ﰡ
قوله تعالى: ﴿فانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِن النِّساءِ مثْنَى وثُلاَثَورُباع﴾ الآية:
ذكر جماعةٌ أن هذه الآيةَ ناسخةٌ لما كانوا عليه في الجاهلية وبرهةًمن الإِسلام. كان للرجل أن يتزوَّج ما شاء من عِدّةِ نساء، فَنَسَخَ اللهُ ذلكَبهذه الآيةِ، وجعل أقصى ما يجوزُ لِلرَّجُل أن يتزوج أربعاً.
قال أبو محمد: وهذا مما يجبُ أن لا يُذكَرَ في ناسخ القرآنومنسوخه؛ لأنه لم ينسخ قرآناً، إنما نسخ أمراً كانوا عليه في حال كُفرهم،(وبقوا) عليه في أول إِسلامهم قبل أن يُؤْمروا بشيء. والقرآنُ كُلُّه- على هذا - هو ناسخٌ لما كانوا عليه من شرائِعهم التي اخترعوها وكُفرِهِموعبادتِهم الأصنام وغيرِ ذلك. فلو وجَبَ ذِكْرُ هذا، لَوَجَب ذِكْرُ جميعالقرآن (في الناسخ والمنسوخ)، وقد بيَّنا هذا.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كانَ فقيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعْروف﴾:
أباحت هذهِ الآيةُ في ظاهر نَصَّها للوصيِّ إذا كان فقيراً أن يأكلَ من ماليتيمه بالمعروف، وهي - عند ابن عباس - منسوخةٌ، بقوله تعالى: ﴿إنَّالذِينَ يأكُلُونَ أَمْوالَ اليَتَامَى ظُلْماً﴾ [النساء: ١٠] الآية. وقاله زيدُ بنُ أَسلم.
وقيل نُسِخَتْ بقوله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالبَاطِل﴾ [البقرة: ١٨٨].
وقال أهلُ العراق: لا يَأْكُلُ الوصِيُّ من مَالِ يتيمه شيئاً إلا أَنيسافرَ مِن أَجْلِه، فلَه أن يَتَقَوَّتَ مِن مالِه ولا يَقْتَني.
وقالَ جماعةٌ من العُلماء: الآيةُ مُحْكَمةٌ غيرَ منسوخةٍ، ومعنى"بالمعروف": قَرْضاً يُؤَدِّيه إذا أَيْسَرَ.
وقوله: ﴿فأَشْهِدُوا عَلَيْهِم﴾: قيل معناه فيها: فيما استقرضْتُم منأموالهم - وهذا القولُ مرويٌ عن عمر وابنِ عباس والشّعبي وابنِ جُبَيْر، وهوقولٌ مختارٌ حسن -.
وقال أبو العالية: الآيةُ محكمةٌ، ومعنى: "بالمعروف": مِنالغَلَّةِ ولا يأكلُ مِن القاصر قَرْضاً ولا غيرَ قَرْض.
وقال الحسنُ وقتادةُ والنَّخْعي: هي محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ، ومعنى "بالمعروف": سَدُّ جَوْعَتِه إذا احتاج وليس عليه ردٌّ - وقاله عطاءُ وابنُمسعودٍ وابنُ زيد -.
و(عن) ابن عباسٍ في معنى الآية قال: معنى "بالمعروف": أنهيَقُوتُ نفسَه إذا احتاج، ولا يأكلُ من مال يتيمه. فهي عنده منسوخةٌ على قولهالأول.
وقيل: معنى أَكل الوصِيِّ من مال اليتيم: إنما هو من التَّمر واللَّبَن، أُبيحَ له أكلُ ذلك لقيامه عليه. فكان ذلك أَجرُه له.
وروى نافعُ بنُ أبي نعيم عن يحيى بن سعيد وربيعة أن ذلك في اليتيمينفق عليه على قدر يُسْرِه وعُسْرِه. وليس للوصيِّ في هذا شيءٌ.
فمعناه: مَن كان من اليتامى فقيراً فليأكُلْ - بالمعروف - على قدر مالِه ولا يسرفْ فينفدَ مالُه ويبقى فقيراً.
قوله تعالى: ﴿وإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولو القُربَى واليَتَامَى والمَسَاكِينُفارْزُقُوهُمْ مِنْه﴾:
قال ابنُ عباس: هي منسوخةٌ بآية المواريث - وقاله الضَّحاكُ والسُّدِّيوعكرمة -.
وقال الحسن: هي منسوخةٌ (بآية) الزكاة.
وقال ابن المسيب: نسخها الميراثُ والوَصِيَّةُ.
وقال جماعةٌ من العلماء: هي محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ لَكِنَّها على النَّدْبِوالتَّرغيب، وليسَتْ على الإِيجابِ والْحَتْم - وهو قولُ ابنِ جبير ومجاهد وعطاءوهو مرويٌّ أيضاً عن ابن عباس - وعنه أيضاً أنه قال: هي مخاطَبَةٌ للموصي(بقَسْم مالِه وصيةً بيده) على الندب والترغيب له في ذلك.
ويدل على أنها على الندب قوله في آخر الآية: ﴿وقُولوا لَهُمقَوْلاً مَعْرُوفاً﴾ [النساء: ٨] أي إن لم تعطوهم شيئاً ولم توصوا لهم، فقولوا لهم قولاً حسناً.
وأيضاً فإنها لو كانت فَرْضاً لكانَ الذي لهم معلوماً محدوداً كسائر الفرائِض.
وأيضاً فقد أجمعَ المسلمونَ على أنَّ الميراثَ إذا قُسم ولم يحضرْ أحدٌمِن المذكورين أنه لا شيءَ لَهُم، ولو كان ذلك فرضاً لكان لهم ذلك حضرواأو غابوا، كسائر المواريث.
وهذا هو الصَّواب - إن شاء الله - وهو مذهبُ مالكٍ وأكثرِ العلماء.
فالآية محكمةٌ على الندب والترغيب غيرُ منسوخة.
وقد رُويَ عن مجاهد والحسن والزهري أنهم قالوا: هي محكمةٌ فيماطابت به أنفسُ الورثة عِندَ القِسْمَةِ.
وهذا هو النَّدبُ والترغيب بعينه.
قوله تعالى - إذ ذَكَرَ الله في عشر المواريث -: (الأولاَدَ والآباءَوالأخوة والأخوات والزوجات وغيرهم).
فقال قوم: إنه لَفْظٌ عام في كل أخٍ وأَبٍ وأُم وزوج وزوجته وابن وبنت.
وإنه قد نَسَخَت منه السُّنَّةُ مَن كان مِن وارثٍ على غير دين الميت لا يرث.
ونَسَخَ منه الإِجماعُ مَن كان (وارثاً فيه بَقِيَّةُ رِقٍّ، لا يَرِث.
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتوارثُ أهلُ دينين" ولقوله: "لا يرثُ المسلمُالكافِرَ، ولا الكافرُ المسلمَ".
ولإِجماعِ أكثرِ الأُمَّةِ على أن لا يرِثَ من "كانَ" فيه بَقِيَّةُ رِق.
والذي عليه العملُ، وهو قولُ أهلِ النَّظَر، أَنَّ هذا (كُلَّه ليس بنسخٍوإِنّما هو تخصيصٌ وتبيينٌ مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومِنَ الإِجماع.
بيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن المرادَ بالآيات أهلُ الدِّين الواحد. وبيّنالإِجماعُ أن المرادَ الأحرارُ في ذلك كُلِّه.
فهو مخصَّص مبَيَّن غيرُ منسوخ. وقد تقدَّم ذِكرُ هذا.
قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ - في أربعة مواضع في عشر المواريث -:
فعمَّ بالوصِيَّةِ ولم يُبَيِّنْ لها حدَّاً، فكان الحكمُ أن يوصيَ الميتُ بماأحبَّ من ماله، ويرثُ الورثةُ ما بقيَ بعدَ الوصِيَّةِ.
وإن أوصى بأكثر ماله - على ظاهر الآيات - لم يمتنع ذلك - علىظاهر النص -. فَنَسَخَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وحدَّ أكثرَ الوصِيَّةِ بِحَدٍّ لا يُتَجاوز، فقال لسعد: "الثُّلُثُ، والثُّلُث كثير"، فمنع ما أطلقت الآياتُ مِن الوصية بماأحب الموصي، وقَصَرت الوصيَّةَ على الثلث فأقل. فذلك نَسْخٌ لِعموم لفظ الآيات بالوصيَّةِ.
وهذا مِنْ نسخ القرآنِ بالسُّنَّة.
وقيل: إن هذا ليس بنسخ، إنما هو بيانٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - كبيانِهلعدد الصلاة والزكاة (وشبهه، وهو الصواب - إن شاء الله) -.
وهو مذهب من لم يُجِزْ نسخَ القرآن بالسّنة.
قوله تعالى: ﴿واللاَّتِي يأتينَ الفَاحِشَةَ مِن نِسَائِكُمْ... فَأَمسكوهُنَّ فِي البُيُوتِ حتَّى يَتوفَّاهُنَّ المَوتُ أوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبيلاً﴾
كان الله - جَلَّ ذِكرُه - قد فرضَ في الزانِيَيْنِ المحْصَنَيْنِ إذا شَهِدَعليهما بالزنا أربعةُ شهود أن يُحْبَسا في البيت حتى يموتا، أو يجعلَ اللهُ لهما سبيلاً، فجعلَ اللهُ السبيلَ بالرَّجم المتواتر نَقْلُه الثابت حُكْمُهالمنسوخ تلاوتُه.
قال قتادة وغيره: نسخَها اللهُ بالحدود والميراث. وعلى هذاالقول أكثرُ العلماء.
وقد قيل: إن هذه الآيةَ في البِكْرَيْن، فيكونُ نَسْخُ ذلك بالجلد مائةً المفتَرَضِ في سُورة النور.
وأكثرُ النَّاسِ على أن هذه الآيةَ في الْمُحْصَنَيْن. والذي بعدَه في البكرين.
وقد قيل: إنه ليس في هذا نسخٌ، لأن الله قال: ﴿أو يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّسَبيلاً﴾، فعلَّق الفرضَ بوقت. فقد جعلَ "السبيلَ" بالحدود فليس بِنَسْخٍوإنما كان حُكماً منتظراً فقد أَتى اللهُ به.
قال أبو محمد: وهذا لا يلزم؛ لأنه لم يُبَيِّن وقتاً معلوماً محدوداً، وإنما كانَ يَمتَنِعُ مِن النسخ لو قال: ﴿حَتَّى يتوفَّاهُنَّ المَوْتُ﴾ أو يَبْلُغنإلى (وقت) كذا أو كذا.
وقيل: إنَّ هذه الآيةَ منسوخةٌ بقوله بعد ذلك: ﴿واللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنكُمْفآذُوهُمَا﴾ [النساء: ١٦]. فصار حُكْم الزانِيَيْنِ الأذى بالقول والضَّربَ بالأيدي والنعال، ثم نُسِخَ ذلك بالجلد المذكور في سورة النور لِلْبِكْرَيْن، وبالرجم المنسوخِلفظُه من التلاوة الباقي حُكْمُه للمُحْصَنَيْن.
قال أبو محمد: وهذا إنما يَصِحُّ على قول مَن قال: الآيتان في البكريْن. فأما من قال: الأولى في المحْصَنيْن، والثانية في البِكْرَيْن، فلا يحسنُ على قولِه نسخُ الأُولى بالثانية؛ لاختلافِ الحُكْمَيْن والمحكوم فيهم. لَكِنْ يكونانِ منسوخين بالحدود بالرجم للأولى، والجلد للثانية.
قوله تعالى: ﴿واللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنكُمْ فآذُوهُمَا﴾. الآية:
قال ابنُ حَبيب: هذا في البِكْرَيْن غيرِ المحْصَنَيْن.
قال قتادة: نسخَ اللهُ ذلك بالحدود في سورة النور.
وهذا القولُ يدلُّ على أن هذه الآيةَ في البكريْن، والأولى فيالمحصَنَيْن - وهو قول الطبري -.
قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يعمَلونَ السَّيِّئَاتِ﴾. الآية:
لفظُ هذه الآية عامٌ يوجِبُ الإِياس من قبول توبة من عاينَ الرُّسُلَ (عندالموت) وحضره الموت مؤمناً كان أو كافراً. وقد قال قومٌ: هذه الآيةُمنسوخَةٌ عَن أهلِ التوحيد، نَسخَها الله بقوله: ﴿إنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ، ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾[النساء: ٤٨]. حرَّم اللهُ المغفرةَ على من مات - وهو مشرك -. وأرجأ أهلَ التوحيد إلى مشيئته. وهذا قول يُنسب إلى ابن عباس.
وقد احتجَّ من قال: إنها محكمةٌ عامة غيرُ منسوخةٍ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:"إن الله يقبلُ توبةَ عَبْدِه ما لم يُغَرْغِر بنَفَسه" والغَرْغَرَةُ: هي عند حضور الموت ومعاينة الرسل لقبض الروح، فعند ذلك لا تقبلُ التَّوبةُ- على هذا الحديث - فيكون، كالآية.
ويحتج من قال: إنها منسوخةٌ عن أهل التوحيد، أنّ المرادَ(بالحديث) أهلُ الكفر دون أهل الذنوب مِن الموحدين - والله أعلم(بذلك).
قوله تعالى: ﴿لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً﴾ إلى قوله: ﴿إلاَّأَنْ يأتينَ بفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾.
قال عطاءُ الخراساني: هذا منسوخٌ بالحدود. كان الرجلُ إذا تزوَّجَالمرأةَ فأتت بفاحشةٍ كان له أن يأخذَ منها كلَّ ما ساقَه إليها.
وأكثرُ النَّاس على أنّها محكمةٌ، والمعنى: أنها إذا زنت صلح له أن تختلعَ منه.
وقيل: المعنى: إذا نشزت عنه حلَّ له أن يأخذَ منها الخلع ويتركها.
واختُلِفَ في الفاحشة:
فقيل: الزنا.
وقيل: النشوز.
وقيل: البذاءُ في اللسان.
وصدرُ الآية: قولُه: ﴿لا يحلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً﴾، ناسخٌ لماكانوا عليه، كان الرّجلُ في الجاهلية إذا توفي، كان ابنُهُ أولى بامرأتِه يمنعهامن التزويج حتى تموت فيرثها. فنسخَ اللهُ ذلك بهذه الآية.
قوله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤].
أباحت هذه الآيةُ نكاحَ مَن عدا المحرمات المذكورات في قوله: ﴿وَلاَتَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِنَ النِّسَاء﴾[النساء: ٢٢] إلى قوله: ﴿إلاَّ مَا مَلَكَتْأَيْمَانُكُم﴾ [النساء: ٢٤].
ثم قال: ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ أي: وأُحِلَّ لكم نكاحُ مَنْلم يُذكَر في المحرمات المذكورات.
فوجبَ مِن ظاهر هذا النّص جوازُ نِكاح المرأةِ وعمَّتِها، والمرأةِوخالتِها.
فنَسَخَت السنّةُ (ذلكَ) المفهومَ ممّا أباحته الآية، وذلك قول النبي - عليه السلام -: "لا يُجْمَعُ بينَ المرأةِ وعَمَّتِها، ولا بين المرأةِ وخالتِها"- وهو قول عطاء، وغيرِه -.
والذي عليه (أهلُ) النَّظر ويوجبُه الاجتهادُ أنّ الآيةَ غيرُ منسوخةٍ، وإنما هي مُخَصَّصَةٌ بالسنّة مبيَّنةٌ بها في أن الآيةَ غيرُ عامة فيخرجُ منها منالتّحليل تحريمُ الجمع بينَ المرأةِ وعمَّتِها والمرأةِ وخالتِها بالسنّة، والسنّة تبينُالقرآنَ وتخصِّصُه ولا تنسخُه.
وقد مضى الكلامُ على هذا وبيانُه.
وقد قال قتادة في معنى الآية: إن معنى ﴿ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾: ماملكَتْ أَيْمَانُكُم، وهذا القولُ ضعيفٌ لا يَصِحُّ عن قتادة؛ لأنّ مِلك اليمين قد تقدَّم ذِكرُه قبل ﴿وأُحِلَّ لَكُم﴾، ولقوله: ﴿مُحْصِنين﴾ والإحصان لايقع بالمملوكة.
فيصير المعنى على قول قتادة: والمحصناتُ من النساء إلاّ ما ملكَتْأيمانُكُم.
وهذا تكريرٌ لا معنى له. وحملُ اللَّفظَيْن على فائدتَيْن ومعنيَيْنِ أولى منحَمْلِهما على التكرير بمعنى واحد.
قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ [النساء: ٢٤]؛
(هذه الآية نزلت): فيما كان أباح النبيُّ - عليه السلام - من نكاحالمتعة ثلاثةَ أيام.
كان الرجلُ يقول للمرأةِ: أتزوجُكِ إلى أجل كذا وكذا، على أَلاّميراثَ بيننا ولا طلاقَ ولا شاهد، وأعطيك كذا.
فنسخ اللهُ ذلكَ بما جعلَ بيدِ الزَّوْج من الطَّلاق في سورة البقرةوغيرِها، وبما فرَضَ مِن الميراث بين الزَّوجين، وبالعدَّة والصَّداق والشهادةِوالوليّ - هذا معنى قول ابنِ عباس وعائشةَ وعروةَ والقاسمِ وابنِ المسيّب، وهو قول السُّدِّي -.
وعن ابن عباسٍ: أن الآيةَ محكمةٌ غيرُ منسوخة، لكنها نزلت فيالنكاح الصحيح.
فالمعنى على هذا القول: فما استمتعتم به مِمَّنْ تزوجتم وإن قلّالاستمتاع فلها صداقُها فريضةً. فالاستمتاع على هذا القول: النكاحُالصحيح.
وعلى القول الأول: النكاحُ إلى أجل، بغير شاهد ولا ولي.
وبهذا القول الثاني قال الحسنُ ومجاهد.
وفي قراءة ابن عباس وأُبيّ ما يدلُّ على أن الآيةَ في جواز نكاحِالمتعةِ نزلت، ثم نُسِخَت بما ذكرنا. روي عنهما أنهما قرآ: فما استمتعتُمبه مِنْهُنَّ إلى أجلٍ مسمَّى فآتوهنَّ أُجورَهُن - وبذلك قرأ ابنُ جبير -.
ولا يجوز لأحدٍ اليوم أن يقرأ بذلك؛ لأنها قراءةٌ على التفسير مخالفةٌللمصحف؛ ولأن القرآنَ لا يؤخذُ بأخبارِ الآحاد.
وقد رُوِيَ عن ابن عباس أنه قال: هي (في) المتعة، ونسخَهاقولُه تعالى: ﴿يَا أيُّها النَّبيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]، لأنالمتعةَ كانت بشرط أن لا طلاقَ بينَهُما.
وأكثرُ الناس على أنّ آيةَ الميراث نَسَخَت المتعةَ التي كانت نكاحاًبشرط ألاّ توارثَ بينهما.
وقالت عائشةُ - رضي الله عنها -: حرَّمَ اللهُ المتعةَ بقوله: ﴿والذِينَ هُمْلفُرُوجِهِمْ حَافِظُون إلاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [المؤمنون: ٥، والمعارج: ٢٩].
وهذا قولٌ حسن؛ لأن المتعةَ لم تكُن زواجاً صحيحاً ولا مِلكَ يمين. ففرض الله في هذه الآيةِ حفظَ الفروجِ إلاَّ على زوجةٍ أو مِلك يمين، ونكاحُالمتعة ليسَ بملك يمين، ولا بنكاحٍ صحيحٍ يثبتُ به نَسَبٌ. والنكاحالصحيح ما ثبت به نَسَب فدخل تحتَ هذا التَّحريمِ تحريمُ نكاحِ المتعة؛إذ ليس بنكاح يَثْبُتُ به نسب.
قال أبو محمد: وهذا إنما يجوزُ على أن تكونَ إباحةُ المتعةبالسنّة، ثم نُسِخَت بالقرآن. ولا يجوزُ أن تكونَ إباحةُ المتعةِ على هذا القولبالقرآن؛ لأنها إنما نزلَت في سورة مدنية، وهي النِّساء. وقوله: ﴿إلاَّ عَلَىأزْوَاجِهِمْ﴾ - الآية: مكيٌّ، والمكيُّ لا ينسخ المدنيَّ؛ لأنه قبلَ المدنيِّ نزل، ولا ينسخُ القرآن قرآناً لم ينزل بعد.
وقيل: إن المتعة كانت بإباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهى عنها. فهو مننسخ السُّنَة بالسُّنّة. والآية إنما هي في النكاح الصحيح الجائز.
وكان نسخُ المتعة في بعض غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل: في غزوةخيبر، وقيل في فتح مكة، وقيل في حجة الوداع، وقيل في غزوة تبوك، وقيل: في غزوة أوطاس.
وروي أن (الإِباحةَ في المتعة) من النبي - عليه السلام - كانت ثلاثةَأيام. ثم نهى عنها فَنُسِخَت بنهي النبي - عليه السلام -.
(وقيل: بل أُبيحت في أول الإِسلام مدةً ثم نُسِخَت بالنهي عنها منالنبي صلى الله عليه وسلم).
قوله تعالى: ﴿وَلاَ جُناحَ عَلَيْكُم فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِالفَرِيضَةِ﴾ [النساء: ٢٤].
من قال: إن قوله: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنّ﴾ [النساء: ٢٤] فيجواز المتعة نَزَل ثم نُسِخَ. قال: إن قوله: ﴿فلا جُناحَ عليكُم فيما تراضيتُم به من بعد الفريضة﴾ منسوخٌ أيضاً؛ لأن معناه عنده: لا حَرَجَعليكم إذا تمَّ الأَجلُ الذي اشترطتم في الاستمتاع أن تزيدكَ المرأةُ في أجلالاستمتاع، وتزيدها أنتَ في الأُجْرَةِ على ما تراضيتُم به قبل أن (تستبرىءَنفسها).
وهذا كُلُّه منسوخ بما نُسِخَت به المتعة (بما) ذكرنا.
قال السُّدِّي: كان الرجل إن شاء أرضاها بعد الفريضة الأولى وتقيمُ معهبأُجرة أُخرى إلى أجل آخر.
فأما مَن قال: إن آيةَ الاستمتاع محكمةٌ، يُراد بها النكاح الصحيحالمباح قال: هذا أيضاً محكمٌ غيرُ منسوخ مرادٌ به النكاحُ الصحيحُالمباح، ومعناه عنده: لا حرجَ عليكُم فيما وهَبَت الزَّوْجةُ لزوجها منصَداقها إذا تراضوا على ذلك.
قال ابن زيد: إن وَضَعَتْ له شيئاً من صداقها فهو سائغ له.
وقد قيل: إن هذه الآيةَ محكمةٌ غيرُ منسوخة لكنها مخصوصةٌ نزلت في الْمُعْسِر. وذلك أن ينكح الرجل على صَداق، فتعرض له عُسْرَةٌ بعدأن فرض، فلا جُناح عليه إن أسقطت له الزوجةُ بعضَ الصَّداق، أو أسقطهله الوليّ.
قولُه تعالى: ﴿وَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن ينكِحَ المحصَنَاتِالمؤمِنَاتِ فَمِن ما مَلَكَت أَيْمانُكُم مِن فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَات﴾.
أباح الله - جلّ ذكرُه - نكاحَ الإِماء لِمَنْ لم يجد طَوْلاً إلى نكاحالحرائر، إباحةً عامة. فتوهَّم قومٌ أنه منسوخٌ بقوله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَمِنكُمْ﴾ [النساء: ٢٥].
وليس ذلك بمنسوخٍ؛ لأنّ الناسخَ لا يكونُ مُتَّصِلاً بالمنسوخ. وإنما هو تخصيصٌ وتبيين، بيَّنَ الله - جلَّ ذِكْرُه - أنّ الإِباحةَ المتقدمة إنما هيلِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ، ولم يَجِد طَوْلاً لِحُرَّة. فَبِهذيْنِ الشَّرْطَيْنِ أَرخصَ للمؤمِنالحرِّ في نكاحِ الإِماءِ.
فالآيتانِ محكمتانِ.
وفي إباحةِ نكاح المؤمن المملوكةَ، وهو يجدُ الطَّوْل للحرة اختلاف إذا خشى العنَتَ. والعنت: الفساد - يعني (به): الزنا -.
قوله تعالى: ﴿فَإذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَىالمُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ﴾ [النساء: ٢٥].
ذكرَ قومٌ أن هذا ناسخٌ لما كانَ وجَبَ على الأمةَ تزني قبل الإِحصان.
كان وجبَ عليها عندَهم [جلدُ مائةٍ بقوله: ﴿فاجلِدُوا كُلَّ واحدٍ مِنْهُمامائةَ جلدةٍ﴾ فهو] عام في الإِماء والحرائر.
ثم نسخ ذلك (بالإِماء) إذا أُحْصِنَّ وزنَيْنَ فعليهنّ جلدُ خمسين؛لقوله: ﴿فعليهنَّ نصفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ﴾ [النساء: ٢٥].
والإِجماع أيضاً على: أنّ الأَمَةَ إذا زنت لا تجلدُ أكثر منخمسين - كانت مُحصَنةً أو غيرَ مُحصَنة - يَرُدُّ هذا القولَ. وقد اخْتُلِفَ فيجلدها على الزِّنا قبل الإِحصان.
فهذا يدل على أن الآيةَ محكمةٌ غيرُ ناسخة لشيء.
قوله تعالى: ﴿لاَ تَأْكُلُوا أمْوَالَكُم بَيْنَكُم بالبَاطِل﴾.
أشار أبو عبيد إلى أن هذا منسوخٌ بقوله: ﴿ولاَ عَلَى أَنفُسِكُم أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ﴾ [النور: ٦١]. - الآية -.
فأباحَ اللهُ لكَ أن تأكل من مال غيرِك من قريبٍ أو صديق، وروي مثلُهمن طريق ابن عباس، وهو غير صحيح عنه.
قلت: وهذا لا يجوز أن يُنْسَخ؛ لأنَّ أكل الأموال بالباطل لا يُنْسَخُ إلاَّ إلى جواز ذلك. وجوازُه لا يَحْسُنُ ولا يَحِلّ.
(فأَمَّا) من أَكلْتَ مالَه بطيب نفسه من قريب أو صديق فهوجائز، وليس ذلك من أكل الأموال بالباطل في شيء.
والآية - في النساء - وهي في النهي عن أكل مال غيرِك منغيرِ طيب نفسِه، فهو من أكل المال بالباطل.
والآية - في النور -: هي في جواز أكل مال غيرك (عن طيب)نفسه، وذلك جائز.
فالآيتان في حكمين مختلفين لا تنسخ إحداهما الأخرى، فلا مدخلَ لِذِكْرِهما في هذا الباب.
وقد قيل: إن معنى الآية: لا تجحدوا أموالَ النَّاس فتأكلوها بالباطل.
وهذا لا يجوز نسخه إلا بإباحته، (وإباحته) لا تجوز، وقد قال في موضعٍ آخر: ﴿وتُدْلوا بها إلى الحكام﴾، فهذا يدل على الجحود للمال.
وقد قيل: إنها لما نزلت تَحَرَّج الناسُ أن يأكُلَ بعضُهم عند بعض منأقاربه وغيرهم حتى نزلت آيةُ النور - إلى: "أو صَدِيقِكُم" فنَسَخَت ذلك.
قوله تعالى: ﴿والَّذِينَ عاقَدَتْ أَيمَانُكُم فآتوهُم نَصيبَهُم﴾ الآية.
قال ابنُ عباس في معنى هذه الآية: كان المهاجرون حين قدمواالمدينةَ يرثونَ الأنصارَ دون ذوي الأرحام منهم؛ لِْلأُخُوَّةِ والصداقة التي بينهم، فهو كَقولِه: ﴿فَآتُوهُمْ نصيبَهُمْ﴾[النساء: ٣٣]، أُمروا بإتمام ما عقدوا بينهم. ثم نسخ الله ذلك بآية المواريث، وبقوله: ﴿وَأُولوا الأرحامِ بَعْضُهُمْ أَولىببعض﴾ [الأنفال: ٧٥].
وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: كانوا يتوارثونَ بالأُخْوَّةِ التي آخى بينهمالنبي - عليه السلام - حتى نَزَلَت: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوالدانوالأقْرَبُون﴾ [النساء: ٣٣] أي عصبة، فَنَسَخَتْ ما كانوا عليه من التوارثُ بالأُخُوَّةوالصَّداقة - وهو قولُ ابن جبير ومجاهد وقتادة - فيكون معنى: قولهتعالى: ﴿والذينَ عاقَدَت أيمانُكُم فآتوهم نصيبَهُم﴾ [النساء: ٣٣] - على هذا القول -أي (وَفُّوا لهم) ما عقدتم عليه من التوارث. ثم نسخ ذلك بالمواريث وبآخر الأنفال.
وقيل: الآيةُ محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ، ومعناه: وَفُّوا لهم بما قدعاقدتُموهم عليه من النصر والمعونة والرِّفْد.
وعن ابن عباس أنه قال: كان الرجلان يتعاقدان ويتحالفان أنهمامَنْ مات قَبْلَ صاحبه وَرِثَه الباقي منهما، فهو قوله: ﴿فآتوهُم نصيبَهُم﴾ [النساء: ٣٣]، أي أوفوا لهم بما عاقدتُموهم عليه. فنسخ ذلك بقوله: ﴿وأُولوا الأَرْحَامِ بعضُهُم أَوْلَى بِبَعْض﴾ [الأنفال: ٧٥].
قال ابن المسيّب: إنما نزلت هذه الآيةُ في الذين يَتَبَنَّوْنَ غيرَ أبنائهمويُوَرِّثونَهُم فنسخ الله ذلك بقوله: ﴿وأُولوا الأَرْحَامِ بعضُهُم أَوْلَى بِبَعْض﴾
قوله تعالى: ﴿يَا أيُّهَا الذين آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى﴾الآية.
حرّم الله في هذه الآية أن تُقْرَبَ الصَّلاةُ في حال سكر. فَفُهِمَ منالخطاب جوازُ السُّكْرِ في غير الصلاة. ومفهوم الخطاب كَنَصِّ القرآن يُعْمَلُ بهويقطع على مغيبه فَنَسَخَ ما أباح المفهومُ مِن الآية من جواز شُرْبِ المسكرفي غير الصَّلاة بتحريم المسكر. فالبيِّنُ في هذا أن يكونَ أُريدَ به السُّكْرُ مِنالمسكر قبل تحريمه، ثم نُسِخَ وحُرِّم.
وقد روى أبو مَيْسَرة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نَزَلَتْ: ﴿لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنتُمْ سُكارَى﴾ كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصَّلاةَ نادى: لا يقربَنَّ الصَّلاةَ سكران.
وقد قال عكرمة: إن قوله: ﴿لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى﴾نسخه قولُه: ﴿يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواوُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] الآية. يريد أنه كان أُبيحَ لَهُم أن يُؤَخِّروا الصلاةَ في حالالسُّكْر حتى يزولَ السُّكر، إذ كانت الخمرُ غيرَ مُحَرَّمة، ثم نُسِخَ ذلك فأُمروابالصلاة على كل حال، ونُسِخَ شُرْبُ المسكر بقوله: ﴿فَهَلْ أَنتُم مُنتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١]، وبقوله: ﴿فاجْتَنِبُوه﴾ [المائدة: ٩١]، فنسخَ ما فُهِمَ مِن الخطاب بتحريمالخمر في قوله: ﴿فَهَلْ أَنتُم مُنتَهُون﴾. وهذا قولُ أَكثرِ العُلماء.
وقيل: الآيةُ مُحْكَمة، ومعنى السُّكْر فيها: السُّكْر من النوم لا من المسكر، وهو قول الضحاك وزيد بن أسلم. ويجب أن يكونَ المفهومَ منالخطاب على هذا القول (جوازُ قربانها) بسُكْر غير سُكْرِ النوم، ثم نُسِخَهذا المفهوم بتحريم المسكر والسُّكْر بقوله: ﴿فَهَلْ أَنتُم مُنتَهُون﴾.
ومن مفهوم الآية أيضاً جوازُ قرب الصَّلاة في غير حال السُّكْرِ جوازاًعاماً بغير شرط وضوء ولا غُسْل، فنسخ ذلك آيةُ الوضوء والغُسْلِ فيالمائدة، وصار الفرضُ المحكم أَلاَّ تُقْرَبَ الصَّلاةُ إلا في غير حال سكربوضوء وطُهر، ويجوز أن يكون ذلك بياناً (وتفسيراً لآية النساء)، وليسبنسخ المفهوم منها.
قوله تعالى: ﴿فأَعرِضْ عَنْهُمْ وعِظْهُمْ﴾:
قال ابن عباس: هي منسوخةٌ بآية السيف في براءة.
وأكثرُ العلماء على أنها غيرُ منسوخة (لأن الإِشارةَ بالأمر إلى السيفإن لم يقبلوا متصلةٌ بالآية، وهو قوله عنه: ﴿وقُل لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاًبَلِيغاً﴾ [النساء: ٦٣]، أي: إن لم يقبلوا وإلاّ السيف، والسيفُ مُتَّصِلٌ بالأمربالإِعراض فلا يحتاج إلى نسخٍ بسيفٍ آخر.
فأما قوله: ﴿فأَعْرِضْ عَنْهُمْ وتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾[النساء: ٨١]، فَهُوَ منسوخٌ بآيةِالسَّيفِ في براءة بلا خوف.
قولُه تعالى: ﴿فانْفِرُوا ثُباتٍ أو انْفِرُوا جَمِيعاً﴾ [النساء: ٧١].
خَيَّرَهُم اللهَ بين أن ينفروا مجتمعين أو مفترقين مع إيجابه للنفيرمجملاً يقوم البعضُ مقام البعض.
قال ابنُ عباس: نسخَها: ﴿ومَا كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كافَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢]- الآية -. وهذا لا يصح عن (ابن) عبّاس، لأن الله خيّرهم في النفيرمفترقينَ أو مجتمعين، ولم يفرض عليهم أن (يجتمعوا) كُلُّهُم، إنما أباحلهم الافتراق أو الاجتماع في النفير، وذلك حُكْمٌ باقٍ لا يُنْسَخ. ولو نُسِخَالافتراقُ أو الاجتماعُ لبطل الأمرُ بالنفير. ولم يَجُزْ نفيرٌ البتَّةَ.
فالظاهر في هذه الآية، أنها غيرُ منسوخة، لم يأمرهم فيها بالنفيركُلَّهُم، إنما أمرهم بالحذر، وأن ينفرَ مَن نفر منهم مفترقين أو مجتمعين. وقد أجمع المسلمون على أنه إذا احتيج إلى نفير الجميع لِشِدَّة بأس العدوِّلَزمَهُم ذلك وكان فرضاً عليهم أن ينفروا كُلُّهُم.
وقد قيل: إنما نُسِخَ منها إباحةُ نفيرهم كُلِّهِم إذا لم يُحْتَجْ إليهم.
وليس في الآية ذلك. إنما فيها إباحةُ أن ينفروا جماعةً بعد جماعةٍ. أو ينفروا نفراً بعد نفرٍ واحداً بعد واحدٍ متفرقين.
قولُه تعالى: ﴿إلاَّ الّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُم وبَيْنَهُم مِيثَاقٌ﴾ الآية:
أمر الله - جلّ ذكرُه - بإباحة القتل لمن تخلَّف بمكة ولم يهاجر، فقاليُوَبِّخُ المؤمنين: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِين فِئَتَيْن واللهُ أرْكَسَهُمْ بِماكَسِبُوا﴾ [النساء: ٨٨] إلى قوله: ﴿بَصِيراً﴾ [النساء: ٨٨]، فأباح تضليلَهم وتكفيرَهم وقتلَهم، ثم استثنى منهم من اتصل منهم بقوم لهم عهدٌ عند المسلمين، فصار (مَناتصل) منهم بقوم بينهم وبين المسلمين عهدٌ لا يُقْتَل، ثم نَسَخَ الله ذلك(بقوله): ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُموهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، وهو قول ابن عباسوقتادة. وقال قتادة: نبذ في براءة إلى كل ذي عهد عهدَه، ثم أمر الله (بالقتالوالقتل)، حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، ومعنىيَصِلُون ينتسبون (وينتمون)، وعن ابن عباس (أنه) قال: نسخ هذهالآية ونسخ قَوْلَه: ﴿لاَ ينْهَاكُم اللهُ عَن الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين﴾ [الممتحنة: ٨]- الآية - قَوْلُهُ في براءة: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، وقَوْلُه:﴿وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦].
قال أبو محمد: وكذلك هذا نَسَخ جميعَ آياتِ الأمر بالصَّفْحِ والعفوِوالمهادنةِ حيثُ كانت. وقد مضى ذكر هذا.
قولُه تعالى: ﴿فَإن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُم، وأَلقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ، فَماجَعَل اللهُ لَكُم عَلَيْهِم سبيلاً﴾ [النساء: ٩٠].
قال ابن أَبي أُويس: هذا منسوخ بآية براءة: ﴿اقتُلُوا المُشْرِكِينَ حيثوَجَدتُمُوهُمْ﴾، قال وكذلك كُلُّ صُلْحٍ في القرآن منسوخ بالأمر بالقتال فيبراءة وغيرها.
قوله تعالى: ﴿وإن كانَ مِن قَومٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىأهلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾:
ذكرَ ابنُ أبي أُوَيْس أَنَّ هذا منسوخٌ بقولِه: ﴿اقتُلُوا المُشْرِكِينَ حيثوَجَدتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، فليس لأحدٍ غيرِ مُسْلِمٍ ديةٌ يعني من الكفار غيرِ أَهلالذِّمَّةِ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لم يُعاهِد بعدَ نزول براءة أحداً من الناس، قال: وكانت هذه الآيةُ (قد نَزَلَت في السُّلَمِيّينِ الذين قَتَلَهُما أصحابُالنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن شهاب، قال عطاء: كان بين النبيّ وبين بني سُلَيمعهد، فجعل النبي ديةً (للذين) بينهم و(بينه) عهد مثل دية الحرالمسلم، ثم نسخ الله ذلك بقوله: ﴿اقتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] (فلا ديةَ للمشركين).
قوله تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلُ مُؤْمِناً متعَمِّداً﴾ الآية:
قال أبو محمد: هذه الآية تحتاجُ إلى بسط يطول، وقد كنت أردتُأن أُفرد لها كتاباً مفرداً لكن أذكرُ في هذا الكتاب ما يليق به ويكتفى به عنغيره فأقول: إن القتل متعمداً من أعظم الذنوب وأجلِّ الكبائر. روي عنالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من لقي الله ولم يشرك به شيئاً ولم يقتل نفساً مؤمنةلقي الله خفيف الظهر)، وروى أشهب أن مالكاً قال (إنه كان يقال): منلقي الله ولم يشرك في دم مسلم لقي الله وهو خفيف الظهر. والقتل ذنبعظيم، ليس بعد الشرك (ذنب) أعظمَ منه، وقد اختلف في التوبة منه، وفي معنى الآية (على ما) نذكرُهُ ونُبَيِّنُه. وهذه الآيةُ عندَ بعض العلماءناسخةٌ لِلَّتي في الفرقان [قوله تعالى: ﴿إلاَّ مَن تَابَ وآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً﴾ [الفرقان: ٧٠]، وهو مروي عن ابن عباس؛ لأن الفرقان] مكية والنساءمدنية، ورُوِيَ أن آيةَ سورة الفرقان نزلَت قبلَ آية النساء بستَّةِ أشهر - رواهزيد بن ثابت وغيره -.
قال أبو محمد: والنسخ في آية الفرقان لا يحسن لأنه خبر، والأخبار (لا تنسخ) بإجماع؛ لأن الخبر لو نسخ لكان قد أُتِيَ به على غير ما هو به من الصدق، ويتعالى الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً، فالآيتانمحكمتان، وآيةُ النِّساء في القتل محمولة على أحد ثلاثة معانٍ قد قالهاالعلماء:
قال إبراهيم التيمي وغيرُه: معناها: فجزاؤه ذلك إن جازاه، وكذلكروى عاصم بن أبي النجود عن ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: هو جزاؤهإن جازاه.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: للقاتل توبة.
وقد روى ابنُ سيرين عن أبي هريرة أن النبي - عليه السلام - قال فيالآية "هو جزاؤه إن جازاه".
وقد قال من اعتقد هذا: إن الله (إذا) وَعَد الحسنى وَفَى ولم يُخْلِف، وإذا وعد بالعذاب جازَ أَن يعفو.
ويشهدُ لهذا ما رواه ثابتٌ البنانيُّ عن أَنسٍ بن مالك أنرسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ وَعَدَه اللهُ على عَمَلِه ثواباً فهو مُنْجِزُه له، ومن أوْعَدَه على عَمَلِه عقاباً فهو فيه بالخيار - من رواية ابن عايد -.
وهذا هو مذهبُ أَهلِ السُّنَّة في الوعد والوعيد. فهي محكمة. وهذا تأويلها عند جماعة من أهل العلم. فالمشيئة في القاتل عمداً إلى الله، إنشاء جازاه وإن شاء عفى عنه إذا تاب.
فأمّا من مات وهو مُصِرٌّ على استحلالِ القتل وفِعْلِه فهو بعيدٌ منالمغفرة؛ لأن من رأى أن ما حرَّم اللهُ حلال فهو كافر. وفي القاتل المتأَوِّلاختلاف.
والمعنى الثاني: أن يكون معنى الآية: ومن يقتل مؤمناً متعمداًمستحلاًّ لقتله، ولا يستحلُّ ما حرَّم الله إلا كافر، والكافر مخلَّد في الناربإجماع إذا مات على كفره.
والمعنى الثالث: أنه قيل: إنها نزلت في رجل بعينه من الأنصار قتلله وليٌّ فقبل الدِّيَة، ثم وثب فقتل القاتل بعد أخذه للدِّيَة وارتَدَّ - وهو قولمروي عن ابن جريج وغيره -.
وقد قيل: إنها نزلت في رجل أسلم، ثم ارتدَّ وقَتَلَ رجلاً مُسْلِماًمُسْتَحِلاًّ لقتله، وهو معنى القول الأول الذي قبله.
قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تَقْصُروا مِنَ الصَّلاَةِ إنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾:
بيّن اللهُ - جلَّ ذكرُه - بهذا النص الظاهر أن الصلاة إنما تُقْصَرَ معالخوف من فتنة الكفار.
وتواترت الأخبارُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قصَر الصلاة في السَّفر من غير خوف. وبه قال أكثرُ العلماء.
(غير) أن بعضَهم قال: إن، هذه السنةَ المتواترةَ بقصر الصلاة فيالسفر (من غيرِ) خوفٍ ناسخةٌ لما في كتاب الله - عزّ وجلّ - من أن القصرَإنما يكون مع الخوف من فتنة الكفار.
والذي عليه أكثرُ العلماء: أن قصرَ (الصَّلاة) في الخوف بالقرآن، وقصرَ الصَّلاة في السفر من غير خوفٍ بالسنّة المتواترة. والسُّنَّةُ زيادةُ فائدةوتخفيف. والزيادة تُقْبَل ولا تنسخ شيئاً.
وإنما تكون هذه السُّنَّةُ ناسخةً لزوال حكم القصر (بالخوف) بها، وذلك لم يزل.
فالآية لا نسخَ فيها، لأنه لم يقل لا تُقْصَرُ الصَّلاةُ إلاَّ مع الخوف، فيكون قصرُ الصلاة في السفر من غير خوف ناسخاً لهذا النهي.
وقد قال قومٌ: إن قصَر الصَّلاة في الخوف والسفر من غير خوفٍبالقرآن، وتأَوَّلوا أَنَّ قولَه تعالى: ﴿وإذَا ضَرَبْتُم فِي الأَرضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْجُنَاحٌ أن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ﴾ [النساء: ١٠١] كلامٌ تامٌ جاء في إباحة القصر في السفرمن غير خوف. ثم ابتدأ بحكم آخر فقال: ﴿إنْ خِفْتُمْ أن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَكَفَرُوا﴾ [النساء: ١٠١] إلى قوله: ﴿وإذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ﴾ [النساء: ١٠٢] - الآية - وأباحبهذه القصرَ في الخوف، وقولُه: ﴿إنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُواً مُبِيناً﴾- عندهم - اعتراضٌ بين حكمين يراد به التأخيرُ.
قال أبو محمد: وفي هذا القول بُعْدٌ لتقدير زيادة الواو التي في قوله: ﴿وَإذَا كُنتَ فِيهم﴾.
ولتقدير ما هو مقدَّمٌ في الكلام مؤخَّراً بلا دليل قاطع.
ولأن القَصْرَيْن مختلفان: قَصْرُ السَّفَر من غير خوف قصرٌ مِن عددالركوع لا تغييرَ فيه في الرتبة والهيأة. وقَصْرُ الخوف (قصرٌ) مِن عددالركوع بتغيير الرتبة والهيأة. والقرآنُ والسُّنَّةُ بيَّنا لنا ذَيْنِك وكيف هو.
وقد روى عن عمر وابن عمر وغيرهما. أن قصر الصَّلاة في السفر منغير (خوف) سنةُ رسول الله. وعليه أكثرُ العلماء.
وقوله تعالى: ﴿إنَّ اللهَ لاَ يغفرُ أن يُشْرَك بهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنيَشَاء﴾ يَدُلُّ على جواز توبةِ القاتل وجواز غُفْرانِ الله له.
ولا يَحْسُنُ أن يكون هذا ناسخاً لقوله: ﴿ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناًمُتَعَمِّداً﴾ [النساء: ٩٣]. الآية - لأنه خبر والأخبار لا تنسخ.
وكذلك لا يَحْسُنُ أن يكونَ قولُه: ﴿إنّ اللهَ لاَ يغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ منسوخاًبقوله: ﴿ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً﴾ -الآية - لأنه أيضاً خبر وفي نسخه(نقضُ عَفْوِه) المسلمين، ولم يدِّعه أحدٌ، ولا يَحِلّ القول به.
قال أبو محمد: والذي يوجِبُه النَّظَر وعليه أكثرُ أهل العِلم أنالثلاث الآيات محكماتٌ لا نسخ في شيءٍ منها:
فقوله: ﴿إنّ اللهَ لاَ يغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ - الآية - مُحْكَمٌ غيرُمنسوخ؛ لأن الشِّرْكَ لا يُغْفَرُ لمن مات عليه بإجماع ولأَِنَّه خبرٌ لا يُنْسَخ.
وقولُه: ﴿ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ معارضٌ لقوله: ﴿ومَنْ يَقْتُلْمُؤْمِناً مُتَعَمِّداً﴾ - الآية - فلا بدّ من أن يكونَ أَحَدُهُما ناسخاً لِلآخر. أو يكونا مُحْكَمَيْن:
فغيرُ جائز أن ينسخَ أَحدُهُما الآخرَ؛ لأَِنّ كُلَّ واحدٍ منهما خبرٌ مِن اللهلنا بأحكامِه فينا يومَ القيامة، وإخبارُ الله لنا بذلك لا يجوز أَن يُنْسَح؛ لأنفي نسخه إبطالَ الأخبار كُلِّها.
وإذا لَم يَجُز أن ينسخَ أَحدُهما الآخرَ، وجب أن يكونا مُحْكَميْن، ولا يكونان مُحكمين مع تعارض أحدهما الآخر في ظاهر اللّفظ إلاّ (بحمل) آيةِ القتل على أحد المعاني الثلاثة التي ذكرنا. وإذا حُمِلَت على أحدها لم يبقَ تعارضٌ بين الحكمين وصارا إلى الاتفاق ولم(يحتج) إلى تأويل نسخ.
وكذلكَ إذا حملْتَ آيةَ القتل في النساء على أحد المعاني الثَّلاثةِ لمتعارِض آيةَ الفرقان بنسخٍ ولا باختلافِ حُكْم.
فالثلاثُ الآياتُ محكماتٌ لا نسخ في شيء منهن.
وإذا كانت كذلك فتوبةُ القاتل متعمداً جائزة.
ومما يَدُلُّ على جواز قبول توبة القاتل متعمّداً:
قوله تعالى: ﴿إنّ الذِين كَفَرُوا وصَدُّوا عن سَبِيلِ اللهِ ثُمّ مَاتُوا وهُمْ كُفّارٌفَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُم﴾ [محمد: ٣٤] فالمفهوم من هذا أن من مات غيرَ كافرٍ، في مشيئة اللهيغفر ذنوبه، إن شاء الله. والآية مدنية. ولو كان من مات من أهل الكبائر غيرَ كافر لا يجوز أن يغفر الله ذنوبه لم يكن بينه وبين الكافر يموت على كفرهفرق.
ويدلّ على ذلك أيضاً قوله (تعالى عن) عيسى - عليه السلام -:﴿إنّهُ مَن يُشْرِكْ باللهِ فَقَد حَرَّمَ اللهُ عليهِ الجنّةَ﴾ [المائدة ٧٢]، فَدَلَّ على أنه من ماتولم يُشْرِكْ بالله لا يُقطَعُ عليه بتحريم الجنة، وهو في مشيئة الله.
وقد قال - تعالى ذكره - ﴿وإنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وآمَنَ وعَمِلَصَالِحاً﴾ [طه: ٨٢] - الآية - فهذا عام.
وقال: ﴿إنّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ [الزمر: ٥٣]، يعني للمؤمن. فهذاأيضاً عام.
خصّصهُ: ﴿إنّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَك به﴾.
وقال تعالى: ﴿وهوَ الّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَن عِبَادِه وَيَعْفُوا عَنالسَّيِّئات﴾ [الشورى: ٢٥]. فَعَمّ.
وقال: ﴿فَمَن يَعْمَل مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِه﴾ [الأنبياء: ٩٤]فعمّ.
وقال: ﴿فمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧] فعمّ.
وهي كُلُها أخبارٌ عامة لا يجوز نسخُها، فلا بُدَّ مِن وقوعها على ما وصفها الله به.
وقد قال تعالى: ﴿إنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة﴾ [النساء: ٤٠].
فكيفَ يُحبِطُ توحيدَ القاتل، والتوحيدُ أَعظمُ الأعمال وأصلُها.
ولم يخبر الله أن شيئاً من الأعمال السيئة تحبط الإِيمانَ إلا الشِّرك، بقوله: ﴿لئن أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك﴾ [الزمر: ٦٥].
وقد قال الله - جلّ ذكره -: ﴿إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئات﴾ [هود: ١١٤] (ولاحسنةَ بعد) التوحيد أعظم من التوبة.
وقد أعلمنا الله - جلّ ذكره - (أنه رحم) القاتل متعمداً وخفف عنه إذ أجاز له أن يُبْدِلَ الدِّيَةَ عن قتله، فقال: ﴿ذَلِكَ تخفيفٌ مِن رَبِّكُمْوَرَحْمةٌ﴾ [البقرة: ١٧٨]، (فهل يرحَمُ الله) ويُخَفِّفُ عنه ما لَزِمَه إلاّ من يجوز قبولُالتوبة له.
وقد قال الله - جلّ ذكرُه -: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أخِيهِ شَيءٌ﴾ [البقرة: ١٧٨]، فجعل الله القاتلَ عمداً ووليَّ المقتول أَخَوَيْن في الدِّين، ولم يجعل القاتلَ عمداً كافراً، بل جعله مؤمناً إِذْ آخى بينَه وبين الوليِّ المؤمن.
وقد قال النبي - عليه السلام -: "اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر منأُمتي". والقتل عمداً من الكبائر.
وقال أنس بن مالك: قلنا يا رسول الله، لمن تشفع؟ قال: "لأهلالكبائر وأهل العظائم وأهل الدماء".
وأيضاً فإن الله - جلّ ذكره - لم يذكر مع جزاء القاتل تخليدَ الأبد، إنما أفرد ذكرَ التخليد بغير أبد. فَدَلَّ على أنه وإن دخل النارَ غيرُ مؤبَّدٍفيها.
وقد سُئِل مالكٌ عن رجلٍ قتل أُخْتَه مُتَعَمِّداً لِحَدَثٍ أحدثَتْهُ فقال: يعتقرقبةً ويصوم شهرين متتابعين ويَتَقَرَّبُ إلى الله (بما) استطاع من خير ويكثرالاستغفار.
فلو كان عنده غيرَ مقبول التوبة ما أمره بهذا.
وقد روى مسروق عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - عليه السلام - قال: "من لَقِيَ اللهَ لم يشرك به شيئاً لم يضره معه خطيئة، ومن لقيهيشرك به شيئاً لم ينفعه معه حسنة".
وقال جماعةٌ من العلماء: يؤمر التائبُ من القتل أن يُكثِرَ الجهادَ ويبذلَنفسه فيه لله. وروي مثله عن مالك.
فهذا يدلُّ على الرجاء له وأنه لا يؤيس من عفو الله.
ومن زعم أن القاتل عمداً لا توبةَ له جعل هذه الآيات كُلَّها منسوخات. وهي كلُّها أخبار.
وفي نسخها إبطالُ الديانات كُلِّها؛ لأنّ مَن جعل أن القاتل لا توبةَ لهوأنه مؤبد (في النار)، فقد أوجب أن إيمانَه وسعيه وتوبته (مُحبَط) كُلُّهمع قوله: ﴿فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِه﴾ [الأنبياء: ٩٤]، ومع قوله: ﴿فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيئاً﴾ [الأنبياء: ٤٧].
ومِمَّا يُبَيِّنُ قَبولَ توبة القاتل أن الله - جلّ ذكرُه - قد قال في الفارِّ من الزحف: ﴿وَمَن يُوَلِّهم... فقد باءَ بِغَضَبٍ مِن الله ومأواه جهَنَّم﴾ [الأنفال: ١٦] ولميختلف أَحدٌ مِن أهلِ القبلَةِ أن توبةَ الفارِّ من الزحف جائزةٌ وأنه داخلٌ تحتقوله: ﴿وَيَغْفرُ ما دونَ ذلك لمن يشاء﴾ [النساء: ٤٨].
وقد قال شيخُنا أبو محمد عبد الله بن أبي زيد - رحمه الله عليه -: أن مما اجتمعَت عليه الأمة من أُمور الديانة، ومِن السُّنن التي خلافُها بدعةوضلالة ﴿إنّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بهِ وَيَغْفِرُ مَا دونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾، فقددخل تحت هذا الإِجماع الذنوبُ كُلُّها من القتل وغيره.
وأيضاً فقد أجمعَ أهل السنّة أنه لا تخليد على مؤمنٍ، وأنه لا يزيلالإِيمانَ إلا الكفرُ، ورفعُ الصوت على صوت النبي صلى الله عليه وسلم متعمداً.
وأيضاً فإن جواز توبة القاتل عمداً غيرَ مُسْتَحِلٍّ للقتل قولُ ابن عمروزيد بن ثابت ومجاهد وجماعة معهم.
وقد أجمع المسلمون أن الشركَ والارتدادَ أعظمُ من القتل متعمّداً. وأنالمؤمن إذا ارتدَّ ثم تابَ قُبِلَت توبتُه و(أنه) إذا ارتدّ وقَتَل مؤمناً متعمِّداًمُسْتَحِلاًّ لقتله ثم آمن وتاب أنه مقبولُ التَّوبة، لقوله تعالى: ﴿قُل للّذِينَكَفَرُوا إن ينتَهُوا يُغْفَر لَهُم مَا قَدْ سَلَف﴾ [الأنفال: ٣٨]، ولقوله: ﴿إنّ اللهَ يغفِرُ الذُّنوبَجَمِيعاً﴾ [الزمر: ٥٣] فكذلك إذا قَتَل - وهو مؤمن - وتاب قُبِلَت توبتُه، (في ما)بينَه وبينَ الله، وحَقُّ المقتول يفعلُ الله فيه ما يشاء.
وقد رُوِيَ عَن ابن عباس أنه قال - في الآية التي في الفرقان - نَزَلَت في أهل الشرك ولا توبةَ للقاتل مُتَعَمِّداً.
وكان الطبريُّ يقول: جزاء القاتل جهنم حقاً، ولكنَّ الله (يغفرُ)ويتفضَّلُ على أهل الإِيمان به وبرسوله فلا يجازيهم بالخلود فيها، إما أن(يغفرَ) فلا يُدخلهم جهنم، وإما أن يدخلَهم النارَ، ثم يخرجهم بفضلرحمته لقوله: ﴿إنّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جمِيعاً﴾. وهذا خبر عام فيه تخصيصُالشرك، ولا يجوز نسخُه.
فإن قيل: هلاّ جعلتَ آيةَ القتل مخصِّصةً لقوله: ﴿إنّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بهِ﴾ كأنها مستثناة منها؟.
قيل: لو جاز هذا لجاز أن تكونَ آيةُ الزحف والفرار منه مخصِّصة أيضاًمستثناة منها. وآية أكل مال اليتيم مخصصة مستثناة منها. وآية الربامخصصة مستثناة منها. فيدخلن تحت ترك المغفرة وترك قبول التوبة من ذلك كله. وهذا لا يقولُه أحد.
قد أجمع الناسُ على قبول التوبة من ذلك كُلِّه.
وإذا لم تكن هذه الأشياءُ مخصِّصةً مستثناة من قوله: ﴿إنّ اللهَ لا يَغْفِرُأن يُشْرَكَ بهِ﴾ لم تكن آيةُ القتل مخصِّصة مستثناة.
وأيضاً فإن قوله: ﴿إنّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَك بهِ﴾ مَتْلُوٌّ بعد آيةالقتل في سورة واحدة ولم يقع في القرآن أَوَّلٌ خَصَصَّ آخراً فيسورة واحدة فيكون هذا مثلَه.
وحديث النبي - عليه السلام - المتواتر النقل: (اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي).
مما يرجي القاتل ويطمِعُه لأنه من أهل الكبائر، وقد (عمّ في) قوله: (لأهل الكبائر من أمتي)] ولم (يخصَّ) صنفاً منهم مِنصِنف.
ومما يؤيد أن القاتل يرجى له التوبةُ ما ذكره ابن شعبان مما روىعليُّ بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: إن الآيةَ محكمةٌ إلا أنه قالتعالى ذكره: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أو يَظْلِمْ نَفسَه ثُمّ يَسْتَغْفِر الله يَجِد اللهَ غَفُوراًرَحِيماً﴾ [النساء: ١١٠]، قال: فلو كانت ذنوبه أعظمَ من السموات والأرض والجبال، يريد لجاز أن يغفرها الله.
قال ابن عباس: وقد دعا الله إلى مغفرته مَن زعم أن عُزَيراً ابنُ الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أنّ يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله (ثالثُثلاثة) يقول الله لهؤلاء): ﴿أفَلاَ يَتُوبُونَ إلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غَفُورٌ رحيم﴾ [المائدة ٧٤].
قال ابن عباس: وقد دعا (الله إلى توبته) مَن هو أعظم جرماً منهؤلاء، من قال: ﴿أنا ربُّكم الأعلى﴾ [النازعات: ٢٤] وقد قال: ما ﴿عَلِمْتُ لكممِن إلهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨] قال: ومن أيأس العباد من التوبة فقد جحد كتاب الله، ومن تاب إلى الله تاب الله عليه، قال الله: ﴿ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ [التوبة: ١١٨].
قال ابن عباس: وكما لا ينفعُ مع الشِّرك إحسان كذلك نرجو أنيغفرَ الله ذنوبَ الموحدين. قال ابن عباس: مع قول النبي - عليه السلام -:"لو وضعت لا إله إلاّ الله في كفة الميزان ووضعت السموات والأرض وما فيهنّ في كفة أخرى لرجَحَت بهن".
وقد قال ابنُ عمر: كنّا معشرَ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لانشكُ في قاتل المؤمن وأكل مال اليتيم وشاهد الزور وقاطع الرحم، يعني: لانشك في الشهادة لهم بالنار. قال ابن عمر: حتى نزلت: ﴿إنّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أنيُشْرَكَ بهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾.
فأمسكنا عن الشهادة لهم، يعني بالنار.
وقد قال جماعة: إن آية القاتل منسوخة بقوله: ﴿ومَن يَعْمَلْ سوءاً أويظلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِر اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً﴾، فعمَّ جميعَ الذنوبالمكتسبة، وأخبر أن الله يغفرُ للمستغفر ومنها ويتوبُ الله على التائب.
قال أبو محمد: وقد روي في قتل النفس من الشِّدَة وترك المغفرةوالخلود في نار جهنم أخبارٌ كثيرة - الله أعلم بصحتها -:
روي عن معاوية أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كُلُّ ذنبٍعسى الله أن يغفرَه إلا من مات كافراً، أو قتل مؤمناً متعمَّداً".
وقد سأل رجلٌ ابنَ عمر فقال إني قتلت نفساً فهل لي (عند الله) منتوبة؟ فقال له ابنُ عمر: أَكْثِرْ من شرب الماء البارد. قال مالك: يريد أنه منأهل النار - رواه ابن القاسم عن مالك -.
وقد روي أن رجلاً سأل أبا هريرة وابنَ عمر وابنَ عباس عن رجل قتلرجلاً مؤمناً متعمداً: هل له توبة؟ فكُلُّهم يقول: هل يستطيع أن يحيِيَه؟! يريدون بذلكالتشديدَ عليه.
قال أبو محمد: وقد أجمع المسلمون على أن من كفر بالمواريث ثم تاب أن توبته مقبولَة مع قوله تعالى: ﴿ومَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَه ويتعَدَّ حدودَهيُدْخِلْه ناراً خالداً فيها ولَهُ عَذَابٌ مُهِين﴾ [النساء: ١٤].
وقد سأل ابنُ عباس عمروَ بنَ العاص، فقال له: أيُّ آيةٍ فيكتاب الله أرجى؟؟ فقال له عمرو: قوله: ﴿إنّ اللهَ لا يغفرُ أن يُشْرَكَ بهِ﴾- الآية - فقال ابنُ عباس: إنّ هذه لمرجُوَّة، ولكن غيرها أرجى منها: قوله عزّوجلّ: ﴿وإن رَبَّكَ لذُو مَغْفِرةٍ للنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ﴾ ولم يقل على إحسانهم.
وقال جعفر بن محمد: أرجى آيةٍ (في القرآن): ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَرَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يرضى أن يكون أحد من أمته مقيماً فيالنار.
قال أبو محمد: والذي نعتقده أن كل من مات مؤمناً غير كافر باللهولا برسله ولا بكتبه، فهو في مشيئة الله، تاب من كبائره قبل موته أو لم يتب، بدَلالة قوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ وقوله: ﴿وماتوا وهم كفارٌ فلن يغفرَ الله لهم﴾. ولهذا نظائر كثيرة في القرآن يدل على صحة ما قلناهويوضِّحُه.
وقد روى جابرُ بنُ عبد الله أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما الموجبتان؟ فقال: "من مات لا يشرك بالله شيئاً وجبت لهالجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً وجبت له النار" - الحديث بطوله -.
قولُه تعالى: ﴿إنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنيَشَاء﴾ [النساء: ١١٦].
قال ابنُ عمر: لما أنزلت: ﴿قُل يا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىأَنفُسِهِمْ﴾ [الزمر: ٥٣] إلى قوله: ﴿إنَّ اللهَ يغفرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ [الزمر: ٥٣] قام رجل إلى النبيفقال: والشركَ يا رسول الله؟ فنزلت: ﴿إنّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بهِ﴾- الآية - قال مالك: فكان قوله: يغفر الذنوبَ جميعاً: إنه ما دون الشرك، قلت: فدخل قتل المؤمِن (المؤمنَ) تحت هذا العموم.
وروي عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية، وتلا قبلها: ﴿وَلَيْسَت التوبةُلِلَّذِينَ يعْمَلُونَ السيِّئَات﴾ [النساء: ١٨] - الآية - فتأوَّل عليه: أَنَّ هذا منسوخٌ بقوله:﴿إنّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بهِ﴾، وأن من (تاب قبل موته) قُبِلَت توبتَه.
قال أبو محمد: وهذا إنما يجوز على قول من قال: إن قوله:﴿حتَى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ﴾ [النساء: ١٨] - الآية - في المؤمنين، فالتوبة منهمجائزةٌ ما لم يقع الموتُ، لقوله: ﴿وَيَغفرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾.
قال أبو محمد: وهذا خبر لا يحسنُ فيه النَّسخ، والآية في الكفار، لا تنفعهم التوبةُ من الكفر عند معاينة الموت، كما أعلمنا الله أنه لم يقبلإيمانَ فرعون عند معاينته الغرقَ، وأعلمنا الله أنه لم يقبل إيمانَ الكفارعند (معاينة) العذاب، فقال: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفعُهم إيمانُهُمْ لمَّا رأوابأسنا﴾ [غافر: ٨٥] فهي محكمة.
وقد تقدم ذكر هذه الآية وقولُ من قال إنها عامة في (المؤمنوالكافر) وأن المؤمن نُسِخَ منها بقوله: ﴿ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنيَشَاءُ﴾، قال ابن عمر: الحضور: السّوْق.
وعن النبي - عليه السلام - أنه قال: "يقبل الله توبة عبده ما لم (يغرغر)" نفسه.
وقوله بعد ذلك: ﴿ولاَ الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّار﴾ [النساء: ١٨] يَدُلُّ على أنالأول في الكفار.
وأيضاً أخبرنا الله (أنه) من تاب من كفره عند المعاينة والسّوْق (لايقبل الله توبتَه)، ولا من مات وهو كافر لم يَتُب.
وقد روي عن ابن عباس إطلاقُ اسم النسخ في قوله: ﴿حتَّى إذَاحَضَرَ أحَدَهُم المَوْتُ﴾ [النساء: ١٨] - الآية - بقوله: ﴿إنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ - الآية - وقال: حرَّم الله المغفرةَ على منمات وهو كافر، يريد بقوله: ﴿إنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بِهِ﴾. قال(وأرجأَ) أهلَ التوحيد إلى مشيئته، ولم يؤيسْهُم من مغفرته، يريد بقوله:﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾.
وهذا يدل على جواز توبة القاتل عمداً غيرَ مستَحِلٍّ لأنه من أهلالتوحيد.
قال أبو محمد: والذي أقوله في هذه الآية وفي التي قبلها: إنالذنوبَ المكتسبةَ على نوعين:
نوع هو ما بين العبد وبين ربه خاصَّة.
ونوع ثانٍ يقع بين العبد وبين الآدميين، ولله (أيضاً فيه حقُّ عقوبةمخالفته).
فما كان بين العبد وبين ربِّه من الذنوب، فهو موقوفٌ على قوله تعالى:﴿إنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أن يُشْرَكَ بهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ فأعلمنا - تباركوتعالى - أنه يغفر الذنوبَ كُلَّها التي بينه وبين العباد لمن يشاء منهم إلا الشِّركَبه فإنه لا يغفره لأحد.
وأَعْلَمَنا أن من قتل مؤمناً متعمداً أنه من المخلدين في النار وعليهالغضبُ واللَّعْنةُ و(هو) من الذنوب التي بين بعض العباد وبعض، ولله فيهحقُّ (عقوبة) المخالفة له.
فالآيتان مختلفتان في الحكم، نزلتا في صنفين من الذنوب لا تنسخ إحداهُما الأخرى.