صِلَةِ مَوْصُولٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُكَرَّرِ اسْمُ الْمَوْصُولِ كَمَا كُرِّرَ فِي ذِكْرِ خِصَالِ تَحَلِّيهِمْ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَقْلَعُوا عَنِ الشِّرْكِ وَلَمْ يَدْعُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَقَدْ أَقْلَعُوا عَنْ أَشَدِّ الْقَبَائِحِ لُصُوقًا بِالشِّرْكِ وَذَلِكَ قتل النَّفس وَالزِّنَا.
فَجَعَلَ ذَلِكَ شَبِيهَ خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَجُعِلَ فِي صِلَةِ مَوْصُولٍ وَاحِدٍ.
73
وَقَدْ يَكُونُ تَكْرِيرُ لَا مُجْزِئًا عَنْ إِعَادَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ وَكَافِيًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ مُوجِبَةٌ لِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا
فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيِّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ؟ قَالَ: أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خِيفَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ:
قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
تَصْدِيقَهَا وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِلَى أَثاماً، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَطِيَّةَ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ إِلَى قَوْلِهِ غَفُوراً رَحِيماً [الْفرْقَان: ٦٨- ٧٠] قِيلَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْكَبَائِرِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا. وَالْمُتَبَادَرُ مِنَ الْإِشَارَةِ أَنَّهَا إِلَى الْمَجْمُوعِ، أَيْ مَنْ يَفْعَلُ مَجْمُوعَ الثَّلَاثِ. وَيُعْلَمُ أَنَّ جَزَاءَ مَنْ يَفْعَلُ بَعْضَهَا وَيَتْرُكُ بَعْضًا عَدَا الْإِشْرَاكِ دُونَ جَزَاءِ مَنْ يَفْعَلُ جَمِيعَهَا، وَأَنَّ الْبَعْضَ أَيْضًا مَرَاتِبُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنْ يَفْعَلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِمَّا ذُكِرَ يَلِقَ أَثَامًا لِأَنَّ لُقِيَّ الْآثَامِ بُيِّنَ هُنَا
بِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ وَالْخُلُودِ فِيهِ. وَقَدْ نَهَضَتْ أَدِلَّةٌ مُتَظَافِرَةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الْكُفْرَ مِنَ الْمَعَاصِي لَا يُوجِبُ الْخُلُودَ، مِمَّا يَقْتَضِي تَأْوِيلَ ظَوَاهِرِ الْآيَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُضَاعَفَةُ الْعَذَابِ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى قُوَّتِهِ، أَيْ يُعَذَّبُ عَذَابًا شَدِيدًا وَلَيْسَتْ لِتَكْرِيرِ عَذَابٍ مُقَدَّرٍ.
وَالْأَثَامُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَزَاءُ الْإِثْمِ عَلَى زِنَةِ الْوَبَالِ وَالنَّكَالِ، وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْإِثْمِ، أَيْ يُجَازَى عَلَى ذَلِكَ سُوءًا لِأَنَّهَا آثَامٌ.
وَجُمْلَةُ: يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ يَلْقَ أَثاماً، وَإِبْدَالُ الْفِعْلِ مِنَ الْفِعْلِ إِبْدَالُ جُمْلَةٍ فَإِنْ كَانَ فِي الْجُمْلَةِ فِعْلٌ قَابِلٌ لِلْإِعْرَابِ ظَهَرَ إِعْرَابُ الْمَحَلِّ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ عِمَادُ الْجُمْلَةِ. وَجُعِلَ الْجَزَاءُ مُضَاعَفَةُ الْعَذَابِ وَالْخُلُودُ.
فَأَمَّا مُضَاعَفَةُ الْعَذَابِ فَهِيَ أَنْ يُعَذَّبَ عَلَى كُلِّ جُرْمٍ مِمَّا ذُكِرَ عَذَابًا مُنَاسِبًا وَلَا يُكْتَفَى بِالْعَذَابِ الْأَكْبَرِ عَنْ أَكْبَرِ الْجَرَائِمِ وَهُوَ الشِّرْكُ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ لَا
74
يُنْجِي صَاحِبَهُ مِنْ تَبِعَةِ مَا يَقْتَرِفُهُ مِنَ الْجَرَائِمِ وَالْمَفَاسِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ لِلنَّاسِ جَاءَتْ بِالْإِقْلَاعِ عَنِ الشِّرْكِ وَعَنِ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ يَعْنُونَ خِطَابَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى مَا نُهُوا عَنِ ارْتِكَابِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْعَمَلُ إِذْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمُ الصَّالِحَاتُ بِدُونِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ رَامَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ تَخْصِيصَ الْخِلَافِ بِخِطَابِ التَّكْلِيفِ لَا الْإِتْلَافِ وَالْجِنَايَاتِ وَخِطَابِ الْوَضْعِ كُلِّهِ.
وَأَمَّا الْخُلُودُ فِي الْعَذَابِ فَقَدِ اقْتَضَاهُ الْإِشْرَاكُ.
وَقَوْلُهُ: مُهاناً حَالٌ قُصِدَ مِنْهَا تَشْنِيعُ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ يُعَذَّبُ وَيُهَانُ إِهَانَةً زَائِدَةً عَلَى إِهَانَةِ التَّعْذِيبِ بِأَنْ يُشْتَمَ وَيُحَقَّرَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُضاعَفْ بِأَلْفٍ بَعْدِ الضَّادِ وَبِجَزْمِ الْفِعْلِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوب يُضاعَفْ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَبِالْجَزْمِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بكر عَن عَاصِمٍ يُضاعَفْ بِأَلْفٍ بَعْدِ الضَّادِ وَبِرَفْعِ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَاف بياني.
[٧٠]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٧٠]
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠)
الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْعُمُومِ الَّذِي أَفَادَتْهُ مَنْ الشَّرْطِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ
[الْفرْقَان: ٦٨]. وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مَنْ تَابَ فَلَا يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ وَلَا يَخْلُدُ فِيهِ، وَهَذَا تَطْمِينٌ لِنُفُوسِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قَدْ كَانُوا تَلَبَّسُوا بِخِصَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ ثُمَّ تَابُوا عَنْهَا بِسَبَبِ تَوْبَتِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي دَعْوَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ بَعْدَ الْعُنْوَانِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ ثَنَاءٌ زَائِدٌ.
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَتْ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْفرْقَان: ٦٨] الْآيَةَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ مِنْ عَذَابِ الذُّنُوبِ الَّتِي تَابَ مِنْهَا، وَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّهُ
75
يُعَذَّبُ عَذَابًا غَيْرَ مُضَاعَفٍ وَغَيْرَ مُخَلَّدٍ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مَجَارِي الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ بَلِ الْأَصْلُ فِي ارْتِفَاعِ الشَّيْءِ الْمُقَيَّدِ أَنْ يُقْصَدَ مِنْهُ رَفْعُهُ بِأَسْرِهِ لَا رَفْعُ قُيُودِهِ، إِلَّا بِقَرِينَةٍ.
وَالتَّوْبَةُ: الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمُ عَلَى مَا فَرَّطَ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ، وَإِذْ كَانَ فِيمَا سَبَقَ ذِكْرُ الشِّرْكِ فَالتَّوْبَةُ هُنَا التَّلَبُّسُ بِالْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ بَعْدَ الْكُفْرِ يُوجِبُ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ كَمَا اقْتَرَفَهُ الْمُشْرِكُ فِي مُدَّةِ شَرَكِهِ كَمَا
فِي الْحَدِيثِ «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ»
، وَلِذَلِكَ فَعُطِفَ وَآمَنَ عَلَى مَنْ تابَ لِلتَّنْوِيهِ بِالْإِيمَانِ، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً وَهُوَ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ تَحْرِيضًا عَلَى الصَّالِحَاتِ وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّهَا لَا يُعْتَدُّ بِهَا إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَلَدِ [١٧] ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَقَالَ فِي عَكْسِهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النُّور: ٣٩].
وَقَتْلُ النَّفْسِ الْوَاقِعُ فِي مُدَّةِ الشِّرْكِ يَجُبُّهُ إِيمَانُ الْقَاتِلِ لِأَجْلِ مَزِيَّةِ الْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ الْوَاقِعُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي صِحَّةِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُؤْمِنَ الْقَاتِلِ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا. وَلَمَّا كَانَ مِمَّا تَشْمَلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ لِأَنَّ سِيَاقَهَا فِي الثَّنَاء على الْمُؤمنِينَ فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تَمْحُو آثَامَ كُلِّ ذَنْب من هَذِه الذُّنُوبِ الْمَعْدُودَةِ وَمِنْهَا قَتْلُ النَّفْسِ بِدُونِ حَقٍّ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٣] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الْآيَةَ.
وَفُرِّعَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِينَ تَابُوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا عَمَلًا صَالِحًا أَنَّهُمْ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ، وَهُوَ كَلَامٌ مَسُوقٌ لِبَيَانِ فَضْلِ التَّوْبَةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي هِيَ الْإِيمَانُ بَعْدَ الشِّرْكِ لِأَنَّ مَنْ تابَ مُسْتَثْنًى مِنْ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ [الْفرْقَان: ٦٨] فَتَعَيَّنَ أَنَّ السَّيِّئَاتِ الْمُضَافَةَ إِلَيْهِمْ هِيَ
السَّيِّئَاتُ الْمَعْرُوفَةُ، أَيِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، الْوَاقِعَةُ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ شِرْكِهِمْ.
وَالتَّبْدِيلُ: جَعْلُ شَيْءٍ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ آخَرَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٩٥]، أَيْ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُمْ حَسَنَاتٍ كَثِيرَةً عِوَضًا عَنْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا قَبْلَ التَّوْبَةِ وَهَذَا التَّبْدِيلُ جَاءَ مُجْمَلًا وَهُوَ
76
تَبْدِيلٌ يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يُعَوِّضَهُمْ عَنْ جَزَاءِ السَّيِّئَاتِ ثَوَابَ حَسَنَاتِ أَضْدَادِ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، وَهَذَا لِفَضْلِ الْإِيمَانِ بِالنِّسْبَةِ لِلشِّرْكِ وَلِفَضْلِ التَّوْبَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْآثَامِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَبِهِ يَظْهَرُ مَوْقِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأُوْلئِكَ الْمُفِيدِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِهِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَوْصَافِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ فَأُولَئِكَ التَّائِبُونَ الْمُؤْمِنُونَ الْعَامِلُونَ الصَّالِحَاتِ فِي الْإِيمَانِ يُبَدِّلُ اللَّهُ عِقَابَ سَيِّئَاتِهِمُ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا مِنَ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا بِثَوَابٍ. وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمِقْدَارِ الثَّوَابِ وَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى فَضْلِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ عُقِّبَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً الْمُقْتَضِي أَنَّهُ عَظِيم الْمَغْفِرَة.
[٧١]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٧١]
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (٧١)
إِذَا وَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ شَيْءٍ أَوْ تَوْصِيفٌ لَهُ أَوْ حَالَةٌ مِنْهُ بِمُرَادِفٍ لِمَا سَبَقَ مِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى دُونَ زِيَادَةٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الثَّانِي مُسْتَعْمَلًا فِي شَيْءٍ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الْإِخْبَارِ يُبَيِّنُهُ الْمَقَامُ، كَقَوْلِ أبي الطّمحان لَقِيَنِي (١) :
وَإِنِّي مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمُ هُمُ وَقَوْلِ أَبِي النَّجْمِ:
أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي
وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي»
. فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً وَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنِ التَّائِبِ بِأَنَّهُ تَائِبٌ إِذِ الْمَتَابُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى التَّوْبَةِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى مَعْنًى مُفِيدٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلَهُ:
إِلَى اللَّهِ فَيَكُونَ كِنَايَةً عَنْ عَظِيمِ ثَوَابِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مَا فِي الْمُضَارِعِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ، أَيْ فَإِنَّهُِِ
_________
(١) الطَّحَّان بطاء مُهْملَة فميم مَفْتُوحَة فحاء مُهْملَة، واسْمه حَنْظَلَة، شَاعِر إسلامي.
يَسْتَمِرُّ
عَلَى تَوْبَتِهِ وَلَا يَرْتَدُّ عَلَى عَقِبَيْهِ فَيَكُونُ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَهُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّابِتِ إِذَا كَانَ قَدْ تَابَ وَأَيَّدَ تَوْبَتَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مَا لِلْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ مِنْ مَعْنَى التَّأْكِيدِ، أَيْ مَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالَحَا فَإِنَّ تَوْبَتَهُ هِيَ التَّوْبَةُ الْكَامِلَةُ الْخَالِصَةُ لِلَّهِ عَلَى حَدِّ
قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»
فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التَّحْرِيم: ٨]. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ احْتِمَالَاتٍ أُخْرَى بَعِيدَةً.
وَالتَّوْكِيدُ بِ (إِنَّ) عَلَى التَّقَادِيرِ كُلِّهَا لِتَحْقِيقِ مَضْمُون الْخَبَر.
[٧٢]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٧٢]
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢)
أَتْبَعَ خِصَالَ الْمُؤْمِنِينَ الثَّلَاثَ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْإِيمَانِ بِخِصَالٍ أُخْرَى مِنْ خِصَالِهِمْ هِيَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ، وَالتَّخَلُّقِ بِفَضَائِلِهِ، وَمُجَانَبَةِ أَحْوَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَتِلْكَ ثَلَاثُ خِصَالٍ أَوْلَاهَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُهُ هُنَا وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ الْآيَةَ.
وَفِعْلُ (شَهِدَ) يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى (حَضَرَ) وَهُوَ أَصْلُ إِطْلَاقِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [الْبَقَرَة: ١٨٥]، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى أَخْبَرَ عَنْ شَيْءٍ شَهِدَهُ وَعَلِمَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها [يُوسُف: ٢٦].
وَالزُّورُ: الْبَاطِلُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَقَدْ غَلَبَ عَلَى الْكَذِبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ لَا يَحْضُرُونَ مَحَاضِرَ الْبَاطِلِ الَّتِي كَانَ يَحْضُرُهَا الْمُشْرِكُونَ وَهِيَ مَجَالِسُ اللَّهْوِ وَالْغِنَاءِ وَالْغَيْبَةِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَلِكَ أَعْيَادُ الْمُشْرِكِينَ وَأَلْعَابُهُمْ، فَيَكُونُ الزُّورُ مَفْعُولًا بِهِ لِ يَشْهَدُونَ. وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمُقَاطَعَةِ الْمُشْرِكِينَ وَتَجَنُّبِهِمْ. فَأَمَّا شُهُودُ مَوَاطِنِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَذَلِكَ قَدْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْفرْقَان: ٦٨]. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦٨] وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَيَجُوزُ أَنْ
78
يَكُونَ فِعْلُ يَشْهَدُونَ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ عَمَّا عَلِمُوهُ وَيَكُونَ الزُّورُ مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ لَا يَشْهَدُونَ بِالزُّورِ أَوْ مَفْعُولًا مُطْلَقًا لِبَيَانِ نَوْعِ الشَّهَادَةِ، أَيْ لَا يَشْهَدُونَ شَهَادَةً هِيَ زُورٌ لَا حَقٌّ.
وَقَوْلُهُ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً مُنَاسِبٌ لِكِلَا الْجُمْلَتَيْنِ.
وَاللَّغْوُ: الْكَلَامُ الْعَبَثُ وَالسَّفَهُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٦٢]. وَمَعْنَى الْمُرُورِ بِهِ الْمُرُورُ بِأَصْحَابِهِ اللَّاغِينَ فِي حَالِ لَغْوِهِمْ، فَجَعَلَ الْمُرُورَ بِنَفْسِ اللَّغْوِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ أَصْحَابَ اللَّغْوِ مُتَلَبِّسُونَ بِهِ وَقْتَ الْمُرُورِ.
وَمَعْنَى: مَرُّوا كِراماً أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ وَهُمْ فِي حَالِ كَرَامَةٍ، أَيْ غَيْرَ مُتَلَبِّسِينَ بِالْمُشَارَكَةِ فِي اللَّغْوِ فِيهِ فَإِنَّ السُّفَهَاءَ إِذَا مَرُّوا بِأَصْحَابِ اللَّغْوِ أَنِسُوا بِهِمْ وَوَقَفُوا عَلَيْهِمْ وَشَارَكُوهُمْ فِي لَغْوِهِمْ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ كَانُوا فِي غَيْرِ حَالِ كَرَامَةٍ.
وَالْكَرَامَةُ: النَّزَاهَةُ وَمَحَاسِنُ الْخِلَالِ، وَضِدُّهَا اللُّؤْمُ وَالسَّفَالَةُ. وَأَصْلُ الْكَرَامَةِ أَنَّهَا نَفَاسَةُ الشَّيْءِ فِي نَوْعِهِ قَالَ تَعَالَى: أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [الشُّعَرَاء: ٧]. وَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ حِمْيَرَ فِي «الْحَمَاسَةِ» :
وَلَا يَخِيمُ اللِّقَاءَ فَارِسُهُمْ حَتَّى يَشُقَّ الصُّفُوفَ مِنْ كَرَمِهِ
أَيْ شَجَاعَتُهُ، وَقَالَ تَعَالَى: وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً [الْأَحْزَاب: ٤٤].
وَإِذَا مَرَّ أَهْلُ الْمُرُوءَةِ عَلَى أَصْحَابِ اللَّغْوِ تَنَزَّهُوا عَنْ مُشَارَكَتِهِمْ وَتَجَاوَزُوا نَادِيَهُمْ فَكَانُوا فِي حَالِ كَرَامَةٍ، وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِتَرَفُّعِهِمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً [الْأَنْعَام: ٧٠]، وَقَوْلِهِ: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [الْقَصَص: ٥٥].
وَإِعَادَةُ فِعْلِ مَرُّوا لِبِنَاءِ الْحَالِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الِاسْتِعْمَالِ، كَقَوْلِ الْأَحْوَصِ:
79
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: ٦٣] كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جِنِّي فِي «شَرْحِ مُشْكِلِ أَبْيَاتِ الْحَمَاسَةِ»، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الْفَاتِحَة: ٧].
[٧٣]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٧٣]
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣)
أُرِيدَ تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِينَ بِمُخَالَفَةِ حَالَةٍ هِيَ مِنْ حَالَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَتِلْكَ هِيَ حَالَةُ سَمَاعِهِمْ دَعْوَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَطَلَبِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَلِذَلِكَ جِيءَ بالصلة منفية لِتَحْصِيلِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ مَعَ التَّعْرِيضِ بِتَفْظِيعِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ خَرُّوا صُمًّا وَعُمْيَانًا كَحَالِ مَنْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَى شَيْئًا فَيَجْعَلُ وَجْهَهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَاسْتُعِيرَ الْخُرُورُ لِشِدَّةِ الْكَرَاهِيَةِ وَالتَّبَاعُدِ بِحَيْثُ إِنَّ حَالَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ كَحَالِ الَّذِي يَخِرُّ إِلَى الْأَرْضِ لِئَلَّا يَرَى مَا يَكْرَهُ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ التَّقَوُّمِ وَالنُّهُوضِ، فَتِلْكَ حَالَةٌ هِيَ غَايَةٌ فِي نَفْيِ إِمْكَانِ الْقَبُولِ.
وَمِنْهُ اسْتِعَارَةُ الْقُعُودِ لِلتَّخَلُّفِ عَنِ الْقِتَالِ، وَفِي عَكْسِ ذَلِكَ يُسْتَعَارُ الْإِقْبَالُ وَالتَّلَقِّي وَالْقِيَامُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْأَمْرِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخُرُورُ وَاقِعًا مِنْهُمْ أَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ حَقِيقَةً لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ جُلُوسًا فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ وَنَوَادِيهِمْ فَإِذَا دَعَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَام طأطأوا رؤوسهم وَقَرَّبُوهَا مِنَ الْأَرْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ لِلْقَاعِدِ يَقُومُ مَقَامَ الْفِرَارِ، أَوْ سَتْرِ الْوَجْهِ كَقَوْلِ أَعْرَابِيٍّ يَهْجُو قوما من طَيء، أَنْشَدَهُ الْمُبَرِّدُ:
فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ
إِذَا مَا قِيلَ أَيُّهُمْ لِأَيٍّ تشابهت المناكب والرؤوس
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى حِكَايَة فِي سُورَةِ نُوحٍ [٧] وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً. وَتَقَدَّمَ الْخُرُورُ الْحَقِيقِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [١٠٧]، وَقَوْلِهِ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْل: ٢٦] وَقَوْلِهِ: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فِي الْأَعْرَافِ
وَ (صُمًّا وَعُمْياناً) حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ يَخِرُّوا، مُرَادٌ بِهِمَا التَّشْبِيهُ بِحَذْفِ حَرْفِ التَّشْبِيهِ، أَيْ يَخِرُّونَ كَالصُّمِّ وَالْعُمْيَانِ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَسْمُوعِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْمُبْصَرِ مِنْهَا مِمَّا يُذَكَّرُونَ بِهِ. فَالنَّفْيُ عَلَى هَذَا مُنْصَبٌّ إِلَى الْفِعْلِ وَإِلَى قَيْدِهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْجَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوَجُّهُ النَّفْيِ إِلَى الْقَيْدِ كَمَا هُوَ اسْتِعْمَالٌ غَالِبٌ وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ»، فَالْمَعْنَى: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا فِي حَالَةٍ كَالصَّمَمِ وَالْعَمَى وَلَكِنَّهُمْ يَخِرُّونَ عَلَيْهَا سَامِعِينَ مُبْصِرِينَ فَيَكُونُ الْخُرُورُ مُسْتَعَارًا لِلْحِرْصِ عَلَى الْعَمَلِ بِشَرَاشِرِ الْقَلْبِ، كَمَا يُقَالُ:
أَكَبَّ عَلَى كَذَا، أَيْ صَرَفَ جُهْدَهُ فِيهِ، فَيَكُونُ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي أَنَّهُمْ يُصَمُّونَ وَيُعْمَوْنَ
عَنِ الْآيَاتِ وَمَعَ ذَلِكَ يَخِرُّونَ عَلَى تَلَقِّيهَا تَظَاهُرًا مِنْهُمْ بِالْحِرْصِ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَلِيقُ لَوْ كَانَ الْمُعَرَّضُ بِهِمْ مُنَافِقِينَ، وَكَيْفَ وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَكَانُوا يُعْرِضُونَ عَنْ تَلَقِّي الدَّعْوَةِ عَلَنًا، قَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦]. وَقَالَ: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: ٥].
[٧٤]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٧٤]
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤)
هَذِهِ صِفَةٌ ثَالِثَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يُعْنَوْنَ بِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَتَكْثِيرِ أَتْبَاعِهِ فَيَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّاتِ تَقَرُّ بِهِمْ أَعْيُنُهُمْ، فَالْأَزْوَاجُ يُطِعْنَهُمْ بِاتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَزْوَاجِ الْمُسْلِمِينَ مُخَالِفَاتٍ أَزْوَاجَهُمْ فِي الدِّينِ، والذّريات إِذا نشأوا نشأوا مُؤْمِنِينَ، وَقَدْ جُمِعَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي صِفَةِ قُرَّةَ أَعْيُنٍ. فَإِنَّهَا جَامِعَةٌ لِلْكَمَالِ فِي الدِّينِ وَاسْتِقَامَةِ الْأَحْوَالِ فِي الْحَيَاةِ إِذْ لَا تَقَرُّ عُيُونُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا بِأَزْوَاجٍ وَأَبْنَاءٍ مُؤْمِنِينَ. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِبْقَاءِ النِّسَاءِ الْكَوَافِرِ فِي الْعِصْمَةِ بِقَوْلِهِ: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: ١٠]، وَقَالَ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ [الْأَحْقَاف: ١٧] الْآيَةَ. فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جُعِلَ دُعَاؤُهُمْ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ جَزَائِهِمْ بِالْجَنَّةِ وَإِن كَانَ فِيهِ حَظٌّ لِنُفُوسِهِمْ بِقُرَّةِ أَعْيُنِهِمْ إِذْ لَا يُنَاكِدُ حَظُّ النَّفْسِ حَظَّ الدِّينِ فِي أَعْمَالِهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ ابْن رَوَاحَةَ وَهُوَ خَارِجٌ إِلَى غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، فَدَعَا لَهُ الْمُسْلِمُونَ وَلِمَنْ مَعَهُ أَنْ يَرُدَّهُمُ اللَّهُ سَالِمِينَ فَقَالَ:
81
لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا
حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي أَرْشَدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا
فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يَقُولُوا، حَظًّا لِنَفْسِهِ مِنْ حُسْنِ الذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ دُعَاءٌ لَهُ بِالرَّشَدِ وَهُوَ حَظٌّ دِينِيٌّ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ رَشَدَ، حُسْنُ ذِكْرٍ مَحْضٌ. وَفِي كِتَابِ «الْجَامِعِ» مِنْ «جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ» مِنْ أَحَادِيثِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ: رَأَيْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ رَبِيعَةَ يَقُولُ: إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أُرَى رَائِحًا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَكَأَنَّهُ كَرِهَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يُعْجِبْهُ أَنْ يُحِبَّ أَحَدٌ أَنْ يُرَى فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ. وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «شَرْحِهِ» : وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي رَسْمِ
الْعُقُولِ مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ أَوَّلُهُ لِلَّهِ (أَيِ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مِنَ الْعَمَلِ لِلَّهِ). وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ «شَرْحِهِ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: ٣٩]، وَقَالَ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاء: ٨٤].
وَقَالَ الشَّاطِبِيُّ فِي «الْمُوَافَقَاتِ» :«عَدَّ مَالِكٌ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْوَسْوَسَةِ، أَيْ أَن الشَّيْطَان بَاقِي لِلْإِنْسَانِ إِذَا سَرَّهُ مَرْأَى النَّاسِ لَهُ عَلَى الْخَيْرِ فَيَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ لَمُرَاءٍ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ لَا يُمْلَكُ» اه.
وَفِي «الْمِعْيَارِ» عَنْ كِتَابِ «سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ» لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ شَيْخَنَا أَبَا مَنْصُورٍ الشِّيرَازِيَّ الصُّوفِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [الْبَقَرَة:
١٦٠] مَا بَيَّنُوا؟ قَالَ: أَظْهَرُوا أَفْعَالَهُمْ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاحِ وَالطَّاعَاتِ.
قَالَ الشَّاطِبِيُّ: وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَحَلُّ اخْتِلَافٍ إِذَا كَانَ الْقَصْدُ الْمَذْكُورُ تَابِعًا لِقَصْدِ الْعِبَادَةِ. وَقَدِ الْتَزَمَ الْغَزَالِيُّ فِيهَا وَفِي أَشْبَاهِهَا أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْإِخْلَاصِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَصِيرَ الْعَمَلُ أَخَفَّ عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ. وَأَمَّا ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَذَهَبَ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَكَأَنَّ مَجَالَ النَّظَرِ يَلْتَفِتُ إِلَى انْفِكَاكِ الْقَصْدِينَ، عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الِانْفِكَاكِ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ الِانْفِكَاكُ أَوْجَهُ لِمَا جَاءَ من الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، إِلَى آخِرِهِ.
82
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَزْواجِنا لِلِابْتِدَاءِ، أَيِ اجْعَلْ لَنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ تَنْشَأُ مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَذُرِّيَّاتِنا جَمْعُ ذُرِّيَّة، وَالْجمع مراعى فِيهِ التَّوْزِيع عَلَى الطَّوَائِفِ مِنَ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَقَدَ يَكُونُ لِأَحَدِ الدَّاعِينَ وَلَدٌ وَاحِدٌ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلَفٍ وذُرِّيَّتِنا بِدُونِ أَلْفٍ بَعْدَ التَّحْتِيَّةِ، وَيُسْتَفَادُ مَعْنَى الْجَمْعِ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ يَقُولُونَ، أَيْ ذُرِّيَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ.
وَالْأَعْيُنُ: هِيَ أَعْيُنُ الدَّاعِينَ، أَيْ قُرَّةُ أَعْيُنٍ لَنَا. وَإِذْ قَدْ كَانَ الدُّعَاءُ صَادِرًا مِنْهُمْ جَمِيعًا اقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قُرَّةَ أَعْيُنِ جَمِيعِهِمْ.
وَكَمَا سَأَلُوا التَّوْفِيقَ وَالْخَيْرَ لِأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ سَأَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ بَعْدَ أَنْ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ إِلَى الْإِيمَانِ أَنْ يَجْعَلَهُمْ قدوة يَقْتَدِي بهم الْمُتَّقُونَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بُلُوغَ الدَّرَجَاتِ الْعَظِيمَةِ مِنَ التَّقْوَى فَإِنَّ الْقُدْوَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا أَقْصَى غَايَةِ الْعَمَلِ الَّذِي يَرْغَبُ الْمُهْتَمُّونَ بِهِ الْكَمَالَ فِيهِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَيْضًا أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ أَنْ يَكُونُوا دُعَاةً لِلدُّخُولِ
فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْ يَهْتَدِيَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِوَاسِطَتِهِمْ.
وَالْإِمَامُ أَصْلُهُ: الْمِثَالُ وَالْقَالَبُ الَّذِي يُصْنَعُ عَلَى شَكْلِهِ مَصْنُوعٌ مِنْ مِثْلِهِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
أَبُوهُ قَبْلَهُ وَأَبُو أَبِيهِ بَنَوْا مَجْدَ الْحَيَاةِ عَلَى إِمَامِ
وَأُطْلِقَ الْإِمَامُ عَلَى الْقُدْوَةِ تَشْبِيهًا بِالْمِثَالِ وَالْقَالَبِ، وَغَلَبَ ذَلِكَ فَصَارَ الْإِمَامُ بِمَعْنَى الْقُدْوَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٤]. وَوَقَعَ الْإِخْبَارُ بِ إِماماً وَهُوَ مُفْرد عَن ضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ، فَالْكَلَامُ عَلَى التَّوْزِيعِ، أَوْ أُرِيدَ مِنْ إِمَامٍ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ وَجَرَى الْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ. وَقِيلَ إِمَامٌ جَمْعٌ، مِثْلُ هِجَانٍ وَصِيَامٍ ومفرده:
إمّ.
83

[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : الْآيَات ٧٥ إِلَى ٧٦]

أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦)
التَّصْدِيرُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا يَرِدُ بَعْدَهُ كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِهِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَتِلْكَ مَجْمُوعُ إِحْدَى عَشْرَةَ خَصْلَةً وَهِيَ: التَّوَاضُعُ، وَالْحِلْمُ، وَالتَّهَجُّدُ، وَالْخَوْفُ، وَتَرْكُ الْإِسْرَافِ، وَتَرْكُ الْإِقْتَارِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الشِّرْكِ، وَتَرْكُ الزِّنَا، وَتَرْكُ قَتْلِ النَّفْسِ، وَالتَّوْبَةُ، وَتَرْكُ الْكَذِبِ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْمُسِيءِ، وَقَبُولُ دَعْوَةِ الْحَقِّ، وَإِظْهَارُ الِاحْتِيَاجِ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُوَ الْخَبَرُ عَنْ قَوْلِهِ وَعِبادُ الرَّحْمنِ [الْفرْقَان: ٦٣] كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى أَرْجَحِ الْوَجْهَيْنِ.
والْغُرْفَةَ: الْبَيْتُ الْمُعْتَلِي يُصْعَدُ إِلَيْهِ بِدَرَجٍ وَهُوَ أَعَزُّ مَنْزِلًا مِنَ الْبَيْتِ الْأَرْضِيِّ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْغُرْفَةِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ [الْحَدِيد: ٢٥] فَالْمَعْنَى: يُجْزَوْنَ الْغُرَفَ، أَيْ مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سبأ: ٣٧].
وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ. وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ فِي قَوْلِهِ: بِما صَبَرُوا، أَيْ بِصَبْرِهِمْ وَهُوَ صَبْرُهُمْ عَلَى مَا لَقُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَذًى، وَصَبْرُهُمْ عَلَى كَبْحِ شَهَوَاتِهِمْ لِأَجْلِ إِقَامَةِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَصَبْرُهُمْ عَلَى مَشَقَّةِ الطَّاعَاتِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيُلَقَّوْنَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ الْمَفْتُوحَةِ مُضَارِعِ
لَقَّاهُ إِذَا جَعَلَهُ لَاقَيًا. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٍ وَيُلَقَّوْنَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ الْمَفْتُوحَةِ مُضَارِعِ لَقِيَ. وَاللُّقِيُّ وَاللِّقَاءُ: اسْتِقْبَالُ شَيْءٍ وَمُصَادَفَتُهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٣]، وَفِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [١٥]، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفرْقَان: ٦٨].
وَقَدِ اسْتُعِيرَ اللُّقِيُّ لِسَمَاعِ التَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ، أَيْ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَى بَأْسٍ أَوْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ بِأُسٌ بَلْ هُمْ مُصَادِفُونَ تَحِيَّةَ إِكْرَامٍ وَثَنَاءٍ مِثْلَ تَحِيَّاتِ الْعُظَمَاءِ وَالْمُلُوكِ الَّتِي يُرَتِّلُهَا الشُّعَرَاءُ وَالْمُنْشِدُونَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ اللُّقِيِّ لِسَمَاعِ أَلْفَاظِ التَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ لِأَجْلِ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ التَّحِيَّةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَلْقَوْنَهُمْ بِهَا، فَهُوَ مَجَازٌ بِالْحَذْفِ قَالَ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [١٠٣].
وَقَوْلُهُ: حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً هُوَ ضِدُّ مَا قِيلَ فِي الْمُشْرِكِينَ إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الْفرْقَان: ٦٦]. وَالتَّحِيَّةُ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٨٦]، وَفِي قَوْلِهِ: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ فِي سُورَةِ يُونُسَ [١٠]، وَقَوْلِهِ: تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً فِي آخر النُّور [٦١].
[٧٧]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٧٧]
قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)
لَمَّا اسْتَوْعَبَتِ السُّورَةُ أَغْرَاضَ التَّنْوِيهِ بِالرِّسَالَةِ وَالْقُرْآنِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَمِنْ صِفَةِ كِبْرِيَاءِ الْمُعَانِدِينَ وَتَعَلُّلَاتِهِمْ، وَأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأُقِيمَتِ الْحُجَجُ الدَّامِغَةُ لِلْمُعْرِضِينَ، خُتِمَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُخَاطِبَ الْمُشْرِكِينَ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ يُزَالُ بِهَا غُرُورُهُمْ وَإِعْجَابُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَحُسْبَانُهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ شَفَوْا غَلِيلَهُمْ مِنَ الرَّسُولِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَتِهِ وَتَوَرُّكِهِمْ فِي مُجَادَلَتِهِ فَبَيَّنَ لَهُمْ حَقَارَتَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ مَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَخَاطَبَهُمْ بِكِتَابِهِ إِلَّا رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ لِإِصْلَاحِ حَالِهِمْ وَقَطْعًا لِعُذْرِهِمْ فَإِذْ كَذَّبُوا فَسَوْفَ يَحِلُّ بِهِمُ الْعَذَابُ.
وَمَا مِنْ قَوْله: مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ نَافِيَةٌ. وَتَرْكِيبُ: مَا يَعْبَأُ بِهِ، يَدُلُّ عَلَى التَّحْقِيرِ، وَضِدُّهُ عَبَأَ بِهِ يُفِيدُ الْحَفَاوَةَ.
وَمعنى مَا يَعْبَؤُا: مَا يُبَالِي وَمَا يَهْتَمُّ، وَهُوَ مُضَارِعُ عَبَأَ مِثْلَ: مَلَأَ يَمْلَأُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعِبْءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْحِمْلُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، أَيِ الشَّيْءُ الثَّقِيلُ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَى الْبَعِيرِ وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ الْعِبْءُ عَلَى الْعِدْلِ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، ثُمَّ تَشَعَّبَتْ عَنْ هَذَا إِطْلَاقَاتٌ كَثِيرَةٌ. فَأصل مَا يَعْبَؤُا: مَا يَحْمِلُ عِبْئًا، تَمْثِيلًا بِحَالَةِ الْمُتْعَبِ مِنَ الشَّيْءِ، فَصَارَ الْمَقْصُودُ: مَا يَهْتَمُّ وَمَا يَكْتَرِثُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قِلَّةِ الْعِنَايَةِ.
85
وَالْبَاءُ فِيهِ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِكُمْ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَقَامُ الْكَلَامِ.
فَالتَّقْدِيرُ هُنَا: مَا يَعْبَأُ بِخِطَابِكُمْ.
وَالدُّعَاءُ: الدَّعْوَةُ إِلَى شَيْءٍ، وَهُوَ هُنَا مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَالْفَاعِلُ يَدُلُّ عَلَيْهِ رَبِّي أَيْ لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ، أَيْ لَوْلَا أَنَّهُ يَدْعُوكُمْ. وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الدُّعَاءِ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ، أَيِ الدَّاعِيَ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الدُّعَاءَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ لَا يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ وَلَا اعْتِزَازٌ بِكُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: ٥٦، ٥٧].
وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: دُعاؤُكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِدَلِيلِ تَفْرِيعِ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ تَهْدِيدٌ لَهُمْ، أَيْ فَقَدْ كَذَّبْتُمُ الدَّاعِيَ وَهُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ وَالْفَرَّاءِ. وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الدُّعَاءَ بِالْعِبَادَةِ فَجَعَلُوا الْخِطَابَ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرِ تَكَلُّفَاتٌ وَقَدْ أَغْنَى عَنِ التَّعَرُّضِ إِلَيْهَا اعْتِمَادُ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَنْظُرْهَا بِتَأَمُّلٍ لِيَعْلَمَ أَنَّهَا لَا دَاعِيَ إِلَيْهَا.
وَتَفْرِيعُ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ عَلَى قَوْلِهِ: لَوْلا دُعاؤُكُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: فَقَدْ دَعَاكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَكَذَّبْتُمُ الَّذِي دَعَاكُمْ عَلَى لِسَانِهِ.
وَالضَّمِيرُ فِي يَكُونُ عَائِدٌ إِلَى التَّكْذِيبِ الْمَأْخُوذِ مِنْ كَذَّبْتُمْ، أَيْ سَوْفَ يَكُونُ تَكْذِيبُهُمْ لِزَامًا لَكُمْ، أَيْ لَازِما لكم لَا انْفِكَاكَ لَكُمْ مِنْهُ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ بِعَوَاقِبِ التَّكْذِيبِ تَهْدِيدًا مُهَوَّلًا بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ كَمَا تَقُولُ لِلْجَانِي: قد فعلت كَذَا فَسَوْفَ تَتَحَمَّلُ مَا فَعَلْتَ.
وَدَخَلَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ مَا يَحِلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَهَزِيمَةٍ وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ.
وَاللِّزَامُ: مَصْدَرُ لَازَمَ، وَقَدْ صِيغَ عَلَى زِنَةِ الْمُفَاعَلَةِ لِإِفَادَةِ اللُّزُومِ، أَيْ عَدَمِ الْمُفَارَقَةِ،
قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً فِي سُورَةِ طه [١٢٩]. وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي (كَانَ) عَائِدٌ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى [طه:
١٢٧]، فَالْإِخْبَارُ بِاللِّزَامِ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ
86
مُبَالَغَتَانِ: مُبَالَغَةٌ فِي صِيغَتِهِ تُفِيدُ قُوَّةَ لُزُومِهِ، وَمُبَالَغَةٌ فِي الْإِخْبَارِ بِهِ تُفِيدُ تَحْقِيقَ ثُبُوتِ الْوَصْفِ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: اللِّزَامُ: عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ. وَمُرَادُهُمَا بِذَلِكَ أَنَّهُ جزئيّ من جزئيات اللِّزَامِ الْمَوْعُودِ لَهُمْ. وَلَعَلَّ ذَلِكَ شَاعَ حَتَّى صَارَ اللِّزَامُ كَالْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ عَلَى يَوْمِ بَدْرٍ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ وَالْقَمَرُ، وَالرُّومُ، وَالْبَطْشَةُ، وَاللِّزَامُ، يَعْنِي أَنَّ اللِّزَامَ غَيْرُ عَذَابِ الْآخِرَةِ.
87

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٢٦- سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
اشْتُهِرَتْ عِنْدَ السَّلَفِ بِسُورَةِ الشُّعَرَاءِ لِأَنَّهَا تَفَرَّدَتْ مِنْ بَين سُورَة الْقُرْآنِ بِذِكْرِ كَلِمَةِ الشُّعَرَاءِ. وَكَذَلِكَ جَاءَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي كُتُبِ السُّنَّةِ. وَتُسَمَّى أَيْضًا سُورَةَ طسم.
وَفِي «أَحْكَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ» أَنَّهَا تُسَمَّى أَيْضًا الْجَامِعَةَ، وَنَسَبَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَالسُّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» إِلَى تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ (١). وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ وَصْفِهَا بِهَذَا الْوَصْفِ. وَلَعَلَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ جَمَعَتْ ذِكْرَ الرُّسُلِ أَصْحَابِ الشَّرَائِعِ الْمَعْلُومَةِ إِلَى الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، فَقِيلَ جَمِيعُهَا مَكِّيٌّ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَرِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَسَبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى الْجُمْهُورِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشُّعَرَاء: ٢٢٤] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ لِذِكْرِ شُعَرَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَهُمُ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الشُّعَرَاء: ٢٢٧] الْآيَةَ. وَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ الَّتِي أَقْدَمَتْ هَؤُلَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ مَدَنِيَّةٌ. وَعَنِ الدَّانِي قَالَ: نَزَلَتْ وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشُّعَرَاء: ٢٢٤] فِي شَاعِرَيْنِ تَهَاجَيَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَأَقُولُ: كَانَ شُعَرَاءُ بِمَكَّةَ يَهْجُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالْعَوْرَاءُ بِنْتُ حَرْبٍ زَوْجُ أَبِي لَهَبٍ وَنَحْوُهُمَا، وَهُمُ الْمُرَادُ بِآيَاتِ وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. وَكَانَ شُعَرَاءُ الْمَدِينَةِ قَدْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ فِي مَكَّةَ شُعَرَاءُ مُسْلِمُونَ مِنَ الَّذِينَ هَاجَرُوا إِلَى الْحَبَشَةِ كَمَا سَيَأْتِي.
_________
(١) تَفْسِير مَالك بن أنس، ذكره عِيَاض فِي «المدارك» والداودي فِي «طَبَقَات الْمُفَسّرين».
89
وَعَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ
[الشُّعَرَاء: ١٩٧] نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. وَكَانَ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ مُخَالَطَةَ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحُجَّةُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى وُقُوعِ مُخَالَطَةِ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ مِثْلَ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِي آيَاتٍ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٤٣] وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٥٢] وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، وَقَوْلُهُ:
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [٤٧] وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. وَشَأْنُ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَشْهُورٌ بِمَكَّةَ وَكَانَ لِأَهْلِ مَكَّةَ صِلَاتٌ مَعَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ وَمُرَاجَعَةٌ بَيْنَهُمْ فِي شَأْنِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٨٥]، وَلِذَا فَالَّذِي نُوقِنُ بِهِ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ.
وَهِيَ السُّورَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ النَّمْلِ. وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاء: ٢١٤] مَا يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ أَبِي لَهَبٍ وَتَعَرَّضْنَا لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ.
وَقَدْ جَعَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ عَدَدَ آيِهَا مِائَتَيْنِ وَسِتًّا وَعِشْرِينَ، وَجَعَلَهُ أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ مِائَتَيْنِ وَسَبْعًا وَعِشْرِينَ.
الْأَغْرَاضُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا
أَوَّلُهَا التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ، وَالتَّعْرِيضُ بِعَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَتَسْلِيَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ إِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنِ التَّوْحِيدِ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ.
وَفِي ضِمْنِهِ تَهْدِيدُهُمْ عَلَى تَعَرُّضِهِمْ لِغَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى، وَضَرْبُ الْمَثَلِ لَهُمْ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا وَالْمُعْرِضَةِ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ.
وَأَحْسَبُ أَنَّهَا نَزَلَتْ إِثْرَ طَلَبِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الرَّسُولُ بِخَوَارِقَ، فَافْتُتِحَتْ بِتَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَثْبِيتٍ لَهُ وَرِبَاطَةٍ لِجَأْشِهِ بِأَنَّ مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ هُوَ سُنَّةُ
90
Icon