ﰡ
﴿ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾، منهم مَن له جَناحَان، ومنهم مَن له ثلاثةٌ، ومنهم من له أربعةٌ، اختارَهم الله تعالى لرِسالَتهِ من حيث عَلِمَ أنَّهم لا يُبدِّلون. وقولهُ تعالى: ﴿ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ ﴾؛ أي يزيدُ في أجنحةِ الملائكة ما يشاءُ، فمِنهُم من له مائةُ ألفِ جَناحٍ، ومنهم من له أكثرُ، وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ قال:" رَأى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ ". وعن ابنِ شِهَابٍ قال:" سَأَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَتَرَاءَى لَهُ فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إنَّكَ لَنْ تُطِيقَ ذلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " إنِّي أُحِبُّ أنْ تَفْعَلَ " فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمُصَلَّى فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فِي صُورَتِهِ، فَغَشِيَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُ، ثُمَّ أفَاقَ وَجِبْرِيلُ مُسْنِدُهُ إلَيْهِ وَاضِعٌ إحْدَى يَدَيْهِ عَلَى صَدْرهِ وَالأُخْرَى بَيْنَ كَتِفَيْهِ. فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " سُبْحَانَ اللهِ مَا كُنْتُ أرَى شَيْئاً مِنَ الْخَلْقِ هَكَذا " فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام: كَيْفَ لَوْ رَأيْتَ إسْرَافِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! لَهُ اثْنَا عَشَرَ جَنَاحاً، جَنَاحٌ بالْمَشْرِقِ وَجَنَاحٌ بالْمَغْرِب وَالْعَرْشُ عَلَى كَاهِلِهِ ". وعن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قالَ: (إنَّ للهِ تَعَالَى مَلَكاً يَسَعُ الْبحَارَ كُلَّهَا فِي نَقْرَةِ إبْهَامِهِ). وَقِيْلَ: معنى قولهِ ﴿ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ ﴾ يعني حُسنَ الصَّوتِ، كذلك قال الزهريُّ، وقال قتادةُ: (هِيَ الْمَلاَحَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ وَالشَّعْرِ الْحَسَنِ وَالْوَجْهِ الْحَسَنِ وَالْخَطِّ الْحَسَنِ). وقولهُ تعالى ﴿ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾ في موضعِ خفضٍ؛ لأنه لا يتصرَّفُ. وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ أي قادرٌ على ما يزيدُ على الزيادةِ والنُّقصانِ.
وَقِيْلَ: أرادَ بالرحمةِ ها هنا المطرَ والرزقَ والعافية وجميعَ النِّعَمِ، ما يفتحِ اللهُ من ذلك فلا مانعَ له، ولا يستطيعُ أحدٌ من الخلقِ حبسَهُ ولا إمساكَهُ، وقولهُ تعالى: ﴿ وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ﴾؛ أي وما يُمسِكِ اللهُ من ذلك فلا يقدِرُ أحدٌ على إرسالهِ.
﴿ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾؛ أي العزيزُ فيما أمسكَ، الحكيمُ فيما أرسلَ.
﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ ﴾؛ هذا استفهامٌ، ومعناهُ التوبيخ؛ أي لا خالقَ سواهُ. وقولهُ تعالى: ﴿ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ أي مِن السَّماءِ بإنزالِ المطر ومِن الأرض بإخراجِ النبات.
﴿ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ﴾؛ أي فأنَّى تُصرَفون عن الإلهِ الذي هذه صفتهُ إلى معبودٍ لا يقدرُ على شيءٍ.
﴿ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ﴾؛ عواقبُ ﴿ ٱلأُمُورُ ﴾؛ في مجازاةِ المكذِّبين ونُصرَةِ المسلمين.
﴿ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ بزِينَتِها وزَهرتِها حتى تشتَغِلوا بها عن أمرِ دينكم.
﴿ وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ ﴾؛ أي ولا يستزِلَّكم عن طاعةِ الله الشيطانُ الذي مِن عادته الغرورُ. وقرأ ابنُ سماك العدويّ: (الْغُرُورُ) بضمِّ الغينِ، وهو أباطيلُ الدنيا، وأما (الْغَرُورُ) بفتح الغينِ فيه، الشَّيطانُ.
﴿ إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ ﴾؛ أي أهلَ طاعتهِ ليكون معه.
﴿ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ ﴾؛ أي ليَسُوقَهم إلى النار.
﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾.
قولهُ: ﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾؛ أي لا تَغْتَمَّ، ولا تُهلِكْ نفسَكَ عليهم حَسَرَاتٍ على تركِهم الإسلامَ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾؛ في كُفرِهم فيجازيهم بما هو أولى بهم، قرأ أبو جعفر (فَلاَ تُذْهِبْ) بضم التاء وكسر الهاء، نصب السِّين.
﴿ فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ ﴾، فأجريناه الى بلد ميت ليس فيه نبات ولا شجر.
﴿ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾، فأحيَا " الله " بالمطرِ الأرضَ بإخراجِ الزَّرعِ والأشجار منها بعدَ يُبسِها وذهاب النباتِ منها.
﴿ كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ ﴾؛ كذلك البعثُ في القيامةِ. وهذا احتجاجٌ على مُنكرِي البعثِ، فإن موتَهم كموتِ الأرض، وذهابَ أثَرِهم كذهاب أثرِ الأشجار والزُّروعِ، والقادرُ على إخراجِ الأشجار والزروعِ من الأرضِ قادرٌ على إخراجِ الموتَى من الأرضِ. ومعنى الآية: ﴿ وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً ﴾ أي تُزعِجهُ من حيث هو ﴿ فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ ﴾ أي مكانٍ ليس فيه نباتٌ ﴿ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ أي أنبَتنا فيها الزرعَ والكلأَ بعدَ أن لم يكن.
﴿ كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ ﴾ أي الإحياءُ والبعث. وعن أبي رُزَينِ العقيليِّ قالَ:" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يُحييِ اللهُ الْمَوْتَى؟ " أوَمَا مَرَرْتَ بوَادِي قَوْمِكَ مُمَحَّلاً ثُمَّ مَرَرْتَ بهِ خَضِراً؟ " قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: " فَكَذلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى " وَقَالَ: " كَذلِكَ النُّشُورُ " ".
أو قِيْلَ: معناهُ: مَن كان يريدُ أن يعلمَ العزَّةَ لِمَن هي فليعلَمْ أنَّها للهِ تعالى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ ﴾؛ إلى اللهِ تصعدُ كلمةُ التوحيدِ وهو قولهُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، ومعنى ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ﴾ أي يعلمُ ذلك كما يقالُ: ارتفعَ الأمرُ إلى القاضِي والسُّلطان أي عَلِمَهُ. وَقِيْلَ: صعودُ الكَلِمِ الطيِّب أن يُرفَعَ ذلك مَكتُوباً أو مَقبُولاً إلى حيث لا مالِكُ إلاَّ اللهُ؛ أي إلى سَمائهِ يصعدُ الكَلِمُ الطيِّبُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾؛ قال الحسنُ: (مَعْنَاهُ: ذُو الْعَمَلِ الصَّالِحِ يُرْفَعُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ إلَى اللهِ تَعَالَى بعَرْضِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ، فَإنْ وَافَقَ الْقَوْلُ الْفِعْلَ قُبلَ، وَإنْ خَالَفَ رُدَّ، لأنَّ الْعَبْدَ إذا وَحَّدَ اللهَ وَأخْلَصَ فِي عَمَلِهِ ارْتَفَعَ الْعَمَلُ إلَى اللهِ تَعَالَى). قال: (لَيْسَ الإيْمَانُ بالتَّحَلِّي وَلاَ بالتَّمَنِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْب وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ، مَنْْ قَالَ حُسْناً وَعَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ رَدَّهُ اللهُ تَعَالَى، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً رَفَعَهُ الْعَمَلُ). وقرأ أبو عبدِالرحمن (الْكَلاَمُ الطَّيِّبُ). وعن أبي هريرةَ عن النبيِّ صلى الله علي وسلم في قولهِ ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ﴾:" هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: سُبْحَانَ اللهِ؛ وَالْحَمْدُ للهِ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ؛ وَاللهُ أكْبَرُ، إذا قَالَهَا الْعَبْدُ عَرَجَ بهَا مَلَكٌ إلَى السَّمَاءِ ". وَقِيْلَ: الكلامُ الطيب: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، والعملُ الصالِحُ: أداءُ فرائضهِ، ومَن لا يؤدِّي فرضَهُ رُدَّ كلامهُ. وجاءَ في الخبرِ:" طَلَبُ الْجَنَّةِ بلاَ عَمَلٍ ذنْبٌ مِنَ الذُّنُوب "، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" لاَ يَقْبَلُ اللهُ قَوْلاً بلاَ عَمَلٍ "، وعلى هذا المعنَى قولُ الشاعرِ: لاَ تَرْضَ مِنْ رَجُلٍ حَلاَوَةَ قَوْلِهِ حَتَّى يُصَدِّقَ مَا يَقُولُ فَعَالُفَإذا وَزَنْتَ فَعَالَهُ بمَقَالِهِ فَتَوَازَنَا فَإخَاءُ ذاكَ جَمَالُوقال ابنُ المقفَّع: (قَولٌ بلاَ عَمَلٍ كَثَرِيدٍ بلاَ دَسَمٍ، وَسَحَابٍ بلاَ مَطَرٍ، وَقَوْسٍ بلاَ وَتَرٍ). وَقِيْلَ: معناهُ: والعملُ الصالِحُ يرفعهُ اللهُ؛ أي يَقبَلهُ. قَوُلَهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾؛ أي يَفعلُونَها على وجهِ المخادَعة كما كان الكفارُ يَمكُرون بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم في دار النَّدوةِ. وَقِيْلَ: معناهُ: الذين يُشرِكون باللهِ وبعملِ السيِّئات لَهم عذابٌ شديد في الآخرةِ. وَقِيْلَ: أرادَ بقولهِ ﴿ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ يعمَلون عمَلاً على وجهِ الرِّياءِ." كما رُوي أنَّ رجُلاً قالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ فِيمَ النَّجَاةُ غَداً؟ فَقَالَ: " لاَ تُخَادِعِ اللهَ، فَإنَّهُ مَنْ يُخَادِعِ اللهَ يَخْدَعُهُ وَيَخْلَعُهُ مِنَ الإيْمَانِ ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ فَكَيْفَ يُخَادَعُ اللهُ؟ فَقَالَ: " أنْ تَعْمَلَ بمَا أمَرَكَ اللهُ، لاَ يُقْبَلُ مَعَ الرِّيَاءِ عَمَلٌ، فَإنَّ الْمُرَائِي يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ بأرْبَعَةِ أسْمَاءٍ: يَا كَافِرُ؛ يَا فَاجِرُ؛ يَا غَادِرُ؛ يَا خَاسِرُ؛ ضَلَّ عَمَلُكَ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾؛ أي يفسَدُ ويهلَكُ ويكسَرُ ولا يكون شيئاً.
﴿ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾؛ أي ثم خلقَ نسلَ آدم من نُطفةٍ.
﴿ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً ﴾؛ يعني ذُكرَاناً وإنَاثاً.
﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ ﴾؛ أو تَلِدُ لتمامٍ وغيرِ تَمام.
﴿ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ﴾؛ أي ما يَطُولُ عمُر أحدٍٍ، ولا يَنقصُ من عمُرِ أحدٍ إلاَّ وهو مُثْبَتٌ في اللوحِ المحفوظ، وقوله: ﴿ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ ﴾؛ أي كتابةُ الآجالِ والأعمالِ وحِفظُها من غيرِ كتابةٍ على الله هيِّنٌ.
﴿ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾؛ من الأصنامِ.
﴿ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾؛ لا يقدِرون على أنْ ينفعُوكم بقدر قِطْمِيرٍ، وهو القشرةُ الدَّقيقة الملتزِقَةُ بنواةِ الثَّمرة كاللفَّافَةِ عليها.
﴿ وَلَوْ سَمِعُواْ ﴾؛ بأنَّ الله خَلَقَ فيهم السمعَ.
﴿ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ ﴾؛ أي يتبرَّؤُن منكم ومِن عبادتِكم كما قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ ﴾[البقرة: ١٦٦] والمعنى بقولهِ: ﴿ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ ﴾ أي يتبرَّؤن من عبادتِكم، يقولون: ما كُنتم إيَّانا تعبُدون. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾؛ معناهُ: لا يُخبرُكَ بحقائقِ الأمُور وعواقبها إلاَّ اللهُ؛ لأنه عالِمٌ بكلِّ الأشياءِ، لا يخفَى عليه منها شيءٌ، ولا تلحقهُ المضَارُّ والمنافعُ.
﴿ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ﴾؛ عن إيمانِكم وطاعتكم.
﴿ ٱلْحَمِيدُ ﴾؛ أي المحمودُ في أفعالهِ عند خَلقهِ. وإنَّما أمرَكم بطاعتهِ لتنتَفِعوا بها لا حاجةَ به إليها.
﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ ﴾؛ أي إنْ يشأ يهلككم.
﴿ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾، ويأتِ بخلقٍ أطوعَ منكم.
﴿ وَمَا ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾؛ أي ليس إهلاكُكم وإتيانهِ بمثلِكم على اللهِ ممتنعٌ.
﴿ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ ﴾؛ بالذُّنوب.
﴿ إِلَىٰ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ﴾، إلى أن يُحمَلَ عنها شيءٌ من ذنوبها لا تُحمَلُ مِن ذنوبها شيءٌ.
﴿ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ﴾، ولو كانت المدعوَّةُ ذاتَ قرابةٍ من الداعيةِ لِمَا في ذلك مِن غِلَطِ حملِ الآثام، ولو تحمَّلتْهُ لا يُقبَلُ حملها؛ لأن كلَّ نفسٍ بما كسبَتْ رهينةٌ، فلا يؤخَذُ أحدٌ بذنب غيرهِ. وسُئل الحسنُ بن الفضلِ عن الجمعِ بين هذه الآيةِ وبين قولهِ﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾[العنكبوت: ١٣] فقالَ (قَوْلُهُ ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾ يَعْنِي طَوْعاً، وَقَوْلُهُ﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾[العنكبوت: ١٣] يَعْنِي كَرْهاً). قال ابنُ عبَّاس: في قولهِ ﴿ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ﴾ قال: (يَقُولُ الأَبُ وَالأُمُّ: يَا بُنَيَّ احْمِلْ عَنِّي، فَيَقُولُ: حَسْبي مَا عَلَيَّ). قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ ﴾؛ يقولُ: إنما ينتفعُ بإنذارِكَ ووَعْظِكَ الذين يُطيعون ربَّهم في السرِّ.
﴿ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾؛ المفروضةَ، ولأن مَن خَشِيَ اللهَ واجتنبَ المعاصي في السرِّ مِن خشيةِ الله تعالى، اجتنبَها لا محالةَ في العَلانيةِ. ويقال: إنَّ الخشيةَ في السرِّ، والإقدامَ على الطاعةِ في السرِّ، واجتنابَ المعصيةِ في السرِّ، أعظمُ عندَ اللهِ ثواباً، كما قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" مَا تَقَرَّبَ امْرِئٌ بشَيْءٍ أفْضَلَ مِنْ سُجُودٍ خَفِيٍّ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ "وأما عطفُ الماضِي في قولهِ تعالى ﴿ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾ على المستقبَلِ في قولهِ ﴿ يَخْشَوْنَ ﴾، ففائدةُ ذلك أنَّ وجوبَ خشيةِ الله لا تختصُّ بزمانٍ دون زمانٍ ولا بمكان دون مكانٍ، ووجوبُ إقامةِ الصَّلاة يختصُّ ببعضِ الأوقاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ ﴾؛ أي ومَن تطَهَّرَ من دَنَسِ الذُّنوب والشِّركِ ليكون عند ربه زكيّاً، فإن منفعةَ تطَهُّرهِ راجعةٌ إلى نفسهِ.
﴿ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾؛ أي إليه يرجعُ الخلق كلُّهم في الآخرةِ.
﴿ وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ ﴾؛ يعني الْمُشرِكُ والمؤمنُ.
﴿ وَلاَ ٱلظُّلُمَاتُ وَلاَ ٱلنُّورُ ﴾؛ أي ولا الشِّركُ ولا الضَّلالُ كالنور والهدى والإيمان.
﴿ وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَحْيَآءُ وَلاَ ٱلأَمْوَاتُ ﴾؛ يعني المؤمنين والكافرينَ، وهذه أمثالٌ ضربَهَا اللهُ تعالى، كما لا تستوِي هذه الأشياءُ، كذلك لا يستوِي الكافرُ والمؤمن. وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ ﴾؛ أي يسمعُ كلامَهُ مَن يشاءُ؛ أي يتَّعِظُ ويهتدِي، قال عطاءُ: (يَعْنِي أوْلِيَاءَهُ الَّذِينَ خَلَقَهُمْ لِجَنَّتِهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي ٱلْقُبُورِ ﴾؛ أي كمَا لا تقدرُ تسمِعُ مَن في القبور، فكذلكَ لا تقدرُ أن تُسمِعَ الكفارَ، شبَّهَهم بالموتَى لأنَّهم لا ينتفَعُون كالموتَى. وقرأ أبو رُزَين العقيليِّ (مَا أنْتَ بمُسْمِعِ مَنْ فِي الْقُبُور) بلا تنوينٍ بالإضافة، وقولهُ تعالى: ﴿ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ﴾؛ أي ما أنتَ إلاَّ رسولٌ تُنذِرُهم النارَ وتخوِّفُهم، وليس عليك غيرُ ذلك.
﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ ﴾؛ فلستَ بأوَّلِ رسولٍ كُذِّبَ.
﴿ فَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾؛ الواضحاتِ.
﴿ وَبِٱلزُّبُرِ ﴾؛ وهِي الكتُب، وقولهُ تعالى: ﴿ وَبِٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ ﴾؛ يعني التوراةَ. وَقِيْلَ: إنَّما كرَّرَ الزبورَ هي الكتُب أيضاً لاختلافِ صفات الكتاب؛ لأن الزبورَ هو الكتابةُ الثابتة كالنَّقرَةِ في الصخرةِ، ثم قالَ ﴿ وَبِٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ ﴾ الموصوف واحدٌ والصفات مختلفةٌ. وقولهُ تعالى: ﴿ ثُمَّ أَخَذْتُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾؛ أي أخذتُهم بالعقوبةِ، ﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾؛ أي إنكاري عليهم وتعذيبي لَهم.
﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا ﴾؛ وطعمُها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾؛ أي وخلَقنا من الجبالِ (جُدَدٌ بيضٌ) أي طرُق يكون في الجبالِ كالعرُوقِ بيضٌ وسود وحُمْرٌ، واحدها جُدَّة، قال المبرِّد: (جُدَدٌ: طُرُقٌ وَخُطُوطٌ وَنَحْوُ هَذا، وَالْجُدَدُ الْجُدَّةُ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ كَالْمُدَّةِ وَالْمُدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْعُدَدِ، وَأمَّا الْجُدُدُ بضَمَّتَيْنِ فَهِيَ جَمْعُ الْجَدِيدِ مِثْلُ سَرِيرٍ وَسُرُرٍ). وقوله تعالى ﴿ وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ يجوز أن يكون الغرَابيبُ هي الجبالُ السُّود، كأنَّه قالَ: ومن الجبالِ غرابيبُ، والغَرَابيبُ الذي لَونهُ كَلَونِ الغُرَاب، ولذلك حَسُنَ أن يقال سُودٌ، وقال الفرَّاء: (هَذا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، تَقْدِيرُهُ: وَسُودٌ غَرَابيبُ).
﴿ كَذَلِكَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: إنَّما يَخَافُونَ مِنْ خَلْقِي مَنْ عَلِمَ جَبَرُوتِي وَعِزَّتِي وَسُلْطَانِي)، وقال مقاتلُ: (أشَدُّ الناسِ للهِ خِشْيَةً أعْلَمُهُمْ بهِ)، وقال مسروقُ: (كَفَى بخِشْيَةِ اللهِ عِلْماً، وَكَفَى بالاغْتِرَار باللهِ جَهْلاً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ﴾؛ أي عزيزٌ قاهر وغالبٌ في مُلكهِ.
﴿ غَفُورٌ ﴾؛ لذنوب المؤمنين.
﴿ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾؛ المفروضةَ.
﴿ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾؛ أي وأنفَقُوا مما أعطَيناهم من الأموالِ تطوُّعاً سِرّاً فيَسلَمُوا بذلك عن تُهمَةِ الرِّياءِ، وفريضةً جَهْراً فيَسلَمُون بذلك عن تُهمةِ المنعِ، ويقالُ أرادَ بذلك النفقةَ في الجهادِ.
﴿ يَرْجُونَ ﴾؛ بذلك.
﴿ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ﴾؛ أي لن تَكْسَدَ ولا يَرِدُ عليها الفسادُ والبُطلان.
﴿ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾؛ فوق ما يستحقُّوهُ، قال ابنُ عبَّاس: (يَعْنِي سِوَى الثَّوَاب)، وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾؛ إنه غفورٌ لذنوبهم، شكورٌ يعامِلُ بالأحسنِ معاملةَ الشاكرِ، قال ابنُ عبَّاس: (غَفَرَ الْعَظِيمَ مِنْ ذُنُوبهِمْ، وَشَكَرَ الْيَسِيرَ مِنْ أعْمَالِهِمْ).
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾؛ أي خبيرٌ بأقوالِهم وأفعالِهم ونيَّاتِهم فيَجزِيهم بما يستحقُّون.
﴿ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾؛ وهو الذي لَمْ يُصِبْ كبيرةً.
﴿ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ ﴾؛ يعني المقرَّبين الذين سبَقُوا إلى أعمالٍ، وقال الحسنُ: (الظَّالِمُ: الَّذِي تَرَجَّحَ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ: الَّذِي اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتُهُ، وَالسَّابقُ: مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ). وعن عُمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قالَ:" سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " سَابقُنا سَابقٌ "أي إلى الجنَّة أو إلى رحمةِ الله تعالى بالخيراتِ؛ أي بالأعمال الصالحة.
﴿ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي بإرادةِ الله.
﴿ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ ﴾؛ معناهُ: إيراثُهم الكتابَ هو الفضلُ الكبير، وسُمي إعطاءُ الكتاب إيْرَاثاً لأنَّهم أُعْطُوهُ بغيرِ مسألةٍ ولا اكتساب. وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُمْ قَالُواْ:" السَّابقُونَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْمُقْتَصِدُونَ يُحَاسَبُونَ حِسَاباً يَسِيراً ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَالظَّالِمُونَ يُحَاسَبُو مَا شَاءَ اللهُ أنْ يُحَاسَبُواْ، ثُمَّ يَرْحَمُهُمُ اللهُ تَعَالَى فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْحَمْدُ للهِ الَّّذِي أذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ... "إلى آخرِ الآيتَين. وعن الحسنِ أنه قالَ: (السَّابقُ الَّذِي تَرَكَ الدُّنْيَا، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي أخَذ الْحَلاَلَ، وَالظَّالِمُ الَّذِي لاَ يُبَالِي مِنْ أيْنَ أخَذ). ويقالُ: الظالِمُ صاحبُ الكبائرِ، والمقتصدُ صاحبُ الصَّغائرِ، والسَّابقُ الذي اتقى سيئاته. فإنْ قيلَ ما الحكمةُ في تقديمِ الظالِم وتأخيرِ السابق؟ قِيْلَ: الواوُ لا توجِبُ الترتيبَ كما قالَ تعالى﴿ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾[التغابن: ٢].
وَقِيْلَ: قدَّمَ الظالِمَ لئَلاَّ ييأسَ من رحمتهِ، وأخَّرَ السابقَ لئَلا يُعجَبَ بنفسهِ. وَقِيْلَ: قدَّمَ الظالِمَ فإذا لَم يكن له شيءٌ يتَّكِلُ عليه إلاَّ رحمةُ الله تعالى، وثَنَّى بالمقتصدِ لِحُسنِ ظنِّهِ بربه. وَقِيْلَ: لأنه بين الخوفِ والرَّجاءِ، وأخَّرَ السابقَ لأنه اتَّكَلَ على حسَناتهِ. وَقِيْلَ: لئلا يأمَنَ أحدٌ مَكْرَهُ، وكلُّهم في الجنَّة بُحرَمِة كلمةِ الإخلاصِ. وعن عُقبة بن صَهبان قال: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ ﴾ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَأمَّا السَّابقُ فَمَنْ مَضَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهِدَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالْجَنَّةِ، وَأمَّا الْمُقْتَصِدُ فَمَنْ تَبعَ أثَرَهُ مِنْ أصْحَابهِ حَتَّى لَحِقَ بهِ، وَأمَّا الظَّالِمُ فَمِثْلِي وَمِثْلَكَ). وقال سهلُ بن عبدِالله: (السَّابقُ الْعَالِمُ، وَالْمُقْتَصِدُ الْمُتَعَلِّمُ، وَالظَّالِمُ الْجَاهِلُ). وَقِيْلَ: السابقُ الذي اشتغلَ بمَعادهِ، والمقتصدُ بمعَادهِ ومعاشهِ، والظالِمُ الذي اشتغلَ بمعاشهِ عن معادهِ. وَقِيْلَ: الظالِمُ طالِبُ الدُّنيا، والمقتصدُ طالبُُ العُقبَى، والسابقُ طالب المولَى. وَقِيْلَ: الظالِمُ الْمُرائِي في جميعِ أفعالهِ، والمقتصدُ المرائِي في بعضِ أفعالهِ دون بعضٍ، والسابقُ المخلِصُ في أفعالهِ كلِّها. وَقِيْلَ: الظالِمُ مَن كان ظاهرهُ خيراً من باطنهِ، والمقتصدُ من استوَى ظاهرهُ وباطنه، والسابقُ الذي باطنهُ خيرٌ من ظاهرهِ. وَقِيْلَ: الظالِمُ الذي يجزَعُ عند البلاءِ، والمقتصدُ الذي يصبرُ عند البلاءِ، والسابقُ الذي يتلَذذُ بالبلاءِ!وَقِيْلَ: الظالِمُ الذي يَعبدُ اللهَ خَوفاً من النار، والمقتصدُ الذي يعبدهُ طَمعاً في الجنَّة، والسابقُ الذي يعبدهُ لا لسببٍ من الأسباب إلاَّ لرحمتهِ الكريم! وَقِيْلَ: الظالِمُ الذي يعبدُ اللهَ على الغفلةِ، والمقتصدُ الذي يعبدهُ على الرَّغبةِ، والسابقُ الذي يعبدهُ على الهيبةِ. وَقِيْلَ: الظالِمُ الذي أُعطِيَ فمنعَ، والمقتصدُ الذي أُعطِيَ فبذلَ، والسابقُ الذي أُعطِيَ فشَكرَ. وَقِيْلَ: الظالِمُ غافلٌ، والمقتصدُ طالبٌ، والسابقُ واصلٌ. وَقِيْلَ: الظالِم مَن استغنَى بمالهِ، والمقتصدُ من استغنَى بدينهِ، والسابقُ مَن استغنَى بربه. وَقِيْلَ: السابقُ الذي يدخلُ المسجدَ قبلَ الأذانِ، والمقتصدُ الذي يدخلُ وقتَ الأذانِ، والظالِمُ الذي يدخلُ وقتَ أُقِيمَتِ الصلاة! وَقِيْلَ: الظالِمُ الذي يحبُّ نفسَهُ، والمقتصدُ الذي يحب دِينَهُ، والسابقُ الذي يحبُّ ربَّهُ. وَقِيْلَ: الظالِمُ مدعوٌّ، والمقتصد مأذونٌ له، والسابق مقرَّبٌ.
﴿ مِن فَضْلِهِ ﴾، بتفَضُّلهِ لا بالأعمالِ. وسُمي دارَ المقامةِ لأن مَن دخلَها يخلدُ لا يموت، ويقيمُ فيها لا يحوَّلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ ﴾؛ أي لا يَمسُّنا فيها تعبٌ؛ ﴿ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾؛ أي مشَقَّةٌ وتعبٌ وإعياء وقبورٌ.
﴿ لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ ﴾؛ فلا يُقضى عليهم بمَوتٍ فيستريحونَ من العذاب.
﴿ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا ﴾؛ من عذاب النار طُرفةَ عَينٍ. قرأ الحسنُ: (فَيَمُوتُونَ) بالنُّون ولا يكون حينئذٍ جَواباً للنفيِّ، والمعنى: لا يُقضَى عليهم ولا يَموتُونَ كقولهِ﴿ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾[المرسلات: ٣٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴾؛ أي هكذا يُجزَى في الآخرةِ كلُّ كفورٍ بنِعَمِ الله تعالى. قرأ العامَّة (نَجْزِي) بالنون ونصب اللام، وقرأ أبو عمرٍو وحده بضم الياءِ وفتح الزاي على ما لَم يسمَّ فاعلهُ ورفعَ اللامَ.
﴿ نَعْمَلْ صَالِحاً ﴾؛ أي بقَولُ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وقولهُ تعالى: ﴿ غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ ﴾؛ أي غيرَ الشِّركِ. فوبَّخَهم اللهُ تعالى فقالَ: ﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ﴾، معناهُ: أوَلَمْ نُعمِّركُم مقدارَ ما يتَّعِظُ فيه مَن كان يريدُ أن يتَّعظَّ ويؤمِنَ. قال عطاءُ: (يُرِيدُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَنَةً)، وقال الحسنُ: (أرْبَعِينَ سَنَةً)، وقال ابنُ عبَّاس: (سِتِّينَ سَنَةً). قَالَ: (هُوَ الْعُمْرُ الَّذِي أعْذرَ اللهُ إلَى ابْنِ آدَمَ، قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ عَمَّرَهُ اللهُ تَعَالَى سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أعْذرَ اللهُ إلَيْهِ فِي الْعُمُرِ "). وعن أبي هُريرةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" أعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِين، وَأقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذلِكَ "قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:" مَنْزِلُ مَنَايَا أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ ﴾؛ قال جمهورُ المفسِّرين: يريدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم. ورُوي عن عكرمةَ وسُفيان بن عُيينة: (الْمُرَادُ مِنَ النَّذِيرِ الشَّيْبُ) وَمَعْنَاهُ: أوَلَمْ نُعَمِّركُم حتى شِبتُم؟. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:" مَنْ أنَافَ سِنُّهُ عَلَى أرْبَعِينَ سَنَةً وَلَمْ تَغْلِبْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَلْيَتَجَهَّزْ إلَى النَّار ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾؛ أي فذُوقوا العذابَ فما للمُشرِكين من مانعٍ يَمنعُهم من العذاب.
﴿ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً ﴾؛ أي إلاَّ نَقصاً.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّنْهُ ﴾؛ أي خَبرُونِي عن شُركائِكم الذين أشرَكتُموهم مع اللهِ في العبادةِ؛ بأَيِّ شيءٍ أوجَبْتُهم لَهم شركاءَ مع اللهِ تعالى؟ بخلقِ خلَقوهُ من الأرضِ؛ أم لَهم نصيبٌ في خلقِ السَّماواتِ؛ أم أعطينَاهم كِتَاباً فيه ما يدَّعُونَهُ فهُم على بيِّنةٍ منه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَلْ إِن يَعِدُ ٱلظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً ﴾؛ ولكن ما يَعِدُ الظالمون بعضَهم بعضاً إلاّ خِدَاعاً وأباطيلَ.
﴿ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ﴾؛ أي ولَو زالَتا عن أماكنِها لَمْ يُمسِكْهُما أحدٌ غيرُ اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾؛ أي حَليماً عن مقالةِ الكفَّار، غَفُوراً لِمَن تابَ منهم، والحكيمُ هو القادرُ الذي لا يعجِّلُ بالعقوبةِ، والغفورُ كثيرُ الغُفرانِ.
﴿ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ ﴾؛ أي رسولٌ.
﴿ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ ﴾؛ أي ليكونُنَّ أسرعَ إجابةً وأصوبَ دِيناً من إحدَى الأُمم، اليهودُ والنصارَى والصَّابئين وغيرهم.
﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ ﴾؛ يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم.
﴿ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ﴾؛ عن الحقِّ وتباعداً عن الهدى، وقولهُ تعالى: ﴿ ٱسْتِكْبَاراً فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ منصوبٌ على أنه مفعولٌ له (أيْ مَا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُوراً). الاستكبارُ في الأرضِ عُتُوّاً على اللهِ وتكَبُّراً عن الإيمانِ، وَقِيْلَ: على البدلِ مِن قوله (نُفُوراً). وَقِيْلَ: على المصدر. وقولهُ تعالى: ﴿ وَمَكْرَ ٱلسَّيِّىءِ ﴾؛ أي القصدَ أي الإضرارَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ من حيث لا يشعُرون. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾؛ أي لا يحيقُ ضرَرُ المكرِ السيِّ إلاَّ بفاعلهِ، فقُتِلُوا يومَ بدرٍ، والمكرُ السيِّء هو العملُ القبيح، وقولهُ تعالى ﴿ وَلاَ يَحِيقُ ﴾ أي ولا يحِلُّ ولا ينْزِلُ إلاَّ بأهلهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ ٱلأَوَّلِينَ ﴾؛ أي ما ينظرُ أهل مكَّة إلا أن ينْزِلَ بهم العذابُ مثلَ ما نزلَ بمَن قبلَهم من الأُمَم السَّالفة المكذِّبة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾؛ أي لا يقدرُ أحدٌ أن يُحوِّلَ العذابَ عنهم إلى غيرِهم.
﴿ قُوَّةً ﴾؛ ومكَّن لَهم ما لم يُُمكِّن لهؤلاء. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي لن يُعجزَهُ أحدٌ من الخلقِ في السَّماوات ولا في الأرض.
﴿ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ﴾؛ أي عَليماً بخلقهِ، قادراً عليهم.
﴿ وَلَـٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ ﴾؛ بفضلهِ.
﴿ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾؛ إلى وقتٍ معلوم.
﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ ﴾؛ فإذا جاءَ ذلك الوقتُ.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ﴾؛ يفعلُ به ما يستحقُّونَهُ من ثوابٍ وعقابٍ.