ﰡ
ثم ذكرت قصص بعض الأنبياء السابقين وتكذيب أقوامهم لهم، وما حلّ بهم من نكال ودمار وهلاك بسبب تكذيبهم رسل الله، كقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب الرّس، وقوم لوط، وأمثالهم من الكافرين الطغاة.
وأوردت السورة أدلة على قدرة الله ووحدانيته، مما في الكون البديع من عجائب صنعه، وما في الأرض من آثار خلقه في الإنسان، والبحر، وخلق السموات والأرض في ستة أيام، وإنزال الأمطار وإرسال الرياح مبشرات بالمطر، وجعل البروج في السماء، وتعاقب الليل والنهار.
ثم ختمت السورة ببيان صفات عباد الرحمن المخلصين الموقنين، وما يتحلون به من أخلاق سامية وآداب رضية، تجعلهم يستحقون بها إكرام الله تعالى وثوابه الجزيل في جنات النعيم.
إنزال القرآن ووحدانية الله تعالى
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣)الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ.. بدل من الَّذِي الاول، أو مدح مرفوع أو منصوب.
البلاغة:
عَلى عَبْدِهِ إضافة عبد إلى الله للتشريف والتكريم، دون ذكر اسم النبي.
لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً أي وبشيرا، واكتفى بأحد الوصفين لبيان حال المعاندين ومناسبة الكلام مع الكفار.
يَخْلُقُونَ ويَخْلُقُونَ جناس ناقص لتغاير الشكل فقط.
ضَرًّا ونَفْعاً مَوْتاً وحَياةً بين كلّ منهما طباق.
المفردات اللغوية:
تَبارَكَ تعالى وتعاظم وتكاثر خيره، من البركة: وهي كثرة الخير، ففي إنزال القرآن خير كثير من الله لعباده، ودلالة على تعاليه عنه وعلى كل شيء في صفاته وأفعاله. الْفُرْقانَ القرآن لأنه فرق بين الحق والباطل، وبين المحق والمبطل بإعجازه، أو لأنه فرّق وفصل بعضه عن بعض في الإنزال كما قال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ [الإسراء ١٧/ ١٠٦].
عَبْدِهِ أي رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، ووصف بأنه عبد تشريفا له بكونه في أكمل مراتب العبودية، وتنبيها إلى أن الرسول عبد للمرسل، وهو ردّ على النصارى الذين يدّعون ألوهية عيسى عليه السلام. لِيَكُونَ العبد أو الفرقان. لِلْعالَمِينَ للجن والأنس دون الملائكة.
نَذِيراً منذرا مخوفا من عذاب الله تعالى.
وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كزعم النصارى. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ كقول الثنوية والمشركين. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي خلق كل ما من شأنه أن يخلق. ويلاحظ أنه تعالى في أول الآية أثبت الملك له مطلقا، ثم نفى ما يقوم مقامه وما يقاومه فيه، ثم نبّه بقوله: وَخَلَقَ على ما يدل عليه، والخلق: إحداث مراعى فيه التقدير حسب إرادته، كخلقة الإنسان من مواد مخصوصة وصور أشكال معينة. فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً سواه تسوية، وهيأه لما أراد منه من الخصائص والأفعال، كتهيئة الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير، واستخراج الصنائع المتنوعة، ومزاولة الأعمال المختلفة وغير ذلك.
التفسير والبيان:
افتتح الله تعالى سورة الفرقان بالكلام عن إثبات الصانع ووصفه بالجلال والكمال، وتنزهه عن النقصان والمحال، فقال:
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً أي أن الله تعالى يحمد نفسه الكريمة على ما نزّله على رسوله صلّى الله عليه وسلم من القرآن العظيم، لينذر به الثقلين: الجن والإنس ويخوفه من بأسه أو عذابه وعقابه. وهذا دليل قاطع على عموم الرسالة الإسلامية للناس قاطبة وللجن أيضا. ومعنى:
تَبارَكَ: تعالى وتعاظم وكثر خيره، ولا خير، أكثر ولا أفضل من إنزال القرآن المجيد دستور الحياة الإنسانية، المشتمل على التبشير والإنذار، تبشير الطائعين بالجنة، والمخالفين المعاندين المعارضين بالنار. وإنما ذكر الإنذار فقط ولم يذكر التبشير، مع أن مهمة الرسول تشملهما، لمناسبة الكلام مع الكفار المعارضين الذين اتخذوا لله ولدا، وجعلوا معه شريكا. والعبد: هو محمد رسول الله، والْفُرْقانَ: القرآن الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والحلال والحرام، وفرّقه في الإنزال منجما حسب المناسبات.
ونظير الآية قوله تعالى في فاتحة سورة الكهف: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً، لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ، وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً [١- ٢] وتكرار كلمة عَبْدِهِ في الآيتين مدح للنبي صلّى الله عليه وسلم وثناء عليه للإشارة إلى كمال عبوديته في
ثم وصف الله تعالى ذاته بأربع صفات من صفات الكبرياء، فقال:
١- الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أن المالك الحقيقي لجميع ما في السموات والأرض هو الله تعالى، والمالك: له السلطان المطلق في التصرف في ملكه كما يشاء، وله القدرة التامة على ما في ملكه إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة، وأمرا ونهيا على وفق الحكمة والمصلحة.
وهذا دليل على وجود الله تعالى، لأنه لا طريق إلى إثباته إلا ببيان احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه في أصل وجودها، وزمان حدوثها، وأثناء بقائها، وتصرفه تعالى فيها كيف يشاء، والحاجة إلى الموجد المتصرف يوجب وجوده، لذا قدمت هذه الصفة على سائر الصفات.
٢- وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً أي لم يكن له ولد إطلاقا، خلافا لما زعم اليهود والنصارى ومشركو العرب من جعل عزير والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله، كما حكى القرآن عنهم: وَقالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٣٠] فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟! [الصافات ٣٧/ ١٤٩- ١٥٣].
٣- وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أي ليس لله في ملكه وسلطانه شريك، فهو المتفرد بالألوهية، المستحق وحده للعبادة والعبودية، وإذا عرف
وهذا ردّ على الثنوية القائلين بوجود إلهين اثنين للعالم: وهما النور والظلمة، وعلى عبدة النجوم والكواكب من الصابئة، وعلى عبدة الأوثان من مشركي العرب الذين كانوا يقولون في تلبية الحج: «لبّيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك».
والصفتان المتقدمتان نزّه الله تعالى نفسه فيهما عن الولد وعن الشريك.
٤- وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً أي أوجد كل شيء مما سواه، وأحدثه إحداثا راعى فيه التقدير بقدر معين والتسوية بشكل محدد، وهيأه لما يصلح له من الخصائص والأفعال اللائقة به، فالإنسان مثلا خلقه الله بشكل مقدر مسوّى في أحسن تقويم، وأوجد فيه من الحواس والطاقات والإمكانات للإدراك والفهم، والنظر والتدبير، واستنباط الصنائع، ومزاولة الأعمال المختلفة، وكذلك الحيوان والجماد جاء به على خلقة مستوية مقدرة، مطابقة لما يراه من الحكمة والمصلحة والتدبير، ولما قدر له غير منافر أو متجاف عنه. والخلاصة: أنه قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد.
وفسّر ابن كثير الجملة الأخيرة بأن كل شيء مخلوق مربوب لله، والله هو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره.
وبعد أن وصف الله تعالى نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو، أردف ذلك بتزييف مزاعم عبدة الأوثان فقال:
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.. إلى قوله: وَلا نُشُوراً والمعنى أن تلك الآلهة المزعومة لا تستحق الألوهية لنقصانها من وجوه أربعة هي.
ب- أنها مخلوقة، والمخلوق محتاج، والإله يجب أن يكون غنيا عن غيره.
ولما اعتقد المشركون في أصنامهم أنها تضرّ وتنفع عبّر عنها بقوله: وَهُمْ يُخْلَقُونَ كما يعبر عن العقلاء.
ج- أنها لا تملك لأنفسها ضرا ولا نفعا، أي لا دفع ضرر ولا جلب نفع، فلا تملك ذلك لغيرها، ومن لا يملك لنفسه ولا لغيره النفع ودفع الضرر لا فائدة في عبادته.
د- أنها لا تملك موتا ولا حياة ولا نشورا، أي لا تقدر على الإماتة والإحياء المبتدأ والمعاد في زماني التكليف والجزاء، ومن كان كذلك كيف يسمى إلها؟
بل ذلك كله مرجعه إلى الله عزّ وجلّ الذي هو يحيي ويميت، وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة، كما قال سبحانه: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان ٣١/ ٢٨].
والخلاصة: أن الله هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، لا إله غيره، ولا ربّ سواه، ولا تنبغي العبادة إلا له، لأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وأما عبدة الأصنام والمشركون فقد عبدوا غير الخالق، الذي لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا، ولا يقبل بهذا عاقل متزن، أو عالم متأمل.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يلي:
١- الله تعالى هو الإله الموجود الواحد الأحد، الخالق المالك لكل شيء.
٢- الله تعالى مصدر الخير الكثير الفياض على عباده، ومن أتمّ فضائله
٣- إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وتحديد مهمته في الإنذار والتبشير، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار.
٤- الرسالة الإسلامية رسالة شاملة للثقلين: الجن والإنس، عالمية الهدف، موجهة لكل أبناء البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، لأنها التي تمثل الدين الحق، وخاتمة الرسالات الإلهية كما
قال صلّى الله عليه وسلم فيما ورد في الصحيحين والنسائي عن جابر: «بعثت إلى الأحمر والأسود»
وقال فيما رواه أحمد عن علي: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي» وذكر منها: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصّة، وبعثت إلى الناس عامة»
فالنبي صلّى الله عليه وسلم قد كان رسولا إلى العالمين: الإنس والجن، ونذيرا لهما، وأنه خاتم الأنبياء، ولم يكن غيره عام الرسالة إلا نوح عليه السلام، فإنه عمّ برسالته جميع الإنس بعد الطوفان، بحكم الواقع لأنه بدأ به الخلق.
٥- عظم الله تعالى نفسه بأربع صفات من صفات الكبرياء وهي أنه مالك السموات والأرض، ولم يتخذ ولدا، فنزّه نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة أولاد الله أي بناته، وعما قالت اليهود: عزير ابن الله، وعما قالت النصارى:
المسيح ابن الله، تعالى الله، وأنه لا شريك له في الملك لا كما قال عبدة الأوثان وخلق كل الأشياء لا كما قال المجوس والثّنوية: إن الشيطان أو الظلمة يخلق بعض الأشياء.
٦- دلّ قوله سبحانه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ على أنه تعالى خالق لأعمال العباد.
٧- بالرغم من هذه الأدلة على وحدانية الله وقدرته اتخذ المشركون آلهة لا تتصف بأي صفة من صفات الله تعالى، بل إنها أعجز من البشر الذين عبدوها مع الله، فهي مخلوقة غير خالقة، ولا تدفع ضررا ولا تجلب نفعا لنفسها ولمن
مطاعن المشركين في القرآن
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤ الى ٦]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦)
الإعراب:
وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أساطير: خبر مبتدأ محذوف، أي هذه أساطير الأولين، والأساطير: جمع أسطورة، أو أسطار: وهو ما سطره المتقدمون.
المفردات اللغوية:
إِنْ هَذا ما القرآن. إِلَّا إِفْكٌ كذب واختلاق. افْتَراهُ اختلقه محمد. قَوْمٌ آخَرُونَ جماعة من اليهود، فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم، وهو يعبر عنه بعبارته، وقيل: هم جبر ويسار وعدّاس. ظُلْماً الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وهو هنا جعل الكلام المعجز إفكا مختلفا متلقفا من اليهود. وَزُوراً الزور: الكذب والقول الباطل البعيد عن الحق، وهو هنا نسبة ما هو بريء منه إليه. والمعنى: جاؤوا بالأمرين: الظلم والزور، أي الكفر والكذب.
وَقالُوا أيضا: هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أكاذيب المتقدمين التي سطروها وهو جمع أسطورة أو أسطار. اكْتَتَبَها انتسخها من ذلك القوم، بأن كتبها بنفسه أو استكتبها وأمر بكتابتها. تُمْلى عَلَيْهِ تقرأ عليه ليحفظها. بُكْرَةً وَأَصِيلًا غدوة وعشية، أو صباحا ومساء، والمراد: دائما.
سبب النزول:
قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث، فهو الذي قال هذا القول. وعنى بقوله تعالى: وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ عدّاس مولى حويطب بن عبد العزّى، ويسار غلام عامر بن الحضرمي، وجبر مولى عامر أو أبو فكيهة الرومي، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب، وكانوا يقرءون التوراة ويحدثون أحاديث منها، فلما أسلموا، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يتعهدهم، قال النضر ما قال. فرد الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً.
المناسبة:
بعد أن تكلم سبحانه أولا في التوحيد، وثانيا في الرد على عبدة الأوثان، تكلم ثالثا في النبوة، وذكر مطاعن المشركين: طعنهم في القرآن، وطعنهم في نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم الذي نزل عليه القرآن.
التفسير والبيان:
ذكر الله تعالى في هذه الآيات شبهتين من شبهات المشركين الواهية التي تدل على سخافة عقولهم وجهلهم، فقال:
الشبهة الأولى:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ أي وقال هؤلاء الجهلة من الكفار: ما هذا القرآن إلا كذب واختلاق، اختلقه
فأجابهم تعالى عن هذه الشبهة بقوله:
فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً أي فقد افتروا هم قولا باطلا، وهم يعلمون أنه باطل، ويعرفون كذب أنفسهم فيما زعموه، فكان قولهم كفرا وظلما بيّنا في غير موضعه، وكذبا مفترى على ربهم، إذ جعلوا الكلام المعجز وهو هذا القرآن إفكا مفترى من قبل البشر. وهذه غاية حجة الضعيف، فإنه إذا لم يجد جوابا مقنعا، بادر إلى الإنكار الذي لا دليل عليه، والتكذيب الذي لا مستند له، فلو صح ما قالوا فلم لم يأتوا بمثله، واستعانوا كما استعان محمد صلّى الله عليه وسلم بغيره على وفق زعمهم، فإعجاز القرآن دليل كاف وحده للرد عليهم وإبطال مفترياتهم، وهم أهل الفصاحة والبيان.
الشبهة الثانية:
وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي وقال الكفار المشركون أيضا: إن هذا القرآن أساطير الأولين أي أكاذيب المتقدمين، وأحاديث السابقين الذين سطروها في كتبهم كأحاديث رستم واسفنديار، انتسخها محمد صلّى الله عليه وسلم بوساطة أهل الكتاب يعني عامرا ويسارا، وجبرا أو أبا فكيهة مولى ابن الحضرمي، فهي تقرأ عليه صباح مساء، أي دائما، وخفية ليحفظها، إذ هو أمي لا يقرأ ولا يكتب. وهذا محض افتراء آخر، وتضليل وبعد عن الحق ومكابرة، فقد عرفوا صدق محمد صلّى الله عليه وسلم، وأمانته وسلوكه، وبعده عن الكذب، مدة أربعين عاما قبل البعثة، حتى لقّبوه بالأمين، لما يعلمون من صدقه واستقامته، وكان أميا لا يعرف شيئا من الكتابة، لا في أول عمره ولا في آخره، فلما أكرمه الله بالرسالة عادوه واتهموه بما هو بريء منه، ووصفوا القرآن
ثم أجابهم الله تعالى بقوله:
قُلْ: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي قل لهم يا محمد النبي: أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين بصدق مطابق للواقع الله الذي يعلم غيب السموات والأرض، ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر.
إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أي إن هذا القرآن إنما نزل رحمة بالعباد، فلا يكون سببا لتعجيل العقاب، لذا لم يعاجلكم بالعقوبة رحمة بكم لأنه تعالى غفور رحيم، يمهل ولا يعجل، لتتوبوا وتقلعوا عن الكفر والشرك. فهذه دعوة لهم إلى التوبة والإنابة والإقبال على ساحة الإسلام والهدى، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة، وأن حلمه عظيم، فمن تاب تاب الله عليه، بالرغم مما صدر منهم من افتراء وكذب، وكفر وعناد، كما قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة ٥/ ٧٣- ٧٤] وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ، وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ [البروج ٨٥/ ١٠] قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة.
وهذا دليل على أن التوبة الصادقة تسقط الإثم والذنب وتجبّ ما قبلها من الذنوب، فهي مغفورة كرما من الله تعالى، وفضلا ورحمة.
تضمنت الآيات حكاية شبهتين للمشركين وجوابين عنهما، أما الشبهتان فهما: أن القرآن كذب مختلق اختلقه محمد صلّى الله عليه وسلم وأعانه عليه قوم من اليهود وأن القرآن أساطير أي أكاذيب وحكايات المتقدمين، فهي تلقى على محمد، وتقرأ في أول النهار وآخره، أي دائما، حتى تحفظ.
والرد على الشبهة الأولى: أنهم هم الذين افتروا هذا القول الباطل وهم يعلمون بطلانه، لا أن القرآن مفترى. والرد على الشبهة الثانية أن منزل القرآن هو الله الذي يعلم السر والغيب والجهر، فلا يحتاج إلى معلّم، ولو كان القرآن مأخوذا من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد عليها، وقد جاء بفنون تخرج عنها، فليس مأخوذا منها، وأيضا لو كان مأخوذا من هؤلاء، لتمكّن المشركون منه أيضا، كما تمكن محمد صلّى الله عليه وسلم، فهلا عارضوه؟ فبطل اعتراضهم من كل وجه.
وبيان هذا الجواب: إن الله تحداهم بالمعارضة، وظهر عجزهم عنها ولو كان صلّى الله عليه وسلم أتى بالقرآن مستعينا بأحد، لسهل عليهم الاستعانة بآخرين، فيأتون بمثل هذا القرآن، فلما عجزوا عنه، ثبت أنه وحي الله وكلامه، لهذا قال: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ أي أن تلك الفصاحة القرآنية لا تتأتى إلا من العالم بكل المعلومات، وأن القرآن مشتمل على الإخبار عن المغيبات، وذلك لا يتأتى إلا من كامل العلم، وأن القرآن مبرأ عن النقص والتعارض، وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات، كما قال سبحانه: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء ٤/ ٨٢] والقرآن مشتمل على أحكام منسجمة مع مصالح العالم ونظام الناس، وهو لا يكون إلا من العالم الواسع العلم، وكذلك القرآن مشتمل على أنواع العلوم، وهو لا يتأتى إلا من العليم الخبير.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٧ الى ١٠]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِأُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠)
الإعراب:
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً فَيَكُونَ منصوب لأنه جواب التحضيض بالفاء، بتقدير «أن».
أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ معطوف على يُلْقى وكلاهما داخل في التحضيض، وليس بجواب له.
وَيَجْعَلْ معطوف على جواب الشرط وهو «جعل» وموضعه الجزم، وحسن أن يعطف المستقبل على الماضي لفظا لأنه في معنى المستقبل لأن «إن» الشرطية تنقل الفعل الماضي إلى الاستقبال. وقرئ بالرفع على أنه مستأنف، تقديره: وهو يجعل لك.
البلاغة:
مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ استفهام يراد به التهكم والتحقير.
وَقالَ الظَّالِمُونَ وضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا عليهم ظلم ما قالوه.
المفردات اللغوية:
مالِ هذَا الرَّسُولِ أي ما لهذا يزعم الرسالة؟ وفيه استهانة وتهكم. يَأْكُلُ الطَّعامَ كما
هلا. أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً يصدقه، فنعلم صدقه بتصديق الملك. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ من السماء ينفقه ويستغني به عن طلب المعاش. أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ بستان، أي إن لم يلق إليه كنز، فلا أقل من أن يكون له بستان، كما للدهاقين والمياسير، فيعيش من ريعه وغلته، وهذا منهم على سبيل التنزل. يَأْكُلُ مِنْها أي من أثمارها، فيكتفي بها ويتميز علينا بها. وقرئ نأكل أي نحن، وهذا كله تفكير الماديين. وَقالَ الظَّالِمُونَ الكافرون. إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون. إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي سحر فغلب على عقله واختل تفكيره. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي قالوا فيك الأقوال العجيبة الشاذة التي جرت مجرى الأمثال، واخترعوا لك الأحوال النادرة، كالمسحور والمحتاج إلى ما ينفقه، وإلى ملك يعاونه في الأمر. فَضَلُّوا بذلك عن الهدى وعن الطريق الموصل إلى معرفة خواص النبي صلّى الله عليه وسلم، والمميز بينه وبين المتنبئ، فخبطوا خبط عشواء وقوله: ضلوا: أي بقوا متحيرين في ضلالهم.
فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا طريقا إلى الرشد والهدى، أو إلى القدح في نبوتك. قُصُوراً جمع قصر وهو كل بيت مشيد بالحجارة ونحوها، أما ما يتخذ من الصوف أو الشعر فهو البيت في عرف العرب.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه وابن جرير وابن أبي حاتم عن خيثمة قال:
قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيناك مفاتيح الأرض وخزائنها، لا ينقصك ذلك عندنا شيئا في الآخرة، وإن شئت جمعتهما لك في الآخرة، فقال: لا، بل اجمعها لي في الآخرة، فنزلت: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ الآية. أي أن عرض الخزائن من الله. وجاء في السيرة النبوية أن عروض الإغراء بالمال والغنى، والسيادة والجاه، والملك والسلطان كانت من زعماء قريش.
ابعثوا إلى محمد، وكلّموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك، قال: فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، إنا بعثنا إليك لنعذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب به الشرف، فنحن نسوّدك، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك؟.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلّغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فسل لربك، وسل لنفسك أن يبعث معك ملكا يصدّقك فيما تقول، ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة، ويغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك، إن كنت رسولا كما تزعم.
فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فأنزل الله في ذلك هذه الآية.
بعد بيان شبهتي المشركين في القرآن، أبان الله تعالى شبهة ثالثة في النبي المنزل عليه القرآن، وهو الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم، ثم أبطل تعالى تلك الشبه، وكشف سخفها وزيفها وعدم صلاحيتها للطعن في النبي صلّى الله عليه وسلم، فهي في غاية السخافة والسقوط، ولا دليل عليها، وإنما هي تعللات تشير إلى تعنت الكفار وعنادهم وتكذيبهم للحق بلا حجة.
التفسير والبيان:
ذكر المشركون خمس صفات للنبي صلّى الله عليه وسلم تتعارض مع النبوة في زعمهم وهي:
١- وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ أي قال المشركون: لا ميزة لهذا النبي الذي يدعي الرسالة، فهو يأكل كما نأكل، ويشرب كما نشرب، ويحتاج إلى ذلك كما نحتاج إليه، يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش.
٢- وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أي يتردد فيها وإليها، طلبا للتكسب والتجارة وابتغاء للرزق والمعيشة، فمن أين له الفضل علينا، وهو مثلنا في هذه الأمور؟
وهذا منهم تصور مادي محض، وموازنة ساذجة، فإن الرسل لم يمتازوا بصفات حسية مادية، فهم في هذا كغيرهم من البشر، وإنما امتازوا بقيم معنوية، ومكاسب أدبية، وطهارة نفسية، لذا قال تعالى: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف ١٨/ ١١٠].
٣-أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أي هلا أنزل إليه ملك من عند الله، فيكون له شاهدا على صدق ما يدعيه، ويرد على من خالفه، كما
٤- أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أي وهلا ألقي عليه كنز من السماء، فينفق منه، فلا يحتاج إلى التردد في الأسواق لطلب المعاش.
٥- أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها أي إن لم يكن له كنز فلا أقل من أن يكون كأحد الدهاقين أو المياسير، له بستان يأكل منه، ويعيش من غلته وثمرته.
قال الزمخشري: إنهم يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك، حتى يتساندا في الإنذار والتخويف، ثم نزلوا أيضا فقالوا: وإن لم يكن مرفودا بملك، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر به، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق. «١»
وهذا تصور مادي محض، وقياس على أحوال أصحاب السلطة والنفوذ الدنيوي، وتقدير منهم أن الرسالة أمر آخر فوق البشرية، وما فهموا ولا أدركوا أن الرسول بشر أوحي إليه من عند ربه.
وبعد أن انتقصوا الرسول صلّى الله عليه وسلم بصفات أهل الدنيا، وعيروه بها، نفوا عنه صفة العقل، وهي شبهة أخرى أو صفة سادسة، فقالوا:
٦- وَقالَ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي وقال الكافرون: ما تتبعون إلا رجلا سحر فاختل عقله، فهو لا يدرك ما يقول، فكيف يطاع فيما يأمر؟.
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ، فَضَلُّوا، فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أي انظر متعجبا أيها الرسول، كيف قالوا فيك تلك الأقوال، واخترعوا لك تلك الصفات، والأحوال النادرة، وقذفوك وافتروا عليك بقولهم: ساحر مسحور، مجنون، كذاب، شاعر، وكلها أقوال باطلة، وأوصاف مفتراة، لا يصدق بها من له أدنى فهم وعقل، فصاروا متحيرين ضلّالا عن طريق الهدى والحق، فلا يجدون طريقا إليه.
وهذا جواب إجمالي، أردفه بجواب خاص عن طلب البستان والكنز، فقال: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً أي تكاثر خير ربك، فهو إن شاء وهب لك في الدنيا خيرا مما اقترحوا أو طلبوا، وهو أن يعجل لك مثلما وعدك به في الآخرة من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، والقصور الشامخة النادرة، وأن يؤتيك خيرا مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن. ولكن الله تعالى ادخر لك العطاء في دار الآخرة الخالدة، لا في الدنيا الزائلة، حتى لا تشتغل بالدنيا عن الدين، وأداء مهمة تبليغ الرسالة، ولأن ما عند الله خير وأبقى.
قال خيثمة: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها، ما لم نعطه نبيا قبلك، ولا نعطي أحدا من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله، فقال: «اجمعوها لي في الآخرة» فأنزل الله عز وجل في ذلك:
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- المقارنة البناءة المثمرة بين التفكير المادي الذي يؤثر الدنيا، والتفكير
٢- إن دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب العيش، وكان صلّى الله عليه وسلم يدخلها لحاجته، ولتذكير الناس بأمر الله ودعوته، وعرض نفسه فيها على القبائل، لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق.
وقد تاجر الصحابة وبخاصة المهاجرون في الأسواق، كما خرّج البخاري عن أبي هريرة: «وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصّفق «١» في الأسواق».
٣- من لم يتأثر بعقل مجرد وقلب طاهر بأقوال النبي صلّى الله عليه وسلم وبرسالته لذاتها، لما فيها من هداية إلى الحق والخير والتوحيد، لم تنفعه إنذارات الملائكة، فما وراء الإنذار إلا العذاب.
٤- إن الاتهامات الرخيصة والأوصاف المرذولة زائفة باطلة عند أهل الحكمة والاتزان، والحصافة والعقل. فمن يصدّق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي عرف بالفطنة ورجاحة الرأي والعقل وسداد التفكير ساحر مسحور، وشاعر مأفون، ومجنون مختل العقل؟ إن الواقع خير شاهد على تكذيب تلك المزاعم والافتراءات. ولا تحتاج إلى جواب إلا كما قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ.
٥- إن فضل الله وخيره ونعمه كثيرة لا تعد ولا تحصى، وقدرته شاملة لكل شيء، إذا أراد شيئا قال له: كُنْ فَيَكُونُ لكنه تعالى لا يريد لأنبيائه وأوليائه أن يكونوا أهل غنى وثروة ودنيا، فأهل الغنى والثروة تنتهي سمعتهم بموتهم، ولا يبقى لهم ذكر أو شهرة، وإنما أراد الله تعالى لأنبيائه تخليد آثارهم
[الأعلى ٨٧/ ١٦- ١٧].
يروى أن هذه الآية: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم «١»
وفي الخبر: إن رضوان لما نزل سلّم على النبي صلّى الله عليه وسلم ثم قال: يا محمد، ربّ العزة يقرئك السلام، وهذا سفط «٢» - فإذا سفط من نور يتلألأ- يقول لك ربك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا، مع أنه لا ينقص مالك في الآخرة مثل جناح بعوضة فنظر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير له فضرب جبريل بيده الأرض، يشير أن تواضع، فقال: يا رضوان، لا حاجة لي فيها، الفقر أحب إليّ، وأن أكون عبدا صابرا شكورا، فقال رضوان: أصبت، الله لك.
٦- دل قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ.. على أنه سبحانه يعطي العباد على حسب المصالح، فيرزق بعضهم نعمة المال، وآخر نعمة العلم، وغيرهم نعمة العقل والفهم، وهو فعال لما يريد.
(٢) السفط: المحفظة أو الوعاء المخصص لوضع الطيب ونحوه من أدوات النساء.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١١ الى ١٦]
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥)
لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦)
الإعراب:
سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، تقديره: سمعوا لها صوت تغيظ وزفير. أُلْقُوا مِنْها مَكاناً مِنْها حال من مَكاناً لأنه في الأصل صفة له.
قُلْ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ؟ ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من السعير، وجاء التفضيل بينهما على حد قولهم: الشقاء أحب إليك أم السعادة. وأفعل التفضيل يقتضي الاشتراك بين الشيئين في الأصل، وإن اختلفا في الوصف، فلا يجوز القول: العسل أحلى من الخلّ، لعدم الاشتراك في أصل الحلاوة، وأجازه الكوفيون.
لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ خالِدِينَ حال من ضمير. لَهُمْ أو من ضمير يَشاؤُنَ.
البلاغة:
سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً استعارة تمثيلية، شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره، لما فيهما من هياج واضطرام، وهو صوت يسمع من جوفه.
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ القيامة، والمعنى: ليس ما ذكروه من الشبهة في وصف الرسول صلّى الله عليه وسلم بما زعموا من الأوصاف الخمسة أو الستة يصلح أن يكون شبهة ذات بال أو أهمية، بل الذي حملهم على تقولهم وافترائهم تكذيبهم بالساعة، وبما فيها من ثواب وعقاب لان من يخاف الآخرة ينظر ويفكر، ولا يتورط بالتكذيب والافتراء وَأَعْتَدْنا هيأنا. سَعِيراً نارا مسعّرة شديدة الاشتعال. رَأَتْهُمْ إذا كانت بمرأى منهم،
كقوله صلّى الله عليه وسلم عن المسلمين والمشركين فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن جرير: «لا تتراءى ناراهما»
أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى عن الأخرى، على سبيل المجاز. مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ هو أقصى ما يمكن أن يرى منه. سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً أي سمعوا لها صوت تغيظ وزفير، والتغيظ: شدة الغضب، والزفير: هو النّفس الخارج من الإنسان، ضد الشهيق.
مِنْها مَكاناً أي في مكان، ومنها: بيان تقدم، فصار حالا. ضَيِّقاً بأن يضيق عليهم، ووصف بالضيق لزيادة العذاب، فإن الكرب مع الضيق، والانشراح مع السعة، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض مُقَرَّنِينَ مصفدين، قد قرنت (جمعت) أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال والسلاسل. هُنالِكَ في ذلك المكان. ثُبُوراً أي هلاكا، والمعنى:
أنهم يتمنون الهلاك ويطلبونه قائلين: يا ثبوراه تعال. فهذا حينك. وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً أي اطلبوا أنواعا من الهلاك لأن عذابكم أنواع كثيرة، كل نوع منها ثبور، لشدته، أو لأنه يتجدد، كقوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النساء ٤/ ٥٦].
أَذلِكَ المذكور من الوعيد والعذاب وصفة النار. والاستفهام والتفضيل والترديد في قوله: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ للتقريع مع التهكم. وإضافة الجنة إلى الخلد للمدح، أو الدلالة على خلودها، وتمييزها عن جنات الدنيا. وُعِدَ الْمُتَّقُونَ وعدها المتقون وهم الذين يتقون الكفر والتكذيب كانَتْ لَهُمْ في علم الله أو في اللوح المحفوظ. جَزاءً ثوابا على أعمالهم بوعد جازم من الله. وَمَصِيراً مرجعا ينقلبون إليه. ما يَشاؤُنَ ما يشاءونه من النعيم، وفيه تنبيه على ان كل المرادات والرغبات لا تحصل إلا في الجنة. وَعْداً مَسْؤُلًا أي كان ذلك موعودا، حقيقا بأن يسأل ويطلب، ويسأله الذين وعدوا به، كما قال تعالى: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمران ٣/ ١٩٤] أو تسأله الملائكة لهم، كما قال سبحانه: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ [غافر ٤٠/ ٨].
بعد بيان الشبهات الثلاث المتقدمة للمشركين وهي: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ الآية، وبعد الجواب عن الشبهة الثالثة بجوابين: أولهما- انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ وثانيهما- تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ بعد ما ذكر، أجاب الله تعالى بجواب ثالث عن تلك الشبهة بقوله: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ.. أي إن تقولهم عليك أيها الرسول مصدره تكذيبهم بالبعث، وعدم تصديقهم بالثواب والعقاب.
أو أنه عطف على ما حكي عنهم، ثم قال: بل أتوا بأعجب من ذلك كله، وهو تكذيبهم بالساعة.
التفسير والبيان:
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ أي إن موقف هؤلاء المشركين منك أيها الرسول بالتكذيب والعناد، لا بالتبصر والاسترشاد، والتقول عليك بالأباطيل، ناشئ من تكذيبهم بيوم القيامة، فذلك هو الذي يحملهم على ما يقولونه من تلك الأقوال الساقطة لأن من لا يوقن بالقيامة، ولا بالحساب والجزاء يتورط بسرعة في الاتهام دون تقدير للمسؤولية، ولا تأمل في عواقب الأمور، ولا انتفاع بالأدلة التي ترشده إلى التعقل والتبصر بما يقول، فهذا أعجب من كل ما صدر منهم.
وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً أي هيأنا وأرصدنا لمن كذب بالقيامة وما فيها من حساب وجزاء، نارا مستعرة شديدة الالتهاب، وعذابا أليما حارا في نار جهنم. والسعير: مذكر، ولكن جاء هنا مؤنثا لعود الضمير بالتأنيث في قوله تعالى: رَأَتْهُمْ وقوله سَمِعُوا لَها وإنما جاء مؤنثا على معنى النار.
ودلت الآية على أن النار مخلوقة لأن أَعْتَدْنا أعددنا إخبار عن فعل
ثم وصف الله تعالى أهوال النار بصفتين فقال:
الصفة الأولى:
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً أي إذا كانت النار بمرأى من الناظر من بعيد، سمعوا صوت غليانها، الذي يشبه صوت المتغيظ، لشدة التهابها، وصوت الزافر الحزين الذي يخرج النّفس من جوفه.
أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن جرير عن عبيد بن عمير أنه قال: «إن جهنم لتزفر زفرة، لا يبقى ملك مقرّب، ولا نبي مرسل إلا خرّ لوجهه، ترتعد فرائصه، حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه، ويقول: ربّ، لا أسألك اليوم إلا نفسي».
الصفة الثانية:
إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ، دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً، لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً أي بعد أن وصف الله حال الكفار، وهم في بعد من جهنم، وصف حالهم عند إلقائهم فيها، فإذا ألقوا فيها في مكان ضيق مكتّفين، أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال والسلاسل، صاحوا واستغاثوا وقالوا: يا ثبوراه، أي يا هلاكنا احضر، فهذا وقتك، فيقال لهم: لا تنادوا هلاكا واحدا، ونادوا هلاكا كثيرا، أي أنكم وقعتم ليس في هلاك واحد، وإنما في ثبور كثير، إما لتنوع ألوان العذاب، فكل نوع منها عذاب لشدته وفظاعته، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدّلوا غيرها. والمقصود تيئيسهم من الخلاص من العذاب بالهلاك، والتنبيه إلى أن عذابهم أبدي لا خلاص منه.
فقال: «والذي نفسي بيده، إنهم يستكرهون في النار، كما يستكره الوتد في الحائط».
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أول من يكسى حلّة من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه، ويسحبها من خلفه، وذريته من بعده، وهو ينادي: يا ثبوراه، وينادون: يا ثبورهم، حتى يقفوا على النار، فيقول: يا ثبوراه، وينادون: يا ثبورهم، فيقال لهم: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً»
أي لا تدعوا اليوم ويلا واحدا، وادعوا ويلا كثيرا. قال ابن كثير: الأظهر أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار، كما قال موسى لفرعون: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء ١٧/ ١٠٢]. أي هالكا.
وبعد أن وصف الله عقاب المكذبين بالساعة قارن بينه وبين ثواب المؤمنين المتقين، بما يؤكد الحسرة والندامة، فقال لرسوله صلّى الله عليه وسلم: قُلْ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً أي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين تهكما بهم وتحسيرا لهم: أهذا العذاب الذي وصفت لكم أفضل أم نعيم جنة الخلد الذي يدوم إلى الأبد، وقد وعدها المتقون الأبرار الذين أطاعوا الله فيما أمر به، وانتهوا عما نهى عنه، وجعلها لهم جزاء طاعتهم في الدنيا، ومآلهم الحسن إليها. وجنة الخلد: هي التي لا ينقطع نعيمها، والخلد والخلود سواء كالشكر والشكور.
وهذا دليل على تحقيق جميع الرغبات، ووعد من الله الذي تفضل به عليهم، وأحسن به إليهم، لهذا قال: كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا أي لا بد أن يقع، وأن يكون وعدا واجبا، وموعودا به، جديرا بأن يسأل ويطلب، وينجز، كما قال تعالى: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران ٣/ ١٩٤] وقال سبحانه: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ [البقرة ٢/ ٢٠١].
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- إن منشأ إنكار المشركين لوحدانية الله، وتكذيبهم برسالة النبي صلّى الله عليه وسلم، وطعنهم بالقرآن وبالنبوة، هو إنكار يوم القيامة وعدم الإيمان باليوم الآخر:
لأن من آمن به تبصر وتدبر، ولم يكن متهورا في سوء الاعتقاد.
٢- دل قوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً على أن النار مخلوقة الآن وموجودة، كما أن الجنة مخلوقة وموجودة لقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران ٣/ ١٣٣]. والسعير: النار الشديدة الاستعار.
٣- وصف الله تعالى النار بصفتين: الأولى- شدة الاستعار والالتهاب، يرى لها تغيظ، ويسمع لها زفير من مكان بعيد. والثانية- إذا ألقي فيها المعذّبون تضيق عليهم، وتشتد في المضايقة لأن جو العذاب مضايق.
٥- لا مجال أصلا للمقارنة بين عذاب النار ونعيم الجنة، فلا خير في النار، وإنما يقال للكفار: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ للتنبيه على التفاوت بين المنزلتين، وللتهكم بهم والتحسير لهم، وتفادي ما يؤدي بهم إلى النار، وهذا رحمة من الله عز وجل بهم، وإنذار مسبق، ولقد أعذر من أنذر.
٦- في الجنة تحقيق كل الرغبات والمطالب، ففيها ما لا تتصوره العقول في الدنيا.
٧- وعد الله المؤمنين الجنة جزاء على أعمالهم، ووعده حق وصدق ومنجز لا محالة، فسألوه ذلك الوعد، وقالوا: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أو أن الملائكة تسأل لهم الجنة، كما قال تعالى: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ. قال زيد بن أسلم: سألوا الله الجنة في الدنيا، ورغبوا إليه بالدعاء، فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا.
أحوال الكفار مع معبوداتهم يوم القيامة
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ للجزاء، وقرئ: نحشرهم. وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من غير الله، ويشمل كل معبود من الملائكة والجن وعيسى وعزير، والأصنام، واستعمال ما لأنه أعم، أو لتغليب الأصنام تحقيرا. والأصنام ينطقها الله، أو تتكلم بلسان الحال، كما قيل في كلام الأيدي والأرجل. فَيَقُولُ تعالى للمعبودين، إثباتا للحجة على العابدين، وقرئ: فنقول: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ: هل أنتم أوقعتموهم في الضلال، بأمركم إياهم بعبادتكم. أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي أم أخطئوا طريق الحق بأنفسهم لإخلالهم بالنظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد النصيح. وهو استفهام تقريع وتبكيت للعابدين. وضلّ السبيل: فقده وخرج عنه.
سُبْحانَكَ تنزيها لك عما لا يليق بك، وكان جوابهم تعجبا مما قيل لهم لأنهم إما ملائكة أو أنبياء معصومون أو جمادات لا تقدر على شيء. ما كانَ يَنْبَغِي لَنا ما كان يصح أو يستقيم لنا. مِنْ دُونِكَ غيرك، ومرادهم أنه لا يتصور منا دعوة أحد إلى عبادتنا، للعصمة أو للعجز، فكيف يصح لنا أن ندعو غيرنا أن يتولى أحدا دونك. وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ من قبلهم بإطالة العمر وسعة الرزق وأنواع النعم، فاستغرقوا في الشهوات. حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن، وغفلوا عن ذكرك أو التذكر لآلائك ونعمك والتدبر في آياتك، والذِّكْرَ:
ما ذكّر به الناس بواسطة أنبيائهم، وهو هنا القرآن والشرائع، أو ذكر الله والإيمان به.
بُوراً هلكى أو هالكين، من البوار، أي الهلاك.
كَذَّبُوكُمْ كذب المعبودون العابدين، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب للتنويع في الأسلوب ولفت الأنظار. بِما تَقُولُونَ أنهم آلهة. فما يستطيعون أي هم، وقرئ بالتاء:
أي أنتم. صَرْفاً دفعا للعذاب عنكم. وَلا نَصْراً منعا لكم منه. وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ يشرك أو يكفر منكم أيها المخاطبون. عَذاباً كَبِيراً شديدا في الآخرة، وهو النار، وقوله:
وَمَنْ يَظْلِمْ شرط، وإن عمّ كل من كفر أو فسق لكنه في اقتضاء الجزاء مقيد بعدم التوبة من العبد، والعفو من الله تعالى.
المناسبة:
بعد بيان ما أعد الله للكافرين من شدة العذاب يوم القيامة، ومقارنته بنعيم أهل الجنة، ذكر الله تعالى مشهدا من مشاهد القيامة وهو حال العابدين مع المعبودين من غير الله الذين يحشرهم الله تعالى، ويسألهم: أهم الذين أوقعوا عابديهم في الضلال عن طريق الحق، أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟
يخبر الله تعالى عما يقع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم من عبدوا من دون الله كالملائكة وغيرهم فقال:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَقُولُ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي واذكر أيها الرسول لأولئك المشركين يوم يجمعهم مع معبوديهم من الملائكة والمسيح وعزير والأصنام التي ينطقها الله وغيرهم من الناس كفرعون، الذين عبدوا من دون الله، فيقال لأولئك المعبودين على سبيل التقرير والتثبيت: أأنتم أوقعتم عبادي في الضلال عن طريق الحق، أو هل دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني، أم هم ضلوا عنه بأنفسهم أو عبدوكم من تلقاء أنفسهم من غير دعوة منكم لهم، كما قال الله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ: اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالَ: سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي، وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة ٥/ ١١٦].
واستعمال ما في قوله تعالى: وَما يَعْبُدُونَ لأنها موضوعة للعقلاء وغيرهم: على العموم، وفائدة أَنْتُمْ ويَحْشُرُهُمْ لأن السؤال ليس عن الفعل ووجوده لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن متوليه وفاعله، فلا بد من ذكره، ليعلم أنه المسؤول عنه. والسؤال ليس لإخبار الله، فالله سبحانه قد سبق علمه بالمسؤول عنه، ففائدته أن يجيبوا بما أجابوا به لتقريع عبدتهم بتكذيبهم إياهم، فيبهتوا وينخذلوا وتزيد حسرتهم، ويكون ذلك كشفا وافتضاحا لعبدة الأصنام والأوثان وغيرهم، ومسوغا لإلحاق غضب الله وعذابه، كما أبان الزمخشري.
وظاهر السؤال في قوله: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ.. من الله تعالى، ويحتمل أن يكون ذلك من الملائكة بأمر الله تعالى.
قالُوا: سُبْحانَكَ، ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ، وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ، وَكانُوا قَوْماً بُوراً أي قال المعبودون بلسان المقال أو الحال على طريق التعجب مما قيل لهم: تنزيها لك يا ربّ مما نسبه إليك المشركون، ما كان يصح لنا بحال أن نتخذ أنصارا من دونك، فنحن الفقراء إليك، وليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك، فنحن ما دعوناهم إلى عبادتنا، بل هم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا، ونحن برآء منهم ومن عبادتهم، وإذا كنا لا نرى من دونك أولياء، فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك؟ ولكن طال عليهم العمر، وشغلوا بما أنعمت عليهم من صنوف الخيرات، واستغرقوا في اللذات والشهوات، ونسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك، وكانوا قوما لا خير فيهم، وهلكى في نهاية الأمر.
ونظير الآية: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ، قالُوا: سُبْحانَكَ [سبأ ٣٤/ ٤٠- ٤١].
فيقال للعابدين:
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ، فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً أي فقد كذّبكم الذين عبدتم من دون الله فيما زعمتم أنهم لكم أولياء مناصرون، وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى، فلا يقدرون، أي الآلهة المزعومة، على صرف العذاب عنهم، ولا الانتصار لأنفسهم بأي حال أبدا، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف ٤٦/ ٥- ٦].
ثم أعلن الله تعالى حكم كل ظالم، فقال:
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات ٤٩/ ١١].
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه صورة مسبقة من الحوار، معروضة في الدنيا، للعظة والعبرة بين المعبودين الذين اتخذوا آلهة من غير رضا منهم، وبين العابدين الذين ضلوا عن الحق، فعبدوا من لا يستحق العبادة، يبيّن فيها سلفا مصير الكافرين. وهذا غير مألوف في أحكام الدنيا التي لا تعرف إلا بإعلان القاضي لها.
وكانت نتيجة الجواب والسؤال بيان حصر المسؤولية عن الضلال في العابدين دون المعبودين، وجعل تبرؤ المعبودين عن العابدين سببا واضحا في حسرتهم وحيرتهم.
ويقول الله تعالى عند تبرّي المعبودين: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ أي كذبتكم تلك الآلهة المزعومة في نظركم في قولكم: إنهم آلهة، وحينئذ لا يستطيع هؤلاء الكفار لما كذّبهم المعبودون صرف العذاب عن أنفسهم، ولا نصر أنفسهم مما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم.
ونوع العذاب الذي سيوقع عليهم وعلى أمثالهم هو كما قال تعالى: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً أي ومن يشرك منكم ثم يموت عليه من غير توبة، نذقه في الآخرة عذابا كبيرا أي شديدا، كما قال تعالى: وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً [الإسراء ١٧/ ٤] أي شديدا.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢٠]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠)
البلاغة:
أَرْسَلْنا الْمُرْسَلِينَ جناس اشتقاق.
تَصْبِرُونَ بَصِيراً جناس ناقص، لتقديم بعض الحروف، وتأخير بعضها.
المفردات اللغوية:
إِلَّا إِنَّهُمْ أي إلا رسلا إنهم، فحذف الموصوف لدلالة الْمُرْسَلِينَ عليه، وأقيمت الصفة مقامه، كقوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات ٣٧/ ١٦٤]. وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أي فأنت مثلهم في ذلك، وقد قيل لهم مثل ما قيل لك.
وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أي وجعلنا بعضكم أيها الناس لبعض ابتلاء، ومن ذلك ابتلاء الغني بالفقير، والصحيح بالمريض، والشريف بالوضيع، لمعرفة مدى قيامه بواجبه نحوه أو إيذاء أحدهم لغيره. وفيه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما قاله المشركون في حقه، بعد نقضه والرد عليه، وفيه دليل على القضاء والقدر لأنه تعالى هو الذي جعل البعض فتنة للبعض.
أَتَصْبِرُونَ على ما تسمعون ممن ابتليتم بهم؟ وهو استفهام بمعنى الأمر، بمعنى: اصبروا، كقوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة ٥/ ٩١] أي انتهوا، فهو حث على الصبر على الابتداء وأمر به للنبي صلّى الله عليه وسلم وغيره، أو علة لقوله: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ.. والمعنى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة، لنعلم أيكم يصبر، كقوله تعالى: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف ١٨/ ٧]. وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أي عالما بمن يصبر وبمن يجزع.
سبب النزول:
أخرج الواحدي وابن جرير عن ابن عباس قال: لما عيّر المشركون رسول الله
المناسبة:
هذه الآية إذن جواب عن قول المشركين: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ. فيها أبان الله تعالى أن هذه عادة مستمرة من الله في كل رسله، فلا وجه للطعن.
التفسير والبيان:
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أي إن جميع الرسل المتقدمين كانوا بشرا يأكلون الطعام، للتغذي به، ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة، وليس ذلك منافيا لحالهم ومنصبهم، أو يغضّ من شأنهم، وإنما امتيازهم في اتصافهم بالأخلاق الفاضلة، وقيامهم بالأعمال الكاملة، وتأييدهم بخوارق العادات أو بالمعجزات التي تدل كل عاقل على صدق رسالتهم وما جاؤوا به من عند ربهم، ومحمد صلّى الله عليه وسلم كغيره من الرسل في هذا.
ونظير الآية قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يوسف ١٢/ ١٠٩] وقوله: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الأنبياء ٢١/ ٨].
والمعنى: أن الرسول يكون من جنس المرسل إليهم، وليس الفقر عيبا، وليس العمل منقصا من قدر الشخص واعتباره، وإنما قيم الرجال بالآداب والأعمال.
وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أي اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم
أَتَصْبِرُونَ، وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أي اصبروا على ما أراده الله لكم، وكان ربك أيها الرسول بصيرا بمن يصبر وبمن يجزع، وبمن يستقيم وبمن يتنكر لطريق الحق، فيجازي كلا منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب.
روى أبو الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ويل للعالم من الجاهل، وويل للسلطان من الرعية، وويل للرعية من السلطان، وويل للمالك من المملوك، وويل للشديد من الضعيف، وللضعيف من الشديد، بعضهم لبعض فتنة» وقرأ هذه الآية، أسنده الثعلبي رحمه الله تعالى.
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: إني مبتليك ومبتلي بك»
وفي مسند أحمد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة».
وفي صحيح البخاري أنه صلّى الله عليه وسلم خيّر بين أن يكون نبيا ملكا، أو عبدا رسولا، فاختار أن يكون عبدا رسولا.
وقال مقاتل: إن الآية نزلت في أبي جهل بن هشام، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل وغيرهم من أشراف قريش حين رأوا أبا ذر، وعبد الله بن مسعود، وعمارا، وبلالا، وصهيبا، وسالما مولى أبي حذيفة، قالوا: أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟! فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين:
أَتَصْبِرُونَ؟ أي على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر والجهد
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على أن الرسل عليهم السلام كباقي البشر فيما عدا إنزال الوحي عليهم، وتخلقهم بالأخلاق العالية، وقيامهم بالأعمال الطيبة بدرجة تفوق غيرهم، فهم يأكلون ويشربون ويتاجرون في الأسواق.
والآية أصل في وجوب اتخاذ الأسباب، وإباحة طلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك. وقد تكرر هذا المعنى في القرآن في غير موضع.
ودل قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً على أن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض الناس امتحانا واختبارا لبعض على العموم الذي يشمل كل مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغني، ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه، فعلى الغني مواساة الفقير وألا يسخر منه، وعلى الفقير ألا يحسد الغني ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق.
والله سبحانه يأمر بالصبر على كل حال، حتى لا يهتز إيمان أحد، ويفوض الأمر في كل شيء إلى الله تعالى.
والله تعالى بصير بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع، ومن يؤمن ومن لا يؤمن، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدّي.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَناأُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤)
الإعراب:
لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا اللام جواب قسم محذوف.
يَوْمَ يَرَوْنَ يَوْمَ منصوب على الظرف، والعامل فيه فعل مقدر، تقديره: اذكر، أي اذكر يوم يرون الملائكة. ولا يجوز أن يعمل فيه لا بُشْرى لأن ما في حيّز النفي لا يعمل فيما قبله. وأجاز الزمخشري نصب يَوْمَ بما دل عليه لا بُشْرى أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى أو يعدمونها. ويَوْمَئِذٍ للتكرار.
ولا بُشْرى: إن جعلت بُشْرى مبنية مع لا كان يَوْمَئِذٍ خبرا لها لأنه ظرف زمان، وظروف الزمان تكون أخبارا عن المصادر. ولِلْمُجْرِمِينَ صفة للبشرى. وإن جعلت بُشْرى غير مبنية مع لا أعملت بُشْرى في يَوْمَئِذٍ لأن الظروف يعمل فيها معاني الأفعال، وللمجرمين خبر لا.
البلاغة:
أُنْزِلَهنا بمعنى هلا للترجي.
عَتَوْا عُتُوًّا وحِجْراً مَحْجُوراً جناس الاشتقاق.
هَباءً مَنْثُوراً تشبيه بليغ، حذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه، أي كالغبار المنثور في الجو في حقارته وعدم نفعه.
المفردات اللغوية:
لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي لا يأملون لقاءنا بالخير لكفرهم بالبعث، أو لا يخافون لقاءنا بالشر، أي لا يخافون البعث، على لغة تهامة، أي أن الرجاء في بعض لغات العرب: الخوف، مثل قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. وأصل اللقاء: الوصول إلى الشيء، ومنه الرؤية، فإنه وصول إلى المرئي، والمراد به: الوصول إلى جزائه، أي لقاء جزائنا.
هلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أي أرسلوا إلينا، فيخبروننا بصدق محمد صلّى الله عليه وسلم أَوْ نَرى رَبَّنا فيأمرنا بتصديقه واتباعه لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي لقد تكبروا في شأن أنفسهم، حتى أرادوا لها ان تكون أنبياء أو ما هو أعظم من ذلك وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً تجاوزوا الحد في الظلم حتى بلغوا أقصى الغاية، بطلبهم رؤية الله تعالى في الدنيا، وكذبوا الرسول الذي جاء بالوحي، ولم يأبهوا بمعجزاته. وعَتَوْا بالواو على أصله، بخلاف «عتي» بالإبدال في سورة مريم في قوله:
وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [٨].
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ في جملة الخلائق، وهو يوم القيامة، وهو منصوب بفعل مقدر تقديره: اذكر لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ أي الكافرين، والمعنى: يمنعون البشرى، بخلاف المؤمنين، فلهم البشرى بالجنة وَيَقُولُونَ: حِجْراً مَحْجُوراً أي ويقول الكفرة حينئذ هذه الكلمة، وهي كلمة تقال عند حصول شدة كلقاء عدو أو حدث خطير، يقصد بها العرب: الاستعاذة من وقوع الخطر، والطلب من الله أن يمنع ذلك الحادث منعا. والحجر لغة: المنع، ومنه الحجر على القاصر أي منعه من التصرف، وسمي العقل حجرا لأنه يمنع صاحبه من بعض الأعمال.
وَقَدِمْنا عمدنا وقصدنا إلى ما عملوا في كفرهم في الدنيا من المكارم كقرى الضيف وصلة الرحم، وإغاثة الملهوف، فأحبطناه لعدم الإيمان فَجَعَلْناهُ هَباءً هو ما يرى في الهواء أثناء ضوء الشمس الداخل من الكوى أو النوافذ، أي جعلناه كالغبار المفرق في عدم النفع فيه مُسْتَقَرًّا أي مكانا يستقرون فيه أكثر الوقت للجلوس والمحادثة، والمعنى: أصحاب الجنة يوم القيامة خير مستقرا من الكافرين في الدنيا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا مكانا يؤوي إليه للقيلولة والراحة: وهي الاستراحة نصف النهار في الحر تشبيها بمكان القيلولة في الدنيا إذ لا نوم في الجنة. وأخذ من ذلك انقضاء
المناسبة:
هذا هو موضوع الشبهة الرابعة للمشركين منكري نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم ومكذبي القرآن، ومفادها: لم لم ينزل الله الملائكة حتى يشهدوا أن محمدا محقّ في دعواه، أو نرى ربنا حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا.
والشبهات الثلاث المتقدمة لهم: هي قولهم: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وما حكي عنهم: وَقالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها وذكرهم خمس صفات للرسول، زعموا أنها تخل بالرسالة، منها قولهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ إلخ.
التفسير والبيان:
هذا موقف عجيب من مواقف تعنت الكفار في كفرهم وعنادهم، صوره القرآن بقوله تعالى:
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا: أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا أي وقال المشركون الذين ينكرون البعث والثواب والعقاب: هلا أنزل علينا الملائكة كما تنزل على الأنبياء فنراهم عيانا، فيخبرونا بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم صادق في دعواه النبوة، أو نرى ربنا جهارا نهارا، فيخبرنا بأنه أرسله إلينا، ويأمرنا بتصديقه واتباعه، كقولهم في آية أخرى: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء ١٧/ ٩٢] والحقيقة أنهم لا يرومون من كلامهم هذا إلا المكابرة والتمادي في الإنكار والعناد، لذا قال تعالى:
لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أي والله لقد تكبروا وأضمروا الاستكبار عن الحق، وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه كما قال سبحانه: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ، ما هُمْ بِبالِغِيهِ [غافر ٤٠/ ٥٦] وتجاوزوا
ولن يؤمنوا في الحقيقة والواقع، كما قال تعالى في آية أخرى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الأنعام ٦/ ١١١].
ثم أخبر الله تعالى مهددا عن حال رؤيتهم الملائكة، فقال:
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ، لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ، وَيَقُولُونَ: حِجْراً مَحْجُوراً أي هم لا يرون الملائكة في حال خير، وإنما في حال شر وسوء، فإنهم سيرونهم عند الموت أو يوم القيامة قائلين لهم: لا بشرى لهم بخير، ولا مرحبا بهم، وتبشرهم الملائكة بالنار وغضب الجبار، وتقول لهم: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ، وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام ٦/ ٩٣].
ويقول الكفار: حجرا محجورا، أي استعاذة وطلبا من الله أن يمنع عنهم الخطر والضرر، والمقصود أنهم يتعوذون من الملائكة. قال ابن كثير: وهذا القول، وإن كان له مأخذ ووجه، ولكنه بالنسبة إلى السياق بعيد، لا سيما وقد نص الجمهور على خلافه. وإنما هذا من قول الملائكة لهم، يراد به: حرام محرم عليكم البشرى بالمغفرة والجنة، وبما يبشر به المتقون، وحرام محرم عليكم الفلاح اليوم.
وهذا بخلاف حال المؤمنين وقت احتضارهم، فإنهم يبشرون بالخيرات، وحصول المسرات قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ، وَلَكُمْ فِيها
[فصلت ٤١/ ٣٠- ٣٢] وفي
الحديث الصحيح عن البراء بن عازب: «إن الملائكة تقول لروح المؤمن: اخرجي أيتها النفس الطيبة في الجسد الطيب، إن كنت تعمرينه، اخرجي إلى روح وريحان، وربّ غير غضبان».
ثم أخبر الله تعالى عن إحباط أعمال الكفار الخيرية التي كانوا يعتزون بها في الدنيا كالإكرام والصدقة وفك الأسير وإنقاذ الملهوف وحماية المستجير وخدمة البيت الحرام والحجيج، فقال:
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً أي قصدنا يوم القيامة إلى محاسن أعمال هؤلاء الكفار في الدنيا، حين حساب العباد على ما عملوه من الخير والشر، تلك الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم، كالتي ذكرت، فجعلناها مبددة لا نفع فيها ولا خير كالغبار المتناثر الذي لا جدوى فيه ولا فائدة، لفقد الشرط الشرعي لقبولها وهو إما الإخلاص فيها لله، وإما المتابعة لشرع الله، فكل عمل لا يكون خالصا لوجه الله الكريم، وليس على منهج الشريعة المرضية لله، فهو باطل، وأعمال الكفار تفقد أحد الشرطين أو كليهما، فتكون أبعد عن القبول.
ثم قارن الله تعالى حال هؤلاء الكفار بحال المؤمنين فقال:
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا أي إن حال أهل الجنة خير مأوى ومنزلا، وأتم استقرارا، وأفضل راحة من حال المشركين في النار.
والمستقر: مكان الاستقرار، والمقيل: زمان القيلولة. وهذا إشارة إلى أنهم من المكان في أحسن مكان، ومن الزمان في أطيب زمان. وبما أنه لا خير في النار، فيكون المراد من قوله تعالى: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا.. هو ما أريد من قوله:
أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ وهو التقريع والتوبيخ، كما إذا أعطى السيد خادمه
وهذا يدل على انتهاء حساب الخلائق في نصف يوم، كما
ورد في الحديث: «إن الله تبارك وتعالى يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار».
ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ. هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ [يس ٣٦/ ٥٥- ٥٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- إن عدم الخوف من البعث ولقاء الله، أي عدم الإيمان بذلك هو سبب التمادي في إنكار صدق القرآن والنبي المنزل عليه، والعناد والإصرار على الكفر. ثم إن التستر على الكفر والدفاع عنه يجعل الكفرة يطالبون بما فيه تعجيز وشطط وخروج عن المألوف، مثل المطالبة بإنزال الملائكة عليهم لإخبارهم أن محمدا صلّى الله عليه وسلم صادق، أو رؤية الله عيانا لإخبارهم برسالته، كما قال تعالى حاكيا مطالبهم في آيات أخرى: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى قوله: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء ١٧/ ٩٠- ٩٢].
لذا قال الله تعالى في الآيات المفسرة هنا: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً حيث سألوا الله الشطط لأن الملائكة لا ترى إلا عند الموت، والله تعالى لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، فلا عين تراه. وإذا لم يكتفوا بالمعجزات وهذا القرآن فكيف يكتفون بالملائكة؟ وهم لا يميزون بينهم وبين الشياطين.
حِجْراً مَحْجُوراً أي حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال: لا إله إلا الله، وأقام شرائعها، وذلك القول يحصل عند الموت، كما روي عن ابن عباس وغيره.
وقيل: إن ذلك يوم القيامة.
٣- إن جميع أعمال الكفار لا سيما التي اعتقدوا أنها برّ وخير، وظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى تكون يوم القيامة مهدرة باطلة لا جدوى فيها ولا نفع منها بسبب الكفر، ولأن قبولها يفقد الشرط الشرعي لها وهو الإيمان بالله وإخلاص العمل له. وقوله سبحانه: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ تنبيه على عظم قدر يوم القيامة، ومعناه كما بينا: قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل برّ عند أنفسهم.
٤- أصحاب الجنة في مكان مستقر ومأوى ثابت، ومنزل حسن مريح طيب الإقامة، على النقيض من حال أهل النار. فقوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا، وَأَحْسَنُ مَقِيلًا كقوله: قُلْ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ التقريع والتوبيخ، وإنما قال: خَيْرٌ ولا خير في النار والعذاب: بالنظر إلى التفاوت بين منزلتي الجنة والنار، وهما من المنازل. أما من حيث الواقع فإن خَيْرٌ هنا ليس للمفاضلة التي تفهم من صيغة أفعل التفضيل، وإنما لتقرير أن الجنة هي الخير المحض والحسن المطلق، ولا خير أصلا في ضدها وهي النار.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩)
الإعراب:
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ الباء في قوله بِالْغَمامِ للحال، والتقدير: يوم تشقق السماء، وعليها الغمام، كقولك: خرج زيد بسلاحه، أي وعليه سلاحه.
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ: الْمُلْكُ مبتدأ، والْحَقُّ صفة له، ولِلرَّحْمنِ الخبر، ويَوْمَئِذٍ: ظرف للملك.
البلاغة:
يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ كناية عن الندم والحسرة، وكذلك كلمة «فلان» كناية عن الصديق الضال المضل.
المفردات اللغوية:
يَوْمَ تَشَقَّقُ الأصل: تتشقق والمراد يوم القيامة السَّماءُ كل سماء بِالْغَمامِ هو غيم أبيض، أي مع الغمام، مثل قوله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل ٧٣/ ١٨] والمعنى أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها، أو عن الغمام وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا أي تنزل الملائكة من كل سماء، وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ أي الملك الثابت يوم القيامة لله تعالى وحده، لا يشركه فيه أحد وَكانَ يَوْماً أي وكان اليوم يوما عسيرا أي شديدا على الكافرين، بخلاف المؤمنين.
الجنس، أو المشرك عقبة بن أبي معيط الذي كان نطق بالشهادتين، ثم رجع إرضاء لأبي بن خلف اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا محمد صلّى الله عليه وسلم طريقا إلى الهدى والنجاة يا وَيْلَتى ألفه عوض عن ياء الإضافة، أي ويلتي، ومعناه: هلكتي. وقرئ: يا ويلتي بالياء وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته، يقول لها: تعالي فهذا أوانك: وإنما قلبت الياء ألفا كما في صحارى ومداري.
أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ذكر الله أو القرآن أو موعظة الرسول صلّى الله عليه وسلم بَعْدَ إِذْ جاءَنِي بأن ردني عن الإيمان به وَكانَ الشَّيْطانُ يعني الخليل المضل أو إبليس لأنه حمله على مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلم لِلْإِنْسانِ الكافر خَذُولًا بأن يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك، ثم يتركه ويتبرأ منه عند البلاء، ولا ينفعه.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان أبيّ بن خلف يحضر النبي صلّى الله عليه وسلم، فيزجره عقبة بن أبي معيط، فنزل: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ إلى قوله: خَذُولًا.
وفي رواية: كان عقبة بن أبي معيط يكثر مجالسة النبي صلّى الله عليه وسلم، فدعاه إلى ضيافته، فأبى أن يأكل طعامه حتى ينطق بالشهادتين، ففعل، وكان أبي بن خلف صديقه، فعاتبه، وقال: صبأت؟! فقال: لا، ولكن أبى أن يأكل من طعامي، وهو في بيتي، فاستحييت منه، فشهدت له، فقال: لا أرضى منك إلا أن تأتيه، فتطأ قفاه، وتبزق في وجهه، فوجده ساجدا في دار الندوة، ففعل ذلك، فقال صلّى الله عليه وسلم: «لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف» فأسر يوم بدر، فأمر عليا فقتله
، وطعن أبيا بأحد في المبارزة، فرجع إلى مكة ومات يقول: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا.
قال الضحاك: لما بزق عقبة في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عاد بزاقه في وجهه، فتشعب شعبتين، فأحرق خديه، وكان أثر ذلك فيه حتى الموت.
بعد بيان طلب المشركين إنزال الملائكة، أخبر الله تعالى عن هول يوم القيامة وعن نزول الملائكة حينئذ، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر، فيعض الظالم على يديه ألما وحسرة على ما فات، ويتمنى أن لو كان أطاع الرسول فيما أمر ونهى، ولم يكن ممن أطاع الشيطان من الإنس والجن، ثم يفصل الله تعالى القضاء بين الخلائق.
التفسير والبيان:
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ أي اذكر أيها النبي الرسول يوم تتشقق السماء عن الغمام، وتتفتح عنه، ويتبدل نظام العالم، وتنتهي الدنيا، وتصبح الشمس والكواكب أشبه بالغمام، لتفرقها وتحللها وتناثرها في الجو، كما قال تعالى:
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [الانفطار ٨٢/ ١- ٢] وقال سبحانه: وَفُتِحَتِ السَّماءُ، فَكانَتْ أَبْواباً، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [النبأ ٧٨/ ١٩- ٢٠]. وقال عز وجل: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ [الحاقة ٦٩/ ١٥- ١٦].
وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ أي وتنزل الملائكة وفي أيديهم صحائف أعمال العباد، لتكون حجة وشاهدا عليهم.
ونظير الآية قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة ٢/ ٢١٠].
وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أي وكان يوم القيامة على الكافرين يوما شديدا صعبا لأنه يوم عدل وقضاء فصل (محاكمة) كما في آية أخرى:
فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر ٧٤/ ٩- ١٠].
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا أي واذكر أيها الرسول يوم القيامة الذي يعض المشرك وكل ظالم على يديه ندما وحسرة وأسفا على ما فرّط في حياته، وعلى إعراضه عن طريق الحق والهدى الذي جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم، ويقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول صلّى الله عليه وسلم طريقا إلى النجاة والسلامة.
يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا أي يا هلاكي احضر فهذا أوانك، ليتني لم أتخذ فلانا الذي أضلني خليلا أي صديقا حميما، أرداني اتباعه، وصرفني عن الهدى، وعدل بي إلى طريق الضلال، سواء في ذلك أبي بن خلف أو أمية بن خلف أو غيرهما.
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي هذا من قول الناس، أي لقد ضللني وحرفني عن ذكر الله والإيمان والقرآن بعد بلوغه إلي.
وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا هذا من قول الله، لا من قول الظالم أي إن من شأن الشيطان أن يخذل الإنسان عن الحق، ويصرفه عنه، ويدعوه إلى الباطل ويستعمله فيه، ثم يتركه ويتبرأ منه عند المحنة، ولا ينفعه في العاقبة.
والشيطان: إشارة إلى خليله سماه شيطانا لأنه أضله كما يضل الشيطان، أو أراد إبليس وأنه هو الذي حمله على مصادقة أو مخالّة المضل ومخالفة
والمعنى الأخير هو الأولى.
فقه الحياة أو الأحكام:
طلب المشركون إنزال الملائكة، فأبان سبحانه أنه يحصل ذلك في يوم له أربع صفات هي:
١- إن في ذلك اليوم تتشقق السماء بالغمام أي عن الغمام، لأن الباء وعن يتعاقبان كما تقول: رميت بالقوس وعن القوس، روي أن السماء تتشقق عن سحاب أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم، فتنشق السماء عنه، وهو الذي قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [البقرة ٢/ ٢١٠]. وقوله: تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ جامع لمعنى الآيتين:
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار ٨٢/ ١] وآية فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ المذكورة.
وفي ذلك اليوم تنزل الملائكة من السموات إلى الأرض لحساب الثقلين.
ومعنى تَنْزِيلًا توكيد للنزول، ودلالة على إسراعهم فيه.
٢- يكون الملك الثابت الدائم في ذلك اليوم لله الرحمن الرحيم، وهذا دليل الألوهية لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك، فبطلت يومئذ أملاك المالكين وانقطعت دعاويهم، وزال كل ملك وملكه، وبقي الملك الحق لله وحده.
٣- يكون هذا اليوم شديدا صعبا على الكافرين لما ينالهم من الأهوال، ويلحقهم من الخزي والهوان، وهو على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة، كما دل الحديث المتقدم، وهذه الآية لأنه إذا كان على الكافرين عسيرا، فهو على المؤمنين يسير.
٤- إنه يوم يعض فيه الظالم الكافر وكل مكذب وطاغ على يديه، حسرة
فهذه العبارات الثلاث: الظالم، وفلان، والشيطان عامة.
والخليل الصاحب قد يضل صاحبه عن ذكر الله والإيمان به والقرآن وموعظة الرسول صلّى الله عليه وسلم.
والشيطان يوسوس ويغري بالكفر والشرك والمعصية، ثم يخذل أتباعه، والخذل: الترك من الإعانة، والتبرؤ من فعله. وكل من صدّ عن سبيل الله وأطيع في معصية الله، فهو شيطان للإنسان، خذول عند نزول العذاب والبلاء، كما قال تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ: اكْفُرْ، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [الحشر ٥٩/ ١٦].
وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك «١»، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد ريحا طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة» «٢».
وذكر أبو بكر البزّار
(٢) وأخرجه أبو داود من حديث أنس.
هجر الكفار القرآن ومطالبتهم بإنزاله جملة واحدة
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٠ الى ٣٤]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوانُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)
الإعراب:
في لام لِنُثَبِّتَ وجهان: أن تتعلق بفعل مقدر، أي نزلناه لنثبت به فؤادك لقولهم:
نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أو أن تكون اللام لام القسم، وتقدر النون مع الفعل، وتظهر النون إذا فتحت اللام فيقال: «والله لنثبتن» وتسقط إذا كسرت. وكاف كَذلِكَ صفة لمصدر محذوف دل عليه نزلناه.
البلاغة:
شَرٌّ مَكاناً إسناد مجازي، لأن الضلال لا ينسب إلى المكان، ولكن إلى أهله.
المفردات اللغوية:
وَقالَ الرَّسُولُ محمد صلّى الله عليه وسلم مشتكيا إلى ربه في الدنيا إِنَّ قَوْمِي قريشا مَهْجُوراً متروكا وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أي كما جعلنا عدوا من مشركي قومك، جعلنا
يطلق على الواحد والجمع هادِياً لك إلى طريق قهرهم وَنَصِيراً ناصرا لك على أعدائك.
هلا جُمْلَةً واحِدَةً دفعة واحدة كالتوراة والإنجيل والزبور كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي أنزلناه كذلك مفرّقا لتقوية قلبك بتفريقه على حفظه وفهمه لأنه صلّى الله عليه وسلم بخلاف حال موسى وداود وعيسى عليهم السلام كان أميا، وكانوا يكتبون، فلو ألقي إليه جملة، عانى التعب والإجهاد في حفظه، ولأن نزوله بحسب الوقائع يزيد الأمر تبصرا، وتعمقا في فهم المعنى. وكلمة كَذلِكَ صفة مصدر محذوف يشير إلى إنزاله مفرقا وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أتينا به شيئا بعد شيء، أو قرأناه عليك شيئا بعد شيء، بتمهل وتؤدة، لتيسير فهمه وحفظه، في مدى ثلاث وعشرين سنة. وأصله الترتيل في الأسنان: وهو تفليجها.
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي بحال وصفة غريبة ونوع من الكلام يشبه المثل في تنميقه وتحسينه ورصف لفظه، بقصد القدح في نبوتك وإبطال أمرك إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ الدافع له، أو الدامغ له في جوابه وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً أي بما هو أحسن بيانا لهم، وأصح معنى من سؤالهم العجيب الذي كأنه مثل في البطلان.
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أي يساقون ويسحبون على وجوههم، أي مقلوبين شَرٌّ مَكاناً هو جهنم وَأَضَلُّ سَبِيلًا أبعد عن الحق طريقا من غيرهم، وهو كفرهم
سبب النزول: نزول الآية (٣٢) :
أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قال المشركون: إن كان محمد صلّى الله عليه وسلم، كما يزعم نبيا، فلم يعذبه ربه، ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة، فينزل عليه الآية والآيتين، فأنزل الله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً.
المناسبة:
بعد بيان اعتراضات المشركين وأقاويلهم الباطلة، وأوجه تعنتهم، كطلب إنزال الملائكة أو رؤية الله، وتكذيب القرآن ووصفه بالأساطير، أوضح الله
التفسير والبيان:
وَقالَ الرَّسُولُ: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً أي شكى الرسول إلى ربه سوء أفعال المشركين وأقوالهم الساقطة قائلا: يا ربّ، إن قومي قريشا تركوا الإصغاء لهذا القرآن، ولم يؤمنوا به، وأعرضوا عن استماعه واتباعه، فكانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه، كما حكى تعالى عنهم: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت ٤١/ ٢٦] فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره، حتى لا يسمعونه، فهذا من هجرانه، وكذلك ترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو من هجرانه، كما قال ابن كثير «١».
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ هذه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما يلقى من قومه من الأذى والصدود والإعراض، أي لا تحزن يا محمد، فتلك سنة الله في خلقه، فكما جعلنا لك أعداء من المشركين يتقولون عليك الأباطيل، ويهجرون القرآن، جعلنا لكل نبي من أنبياء الأمم الماضين أعداء من المشركين الظالمين، يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام ٦/ ١١٢] فاصبر كما صبروا، وامض في تبليغ رسالتك. قال ابن عباس: كان عدو النبي صلّى الله عليه وسلم أبا جهل، وعدو موسى قارون، وكان قارون ابن عم موسى.
لكن النصر والغلبة للرسول صلّى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:
وقد قرن الله تعالى بين الهداية والنصر لأن الأولى سبيل لتحقيق نصر المؤمنين على الكافرين، وكان المشركون يصدون الناس عن اتباع القرآن لئلا يهتدي أحد بالرسول صلّى الله عليه وسلم، ولتغلب طريقتهم طريقة القرآن، وللحفاظ على قوة التفوق والغلبة، وإبقاء ميزان القوى راجحا في صالحهم.
الشبهة الخامسة لمنكري نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم:
بعد بيان شكوى الرسول صلّى الله عليه وسلم قومه إلى ربه، حكى الله تعالى شبهة أخرى للمشركين أهل مكة فقال:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوانُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً أي أضاف المشركون أهل مكة لطعنهم السابق في القرآن بأنه إفك مفترى وأنه أساطير الأولين، أضافوا شبهة أخرى هي قولهم: إذا كنت تزعم أنك رسول من عند الله، أفلا تأتينا بالقرآن جملة واحدة، كما أنزلت التوراة جملة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود؟
ومعنى الآية: لو كان القرآن من عند الله حقا، فهلا أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم جملة واحدة، كما نزلت الكتب الإلهية المتقدمة.
فأجابهم الله تعالى عن ذلك بقوله:
كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أي أنزلناه كذلك مفرقا، وأتينا به شيئا بعد شيء وقرأناه على لسان جبريل في مدى ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث وما يحتاج إليه من الأحكام.
أ- تثبيت قلب النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين بشريعة الله، والعون على حفظ القرآن وفهمه، وتطبيق أحكامه بنحو دقيق وشامل لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان أميا، وكانت أمته أمية، لا يعرفون القراءة والكتابة، فلو نزل القرآن جملة واحدة، لصعب عليهم ضبطه، وجاز عليهم السهو والغلط. ثم إن مشاهدة النبي صلّى الله عليه وسلم جبريل وقتا بعد وقت مما يقوي عزيمته، ويحمله على الصبر في تبليغ الرسالة وتصحيح المسيرة، والصمود في وجه التحديات واحتمال أذى قومه، ومتابعة جهاده.
ب- دفع الحرج عن المكلفين بتكليفهم بأحكام كثيرة مرة واحدة: فلو طولب المؤمنون بتحمل أعباء الشريعة دفعة واحدة، فربما وقعوا في الحرج والمشقة، وصار التنفيذ أمرا صعبا غير سهل ولا يسير.
ج- مراعاة مبدأ التدرج في التشريع: فقد كانت العادات والتقاليد الموروثة، والأعراف العامة مسيطرة في بيئة العرب وغيرهم من الأمم، فلو طولبوا بالإقلاع عما تحكمت فيهم العادات، لنفروا وأعرضوا وقالوا جميعا:
لا نترك هذا الأمر، فكان من الحكمة والمصلحة والنجاح في التربية، وتغيير تلك العادات المستحكمة أو المألوفة أن ينزل القرآن منجّما، ويتدرج في الأحكام من مرحلة إلى أخرى، تتهيأ بها النفوس لقبول الحكم النهائي.
د- معالجة الوقائع والطوارئ والأحداث وإجابة الأسئلة بما هو الأنسب والأوفق: فلو كان التشريع دفعة واحدة، سواء فيما يتعلق بحالة السلم أو حالة الحرب، لانكشفت الخطة، ودبر الأعداء المكايد لتحقيق الغلبة على المسلمين، وهان على أهل الحيلة والمكر التشكيك في مدى صلاحية حكم تشريعي ما.
ثم أبان تعالى تأييد نبيه بالوحي وإبطال حجج المشركين فقال:
وبعد وصف القوم المتعنتين رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأوصاف كاذبة، أورد الله تعالى وصفهم يوم القيامة بما يدل على سوء حالهم في معادهم وحشرهم إلى جهنم في أسوأ الحالات وأقبح الصفات، فقال:
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ، أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي إن أولئك المشركين المفترين على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، الذين يسحبون على وجوههم إلى جهنم إذلالا وخزيا وهوانا، ويساقون إليها بالسلاسل والأغلال، هم شر مكانا وهو جهنم من أهل الجنة، وأضل سبيلا وطريقا عن الحق.
والمقصود منه الزجر عن طريقهم، كما في قوله تعالى المتقدم: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا فلا يراد من ذلك المفاضلة، وإنما بيان سوء حال أهل النار، وحسن حال أهل الجنة، ولفت نظر الكفار إلى أن مكانهم شر من مكان المؤمنين، وسبيلهم أضل من سبيل المسلمين.
جاء في صحيح البخاري عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: «إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة».
وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفا مشاة، وصنفا ركبانا، وصنفا على وجوههم،
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- ترك المشركون والكفار القرآن في أوضاع متعددة، إما بعدم الاستماع والإصغاء إليه، وإما بترك تدبره وتفهمه، وإما بترك الإيمان به وعدم تصديقه، وإما بترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وإما بالعدول عنه إلى غيره من أنظمة الجاهلية والكفار أمثالهم.
روى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من تعلّم القرآن، وعلّق مصحفه، لم يتعاهده ولم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب العالمين، إن عبدك هذا اتخذني مهجورا، فاقض بيني وبينه».
وقال ابن القيم: هجر القرآن أنواع: أحدها- هجر سماعه والإيمان به، والثاني- هجر العمل به وإن قرأه وآمن به، والثالث- هجر تحكيمه والتحاكم إليه، والرابع- هجر تدبره وتفهم معانيه، والخامس- هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب، وكل هذا داخل في قوله تعالى: إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.
٢- ما من حق إلا ويقابله باطل، وما من مصلح صادق إلا وله أعداء، وكما جعل الله لنبيه محمد عدوا من مشركي قومه كأبي جهل وأمثاله، جعل لكل نبي عدوا من مشركي قومه، فما على المحق والمصلح إلا الصبر كما صبر الأنبياء المتقدمون، والله هاد أهل الحق والصلاح، وناصرهم على كل من ناوأهم.
٣- استدل أهل السنة بآية وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا | على أنه تعالى خالق الخير والشر لأن ذلك القول يدل على أن تلك العداوة من جعل الله، وتلك العداوة كفر. |
٥- إن نزول القرآن مفرقا لتقوية قلب النبي صلّى الله عليه وسلم في تحمله ووعيه لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرءون، والقرآن أنزل على نبي أمي، ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، فتفريقه ليكون أوعى للنبي صلّى الله عليه وسلم، وأيسر على العامل به، فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب. وقد ذكرت تلك الفوائد والحكم في أثناء التفسير للآية.
وقوله تعالى: كَذلِكَ إما من قول المشركين أي كالتوراة والإنجيل، فيوقف على كَذلِكَ ثم يبتدأ بقوله: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ويجوز الوقف على قوله: جُمْلَةً واحِدَةً ثم يبتدأ كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ
أي أنزلناه عليك كذلك متفرقا لنثبت به فؤادك. قال ابن الأنباري: والوجه الأول أجود وأحسن، والقول الثاني قد جاء به التفسير. وقال النحاس: والأولى أن يكون التمام جُمْلَةً واحِدَةً لأنه إذا وقف على كَذلِكَ صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور، ولم يتقدم لها ذكر. وهذا موافق لرسم القرآن.
٦- نزل القرآن مرتلا مرسلا، أي شيئا بعد شيء.
٧- إن الله تعالى مؤيد رسوله وهاديه وناصره، فلو نزل عليه القرآن جملة واحدة، ثم سألوه عن أمر، لم يكن عنده ما يجيب به، فإذا كان مفرقا ثم سألوه أجاب بوحي من عند الله. قال النحاس: وكان ذلك من علامات النبوة لأنهم
٨- أهل النار وهم الكفار يحشرون إليها على وجوههم إما حقيقة كما تقدم، وإما أن القصد الذل والخزي والهوان، وإما الدلالة على الحيرة في طريق الذهاب. وهم في شر مكان لأنهم في جهنم، وأضل دينا وطريقا.
قصص بعض الأنبياء وعقوبات مكذبيهم
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٥ الى ٤٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠)
الإعراب:
وَقَوْمَ نُوحٍ قَوْمَ منصوب عطفا على الهاء والميم في فَدَمَّرْناهُمْ أو بتقدير فعل يفسره أَغْرَقْناهُمْ أي أغرقنا قوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم، أو بتقدير فعل «اذكر».
وَعاداً وَثَمُودَ منصوبان بالعطف على قَوْمَ نُوحٍ إذا نصب بتقدير «اذكر» أو بالعطف على فَدَمَّرْناهُمْ. ولا يجوز العطف على وَجَعَلْناهُمْ.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وَزِيراً معينا يؤازره في الدعوة إلى الله وإعلاء كلمته، ولا ينافي ذلك مشاركته في النبوة، لتآزرهما في الأمر. والوزير: من يستعان برأيه ويستشار في الأمور، يقال: وزير الملك أو الرئيس لأنه يؤازره ويعينه في أعباء الملك أو الرئاسة إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا هم فرعون وقومه القبط فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً أهلكناهم إهلاكا، وفيه محذوف تقديره: فذهبا إليهم فكذبوهما.
وَقَوْمَ نُوحٍ أي واذكر لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أي نوحا وغيره، أو نوحا وحده لأن تكذيبه تكذيب لباقي الرسل لاشتراكهم في الدعوة إلى التوحيد أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان وهو جواب لمّا وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ بعدهم أي جعلنا إغراقهم أو قصتهم للناس آيَةً عبرة وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً أعددنا في الآخرة للكافرين عذابا مؤلما، سوى ما يحل بهم في الدنيا. والجملة إما للتعميم، وإما للتخصيص فيكون وضعا للظاهر موضع الضمير.
وَعاداً أي واذكر عادا قوم هود وثمود أو: وثمودا: قوم صالح، فهو إما ممنوع من الصرف على أنه اسم قبيلة، وإما مصروف على أنه الحي أو اسم الأب الأكبر وَأَصْحابَ الرَّسِّ هم قوم كانوا يعبدون الأصنام ولهم آبار ومواش، فبعث الله إليهم شعيبا، وقيل: غيره، فكذبوه، فبينا هم حول الرّس: وهي البئر غير المطوية (غير المبنية) قعودا، انهارت بهم وبمنازلهم، جمع رساس. وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ أقواما بين ذلك المذكور، بين عاد وأصحاب الرس. وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ في إقامة الحجة عليهم، فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً أهلكنا إهلاكا بتكذيبهم أنبياءهم.
وَلَقَدْ أَتَوْا أي مرّ كفار مكة أثناء تجارتهم إلى الشام عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ هي سدوم عظمي قرى قوم لوط، فأهلك الله أهلها لفعلهم الفاحشة، بمطر مصحوب بالحجارة. والسوء: مصدر ساء أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها في أثناء سفرهم إلى الشام، فيعتبروا ويتعظوا بما يرون فيها من آثار عذاب الله. والاستفهام للتقرير. بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً أي بل كانوا كفرة لا يخافون بعثا، فلا يؤمنون ولا يتعظون.
بعد بيان شبهات المشركين حول القرآن والنبوة والبعث، ذكر الله تعالى قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم وما نزل بهم من عذاب بسبب تكذيبهم الرسل، ليعتبر هؤلاء المشركون، ويحذروا ما حلّ بمن سبقهم من الأمم الماضية من أليم العقاب، إذا بقوا على كفرهم وعنادهم، وذكر تعالى أربعة قصص هي ما يأتي:
القصة الأولى- قصة موسى وهارون عليهما السلام:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً بدأ تعالى بذكر موسى، فقال: وتالله لقد آتينا موسى التوراة، وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا له، أي نبيا مؤازرا ومعينا وناصرا. ونبوة هارون ثابتة في آية أخرى هي قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مريم ١٩/ ٥٣] لكنه وإن كان نبيا فالشريعة لموسى عليه السلام، وهو تابع له فيها، لذا أمر الاثنان بتبليغ رسالتهما في قوله تعالى:
فَقُلْنَا: اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً أي فقال الله تعالى آمرا موسى وهارون: اذهبا إلى فرعون وقومه لتبليغ الرسالة وهي إعلان الوحدانية والربوبية لله عز وجلّ، فلا إله غيره، ولا معبود سواه، فلما ذهبا كذبهما فرعون وجنوده، كما قال تعالى: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُلْ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى، فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى، فَكَذَّبَ وَعَصى [النازعات ٧٩/ ١٧- ٢١] وقال سبحانه: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي، وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي، اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ، إِنَّهُ طَغى، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى، قالا: رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى، قالَ: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه ٢٠/ ٤٢- ٤٦].
فلما كذب فرعون وقومه برسالة موسى وأخيه هارون، ولم يعترفوا بوحدانية
القصة الثانية- قصة نوح عليه السلام:
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ، وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً أي واذكر يا محمد لقومك ما فعله قوم نوح حين كذبوا رسولهم نوحا عليه السلام الذي مكث فيهم يدعوهم إلى توحيد الله ويحذرهم من عقابه ونقمته ألف سنة إلا خمسين، فما آمن به إلا قليل، فأغرقناهم بالطوفان، وجعلناهم عبرة وعظة للناس يعتبرون بها، كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً، وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقة ٦٩/ ١١- ١٢].
وقوله كَذَّبُوا الرُّسُلَ قصد به تكذيب نوح عليه السلام، على أساس أن من كذب رسولا واحدا، فقد كذب بجميع الرسل إذ لا فرق بين رسول ورسول، فدعوتهم إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام واحدة، ولو فرض أن الله تعالى بعث إليهم كل رسول، فإنهم كانوا يكذبون.
ثم عمّم تعالى الحكم فقال:
وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً أي وأعددنا وهيأنا عذابا مؤلما في الآخرة لكل ظالم كفر بالله، ولم يؤمن برسله، وسلك سبيلهم في تكذيب الرسل. وفي هذا تهديد لكفار قريش أنه سيصيبهم من العذاب مثلما أصاب قوم نوح.
القصة الثالثة- قصة عاد وثمود وأصحاب الرّس:
وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ أي واذكر أيها الرسول أيضا لقومك قصة عاد الذين كذبوا رسولهم هودا، وقصة قبيلة ثمود الذين كذبوا رسولهم صالحا، وقصة أصحاب الرس أي البئر وهم قوم من عبدة الأصنام أصحاب آبار وماشية،
وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً أي واذكر لهم أمما كثيرة بين قوم نوح وعاد وأصحاب الرس، لما كذبوا الرسل، أهلكناهم جميعا.
وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ، وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً أي وكل واحد من هؤلاء الأقوام بيّنا لهم الحجج، وأوضحنا لهم الأدلة، وأزحنا الأعذار عنهم، فلم يؤمنوا وإنما كذّبوا، بالرغم من الرد على كل الشبهات والاعتراضات، فأهلكناهم إهلاكا شديدا، كقوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء ١٧/ ١٧]. والقرن في الأظهر: هو الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد، فإذا ذهبوا وخلفهم جيل آخر فهو قرن آخر، كما
ثبت في الصحيحين: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».
والتتبير: التفتيت والتكسير.
القصة الرابعة- قصة لوط عليه السلام:
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أي ذكّر مشركي مكة بعبرة أخرى، وهي أنهم والله لقد مروا أثناء تجارتهم إلى الشام في رحلة الصيف على سدوم أعظم قرى قوم لوط التي أهلكها الله بالقلب (جعل عاليها سافلها) وبالمطر المصحوب بالحجارة من سجّيل، كما قال تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [الشعراء ٢٦/ ١٧٣] لارتكابهم الفاحشة.
أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها، بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً أي أفلم يروا ما حلّ بتلك القرية من عذاب الله ونكاله، بسبب تكذيبهم بالرسول، وبمخالفتهم أوامر الله، إنهم فعلا يرون ذلك، ولكنهم لم يعتبروا، ومنشأ عدم العظة والعبرة
[١١] فإن عدم الخوف من اليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب هو السبب الجوهري في الإعراض عن دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلم.
ورجح الرازي أن الرجاء في قوله تعالى لا يَرْجُونَ نُشُوراً على حقيقته لأن الإنسان لا يتحمل متاعب التكاليف إلا لرجاء ثواب الآخرة، فإذا لم يؤمن بالآخرة لم يرج ثوابها، فلا يتحمل تلك المتاعب.
فقه الحياة أو الأحكام:
الغرض من إيراد هذه القصص هنا واضح، وهو تحذير المشركين من تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلم، فيحل بهم من العذاب، كما حلّ بالأمم الماضية المكذبين رسل الله.
فالقصة الأولى- قصة موسى وأخيه هارون عليهما السلام، كان معهما التوراة، وأمرا بالذهاب إلى فرعون وقومه من أقباط مصر لدعوتهم إلى الإيمان بوجود الله، والإقرار بوحدانيته، فكذبوا بآيات الله الدالة على صدق النبوة والتوحيد، فدمرهم الله تدميرا، وأهلكهم إهلاكا شديدا بالإغراق في البحر.
والقصة الثانية- قصة نوح عليه السلام مع قومه الذي مكث يدعوهم إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام زمنا هو ألف سنة إلا خمسين، مما لم يمكث فيه نبي مع قومه مثل هذا، فبعد أن كذبوه ويئس من إيمانهم، أغرقهم الله جميعا بالطوفان، وجعلهم للناس آية أي علامة ظاهرة على قدرته، وأعدّ لهؤلاء المشركين من قوم نوح ولكل ظالم عذابا شديد الألم في الآخرة، ونجّى الله الذين آمنوا مع نوح في السفينة.
والقصة الثالثة- قصة عاد وثمود وأصحاب الرس وأقوام آخرين مما لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس، أنذروا جميعا، وضربت لهم الأمثال الحقة، وبيّنت لهم الحجة، فأبوا الإيمان، وكذبوا الرسل، فأهلكهم الله بالعذاب ودمرهم تدميرا. والرس في كلام العرب: البئر التي تكون غير مطوية.
وأصحاب الرسّ كما عرفنا كانوا قوما من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش، فبعث الله تعالى إليهم شعيبا عليه السلام، فدعاهم إلى الإسلام، فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه، فبينما هم حول الرس، خسف الله بهم وبدارهم. وقيل:
الرس: قرية باليمامة قتلوا نبيهم، فهلكوا، وهم بقية ثمود.
والقصة الرابعة- قصة لوط عليه السلام مع قومه في قرية سدوم إحدى قرى قوم لوط الخمس، دعاهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأصنام، والتطهر من الفاحشة، فأصروا على ما هم عليه لأنهم لا يصدقون بالبعث، أو لا يرجون ثواب الآخرة، فأهلكهم الله بمطر السوء، أي بالحجارة من السماء، وكان مشركو مكة يمرون في أسفارهم بتلك المدائن، ومع ذلك لم يعتبروا. قال ابن عباس: كانت قريش في تجارتها إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط، كما قال الله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
[الصافات ٣٧/ ١٣٧] وقال: وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ [الحجر ١٥/ ٧٩].
وقد أهلك الله تعالى أربعا من قرى قوم لوط بأهلها، وبقيت واحدة.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِناأَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)
الإعراب:
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً إِنْ بمعنى «ما» أي ما يتخذونك إلا ذا هزء أو موضع هزء أو مهزوءا به، مثل إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أي ما الكافرون إلا في غرور. أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا محكي بعد قول مضمر تقديره: قائلين: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا.
وأَ هذَا مبتدأ، والَّذِي خبره، ورَسُولًا إما منصوب على الحال وهو الأولى، أو على المصدر، بجعل رَسُولًا بمعنى «رسالة» مثل قول الشاعر:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم | بسرّ ولا أرسلتهم برسول |
إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا إِنْ هنا عند البصريين مخففة من الثقيلة، تقديره: ما كاد إلا يضلّنا.
البلاغة:
أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا الاستفهام للاستهزاء والتهكم، والإشارة للاستحقار.
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ تعجيب، وفيه تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية به، والأصل: اتخذ هواه إلها له، بأن أطاعه وبنى عليه دينه، لا يسمع حجة، ولا يبصر دليلا.
إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي ما يتخذونك إلا موضع هزء أو مهزوءا به أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا هناك محذوف تقديره: يقولون، أو قائلين: أهذا الذي بعث الله رسولا في دعواه، والاستفهام للاستهزاء والتقدير، والإشارة للاستحقار وعدم تأهله للرسالة في زعمهم. إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا... يصرفنا وإِنْ مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، أي إنه قارب إضلالنا، وصرفنا عن آلهتنا بفرط اجتهاده في الدعوة إلى التوحيد، لولا أننا ثبتنا على عبادة آلهتنا. وهذا اعتراف صريح من المشركين بأن محمدا بلغ الغاية في الدعوة إلى ربه.
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ عيانا في الآخرة، وهذا كالجواب عن قولهم: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا فإنهم نسبوا الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الضلال، وفيه وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه، وإن طالت مدة الإمهال، ولا بد للوعيد أن يلحقهم، فلا يغرنهم التأخير، وسينزل بهم العقاب ويعرفون حينئذ من أخطأ طريقا، أهم أم المؤمنون؟! أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أخبرني عمن جعل هواه إلهه، بأن أطاعه وبنى عليه دينه لا يسمع حجة، ولا يبصر دليلا وَكِيلًا حافظا تحفظه عن اتباع هواه أي مهويه، وتمنعه عن الشرك والمعاصي، وحاله هذا؟ لا، فالاستفهام الأول للتقرير والتعجيب، والثاني للإنكار.
أَمْ تَحْسَبُ بل أتحسب أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ سماع تفهم أَوْ يَعْقِلُونَ ما تقول لهم، فتجديهم الآيات أو الحجج، فتهتم بشأنهم وتطمع في إيمانهم، وهو أشد مذمة مما قبله حتى حق بالإضراب عنه إليه إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي ما هم إلا كالسوائم في عدم انتفاعهم بقرع الآيات بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا أبعد عن الحق طريقا منها لأنها تنقاد لمن يتعهدها بالرعاية، وهم لا يطيعون مولاهم وخالقهم المنعم عليهم بنعم كثيرة، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار.
سبب النزول: نزول الآية (٤١) :
روي أن هذه الآية نزلت في أبي جهل، فإنه كان إذا مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع صحبه قال مستهزئا: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا؟.
بعد بيان مواقف المشركين في إنكار نزول القرآن من الله، والطعن في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وعدم الإيمان برسالته، وإيراد الشبهات الواهية حول ذلك، أبان الله تعالى إسرافهم في الشطط والغلو والاستعلاء، وإساءتهم لهذا الرسول صلّى الله عليه وسلم بالاستهزاء به، والاستهانة بشخصه، والحط من قدره، متهكمين على اختياره للبعثة النبوية، ومغالين في ذلك حتى سموا دعوته إضلالا، ولجؤوا إلى التحذير من تأثير تلك الدعوة القوية والآيات والحجج البالغة التي شارفت أن تجرفهم إلى الإيمان، وترك دينهم إلى دين الإسلام، لولا ثباتهم على الوثنية، واستمساكهم بعبادة آلهتهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول صلّى الله عليه وسلم وتعييره بالعيب والنقص، فيقول:
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي إذا رآك أيها النبي المشركون الذين كفروا بالله ورسوله، ما يتخذونك إلا موضع هزء وسخرية، أو مهزوءا به، مقارنة بما هم عليه من العزة والسيادة والغنى، وما أنت عليه من الفقر واليتم والمسكنة.
أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ويقولون على سبيل التنقص والازدراء:
أهذا المبعوث من عند الله رسولا إلينا؟ كما قال تعالى في شأن غيره: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام ٦/ ١٠].
قبحهم الله، فلم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا المثل الأعلى للأنبياء وللبشر قاطبة في مشيه وسلوكه وتصرفاته وأخلاقه وفكره ومنطقه العذب، ولكنه العناد في
وفي هذا دلالة واضحة على تناقضهم وإظهارهم خلاف ما يعتقدون من الحقيقة لأنهم عرفوا محمدا الصادق الأمين الراجح العقل في غضون أربعين عاما من العمر قبل النبوة، ولم يوجهوا له يوما ما أي طعن أو نقد، وإنما على العكس كان محل احترام وإجلال من جميع قومه، كما هو معروف.
ثم إن في هذا القول اعترافا ضمنيا بقوة تأثير محمد صلّى الله عليه وسلم فيهم، بدعوتهم إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام بحجج بالغة وأدلة دامغة، حتى إنهم شارفوا مفارقة دينهم إلى الإسلام، لولا المكابرة والعناد والاستكبار والغلو، فراحوا يقولون بأن صنيعه إضلال.
وبعد أن حكى الله تعالى كلامهم زيّف طريقتهم وسفه آراءهم من وجوه ثلاثة:
الأول:
وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا هذا وعيد شديد لهم وتهديد على التعامي عن الحق والإعراض عن الاستدلال والنظر، وعلى وصفهم له بالإضلال، فإنهم حين يشاهدون العذاب الذي لا مفرّ لهم منه يدركون من أخطأ طريقا، أهم أم المؤمنون وهو صلّى الله عليه وسلم قائدهم، ومن الضّال ومن المضلّ؟
الثاني:
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ، أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا وهذا تنبيه على
قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني، وترك الأول.
وهذا دليل على ألا حجة لهم في عبادة الأصنام إلا التقليد واتباع الأهواء، ولا يرشد إلى طريقهم فكر ولا عقل سليم.
ونظير الآية قوله تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية ٨٨/ ٢٢]، وقوله سبحانه: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق ٥٠/ ٤٥]، وقوله عزّ وجلّ:
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة ٢/ ٢٥٦].
الثالث:
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا وهذا ذمّ أشد مما سبق، لذا عبر عنه بقوله أَمْ أي بل للإضراب عما سبق إليه، والمعنى بل أتظن أن أكثرهم يسمعون سماع تدبر وفهم، أو يتعقلون ويفكرون فيما تتلو عليهم، وترشدهم إليه من الفضائل والأخلاق الحميدة، فتجهد نفسك في إقناعهم بدعوتك، ونقلهم إلى العقيدة الصحيحة، فما حالهم إلا كالأنعام السائمة، بل هم أسوأ حالا من الأنعام السارحة، وأخطأ طريقا منها، فإن تلك البهائم تفعل ما هو خير لها ونفع، وتتجنب ما هو ضارّ
والسبب في قوله أَكْثَرَهُمْ لا الكل أن بعضهم عرف الله تعالى وعلم أن الإسلام حق، لكنه لم يعلن إسلامه لمجرد حب الرياسة.
وهذا دليل على فقدهم الإدراك الصحيح والوعي السليم، وتعطيلهم طاقات الحواس والمواهب الإلهية التي لو فكروا بموجبها دون تأثر بعصبية، أو تقليد موروث، أو هوى متبع كحب الزعامة والسيطرة، لانقادوا إلى رسالة الحق والتوحيد، وآمنوا بدعوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- اتّخذ المشركون النبي صلّى الله عليه وسلم موضع استهزاء وسخرية، فهل بعد هذا من جرم أفظع منه وأشنع؟
٢- دلّ قوله تعالى: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا.. على أمور: هي أنهم سمّوا ذلك إضلالا، وأن الرسول صلّى الله عليه وسلم بلغ أقصى الجهد والاجتهاد في صرفهم عن عبادة الأوثان، وأنهم لم يعترضوا على دلائل النبوة إلا بمحض الجحود والتقليد، وأن القوم أقروا بقوة حجته صلّى الله عليه وسلم وكمال عقله، لكنهم طاشوا كالمجانين، فاستهزؤوا به، وذلك فعل الجاهل العاجز المتحير في أمره.
٣- كان الرد الحاسم من الله على قبائح المشركين هذه من وجوه ثلاثة:
أنهم حين مشاهدة العذاب يدركون من أضل دينا أهم أم محمد؟
ثانيها:
أنهم لجهالتهم وإعراضهم عن آيات الله اتخذوا أهواءهم آلهة، فأصروا على الشرك، وقلدوا آباءهم، مع إقرارهم بأن الله خالقهم ورازقهم، وعبدوا الأحجار من غير حجة.
ثالثها:
أن أكثرهم لا يسمعون سماع قبول أو يفكرون فيما يقوله النبي صلّى الله عليه وسلم فيعقلونه، أي هم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع، وما هم إلا كالأنعام لا يفكرون في الآخرة، بل هم أضل إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام.
٤- دلّ قوله سبحانه: أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أي حفيظا وكفيلا حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من هذا الفساد، على أن الهداية والضلالة ليستا موكولتين إلى مشيئة النبي صلّى الله عليه وسلم، وإنما عليه التبليغ. والآية تسلية له عن تركهم الإيمان وإعراضهم عن دعوته.
أدلة خمسة على وجود الله وتوحيده
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٥ الى ٥٤]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩)
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤)
وَأَناسِيَّ معطوف على أَنْعاماً وواحده (أنسي) أو (إنسان). قال الفراء والزجاج: الأنسي والأناسي كالكرسي والكراسي. وقال الزمخشري: الأناسي: جمع أنسي أو إنسان.
البلاغة:
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً تشبيه بليغ، حذف منه أداة الشبه ووجه التشبيه، أي كاللباس الساتر.
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً مقابلة بين الليل والنهار، والنوم والتقلب في المعاش.
بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ استعارة، استعار اليدين لما هو أمام الشيء وقدّامه.
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ التفات من الغيبة: أَرْسَلَ الرِّياحَ إلى التكلم للتعظيم والامتنان.
هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ بينهما مقابلة، أي في نهاية العذوبة ونهاية الملوحة.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ ألم تنظر. إِلى رَبِّكَ إلى صنعه وفعله. مَدَّ الظِّلَّ بسطه، والظل:
خيال الأشياء المادية ذات الجسم كجبل أو بناء أو شجر من حين طلوع الشمس حتى غروبها. وهو دليل الحدوث وتصرف الله فيه على الوجه النافع، مما يدل على أن ذلك فعل الصانع الحكيم. وَلَوْ
ربك. ساكِناً ثابتا مقيما على حاله في القدر، فلا يزول ولا تذهبه الشمس بأن يجعل الشمس قائمة على وضع واحد. ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا أي جعلنا الشمس علامة على الظل، فلولا الشمس ما عرف الظل. ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً أي أزلنا الظل ومحوناه بإيقاع الشعاع عليه تدريجيا قليلا قليلا شيئا فشيئا بمعدل سير الشمس في فلكها وبمقدار ارتفاعها.
لِباساً جعل ظلام الليل ساترا كاللباس. سُباتاً راحة لأبدانكم بقطع الأعمال والمشاغل، من السبت وهو القطع. نُشُوراً ذا نشور، أي انتشار ينتشر فيه الناس للمعاش وابتغاء الرزق، أو بعثا من النوم بعث الأموات. بُشْراً مبشرات. بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدّام المطر، وقرئ: نشرا أي متفرقة قدّام المطر، جمع نشور كرسول ورسل. طَهُوراً مطهرا يتطهر به، لقوله تعالى: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال ٨/ ١١] وهو اسم لما يتطهر به، كالوضوء لما يتوضأ به، والوقود لما يوقد به. وتطهير الظواهر دليل على تطهير البواطن.
بَلْدَةً مَيْتاً أي لا نبات فيها، والميت يستوي فيه المذكر والمؤنث، وذكّر ميتا باعتبار المكان، أي لأن البلدة في معنى البلد. والفرق بين الميت بالتخفيف، والميّت بالتشديد أن الأول لمن مات حقيقة، والثاني لمن سيموت. وَنُسْقِيَهُ أي الماء. أَنْعاماً هي الإبل والبقر والغنم.
وَأَناسِيَّ كَثِيراً هم الناس، جمع أنسي. والمراد: أنعاما كثيرة وبشرا كثيرين لأن فعيل يراد به الكثرة.
صَرَّفْناهُ أي الماء بمعنى فرقناه وحولناه من جهة إلى أخرى، ومنه: تصريف الأمور.
لِيَذَّكَّرُوا أي يتذكروا نعمة الله به ويعتبروا. كُفُوراً كفران النعمة وإنكارها وقلة الاكتراث بها، حيث قالوا: مطرنا بنوء كذا أي سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه من المشرق، يقابله من ساعته في كل ثلاثة عشر يوما، ما عدا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، وقيل: إلى الطالع لأنه في سلطانه، وجمعه أنواء.
نَذِيراً نبيا ينذر أهلها ويخوفهم، ولكن بعثناك إلى أهل القرى كلها نذيرا، ليعظم أجرك. فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ في هواهم وفيما يريدون منك وهو تهييج له وللمؤمنين. وَجاهِدْهُمْ بِهِ بالقرآن أو بترك طاعتهم الذي يدل عليه. فَلا تُطِعِ والمعنى أنهم يجتهدون في إبطال حقك، فقابلهم بالاجتهاد في مخالفتهم وإزاحة باطلهم. جِهاداً كَبِيراً لأن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف. مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان. فُراتٌ مفرط العذوبة. مِلْحٌ أُجاجٌ شديد الملوحة. بَرْزَخاً حاجزا.
وَحِجْراً مَحْجُوراً تنافرا بليغا شديدا أو حدا محدودا. نَسَباً وَصِهْراً أي ذوي نسب وهم الذكور الذين ينسب إليهم، والصهر: أي ذوي صهر وهم الإناث اللائي يصاهر بهن.
لما بيّن الله تعالى جهل المعرضين عن أدلة التوحيد ومناقشتهم وفساد تفكيرهم في ذلك، ذكر خمسة أدلة دالة بنحو قاطع حسا وعقلا على وجود الصانع الحكيم، وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة.
التفسير والبيان:
أورد الحق تعالى أدلة خمسة على وجوده وقدرته من الظواهر الكونية التي يدركها ويشاهدها عيانا كل مخلوق وهي خلق الظل، والليل والنهار، والرياح والأمطار، والبحار المالحة والعذبة، والإنسان من الماء، وهي ما يلي:
١- أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ، وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ألم تنظر أيها الرسول وكل سامع إلى صنع ربك الذي يدل على كمال قدرته ومنتهى رحمته كيف بسط الظل، يتفيأ به الناس طوال النهار، وينعمون فيه بالوقاية من شدة حر الشمس، من طلوع الشمس إلى غروبها. ولو شاء لجعله ثابتا دائما على حال واحدة لا يتغير طولا وقصرا، وإنما جعله متفاوتا في ساعات النهار والفصول المختلفة، وفي ذلك فوائد كثيرة للإنسان والنبات والحيوان، ومن فوائده: اتخاذه مقياسا للزمن، حتى إن الفقهاء جعلوه علامة على بعض أوقات الصلاة، كالظهر عند الزوال، أي تحول الظل نحو المشرق وميل الشمس نحو المغرب، والعصر إذا بلغ ظل كل شيء مثله في رأي الجمهور، وعند أبي حنيفة: إذا بلغ ظل كل شيء مثليه.
وهذا على تفسير أَلَمْ تَرَ برؤية العين، والأولى في رأي الرازي حمله على رؤية القلب، والمعنى: ألم تعلم لأن الظل من المبصرات ولكن تأثير قدرة الله في تمديده غير مرئي.
وفي إيجاد الظل وتغيره بعد شروق الشمس إلى غروبها، وانتقاله من حال إلى حال، وقبضه وبسطه، والتصرف فيه على وفق الحكمة دليل واضح على وجود الإله القادر، الخبير البصير، العليم الحكيم، الرؤوف الرحيم.
٢- وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً، وَالنَّوْمَ سُباتاً، وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أي والله هو الذي جعل ظلام الليل ساترا كاللباس، كما قال: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل ٩٢/ ١] وجعل النوم كالموت قاطعا للحركة، توفيرا لراحة الأبدان والحواس والأعضاء، بعد إجهاد النهار، وعناء العمل، فبالنوم تسكن الحركات وتستريح الأعصاب والأعضاء والبدن والروح معا.
وجعل تعالى النهار مجالا للانتشار في الأرض، ينتشر فيه الناس لابتغاء الرزق وغيره، ويتوزعون فيه لمعايشهم ومكاسبهم.
وكما أن النوم يشبه الموت، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام ٦/ ٦٠] وقال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر ٣٩/ ٤٢] فإن الانتشار واليقظة يشبه البعث، قال لقمان لابنه: كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر.
ونظير الآية قوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص ٢٨/ ٧٣].
٣- وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي والله تعالى الذي يرسل الرياح مبشّرات بمجيء السحاب وهطول الأمطار.
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً أي وأنزلنا مطرا من السماء، أي السحاب وجعلناه طاهرا مطهّرا، أي وسيلة يتطهر بها في تنظيف الأجسام والملابس والأشياء المختلفة، والانتفاع به في الطعام والشراب وسقي النباتات والحيوانات. والطهور: اسم لما يتطهر به كالوضوء لما يتوضأ به، والوقود لما يوقد به.
روى الشافعي وأحمد وصححه، وأبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الماء طهور لا ينجّسه شيء».
وروى أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لما سئل عن التوضؤ بماء البحر: «هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته».
وقال سعيد بن المسيّب في هذه الآية: أنزله الله طهورا، لا ينجسه شيء.
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي وأنزلناه لإحياء الأرض التي لا نبات فيها، وطال انتظارها للغيث، فتصبح بعد ريها مزدهرة بأنواع النبات والزهر والشجر، كما قال تعالى: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
[الحج ٢٢/ ٥].
والخلاصة: ذكر الله تعالى لمنافع الماء أمرين: إحياء النبات، لقوله:
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وإحياء الحيوان والإنسان لقوله: أَنْعاماً وَأَناسِيَّ.
والسبب في تخصيص الإنسان والأنعام هنا بالذكر دون الطير والوحش مع انتفاع الكل بالماء هو شدة الحاجة، فالطير والوحش تبعد في طلب الماء، وتصبر على فقده أكثر من الناس والحيوان الأهلي، فلا يعوزها الشرب غالبا.
وتنكير الأنعام والأناسي، ووصفهما بالكثرة، لملاحظة أحوال الماشية البعيدة عن منابع الماء، وأهل البوادي الذين يعيشون بالمطر، أما أهل المدن والقرى فيقيمون عادة بقرب الأنهار ومنابع الماء، فهم في غنية عن المطر بشرب المياه المجاورة لهم.
وقدم الأنعام وأخر الإنسان عن النبات والحيوان لشدة حاجة الحيوان وكونه عاجزا عن التعبير عن مراده، أما الإنسان فيتفنن في استخراج الماء بوسائل عديدة، ولأن الناس إذا ظفروا بما يسقي أرضهم ومواشيهم، فقد ظفروا أيضا بسقياهم، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعيشتهم على سقيهم.
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي ولقد فرقنا المطر وحولناه من جهة إلى أخرى، فأمطرنا هذه الأرض دون هذه، وسقنا السحاب من مكان إلى آخر ليتذكروا نعمة الله ويعتبروا، فإن الحرمان من الشيء ثم الإفاضة به يذكّر بفضل الله ونعمته، فيوجب الشكر، ويدفع الإنسان إلى العظة والعبرة، ولكن أكثر الناس يأبون شكر النعمة، ويكفرون بها
ورد في صحيح مسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوما على أثر سماء أصابتهم من الليل: «أتدرون ماذا قال ربّكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي، مؤمن بالكوكب».
وفسر بعضهم قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ أي تصريف القرآن وتقليب حججه وآياته من حال إلى حال، ليذكر الناس ويتعظوا، ومع ذلك كفر به كثيرون.
وفي إنزال المطر والتحكم فيه من قبل الله دليل على وجوده وقدرته وحكمته، فإذا ما أحيا الله الأرض الميتة به، تذكر الناس أنه قادر على إحياء الأموات والعظام الرفات، وإذا ما حرم قوم المطر تذكروا أنما أصيبوا بالحرمان بذنب حدث منهم، فيقلعون عما هم عليه، ليتعرضوا إلى رحمة الله. وكما أن المطر نعمة ينبغي أن تذكر فتشكر، هناك نعمة عظمي على الإنسانية وهي إرسال الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم بالقرآن، فقال تعالى:
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أي لو أردنا أن نبعث في كل قرية رسولا منذرا يخوف الناس من عذاب أليم لفعلنا، ولكنا بعثناك يا محمد إلى الثقلين: الجن والإنس، وإلى جميع أهل الأرض، وأمرناك أن تبلغهم هذا القرآن، كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الشورى ٤٢/ ٧] وقال:
قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف ٧/ ١٥٨]
وجاء في الصحيحين: «بعثت إلى الأحمر والأسود»
أي إلى العجم والعرب.
وفيهما أيضا:
«وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»
وعموم البعثة لندّخر
فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً أي فلا تتبع الكفار فيما يدعونك إليه من مجاملة أو موافقة لآرائهم ومذاهبهم، وجاهدهم بكل سلاح مادي أو عقلي وهو القرآن جهادا شاملا لا هوادة فيه، متناسبا مع كل فرصة تنتهزها، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة ٩/ ٧٣]. والجهاد الكبير: هو الذي لا يخالطه فتور.
٤- وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً أي والله الذي جعل البحرين المتضادين متجاورين متلاصقين لا يمتزجان، هذا ماء زلال عذب شديد العذوبة، وهذا مالح شديد الملوحة، ولكن لا يختلط أحدهما بالآخر، كأن بينهما حاجزا منيعا، وكأنهما ضدان مفترقان متنافران لا يجتمعان، ولا يصل أحدهما إلى الآخر، فهما في مرأى العين واحد، ولكنهما في الحقيقة والواقع منفصلان، كما قال تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن ٥٥/ ١٩- ٢١] وقال: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النمل ٢٧/ ٦١].
أي دليل آخر يدل على قدرة الله الباهرة غير مثل هذا الدليل؟ إن الماء ماء واحد، ولكن الماء العذب لا يختلط بالماء المالح، والله خلق الماءين: الحلو والملح، وجعل الأنهار والعيون والآبار حلوة، وهي البحر الحلو الفرات الزلال، وجعل البحار في المشارق والمغارب والمحيطات الخمس مالحة، وملوحتها سبب لنقاوتها وعدم فسادها، ويتجدد هواء البحر بالمد والجزر، فتستطيع الأسماك في قيعانه العيش بسلام.
قال ابن سيرين: نزلت هذه الآية في النبي صلّى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه لأنه جمعه معه نسب وصهر. وقال ابن عطية: فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة.
وهذا دليل آخر على قدرة الله تعالى إذ خلق الإنسان في أحسن تقويم، وزوده بطاقات الحس والعقل، والمعرفة والتفكير، وأقدره على مخلوقات الدنيا، وجعلها مذلّلة مسخرة لخدمته ونفعه، فسبحانه من إله بديع الخلق، عجيب الصنع، واهب الوجود، ومبدع الكون العجيب.
فقه الحياة أو الأحكام:
في هذه الآيات أدلة خمسة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وهي:
أولا- خلق الظل المقابل للشمس وتمديده طوال النهار وانعدامه عند الظهيرة ما عدا سقف البيت والشجر، حكى أبو عبيدة عن رؤبة: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل.
والظل نعمة عظمي للأحياء والعقلاء في كل مكان، لا سيما في البلاد الحارة، ففيه الراحة والهدوء، وتوقي الحر، أو الوقاية من ضربات الشمس الحادّة، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ، عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ، سُجَّداً لِلَّهِ، وَهُمْ داخِرُونَ [النحل ١٦/ ٤٨].
والشمس دليل على الظل لأن الأشياء تعرف بأضدادها، ولولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة، فالشمس دليل، أي حجة وبرهان.
ويتفاوت طول الظل وقصره أثناء النهار تفاوتا سهلا يسيرا، شيئا فشيئا، والله هو الذي يقبضه بيسر وسهولة، وكل أمر ربنا عليه يسير.
ثانيا- الليل ستر للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن، والنوم راحة للأبدان بالانقطاع عن الأشغال، والنهار ذو نشور، أي انتشار للمعاش، فهو سبب الإحياء للانتشار. والنوم ليلا يشبه الإماتة، واليقظة نهارا تشبه البعث،
وكان صلّى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور».
ثالثا- الرياح مبشّرات بهطول المطر، تقود السحب من مكان إلى آخر، والأمطار الهاطلة حياة الأبدان والنباتات والحيوانات، وهي ماء طهور أي ما يتطهر به، والمراد أنه مطهر. وأجمعت الأمة على أن وصف (طهور) يختص بالماء، ولا يتعدى إلى سائر المائعات، وهي طاهرة.
والمياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة، على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها. والمخالط للماء ثلاثة أنواع: نوع يوافقه في صفتيه جميعا وهو التراب طاهر مطهر، ونوع يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة، فإذا خالطه فغيّره سلبه صلاحية التطهير وهو ماء الورد وسائر المائعات الطاهرات، ونوع يخالفه في الصفتين جميعا، وهو النجس.
ويرى الجمهور أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة، والكثير لا يفسده إلا
وميّز الشافعية بين القليل والكثير بمقدار القلتين (١٥ صفيحة) فإذا بلغ الماء قلتين، فوقعت فيه نجاسة، ولم تغير طعمه أو لونه أو ريحه، فهو طاهر مطهر، وإذا غيرت أحد أوصافه، ولو تغيرا يسيرا فنجس
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر: «إذا بلغ الماء قلّتين، لم يحمل الخبث» أو «لم ينجس»
قال الحاكم: على شرط الشيخين: البخاري ومسلم.
ولا حدّ عند المالكية بين القليل والكثير، والمرجع فيه إلى العرف والعادة، فما هو قدر آنية الوضوء والغسل قليل يسير، وما يزيد عن ذلك كثير.
ولا يضر تغير الماء بما في مقره وممره كزرنيخ وطحلب وورق شجر ينبت عليه. وكذلك لا يضر ما مات في الماء مما لا دم له، أو له دم سائل من دواب الماء، كالحوت والضفدع إن لم يغيّر ريحه.
والماء المستعمل القليل في رفع حدث أو إزالة نجس طاهر مطهر عند المالكية، وطاهر غير مطهر عند الجمهور. ودليل المالكية: الآية التي وصفت الماء بالطهور والمطهر، والأصل في الثابت بقاؤه، والسنة وهو
أنه صلّى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه بفضل ماء في يده، وأنه توضأ فأخذ من بلل لحيته، فمسح به رأسه،
والقياس: وهو أنه ماء طاهر لقي جسدا طاهرا، فأشبه ما إذا لقي حجارة أو حديدا. ودليل الجمهور
قوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم «١» وهو جنب»
ولو بقي الماء كما كان طاهرا مطهرا لما كان للمنع منه معنى.
والماء الطاهر المطهر الذي يجوز به الوضوء وغسل النجاسات: هو الماء الصافي من ماء السماء والأنهار والبحار والعيون والآبار، وما عرفه الناس ماء مطلقا غير مضاف إلى شيء خالطه كماء الورد، ولا يضره لون أرضه، كما بينا.
ولا بأس في مذهب الجمهور أن يتوضأ الرجل بفضل ماء وضوء المرأة وتتوضأ المرأة من فضل ماء وضوء الرجل، سواء انفردت المرأة بالإناء أو لم تنفرد روى الترمذي عن ابن عباس قال: حدثتني ميمونة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه مسلم أيضا.
رابعا- أرسل الله البحرين: العذب والمالح، وجعلهما متجاورين متلاصقين لا يمتزجان ولا يختلطان، وجعل بينهما حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه، وسترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر، فالبرزخ: الحاجز، والحجر: المانع.
خامسا- خلق الله تعالى من النطفة إنسانا، وجعل من الإنسان صنفين: الذكر والأنثى، وجعل الذكر موضع نسبة النسب، والأنثى سببا للمصاهرة، وإيجاد قرابات جديدة، فكل من النسب والصهر قرابة ويعمان كل قربى بين آدميين.
وتضمنت الآيات أيضا بالإضافة إلى الاستدلال بها على قدرة الله تعداد النعم على بني الإنسان من إيجاد الظل، وتعاقب الليل والنهار، وإنزال الأمطار،
كما تضمنت الآيات بيان فضله تعالى في إنزال القرآن على تفسير التصريف بتصريف آيات القرآن وترداد الحجج والبينات فيه، وفي بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم لجميع العالم في الشرق والغرب، فهاتان هما النعمتان العظيمتان على بني الإنسان، وعلى التخصيص المسلمين.
وإذا لم يكن النسب ثابتا شرعا لم تثبت حرمة المصاهرة، وعليه قال الجمهور: إذا لم يكن نسب شرعا، فلا صهر شرعا، فلا يحرّم الزنى بنت أم ولا أمّ بنت، ولا بنتا من الزنى، وما يحرّم من الحلال لا يحرّم من الحرام لأن الله امتنّ بالنسب والصهر على عباده، ورفع قدرهما، وعلّق الأحكام في الحل والحرمة عليهما، فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما. وقال الحنفية: تحرم البنت من الزنى أو الأخت أو بنت الابن من الزنى بسبب التولد من ماء الرجل.
جهل المشركين في عبادة الأوثان وتوجيه النبي وسبب جعل العبادة للرحمن
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥٥ الى ٦٢]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢)
وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ | أي على معصية ربه، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. |
وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أي كفاك الله، فحذف المفعول الذي هو الكاف، والباء:
زائدة، وخَبِيراً تمييز أو حال.
الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً الرَّحْمنُ: إما خبر مبتدأ محذوف أي هو الرحمن، أو مبتدأ، وفَسْئَلْ بِهِ خبره، أو الخبر الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أو بدل من ضمير اسْتَوى.
ويجوز النصب على المدح، والجر على البدل من الْحَيِّ وخَبِيراً: مفعول اسأل، وهو وصف لموصوف محذوف، تقديره: فاسأل به إنسانا خبيرا، والباء بمعنى (عن) مثل: فإن تسألوني بالنساء أي عن النساء.
أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا ما: إما اسم موصول، والتقدير: للذي تأمرنا به، فحذف حرف الجر ثم الهاء العائدة إلى الاسم الموصول. وإما مصدرية، فلا يكون هناك شيء محذوف.
المفردات اللغوية:
وَيَعْبُدُونَ أي الكفار. ما لا يَنْفَعُهُمْ بعبادته. وَلا يَضُرُّهُمْ بتركها، وهو الأصنام. ظَهِيراً معينا للشيطان بالعداوة والشرك. مُبَشِّراً بالجنة. وَنَذِيراً مخوّفا من النار. أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ ما أرسلت به. إِلَّا مَنْ شاءَ أي لكن فعل من أراد.
سَبِيلًا طريقا بإنفاق ماله في مرضاته تعالى، فلا أمنعه من ذلك، أو إلا من أراد أن يتقرب
وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ نزّهه عن صفات النقصان وصفه بصفات الكمال، قائلا: سبحان الله والحمد لله. خَبِيراً عالما بالظاهر والباطن. فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي قدر ستة أيام من أيام الدنيا، ولو شاء لخلقهن في لمحة واحدة، ولكنه عدل إلى ذلك لتعليم خلقه التثبت والتأني في الأمر والتدرّج.
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي استوى استواء يليق به على العرش الذي هو أعظم من خلق السموات والأرض وأعظم المخلوقات، وليس خلق العرش بعد خلق السموات لقوله تعالى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ [هود ١١/ ٧].
فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً أي اسأل بالرحمن أي عن الرحمن خبيرا يخبرك بصفاته. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ لكفار مكة أي قال لهم الرسول صلّى الله عليه وسلم، فهو الآمر بالسجود. لِما تَأْمُرُنا للذي تأمرنا به أي تأمرنا بسجوده. وَزادَهُمْ هذا القول نُفُوراً إعراضا عن الإيمان.
تَبارَكَ تعاظم. بُرُوجاً منازل الكواكب السيارة الاثني عشر المعروفة وهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، المجموعة في قول الشاعر:
حمل الثور جوزة السّرطان | ورعى الليث سنبل الميزان |
ورمى عقرب بقوس لجدي | نزح الدلو بركة الحيتان |
زحل شرى مرّيخه من شمه | فتزاهرت لعطارد الأقمار |
سِراجاً هو الشمس، وقرئ: سرجا بالجمع وهي الشمس والكواكب الكبار فيها. وَقَمَراً مُنِيراً مضيئا بالليل، وقرئ: قمر جمع قمراء، وخص الشمس والقمر بالذكر لفضيلتهما.
خِلْفَةً أي يخلف كل منهما الآخر بأن يأتي بعده ويقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه. أَنْ يَذَّكَّرَ أن يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه، فيعلم أنه لا بدّ له من صانع حكيم واجب الذات رحيم بالعباد، ويتذكر أيضا ما فاته في أحدهما من خير فيفعله في الآخر. أَوْ أَرادَ شُكُوراً أن يشكر الله على ما فيه من النعم.
بالرغم مما أبان الله تعالى من أدلة التوحيد في ظواهر الكون، فإن المشركين ظلوا يعكفون على عبادة الأصنام، فأخبر تعالى عن جهلهم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع، بلا دليل ولا حجة في ذلك، بل بمجرد التقليد والهوى والتشهي، تاركين اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلم الذي جاء يبشرهم بالخير إن أطاعوا، وينذرهم بالعذاب إن عصوا وأعرضوا، وهو لا يبتغي على ذلك أجرا.
ثم وجه الله تعالى رسوله بأن يتوكل على الله الحي الذي لا يموت، العالم بجميع المعلومات، القادر على كل الممكنات، فلا يرهب جانب المشركين ولا يخشى بأسهم، وأمره أيضا بأن ينزه ربه عن كل صفات النقص كالشريك والولد، ويصفه بجميع صفات الكمال، وأبان له أن وجوب السجود والعبادة لا يكون إلا للرحمن الذي خلق الكواكب السيارة وجعل لها منازل، وجعل الليل والنهار في تعاقب دائم للتذكر وتوجيه الشكر لله تعالى.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن ضلال المشركين عن عبادة الله وجهلهم وكفرهم بربهم فيقول:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ أي ويعبد المشركون آلهة من غير الله لا تنفعهم عبادتها، ولا يضرهم هجرها وتركها، ولا دليل لهم على ذلك إلا مجرد الهوى والتشهي، ويتركون عبادة من أنعم عليهم بالنعم السابق ذكرها في الآيات من مدّ الظل وغيره.
وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً أي وكان الكافر على معصية ربه معينا للشيطان بالعداوة والشرك أو يعينه على معصية الله. والمراد: جنس الكافر وهو عام في كل كافر.
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً أي أن المشركين قوم حمقى جهال، فكيف يعينون الشيطان على معصية الله ورسوله، مع أن الله أرسل رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلم ليبشر من أطاعه بالجنة، وينذر من عصاه بالنار؟ وأما أنت أيها الرسول فلا تأبه بعنادهم وكفرهم، فما أنت إلا نذير وبشير، وعلى الله الحساب والعقاب، فلا تحزن على عدم إيمانهم. وهل من جهل أعظم من الإمعان في إيذاء من يريد نفعهم في الدنيا والآخرة؟! ونظير الآية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة ٥/ ٦٧].
وهو يريد نفعهم بمحض الإخلاص دون أن يبغي لنفسه نفعا من أجر أو غيره، لذا قال تعالى: قُلْ: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي قل أيها الرسول لقومك: لا أطلب على هذا البلاغ وهذا الإنذار أجرة من أموالكم، وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى. ومِنْ للتأكيد.
إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي لم أسألكم أجرا أبدا، لكن من أراد أن يتقرب إلى الله بالإنفاق في الجهاد والتطوعات وغيرها، ويتخذ إلى ربه طريقا يؤدي به إلى رحمته ونيل ثوابه، بالعمل الصالح، فليفعل ولا يتردد.
والمراد: لا تصنعوا معي إحسانا بأجر تدفعونه لي، ولكن اطلبوا الأجر لأنفسكم بفعل الخير وعبادة الله وشكره.
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ بعد أن بيّن سبحانه
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «سبحانك اللهم ربّنا وبحمدك»
أي أخلص له العبادة والتوكل. ومعنى التوكل:
تفويض الأمر كله لله بعد اتخاذ الأسباب والوسائط المطلوبة شرعا وعقلا.
وللآية نظائر كثيرة مثل: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمّل ٧٣/ ٩] فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود ١١/ ١٢٣] قُلْ: هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا [الملك ٦٧/ ٢٩].
وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أي كفاك الله عالما علما تاما بمعاصي عباده، لا تخفى عليه خافية، يعلم ما ظهر منها وما بطن، وهو محصيها عليهم، ومجازيهم عليها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد ٥٧/ ٣]. وفي هذا سلوة لرسوله، ووعيد للكفار إن لم يؤمنوا على كفرهم ومعاصيهم.
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي أن الله الخبير العليم بكل شيء هو الذي أوجد السموات السبع والأرضين السبع في ستة أيام بقدرته وسلطانه، ثم استوى على العرش أعظم المخلوقات استواء يليق بعظمته، كما يقول السلف، وهو الأصح، واستولى على العرش كما يقول الخلف، يدبر الأمر، ويقضي بالحق، وهو خير الفاصلين. وكلمة ثُمَّ للترتيب الإخباري، لا للترتيب الزمني لأنها ما دخلت على خلق العرش، بل على رفعه على السموات.
تبين مما ذكر أن الله سبحانه لما أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بأن يتوكل عليه، وصف نفسه بأمور ثلاثة هي:
الأول- أنه حي لا يموت، وهو قوله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ.
الثاني- أنه عالم بجميع المعلومات، وهو قوله: وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً.
الثالث- أنه قادر على جميع الممكنات، وهو المراد من قوله: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لأنه لما كان هو الخالق للسموات والأرض وما بينهما ولا خالق سواه، ثبت أنه هو القادر على جميع وجوه المنافع ودفع المضارّ، وأن النعم كلها من جهته، فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه.
أما الكفار فقابلوا الشكر والتوكل بالكفر والاعتماد على النفس، فقال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ أي وإذا طلب منهم السجود لله الرحمن الرحيم، وعبادته وحده دون سواه، قالوا: لا نعرف الرحمن، وكانوا ينكرون أن يسمّى الله باسم الرَّحْمنُ وإذا كنا لا نعرف الرحمن فكيف نسجد له. وهذا شبيه بقول موسى لفرعون: إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف ٧/ ١٠٤] فقال فرعون: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشعراء ٢٦/ ٢٣].
وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن هذه السجدة التي في الفرقان يشرع السجود عندها لقارئها ومستمعها. وهذا شأن المؤمنين الذين يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم، ويفردونه بالألوهية، ويسجدون له. روى الضحاك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه سجدوا، فلما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين. فهذا هو المراد من قوله: وَزادَهُمْ نُفُوراً أي فزادهم سجودهم نفورا.
وبعد أن حكى سبحانه عن الكفار مزيد النفرة عن السجود، ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعبادة للرحمن، فقال:
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً يمجّد الله تعالى نفسه ويعظمها على جميل ما خلق في السموات، فيذكر أنه تعاظم وتقدس الله الذي جعل في السماء كواكب عظاما ومنازل لتلك الكواكب السيارة وغيرها، التي عدها المتقومون ألفا، ورصدتها الآلات الحديثة أكثر من مائتي ألف ألف، وجعل في السماء سراجا وهي الشمس المنيرة التي هي كالسراج في الوجود، كما قال: وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً [النبأ ٧٨/ ١٣] وجعل في السماء أيضا قمرا منيرا، أي مشرقا مضيئا، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس ١٠/ ٥].
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً أي والله هو الذي جعل الليل والنهار متعاقبين يخلف أحدهما الآخر ويأتي بعده، توقيتا لعبادة عباده له عز وجل. فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار،
جاء في الحديث الصحيح لدى الشيخين: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل».
وقال أنس بن مالك: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، وقد فاتته قراءة القرآن بالليل: «يا ابن الخطاب، لقد أنزل الله فيك آية وتلا:
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً.
ما فاتك من النوافل بالليل، فاقضه في نهارك، وما فاتك من النهار فاقضه في ليلك». وروى أبو داود الطيالسي عن الحسن أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى، فقيل له: صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه، فقال: إنه بقي عليّ من وردي شيء فأحببت أن أتمه، أو قال: أقضيه، وتلا هذه الآية: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً.
وهذه الآية وما قبلها من أدلة قدرة الله تعالى ووحدانيته ووجوده.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- إن مما يثير العجب والدهشة أن الله تعالى بعد أن عدد النعم وبيّن كمال قدرته، وجد المشركين باقين على إشراكهم به من لا يقدر على نفع ولا ضرر، بسبب جهلهم وعنادهم، وشأن الكافر أنه معين للشيطان على المعاصي.
٢- لا سلطان للرسول صلّى الله عليه وسلم في مجال الإيمان والطاعة على أحد، وإنما تقتصر مهمته على تبشير من أطاعه بالجنة، وإنذار من عصاه بالنار، يفعل ذلك بمحض الإخلاص وحب الخير للناس، دون أن يطلب على التبليغ والإنذار أو الوحي والقرآن أجرا ولا جزاء ولا شكورا.
٣- على الرسول صلّى الله عليه وسلم وكل مؤمن بعد اتخاذ الأسباب والوسائط أن يتوكل على الله الحي الذي لا يموت. والتوكل: اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور، وأن الأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها. ويجب تنزيه الله تعالى عما يصفه الكفار به من الشركاء، فيقول الواحد: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم أستغفر الله، كما ورد في المأثور. والتسبيح: التنزيه.
وحسبك أيها الإنسان أن الله عليم بكل شيء من أمورك ظاهرها وباطنها، فيجازيك عليها خيرا أو شرا.
٤- إن الله تعالى هو الحي الدائم الباقي الذي لا يموت ولا يفنى، وهو عالم بجميع المعلومات، قادر على كل الممكنات.
٥- الله سبحانه هو خالق كل شيء، خلق جميع السموات في ارتفاعها واتساعها، وخلق جميع الأرضين في سفولها وكثافتها. وقد أتم خلق السماء والأرض في ستة أيام لتعليم الناس التثبت والتروي والتؤدة. وخلق العرش واستوى عليه استواء يليق بجلاله وكماله وعظمته، وما على الجاهل إلا أن يسأل خبيرا بالله من رسول أو عالم، ثم يتبعه ويقتدي به.
قال الرازي في تفسير قوله: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ: الاستقرار غير جائز لأنه يقتضي التغير الذي هو دليل الحدوث، ويقتضي التركيب والبعضية، وكل ذلك على الله محال، بل المراد: ثم خلق العرش ورفعه على السموات، وهو مستول، كقوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ [محمد ٤٧/ ٣١] فإن المراد حتى يجاهد المجاهدون ونحن بهم عالمون. وليس خلق العرش بعد خلق السموات
٦- استبد العناد والاستكبار بالمشركين أنه إذا طلب منهم السجود للرحمن، قالوا على جهة الإنكار والتعجب: وما الرحمن؟ أي ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون: مسيلمة الكذاب، أنسجد لما تأمرنا أنت يا محمد؟ وزادهم هذا الأمر نفورا عن الدين، ومن شأنه حملهم على الفعل والقبول. كان سفيان الثوري يقول في هذه الآية: إلهي زادني لك خضوعا ما زاد عداك نفورا.
٧- من أدلة قدرة الله تعالى ووحدانيته: جعله في السماء بروجا، أي منازل للكواكب العظام كالزّهرة والمشتري وزحل والسماكين ونحوها، وجعله فيها الشمس ضياء والقمر نورا ينير الأرض إذا طلع، وجعله الليل والنهار في تعاقب دائم في الضياء والظلام والزيادة والنقصان، لا عبثا وإنما ليتذكر المقصر تقصيره والمسيء إساءته، فيصلح ما بدر منه، ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم. قال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن: معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار أدركه بالليل.
ففي الليل دعة وسكون وهدوء يستدعي التذكر، وفي النهار حركة وتصرف وانشغال قد يشغل عن التذكر، أو يكون سببا لتذكر ما مر من الليل بالنوم، فيستدرك المؤمن ما فاته في أحدهما من الخير في وقت الآخر، فهما وقتان للمتذكرين والشاكرين، والله يتقبل عمل الليل وعمل النهار، فهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.
ثم إن سكون الليل والتصرف بالنهار نعمة تستحق الشكر، كما قال تعالى:
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص ٢٨/ ٧٣].
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٣ الى ٧٧]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢)
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّيدُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)
وَعِبادُ الرَّحْمنِ: مبتدأ، وخبره: الَّذِينَ يَمْشُونَ.
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اصْرِفْ إلى قوله: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا هَبْ لَنا مبتدأ، وخبره أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ.
قالُوا: سَلاماً منصوب على المصدر أي (تسليما) فسلام في موضع تسليم.
وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً اسم كانَ مضمر فيها، وقَواماً خبرها، أي كان الإنفاق ذا قوام بين الإسراف والإقتار. ويجوز جعل بَيْنَ متعلقا بخبر كانَ أي كائنا بين ذلك، فيكون قَواماً خبرا بعد خبر.
يُضاعَفْ بالجزم: بدل من يَلْقَ أَثاماً والفعل يبدل من الفعل، كما يبدل الاسم من الاسم. ويقرأ بالضم على أنه في موضع الحال، أو على الاستئناف والقطع مما قبله.
مَتاباً منصوب على المصدر، وهو مصدر مؤكد. وأصله: متوب، فنقلت الفتحة من الواو إلى التاء، فتحركت في الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا.
كِراماً حال من واو مَرُّوا.
صُمًّا وَعُمْياناً حال من واو لَمْ يَخِرُّوا.
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً إِماماً أي إماما واحدا أريد به الجمع، أي أئمة كثيرا، واكتفى بالواحد عن الجمع للعلم به، كقولهم: نزلنا الوادي فصدنا غزالا كثيرا، أي غزلانا. ويجوز أن يكون جمع (آمّ) على وزن فاعل، وفاعل يجمع على فعال نحو قائم وقيام وصاحب وصحاب.
لِزاماً خبر يَكُونُ واسمها مضمر فيها، وتقديره: فسوف يكون التكذيب لزاما لدلالة قوله: كَذَّبْتُمْ.
البلاغة:
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الإضافة للتشريف والتكريم.
سُجَّداً وَقِياماً ولَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا بين كلّ طباق.
حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً وساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً مقابلة بين نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار.
قُرَّةَ أَعْيُنٍ كناية عن الفرحة والسرور، وكذلك الْغُرْفَةَ كناية عن الدرجات العالية في الجنة.
المفردات اللغوية:
هَوْناً الهون: اللين والرفق، والمراد أنهم يمشون بسكينة وتواضع ووقار، دون تكبر ولا تجبر. الْجاهِلُونَ السفهاء. سَلاماً أي تسليم متاركة بلا خير ولا شر، أو سدادا من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم. يَبِيتُونَ يدركون الليل، ناموا أو لم يناموا. سُجَّداً جمع ساجد. وَقِياماً أي قائمين يصلون بالليل. وخصّ البيتوتة لأن العبادة بالليل أبعد عن الرياء، وأكثر خشوعا وقربة إلى الله تعالى.
غَراماً لازما لا يفارق لأنه عذاب دائم، وهو إشارة إلى أنهم مع اجتهادهم في عبادة الحق خائفون من العذاب، مبتهلون إلى الله في صرفه عنهم، لعدم اعتدادهم بأعمالهم. ساءَتْ بئست. مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً موضع استقرار وإقامة. والجملة تعليل لما سبق.
أَنْفَقُوا على عيالهم وأنفسهم. لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا لم يجاوزوا الحدّ المعتاد، ولم يضيقوا تضييق الشحيح، والقتر والإقتار والتقتير: البخل. وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً أي كان الإنفاق بين الإسراف والإقتار وسطا عدلا. وقرئ بكسر القاف أي ما يقام به الحاجة، لا يفضل عنها ولا ينقص، وهو ما يدوم عليه الأمر ويستقر.
لا يَدْعُونَ لا يعبدون ولا يشركون. حَرَّمَ اللَّهُ أي حرّمها بمعنى حرّم قتلها.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ واحدا من الثلاثة. أَثاماً عقوبة وجزاء إثم في الآخرة، والآثام: الإثم، والمراد جزاؤه. يُضاعَفْ وفي قراءة: يضعّف، وسبب مضاعفة العذاب انضمام المعصية إلى الكفر. مُهاناً ذليلا مستحقرا. يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ أي في الآخرة. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي ولم يزل متصفا بذلك، فيعفو عن السيئات ويثيب على الحسنات. وَمَنْ تابَ من ذنوبه أو معاصيه، بتركها والندم عليها. وَعَمِلَ صالِحاً يتلافى به ما فرط. فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً يرجع إلى الله رجوعا مرضيا عند الله، ماحيا للعقاب، ومحصلا للثواب، فيجازيه عليه. وهذا تعميم بعد تخصيص.
لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ لا يقيمون الشهادة الباطلة أو الكاذبة، والزُّورَ الكذب والباطل، والمقصود: لا يعينون أهل الباطل على باطلهم. بِاللَّغْوِ ما يجب أن يلغى ويطرح
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي وعظوا بالقرآن. لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها يسقطوا، والخرور: السقوط على غير نظام ولا ترتيب. صُمًّا وَعُمْياناً المراد: لم يقيموا عليها غير واعين ولا متبصرين بما فيها، كمن لا يسمع ولا يبصر، بل أقبلوا عليها سامعين بآذان واعية، مبصرين ناظرين منتفعين. قُرَّةَ أَعْيُنٍ لنا بأن نراهم مطيعين لك، والمراد: الفرح والسرور بتوفيقهم للطاعة وحيازة الفضائل، فإن المؤمن يسرّ قلبه بطاعة أهله وأولاده لربهم، ليلحقوا به في الجنة.
ومِنْ في قوله: مِنْ أَزْواجِنا.. ابتدائية أو بيانية. وتنكير الأعين للتعظيم، والإتيان بجمع القلة في كلمة أَعْيُنٍ لأن المراد أعين المتقين، وهي قليلة بالنسبة إلى عيون غيرهم.
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً في الخير، يقتدون بنا في أمر الدين، بإفاضة العلم والتوفيق للعمل.
وأفرده، وأراد به الجمع، أي أئمة يقتدى بهم في إقامة مراسم الدين، لأنه يستعمل للمفرد والجمع.
الْغُرْفَةَ كل بناء مرتفع عال، والمراد الدرجة العليا في الجنة أو أعلى مواضع الجنة، وهي اسم جنس أريد به الجمع، لقوله تعالى: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سبأ ٣٤/ ٣٧].
بِما صَبَرُوا بصبرهم على المشاق والقيام بطاعة الله. وَيُلَقَّوْنَ فِيها بالتشديد، والتخفيف، أي يلقون في الغرفة. تَحِيَّةً وَسَلاماً من الملائكة، أي تحييهم الملائكة ويسلمون عليهم، وهو دعاء بالتعمير والسلامة. أو يحيي بعضهم بعضا ويسلم عليه. حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً موضع استقرار وإقامة دائمة لهم.
قُلْ يا محمد لأهل مكة ما يَعْبَؤُا بِكُمْ ما يعتدّ بكم ولا يبالي ولا يكترث، وما:
نافية. دُعاؤُكُمْ إياه في الشدائد، فيكشفها، أو عبادتكم له تعالى، فإن شرف الإنسان وكرامته بالمعرفة والطاعة، وإلا فهو وسائر الحيوانات سواء. فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أي كيف يعبأ بكم وقد كَذَّبْتُمْ الرسول والقرآن. فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أي سوف يكون العذاب وجزاء التكذيب ملازما لكم في الآخرة حتى يقذفكم في النار، بعد ما يحلّ بكم في الدنيا، فقتل منهم يوم بدر سبعون. وجوابدلّ عليه ما قبله، أي لولا دعاؤكم لم يبال بكم.
سبب النزول:
نزول الآية (٦٨) :
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ:
أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: سألت
وأخرج الشيخان عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة؟ فنزلت: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله: غَفُوراً رَحِيماً. ونزل: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية [الزمر ٣٩/ ٥٣].
سبب نزول الآية (٧٠) :
إِلَّا مَنْ تابَ: أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: لما أنزلت في الفرقان: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ الآية، قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس بغير حق، ودعونا مع الله إلها آخر، وأتينا الفواحش، فنزلت: إِلَّا مَنْ تابَ الآية.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة، وإعراض الكافرين عن السجود له، بالرغم من اطلاعهم على دلائل التوحيد والقدرة الإلهية، ذكر صفات المؤمنين عباد الرحمن التي استحقوا من أجلها أعلى منازل الجنان، وأنه خصّ اسم العبودية بالمشتغلين بالعبادة، مما يدل على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوقات، فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره وقلبه ولسانه بما أمره، فهو الذي يستحق اسم العبودية.
ثم بيّن الله تعالى جزاءهم الكريم وهو نيل الغرفة التي هي الدرجة الرفيعة، وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها، كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا «١».
التفسير والبيان:
هذه صفات عباد الله المؤمنين عباد الرحمن الذين استحقوا أعلى الدرجات في الجنة، وهي في الجملة تسع صفات:
١- التواضع: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي وعباد الله المخلصين الربانيين الذين لهم الجزاء الحسن من ربهم هم الذين يمشون في سكينة ووقار، من غير تجبر ولا استكبار، يطؤون الأرض برفق، ويعاملون الناس بلين، لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا، كما قال تعالى حاكيا وصية لقمان لابنه: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [لقمان ٣١/ ١٨].
وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعا ورياء، وإنما بعزة وأنفة هي عزة المؤمن المتواضع لله وحده، فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم سيد ولد آدم إذا مشى كأنما ينحطّ من صبب «٢»، وكأنما الأرض تطوى له.
(٢) أي كأنما ينحدر من مكان عال مرتفع.
وإنما المراد بالهون هنا: السكينة والوقار، كما
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أبي هريرة: «إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها، وعليكم السكينة، فما أدركتم منها فصلوا، وما فاتكم فأتموا».
وروي أيضا أن عمر رضي الله عنه رأى غلاما يتبختر في مشيته، فقال: إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله، وقد مدح الله أقواما فقال: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً
فاقصد في مشيتك.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا [الإسراء ١٧/ ٣٧].
٢- الحلم أو الكلام الطيب: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا: سَلاماً أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيء، لم يقابلوهم بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرا، كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلما، وكما قال تعالى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص ٢٨/ ٥٥].
قال النحاس: ليس سَلاماً من التسليم، إنما هو من التسلّم، تقول العرب:
سلاما، أي تسلّما منك، أي براءة منك.
وروى الإمام أحمد عن النعمان بن مقرّن المزني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وسبّ رجل رجلا عنده، فجعل المسبوب يقول: عليك السلام-: «أما إن ملكا بينكما يذبّ عنك، كلما شتمك هذا، قال له: بل أنت، وأنت أحقّ به، وإذا قلت له: وعليك السلام قال: لا، بل عليك، وأنت أحق به».
وقال الحسن البصري: قالوا: سلام عليكم: إن جهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون.
هاتان صفتان بينهم وبين الناس وهما ترك الإيذاء وتحمل الأذى، ثم ذكر الله تعالى صفاتهم فيما بينه وبينهم فقال:
٣- التهجد ليلا: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً أي أن سيرتهم في الليل كسيرتهم في النهار، فنهارهم خير نهار، وليلهم خير ليل، فإذا أمسوا أو أدركوا الليل باتوا ساجدين قائمين لربهم، يصلّون بعض الليل أو أكثره، طائعين عابدين، كما قال تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات ٥١/ ١٧- ١٨]، وقال سبحانه: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السجدة ٣٢/ ١٦]، وقال عزّ وجلّ: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً، يَحْذَرُ الْآخِرَةَ، وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر ٣٩/ ٩].
قال ابن عباس: من صلّى ركعتين أو أكثر بعد العشاء، فقد بات لله ساجدا وقائما.
٤- الخوف من عذاب الله: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ أي والذين يخافون ربّهم ويدعونه في وجل، ويقولون في حذر: ربّنا أبعد عنا عذاب جهنّم وشدته، كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٦٠]. ثم ذكر تعالى أن علة سؤالهم ودعائهم شيئان:
الأول- إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي إن عذابا كان ملازما دائما للإنسان العاصي، لزوم الدائن الغريم لمدينه، أو هلاكا وخسرانا لازما.
٥- الاعتدال في الإنفاق: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً أي والذين إذا أنفقوا على أنفسهم أو عيالهم ليسوا بالمبذّرين في إنفاقهم، فلا ينفقون فوق الحاجة، ولا بالبخلاء، فيقصرون في حقهم وفيما يجب عليهم، بل ينفقون عدلا وسطا خيارا، بقدر الحاجة، وخير الأمور أوسطها، كما قال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء ١٧/ ٢٩] أي الوسطية في الاعتدال، وترك الإسراف والتقتير.
وهذا أساس الاقتصاد وعماد الإنفاق في الإسلام،
روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من فقه الرجل قصده في معيشته».
وروى الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما عال من اقتصد».
وروى الحافظ أبو بكر البزّار عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما أحسن القصد في الغنى، وما أحسن القصد في الفقر، وما أحسن القصد في العبادة».
فالتبذير سبب في ضياع مال الشخص ومال الأمة: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الإسراء ١٧/ ٢٧] ومن المعلوم أنه لا سرف في الخير، ولا خير في السرف، قال الحسن البصري: ليس في النفقة في سبيل الله سرف. وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله تعالى فهو سرف. وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوّجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ فقال له عمر:
الحسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية. وقال عمر بن الخطاب: كفى بالمرء سرفا
وفي سنن ابن ماجه عن أنس بن مالك قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن من السّرف أن تأكل كل ما اشتهيت».
ثم ذكر الله تعالى صفات سلبية بعيدة عن المؤمنين، وإنما هي من صفات المشركين والفاسقين فقال:
٦- البعد عن الشرك والقتل والزنى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ أي والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر، فيجعلون مع الله في عبادتهم شريكا آخر، وإنما يخلصون له الطاعة والعبادة، ولا يقتلون النفس عمدا إلا بحق، كالكفر بعد الإيمان، والزنى بعد الإحصان، وقتل النفس بغير حق، ويكون القتل بحكم الحاكم أو القاضي لا برأي شخصي، ولا يزنون، وهذه أعظم الجرائم: الشرك، والقتل العمد العدوان، والزنى، والجريمة الأولى عدوان على الله، والثانية عدوان على الإنسانية، والثانية عدوان على الحقوق وانتهاك للأعراض.
فإذا جعلنا هذه الصفات ثلاثا، صارت إحدى عشرة، كما ذكر القرطبي. ثم توعد الله تعالى مرتكب هذه الجرائم فقال:
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً أي ومن يفعل واحدة من تلك الجرائم الثلاث، يلق في الآخرة عقابا شديدا وجزاء إثمه وذنبه الذي ارتكبه، بل يضاعف له العذاب ضعفين بسبب انضمام المعصية إلى الكفر، ويخلد في نار جهنم أبدا مع الإهانة والإذلال والاحتقار، وذلك عذابان: حسي ومعنوي.
ثم فتح الله تعالى باب التوبة للترغيب في الإصلاح والعودة إلى الاستقامة فقال:
إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي لكن من تاب في الدنيا إلى الله عزّ وجلّ عن جميع ذلك بأن أقلع عن
روى أبو ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن السيئات تبدل بحسنات»
وروى أحمد والترمذي والبيهقي عن معاذ أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»
وهذا الحديث مؤكد لقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود ١١/ ١١٤].
والخلاصة: في معنى قوله يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قولان «١» :
القول الأول- أنهم بدّلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال الحسن البصري: أبدلهم الله بالعمل السيء العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصا، وأبدلهم بالفجور إحصانا، وبالكفر إسلاما. أي أن التبديل يكون في الدنيا، وأثره في الآخرة.
والقول الثاني- أن تلك السيئات تنقلب بالتوبة النصوح نفسها حسنات، وما ذاك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم، واسترجع واستغفر، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار، أي أن التبديل يكون في الآخرة.
والظاهر القول الأول، وأن التوبة تجبّ ما قبلها، وتفتح للتائب صفحة جديدة، فيثاب على الأعمال الصالحة، ويعاقب على السيئات، كغيره من المؤمنين.
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً أي ومن تاب عن معاصيه، وعمل الأعمال الصالحة، فإن الله يقبل توبته، لأنه رجع إلى الله رجوعا مرضيا عند الله، فيمحو عنه العقاب، ويجزل له الثواب.
وللآية نظائر كثيرة، مثل قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التوبة ٩/ ١٠٤] وقوله سبحانه: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر ٣٩/ ٥٣].
٧- البعد عن شهادة الزور أو تجنب الكذب: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ، وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً أي الذين لا يشهدون شهادة الزور وهي الكذب متعمدا على غيره، أو لا يحضرون مواضع الكذب، قال ابن كثير:
والأظهر من السياق أن المراد لا يحضرون الزور، ولهذا قال تعالى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً أي لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به مرّوا، ولم يتدنسوا منه بشيء. ونظير الآية: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقالُوا: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص ٢٨/ ٥٥].
والواقع أن الآية تدل على أمرين: تحريم شهادة الزور وتجنب مجالس اللغو أو العفو عن المسيء، ويستدل بها الفقهاء على الأمر الأول، كما
ورد في الصحيحين عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثا، قلنا: بلى، يا رسول الله، قال: «الشرك بالله، وعقوق الوالدين» وكان متكئا فجلس فقال: «ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور»
فما يزال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخّم وجهه (يطليه بالسواد) ويحلق رأسه، ويطوّف به السوق.
٨- قبول المواعظ: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً أي والذين إذا ذكّروا بالآيات، أكبّوا عليها حرصا على استماعها،
٩- الابتهال إلى الله تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ، وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي والذين يبتهلون إلى ربّهم داعين الله أن يرزقهم زوجات صالحات وأولادا مؤمنين صالحين مهديين للإسلام يعملون الخير، ويبتعدون عن الشر، تقرّ بهم أعينهم، وتسرّ بهم نفوسهم، فإن المؤمن إذا رأى من يعمل بطاعة الله قرّت عينه، وسرّ قلبه في الدنيا والآخرة. ويدعونه أيضا أن يجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير واتباع أوامر الدين.
وبذلك أحبوا أن تتصل عبادتهم بعبادة زوجاتهم وذرياتهم، وأن يكون هداهم متعديا إلى غيرهم بالنفع فهم دعاة خير وبر، وذلك أكثر ثوابا، وأحسن مآبا.
روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
قال بعضهم: في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها، قال إبراهيم الخليل عليه السلام: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ.
ثم ذكر الله تعالى جزاء المتصفين بتلك الصفات الإحدى عشرة فقال:
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد ١٣/ ٢٣- ٢٤]. ودلّ قوله: بِما صَبَرْتُمْ على أن الجنة بالاستحقاق.
ومفاد الآية أن الطائعين في نعيم الجنة مع التعظيم والاحترام، على عكس العصاة الذين يضاعف لهم العذاب، مع الإهانة والاحتقار.
خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أي إن نعيمهم دائم لا ينقطع، فهم مقيمون في الجنان، إقامة مستمرة لا يحوّلون، ولا يموتون ولا يزولون عنها، ولا يبغون عنها حولا، حسنت منظرا، وطابت مقيلا ومنزلا، كما قال تعالى:
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود ١١/ ١٠٨].
والخلاصة: أن الله وعد عباد الرحمن بالمنافع الجلي في الجنة أولا، وبالتعظيم ثانيا، ثم بيّن أن صفتهما الدوام: خالِدِينَ فِيها، والخلوص أيضا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً.
قُلْ: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّيدُعاؤُكُمْ أي إن الله غني عن عباده، وإنما كلفهم لينتفعوا، وعذبهم لعصيانهم، فلا يبالي بهم ولا يكترث إذا لم يؤمنوا به ولم يعبدوه، فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا، كما قال سبحانه: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات ٥١/ ٥٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه هي صفات عباد الرحمن، وهي إحدى عشرة صفة، يستحق بها أهلها المنازل العالية في الجنان.
الصفة الأولى:
التواضع والطاعة لله تعالى: ويكون ذلك بالعلم بالله والخوف منه، والمعرفة بأحكامه، والخشية من عذابه وعقابه.
الصفة الثانية:
الحلم والكلام الطيب: فإذا أوذوا قابلوا الإساءة بالإحسان، قال الحسن البصري: «حلماء، إن جهل عليهم لم يجهلوا» أي على نقيض خلق الجاهلية:
«ونجهل فوق جهل الجاهلين» وإنما يقول المؤمن للجاهل كلاما موصوفا بالرفق واللين.
الصفة الثالثة:
التهجّد ليلا: أي العبادة الخالصة لله تعالى في جوف الليل، فإنها أكثر خشوعا، وأضبط معنى، وأبعد عن الرياء.
الخوف من عذاب الله تعالى: أي أنهم مع طاعتهم مشفقون خائفون وجلون من عذاب الله، سواء في سجودهم وقيامهم لأن عذاب جهنم لازم دائم غير مفارق، وبئس المستقر، وبئس المقام، وهم يقولون ذلك عن علم، وإذا قالوه عن علم، كانوا أعرف بعظم قدر ما يطلبون، فيكون ذلك أقرب إلى النجاح.
الصفة الخامسة:
الاعتدال في الإنفاق دون إسراف ولا تقتير، والمراد من النفقة نفقة الطاعات في المباحات، فهذه يطالب فيها الإنسان ألا يفرط فيها حتى يضيع حقا آخر أو عيالا، وألا يضيق أيضا ويقتر، حتى يجيع العيال، ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي العدل، والقوام في كل واحد بحسب حاله وعياله، وصبره وجلده على الكسب، وخير الأمور أوساطها، وهذه الوسطية خير للإنسان في دينه وصحته ودنياه وآخرته.
أما النفقة في معصية الله فهو محظور حظرته الشريعة قليلا كان أو كثيرا، وكذلك التعدي على مال الغير، هو حرام أيضا.
الصفة السادسة:
البعد عن الشرك: وهو عبادة أحد مع الله أو عبادة غير الله، وهو أكبر الجرائم، لذا قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨].
الصفة السابعة:
الابتعاد عن القتل العمد: وهو إزهاق النفس الإنسانية عمدا دون حق، وهو اعتداء على صنع الله، وإهدار لحق الحياة الذي هو أقدس حقوق الإنسان.
الصفة الثامنة:
اجتناب الزنى: وهو انتهاك حرمة العرض، وهو جريمة خطيرة تؤدي إلى اختلاط الأنساب، وإشاعة الأمراض، وهدم الحقوق، وإثارة العداوات والأحقاد والبغضاء.
ومن يرتكب هذه الجرائم العظمى (الشرك، والقتل، والزنى) يضاعف له العذاب في نار جهنم، ويكون مخلّدا فيها ذليلا خاسئا مبعدا مطرودا من رحمة الله تعالى.
لكن إذا تاب الكافر والقاتل والزاني تقبل توبته، ويبدل الله سيئته حسنة إما في الدنيا على رأي، بأن يجعل الإيمان محل الشرك، والإخلاص محل الشك، والإحصان مكان الفجور، وإما في الآخرة على رأي آخر فيمن غلبت حسناته على سيئاته. وقيل: التبديل عبارة عن الغفران، أي يغفر الله لهم تلك السيئات، لا أن يبدلها حسنات.
ثم أكّد الله قبول التوبة الصادقة النصوح من كل إنسان.
الصفة التاسعة:
تجنب الكذب والباطل وشهادة الزور، فلا يحضر المسلم مجالس اللغو والكذب والغناء واللهو ونحوها، ولا يؤدي شهادة الزور مهما كانت البواعث والأسباب لأنها محرمة لذاتها. لذا قال أكثر أهل العلم: ولا تقبل له شهادة أبدا، وإن تاب وحسنت حاله، فأمره إلى الله تعالى.
قبول المواعظ: فإذا قرئ القرآن عليهم ذكروا آخرتهم ومعادهم، ولم يتغافلوا حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع.
الصفة الحادية عشرة:
الابتهال إلى الله بجعل توابع الإنسان من أزواج وذريات هداة مهديين مطيعين لله، تقرّ النفوس بهم، وتثلج الصدور بسيرتهم العطرة، وأن يكونوا أئمة وقدوة يقتدى بهم في الخير، ولا يكون ذلك إلا إذا كان الداعي تقيا صالحا.
وهذا يدل على جواز الدعاء بالولد، وللولد وللزوجة، وبأن يكون نفع الإنسان شاملا غيره.
وجزاؤهم الدرجات العليا في غرفات الجنان، مع التوقير والاحترام، بالتحية والسلام، والخلود الدائم، والتمتع بحسن المقام والمنظر والاستقرار.
ونفع الطاعة للعباد لا لله، فالله غني عن عباده، فلولا عبادتهم وكثرة استغاثتهم إليه في الشدائد ونحوها، لما ب إلى الله بهم ولا اكترث بشأنهم. فإن كذبوا بما دعوا إليه من الإيمان وعبادة الله كان تكذيبهم ملازما لهم، وجزاء التكذيب دائم لا مفرّ منه.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشعراءمكية، وهي مائتان وسبع وعشرون آية.
تسميتها:
سميت (سورة الشعراء) لما ختمت به من المقارنة بين الشعراء الضالين والشعراء المؤمنين في قوله سبحانه: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إلى قوله:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [٢٢٤- ٢٢٦] بقصد الرد على المشركين الذين زعموا أن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان شاعرا، وأن ما جاء به من قبيل الشعر.
مناسبتها لما قبلها:
تتضح مناسبة هذه السورة لسورة الفرقان في الموضوع والبداية والنهاية.
أما الموضوع: ففيها تفصيل لما أجمل في الفرقان من قصص الأنبياء بحسب ترتيبها المذكور في تلك السورة، فبدأ بقصة موسى، وهذا سر لطيف يجمع بين السورتين. وكان في الفرقان إشارة إلى قرون بين ذلك كثيرة، ففصلت هنا قصة إبراهيم، وقوم شعيب، وقوم لوط.
وأما البداية: فقد بدئت كلتا السورتين بتمجيد القرآن العظيم: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ.. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ.
وأما النهاية: فإن خاتمة كلتا السورتين متشابهة، فقد ختمت الفرقان بوعيد المكذبين، ووصف المؤمنين بأنهم يقولون: سَلاماً للجاهلين، وأنهم
مشتملاتها:
تضمنت هذه السورة كسائر السور المكية الكلام عن أصول الاعتقاد والإيمان من إثبات «التوحيد، والرسالة النبوية، والبعث» لذا كانت آياتها قصارا للزجر والردع وشدة التأثير.
وابتدأت الكلام عن القرآن الكريم وبيان هدفه في الهداية، وتبشير المؤمنين الصالحين بالجنة، وإنذار الكافرين الذين لا يؤمنون بالآخرة بسوء العذاب، وإثبات إنزال القرآن وحيا على النبي صلّى الله عليه وسلم، وتسليته عن إعراض قومه عن الإيمان برسالته، والاستدلال بخلق النباتات على وجود الله وتوحيده.
ثم أوردت قصص الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم لعظة المكذبين، مبتدئة بقصة موسى ومعجزاته، ومحاورته مع فرعون الجبار وقومه في شأن توحيد الله، وتأييده بالآيات البيّنات، وإيمان السحرة برب موسى وهارون، ثم تلتها قصة إبراهيم الخليل مع أبيه وقومه عبدة الأوثان، وإبطاله عبادتها، وإثباته وحدانية الله عز وجل.
ثم جاء بعدها قصص «نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب» عليهم السلام وما فيها من حملاتهم العنيفة ضد الوثنية، والفساد الخلقي والاجتماعي، وبيان عاقبة التكذيب للرسل، ونهاية الجبابرة العتاة بأنواع رهيبة من العذاب.
وأعقب ذلك جعل الخاتمة كبدء السورة بإثبات كون القرآن العظيم وحيا وتنزيلا من رب العالمين لا من كلام الشياطين، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلم رسول من الله لتبليغ رسالته إلى عشيرته والأمم جميعا، ليس بكاهن ولا شاعر، وأنه من سلالة