ﰡ
(سورة يس)
(مكية سوى آية نزلت في اليهود قوله وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا حروفها ثلاثة آلاف كلمها سبعمائة وسبع وعشرون آياتها ثلاث وثمانون)
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١ الى ٤٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤)
قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)
لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤)
يس بإظهار النون: أبو عمرو وسهل ويعقوب غير رويس وابن كثير غير ابن فليح وحمزة وأبو جعفر ونافع غير النجاري عن ورش والحلواني عن قالون وعاصم غير يحيى وابن أبي غالب. وقرأ حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد بالإمالة. تنزيل بالنصب: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. والباقون: بالرفع سَدًّا بفتح السين في الحرفين: حمزة وعلي وخلف وحفص وأبو زيد فَعَزَّزْنا بالتخفيف: أبو بكر وحماد والمفضل آين بالمد والياء أبو عمرو وقالون وزيد مثله ولكن بالقصر ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد. أَإِنْ بهمزتين: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل وابن عامر، هشام يدخل بينهما مدة وقرأ المفضل أين على وزن «كيف» الْآنَ بسكون النون وبالمد: يزيد مثل آنذرتهم ذُكِّرْتُمْ بالتخفيف: زيد وَما لِيَ بسكون الياء: حمزة ويعقوب ينقذوني في الحالين بالياء: يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل إِنِّي إِذاً بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو إِنِّي آمَنْتُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو إلا صيحة واحدة بالرفع وكذلك ما بعدها: يزيد لَمَّا بالتشديد: ابن عامر وحمزة وعاصم الميتة بالتشديد: أبو جعفر ونافع عملت بغير هاء الضمير: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل لمستقر بكسر القاف: زيد عن يعقوب والقمر بالرفع على الابتداء: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ونافع ويعقوب غير رويس. الآخرون: بالنصب إضمارا على شريطة التفسير ذرياتهم على الجمع: أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب.
الوقوف:
يس هـ كوفي الْحَكِيمِ هـ لا لجواب القسم الْمُرْسَلِينَ هـ لا لأن الجار والمجرور خبر بعد خبر أو مفعول ثان لمعنى الفعل في الْمُرْسَلِينَ أي أرسلت على
التفسير:
الكلام الكلي في فواتح السور قد مر في أوّل البقرة وغيرها والذي يختص بالمقام ما قيل إن معناه يا سيد أو يا أنيسين فاقتصر على البعض رواه جار الله عن ابن عباس. ولا يخفى أن النداء على هذا يكون لمحمد ﷺ يؤيده قوله إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وكثيرا ما يستعمل القسم بعد إفحام الخصم الألدّ كيلا يقول إنك قد أفحمت بقوّة جدالك وأنت في نفسك خبير بضعف مقالك. وأيضا الابتداء بصورة اليمين يدل على أن المقسم عليه أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه، وكانت العرب يتحرزون من الأيمان الفاجرة ويقولون إنها تدع الديار بلاقع، وكان من المعلوم أن النبي ﷺ وأصحابه يعظمون القرآن غاية التعظيم وكان اليمين به موقوفا عليه عند الكفرة. وقوله عَلى صِراطٍ كالتأكيد لأن المرسلين لا يكونون إلا على المنهج القويم. وتنكير صراط للتعظيم. قيل: فيه دليل على فساد قول المباحية القائلين بأن المكلف إذا صار واصلا لم يبق عليه تكليف فإن
وحين بيّن أنهم لا يؤمنون ذكر أن ذلك من الله تعالى فقال إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فيكون مثلا لتصميمهم على الكفر كالطبع والختم. وقيل: إنه إشارة إلى إمساكهم وأنهم لا ينفقون في سبيل الله كما قال وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الإسراء: ٢٩] وعلى هذا يمكن أن يكون معنى قوله فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أنهم لا يزكون كأنه عبر بالإيمان عن الزكاة كما عبر به عن الصلاة في قوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: ١٤٣]
وقيل: نزلت في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا ﷺ يصلي ليرضخن رأسه، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي آخر: أنا أقتله بهذا الحجر. فذهب فأعمى الله بصره وأنزلت الآيتان.
والضمير في قوله فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ راجع إلى الأيدي وإن كانت غير مذكورة لكونها معلومة فإن المغلول تكون أيديه مجموعة إلى العنق ولذلك يسمى الغل جامعة أي جامعا لليد والعنق. وتأنيث الجامعة مبالغة أو بتأويل الآلة. وقيل:
واختاره في الكشاف أنه يرجع إلى الأغلال أي جعلنا في أعناقهم أغلالا ثقالا غلاظا بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطىء رأسه فلا يزال مقمحا. والمقمح الذي يرفع رأسه ويغض بصره ومنه أقمحت السويق أي سففته. والكانونان يقال لهما شهرا قماح لأن الإبل ترفع رؤوسها عن الماء لبرده فيهما. وكيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية فيقول المغلول الذي بلغ الغل ذقنه وبقي مقمحا رافع الرأس لا يبصر الطريق فضرب ذلك مثلا للذي يهديه النبي ﷺ إلى الصراط المستقيم العقلي وهو لا يبصره بنظر بصيرته، ويمكن أن يجعل كناية عن عدم التصديق بتحريك الرأس. ويقال: بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء، والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة. ثم ضرب مثلا
ثم بين بقوله إِنَّما تُنْذِرُ أن عدم فائدة الإنذار إنما هو بالإضافة إلى المطبوع على قلوبهم الذين تقدم شرح حالهم وبيان أمثالهم لا إلى المنتفعين به. والذكر القرآن أو ما فيه من المواعظ والحكم والدلائل، وفي ذكر الخشية مع تعقيبه باسم الرحمن إشارة إلى أن قهره مقرون بلطفه يعني مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا رجاءكم. والغيب ما غاب عنا من أحوال القيامة وغيرها. وقيل: أي بالدليل وإن لم ينته إلى العيان فعند الانتهاء إلى ذلك لم يبق للخشية فائدة. ومعنى الفاء في فَبَشِّرْهُ أنك كما أنذرت وخوّفت فبشر بمغفرة واسعة وأجر كريم لا يكتنه كنهه، فكأن المغفرة بإزاء الإيمان والأجر الكريم للعمل الصالح. أو الأول لاتباع الذكر والثاني للخشية. وحين فرغ من بيان الرسالة شرع في أصل الحشر قائلا إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى على أن البشارة بالمغفرة والأجر لا يتم إلا بعد ثبوت الإعادة وهكذا خشية الرحمن بالغيب تناسب ذكر إحياء الأموات. والظاهر أن قوله نَحْنُ ضمير الفصل ويجوز أن يكون مبتدأ والفعل خبره والجملة خبر «إن» ويجوز أن يكون نَحْنُ خبر «إن»
عن جابر: أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حوله خالية فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم دياركم فإنما تكتب آثاركم.
وعن عمر بن عبد العزيز: لو كان الله مغفلا شيئا لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح أي تمحوها. وقيل: أراد ونكتب ما قدموا من نياتهم فإنها قبل الأعمال وآثارهم أي أعمالهم.
سؤال: كيف قدم إحياء الموتى على الكتابة ولم يقل «نكتب ما قدموا ونحييهم» لأجل الجزاء؟ الجواب لأن الكتابة ليست مقصودة بالذات وإنما المقصود الأصلي هو الإحياء للجزاء ولو لم يكن إحياء وإعادة لم يكن للكتابة أثر. وأيضا قوله إِنَّا نَحْنُ دال على العظمة والجبروت، والإحياء أمر عظيم لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه بخلاف الكتابة، فقدّم الأمر العظيم ليناسب اللفظ الدال على العظمة. وأيضا أراد أن يرتب على كتابة الأعمال قوله وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ ومعناه أن قبل هذه الكتابة كتابة أخرى فإن الله كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا، ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه. وفيه بيان أن الكتابة مقرونة بالحفظ والإحصاء، فرب مكتوب غير محفوظ ولا مضبوط، وفيه تعميم بعد تخصيص كأنه قال: ليست الكتابة مختصة بأفعالهم وإنما هي لكل شيء. والإمام اللوح لأن الملائكة يتبعون ما كتب فيه من أجل ورزق وإماتة وإحياء، والمبين هو المظهر للأمور، والفارق بين أحوال الخلق، وحيث بين أن الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن قال لنبيه ﷺ لا تأس.
وَاضْرِبْ لنفسك ولقومك مَثَلًا مثل أَصْحابَ الْقَرْيَةِ وهي أنطاكية الروم، والمرسلون رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها. وفي قوله إِذْ أَرْسَلْنا دلالة على أن رسول الرسول رسول وأنه يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل وكيل الموكل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل الأول، وكأنه أرسل اثنين ليكون قولهما
قالا: نشفي المريض ونبرىء الأكمة والأبرص. وكان له ولد مريض من سنتين فمسحاه فبرأ فآمن حبيب وفشا الخبر فشفى على أيديهما خلق كثير ورفع خبرهما إلى الملك فأحضرا فلما سمع قولهما قال: ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم. من أوجدك وآلهتك. فحبسهما حتى ينظر في أمرهما فبعث عيسى شمعون وذلك قوله سبحانه فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ
من قرأ بالتشديد فمعناه فقوّينا الرسولين، ومن قرأ بالتخفيف فمن العزة أي فغلبنا وقهرنا أهل القرية. وإنما ترك ذكر المفعول به لأن الغرض ذكر الثالث فالعناية بذكره أهم وأتم نظيره قولك: حكم السلطان اليوم بالحق الغرض الذي سيق له الكلام قولك بالحق فلذلك تركت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه. وأما باقي القصة فإن شمعون دخل متنكرا وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به فقال له ذات يوم بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه؟ قال: لا، حال الغضب بيني وبين ذلك. فدعاهما فقال شمعون:
من أرسلكما قال: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
قال: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنى الملك. فدعا بغلام مطموس فدعوا الله حتى انشق له بصر وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مقلتين ينظر بهما فقال شمعون: يا أيها الملك إن شئت أن تغلبهما فقل لآلهتك حتى تصنع مثل هذا. فقال الملك: أنت لا يخفى عليك أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تقدر ولا تعلم. وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبون أنه منهم. فقال شمعون: فالحق إذا معهم فآمن الملك وبعض حاشيته وبقي آخرون على الكفر فأهلكوا بالصيحة. قال أهل البيان: يجب زيادة المؤكدات في الجملة الخبرية بحسب تزايد الإنكار من السامع فلهذا قال الرسل أوّلا: إنا إليكم مرسلون مقتصرين على «أن». وثانيا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ مجموعا بين «أن» واللام وما يجري مجرى القسم. ولا يخفى أن اليمين بعد إظهار البينة وإفحام الخصم مؤكد قوي كما مر في أول السورة. وفي قولهم وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ تسلية لأنفسهم أي نحن خرجنا من عهدة ما علينا ولم يبق إلا التفكر منكم والتذكر. وحيث أكد الرسل قولهم باليمن أكد الكفار قولهم بالتطير، فمن عادة الجهال أن يتيمنوا بكل ما يوافق طباعهم وهواهم ويتشاءموا بما كرهوه وكأنهم قالوا في الأول كنتم كاذبين وفي الثاني صرتم مصرين على الكذب حالفين بالأيمان الكاذبة التي تدع الديار بلاقع فتشاءمنا بكم ولا نترككم. لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالقول أو بالحجارة. وَلَيَمَسَّنَّكُمْ بعد ذلك أو بسبب الرجم بالحجارة
وعن رسول الله ﷺ «سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصاحب ياسين ومؤمن آل فرعون»
ومن هنا قالوا: إنه آمن بمحمد ﷺ قبل ولادته وذلك أنه سمع نعته من الكتب والعلماء. وتنكير رجل للتعظيم أي رجل كامل في الرجولية أو ليفيد ظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن بهم رجل من الرجال لا معرفة لهم به وكان بعيدا من التواطؤ. وقوله مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ أيضا يفيد مثل هذا أو أنهم ما قصروا في التبليغ والإنذار حتى بلغ خبرهم القاصي والداني والسعي بمعنى المشي أو بمعنى القيام في المهام أي يهتم بشأن المؤمنين ويسعى في نصرتهم وهدايتهم ونصحهم. ثم حثهم على اتباع الرسل ولم يقل اتبعوني كما قال مؤمن آل فرعون اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر: ٣٨] لأنه جاءهم فنصحهم في أوّل مجيئه وما رأوا سيرته بعد فقال: اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لأجلكم السبيل. فقوله اتَّبِعُوا نصيحة وقوله الْمُرْسَلِينَ إظهار للإيمان وقدم النصيحة إظهارا للشفقة.
وقد روي أنه كان يقتل ويقول: اللهم اهد قومي.
ثم أكد وجوب الاتباع بأنهم في أنفسهم مهتدون ولا يتوقعون أجرا في الدلالة ووجوب اتباع مثل هذا الدليل للذي ضل عن سواء السبيل مركوز في العقول. ثم أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحة قومه. قال الحكيم الَّذِي فَطَرَنِي إشارة إلى وجود المقتضي. وقوله وَما لِيَ إشارة إلى عدم المانع من جانبه فإن كل امرئ هو أعلم بحال نفسه، والمقتضى وإن كان مقدما في الوضع والطبع على المانع إلا أن المقتضي هاهنا لظهوره كان مستغنيا عن البيان رأسا فقدّم عدم المانع لأجل البيان ولهذا لم يقل «وما لكم لا تعبدون» كيلا يذهب الوهم إلى أنه لعله يطلب العلة والبيان وإنما ورد في سورة نوح ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [الآية: ١٣] لأن القائل هناك داع لا مدعو فكأن الرجل قال: مالي لا أعبد وقد طلب مني ذلك. وفي قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بيان الخوف والرجاء ولهذا لم يقل
قال بعض المفسرين: لما أقبل القوم عليه يريدون قتله أقبل هو على المرسلين. قال إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعوا قولي لتشهدوا لي. وإنما قال بِرَبِّكُمْ ولم يقل «بربي» ليتعين أنه آمن بالرب الذي دعوه إليه. وقال أكثرهم: الخطاب للكفار وعلى هذا فالمراد به بيان التوحيد أي ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وفطركم فاسمعوا قولي وأطيعوني. وفي قوله قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ وجهان أحدهما. أنه قتل. ثم كأن سائلا سأل: كيف لقاؤه ربه بعد ذلك التصلب في نصرة الدين حتى بذل مهجته؟ فقيل: قيل ادخل الجنة. والقائل هو الله سبحانه أو الملائكة بأمره. قال جار الله: لم يذكر المقول له لانصباب الغرض إلى المقول وعظم شأنه ولأنه معلوم. ثم كأن سائلا آخر سأل: أيّ شيء تمنى في الجنة؟ فقيل: قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ وإنما تمنى علم قومه بحاله ليصير ذلك سببا لهم في التوبة والإيمان ليفوزوا بما فاز ويؤيده ما روي في حديث مرفوع أنه نصح قومه حيا وميتا. ويجوز أن يكون سبب التمني هو أن ينبهوا على خطئهم في أمره وعلى صوابه في رأيه وأن عداوتهم لم تعقبه إلا سعادة وكرامة. وثانيهما أن الرسل بشروه وهو حيّ بدخول الجنة فصدّقهم وتمنى علم قومه بحاله فيؤمنوا كما آمن. و «ما» في قوله بِما غَفَرَ مصدرية أو موصولة أي بالذي غفره لي من الذنوب، أو استفهامية يعني بأي شيء غفر لي أراد ما جرى بينه وبينهم من المصابرة والذب عن الدين إلا أن طرح الألف أجود. فقول القائل: علمت بم صنعت هذا أحسن من قوله «بما صنعت» فقوله غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ بإزاء قوله فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ثم أشار إلى كيفية إهلاك قومه بعده قائلا وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ قال المفسرون: يجوز أن يريد بقومه الذين بقوا من أهل القرية بعد المؤمنين منهم وأن يريد به أقاربه فلعل غيرهم من قوم الرسل آمنوا فلم يصبهم العذاب. ثم قال وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ أي وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جندا من السماء، ومن هنا يعلم فضل نبينا ﷺ على غيره فقد أنزل الله لأجله الجنود من السماء يوم بدر والخندق وحنين وما أنزلها لغيره من نبي فضلا عن حبيب، فشتان بين حبيب الجبار وبين حبيب النجار.
فالحاصل أنه تعالى يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها
قال جار الله: القياس والاستعمال على تذكير الفعل لأن المعنى ما وقع شيء إلا صيحة ولكنه نظر إلى ظاهر اللفظ وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل. قلت: يجوز أن يقدر ما حدثت عقوبة. وقيل: إن التأنيث لتهويل الواقعة ولهذا جاءت أسماء الجنس كلها مؤنثة.
ووصف الصيحة بواحدة للتأكيد. وقرأ ابن مسعود إلا زقية وهي الصيحة أيضا ومنه المثل «أثقل من الزواقي» والزقاء صياح الديك ونحوه، وذلك لأن صياح الديكة يؤل بنزول الأنس وبتبدل الفراق بالوصال.
ثم شبه هلاكهم بخمود النار وهو صيرورتها رمادا لأنهم كانوا كالنار الموقدة في القوّة الغضبية حيث قتلوا من نصحهم وتجبروا على من أظهر المعجزة لديهم. ثم بين بقوله يا حَسْرَةً أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون من الملائكة والثقلين، أو من الله عز وجل على سبيل الاستعارة وذلك لتعظيم ما صدر من تقصيرهم وبدر من تفريطهم ثم ذكر سبب التحسر بقوله ما يَأْتِيهِمْ الآية. ثم عجب من حالهم في عدم الاعتبار بأمثالهم من الأمم الخالية. وقوله أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ بدل من كَمْ أَهْلَكْنا التقدير: ألم يعلموا القرون الكثيرة المهلكة من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم. والبدل بدل اشتمال لهم لأنه حال من أحوال المهلكة أي أهلكوا بحيث لا رجوع لهم إليهم. والرجوع حسيّ وهو ظاهر، أو معنويّ وهو الرجوع بالنسب والولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم. من قرأ «لما» بالتشديد فبمعنى إلا و «أن» نافية. ومن قرأ بالتخفيف فإن مخففة و «ما» صلة تقديره. وإن كلهم لمحشورون مجموعون محضرون للحساب يوم القيامة. قال في الكشاف: كيف أخبر عن كل المجموعي بجميع؟ وأجاب بأنهما ليسا بواحد، بل الكل يفيد الشمول والجميع يفيد الانضمام وأن المحشر يجمعهم. ويحتمل أن يقال: الغرض وصف الجميع بالإحضار كقولك: الرجل رجل عالم والنبيّ نبيّ مرسل. ثم ذكر البرهان على الحشر وعلى التوحيد أيضا مع تعداد النعم وتذكيرها قائلا: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ قال المحققون: إنما قال لهم لأن الأرض ليست آية للنبي ولغيره من أهل الإخلاص الذين هم بالله عرفوا الله قبل النظر إلى الأرض والسماء كقوله أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: ٥٣] وقوله أَحْيَيْناها استئناف بيانا لكونها آية وكذلك نسلخ ويجوز أن يكونا وصفين على قياس.
ولقد أمر على اللئيم يسبني
ومعنى عمل الأيدي ما يتكابده الناس من الحرث والسقي وغير ذلك. هذا إذا جعلت «ما» موصولة، فإن كانت نافية فالمراد الإيجاد والخلق. وقيل: عمل الأيدي التجارة. وقيل:
الطبخ ونحوه.
ثم نزه نفسه بقوله سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ أي الأصناف والمراد بقوله وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ أزواج لم يطلع الله الإنسان عليها بطريق من طرق المعرفة وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: ٣١] فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: ١٧] قالت الأشاعرة: فيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن أفعالهم أعراض وهي داخلة تحت الأجناس. وقوله مِمَّا تُنْبِتُ لا يخرجه عن العموم لأن البيان متعدّد نظيره قول القائل:
أعطيته كل شيء من الثياب والدواب والعبيد. فإنه يفهم أن تعديد الأصناف لتأكيد العموم يؤيده قوله في الزخرف الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها [الآية: ٣٦] من غير تقييد. وحين فرغ من الاستدلال بالمكان شرع في الاستدلال بالزمان. ومعنى سلخ النهار من الليل تميزه منه. ومعنى سلخ النهار من الليل تميزه منه. قال جار الله: أصله من سلخ الجلد الشاة إذا ازاله عنها فاستعير لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وموضع إلقاء ظله. ومعنى
ثم ذكر أمر سير القمر وقد مر في أوّل سورة يونس في قوله وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ [الآية:
٥] والعرجون عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة وهو «فعلون» من الانعراج الانعطاف قاله الزجاج. والقديم ما تقادم عهده ويختلف بحسب الأعيان. فلا يقال لمدينة بنيت من سنة وسنتين هي قديمة. وقد يقال: نبت قديم وإن لم يكن له سنة. وإطلاق القديم على العالم لا يعتاد لأنه موهم إلا عند من يعتقد أنه لا أول له. وقال في الكشاف: القديم المحول وهو أول ما يوصف بالقدم، فلو أن رجلا قال: كل مملوك لي قديم فهو حر وكتب ذلك في وصية، عتق منهم من مضى له حول وأكثر. وإذا قدم العرجون دق وانحنى واصفرّ فشبه انقراض الشهر به من الوجوه الثلاثة. ثم بين أن لكل واحد من النيرين حركة مقدرة وسلطانا على حياله لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ لتباطوء سيرها عن سيره وَلَا اللَّيْلُ أي ولا تسبق آية الليل- وهو القمر- آية النهار- وهي الشمس- أي لا يداخل القمر الشمس في سلطانها. وقيل: أراد أن الليل لا يدخل في وقت النهار. وقيل: إنه إشارة إلى الحركة اليومية التي بها يحدث الليل والنهار. والمراد أن القمر لا يسبق الشمس بهذه الحركة لأنها تشملهما على السواء، وهكذا جميع الكواكب فلا يقع بسببها تقدم ولا تأخر ولهذا لم يقل «يسبق» على قياس تدرك أي ليس من شأنه السبق إذ الكواكب كأنها كلها ساكنة بهذه الحركة. وأقول: يحتمل أن يراد لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا القمر ينبغي أن
ولما بين ما هو كالضروري لوجود الإنسان من المكان والزمان وما يتبعه ويسبقه، شرع في تقرير ما هو نافع لهم في أحوال المعاش. قال بعض المفسرين: أراد بحمل الذرية حمل آبائهم وهم في أصلابهم. والفلك فلك نوح ومثله هو ما يركبون الآن عليه من السفن والزوارق. قال جار الله: وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل. ومن فوائد ذكر الذرية أن من الناس من لا يركب السفينة طول عمره ولكنه في ذريته من يركبها غالبا. وذهب آخرون إلى أن المراد حمل أولادهم ومن يهمهم حمله كالنساء. وقد يقع اسم الذرية عليهن لأنهن مزارع الأولاد.
في الحديث «إنه نهى عن قتل الذراري»
يعني النساء فكأنه قيل: إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره وعلى هذا يكون قوله وَخَلَقْنا لَهُمْ إلى آخره اعتراضا، ومثل الفلك ما يركبون من الإبل لأنها سفائن البر. وفي وصف الفلك بالمشحون مزيد تقرير للقدرة والنعمة فإن الفلك إذا كان خاليا كان خفيفا لا يرسب في الماء بالطبع. ثم ذكر ما يؤكد كونه فاعلا مختارا قائلا وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وهو مصدر أو صفة أي لا إغاثة أو لا مغيث. وقوله إِلَّا رَحْمَةً إشارة إلى أن الإنقاذ رحمة بالنسبة إلى المؤمن ومتاع إلى حلول الأجل بالإضافة إلى الكافر، أو المراد أن أحد لا يتخلص من الموت وإن سلم من الآفات ولله در القائل:
ولم أسلم لكي أبقى ولكن | سلمت من الحمام إلى الحمام |
يس إشارة إلى أنه بلغ في السيادة مبلغا لم يبلغه أحد من المرسلين تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ فيه أنه لعزته لا يحتاج إلى تنزيل القرآن ولكن رحمته اقتضت ذلك نُحْيِ القلوب الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا من الأنفاس المتصاعدة ندما وشوقا، وآثار خطا أقدام صدقهم وآثار دموعهم على خدودهم أَصْحابَ الْقَرْيَةِ القلوب إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ من الخواطر الرحمانية والإلهامات الربانية بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار
الألفة والبر والتوبة والثبات والجمعية والحلم والخلوص والديانة والذلة والرأفة والزلفة والسلامة والشوق والصدق والصبر والطلب والظمأ والعشق والعزة والفتوة والقربة والكرم واللين والمروءة والنور والولاية والهداية واليقين. فإذا قطع كل المنازل فقد تخلق بخلق القرآن ولهذا قال لنبيه ﷺ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: ٩٠] وهو آخر المنازل والمقامات، فإن السالك يألف الحق أوّلا ثم يتوب فيثبت على ذلك حتى تحصل له الجمعية، وعلى هذا يعبر المقامات حتى يصير كاملا كالبدر، ثم يتناقص نوره بحسب دنوّه من شمس شهود الحق إلى أن يتلاشى ويخفى وهو مقام الفقر الحقيقي الذي افتخر به نبينا صلى الله عليه وسلم
بقوله «الفقر فخري».
ثم أشار بقوله لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها إلى أن الرب لا يصير عبدا ولا العبد ربا. ثم ذكر أن العوام محمولون في سفينة الشريعة والخواص في بحر الحقيقة كلاهما بفلك العناية وملاحة أرباب الطريقة، ومثل ما يركبون هو جناح همة المشايخ. وَإِنْ نَشَأْ نغرق العوام في بحر الدنيا والرخص والخواص في بحر الشبهات والإباحة.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤٥ الى ٨٣]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩)فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩)
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤)
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
يَخِصِّمُونَ بفتحتين ثم كسر الصاد المشددة: ابن كثير وورش وسهل ويعقوب وأصله «يختصمون» أدغمت التاء في الصاد بعد نقل حركتها إلى الخاء، وقرأ أبو جعفر ونافع غير ورش بسكون الخاء، وقرأ أبو عمرو بإشمام الفتحة قليلا وقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من الخصم ثلاثيا. الباقون: بكسر الخاء للاتباع وتشديد الصاد.
وروى خلف عن يحيى بكسر الياء والخاء والتشديد. شُغُلٍ بضمتين: عاصم وخلف وابن عامر ويزيد ويعقوب. فكهون وبابه بغير ألف: يزيد. ظل بضم الظاء وفتح اللام:
حمزة وعلي وخلف على أنه جمع ظلة. الآخرون: ظِلالٍ جمع ظل جِبِلًّا بضم الجيم وسكون الباء. ابن عامر وأبو عمرو. وقرأ أبو جعفر ونافع وعاصم وسهل بكسرتين واللام مشددة، وقرأ يعقوب بضمتين والتشديد. والباقون: بضمتين والتخفيف نُنَكِّسْهُ مشددا:
حمزة وعاصم غير مفضل. الآخرون: بالتخفيف من النكس. تعقلون بتاء الخطاب:
أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب لتنذر على الخطاب أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب يقدر على صيغة المضارع: يعقوب كن فيكون بالنصب: ابن عامر وعلي.
الوقوف:
تُرْحَمُونَ هـ مُعْرِضِينَ هـ رَزَقَكُمُ اللَّهُ لا لأن ما بعده جواب «إذا» أَطْعَمَهُ لا كذلك لاتحاد المقول ولئلا يبتدأ بما لا يقوله مسلم. وجوز جار الله أن يكون قوله إِنْ أَنْتُمْ قول الله أو حكاية قول المؤمنين لهم فالوقف جائز. مُبِينٍ هـ صادِقِينَ هـ يَخِصِّمُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ يَنْسِلُونَ هـ مَرْقَدِنا هـ لئلا يوهم أن هذا صفة وما بعده منفي وفيه وجوه أخر نذكرها في التفسير الْمُرْسَلُونَ هـ مُحْضَرُونَ هـ تَعْمَلُونَ هـ فاكِهُونَ هـ ج لاحتمال أن هُمْ تأكيد الضمير وأَزْواجُهُمْ عطف عليه وفِي ظِلالٍ ظرف فاكِهُونَ، ولاحتمال أن ما بعده مبتدأ وخبره مُتَّكِؤُنَ يَدَّعُونَ هـ ج لأنه من المحتمل أن يكون سَلامٌ خبر محذوف أي عليهم سلام يقول قولا، وأن يكون سَلامٌ بدل ما يَدَّعُونَ أي لهم ما يتمنون وهو سلام سَلامٌ ط ج لحق الحذف رَحِيمٍ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ الشَّيْطانَ ج لأن التقدير فإنه مُبِينٌ هـ لا للعطف اعْبُدُونِي ج مُسْتَقِيمٌ هـ كَثِيراً هـ تَعْقِلُونَ هـ تُوعَدُونَ هـ تَكْفُرُونَ هـ يَكْسِبُونَ هـ يُبْصِرُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ فِي الْخَلْقِ ط يَعْقِلُونَ هـ له ج مُبِينٌ هـ الْكافِرِينَ هـ مالِكُونَ هـ يَأْكُلُونَ هـ وَمَشارِبُ هـ يَشْكُرُونَ هـ يُنْصَرُونَ ج نَصْرَهُمْ لا لأن الواو للحال مُحْضَرُونَ هـ قَوْلُهُمْ هـ لئلا يوهم أن ما بعده مقول الكفار يُعْلِنُونَ هـ مُبِينٌ هـ خَلْقَهُ ط رَمِيمٌ هـ مَرَّةٍ ط عَلِيمٌ هـ لا لأن
التفسير:
لما بين الآيات المذكورة حكى أنهم في غاية الجهالة ونهاية الضلالة، لا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان، ولا كالعوام الذين يبنون أمورهم على الأحوط إذا أنذرهم منذر انتهوا عن ارتكاب المنهي خوفا من تبعته وطمعا في منفعته وإليه الإشارة بقوله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي في ظنكم فإن الذي لا تفيده الآيات يقينا فلا أقل من أن يحترز من العذاب ويرجو الثواب أخذا بطريقة الاحتياط، ونظير الآية ما مرّ في أوّل سورة سبأ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الآية: ٩] وعن مجاهد: أراد ما تقدّم من ذنوبكم وما تأخر. وعن قتادة: ما بين أيديكم من وقائع الأمم وما خلفكم أي من أمر الساعة. وقيل: ما بين أيديكم من أمر الساعة. وقيل: ما بين أيديكم الآخرة فإنهم مستقبلون لها، وما خلفكم الدنيا فإنهم تاركون لها. أو ما بين أيديكم من أمر محمد ﷺ فإنه حاضر عندهم وما خلفكم من أمر فإنكم إذا اتقيتم تكذيب محمد ﷺ والحشر رحمكم الله. أو ما بين أيديكم من أنواع العذاب كالحرق والغرق المدلول عليه بقوله وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ ما خلفكم الموت الطالب لكم يدل على قوله وَمَتاعاً إِلى حِينٍ وجواب «إذا» محذوف وهو لا يتقون أو يعرضون، يدل عليه ما بعده مع زيادة فائدة هي دأبهم الإعراض عند كل آية.
ويحتمل أن يكون قوله وما تَأْتِيهِمْ متعلقا بما قبله وهو قوله يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يعني إذا جاءتهم الرسل كذبوهم فإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها. وقوله أَلَمْ يَرَوْا إلى قوله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ اعتراض. ثم أشار إلى أنهم كما يخلون بجانب التعظيم لأمر الله حيث قيل لهم اتقوا فلم يتقوا يخلون بجانب الشفقة على خلق الله ولا ينفقون إذا أمروا بالإنفاق على أنهم خوطبوا بأدنى الدرجات في التعظيم والإشفاق، فإن أدنى الانقياد الاتقاء من العذاب، وأدنى الإشفاق هو إنفاق بعض ما في التصرف من مال الله، فأين هم من معشر أقبلوا بالكلية على الله وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله؟ وفي قوله مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ إشارة إلى أن الله تعالى قادر على إغناء الفقير وإعطائه ولكنه جعل الغني واسطة في الإنفاق على الفقير. فالسعيد من عرف حق التوسيط وانتهز فرصة الإمكان وعلم أن الإنفاق سبب للبركة في الحال ومجلبة للثواب في المآل. وقوله قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا دون أن يقول «قالوا» تسجيل عليهم بالكفر. وقوله لِلَّذِينَ آمَنُوا
مزيد تصوير لجهالتهم حين قالوا لهؤلاء الأشراف ما قالوا. وقوله أَنُطْعِمُ دون «أننفق» إظهار لغاية خستهم فإن الإطعام أدون من
ثم بالغ في شدّة الأخذ بقوله فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وفي قوله فَلا يَسْتَطِيعُونَ دون أن يقول «فلا يوصون» مبالغة لأن من لا يوصي قد يستطيعها، وكذلك في تنكير توصية الدال على التقليل، وكذا في نفس التوصية لأنها بالقول والقول يوجد أسرع من الفعل من أداء الواجبات وردّ المظالم، وقد تحصل التوصية بالإشارة فالعاجز عنها عاجز عن غيرها. وفي قوله وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ بيان لشدّة الحاجة إلى التوصية فإن الذي يقطع بعدم الوصول إلى أهله كان إلى الوصية أحوج. وفيه تنبيه على أن الميت لا رجوع له إلى الدنيا ولا اجتماع له بأهله مرة أخرى إلى حين يبعثون. ثم بين حال النفخة الثانية، والأجداث القبور والنسلان العدو. وكيف صارت النفختان مؤثرتين في أمرين متضادين الإماتة والإحياء؟ نقول: لا مؤثر إلا الله، والنفخ علامة على أن الصوت يوجد التزلزل وأنه قد يصير سببا لافتراق الأجزاء المجتمعة تارة ولاجتماع المتفرقة أخرى. ثم إن أجزاء كل بدن قد تحصل في موضع هو بمنزلة جدثه، أو أعطى للأكثر حكم الكل. وذكر الرب في هذا الموضع للتخجيل فإن من أساء واضطر إلى الحضور عند من أحسن إليه كان أشدّ ألما وأكثر ندما. وقوله يَنْسِلُونَ لا ينافي قوله في موضع آخر فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨] فلعل ذلك في أول الحالة ثم يحصل لهم سرعة المشي من غير اختيارهم. ويمكن أن يقال:
ثم بين أنهم قبل النسلان قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا كأنهم شكوا في أنهم كانوا موتى فبعثوا أو كانوا نياما فتنبهوا فجمعوا في السؤال بين الأمرين: البعث والمرقد.
عن مجاهد: للكفار. هجعة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل القبور قالوا ذلك، ثم أجابهم الملائكة في رواية ابن عباس، والمتقون على قول الحسن هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ كأنه قيل: ليس بالبعث الذي عرفتموه وهو بعث النائم من مرقده حتى يهمكم السؤال عن الباعث أن هذا هو البعث الأكبر الذي وعده الرحمن في كتبه المنزلة على لسان رسله الصادقين. والظاهر أن هذا مبتدأ وما وَعَدَ الرَّحْمنُ إلى آخره خبره، و «ما» مصدرية أي هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالمصدر.
ويجوز أن يكون «ما» موصولة أي هذا الذي وعده الرحمن وصدقه المرسلون أي صدقوا فيه. وجوّز جار الله أن يكون هذا صفة للمرقد وما وَعَدَ خبر مبتدأ محذوف أي هذا وعد الرحمن، أو مبتدأ محذوف الخبر أي ما وعده الرحمن وصدقه المرسلون حق عليكم.
وقيل: إن قوله هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ من كلام الكافرين كأنهم تذكروا ما سمعوا من الرسل فأجابوا به أنفسهم، أو أجاب بعضهم بعضا. ثم عظم شأن الصيحة بالنسبة إلى المكلفين وحقر أمرها بالإضافة إلى الجبار قائلا إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً الآية. وقد مر نظيره. ثم بين ما يكون في ذلك اليوم قائلا فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ أيها الكافرون إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وفيه إشارة إلى أن عدله عام وفضله خاص بأهل الإيمان وفيه أنهم إذا جمعوا لم يجمعوا إلا للعدل أو الفضل فالفاء فيه كما في قول القائل للوالي أو للقاضي: جلست للعدل فلا تظلم. أي ذلك يقتضي هذا ويستعقبه. وقوله ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إشارة إلى عدم الزيادة فإن الشيء لا يزيد على عينه كقولك: فلان يجازيني حرفا بحرف. أي لا يترك شيئا.
ويجوز أن يراد الجنس أيّ لا تجزون إلا جنس العمل حسنا أو سيئا. ثم فصل حال المحسنين بطريق الحكاية في ذلك اليوم تصويرا للموعود وترغيبا فيه فقال إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ لا يكتنه كنهه وفيه وجوه أقواها أنهم مشغولون عن هول ذلك اليوم بما لهم من الكرامات والدرجات. وقوله فاكِهُونَ مؤكد لذلك المعنى أي شغلوا عنه باللذة والسرور لا بالويل والثبور. وثانيها أنه بيان لحالهم ولا يريد أنهم شغلوا عن شيء بل المراد أنهم في عمل، ثم بين عملهم بأنه ليس بشاق بل هو ملذ محبوب. وثالثها أنهم تصوروا في الدنيا أمورا يطلبونها في الجنة فإذا رأوا فيها ما لم يخطر ببالهم اشتغلوا به عنها.
ضيافة الله. وعن الكلبي: هم في شغل عن أهاليهم من أهل النار لا يهمهم أمرهم لئلا يدخل عليهم تنغيص من تنعمهم. والفاكه والفكه المتنعم المتلذذ ومنه الفاكهة لأنها تؤكل للتلذذ لا للتغذي والفكاهة الحديث لأجل التلذذ لا للضرورة. والأزواج ظاهرها زوج المرأة وزوجة الرجل. وقيل: أراد أشكالهم في الأحساب وأمثالهم في الإيمان كقوله وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص: ٥٨] قال أهل العرفان: من شرائط السماع الزمان والمكان والإخوان فقوله هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ إشارة إلى عدم الوجوه الموحشة وأن لهم في ظل الله ما يمنع الإيذاء كقوله لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الدهر: ١٣] وقوله عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ دليل على القوّة والفراغة والتمكن من أنواع الملاذ. وقوله لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ إشارة إلى سائر أنواع الملاذ الزائدة على قدر الضرورة.
وقوله وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ إشارة إلى دفع جميع حوائجهم وما يخطر ببالهم. قال الزجاج: هو افتعل من الدعاء أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم. وقال جار الله: هو للاتخاذ أي ما يدعون به أو ما يدعون به أو ما يدعون لأنفسهم كقولك: يشتوي. أي اتخذ لنفسه شواء. أو هو بمعنى التداعي. وعلى الوجهين إما أن يراد كل ما يدعو به الله أحد أو كل ما يطلبه من صاحبه فإنه يجاب له بذلك، أو يراد أن كل ما يصح أن يدعى به ويطلب فهو حاصل لهم قبل الطلب. وقيل: معناه يتمنون من قولهم: ادّع عليّ ما شئت أي تمنه عليّ.
وقيل: هو من الدعوى وذلك أنهم كانوا يدّعون في الدنيا أن الله هو مولاهم وأن الكافرين لا مولى لهم بينه قوله سَلامٌ يقال لهم قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي من جهته بواسطة الملائكة. وقيل: أراد لهم ما يدّعون سالم خالص لا شوب فيه. وقَوْلًا أي عدة وعلى هذا يكون قوله لَهُمْ للبيان وما يَدَّعُونَ سَلامٌ مبتدأ وخبر كقولك: لزيد الشرف متوفر.
وقال بعضهم: يحتمل أن يكون قَوْلًا نصبا على التمييز لأن السلام من الملك قد يكون قولا وقد يكون إشارة. وقال أهل البيان قوله وَامْتازُوا معطوف على المعنى كأنه قيل:
دوموا أيها المؤمنون في النعيم وامتازوا اليوم أيها المجرمون. أو قلنا لأهل الجنة: إنكم في شغل وقلنا لأهل النار: امتازوا وهو كقوله فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:
٧] أو تميزوا في أنفسكم غيظا وحنقا فلا دواء لألمكم ولا شفاء لسقمكم كقوله في صفة جهنم تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك: ٨] أو افترقوا خلاف ما للمؤمن من الاجتماع بالإخوان فلا عذاب كفرقة الأخدان يؤيده ما روي عن الضحاك: لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى. وعن قتادة: أراد اعتزلوا عن كل خير ترجون، أو امتازوا عن
وفي الحديث «يقول العبد يوم القيامة إني لا أجيز شاهدا إلا من نفسي فيختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعد الكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل» «١»
قال المتكلمون: إنه لا يبعد من الله تعالى إنطاق كل جرم من الأجرام إنطاق اللسان وهو فاعل لما يشاء. قال الحكيم: إنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانهتاك أستارهم فيقفون ناكسي الرؤوس وقوف القنوط اليئوس.
وهاهنا نكتة وهي أن الختم لازم للكفار في الدارين، ختم الله على قلوبهم في الدنيا وكان قولهم بأفواههم كما قال يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: ١٦٧] ثم إذا ختم على أفواههم أيضا في الآخرة لزم أن يكون قولهم بسائر أعضائهم. هذا وقد ذكرنا مرارا أنه تعالى كلما يذكر تمسك الجبرية يذكر عقيبه تمسك القدرية وبالعكس. وكان للقدرية أن تتمسك بقوله يَكْسِبُونَ تَكْفُرُونَ حيث أسند الله الكفر والكسب إليهم فلا جرم عقبه بتمسك الجبري وهو قوله وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا ووجه التمسك أن إعماء البصائر شبه إعماء الأبصار، وسلب القوّة العقلية كسلب القوّة الجسمية. فكما أنه لو شاء لطمس على أبصارهم حتى لا يهتدوا إلى الطريق القاهر الظاهر ولو شاء لسلب قوّة جسومهم بالمسخ حتى لا يقدروا على تقدم ولا تأخر، فكذلك إذا شاء أعمى البصائر وسلب قواهم العقلية حتى لم يفهموا دليلا ولم يتفكروا في آية. والطمس محو أثر شق العين. قال جار الله فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ أصله فاستبقوا إلى الصراط فانتصب بنزع الخافض. والمعنى لو شاء لمسخ أعينهم فلو راموا أن يسبقوا إلى الصراط الذي عهدوه واعتادوا على سلوكه إلى مساكنهم لم يقدروا عليه إذ الصراط طريق الاستباق، والاستباق مضمن معنى الابتدار.
فالمراد لو شاء لأعماهم حتى لو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف أو مبتدرين إياه كما كان هجيراهم لم يستطيعوا. أو يجعل الصراط مسبوقا لا مسبوقا إليه، فالمعنى لو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوه لعجزوا ولم يقدروا إلا على سلوك الطريق المعتاد كالعميان يهتدون فيما ألفوا من المقاصد والجهات دون غيرها. عن ابن عباس: أراد لمسخناهم قردة وخنازير. وقيل: حجارة. وعن قتادة: لأقعدناهم على أرجلهم أو أزمناهم على أرجلهم. والمكان والمكانة واحد أراد مسخا مجمدا بحيث لا يقدرون أن يرجعوا مكانهم. وإنما قدم الطمس على المسخ تدرّجا من الأهون إلى الأصعب، فإن الأعمى قد
طوى العصران ما نشراه مني | فأبلى جدّتي نشر وطيّ |
أراني كل يوم في انتقاص | ولا يبقى على النقصان شيّ |
أرى الأيام تتركني وتمضي | وأوشك أنها تبقى وأمضي |
علامة ذاك شيب قد علاني | وضعف عند إبرامي ونقضي |
وما كذب الذي قد قال قبلي | إذا ما مر يوم مر بعضي |
وروي عن الخليل أن الشعر كان أحب إلى رسول الله ﷺ من كثير من الكلام ولكن كان لا يتأتى له. قال: وما روي أنه ﷺ قال:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وقال:
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت كلام اتفاقي من غير قصد وتعمد، والشعر كلام موزون مقفى مع تعمد.
وقيل: أراد
١٢٥] ونظيره قوله هاهنا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي موعظة وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ذو البيان أو الإبانة وأنه يشمل البرهان والجدل. أما البرهان فظاهر، وأما الجدل فلأن النتيجة إذا كانت في نفسها حقة. فالرجل العالم المحق ليس عليه إلا إفحام الخصم الألدّ وإلزامه بمقدّمات مسلمة أو مشهورة، ومما يؤيد ما ذكرنا ما
روي أنه ﷺ كان يقرأ قول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
هكذا: ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار. ولا ريب أنه كان يتأتى له رواية الشعر إن لم يتأت له قرضه، وما ذاك إلا للتنزه عما يشبه ما يشين رتبته ولا يوافق مغزاه.
ويروى أنه ﷺ حين قال:
هل أنت إلا إصبع دميت انقطع الوحي أياما حتى قالت الكفار إن محمدا قد ودعه ربه وقلاه،
وهذا أحد أسباب نزول تلك الآية. ولمثل ما قلنا لم يرو عنه كلام منظوم وإن كان حقا وصدقا كالذي قاله بعض الشعراء في التوحيد والحقائق. وقد أشار إلى نحو ذلك
بقوله ﷺ «إن من الشعر لحكمة» «١»
وقد مر في تفسير قوله سبحانه في آخر الشعراء إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الآية: ٢٢٧] وذلك أن الشاعر يقصد لفظا فيوافقه معنى حكمي. وبالجملة لا يخلو الشعر عن تكلف ما، وقد يدعوه النظم إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ، فأين الشارع من الشاعر؟ ثم بين كون القرآن منزلا على هذا الوجه بقوله لتنذر يا محمد أو لينذر هو أي القرآن مَنْ كانَ حَيًّا عاقلا متأملا. ويجوز أن تكون الحياة عبارة عن الإيمان، أو المراد بالحي من يؤل حاله إلى الإيمان. أو المراد بالإنذار الانتفاع به مثل هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: ٢] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: ١١] وقوله وَيَحِقَّ الْقَوْلُ كقوله في أول
يصرفه الصبيّ بكل وجه | ويحبسه على الخسف الجرير |
وتضربه الوليدة بالهراوي | فلا غير لديه ولا نكير |
والمشارب جمع مشرب وهو موضع الشرب أي الأواني المتخذة من جلودها، أو هو الشرب كالألبان والاسمان.
وحين وبخهم على عدم الشكر بقوله أَفَلا يَشْكُرُونَ زاد في توبيخهم بقوله وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أي وضعوا الشرك مكان الشكر فلا أظلم منهم. وفي قوله لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ إلى قوله مُحْضَرُونَ وجهان: أحدهما أنهم طمعوا في أن يتقوّوا بهم ويعتضدوا بمكانهم والأمر عكس ذلك حيث هم جند لآلهتهم معدّون يخدمونهم ويذبون عنهم من غير نفع في آلهتهم. وثانيهما اتخذوهم لينصروهم عند الله بالشفاعة، والأمر على خلاف ذلك حيث إن آلهتهم يوم القيامة جند محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقودا للنار.
ووجه ثالث وهو أن يكون قوله وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ تأكيدا لعدم الاستطاعة فإن من حضر واجتمع ثم عجز عن النصرة يكون في غاية الضعف بخلاف من لم يتأهب ولم يجمع أنصاره. ثم عقب دليل التوحيد بالرسالة مسليا رسوله بقوله فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ باتخاذ الشريك لله أو بالطعن في الرسالة أو بالإيذاء والتهديد. ثم علل عدم الحزن بقوله إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من النفاق وسائر العقائد الفاسدة وَما يُعْلِنُونَ من الشرك وسائر الأفعال القبيحة، أو يسرون من المعرفة بالله ويعلنون من العناد. وجوّز جار الله فتح «أن» على تقدير
قول كثير من المفسرين إنها نزلت في جماعة من كفار قريش تكلموا في البعث فقال لهم أبيّ بن خلف الجمحي: واللات والعزى لأصيرن إلى محمد ولأخصمنه.
وأخذ عظما باليا فجعل يفتته بيده ويقول: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟
فقال صلى الله عليه وسلم: نعم ويبعثك ويدخلك جهنم.
قال أهل البيان: سمى قولهم مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ مثلا لأن إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى قصة عجيبة. وفيه تشبيه الخالق القادر العليم بالمخلوق العاجز عن خلق أدنى بعوضة الجاهل بما يجري عليه من الأحوال. والرميم اسم لما بلي من العظام كالرمة والرفات ولا يبعد أن يكون صفة. ولم تؤنث بتقدير موصوف محذوف أي شيء رميم، أو لأنه بمعنى فاعل كقوله إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الأعراف: ٥٦] وفي الآية دليل ظاهر على أن عظام الميتة نجسة لأن الموت والحياة يتعاقبان عليها. وقال أصحاب أبي حنيفة: إنها طاهرة وإن الحياة لا تحل فيها فلا يتصور موتها، وكذا الشعر والعصب. وتأوّلوا الآية بأن المراد بإحياء العظام ردّها على ما كانت عليه غضة طرية في بدن حيّ حساس. واعلم أن المنكرين للحشر منهم من اكتفى في إنكاره بمجرد الاستبعاد كقوله مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فأزال استبعادهم بتصوير الخلق الأول، فإن الذي قدر على جعل النطفة المتشابهة الأجزاء إنسانا مختلف الأبعاض والأعضاء، مودعا فيه الفهم والعقل وسائر أسباب المزية والفضل، فهو على إعادتها أقدر.
ومنهم من ذكر شبهة وهي كقولهم: إن الإنسان بعد العدم لم يبق شيئا فكيف يصح إعادة المعدوم عقلا؟ أو كقولهم: إن الذي تفرقت أجزاؤه في أبدان السباع وجدران الرباع كيف يجمع ويعاد؟ أو كقولهم إن إنسانا إذا نشأ مغتذيا بلحم إنسان آخر فلا بد أن لا يبقى للآكل وللمأكول جزء يمكن إعادته. فأجاب الله تعالى عن الأول بقوله يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا فإنه يعيده وإن لم يكن شيئا. وعن الباقيتين بقوله وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ فيجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع والسباع وهكذا
وعن ابن عباس: ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب قالوا: ولذلك يتخذ منه كذينقات القصارين. قلت: ويشبه أن يكون كل شجرة في غاية الصلابة هكذا إلا أن يكون له سبب خاص به كما يروى أنه معجزة لموسى عليه السلام فإنه قد رأى النار فيها فلا ينبغي لغيره أن يراها. ثم أكد قدرته الكاملة على خلق الإنسان إبداء وإعادة بتذكر خلق السموات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس. ثم أثبت ما نفاه مستفهما للتقرير بقوله بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الكثير الخلق الكامل فيه الْعَلِيمُ بكل جوهر وعرض وما يطلق عليه اسم الشيئية. ثم بين أن إيجاده ليس متوقفا إلا على تعلق الإرادة بالمقدور وقد مر تقريره في أوائل «البقرة» وغيرها. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن المعدوم شيء. وأجيب بأن الآية دلت على أنه حين تعلق الإرادة به شيء، أما إنه قبل ذلك شيء فكلا. ثم ختم السورة بتقرير المبدأ والمعاد على الإجمال. فقوله بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ إشارة إلى المبدأ.
وقوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إشارة إلى المعاد وإذا تقرر الطرفان فما بينهما الوسط المشتمل على التكاليف والرسالة، فهذه الآية كالنتيجة للمقدمات السابقة في السورة. عن ابن عباس:
كنت لا أعلم ما روي في فضائل يس وقراءتها كيف خصت بذلك فإذا أنه لهذه الآية.
روي أنه ﷺ قال: «ان لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس» «١»
فذكر الإمام الغزالي رضي الله عنه أن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر وأنه مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه فلذلك سماها قلب القرآن. وقال غيره: إن الأصول الثلاثة التي يتعلق بها نصيب الجنان وهي التوحيد والرسالة والحشر مكررة في هذه السورة. وليس فيها شيء من بيان وظيفة اللسان ولا العمل بالأركان. فلما كان أعمال القلب لا غير سماه قلبا، ولهذا ورد في الأخبار أنه ينبغي أن تقرأ على الميت حالة النزع وذلك ليزداد بها قوة قلبه، فإن الأعضاء الظاهرة وقتئذ ساقطة المنة، والقلب مقبل على الله معرض عما سواه ولنا فيه وجه هو بالتأويل أشبه فلنذكره هناك.
اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ من الدنيا وشهواتها وَما خَلْفَكُمْ من نعيم الجنة ولذاتها لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بمشاهدة الجمال وأنوار الكمال وَنُفِخَ فِي الصُّورِ إشارة إلى نفخ إسرافيل المحبة في صور القلب، فإذا السر والروح والخفي من أجداث أوصاف البشرية إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يرجعون بعضها بالسير وبعضها بالطيران إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ شغلهم الله بالمفاكهة عن المشاهدة كما قال بعض الصوفية: والناس يخرجون من مسجد الجامع هؤلاء حشو الجنة. وللمجالسة أقوام آخرون وهم الفارغون من الالتفات إلى الكونين. قال الله تعالى فَإِذا فَرَغْتَ [الشرح: ٧] أي من تعلقات الكونين فَانْصَبْ [الشرح: ٧] لطلب الوصال. ويحكى أن الآية قرئت في مجلس الشبلي رضي الله عنه فشهق شهقة وغاب، فلما أفاق قال: مساكين لو علموا أنهم عم شغلوا لهلكوا. ويحتمل أن يقال:
إنهم اليوم أي في الدنيا في شغل بأنواع الطاعات والعبادات من طلب الحق والشوق إلى لقائه كما يحكى عن يحيى بن معاذ أنه قال: رأيت رب العزة في منامي فقال لي: ابن معاذ، كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني. ويمكن أن يقال: إنهم اليوم في الدنيا في شغل بالطاعات والرضا بما قسم الله عن طلب اللذات والفوائد وارتكاب المحرمات والزوائد. أو يقال: إنه خطاب للعصاة فإن أهل الله هم المستغرقون في بحار عظمة الله، وأهل الجنة مشتغلون باستيفاء اللذات وليس للعصاة إلا رحمتي وكرمي كما قال يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: ٥٣] وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ
في بعض الاخبار المروية أن عبدا لتشهد عليه أعضاؤه بالذلة فتتطاير شعرة من جفن عينه فتستأذن بالشهادة له فيقول الحق تعالى: تكلمي يا شعرة جفن عين عبدي واحتجي عن عبدي. فتشهد له بالبكاء من خوفه فيغفر له وينادي مناد: هذا عتيق الله بشعرة.
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ إن السالك إذا عمر صار في آخر الأمر إلى الفناء في الله حتى لا يبقى منه ما يستند الفعل إليه. وفي قوله وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ إشارة إلى أن العلوم والصنائع كلها من الله تعالى وبتعليمه وإلهامه. مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ وهو شجرة البشرية نار المحبة تُوقِدُونَ مصباح قلوبكم. وإنما
قال النبي ﷺ «إن قلب القرآن يس»
لأن ذكره ﷺ رمز إليه في أول السورة وفي آخرها. أما الأول فقد مر في تفسير لفظ يس وأما الثاني فلأن قوله فَسُبْحانَ إلى آخره يدل على المبدأ والمعاد تصريحا، وعلى الرسالة ضمنا، ولا ريب أن القلب خلاصة كل ذي قلب، وإنه ﷺ كان خلاصة المخلوقات وكان خلقه القرآن الذي نزل على قلبه، وكأن فاتحة السورة وخاتمتها مبنية على ذكره منبئة عن سره كالقلب في جوف صاحبه فلأجل هذه المناسبات أطلق على يس أنه قلب القرآن والله ورسوله أعلم بأسرار كلامه.