تفسير سورة الفرقان

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ ٱلْفُرْقَانَ ﴾ من الفرق فعله فرق من باب قتل، وبها قرئ قوله تعالى:﴿ فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾[المائدة: ٢٥] وقرئ شذوذاً من باب ضرب، وهو بالتخفيف في المعاني، وبالتشديد في الاجسام، ويقال فرقت بين الكلامين، ، وفرقت بين العبدين، والصحيح أنهما بمعنى واحد في المعاني والأجسام. قوله: (القرآن) أي ويسمى به البعض، كما يسمى به الكل، فالسورة الواحدة تسمى فرقاناً، والجميع يسمى فرقاناً، لأنه معجز للبشر، وفارق بين الحق والباطل، كلاً أو بعضاً، ويصح أن يراد به جملة القرآن، ويكون نزل مستعملاً في حقيقته، بالنسبة لما نزل إذ ذاك، وبمعنى المستقبل بالنسبة لما سينزل. قوله: (لأنه فرق بين الحق والباطل) أي ميز بينهما، وقيل لأنه نزل مفرّقاً في أوقات كثيرة. قوله: ﴿ عَلَىٰ عَبْدِهِ ﴾ إنما وصفه بهذا الوصف، لأنه أشرف الأوصاف وأعلاها. قوله: ﴿ لِيَكُونَ ﴾ علة لقوله: ﴿ نَزَّلَ ﴾ والضيمر عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أكبر مذكور، ويصح أن يكون عائداً على الفرقان، أو المنزل، وهو الله تعالى، والأوضح الأول. قوله: (دون الملائكة) أشار بذلك إلى الإنذار خاص بالإنس والجن، لأن الملائكة لا تجوز عليهم المعاصي والمخالفة لعصمتهم من ذلك، وأن كان النبي عليه الصلاة والسلام أرسل لهم إرسال تكليف بما يليق بهم على المعتمد. والحاصل: أن إرسال النبي صلى الله عليه وسلم للثقلين إرسال تكليف، وكذا للملائكة، وأما للحيوانات التي لا تعقل والجمادات فإرسال تشريف. قوله: ﴿ نَذِيراً ﴾ أي وبشيراً، وإنما اقتصر على الإنذار، لأن السورة مكية، وفي ذلك الوقت لم يصلحوا للتبشير.
قوله: ﴿ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ نعت للموصول الأول، أو بيان أو بدل أو خبر لمحذوف، أي هو الذي، أو منصوب على المدح، وما بعده من تمام الصلة، فلا يلزم عليه الفصل بأجنبي بين الموصول الأول والثاني، على جعله تابعاً له. قوله: ﴿ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ﴾ رد على اليهود والنصارى. قوله: ﴿ وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ ﴾ رد على عباد الأصنام. قوله: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ كالدليل لما قبله، لأن الخالق لكل شيء لا شريك له ولم يتخذ ولداً. قوله: (من شأنه أن يخلق) دفع بذلك ما يقال: إنه دخل في الشيء ذاته تعالى وصفاته. فأجاب: بأن المراد بالشيء ما شأنه أن يتعلق به الخلق، وهو المعدوم. قوله: (سواه تسوية) أي عدله تعديلاً، بأن جعله على شكل حسن، ودفع بذلك ما قيل: إن الآية فيها قلب، لأن الخلق متأخر عن التقدير، لأن التقدير أزلي، لأنه تعلق العلم والأرادة الأزلي، والخلق حادث لأنه تعلق القدرة التنجيزي الحادث، فأجاب: بأن التقدير معناه التصوير على شكل حسن، ولا شك أن ذلك حاصل بعد إيجاده على طبق العلم والإرادة، وهذا سر قول الغزالي: ليس في الإمكان أبدع مما كان، لأن ما أوجده الله من المخلوقات تعلق به العلم والإرادة أزلاً، فوجد على طبق ذلك، فإذا كان كذلك، كان التغيير لذلك مستحيلاً، لأنه حينئذ ينقلب علم الله جهلاً، وهو لا تتعلق به القدرة. إن قلت: يشكل على هذا قوله تعالى:﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾[إبراهيم: ١٩] وقوله تعالى:﴿ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ * عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾[المعارج: ٤٠-٤١] فإنه يقتضي أن في قدرة الله إذهاب هذا العالم والإتيان بغيره. أجيب: بأن ما في الآية باعتبار التعلق الصلاحي للقدرة والتجويز العقلي، وما قاله الغزالي باعتبار التعلق التنجيزي الذي حصل متعلقه. قوله: (أي الكفار) أي المعلومون من قوله: ﴿ لِلْعَالَمِينَ ﴾.
قوله: ﴿ آلِهَةً ﴾ وصفهم بسبعة أوصاف، أولها قوله: ﴿ لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً ﴾ وآخرها قوله: ﴿ نُشُوراً ﴾.
قوله: ﴿ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ أي يصورون من حجارة وغيرها بنحت عبادها. قوله: ﴿ لأَنْفُسِهِمْ ﴾ أي فضلاً عن غيرهم. قوله: ﴿ ضَرّاً ﴾ قدمه لأن دفعه أهم، وقدم الموت لمناسبة الضر. قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ ﴾ شروع في ذكر أباطيلهم المتعلقة بالقرآن، إثر أكاذيبهم المتعلقة بالله سبحانه وتعالى: قوله: ﴿ ٱفْتَرَاهُ ﴾ أي اختلقه. قوله: (وهم من أهل الكتاب) أرادوا بهم اليهود حيث قالوا: إنهم يأتون له بالأخبار الماضية، وهو يعبر عنها بعبارات من عنده، فهذا معنى إعانتهم له. قوله: (قالى تعالى) أي رداً لمقالتهم. قوله: (كفر وكذباً) لف ونشر مرتب. قوله: (أي بهما) أشار بذلك إلى أن ﴿ ظُلْماً وَزُوراً ﴾ منصوبان بنزع الخافض، ويصح نصبهما بجاء بتضمينه معنى فعل. قوله: ﴿ وَقَالُوۤاْ ﴾ (أيضاً) أي كما قالوا ما تقدم. قوله: ﴿ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ خبر لمحذوف قدره بقوله هو. قوله: ﴿ ٱكْتَتَبَهَا ﴾ أي أمر بكتبها، لأنهم يعلمون أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب. قوله: (من ذلك القوم) المناسب أن يقول من أولئك القوم. قوله: (تقرأ) ﴿ عَلَيْهِ ﴾ أي فليس المراد بالإمراء الإلقاء على الكاتب ليكتبه. قوله: ﴿ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ المراد دائماً أبداً. قوله: (رداً عليهم) أي مقالتهم الشنيعة. قوله: (الغيب) أي ما غاب عنا. قوله: (للمؤمنين) كذا قال المفسر، ويصح أن يكون المراد الكفار، فيكون تعليلاً لمحذوف تقديره وأخر عقابكم ولم يعاجلكم به لأنه الخ، وقوله: ﴿ كَانَ ﴾ أي ولم يزل. قوله: ﴿ وَقَالُواْ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ ﴾ الخ، شروع في بعض قبائحم التي قالوها في حق الرسول عليه السلام، والمعنى أي شيء حصل لهذا الذي يدعي الرسالة، حالة كونه يأكل الطعام كما نأكل، ويمشي في الأسواق لطلب الرزق كما نفعل؟ فتسميتهم إياه رسولاً بطريق الاستهزاء به. قوله: (هلا) أشار بذلك إلى أن ﴿ لَوْلاۤ ﴾ تحضيضية. قوله: ﴿ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ﴾ بالنصب في قراءة العامة على جواب التحضيض، وقرئ شذوذاً بالرفع عطفاً على ﴿ أُنزِلَ ﴾.
قوله: (يصدقه) أي يشهد له بالرسالة والصدق.
قوله: ﴿ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ ﴾ بالتاء في قراءة العامة، وقرئ شذوذاً بالياء، لأن تأنيث الجنة مجازي. قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ إظهار في موضع الإضمار، للإشعار بوصف الظلم وتجاوز الحد فيما قالوا: قوله: (مخدوعاً مغلوباً على عقله) أي فالمراد بالسحر الاختلال في العقل، من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. قوله: ﴿ ٱنظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ ﴾ خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستفهام التعجبي، أي تعجب يا محمد من وصف هؤلاء لك بتلك الأوصاف التي كانت سبباً في ضلالهم. قوله: ﴿ فَضَلُّواْ ﴾ (بذلك) أي ضرب الأمثال. قوله: (عن الهدى) أي الحق. قوله: ﴿ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ﴾ أي لا يقدرون على الوصول إلى الهدى، لما طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم. قوله: ﴿ تَبَارَكَ ﴾ اعلم أن هذا الوصف جامع لكل كمال مستلزم لنفي كل نقص، وحينئذ فيحسن تفسيره في كل مقام بما يناسبه، فلما كان ما تقدم من مقام تنزيه فسره بتعالى، ولما كان ما هنا مقام إعطاء، فسره بتكاثر خيره، ولما كان ما يأتي في آخر السورة مقام عظمة وكبرياء، فسره بتعاظم، وهكذا يقال في كل مقام. قوله: ﴿ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ ﴾ أي مما اقترحوا بأن يعجل لك أعظم من ذلك في الدنيا. قوله: ﴿ جَنَّاتٍ ﴾ بدل من ﴿ خَيْراً ﴾.
قوله: (لأنه شاء أن يعطيه إياها في الآخرة) علقة لقوله: (أي في الدنيا) والمعنى تكاثر خير الله الذي إن شاء جعل لك خيراً مما تمنوه لك في الدنيا وإنما لم تتعلق إرادة الله به لكونه فانياً، والله سبحانه وتعالى لم يجعل الفاني جزاء لأحبابه، لأن الدنيا دار ممر لا مقر، حلالها حساب، وحرامها عقاب، وحاشاه سبحانه وتعالى، أن يوقع حبيبه ومن كان على قدمه في الحساب أو العقاب. قوله: (بالجزم) أي عطفاً على محل ﴿ جَعَلَ ﴾ لأنه جواب الشرط، والمعطوف على الجواب جواب. قوله: (بالرفع استثناء) أي أو معطوف على جواب الشرط، بناء على أنه غير مجزوم لقول مالك: وبعد ماض رفعك الجزم حسن. وإنما لم يجزم لضعف تأثير إن في الشرط. لكونه ماضياً فارتفع، والقراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِ ﴾ إضراب انتقالي عن ذكر قبائحهم، إلى بيان ما لهم في الآخرة من أنواع العذاب. قوله: ﴿ وَأَعْتَدْنَا ﴾ أي هيأنا وأحضرنا، وفي هذا دليل على أن النار مخلوقة الآن، كما أن الجنة كذلك، لقوله تعالى:﴿ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾[آل عمران: ١٣٣].
قوله: (ناراً مسعرة) بالتشديد والتخفيف.
قوله: ﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ ﴾ أي حقيقة بعينها لما في الحديث:" من كذب علي متعمداً، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً، قيل يا رسول الله أولها عينان؟ قال أما سمعتم الله عز وجل يقول: ﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾ يخرج عنق من النار له عينان يبصران، ولسان ينطق فيقول: " وكلت بمن جعل مع الله إلهاً آخر، فلهو أبصر به من الطير يحب السمسم فيلتقطه "وفي رواية:" يخرج عنق من النار يوم القيامة، له عينان يبصران، وأذنان يسمعان، ولسان ينطق يقول: إني وكلت بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين ". وهذا مذهب أهل السنة، وقالت المعتزلة: الكلام على حذف مضاف، أي رأت زبانيتها بناء منهم على أن الرؤية مشروطة بالحياة. قوله: ﴿ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ قبل مسيرة سنة، وقيل مائة سنة، وقيل خمسمائة سنة. قوله: (أو سماع التغيظ رؤيته وعلمه) أشار بذلك إلى أن السماع ليس على حقيقته، بل المراد منه الرؤية والعلم. وأجيب أيضاً: بأن المراد سماع ما يدل عليه وهو الغليان، وقد أفاده أولاً، فتحصل أن المفسر أجاب بجوابين. قوله: ﴿ وَإَذَآ أُلْقُواْ ﴾ أي طرحوا. قوله: ﴿ مَكَاناً ﴾ منصوب على الظرفية أي في مكان. قوله: (بالتشديد والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (بأن يضيق عليهم) أي كضيق الحائط على الوتد الذي يدق فيه بعنف. قوله: (لأنه في الأصل صفة له) أي وهو نكرة، ومن المعلوم أن نعت النكرة إذا تقدم عليها يعرب حالاً، كقول الشاعر: لمية موحشاً طلل   والأصل لمية طلل موحش. قوله: ﴿ مُّقَرَّنِينَ ﴾ حال من الواو في ﴿ أُلْقُواْ ﴾ والتقرين تقييد الأرجل وجمع الأيدي والأعناق في السلاسل. قوله: (مصفدين) من التصفيد وهو الشد والإيثاق بالقيود. قوله: ﴿ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ﴾ أي في ذلك المكان. قوله: ﴿ ثُبُوراً ﴾ أي فيقولون: يا ثبوراه، هذا أوانك فاحضر، لأنه أخف مما هم فيه. قوله: (فيقال لهم) أي على سبيل التهكم والسخرية بهم. قوله: ﴿ ثُبُوراً وَاحِداً ﴾ أي مرة واحدة. قوله: (كعذابكم) تشبيه في الكثرة، وفي نسخة باللام، أي لأجل دوام عذابكم وكثرته، فينبغي أن يكون دعاؤكم كذلك. قوله: ﴿ قُلْ أَذٰلِكَ خَيْرٌ ﴾ الاستفهام للتوبيخ والتقريع، وإلا فليس في النار خير. قوله: (في علمه تعالى) جواب عما يقال: إنها لم تكن جزاء ومصيراً الآن، فأجاب: بأن المعنى قد سبق علم الله، بأنها تكون لهم جزاء ومصيراً. قوله: (مرجعاً) أي مستقراً.
قوله: ﴿ لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ ﴾ أي من النعم اللائقة بهم، وأما ما لا يليق به فلا يخطر ببالهم، فكل إنسان يرضيه الله بما أعطاه، ولا يلتفت إلى عطاء من هو أشرف منه، ولا يخطر بباله سؤاله، وبهذا اندفع ما قيل: إن مقتضى الآية، أن الإنسان يتمنى مراتب الأنبياء في الجنة ويعطاها. قوله: (حال) أي من الهاء في الهم، أو من الواو في ﴿ يَشَآءُونَ ﴾.
قوله: ﴿ كَانَ ﴾ (وعدهم ما ذكر) أشار بذلك إلى أن اسم ﴿ كَانَ ﴾ يعود على الوعد المفهوم من قوله:﴿ وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ ﴾[الفرقان: ١٥].
قوله: (ربنا وآتنا) أي كما قال تعالى حكاية عن دعائهم لأنفسهم وقوله: (ربنا وأدخلهم) أي كما قال تعالى حكاية عن دعاء الملائكة للمؤمنين. قوله: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ﴾ ظرف مفعول لمحذوف تقديره اذكر، والضمير في نحشرهم للعابدين لغير الله. قوله: (بالنون) أي مع النون في نقول أو الياء، وقوله: (والتحتانية) أي مع التحتانية في يقول، فالقراءات ثلاث سبعيات، خلافاً لما يوهمه المفسر من أنها أربع. قوله: ﴿ وَمَا يَعْبُدُونَ ﴾ معطوف على مفعول ﴿ يَحْشُرُهُمْ ﴾، وأوقع ﴿ مَا ﴾ على العقلاء وهو قليل، وهذا ما يفيده المفسر بالتمثيل، ويصح أن يراد من ﴿ مَا ﴾ العاقل وغيره كالأصنام، وغلب غير العاقل على العقال لكثرته. قوله: (إثباتاً للحجة على العابدين) أي وتبكيتاً لهم، وهو جواب عما يقال: إن الله عالم في الأزل بما ذكر، فما فائدة هذا السؤال. قوله: (بتحقيق الهمزتين) أي مع ادخال ألف بينهما وتركه، فالتحقيق فيه قراءتان، والتسهيل كذلك، والإبدال واحدة، فتكون خمساً، خلافاً لما يوهمه المفسر مع أنها أربع وكلها سبعية، إن قلت على قراءة الإبدال، يلزم عليه التقاء السكانين على غير حده وهو ممنوع. أجيب: بأن محل منعه ما لم يكن مسموعاً، وهذا مسموع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ هَؤُلاَءِ ﴾ نعت لعبادي، أو عطف بيان أو بدل منه.
قوله: ﴿ قَالُواْ ﴾ أي المعبودين، وهو كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ماذا قالوا في الجواب. قوله: ﴿ مِنْ أَوْلِيَآءَ ﴾ أي أتباعاً يعبدوننا، ويصح أن يراد بالأولياء المتبوعين أن معبودون لنا، لأن الولي كما يطلق على المتبوع يطلق على التابع، كالمولى يطلق على الأعلى والأسفل، وكلام المفسر يفيد المعنى الثاني، إذا علمت ذلك فالتبري حاصل في هذه الآية من الأولياء، بمعنى المعبودين أو العابدين لغير الله، وأما بمعنى من تولوا خدمة الله، أو من تولاهم الله، فلم يكلهم لغيره، فقد اتخذهم الله وأمر بالتعلق بأذيالهم. قوله: (مفعول أول) أي لنتخذ قوله: (وما قبله) أي وهو قوله: ﴿ مِن دُونِكَ ﴾.
قوله: (فيكف نأمر بعبادتنا) أي بعبادتهم إيانا، فنحن لم نضلهم. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ ﴾ الخ، استدراك لرفع ما يتوهم ثبوته، والمعنى أنت أنعمت عليهم بنعم عظمية، فجعلوا ذلك سبباً للضلال، وليس لنا مدخل في ذلك، وفي هذا الاستدراك رجوع للحقيقة. قوله: (تركوا الموعظة) أي غفلوا عن التذكر في آياتك، فالنسيان معناه الترك. قوله: ﴿ بُوراً ﴾ يحتمل أنه جمع بائراً، ومصدر من البوار وهو الهلاك. قوله: ﴿ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ﴾ خطاب للعابدين فالواو واقعة على المعبودين، والكاف على العابدين، وقوله: ﴿ بِمَا تَقُولُونَ ﴾ أي فيما تقولون، وقوله: (بالفوقانية) أي باتفاق العشرة، وقوله: (إنهم آلهة) مقول القول. قوله: (أي لاهم) راجع للتحتانية، وقوله: (ولا أنتم) راجع للفوقانية. قوله: ﴿ وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ ﴾ أي أيها المكلفون من العابدين والمعبودين، فظلم العابد بعبادته غير الله، وظلم المعبود برضاه بذلك. قوله: ﴿ نُذِقْهُ ﴾ بنون العظمة في قراءة العامة.
قوله: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ ﴾ الخ، المقصود من هذه الآية، تسليته للنبي صلى الله عليه وسلم والرد على المشركين حيث قالوا:﴿ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ ﴾[الفرقان: ٧] الخ. قوله: ﴿ إِلاَّ إِنَّهُمْ ﴾ الجملة حالية، وإن مكسورة باتفاق القراء، واللام للابتداء زحلقت للخبر، والمعنى ما أرسلنا قبلك من المرسلين في حال من الأحوال، إلا في حالة أكلهم الطعام، ومشيهم في الأسواق، أي فهذه عادتهم ودأبهم، فإن هجوك بذلك فقد هجوا جميع الأنبياء فلا تحزن. قوله: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ﴾ أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فجعل بعض العبيد فتنة لبعض، ليظهر الصابر من غيره، قوله: (ابتلي الغني بالفقير) الخ، فالغني ممتحن بالفقير يحسده، والفقير ممتحن بالغني يسخر به ويحتقره، والصحيح ممتحن بالمريض. يقول: لم لم نعاف، ونصير مثل هذا، والمريض ممتحن بالصحيح يتكبر عليه ويغتر بصحته، والشريف كالأنبياء والعلماء والصلحاء، ممتحن بالوضيع يحسده على ما أعطاه الله وهكذا، والمخلص من ذلك الصبر على أحكام الله والرضا بها، لأن الواجب على الإنسان أن ينظر في أمور الدنيا إلى من هو دونه، ولا ينظر إلى من هو فوقه، لئلا يزدري نعمة الله عليه، وفي أمور الآخرة إلى من هو فوقه، ليصرف نفسه فيرجع عليها باللوم والندم، ومن هنا ينبغي صحبة الصالحين والمساكين وموافقتهم ليقتدى بهم. قوله: (يقول الثاني) أي الفقير والمريض الوضيع، وقوله: (في كل) أي من الأقسام الثلاثة، وبالجملة فالفتنة أن يحسد المعافى المبتلى، والصبر أن يحبس كل منهما نفسه، هذا عن البطر، وهذا عن الضجر، عن أبي الدرداء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ويل للعالم من الجاهل، وويل للجاهل من العالم، وويل للمالك من المملوك، وويل للملوك ممن المالك، وويل للشديد من الضعيف، وويل للضعيف من الشديد، وويل للسلطان من الرعية، وويل للرعية من السلطان، بعضكم لبعض فتنة "وهو قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ﴾.
قوله: (استفهام بمعنى الأمر) هذا أحد وجهين، والوجه الآخر أن الاستفهام على حقيقته، أي لينظر أيحصل منكم صبر أم لا، فيجازيكم على ذلك. قوله: ﴿ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ﴾ في ذلك تأنيس للعبد، أي إن الله بصير ومطلع على من يصبر ومن يجزع، فلا تنبغي الشكوى للخلق، ولا إظهار ما في القلوب، بل إن وجد الشخص في نفسه صبراً فليشكر الله، وإن وجد غير ذلك، فعليه أن يرجع إلى ربه بالندم والتوبة. قوله: (لا يخافون البعث) أي لأنهم منكرون له. فهم يزعمون أنهم آمنون منه. قوله: (هلا) أشار بذلك إلى أن ﴿ لَوْلاَ ﴾ تحضيضية. قالوا: (فكانوا رسلاً الينا) أي بالشرائع ونحوها بدل محمد. قوله: ﴿ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا ﴾ أي يكشف الحجاب لنا فنراه عياناً. قوله: (فنخبر) بالبناء للمفعول أي يخبرنا هو بأن محمداً رسوله. قوله: (قال تعالى) أي رداً عليهم مقالتهم. قوله: (تكبروا) أي حيث لم يرضوا بأن يكون رسولهم من البشر، بل طمعوا أن يكون من الملائكة. قوله: ﴿ فِيۤ ﴾ (شأن) ﴿ أَنفُسِهِمْ ﴾ أي أنهم عدوا أنفسهم كبيرة لأمر قام بها. قوله: (بطلبهم رؤية الله) متعلق بعتواً والباء للسببية، ولم يذكر متعلق ﴿ ٱسْتَكْبَرُواْ ﴾ وقد علمته، وفي الآية لف ونشر مرتب، فالاستكبار راجع لطلبهم نزول الملائكة، والعتق راجع لطلبم رؤية الله. قوله: (على أصله) أي من غير إبدال. قوله: (بالإبدال في مريم) أي لمناسبة رؤوس الآي، وأصله عتووا، كسرت التاء فوقعت الواو ساكنة إثر كسرة قلبت ياء، ثم اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء.
قوله: ﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ ﴾ أي المتولين عذابهم. قوله: ﴿ لاَ بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ ﴾ هذه الجملة مقولة لقول محذوف حال من الملائكة، تقديره قائلين لهم لا بشرى. قوله: (فلهم البشرى بالجنة) أي لقوله تعالى:﴿ بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾[الحديد: ١٢].
قوله: ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ معطوف على ﴿ يَرَوْنَ ﴾ فالضمير للكفار. قوله: ﴿ حِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ العامة على كسر الحاء، وقرئ شذوذاً بفتحها وضمها. قوله: (يستعيذون من الملائكة) أي يطلبون من الله إنقاذهم منهم بهذه العبارة. قوله: (عمدنا) أي تعلقت إرادتنا، ودفع بذلك ما قيل إن القدوم من صفات الحوادث، وهو محال على الله تعالى، ففسره بلازمه وهو القصد، والمراد من القصد في حقه تعالى، تعلق إرادته بالشيء. قوله: (وقرى ضيف) بكسر القاف مع القصر، أو فتحها مع المد، ومعناه الإحسان اليه. قوله: (في الدنيا) متعلق بعملوا. قوله: (في الكوى) جمع كوة وهي الطاقة في الحائط، بفتح الكاف وضمها. قوله: (لعدم شرطه) أي وهو الإيمان. قوله: (ويجازون عليه في الدنيا) أي بإعطاء المال والولد والعافية وغير ذلك من ملاذ الدنيا، فأعمال الكافر الحسنة التي لا تتوقف على نية، يعطى جزاءها في الدنيا، وأما ما تتوقف على نية، فلا يجد لها جزاء أصلاً لعدم صحتها. قوله: ﴿ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ﴾ (من الكافرين) أي أن مستقر المؤمنين في الجنة، خير من مستقر الكافرين في الدنيا، فافعل التفضيل على بابه، وإلى هذا أشار المفسر بقوله: (في الدنيا) فهو جواب عما يقال: إن مستقر أهل النار لا خير فيه، ويصح أن يراد استقرار كل في الآخرة، والتفضيل ليس مراداً، بل المقصود التقريع والتوبيخ للكفار. قوله: (من ذلك) أي من قوله: ﴿ وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ قوله: (كما ورد في الحديث) قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة، حتى يقبل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، والقيلولة الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن مع ذلك نوم، لأن الله تعالى قال: ﴿ وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ والجنة لا نوم فيها، ويروى أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين، حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس.
قوله: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ ﴾ ﴿ يَوْمَ ﴾ ظرف معمول لمحذوف تقديره اذكر كما قاله المفسر. قوله: (أي كل سماء) أشار إلى أن أل في السماء استغراقية. قوله: (أي معه) أشار بذلك إلى أن الباء بمعنى مع، ويصح أن تكون للسببية أو للملابسة، أو بمعنى عن. قوله: (وهو غيم أبيض) أي سحاب فوق السماوات السبع، ثخنة كثخن السماوات السبع، وثقله كثقلها، فينزل على السماء السابعة فيخرقها بثقله، وهكذا حتى ينزل إلى الأرض، وفيه ملائكة كل سماء، فينزل أولاً ملائكة سماء الدنيا، وهم مثل الأرض عشر مرات، ثم ملائكة السماء الثانية، وهم مثلهم عشرين مرة وهكذا، وإذ نزل ملائكة السماء الدنيا، اصطفوا حول العالم المجموع في الحشر صفاً، وإذا نزل ملائكة السماء الثانية، اصطفوا خلف هذا الصف صفاً آخر، وهكذا حتى تصير الصفوف سبعة، كلهم يحرسون أهل المحشر من الفرار، ويطردون عنهم النار، وتقدم بسط ذلك في سورة إبراهيم عند قوله:﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ ﴾[ابراهيم: ٤٨] الخ. قوله: (ونصبه باذكر مقدرا) أي وهو معطوف على﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ ﴾[الفرقان: ٢٢] وكذا قوله:﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ ﴾[الفرقان: ٢٧].
قوله: (في الأصل) أي قبل قلبها شيناً وتسكينها وإدغامها في الشين. قوله: (وفي أخرى وننزل بنونين) الخ، هذه القراءة إنما تأتي عند تشديد الشين، فتحصل أن القراءات ثلاث سبعيات، فعند تشديد الشين يجوز في ننزل القراءتان، وعند التخفيف يجوز في ننزل قراءة واحدة، وهي كونه ماضياً مبنياً للمفعول، خلافاً لما يوهمه المفسر من أنها أربع قراءات. قوله: ﴿ ٱلْمُلْكُ ﴾ مبتدأ، و ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ ظرف له، و ﴿ ٱلْحَقُّ ﴾ نعت له، و ﴿ لِلرَّحْمَـٰنِ ﴾ خبره. والمعنى أن الملك يوم القيامة لله وحده، وحكمة التقييد بهذا اليوم، وإن كان الملك لله في كل زمن؛ أن ثبوت الملك له خاصة في ذلك اليوم، فليس لأحد ملك ظاهر أبداً، وأما فيما عداه من أيام الدنيا، فيكون للخلق تصرف صوري، وإلى هذا أشار المفسر بقوله: (لا يشركه فيه أحد). قوله: (بخلاف المؤمنين) أي فليس عليهم عسيراً لما ورد: أنه يهون عليهم حتى يكون أخف من صلاة مكتوبة.
قوله: ﴿ وَيَوْمَ ﴾ منصوب باذكر، أو معطوف على ﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ ﴾ كما تقدم. قوله: ﴿ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ ﴾ هو من باب تعب ونفع. والمعنى أن الكافر حين يرى النار ويسمع تغيظها وزفيرها يعض على يديه، قال عطاء: يأكل الظالم يديه حتى يأكل مرفقيه، ثم ينبتان، ثم يأكلهما، وهكذا كلما نبتت يداه يأكلهما. قوله: (عقبة بن أبي معيط) أشار المفسر بذلك إلى أن الآية نزلت في ظالم خاص، ويقاس عليه كل ظالم، وهو أحد قولين، وقيل نزلت في الظالمين عموماً. قوله: (كان نطق بالشهادتين) الخ،" وذلك أنه صنع طعاماً ودعا الناس اليه، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم الطعام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بآكل طعامك، حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله، ففعل، فأكل رسول الله من طعامه، وكان عقبة صديقاً لأبي ابن خلف، فلما أخبر بذلك قال له: يا عقبة صبأت؟ قال: لا، ولكن دخل علي رجل، فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له فطعم، فقال: ما أنا راض عنك حتى تأتيه فتبزق في وجهه، ففعل عقبة، فعاد بزاقه على وجهه فحرقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أراك خارج مكة إلا علوت رأسك بالسيف، فأسر يوم بدر، فأمر علياً فقتله، وطعن النبي أبياً بأحد في المبازر، فرجع إلى مكة ومات "وحكم الآية عام في كل صاحبين اجتمعا على معصي الله تعالى لما روي:" يحشر المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل ". قوله: ﴿ يَقُولُ يٰلَيْتَنِي ﴾ الجملة حالية من فاعل ﴿ يَعَضُّ ﴾.
قوله: (للتنبيه) أي وليست للنداء، لأن المنادى شرطه أن يكون اسماً، وليت حرف تمن أو للنداء، والمنادى محذوف أي يا قوم. قوله: (عوض عن ياء الاضافة) أي وأصله ويلتي بكسر التاء وفتح الياء، فتحت التاء فتحركت، وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً، فيقال في إعرابه ويلتا مضاف، والألف مضاف اليه في محل جر، وليس لنا ألف في محل جر، إلا ما كانت عوضاً عن ياء المتكلم. قوله: ﴿ لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً ﴾ فلان كناية عن علم من يعقل من الذكور، وفلانة عن علم من يعقل من الإناث. قوله: ﴿ لَّقَدْ أَضَلَّنِي ﴾ علة لتمنيه، وأكده باللام القسمية، إظهاراً لندمه وتحسره، قوله: (أي القرآن) أي وقيل كلمة الشهادة. قوله: (قال تعالى) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ الخ، جملة مستأنفة من كلامه تعالى، وكلام الظالم تم عند قوله: ﴿ جَآءَنِي ﴾.
قوله: ﴿ وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ أي هو كل عات متمرد صد عن سبيل الله من الجن والإنس. قوله: (بأن يتركه) أي يترك نصره. قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلرَّسُولُ ﴾ عطف على قوله:﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ﴾[الفرقان: ٢١] وما بنيهما اعتراض مسوق لاستعظام ما قالوه، وبيان ما يحيق بهم في الآخرة من الأهوال، وهذا القول قيل صدر منه في الدنيا، وعليه يحمل قول المفسر (فاصبر كما صبروا) وقيل سيقع منه في الآخرة حال إقامة الحجة عليهم، ولذا ورد أنه يقول حين يشاهد نزول العذاب بهم سحقاً. قوله: ﴿ مَهْجُوراً ﴾ أي فأعرضوا عنه ولم يؤمنوا به، فهذه الآية وردت في الكفار المعرضين عن القرآن الذين لم يؤمنوا به، لا فيمن حفظه من المؤمنين ثم نسيه، وإن كان يعاتب عليه في الآخرة لما ورد:" من تعلم القرآن وعلق مصحفه، لم يتعاهده ولم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول: يا رب عندك هذا اتخذني مهجوراً، اقض بيني وبينه ". قوله: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا ﴾ الخ، شروع في تسليته صلى الله عليه وسلم، والمعنى كما جعلنا قومك يعادونك ويكذبونك، جعلنا لكل نبي عدواً. قوله: ﴿ بِرَبِّكَ ﴾ الباء زائدة في الفاعل. قوله: ﴿ هَادِياً ﴾ أي موصلاً لك إلى الطريق القويم.
قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الخ، حكاية عن بعض قبائح كفار مكة، وشبههم التي تتعلق بالقرآن، ولما كانت الشبهة، ربما تدخل على بعض الضعفاء، اعتنى الله بردها والتوبيخ لمن أبداها. قوله: ﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ ﴾ ﴿ نُزِّلَ ﴾ بمعنى أنزل، لأن نزل بالتشديد معناه الإنزال مفرقاً، وأنزل معناه الإنزال جملة، فلو لم يجعل بمعنى أنزل لناقضه. قوله: ﴿ جُمْلَةً ﴾ يؤيده قوله تعالى:﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ ﴾[القدر: ١] حيث عبر بأنزلنا دون نزلنا، لأن المراد نزوله جملة في سماء الدنيا. قوله: (قال تعالى) أي رداً لتلك الشبهة بأمور ثلاثة، مقتضياً لنزوله مفرقاً، الأول تثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم، الثاني ترتيله ليسهل حفظه، الثالث قوله: ﴿ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾.
قوله: (نزلناه) ﴿ كَذَلِكَ ﴾ أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ نعت لمصدر محذوف، والمعنى نزلناه ترتيلاً مثل ذلك التنزيل. قوله: ﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ علة للمحذوف الذي قدره المفسر، والمعنى أنزلناه مفرقاً ليتقوى قلبك على تلقيه، فلا يحصل لك منه ثقل، لأن القرآن في نفسه ثقيل، سيما على من لم يقرأ ولم يكتب، قال تعالى:﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾[المزمل: ٥] ولذلك لما نزل عليه صلى الله عليه وسلم (اقرأ) فتر الوحي ثلاث سنين ليشتاق للتلقي، فإن الشيء إذا جاء على شوق كان أثبت. قوله: ﴿ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾ أي فرقناه آية بعد آية، وشيئاً بعد شيء، في عشرين أو ثلاث وعشرين سنة. قوله: (لتيسر فهمه وحفظه) أي لك ولأمتك عن ظهر قلب، وهذه عطية لهذه الأمة المحمدية لم يعطها غيرهم، ولذا ورد:" وجعلت من أمتك أقواماً قلوبهم أناجيلهم "ومن هنا كان تعليم القرآن بالتدريج سيما للأطفال، ليثبت في قلوبهم، واغتفر التنكيس في تعليمه ليسهل حفظه، فإن الطفل إذا رأى السورة قصيرة، قوي على حفظها ونشط لما بعدها. قوله: ﴿ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ﴾ أي سؤال عجيب، يريدون به القدح في نبوتك. قوله: ﴿ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ ﴾ استثناء مفرغ من عموم الأحوال كأنه قيل: لا يأتونك بمثل في حال من الأحوال، إلا في حال إتياننا إليك بالحق، وبما هو أحسن بياناً له، والمعنى كلما أوردوا شبهة، أو أتوا بسؤال عجيب، أجبنا عنه بجواب حسن، يرده ويدفعه من غير كلفة عليك فيه، فلو نزل القرآن جملة، لكان النبي هو الذي يبحث في القرآن عن رد تلك الشبهة، كالعالم الذي يكشف في الكتب عن جواب المسائل التي يسأل عنها، فيكون الأمر موكولاً له، فتكون الكلفة عليه، وما كان موكولاً إلى الله، كان أتم مما هو موكول إلى العبد، وفيه قمع للمعاندين. قوله: ﴿ وَأَحْسَنَ ﴾ معطوف على الحق، فهو مجرور بالفتحة للوصفية ووزن الفعل. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يُحْشَرُونَ ﴾ خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله: (هم). قوله: (أي يساقون) أي يسحبون مقلوبين يطؤون الأرض برؤوسهم ووجوههم، وترتفع أقدامهم بقدرة الله تعالى. قوله: (من غيرهم) متعلق بكل من ﴿ شَرٌّ ﴾ و ﴿ وَأَضَلُّ ﴾، والمراد بغيرهم باقي الكفار، والمعنى أن من عانده صلى الله عليه وسلم، فهو في أسوأ الأحوال وأشرها في الآخرة. قوله: (وهو كفرهم) الضمير عائد على السبيل.
قوله: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ ﴾ شروع في تسليته صلى الله عليه وسلم على مكائد قومه، بذكر بعض قصص الأنبياء على سبيل الإجمال، والمعنى لا تحزن يا محمد، فإن من خالفك وعاندك، يحل به الدمار، كما حل بالمخالف من الأمم المتقدمة. قوله: ﴿ وَجَعَلْنَا مَعَهُ ﴾ معطوف على ﴿ آيَاتِنَا ﴾ والواو لا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً، فإن إتيان موسى التوراة، كان بعد رسالة هارون، وهلاك فرعون وقومه، ويمكن أن يجاب عن الآية، بأن المراد بقوله: ﴿ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ ﴾ قدرنا له أن يأتيه في علمنا، فهو إخبار عما سيحصل، فالماضي بالنسبة لما سبق في علم الله. قوله: ﴿ أَخَاهُ ﴾ مفعول أول لجعلنا، و ﴿ هَارُونَ ﴾ بدل منه، و ﴿ وَزِيراً ﴾ مفعول ثان لجلعنا هارون معيناً لموسى، بوحي مثاله في دعوى القوم إلى التوحيد وإعلاء الكلمة، فهو نبي ورسول بما جاء به موسى، بخلاف وزارة علي للنبي صلى الله عليه وسلم المستفادة من قوله عليه الصلاة والسلام له:" أنت مني بمنزلة هارون من موسى "فالمراد منها مطلق الإعانة لا المشاركة في الاتصاف بالرسالة، فإن من أثبتها لعلي فقد كفر. قوله: ﴿ بِآيَاتِنَا ﴾ أي أدلة توحيدنا لا خصوص التسع. قوله: ﴿ فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً ﴾ عطف على محذوف قدره المفسر بقوله: (فذهبا) الخ. قوله: ﴿ لَّمَّا كَذَّبُواْ ٱلرُّسُلَ ﴾ ﴿ لَّمَّا ﴾ شرطية، وجوابها قوله: ﴿ أَغْرَقْنَاهُمْ ﴾ كما قال المفسر. قوله: (لطول لبثه) دفع بذلك ما يقال: لم جمع الرسل من أنه رسول واحد وهو نوح؟ فأجاب بجوابين: الأول أنه جمعه لطول مدته في قومه، فكأنه رسل متعددة. الثاني أن من كذب رسولاً، فقد كذب بالرسل. قوله: ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ ﴾ أي جعلنا هلاكهم وما وقع منهم. قوله: ﴿ لِلظَّالِمِينَ ﴾ وضع الظاهر موضع المضمر، تسجيلاً عليهم بوصف الظلم. قوله: (سوى ما يحل) أي ينزل بهم، وهو بهذا المعنى يضم الحاء وكسرها، بخلاف سائر معانيه، فهو بالكسر لا غير.
قوله: ﴿ وَثَمُودَاْ ﴾ بالصرف على معنى الحي، وتركه على معنى القبيلة، قراءتان سبعيتان. قوله: (اسم بئر) اختلف هل هي اسم البئر التي لم تطو، أو للبئر مطلقاً، وما قاله المفسر أحد أقوال في الرس، وقيل هو قرية باليمن، كان فيها بقايا ثمود، فبعث اليهم نبي فقتلوه فهلكوا، وقل الأخدود، وقيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان النبي، ابتلاهم الله بطير عظيم فيه من كل لون، فسموه العنقاء لطول عنقها، وكانت تسكن الجبال وتخطف صبيانهم، فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة، ثم إنهم قتلوه فأهلكوا. قوله: (وقيل غيره) أي وهو حنظلة. بقوله: (فانهارت) أي انخسفت بهم. وقوله: ﴿ وَكُلاًّ ﴾ منصوب بفعل محذوف يلاقي ﴿ ضَرَبْنَا ﴾ في معناه، تقديره وخوفنا كلاً ضربنا له الأمثال، والمعنى بينا لكل القصص العجيبة فلم يؤمنوا ﴿ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً ﴾ أي فتتناهم تفتيتاً فجعلناهم كالتبر، وهو قطع الذهب والفضة المفتتة، قوله: (مرو) أشار بذلك إلى أنه ضمن أتوا معنى مروا، فعدي بعلى، وإلا فأتى يتعدى بنفسه أو بإلى، والمعنى: مروا في أسفارهم إلى الشام. قوله: (مصدر ساء) أي بحسب الأصل، والمراد في الآية بالمطر السوء الرمي بالحجارة. قوله: (وهي عظمى قرى قوم لوط) أي واسمها سدوم، وتقدم أن القرى خمسة، وقيل إن أل في القرية للجنس فيشمل جميعها، لأن الخسف ونزول الأحجار عم جميعها، وقيل نجت منها واحدة كانت لا تعمل الخبائث. قوله: ﴿ يَرَوْنَهَا ﴾ أي يرون آثارها. قوله: (والاستفهام للتقرير) أي وهو حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه. قوله: ﴿ بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً ﴾ أي كانوا كفاراً لا يتوقعون نشوراً ولا عاقبة، فهو إضراب انتقالي من توبيخهم إلى ذكر بعض قبائحهم وهو عدم إيمانهم بالبعث وعدم خوفهم منه. قوله: ﴿ إِن يَتَّخِذُونَكَ ﴾ جواب ﴿ إِذَا ﴾ قوله: ﴿ إِلاَّ هُزُواً ﴾ مفعول ثان ليتخذون، وقوله: (مهزوءاً به) أشار به إلى أن المصدر مؤول باسم المفعول، لأن المفعول الثاني في الأصل خبر، والمصدر لا يصح الإخبار به إلا بتأويل. قوله: ﴿ أَهَـٰذَا ٱلَّذِي ﴾ الخ الجملة في محل نصب مقول لقول محذوف قدره المفسر. قوله: (في دعواه) ﴿ رَسُولاً ﴾ قدر ذلك دفعاً لما يقال هم لا يعترفون برسالته، فكيف يقولون ما ذكر؟ قوله: ﴿ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا ﴾ أي بكثرة الأدلة والمعجزات. قوله: ﴿ لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا ﴾ أي ثبتنا واستمسكنا بعبادتها. قوله: (قال تعالى) أي رداً لقولهم: ﴿ إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا ﴾.
قوله: ﴿ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ ﴿ مَنْ ﴾ اسم استفهام مبتدأ، و ﴿ أَضَلُّ ﴾ خبره، و ﴿ سَبِيلاً ﴾ تمييز، وقد أشار المفسر إلى ذلك بقوله: (أهم أم المؤمنون). قوله: (قدم المفعول الثاني) أي وقيل: لا تقديم ولا تأخير، لاستوائهما في التعريف. قوله: (وجملة من) الخ، أي بحسب الصورة، وإلا فهي وصلتها في وقة المفرد. قوله: (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري.
قوله: ﴿ أَمْ تَحْسَبُ ﴾ ﴿ أَمْ ﴾ منقطعة تفسر ببل، والهمزة والاستفهام فيها إنكاري. قوله: ﴿ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ ﴾ استفيد منه أن الأقل سمع وعقل فآمن. قوله: ﴿ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ ﴾ أي في عدم انتفاعهم بالآيات. قوله: ﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ أي لأن الأنعام تنقاد لمن يتعهدها، وتمييز من يحسن اليها ممن يسيء اليها، وتطلب ما ينفعها وتهرب ما يضر بها، وهؤلاء ليسوا كذلك. قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ ﴾ أقام الله سبحانه وتعالى، أدلة محسوسة على انفراده تعالى بالألوهية، وذكر منها خمسة: الأول هذا، والثاني قوله:﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ لِبَاساً ﴾[الفرقان: ٤٧]، الثالث قوله:﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ ﴾[الفرقان: ٤٨]، الرابع قوله:﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ ﴾[الفرقان: ٥٣]، الخامس قوله:﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلْمَآءِ بَشَراً ﴾[الفرقان: ٥٤]، وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل عاقل، فإن من تأمل في تلك الأدلة حق التأمل، عرف أن موجدها فاعل مختار منفرد بالكمال. قوله: (تنظر) أشار بذلك إلى أن الرؤية بصرية، فقوله: ﴿ كَيْفَ ﴾ منصوب بمد على الحال. والمعنى ألم تنظر إلى صنع ربك مد الظل كيف؟ أي على حالة، وقدر المفسر (فعل) إشارة إلى أن المراد رؤية المصنوعات لا رؤية الذات، لأن المقصود نصب الأدلة، ليستدل بها على مؤثرها، فإن كل صنعة لا بد لها من صانع، وإن كان يلزم من التفكر في تلك الأشياء رؤية الله بعين القلب، لأنه لا يغيب عن مخلوقه طرفة عين، ومن هنا قيل: العارف يرى الله في كل شيء، فالآثار كالمرآة للناظر، فمن تأمل فيها رأى مؤثرها، ولا تحجب إلا من سبقت له الشقاوة. قوله: (من وقت الأسفار) الخ، المناسب أن يقول: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، إذ هو أحد أقوال ثلاثة للمفسرين، ثانيها من غروب الشمس إلى طلوعها، ثالثها من طلوع الشمس إلى أن تزول، ومن زوالها إلى غروبها، وأما ما قاله المفسر، فلم يوافقه عليه أحد من المفسرين، وهذا الوقت أعني من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، أطيب الأوقات وأفضلها، ولذا وصفت به الجنة، قال تعالى:﴿ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴾[الواقعة: ٣٠] وفيه يجد المريض راحته، والمسافر وكل ذي علة، وفيه ترد أرواح الأموات منهم إلى الأجساد، وطيب نفوس الأحياء، قال أبو العالية: نهار الجنة هكذا، وأشار إلى ساعة يصلون صلاة الفجر. قوله: ﴿ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ﴾ أي ثابتاً مستقراً لا يذهب عن وجه الأرض. قوله: (لا يزول بطلوع الشمس) أي بأن لا تطلع، فلا يزول بأن يستمر الليل مقيماً، أو تطلع من غير ضوء. قوله: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا ٱلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ﴾ أي الشمس دليلاً على الظل ليلاً ونهاراً، فالمراد بالظل ما قابل نور الشمس، وكل من الظل ونور الشمس عرض لقيامه بغير، وأما ذات الشمس فجوهر.
قوله: ﴿ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً ﴾ أي قليلا شيئا فشيئا، وذلك أن الشمس إذا طلعت، ظهر لكل شخص ظل إلى جهة المغرب، فكلما ارتفعت في الأفق، نقص الظل شيئاً فشيئاً، إلى أن تصل الشمس وسط السماء، فعند ذلك ينتهي نقص الظل، فبعض البلاد لا يبقى فيها ظل أبداً في بعض أيام السنة، كمكة وزبيد، وما عداها تبقى له بقية، وهذا على حسب الأشهر البقطية، وضبط ذلك بعضهم بقوله طزه جبا أبدوحي، فالطاء بتسعة لطوبة، فظل الزوال فيه تسعة أقدام، والزاي بسبعة لأمشير، والهاء بخمسة لبرمهات، والجيم بثلاثة لبرمودة، والباء باثنين لبشنس، والألف بواحدة لبؤنة، والألف الثانية بواحد لأبيب، والباء باثنين لمسرى، والداخل بأربعة لتوت، والواو بستة لبابة، والحاء بثمانية لهاتور، والياء بعشرة لكيهك، فإذا زالت الشمس، زاد الظل جهة المشرق شيئاً فشيئاً، حتى تغرب الشمس، قوله: (كاللباس) أشار بذلك إلى أنه من التشبيه البليغ بحذف الأداة، والجامع بين المشبه والمشبه به الستر في كل. قوله: ﴿ وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً ﴾ من السبت وهو القطع لقطع الأعمال فيه كما قال المفسر. قوله: (بقطع الأعمال) الباء سببية، والجار والمجرور متعلق براحة. قوله: (لابتغاء الرزق) أي طلبه. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ ﴾ أي المبشرات وهي ثلاث: الشمال وتأتي من جهة القطب والجنوب تقابلها، والصبا وتأتي من مطلع الشمس، والدبور تأتي من المغرب وبها أهلكت قوم عاد. قوله: (وفي قراءة الريح) أي وهي سبعية أيضاً، وآل فيها للجنس. قوله: (وفي قراءة بسكون الشين) الخ، حاصل ما ذكره المفسر من القراءات أربع، وكلها سبعية، الأولى والثانية جمع نشور كرسول، والثالثة مصدر نشر، والرابعة جمع نشير. قوله: (ومفرد الأولى) أي والثانية. قوله: ﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ فيه التفات من الغيبة للتكلم. قوله: ﴿ طَهُوراً ﴾ أي طاهراً في نفسه مطهراً لغيره.
قوله: ﴿ بَلْدَةً ﴾ أي أرضاً. قوله: (بالتخفيف) أي لا غير، لأن المخفف لما ليس ذا روح غالباً، وأما بالتشديد لما كانت فيه الروح، قال تعالى:﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ﴾[الزمر: ٣٠].
وقال بعضهم: أيا سائلي تفسير ميت وميت   فدونك قد فسرت ما عنه تسألفما كان ذا روح فذلك ميت   وما الميت إلا من إلى القبر يحملقوله: (يستوي فيه المذكر) الخ، جواب عما يقال: لم ذكر ميتاً، مع أنه معت لبلدة وهي مؤنثة؟ وقوله: (ذكره) إلخ، جواب ثاني، فكان المناسب أن يأتي بأو. قوله: ﴿ أَنْعَاماً ﴾ خصها بالذكر لأنها عزيزة عند أهلها، لكونها سبباً لحياتهم ومعاشهم. قوله: (جمع إنسان) هو الراجح، وقيل جمع إنسي وهو معترض بأن الياء في إنسي للنسب، وهو لا يجمع على فعالي، كما قال ابن مالك: اجعل فعالي لغيري ذي نسب. قوله: (وأصله أناسين) أي كسرحان وسراحين. قوله: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ ﴾ أي فرقناه في البلاد المختلفة والأوقات المتغايرة، على حسب ما قدر في سابق عمله، روي عن ابن مسعود أنه قال: ليس من سنة بأمطر من أخرى، ولكن الله عز وجل قسم هذه الأرزاق، فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم، وإذا عمل قوم بالمعاصي، حول الله ذلك إلى غيرهم، وإذا عصوا جميعاً، صرف الله ذلك المطر إلى الفيافي والبحار. قوله: (أدغمت التاء في الذال) أي بعد قلبها دالاً، فذالاً. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (أي نعمة الله به) أي فيقوموا بشكرها ليزدادوا خيراً. قوله: (جحوداً للنعمة) أي حيث أضافوها لغير خالقها. قوله: (مطرنا بنوء كذا) النوء سقوط نجم من المنازل في المغرب، وطلوع رقيبه من المشرق في ساعته في عدة أيام معلومة لهم، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد وإلى الساقط، وقيل: إلى الطالع، واعتقاد تأثير تلك الأشياء في المصنوعات كفر، لأنه لا أثير لشيء في شيء، بل المؤثر هو الله وحده، وإنما تلك الأشياء، من جملة الأسباب العادية التي توجد الأشياء عندها لا بها، ويمكن تخلفها، كالإحراق للنار، والري للماء، والشبع للأكل. قوله: ﴿ لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ ﴾ أي في زمنك. قوله: (ليعظم أجرك) أي فالنبي صلى الله عليه وسلم له مثل أجر من آمن به، من بعثه إلى يوم القيامة. قوله: ﴿ فَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ أي بل اصبر على أحكام ربك. قوله: ﴿ جِهَاداً كَبيراً ﴾ أي لأن مجاهدة السفهاء بالحجج، أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف.
قوله: (أرسلهما متجاورين) أي أجراهما متلاصقين لا يتمازجان، ولا يبغي أحدهما على الآخر. قوله: ﴿ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ ﴾ هذه الجملة يحتمل أن تكون مستأنفة، جواب سؤال مقدر كأنه قيل: كيف مرجهما؟ ويحتمل أن تكون حالية بتقدير القول، أي مقولاً فيهما هذا عذب الخ، وسمي الماء العذب فراتاً، لأنه يفرت العطش أي يشقه ويقطعه. قوله: (شديد الملوحة) أي وقيل شديد الحرارة، وقيل شديد المرارة، وهذا من أحسن المقابلة حيث قال: عذب فرات، وملح أجاج. قوله: (حاجزاً لا يختلط أحدهما بالآخر) أي فالماء العذاب داخل في الملح وجار في خلاله، ومع ذلك لا يتغير طعمه ولا يختلطان، بل يبقى على كل ما هو عليه، بسبب منع الله لكل منهما عن الآخر بحاجز معنوي لا يحس بل بمحض قدرته تعالى، وهذا أكبر الأدلة على انفراد الله تعالى بالألوهية. قوله: ﴿ وَحِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ تقدم أن معناه تعوذنا تعوذاً، والمراد هنا الستر المانع، فشبه البحرين بطائفتين متعاديتين، كل منهما تتحصن من الأخرى، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو قوله: ﴿ حِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ على طريق الاستعارة المكنية. قوله: ﴿ بَشَراً ﴾ أي خلقاً كاملاً مركباً من لحم وعظم وعصب وعروق ودم على شكل حسن، قال تعالى:﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾[التين: ٤].
قوله: (ذا نسب) الخ، أي فقسمه قسمين، ذوي نسب أي ذكوراً ينسب إليهم وذوات صهر، أي أناساً يصاهر بهن، وأخر الصهر لأنه لا يحصل إلا بعد الكبر والتزوج. قوله: (ذا صهر) صهر الرجل أقارب زوجته، وصهر المرأة أقارب زوجها. قوله: ﴿ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً ﴾ أي حيث خلق من مادة واحدة، إنساناً ذا أعضاء مختلفة، وطباع متباعدة، وأخلاق متعددة، وجعله قسمين متقابلين، فمن كان قادراً على ذلك وأمثاله، فهو حقيق بأن لا يعبد غيره. قوله: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ شروع في ذكر قبائح المشركين، مع ظهور تلك الأدلة. قوله: ﴿ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ ﴾ قدم النفع في بعض الآيات وأخره في بعضها تفنناً. قوله: ﴿ وَكَانَ ٱلْكَافِرُ عَلَىٰ رَبِّهِ ظَهِيراً ﴾ أي يعاون الشيطان ويتابعه بالعداوة والشرك، وأل في الكافر للجنس، فالمراد كل كافر، وقيل معنى ظهيراً مهيناً لا يعبأ به، فعلى بمعنى عند، والمعنى: وكان الكافر عند ربه مهاناً لا حرمة له، مأخوذ من قولهم ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك. قوله: (بطاعته) أي الشيطان، والباء سببية، والمعنى صار الكافر معيناً للشيطان على معصية الله، بسبب طاعته إياه، والخروج عن طاعة الله. قوله: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ أي لم نرسلك في حال من الأحوال، إلا في حال كونك مبشراً ونذيراً، فمن آمن فقد تحقق بالبشارة، ومن استمر على الكفر فله النذارة. قوله: (على تبليغ ما أرسلت به) أي المفهوم من قوله: ﴿ أَرْسَلْنَاكَ ﴾.
قوله: (لكن) ﴿ مَن شَآءَ ﴾ الخ، أشار بذلك إلى أن الاستثناء منطقع، والمعنى لا أطلب من أموالكم جعلاً لنفسي، لكن من شاء أن ينفق أمواله لوجه الله تعالى طلباً لمرضاته فليفعل. قوله: (في مرضاته تعالى) أي كالصدقة والنفقة في سبيل الله تعالى.
قوله: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ ﴾ لما قدم أن الكافر خارج عن طاعة ربه، وعن طاعة رسوله، وأمر الرسول أن لا يسألهم أجراً على تبليغه، أمره بالاعتماد عليه تعالى، ليكفيه شرورهم ويغنيه عن أجورهم، فإنه الحقيق بأن يتوكل عليه دون الأحياء الذين يموتون، فإنهم إذا ماتوا، ضاع من توكل عليهم، والتوكل هو وثوق القلب بالله تعالى في جميع الأمور، من غير اعتماد على الأسباب وإن تعاطاها. قوله: ﴿ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ ﴾ صفة كاشفة، لأن معنى الحي في حقه تعالى، ذو الحياة الأبدية التي يستحيل عليها الموت والفناء، ووصفه بالحياة بهذا المعنى مستلزم، لاتصافه بوجوب الوجود والقدم والبقاء وجميع الصفات الوجودية والسلبية. قوله: ﴿ وَسَبِّحْ ﴾ أي نزهه عن كل نقص. قوله: ﴿ بِحَمْدِهِ ﴾ الباء للملابسة كما قال المفسر، أي وصفه بالكمالات. قوله: (أي قل سبحان الله والحمد لله) أي فذلك بجمع التسبيح والتحميد، لأن معنى تسبيح الله، تنزيه الله عن كل نقص، ومعنى الحمد لله، كل كمال ثابت لله، فهاتان الكلمتان من جوامع الكلم التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما من جملة الباقيات الصالحات وغراس الجنة التي بقيتها لا إله إلا الله والله أكبر، وحكمة تأخير لا إله إلا الله عن هاتين الجملتين، ليكون النطق بها عن معرفة ويقين، فهي نتيجة ما قبلها، والله أكبر نتيجة الثلاثة فيها، لأنه إذا تنزه عن النقائص، واتصف بالكمالات، وثبت أنه لا إله غيره، فقد انفرد بالكبرياء والعظمة. وحكمة الاقتصار هنا على التسبيح والتحميد، لأنهما مستلزمتانت للجملتين بعدهما. قوله: ﴿ وَكَفَىٰ بِهِ ﴾ الباء زائدة في الفاعل. قوله: (عالماً) أي بالمذنب والطائع. قوله: (تعلق به) أي بخبيراً. قوله: (بذنوب) أي لفظ بذنوب وقدم لرعاية الفاصلة، والمعنى أن الله قادر على مجازاة الخلق في كل وقت، فلا ينظر الإنسان لعيوب الناس ولا طاعاتهم، بل عليه بنفسه، ويفوض أمره إليه.
قوله: (هو) ﴿ ٱلَّذِي ﴾ أشار بذلك إلى أن الموصول خبر لمحذوف، وهذه الجملة سيقت تحريضاً للتوكل عليه تعالى، فإن من كان قادراً على ذلك، فهو حقيق بالتوكل عليه. قوله: ﴿ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ أي فالأرض في يومين الأحد والاثنين، وما عليهما في يومين الثلاثاء والأربعاء، والسماوات في يومين الخميس والجمعة، وفرغ من آخر ساعة من يوم الجمعة. قوله: (أي في قدرها) دفع بذلك ما يقال: إن الأيام لم تكن موجودة إذ ذاك. قوله: (والعدول عنه) أي عن الخلق في لمحة. قوله: (التثبيت) أي التأني والتؤدة في الأمور، وعدم العجلة فيها، لما ورد: أن العجلة من الشيطان، واستثنى العلماء من ذلك مسائل اقراء الضيف، وتزويج البكر، وتجهيز الميت، والصلاة في أول وقتها، وقضاء الدين، وتعجيل الأوبة للمسافر بعد قضاء حاجته، والتوبة من الذنب. قوله: (هو في اللغة سرير الملك) أي ومنه قوله: (أيكم يأتيني بعرشها) والمراد هو جسم عظيم محيط بالعالم فوق السماوات السبع. قوله: (بدل من ضمير استوى) ويصح أن يكون خبر المحذوف، أو خبر الذي خلق. قوله: (أي استواء يليق به) هذا إشارة لمذهب السلف وهم من كانوا قبل الخمسمائة، ومذهب الخلف تفسير الاستواء بالاستيلاء عليه والتصرف فيه، وهو أحد معاني الاستواء، واستدلوا لذلك بقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق   من غير سيف ودم مهراقوفي قوله: ﴿ ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴾ إشارة إلى أن الله تعالى استوى على العرش بوصف الرحمة فوسع العالمين، وكان سقف الجنة لا بوصف الجلال، وإلا لذاب ولم يبق له أثر. قوله: ﴿ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ﴾ ﴿ بِهِ ﴾ متعلق بخيراً، قدم لرعاية الفاصلة. والمعنى اسأل يا محمد خبيراً بصفاته تعالى، وليس خبيراً بصفاته إلا هو سبحانه وتعالى، ويصح أن يكون الجار والمجرور متعلقاً باسأل، والباء بمعنى عن. والمعنى اسأل عنه خبيراً، أي عالماً بصفاته، يطلعك على ما خفي عليك، والخبير يختلف باختلاف السائل، فإن كان السائل النبي عليه الصلاة والسلام، فالخبير هو الله، وإن كان السائل أصحابه، فالخبير النبي، وإن كان السائل التابعين فالخبير الصحابة عن الله وهكذا، فآل الأمر إلى أن المشايخ العارفين، يفيدون الطالب عن الله، وفيه دليل على وجوب معرفة التوحيد. قوله: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ﴾ أي لكفار مكة. قوله: ﴿ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴾ أي ظناً منهم أن المراد به غيره تعالى، لأنهم كانوا يطلقون الرحمن على مسليمة الكذاب. قوله: (وبالفوقانية والتحتانية) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (والآمر محمد) أي على كل من القراءتين. قوله:(ولا نعرفه) راجع لقوله: ﴿ لِمَا تَأْمُرُنَا ﴾ فكان المناسب ذكره بلصقه. قوله: (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله: (تعاظم) أي انفراد بالعظمة، لأن من كانت هذه أوصافه، فهو منفرد بالكبرياء والعظمة، وتقدم أن لفظة تبارك من الصفات الجامعة، تفسر في كل مقام بما يناسبه.
قوله: ﴿ بُرُوجاً ﴾ جمع برج وهو الأصل القصر العالي، سميت هذه المنازل بروجاً، لأنها للكواكب السبعة السيارة، كالمنازل الرفيعة التي هي كالقصور لسكانها، فالمراد بالبروج الطرق والمنازل للكواكب السيارة. قوله: (الحمل) أي ويسمى بالكبش. قوله: (والأسد) أي ويسمى بالليث أيضاً، وقوله: (والدلو) ويسمى الدلى أيضاً. قوله: (المريخ) بكسر الميم. قوله: (وله) أي من البروج المذكورة، والحاصل أن خمسة من الكواكب السبعة أخذت عشر بروج، كل واحد اثنين واثنان من السبعة وهما الشمس والقمر، كل واحد منهما أخذ واحداً من البروج، وتقدم في سورة الحجر نظم الكواكب والبروج، وتقدم أن زحل نجم في السماء السابعة، والمشتري في السادسة، والمريخ في الخامسة، والشمس في الرابعة، والزهرة في الثالثة، وعطار في الثانية، والقمر في الأولى، وتخصيص الشمس بالأسد لكونه بيتها المنسوب لها، فلا ينافي سيرها في البروج كلها، وكذا غيرها من باقي الكواكب السبعة، وذلك لأن البروج أصلها في سماء الدنيا وتمتمد للسماء السابعة، فالبروج كلها طرق للكواكب السبعة كلها. قوله: (والزهرة) بفتح الهاء. قوله: (وعطارد) بضم العين ممنوع من الصرف منتهى الجموع. قوله: (وزحل) ممنوع من الصرف للعلمية والعدل كعمر، وقد جعل الله تعالى بهذه الكواكب النفع في العالم السفلي كالأكل والشرب، يوجد النفع عندها لا بها، فهي من جملة الأسباب العادية، فمن اعتقد تأثيرها بطبعها فقد كفر، أو بقوة جعلها الله فيها فقد فسق. قوله: ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا ﴾ أي السماء، قوله: (أي نيرات) صفة لموصوف محذوف، أي كواكب نيرات ودخل فيها القمر، فلذلك قال: (وخص القمر) الخ. قوله: (لنوع فضيلة) أي لأن مواقيت العبادة تبنى على الشهور القمرية قال تعالى:﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ ﴾[البقرة: ١٨٩].
قوله: (أي يخلف كل منهما الآخر) أي بأن يقوم مقامه، فكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه. قوله: (بالتشديد) أي فأصله يتذكر قلبت التاء دالاً وأدغمت في الذال. قوله: (والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (كما تقدم) أي في قوله:﴿ لَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ ﴾[الفرقان: ٥٠].
قوله: (ما فاته في أحدهما من خير) الخ، أي فمن فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار ومن فاته بالنهار أدركه بالليل من فرائض وسنن وغيرها. قوله: ﴿ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ﴾ أو مانعة خلو تجوز الجمع.
قوله: ﴿ وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ﴾ الخ، لما ذكر أحوال المنافقين والكفار وما آل إليه أمرهم، ذكر هنا أوصاف المؤمنين الكاملين، ووصفهم بأوصاف ثمانية، بها تنال المراتب العالية، وإضافتهم اليه تعالى للتشريف، وإلا فكل المخلوقات عباد لله، ويقال إضافتهم له من حيث كونه رحماناً، لكونهم مظهر الرحمة وستختص بهم في الآخرة. قوله: (وما بعده) أي من الموصولات الثمانية التي أولها. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ ﴾ وآخرها قوله:﴿ وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا ﴾[الفرقان: ٧٤].
قوله: (إلى أولئك) أي وهي الخبر كما سيذكره هناك. قوله: (غير المعترض فيه) أي وهو قوله: ﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ﴾ إلى قوله: ﴿ مَتاباً ﴾ وهو ثلاث آيات. وحاصل ما ذكره من الأوصاف، أن بعضها متعلق بالخلق، وبعضها متعلق بالخالق. قوله: ﴿ هَوْناً ﴾ هو مصدر هان كقال. قوله: (أي بسكينة) أي تؤدة وتأن. قوله: ﴿ الجَاهِلُونَ ﴾ أي السفهاء. قوله: ﴿ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ أي مع القدرة على الانتقام، فالمراد الإغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم في الكلام، وهذا الخلق من أعظم الأخلاق لما في الحديث:" كاد الحليم أن يكون نبياً ". وفي الحديث:" يبلغ الحليم بحلمه ما لا يبلغه الصائم القائم ". والآثار في ذلك كثيرة. قوله: ﴿ وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ ﴾ شروع في ذكر معاملتهم للخالق أثر معاملتهم للخلق، وخص البيتوتة بالذكر، لأن العبادة بالليل أبعد عن الرياء، وفي الحديث:" لا زال جبريل يوصيني بقيام الليل، حتى علمت أن أمتي لا ينامون "وأخر الليل مراعاة للفواصل. قوله: (أي يصلون بالليل) هذا صادق بصلاة العشاء والصبح في جماعة، ولكن كلما كثرت الصلاة بالليل كان خيراً. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ ﴾ الخ، أي فهم مع حسن المعاملة للخالق وللخلق، ليس عندهم غرور ولا أمن من مكر الله، بل هم خائفون من عذابه، وجلون من هيبته. قوله: ﴿ إِنَّ عَذَابَهَا ﴾ الخ، تعليل لقولهم: ﴿ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ﴾.
قوله: ﴿ كَانَ غَرَاماً ﴾ أي علمه تعالى. قوله: (أي لازماً) أي لزوماً كلياً في حق الكفار، ولزوماً بعده خروج في حق عصاة المؤمنين. قوله: ﴿ إِنَّهَا سَآءَتْ ﴾ الفاعل ضمير مستتر يفسره التمييز المذكور، والمخصوص بالذم محذوف قدره بقوله قوله: ﴿ مُسْتَقَرّاً ﴾ هما بمعنى واحد، وهو الذي يشير اليه المفسر، وقيل مستقراً، لعصاة المؤمنين ومقاماً للكافرين. قوله: (فتح أوله) أي مع كسر التاء وضمها، من باب ضرب ونصر، وقوله: (وضمه) أي مع كسر التاء لا غير، فالقراءات ثلاث سبعيات. قوله: (أي يضيقوا) أي على عيالهم مع يسارهم. قوله: ﴿ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾ هو بمعنى قوله تعالى:﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ ﴾[الإسراء: ٢٩] الآية. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ﴾ الخ، شروع في بيان اجتنابهم للمعاصي، اثر بيان إتيانهم الطاعات. قوله: ﴿ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ﴾ أي لا يقتلون النفس المحرمة بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق، بأن تكون مستحقة للقتل، كالمرتد والزاني المحصن والقاتل. قوله: (أي واحداً من الثلاثة) في بعض النسخ أي ما ذكر، وهو المناسب لقوله: ﴿ يُضَاعَفْ ﴾ لأن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك تضاعف له العقوبة. قوله: (وفي قراءة يضعف) أي فهما قراءتان سبعيتان، وكل منهما مع جزم الفعل ورفعه، فالقراءات أربع سبيعات. قوله: (بدلاً) أي من يلق بدل اشتمال. قوله: ﴿ مُهَاناً ﴾ أي ذليلاً حقيراً.
قوله: ﴿ إِلاَّ مَن تَابَ ﴾ استثناء متصل من الضمير في يلق. قوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ ﴾ اسم الإشارة راجع لقوله من تاب. قوله: ﴿ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ أي يمحو ما سبق منهم من المعاصي بسبب التوبة، ويثبت مكانها الطاعات أو نيتها، وفي القرطبي: ولا يبعد في كلام الله تعالى إذا صحت توبة العبد، أن يصنع مكان كل سيئة حسنة. قوله: ﴿ وَمَن تَابَ ﴾ أي عن المعاصي بتركها والندم عليها. قوله: ﴿ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ أي فعل الطاعات ولو بالنية، كمن فجأه الموت عقب التوبة. قوله: (فيجازيه خيراً) دفع بذلك ما يتوهم اتحاد الشرط والجزاء كأنه قال: من تاب وعمل صالحاً، فإنه يرجع إلى جزاء الله في الآخرة الجزاء الحسن. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ ﴾ أي لا يحضرونه أو لا يشهدون به. قوله: ﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ ﴾ أي من غير تقصد منهم له. قوله: (وغيره) أي وهو الفعل القبيح. قوله: ﴿ مَرُّوا كِراماً ﴾ أي مكرمين أنفسهم بالغض عن الفواحش. قوله: (بل خروا سامعين) الخ، أشار بذلك إلى أن النفي مسلط على القيد فقط وهو قوله: ﴿ صُمّاً وَعُمْيَاناً ﴾ والمعنى إذا قرئ عليهم القرآن، ذكروا آخرتهم ومعادهم ولم يتغافلوا، حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع ولا يبصرز قوله: ﴿ مِنْ أَزْوَاجِنَا ﴾ ﴿ مِنْ ﴾ للبيان. قوله: (بالجمع والإفراد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ أي ما يحصل به سرورها. قوله: ﴿ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾ أي اجعلنا هداة يقتدى بنا في مواسم الخيرات والطاعات، بأن تصفي بواطننا من غيرك، حتى يكون حالنا سبباً في هداية الخلق، ولذا قيل: حال رجل في ألف رجل، أنفع من وعظ ألف رجل في رجل ولفظ إمام يستوي فيه الجمع وغيره، فالمطابقة حاصلة. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ اسم الإشارة عائد على المتصفين بالأوصاف الثمانية. قوله: ﴿ ٱلْغُرْفَةَ ﴾ اسم جنس أريد به الجمع، والغرفة أعلى منازل الجنة وأفضلها، كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا. قوله: (بالتشديد) أي ومعناه يعطون، والفاعل الله، وقوله: (والتخفيف) أي فمعناه يجدون، والقرءتان سبعيتان. قوله: ﴿ تَحِيَّةً وَسَلاَماً ﴾ جمع بينهما لأن المراد بالتحية الإكرام بالهدايا والتحف، وبالسلام سلامه تعالى عليهم بالقول، أو سلام الملائكة، أو سلام بعض على بعض. قوله: (الملائكة) أي أو من الله أو من بعضهم لبعض، والمعنى تحييهم الملائكة ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة من الآفات، فتحصل أن قوله: ﴿ تَحِيَّةً وَسَلاَماً ﴾ قيل هما بمعنى واحد، وجمع بينهما لاختلاف لفظمها، وقيل متخالفان، فالتحية الإكرام بالهدايا والتحف، والسلام الدعاء، إما من الملائكة، أو من الله، أو من بعضهم لبعض.
قوله: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي لا يموتون ولا يخرجون. قوله: (وأولئك) أي الواقع مبتدأ، وقوله: (وما بعده) أي قوله: ﴿ يُجْزَوْنَ ﴾ الواقع خبره. قوله: ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي ﴾ الخ، لما ذكر أوصاف المؤمنين الكاملين، أفاد أن المدار على تلك الأوصاف التي بها العبادة لله، فلولا العبادة الواقعة من الخلق، لم يكترث بهم ولم يعتد بهم عنده، فإن الإنسان خلق ليعرف ربه ويبعده، وإلا فهو شبيه بالبهائم، قال تعالى:﴿ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾[الذاريات: ٥٦] ففي العبادة يتنافس المتنافسون، وبها يفوز الفائزون. قوله: ﴿ لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ ﴾ (إياه) أشار بذلك إلى أن المصدر مضاف لفاعله. قوله: ﴿ فَسَوْفَ يَكُونُ ﴾ (العذاب) أي الذي دل عليه قوله: ﴿ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ﴾.
قوله: ﴿ لِزَاماً ﴾ مصدر لازم كقاتل قتالاً، والمراد هنا اسم الفاعل، وفي الآية تهديد لكفار مكة. قوله: (فقتل منهم يوم بدر سبعون) الخ، روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال: خمس قد مضين، الدخان واللزام والروم البطشة والقمر، وقوله خمس أي خمس علامات دالة على قيام الساعة قد وقعن بالفعل، فالدخان هو قوله تعالى:﴿ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ﴾[الدخان: ١٠] والمراد به شيء يشبه الدخان، وقد نزل بقريش من شدة الجوع، صار الواحد يرى كأنه بينه وبين السماء دخاناً، والقمر في قوله تعالى:﴿ ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ ﴾[القمر: ١] والروم في قوله تعالى:﴿ غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ ﴾[الروم: ٢-٣] والبطشة في قوله تعالى:﴿ يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ ﴾[الدخان: ١٦] وهي القتل يوم بدر، واللزام هو الأسر يومها. قوله: (دل عليه ما قبلها) أي وهو قوله: ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي ﴾ والتقدير لولا دعاؤكم، أي طلبكم من الله رفع الشدائد، وأنتم تتعلقون بأستار الكعبة، ما يعبأ بكم، أي ما يكترث بكم فلا يرفعها عنكم، وقوله: ﴿ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ﴾ أي دمتم على تكذيبه بعد إخراجه من بينكم، فسوف يكون العذاب لازماً لكم، لا يرد عنكم، ولا يقبل منكم دعاء فتدبر.
Icon