ﰡ
سورة النساء مدنيةمائة وخمس أو ست أو سبع وسبعون آيةمدنية أي كلها، وإن خوطب بمطلعها أهل مكة، لأن القاعدة أنه متى قيل في القرآن ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ كان خطاباً لأهل مكة، ومتى قيل ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾ كان خطاباً لأهل المدينة. قوله: (وخمس أو ست) أو لتنويع الخلاف فهي مائة وسبعون جزماً والخلاف فيما زاد. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ الخطاب للمكلفين عموماً، ذكوراً وإناثاً، إنساً أو جناً، لأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وليس مخصوماً بمن كان موجوداً وقت النزول، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قال تعالى:﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ ﴾[الإسراء: ١٠٦].
قوله: ﴿ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ﴾ أي امتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه، ولذلك يحصل بالإسلام، فإنّ المسلم العاصي قد اتقى الشرك وهو أعظم المنهيات بالإيمان وهو أعظم المأمورات، لكن يقال لها تقوى عامة، وتقوى الخواص هي الانهماك في طاعة الله، وعدم الشغل بغيره ولو مباحاً، والآية صادقة بهذه المراتب كلها. قوله: ﴿ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ تأكيد للأمر المتقدم، فالمعنى اتَّقوا الله لأنه مالككم ومربيكم، ومن أوصافه أنه خلقكم وأنشأكم من نفس واحدة، فمن كان بهذه الصفات فهو أحق بأن يتقى، لأنه لا استغناء عنه، بل كان من خلقه مفتقر إليه في كل لمحة وطرفة ولحظة، وفي ذلك إشارة إلى أن التقوى تكون في حق بعضنا بعضاً لأن أصلنا واحد، فواجب علينا اتقاء ربنا لأنه الخالق لنا، واتقاء بعضنا بعضاً لأننا كلنا من أصل واحد. قوله: ﴿ وَخَلَقَ مِنْهَا ﴾ أي من تلك النفس الواحدة. قوله: ﴿ زَوْجَهَا ﴾ يقال في الأنثى زوج وزوجة، والأفصح الأول. قوله: (حوّاء) بالمد سميت بذلك لأنها خلقت من حي. قوله: (من ضلع من أضلاعه) أي بعد أن أخذه النوم ولا يشعر بذلك ولم يتألم، فلما استيقظ من النوم وجدها فمال إليها فأراد أن يمد يده إليها، فقالت له الملائكة معه يا آدم حتى تؤدي مهرها، قال فما مهرها؟ قالوا حتى تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ثلاثة صلوات، وفي رواية سبعة عشر، وفي ذلك إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام الواسطة لكل موجود حتى أبيه آدم. إن قلت: حيث كانت حواء مخلوقة من ضلع آدم فهي أخت لأولاده، فمقتضاه أنه يحل لكم يخلق منها التزوج بها في شرعه. أجيب: بأن تفرع حواء من آدم فهي أخت لأولاده، فمقتضاه أنه يحل لمن يخلق منها التزوج بها في شرعه. أجيب: بأن تفرع حواء من آدم ليس كتفرع الولد من الوالد، بل نباتها من الضلع كما تنبت النخلة من النواة، فلا يحكم عليها بأنها بنت آدم ويقال لها أخت أولاده، بل هي أمهم لا غير، واختلف هل كان خلق حزاء خارج الجنة، وبه قال جماعة، وقال ابن عباس وجماعة أنه كان دتخل الجنة، ولا مانع من كونه أخذه النوم فيها، لأن الممنوع النوم بعد دخولها يوم القيامة. قوله: ﴿ وَنِسَآءً ﴾ (كثيرة) أشار بذلك إلى أن في الآية اكتفاء، ورد أن حواء حملت من آدم عشرين بطناً، أو أربعين بطنا في كل بطن ذكر وأنثى، وكان يزوج ذكر هذه البطن لأنثى البطن الأخرى، فنزلت اختلاف البطون منزلة اختلاف الآباء والأمهات، وما مات حتى اجتمع من ذريته مباشرة وبواسطة فوق المائة ألف يشتغلون بأنواع الصنائع والتجارة. قوله: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ﴾.
قوله: ﴿ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ ﴾ أي يقسم بعضكم على بعض لأنه عظيم جليل، فحيث كان كذلك فهو أحق بأن يتقى. قوله: (فيه إدغام التاء الخ) أي فأصله تتساءلون بهن قلبت التاء سيناً ثم أدغمت في السين وإنما قلبت التاء سيناً لقرب مخرجيهما. قوله: (يحذفها) أي التاء الثانية وحذفت تخفيفاً. قال ابن مالك: وما بتاءين ابتدى قد يقتصر فيه على تا كتبين العبرقوله: (حيث يقول بعضكم الخ) أي فيدخل الحمى ولا يتعرض له، وكان ذلك في الجاهلية، والمعنى اتقوا الله لأنه ربكم وخالقكم من نفس واحدة، ولأنه عظيم يقسم به وتقضى الحوائج باسمه. قوله: ﴿ وَٱلأَرْحَامَ ﴾ هكذا بالنصب معطوف على لفظ الجلالة، والعامل فيه اتقوا، ولذا قدره المفسر، وقوله: (أن تقطعوها) إشارة إلى أن الكلام على حذف مضاف تقديره واتقوا قطع الأرحام لما في الحديث: " الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله، ومواصلة الأرحام تختلف باختلاف الناس، فمنهم الغني والفقير، فالواجب على الغني المواصلة بالهدايا والتحف والكلام اللين، وعلى الفقير باللين والسعي لهم ومعاشرتهم بالمعروف، ولا فرق بين الأحياء والأموات ". قوله: (وفي قراءة بالجر) أي مع تخفيف تساءلون وهي لحمزة، وأما قراءة النصب فبالتشديد والتخفيف، فالقراءات ثلاثة وكلها سبعية. قوله: (عطفا على الضمير في به) أي من غير عود الخافض، وهي وإن كانت لغة فصيحة إلا أنها خلاف الكثير، وقد أشار لذلك ابن مالك بقوله: وعود خافض لدى عطف على ضمير خفض لازماً قد جعلاوليس عندي لازماً إذ قد أتى والنظم والنثر الصحيح مثبتافأشار بالنثر الصحيح إلى الآية، والنظم إلى قول الشاعر: قد بدت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجببجر الأيام. قوله: (وكانوا يناشدون بالرحم) هذا مرتب على القراءة الثانية، أي فالمعنى اتّقوا الله لأنكم تناشدون به، واتقوا الأرحام لأنكم تناشدون بها، ومن التناشد بها قول هارون لأخيه موسى صلوات الله وسلامه عليهما: " يا ابن آم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ". قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ هذا تعليل لقوله: ﴿ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ﴾ والرقيب لغة من ينظر في الأمور ويتأمل فيها، واصطلاحاً الحفيظ الذي لا يغيب عن حفظه شيء، وهذا المعنى هو المراد في حق الله تعالى. قوله: (حافظاً لأعمالكم) أي جميعها خيرها وشرها، سرها وجهرها، قال تعالى:﴿ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِٱلَّيلِ وَسَارِبٌ بِٱلنَّهَارِ ﴾[الرعد: ١٠]﴿ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي ٱلصُّدُورُ ﴾[غافر: ١٩].
قوله: (أي لم يزل متصفاً بذلك) جواب عن سؤال مقدر تقديره أن لفظ كان يفيد الانقطاع، فيفيد أن الله اتّصف بالحفظ فيما مضى وانقطع، فأجاب بأن كان هنا للاستمرار، أي هو متصف بذلك أزلاً أبدياً. وقوله: (ونزل في يتيم) أي بحسب ما كان، وإلا فوقت طلبه رشيداً. قوله: " طلب من وليه) أي وكان عماً لذلك اليتيم. قوله: (فمنعه) أي فلما منعه شكا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، فلما سمعها الولي قال أطعت الله وأطعت رسوله، ونعوذ بالله من الحوب الكبير.
قوله: ﴿ وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ ﴾ شروع في ذكر مواطن التقوى، وقدم مال اليتيم لأن فيه وعيداً عظيماً وتحذيراً شديداً، واليتامى جمع يتيم ويجمع أيضاً على أيتام من اليتيم وهو لغة الانفراد، ومنه الدرة اليتيمة بمعنى عديمة المثيل، ومنه يتيم سيد الكائنات عليه أفضل عليه أفضل الصلاة والسلام، قال العارف: أخذ الإله أبا النبي ولم يزل برسوله الفرد الكريم رحيمانفسي الفداء لمفرد في يتمه والدر أحسن ما يكون يتيماواصطلاحا أشار له المفسر بقوله: (الألى) لا أب لهم، أي ولو كانت أمهم موجودة، فاليتيم في الآدمي من كان معدوم الأب وهو صغير، وفي غيره من كان معدوم الأم، فإن مات الأبوان قيل للصغير لظيم، وإن ماتت أمه فقط قيل له عجمي. قوله: (الآلى) بضم الهمزة وفتح اللام اسم موصول جمع الذي كالذين. قوله: (إذا بلغوا) أي وكانوا راشدين، بدليل قوله تعالى: (فإن آنستم منهم رشداً) الآية. قوله: ﴿ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ ﴾ هذا نهي آخر: وكان ولي اليتيم في الجاهلية يأخذ مال اليتيم الجيد ويدفع بدله الرديء كشاة هزيلة يدفعها ويأخذ شاة سمينة، ودرهم زائف يتركه لليتيم ويأخذ له الجيد، ويقول شاة بشاة ودرهم بدرهم. قوله: (الحرام) أي وإن كان جيداً، وقوله: (الحلال) أي وإن كان رديئاً. قوله: (أي تأخذوا بدله) أشار بذلك إلى أن الباء داخلة على المتروك. قوله: (مضمومة) أي الأمر الأول تضمن نهياً أي لا تمنعوا اليتامى من أموالهم إذا رشدوا أو لا تتبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم. إن قلت: مقتضى الآية أن أكل مال اليتيم منفرداً ليس بذنب عظيم، أجيب: بأنه نص على مستقبح الأوصاف زيادة في التشنيع على من يأكله مع الاستغناء، وإلا فأكله منفرداً كأكله مضموماً لماله في ارتكاب الإثم الكبير. قوله: ﴿ حُوباً ﴾ بضم الحاء باتفاق السبعة، وقرئ شذوذاً بفتح الحاء وسكون وسكون الواو وقبلها ألفاً والمعنى واحد. قوله: (ولما نزلت) أي آيات اليتيم التي ورد النهي فيها. قوله: (تحرجوا) أي شق عليهم وطلبوا الخروج من الحرج الذي هو الإثم. قوله: (من الأزواج) أي اليتامى، فكان الواحد منهم إذا وجد يتيمة ذات مال وجمال رغب فيها لأجل مالها، فلما نزلت آية النهي عن أكل مال اليتيم شق عليهم ذلك فنزلت ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ ﴾ فالنهي في الأولى عام في اليتامى مطلقاً أزواجاً أولاً، والثاني خاص بالأزواج اليتامى. قوله: ﴿ أَلاَّ تُقْسِطُواْ ﴾ من أقسط بمعنى عدل، وأما القاسط فمعناه الجائر، وقرئ تقسطوا بفتح التاء وتحمل على أن لا زائدة أو لغة في أقسط بمعنى عدل، فتكون مستعملة في الشيء وضده. قوله: ﴿ فِي ٱلْيَتَامَىٰ ﴾ أي في نكاحهم. قوله: (فتحرجتم) أي طلبتم الخروج من الحرج الذي هو الإثم، وقوله: (فخافوا) جواب الشرط، قالت عائشة: هذه الآية في اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن ينتقص صداقها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق، وأمروا بالنكاح من غيرهن، قالت عائشة: فاستفتى الناس رسول الله بعد ذلك، فأنزل الله عز وجل:﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ ﴾[النساء: ١٢٧] إلى قوله﴿ وَتَرْغَبُونَ ﴾[النساء: ١٢٧] أن تنكحوهن، فبيّن الله لهم في هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بأمثالها في إكمال الصداق، وبيّن في تلك الآية أن اليتيمة إذا كانت مرغوبا عنها لقلة الجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء قال أي الله فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها، إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق، وقال الحسن: كان الرجل من أهل المدينة تكون عنده الأيتام وفيهم من يحل له نكاحها، فيتزوجها لأجل مالها وهي لا تعجبه، وإنما تزوجها كراهية أن يدخل غريب فيشاركها في مالها ثم يسيء صحبتها ويتربص إلى أن تموت فيرثها، فعاب الله عليهم ذلك وأنزل هذه الآية. قوله: (بين النساء) أي اليتامى. قوله: (بمعنى من) أي الواقعة على العاقل، وهو جواب عن سؤال مقدر تقديره أن ما لغير العاقل ولا شك أن النساء عقلاء، فأجاب بأن ما بمعنى من، وعبر عنهن بما لنقص عقلهم عن الرجال، وأجيب أيضاً بأن ما واقعة على الأوصاف، والمعنى وانكحوا الوصف الذي يعجبكم من النساء كالحسب والنسب والجمال وفي الحديث: " تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس ". قوله: ﴿ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ ﴾ أي غير اليتامى، وقد تضمنت هذه الآية النهي عن نكاح اليتامى من أجل أموالهن والزيادة على أربع. قوله: ﴿ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ ﴾ بدل من النساء. قوله: (أي اثنين اثنين) المعنى أباح لكم في الاختيار اثنين أو ثلاثاً أو أربعاً، فالواو ليست للعطف، وإلا لزم أنه بيان جمع تسع، وبه قالت الظاهرية، ولا بمعنى أو وإلا لزم أن من اختار اثنين لا يجوز له أن ينتقل إلى ثلاث أو أربع. قوله: (ولا تزيدوا على ذلك) هذا محط السياق. قوله: (إذ ليس لهن من الحقوق ما للزوجات) أي فلا يجب العدل بينهن، لا في القسم، ولا في النفقة، ولا في الكسوة. قوله: ﴿ أَدْنَىٰ ﴾ يتعدى بإلى واللام، تقول دنوت إليه وله. قوله: ﴿ أَلاَّ تَعُولُواْ ﴾ العول في الأصل معناه الميل، من قولهم عال الميزان عولاً أي مال وعال في الحكم إذا جار. قوله: (تجوروا) أي تظلموا، وفي الحديث:" من لم يعدل بين نسائه جاء يوم القيامة وشقه ساقط ".
قوله: ﴿ وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ ﴾ أتى بهذه الآية استطراداً بين أحكام اليتامى لمناسبة ذكر النساء، وأتى بالمد مصدره الإيتاء بمعنى الإعطاء، فلذا فسره به، وأما بالقصر فمصدره افتيان بمعنى المجيء. قوله: (جمع صدقة) أما بضم الدال أو فتحها أو إسكانها، ويقال أيضاً صداق بفتح الصاد وكسرها، ومعنى الجميع المهر الذي يجعل للمرأة في نظير البضع، وأقله عند المالكية ربع دينار شرعي، أو ثلاث دراهم شرعية، أو مقوم بأحدهما، وعند الشافعي يكفي أي شيء متموّل أو خاتماً من حديد، وعند الحنفية عشرة دراهم شرعية، وأكثره لا حد له بل بحسب ما تراضوا عليه، والأمر لللأزواج، فالمعنى لا تنكحوا النساء إلا بمهر، وخصصت السنة نكاح التفويض وهو العقد من غير تسمية مهر، فهو صحيح لكن يلزمه بعد الدخول صداق المثل. قوله: (مصدر) أي مؤكد لقوله آتوا من معناه كجلست قعوداً، ويسمى ذلك المصدر معنوياً. قوله: (عن طيب نفس) أي خالصاً لا منة للزوج به عليها. قوله: ﴿ فَإِن طِبْنَ ﴾ أي النسوة. وقوله: ﴿ مِّنْهُ ﴾ الضمير عائد على الصداق المعلوم من قوله صدقات، ومن يحتمل أن تكون للتبعيض أو البيان، فيحل للمرأة الرشيدة بعد الدخول أن تعطي زوجها المهر كله أو بعضه عند جميع الأئمة إلا الليث فعنده لا يحل لها أن تعطيه جميعه، فمن على ذلك يتعين أن تكون للتبعيض لا للبيان. قوله: (أي طابت أنفسهن) هذا بيان لكون نفساً في الأصل فاعلاً. قوله: (فوهبه لكم) أي اختياراً لا قهراً، وإلا فلا يحل أخذه، ويشترط أيضاً أن تكون المرأة رشيدة بالغة، وإلا فيحل أخذه. قوله: ﴿ فَكُلُوهُ ﴾ أي انتفعوا به، فأطلق الأكل وأراد مطلق الانتفاع. قوله: ﴿ مَّرِيئاً ﴾ أي ممروءاً لا غصة فيه ولا عقبة من قولهم جرى الطعام في المريء، أي العرق الأحمر الكائن تحت الحلقوم المسمى بالبلعوم، وهنيئاً مريئاً حالان من مفعول كلوه، والمعنى كلوه حال كونه هنيئاً حلالاً مريئاً سائغاً لا نكد فيه. قوله: (في الآخرة) أي ولا في الدنيا، فليس لورثتها طلبه. قوله: (على من كره ذلك) أي استنكافاً عنه وجعله كالرجوع في الهبة. قوله: ﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ ﴾ هذا رجوع لتتميم أحكام اليتامى، وأصل تؤتوا تؤتيوا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان الياء والواو، حذفت الياء لالتقائهما. قوله: (والصبيان) معطوف على المبذرين. قوله: (أي أموالهم) أي وإنما نسبها للأولياء لأنهم هم المتصرفون فيها، فالإضافة ليست لذلك وإنما هي لأدنى ملابسة. قوله: ﴿ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً ﴾ جعل بمعنى صيّر، ولفظ الجلالة فاعلة، وقياماً مفعول ثان، والمفعول الأول محذوف تقديره جعلها، والضمير عائد على الأموال، ويحتمل أن جعل بمعنى خلق فقياماً حال، والمعنى لا تعطوا المبذرين والصبيان أموالهم التي جعل الله مقومة لمعاشهم وصلاحهم، قوله: (أودكم) الأود بفتحتين وبفتح فسكون معناه العوج. قوله: (وفي قراءة قيما) أي وهي سبعية أيضاً، وقرئ شذوذاً قواماً بفتح القاف وكسرها وقوماً كعنباً، وعموم الآية يشمل من أعطى مال اليتيم لسفيه مبذر يتجر له فيه وهو مشهور بالسفه والتبذير، فإن الولي منهي عن ذلك ويضمنه لفهمه بالأولى. قوله: ﴿ وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا ﴾ حكمة التعبير بفي، أنه ينبغي للولي أن يعطي مال اليتيم لرجل أمين يتجر فيه، ويكون مصرفه من الربح لا من أصل المال. وفي الحديث:" اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة "فالتجارة في أموال اليتامى مطلوبة عند جميع الأئمة. قوله: (عدوهم عدة جميلة) أي كأن يقول له مالك عندي وأنا أمين عليه، فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك، وهكذا تطييباً لخاطرهم وجدهم في أسباب الرشد.
قوله: ﴿ وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ ﴾ أي لا تتركوهم هملاً، بل علموهم الصنائع وأمور الدنيا والدين، ولا تفرطوا في ذلك حتى تبلغوا. قوله: (بالاحتلام) أي نزول المني. قوله: (حتى إذا بلغوا) حتى ابتدائية، وإذا شرطية، وفعل الشرط قوله بلغوا، وجوابها قوله: ﴿ فَإِنْ آنَسْتُمْ ﴾ الخ، فشرط إعطاء الولي المال لليتيم بلوغ النكاح وعلم الرشد. قوله: (عند الشافعي) أي وعند مالك وأبي حنيفة ثمانية عشر. ومن علامات البلوغ: الحيض وكبر الثدي للإناث ونبات العانة ونتن الأبط وفرق الأرنبة وغلظ الحنجرة، فإذا وجدت تلك العلامات حكم ببلوغه عند مالك، وأما عند الشافعي فلا يحكم عليه به. قوله: (أبصرتم) المناسب أن يكون علمتم، لأن الرشد يعلم ولا يشاهد بالبصر. قوله: (صلاحاً في دينهم ومالهم) هذا مذهب الشافعي، ويكفي عند مالك في الرشد إصلاح المال فقط. قوله: ﴿ فَٱدْفَعُواْ ﴾ جواب الشرط الثاني. قوله: (حال) أي من الواو في تأكلوا مؤولاً بمسرفين. قوله: (مخافة) ﴿ أَن يَكْبَرُواْ ﴾ قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ أَن يَكْبَرُواْ ﴾ مفعول لأجله، ومفعول ﴿ بِدَاراً ﴾ محذوف تقديره ولا تأكلوها حال كونكم مسرفين فيها مبادرين لأكلها، مخافة كبرهم عليكم فيأخذوها منكم. قوله: ﴿ أَن يَكْبَرُواْ ﴾ مضارع كبر بوزن علم ومصدر كبر كعنباً. قوله: (من الأولياء) أولياء الأيتام. قوله: (أي يعف عن مال اليتيم) أي يتباعد عنه لما فيه من الوعيد العظيم الآتي في قوله تعالى:﴿ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾[النساء: ١٠] فالواجب على الولي إن كان غنياً التباعد عن مال اليتيم بالمرة، بل ينبغي له أن لا يخلط ماله بماله، بل يعطيه لغيره ليتجر له فيه، ويكون هو ناظراً عليه. قوله: (ويمتنع من أكله) أي فإذا أكله وأطعمه لغيره ولو لمن يصنع سبحاً أو جمعاً لوالد اليتيم ضمنه إذا لم يوص الميت بذلك، وأما إن لم يكن لليتامى ولي وليس فيهم كبير رشيد، حرم الأكل من مالهم وكل من أكل شيئاً لزمه عوضه. قوله: (بقدر أجره عمله) أي ما لم تزد على كفايته، وإلا فله كفايته فقط، وهذا مذهب الشافعي، وعند مالك له أجرة مثله مطلقاً زادت عن كفايته أو لا. قوله: ﴿ فَإِذَا دَفَعْتُمْ ﴾ مرتب على قوله: ﴿ فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ والمعنى فإذا أردتم الدفع فاشهدوا لئلا يقع اختلاف فترجعوا إلى البينة، هذا هو المشهور في المذاهب أن الولي لا يصدق في الدفع إلا ببينة تشهد أنه دفعه لهم بعد رشدهم، فإن لم تكن بينة غرمه، وهناك قول ضعيف عند مالك وهو أنه يصدق في الدفع بيمين، فعلة الإشهاد على هذا القول لئلا يحلف الولي، والفرق بين الأمين والوصي أن الوصي لما كان له التصرف في مال اليتيم كان ضامناً إلا ببينة تشهد بالدفع، والأمين لا تصرف له في الأمانة فصدق بيمين في الدفع، ولذا إذا انصرف فيها كانت متعلقة بذمته، فلا يصدق في دفعها إلا ببينة كالدين. قوله: (وهذا أمر إرشاد) أي تعليم لمصالح الدنيا فهو أمر ندب. قوله: (الباء زائدة) أي في فاعل كفى، فلفظ الجلالة فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائدة، وفي قوله: ﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً ﴾ وعد حسن لمن كان سليماً ولم يلتمس من مال اليتيم شيئاً، ولو اتهمه اليتيم بأكله ظلماً وعدواناً، ووعيد لمن أكله وظلمه وإن لم يثبت عليه ذلك. قوله: ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ ﴾ سبب نزولها أن أوس بن ثابت توفي وترك امرأته واسمها أم كحة وثلاث بنات، وأقام وصيين واسمهما سويد وعرفجة ولدا عمه، فأخذا المال جميعه فجاءت المرأة للنبي صلى الله عليه وسلم وقالت: مات أوس بن ثابت وترك ثلاث بنات، وأنا امرأته ولم يكن عندي ما أنفقه عليهن، وترك مالاً حسناً، فأخذه سويد وعرفجة ولم يعطياني ولا بناته شيئاً، فدعاهما النبي فقالا أولادهما يركبن فرساً، ولا يحملن كلاً، ولا ينكين عدواً، فنزلت هذه الآية، وبيّن أن الإرث غير مختص بالرجال البالغين، وأوقف النبي التركة حتى نزلت﴿ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ ﴾[النساء: ١١]، فأعطى الزوجة الثمن، والبنات الثلثين، وابني عمه ما بقي. قوله: (الأولاد) أخذه من قوله: ﴿ ٱلْوَالِدَانِ ﴾.
وقوله: (والأقرباء) أخذه من قوله: ﴿ وَٱلأَقْرَبُونَ ﴾.
قوله: ﴿ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ ﴾ بدل من قوله: ﴿ مِّمَّا تَرَكَ ﴾ قوله: ﴿ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾ مفعول ثان لفعل محذوف قدره بقوله: (جعله الله). قوله: ﴿ وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ ﴾ معنى ذلك إذا مات الميت وترك من يرف ومن لا يرث، وحضر جميعهم قسمة الميراث، طلب الشارع إعطاء من لا يرث، وكذا المساكين واليتامى شيئاً قبل القسمة جبراً لخاطرهم، باجتهاد من يقسم التركة بحسب قلة المال وكثرته، واختلف هل هذا منسوخ هو الحق، وقيل ليس بمنسوخ، واختلف على هذا هل الأمر للوجوب أو الندب وهو المعتمد على هذا القول. قوله: (إذا كانت الورثة صغاراً) أي أو التركة قليلة.
قوله: ﴿ وَلْيَخْشَ ﴾ قرأ السبعة بسكون اللام وغيرهم بكسرها وعلى كل اللام للأمر، وسبب نزولها أنه كان في الجاهلية إذا حضر أحدهم الموت قد حضره جماعة، حملوه على تفرقة ماله للفقراء والمساكين، ويحرمون أولاده منه، فيرتب على ذلك كونهم بعد موته عالة على الناس ويضيعون، فنزلت الآية تحذيراً لمن يحمل الميت على ذلك من وصي أو غيره، فإنه كما يدين الفتى يدان، فكما يتقي الله في يتامى غيره، فجزاؤه أن يقبض الله له من يتقي الله في أولاده. قوله: (أي ليخفف على اليتامى) المعنى ليخفف الله على اليتامى. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ ﴾ لو شرطية بمعنى إن، فتقلت الماضي للاستقبال كما قال ابن مالك وجماعة، فتركوا فعل الشرط. قوله: ﴿ خَافُواْ ﴾، وقوله: ﴿ فَلْيَتَّقُواْ ﴾ مرتب عليه. قوله: ﴿ خَافُواْ عَلَيْهِمْ ﴾ (الضياع) إن قلت: ما ذنب اليتيم حتى يعاقب بالضياع؟ أجيب بأن ذلك تعذيب لأبيه، لأن ما يؤذي الحي يؤذي الميت، وليس تعذيباً لهم، بل قد يكون رفعة لهم إن اتقوا الله. قوله: (وليأتوا إليهم ما يحبون الخ) أي يفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذريتهم بعد موتهم. قوله: (للميت) ويحتمل أن يكون لليتامى، بأن يقولوا لهم لا تخافوا ولا تحزنوا، فنحن مثل آبائكم. قوله: (ولا يتركهم عالة) أي فقراء يتكففون وجوه الناس. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ﴾ نزلت في حق رجل من غطفان، مات أخوه وترك ولداً يتيماً فأكل عمه ماله، والمعنى يتلفون أموالهم، فالتعبير بالأكل عن الإتلاف مجاز. قوله: ﴿ ظُلْماً ﴾ يحتمل أن يكون مفعولاً لأجله، أي لأجل الظلم، ويحتمل أن يكون حالاتً من يأكلون، أي حال كون الأكل ظلماً. قوله: ﴿ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ ﴾ هذه الجملة خبر إن الأول، والتعبير بالأكل مجاز باعتبار ما يؤول إليه أو المعنى يأكلون بسبب النار. قوله: (بالبناء للفاعل والمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (ناراً شديدة) أشار بذلك إلى أنه ليس المراد خصوص الطبقة المسماة بذلك، لأنها لعباد الوثن خاصة وربما مات آكل مال اليتيم مسلماً. والحاصل: أنه تارة تطلق تلك الأسماء على ما يعم جميع الطبقات وتارة تطلق على مسمياتها خاصة. قوله: (يحترقون فيها) أي إن لم يتوبوا. روي أن آكل مال اليتيم يبعث يوم القيامة، والدخان يخرج من قبره ومن فمه و؟أنفه وأذنيه وعينيه فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا.
قوله: ﴿ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ ﴾ هذا شروع في تفصيل ما أجمل أولاً في قوله:﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ ﴾الخ، قوله: (يأمركم) أي على سبيل الوجوب. قوله: ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ ﴾ هذا كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر، قوله: (فله نصف المال الخ) أي إن لم يكن معهم صاحب فرض، وإلا فيأخذ فرضه، ثم الباقي يقسم مثل حظ الأنثيين. قوله: ﴿ فَإِن كُنَّ نِسَآءً ﴾ إن حرف شرط، وكن فعل الشرط، ونساء خبركن، واسمها النون، وفوق ﴿ ٱثْنَتَيْنِ ﴾ صفة لنساء، وقوله: ﴿ فَلَهُنَّ ﴾ جواب الشرط. قوله: (أي الأولاد) أي بعضهم، ففي الكلام استخدام، فذكر الأولاد بمعنى، وأعاد الضمير عليه بمعنى آخر، نظير قوله تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن) بعد قوله: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء). قوله: (لأنه للأختين) أي الفرض المذكور وهذان وجهان: أحدهما القياس على الأختين. والثاني القياس على البنت الواحدة، وهما على كون فوق ليست صلة. قوله: (وقيل لدفع توهم زيادة النصيب) هذا القيل محتمل لأن تكون أصلية أو زائدة، فالمعنى أن ما فوق البنتين حكمهما حكم البنتين. قوله: (وفي قراءة بالرفع) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (ذكراً أو أنثى) أي فإن كان الولد ذكراً أخذ ما فضل عن سدسيهما، وإن كانت أنثى أخذت النصف فرضها، والأم سدسها، والأب الباقي فرضاً وتعصيباً. قوله: (وألحق بالولد ولد ابن الخ) أي بالقياس المساوي، قوله: (بضم الهمز وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (فراراً) راجع للكسر، وقوله: (في الموضعين) أي في قوله: ﴿ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ ﴾ وقوله: ﴿ فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ ﴾ أي وما بقي بعد الزوج أي الزوجة وهما الغراوان، وقد أشار لهما صاحب الرحيبة بقوله: وإن يكن زوج وأم وأب فثلث الباقي لها مرتبوهكذا مع زوجة فصاعدا فلا تكن عن العلوم قاعداثلث الباقي في الحقيقة، أما ربع أو سدس، وقد انعقد الإجماع على ذلك، قوله: ﴿ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ ﴾ تقدم أن الأم يفرض لها جميع ثلث المال أو الثلث الباقي، إن لم يكن للميت فرع وارث، وأفاد هنا أنه مع وجود الأخوة يفرض لها السدس، فيفهم منه أنه عند عدم الأخوة أيضاً، يكون لها الثلث، فتحصل أن لها الثلث بشرطين عدميين، وهما عدم الأخوة، وعدم الفرع الوارث، قوله: (ذكوراً أو إناثاً) أي أشقاء أو لأب أو لأم. قوله: (ولا شيء للأخوة) أي مطلقاً محجوبين بالأب، ولذلك قال في التلمسانية: وفيهم في الحجب أمر عجب لكونهم قد حجبوا وحجبوافلو كان بدل الأب جد. لكان مثله عند أبي حنيفة. وعند الأئمة الثلاثة يشترك مع الأخوة. على تفصيل في ذلك مذكور في الفروع. قوله: ﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ ﴾ متعلق بمحذوف قدره المفسر بقوله: (وارث من ذكر الخ) وهو قيد في جميع ما تقدم. قوله: (تنفيذ) ﴿ وَصِيَّةٍ ﴾ أي تخرج من رأس المال إن حملها الثلث. وشرطها أن تكون في معصية، فلو أوصى بمال يصرف على الكنيسة، أو على من يشرب الخمر. أو غير ذلك. فلا تنفذ. قوله: (بالبناء للفاعل والمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان. فعلى الأول نائب الفاعل الجار والمجرور. وقال ابن مالك: وقابل من ظرف أو من مصدر أو حرف جر بنيابة حرىوعلى الثانية الفاعل ضمير يعود على الميت. قوله: (وتقديم الوصية) أي اللفظ، وإلا فأو لأحد الشيئين لا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً. والمعنى وإرث ما ذكر، يحصل من بعد وصية إن كانت، أو دين إن كان. فإن اجتمعت الوصية والدين قدم الدين. قوله: (للاهتمام بها) أي وشأن الوارثة الشح بها. ومنازعة الموصى له بخلاف الدين. قوله: ﴿ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ ﴾ هذه الجملة معترضة بين قوله: ﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ ﴾ وقوله: ﴿ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ ﴾.
قوله: ﴿ أَيُّهُمْ ﴾ اسم استفهام مبتدأ و ﴿ أَقْرَبُ ﴾ خبره. و ﴿ لَكُمْ ﴾ جار ومجرور متعلق بأقرب، و ﴿ نَفْعاً ﴾ تمييز، والجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي تدرون، والمعنى لا تدرون هو أقرب لكم نفعاً الآباء والأبناء. قوله: (في الدنيا) أي كحسن القيام بالمصالح والإحسان إليه بعد موته، وقوله: (والآخرة) أي كالشفاعة أو (في الدنيا والآخرة) لما ورد أن أحد الوالدين أو الولدين إذا كان أرفع درجة من الآخرة في الجنة، سأل أن يرفع إليه فيرفع الآخر بشفاعته. قوله: (فظان) إما بالرفع صفة لموصوف محذوف مبتدأ أي فريق ظان، أو بالجر مجرور برب. وقوله: (فيكون الأب أنفع) أي في الواقع ونفس الأمر. قوله: (وبالعكس) أي وفريق ظان أن أباه أنفع فيعطيه الميراث، فيكون الابن أنفع. قوله: ﴿ فَرِيضَةً ﴾ مفعول لفعل محذوف قدره بقوله: (ففرض لكم الميراث) وهو راجع لقوله: ﴿ يُوصِيكُمُ ﴾ فيحتمل أنه مصدر مؤكد لعامله من لفظه، ودرج على ذلك المفسر، أو من معناه تقدير يوصيكم فريضة، لأن الإيصاء معناه الأمر. قوله: (أي لم يزل متصفاً بذبك) دفع به ما قد يتوهّم من كان الاتصاف بذلك في الزمن الماضي وانقطع، فأفاد أن صفات الله لا تتقيد بزمان فهي للاستمرار، وبعضهم يجعلها في صفات الله زائدة.
﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ ﴾ هو أيضا من جملة التفصيل لما أجمل في قوله أولاً﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ ﴾[النساء: ٧].
قوله: ﴿ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ ﴾ أي للزوجات، والمراد الجنس وقوله: (ولد) أي واحداً ومتعدد، ذكراً أو أنثى، فالزوج يأخذ النصف بشرط عدمي. قوله: (أو من غيركم) أو ولو من زنا، فإن ولد الزنا ينسب لأمه. قوله: ﴿ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ ﴾ هذا مفهوم قوله: ﴿ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ ﴾ صرح بها لإفادة الحكم فيه. قوله: ﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ ﴾ تقدم أنه متعلق بمحذوف تقديره وهذا الاستحقاق يكون بعد تنفيذ وصية. قوله: (ولد الابن) أي ذكراً كان ذلك الولد أو أنثى، فإن بنت الابن كابن الابن، وأما أولاد البنت ذكوراً أو إناثاً، فلا يحجب الزوج بهم عن نصفه ولذلك قال شاعرهم: بنانا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال والأباعدوكلام المفسر في غاية الحسن حيث قال وولد الابن، ولم يقل كالخازن وولد الولد، لأنه يشمل أولاد البنات وهو غير صحيح. قوله: ﴿ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ ﴾ أي ذكر أو أنثى، واحد أو متعدد قوله: (منهن أو من غيرهن) المناسب تقديمه عند قوله: ﴿ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ ﴾ ليكون على منوال ما تقدم له في نظيره، وقوله: (أو من غيرهن) أي نسيب، فإن كان ابن زنا فلا يحجب الزوجة من الربع إلى الثمن، لأنه لا يلحق بأبيه ولا يرث منه، ومن لا يرث لا يحجب وارثاً. قوله: (وولد الابن كالابن) أي وأما أولاد البنات فليسوا مثلهم، لأنهم من ذوي الأرحام. قوله: ﴿ يُورَثُ ﴾ (صفة) أي ويصح أن يكون خبراً. وقوله: ﴿ كَلَٰلَةً ﴾ حال من الضمير في يورث. قوله: (والخير) ﴿ كَلَٰلَةً ﴾ أي واسمها رجل، وهذا على أنها ناقصة، وأما على أنها تامة فرجل فاعل، ويورث صفته، وكلالة بحال. قوله: (أي لا والد له ولا ولد) هذا هو أرجح الأقوال في تفسير الكلالة. والحاصل أنه اختلف الناس في معنى الكلالة فقال جمهور اللغويين إنه الميت الذي لا ولد له ولا والد، وقيل الذي لا ولد له فقط، وقيل الذي لا ولد له فقط، وقيل هو من لا يرث أب ولا أم، وعلى هذه الأقوال كلها، فالكلالة واقعة على الميت، وقيل الكلالة الورثة ما عدا الأبوين والولد، سمرا بذلك لأن الميت بذهاب طرفيه تكلله الورثة، أي أحاطوا به من جميع نواحيه، ويؤيد القوال الذي مشى عليه المفسر، أن الآية نزلت في جابر رضي الله عنه، ولم يكن له يوم أنزلت أب ولا ابن، قوله: (وقرأ به ابن مسعود وغيره) أي قراءة شاذة، وإنما استدل بهذه القراءة، لأنها بمنزلة رواية الآحاد، ورواية الآحاد يستدل بها لأنها منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (أي من واحد) أي لأن أو في الآية أحد الشيئين، فإذا اجتمع ذكر وأنثى من ولد الأم كان لهما الثلث، وكذا إن زادوا عن ذلك، ويسقط الأخوة للأم بستة: الابن وابن الابن والبنت وبنت الابن والأب والجد. قوله: (من ضمير يوصى) أي هو عائد على الميت. قوله: (أي غير مدخل الضرر) أشاء بذلك إلى أن مضار اسم فاعل. قوله: (بأن يوصى بأكثر من الثلث) هذا تصوير لإدخال الضرر، ويبطل ما زاد على الثلث إن لم يجزه الورثة. قوله: (من قتل) أي فلا يرث القاتل من تركة المقتول شيئاً كما في الحديث. قوله: (أو اختلاف دين) أي بالإسلام والكفر، فلا يرث المسلم الكافر، ولا العكس. قوله: (أورق) أي فلا يرث الرقيق من تركة الحر شيئاً ولا العكس. قوله: (بالياء والنون) أي فهما قراءتان سبعيتان. وقوله: (التفاتاً) راجع للنون وهو التفات من الغيبة للتكلم.
قوله: ﴿ مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾ أي من تحت قصورها. قوله: (بالوجهين) أي الياء والنون. قوله: ﴿ خَالِداً فِيهَا ﴾ المراد بالخلود طول المكث إن مات مسلماً وعلى حقيقته إن مات كافرا، وحكمة الإفراد في جانب العذاب أنه كما يعذب بالنار يعذب بالغربة وحكمة الجمع في جانب النعيم أنه كما ينعم بالجنة ينعم باجتماعه مع أحبابه فيها ويزورهم ويزورونه. قوله: (لفظ من) أي فأفرد في قوله: ﴿ يُدْخِلْهُ ﴾ في الموضعين، وفي قوله: ﴿ وَلَهُ ﴾.
قوله: (وفي خالدين معناها) أي فجمع. قوله: ﴿ وَٱللاَّتِي ﴾ الخ، جمع التي وهو اسم موصول مبتدأ. وقوله: ﴿ يَأْتِينَ ٱلْفَٰحِشَةَ ﴾ صلته. وقوله: ﴿ فَٱسْتَشْهِدُواْ ﴾ خبره وقرن بالفاء لأن المبتدأ أشبه الشرط في العموم، لأن المبتدأ أشبه الشرط في العموم، لأن المبتدأ إذا وقع اسماً موصولاً، ووصل بجملة فعليه أشبه الشرط فيقرن خبره بالفاء، خصوصاً إذا أخبر عنه بجملة طلبية. قوله: ﴿ مِن نِّسَآئِكُمْ ﴾ بيان لللاتي. قوله: ﴿ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ ﴾ أي عدولاً، والعدل هو الذكر الحر المكلف الذي لم يرتكب كبيرة ولا صغيرة خسة، ولا ما يخل بالمروءة، وهذه الشهادة على رؤية الزنا وأما الإقرار فيكفي اثنان عليه، والخطاب في قوله: ﴿ فَٱسْتَشْهِدُواْ ﴾ لولاة الأمور كالقضاة والحكام. قوله: (وامنعوهن من مخالطة الناس) أي الرجال، وهو عطف علة على معلول. قوله: (أي ملائكته) دفع بذلك ما يقال إن التوفي هو الموت ففيه إسناد الشيء نفسه. قوله: ﴿ أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ ﴾ أو حرف عطف. ويجعل معطوف على يتوفى، فهو داخل في الغاية، وأشار المفسر لذلك بقوله: (إلى أن) ﴿ يَجْعَلَ ﴾ ويصح أن تكون أو بمعنى إلا كما في قوله لألزمنك أو تقضيني حقي، فهو مخرج من قوله: ﴿ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ ٱلْمَوْتُ ﴾ فالمعنى إلا أن يجعل الله لهن سبيلاً، فلا تمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت. قوله: (ثم جعل لهن سبيلاً) أي بنزول آية النور، واختلف في هذه الآية، قيل منسوخة بآية النور أو مفصلة لها وهو الحق، وقد مشى عليه المفسر. قوله: (بجلد البكر مائة وتغريبها عاماً) هذا هو مذهب الإمام الشافعي، وعند مالك التغريب خاص بالذكر، وأما الأنثى فلا تغرب. قوله: (رواه مسلم) وتمامه الثيب ترجم، والبكر تجلد. قوله: (بتخفيف النون وتشديدها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أو اللواط) أو لتنويع الخلاف في تفسير الفاحشة هنا، وسيرجح الثاني بقوله: وإرادة اللواط أظهر الخ، ويصح أن يراد بالفاحشة بالزنا واللواط معاً الواقعان من الرجال، وأما الزنا من النساء فقد تقدم حكمه.
قوله: ﴿ فَآذُوهُمَا ﴾ أي ما لم يتوبا. قوله: (وهذا منسوخ بالحد) أي فالبكر يجلد مائة، ويغرب عاماً، والمحصن يرجم إلى أن يموت. قوله: (عند الشافعي) أي وعند مالك يرجم اللائط مطلقاً، فاعلاً أو مفعولا أحصنا أو لم يحصنا، حيث كانا بالغين مختارين، وعند أبي حنيفة حده، رميه من شاهق أو رمي حائط عليه. قوله: (لكن المفعول به الخ) أي وأما الفاعل عنده فكالزاني، إن كان محصناً يرجم، وإن كان غير محصن جلد مائة وغرب عاماً. قوله: (بل يجلد ويغرب) أي إن كان بالغاً مختاراً. قوله: (بدليل تثنية الضمير) أي في قوله: ﴿ وَٱللَّذَانِ ﴾ وقد يقال إن فيه تغليب الذكر على الأنثى. قوله: (وهو مخصوص) أي ما ذكر من (الأذى والتوبة والإعراض).
قوله: ﴿ إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ ﴾ هذا حسن ترتيب، حيث ذكر الذنب ثم أردفه بذكر التوبة. وقوله: ﴿ عَلَى ٱللَّهِ ﴾ أي التزامها تفضلاً منه وإحساناً، لأن وعد الكريم لا يتخلف على حد كتب ربكم على نفسه الرحمة. قوله: (المعصية) أي ولو كانت كفراً. قوله: (أي جاهلين) إنما قرن العصيان بالجهل، لأن العصيان لا يتأتى مع العلم، بل حين وقوع المعصية يسلب العلم، لأن أشدّ الناس خشية العلماء. قال تعالى:﴿ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ ﴾[فاطر: ٢٨].
قوله: (قبل أن يغرغروا) أي قبل أن تبلغ الروح الحلقوم، وإنما كان الزمن الذي بين وقوع المعصية والغرغرة قريباً، لأن كل ما هو آت قريب، والعمر وإن طال قليل، وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يجدد التوبة في كل لحظة، لأن الموت متوقع في كل لحظة، لأن المتوقع في كل لمحة، ولذا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ما خرج مني نفس وانتظرت عوده، وورد أنه ما من نفس يخرج من ابن آدم إلا بإذن من الله في العودة ثانياً وعمر جديد. قوله: ﴿ وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ ﴾ أي قبولها. قوله: (وأخذ في النزع) أي بلغت الروح الحلقوم وغرغر الميت، لأن الإنسان عند الغرغرة يرى مقعده في الجنة أو في النار، فيظهر عليه علامة البشرى أو الحزن، فلا ينفعه الندم إذ ذاك. قوله: ﴿ وَلاَ ٱلَّذِينَ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ المعنى ليست التوبة للذين يعملون السيئات الخ، وليست التوبة للذين يموتون وهم كفار فهو محل جر. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا ﴾ أصله أعددنا قلبت الدال الأولى تاء، وقد أشار المفسر بقوله (أعددنا) والمعنى أحضرنا وهيأنا.
قوله: ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ ﴾ الآية الخ، سبب نزولها أنه كان في الجاهلية وصدر الإسلام، إذا مات الرجل وترك امرأة، جاء ابنه من غيرها أو قريبه فرمى عليها ثوبه فيخير فيها بعد ذلك، فإما أن يتزوجها بلا مهر، أو يزوجها لغيره ويأخذ مهرها، أو بعضها حتى تفتدي منه، أو تموت ويأخذ ميراثها، ثم لما توفي أبو قيس، وترك امرأته كبيشة بنت من الأنصارية، قام ابن له قيل اسمه قيس، فطرح عليها ثوبه ثم تركها، فلم يقربها ولم ينفق عليها، فأتت كبيشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أبا قيس توفي وأخذني ابنه، فلم ينفق علي ولم يخل سبيلي، فقال امكثي في بيتك حتى يأتي أمر الله فيك، فنزلت هذه الآية. قوله: (أي ذاتهن) دفع بذلك ما يقال إن ميراث الرجل من المرأة قد تقدم، وهو إما النصف أو الربع، وليس بمنهي عنه. قوله: (لغتان) المناسب قراءتان وهما سبعيتان. قوله: (أي مكرهين) بكسر الراء اسم فاعل، ومفعول محذوف تقديره مكرهين لهن على ذلك. قوله: (كانوا في الجاهلية) أي وصدر الإسلام، وهو إشارة لسبب نزول الآية، وقد أجمل فيه. قوله: (بلا صداق) أي اتكالاً على الصداق الذي دفعه أبوه. قوله: ﴿ وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ ﴾ الخ، والمعنى لا يحل لكم ميراث النساء ولا عضلهن، وهو خطاب للأزواج كان الرجل يكره المرأة، ولها عليه المهر، فيسيء عثرتها ويضارها لتفتدي منه. قوله: (أَيْ تَمْنَعُوا أَزْواجَكُمْ) أشار بذلك إلى أن الضمير عائد على النساء، لا بالمعنى الأول، فإن المراد بالنساء فيما تقدم نساء غيركم، وفيما هنا نساؤكم، ففي الكلام استخدام قوله: ﴿ لِتَذْهَبُواْ ﴾ علة لقوله: ﴿ وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾.
قوله: ﴿ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ ﴾ أي ومن باب أولى أخذ الجميع. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍ ﴾ هذا استثناء من عموم الأحوال، والمعنى لا يحل عضل النساء لأجل أخذ بعض ما آتيتموهن في حال من الأحوال، إلا في حال إتيانهن بفاحشة مبينة. قوله: (بفتح الياء وكسرها) أي فهم قراءتان سبعيتان. قوله: (أو نشوز) أي خروج عن طاعة الزوج. قوله: فلكم أن تضاروهن) إن قلت: إن المضاررة لا تجوز فكيف ذلك؟ أجيب بأن هذا منسوخ، أو بأن المراد بها الوعظ والهجر والضرب على طبق ما يأتي في قوله تعالى:﴿ وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ﴾[النساء: ٣٤] الآيات، وتسميته حينئذ مضاررة مشاكلة نظير (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه). قوله: (وعاشروهن) قيل معطوف على قوله فيما تقدم﴿ وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾[النساء: ٤] وقيل معطوف على قوله: ﴿ وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ وعليه فالعطف للتوطيد، والمعنى لا تضاروهن وعاشروهن بالمعروف، بأن تطيبوا لهن القول والفعل، ومن ذلك تعليمهن مصالح دينهن ودنياهن. قوله: (الإجمال في القول) أي بالقول الجميل الخ.﴿ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ ﴾ أي طبعاً من غير ظهور ما يوجب الكراهة منهن. قوله: (فاصبروا) هذا هو جواب الشرط، وقوله: ﴿ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً ﴾ علة له. قوله: (ولداً صالحاً) أي ذكراً أو أنثى، ففي الحديث:" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له "وبالجملة فالإحسان إلى النساء من مكارم الأخلاق، وإن وقعت منهن الإساءة، لما في الحديث" يغلبن كريماً ويغلبهن لئيم، فأحب أن أكون كريماً مغلوباً، ولا أحب أن أكون لئيماً غالباً "قوله: (بأن طلقتموها) أي بعد الدخول، وأما قبله فليس لها عنده إلا نصف المهر. قوله: (مالاً كثيراً) أشار بذلك إلى أنه ليس المراد بالقنطار التحديد. قوله: (ظلماً) أشار بذلك إلى أنه أطلق البهتان وهو في الأصل الكذب، وأراد به الظلم مجازاً. قوله: (والاستفهام للتوبيخ والإنكار في) ﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ﴾ أي وفيما قبله. قوله: (بالجماع) هكذا فسره به الشافعي، وقال مالك بالخلوة التي يتأتى فيها الوطء. قوله: (بالجماع) هكذا فسره به الشافعي، وقال مالك بالخلوة التي يتأتى فيها الوطء، قوله: (المقرر للمهر) أي وهو الواقع من بالغ في مطيقة، وقال الشافعي بل ولو لم تكن مطيقة. قوله: ﴿ وَأَخَذْنَ ﴾ أي النساء، والآخذ في الحقيقة هو الله، وإنما أسند للنساء مجازاً عقلياً من الإسناد للسبب.
قوله: ﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُمْ ﴾ شروع منه سبحانه وتعالى في المحرمات من النساء على الرجال، وابتدأ بتحريم زوجة الأب اعتناء بها، فإن الجاهلية كانوا يفعلون ذلك كثيراً، ولما كان ذلك الأمر قبيحاً شرعاً وطبعاً، أفرده بالنهي ولم يدرجه في جملة المحرمات الآتية. قوله: ﴿ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُمْ ﴾ المراد بالنكاح العقد، وبالآباء الأصول وإن علوا، فمتى عقد أحد من أصولك على امرأة، فلا يحل لك ولا لأحد من ذريتك تزوجها بحال، وهذه إحدى المحرمات بالصهر، وهن أربع، والباقي زوجة الابن، وأن لأحد من ذريتك تزوجها بحال، وهذه إحدى المحرمات بالصهر، وهن أربع، والباقي زوجة الابن، وأم الزوجة، وبنت الزوجة، وكل ذلك يحصل التحريم فيه بمجرد العقد، إلا بنت الزوجة فلا يحرمها إلا الدخول بأمها، والمراد بالدخول عند مالك التلذذ مطلقاً وإن لم تكن خلوة، وعند الشافعي لا بد من الدخول بأمها، والمراد بالدخول عند مالك التلذذ مطلقاً وإن لم تكن خلوة، وعند مالك لا بد من الوطء، وأما جارية الأب فلا تحرم على الابن، إلا إن تلذذ بها الأب، وسيأتي في الآية تحريم باقي الأصهار. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ ﴾ بيان لما التي بمعنى من، وعبر بما التي لغير العاقل غالباً، إشارة إلى أن النساء ناقصات عقل. قوله: ﴿ إِلاَّ ﴾ (لكن) أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع، لأن النهي مستقبل، والاستثناء ماض، ولا يستثنى الماضي من المستقبل، وفي الحقيقة الاستثناء من قولع بعد ﴿ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ﴾ الخ، وحكمه هذا الاستثناء دفع توهم أن من فعله، ولو قيل بالتحريم يحصل له هذا الوعيد الشديد. قوله: ﴿ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ﴾ علة لقوله: ﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ ﴾ وكان إمّا صلة، أو مجردة عن معنى الزمان الماضي، فهي بمعنى صار. قوله: ﴿ وَسَآءَ سَبِيلاً ﴾ مقول لقول محذوف معطوف على فاحشة، أي ومقولاً فيه ساء سبيلاً، ويحتمل أنه كلام مستأنف لإنشاء الذم. قوله: (ذلك) قدره إشارة إلى المخصوص بالذم، والمعنى أن من تزوج بزوجة الأب بعد التحريم، ارتكب أمراً قبيحاً، واستحق أشد البغض من الله، وسلك طريقاً قبيحاً خبيثاً.
قوله: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ ﴾ شروع في ذكر المحرمات بالنسب، وأمهات جمع أم، فالهاء زائدة في الجمع، للفرق بين جمع من يعقل ومن لا يعقل، وهذا على أن المفرد أم، وإما على أن المفرد أمهة فليست زائدة، وقد يتعاكس على الأول، فيقال في العقلاء أمات، وفي غيرهم أمهات. قوله: (تنكحوهن) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، لأن الذوات لا تحرم، وإنما التحريم متعلق بالفعل. قوله: (وشملت بنات الأولاد) أي ذكوراً وإناثاً. قوله: ﴿ وَأَخَوَٰتُكُمْ ﴾ جمع أخت، يقال في الأنثى أخت، وفي الذكر أخ، وجمع الأول أخوات، والثاني إخوة. قوله: (من جهة الأب أو الأم) أي ومن باب أولى الشقيقات. قوله: (أي أخوات آبائكم) أي مطلقاً شقيقات أو لأب أو لأم. قوله: (وأجدادكم) أي وإن علوا. قوله: (أي أخوات أمهاتكم) أي مطلقاً شقيقات أو لأب أو لأم. قوله: (وجداتكم) أي وإن علون. قوله: (ويدخل فيهن بنات أولادهن) أي الأخوات ذكوراً وإناثاً وإن سفلن، وفيه تغليب الأخت على الأخ لقربها، وفي نسخة أولادهم بميم الجمع، ويكون عائداً على الأخ، وغلبه على الأخت تشريفاً. قوله: ﴿ وَأُمَّهَٰتُكُمُ الَّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ ﴾ شروع في ذكر المحرمات بالرضاع. قوله: (قبل استكمال الحولين) ظاهره ولو كان مستغنياً عن اللبن، ولكن يقيد عند مالك بما إذا لم يستغن عن اللبن داخل الحولين، وإلا فلا يحرم كبعد الحولين. قوله: (خمس رضعات) أي متفرقات، وهذا مذهب الإمام الشافعي وابن حنبل، وأما مذهب مالك وأبي حنيفة فالمصة الواحدة كافية في التحريم. قوله: (كما بينه الحديث) أي الصحيح، لأن من قواعد الشافعي كلما صح الحديث كان مذهباً له، وأما مالك فكذلك ما لم يعارضه عمل أهل المدينة وإجماعهم، وإلا حمل الحديث عنده على أنه منسوخ، فعمل أهل المدينة حجة عند مالك دون غيره. قوله: ﴿ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ ﴾ أي وسواء كانت تلك الأخت بنتاً لمن أرضعتك أولاً، كما إذا رضعت امرأة ابن عمر وبنت زيد فإنها تصير أختاً له من الرضاعة. قوله: (ويلحق بذلك) أي بما ذكر من الأمهات والأخوات من الرضاعة. قوله: (من أرضعتهن موطوأته) ظاهره ولو بزنا، وهو كذلك عند مالك، وأما عند الشافعي فيقيد الوطء بكونه من نكاح أو شبهته، أو ملك أو شبهته، وأما بالزنا فلا يحرم عنده. قوله: ﴿ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ ﴾ جمع حجر وهو في الأصل مقدم الثوب، أطلق وأريد به قولهم في تربيته. قوله (موافقه للغالب) أي فإن الغالب عدم استغناء الريبية عن أمها فهي في حجر زوجها. قوله: (أي جامعتموهن) هذا مذهب الشافعي، وعند مالك يكفي مطلق التلذذ في التحريم. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ ﴾ نزلت رداً لقول بعض المنافقين حين تزوج النبي صلى الله عليه وسلم حليلة زيد وكان متسنياً له، إن محمداً تزوج حليلة ابنه. قوله: ﴿ بَيْنَ ٱلأُخْتَيْنِ ﴾ أي مطلقاً شقيقتين أو لأب أو لأم. قوله: (الجمع بينها وبين عمتها الخ) أي وضابط ذلك أن يقال كل اثنتين لو قدرت آية ذكر ما حرم فإنه يحرم جمعهما، وأما لو كان التقدير في أحد الجانبين يحرم وفي الآخر لا يحرم، فإنه لا يحرم، كجمع المرأة وأم زوجها أو بنته من غيرها، أو المرأة وجاريتها، كما قال الأجهوري: وَجَمعُ مَرْأَةً وأُمّ البَعْلِ أَوْ بِنْتُهُ أَوْ رقّهَا ذُو حَلّقوله: (ويطأ واحدة) أي ويحرم الأخرى. قوله: ﴿ إِلاَّ ﴾ (لكن) ﴿ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ هذا استثناء منقطع كالأول، ولم يقل هنا﴿ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً ﴾[النساء: ٢٢] لعله بالقياس على ما تقدم. قوله: (بعض ما ذكر) أي وهو نكاح الأختين.
قوله: ﴿ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ أُمَّهَٰتُكُمْ ﴾ فهو مندرج في سلك المحرمات، ولذا قدر المفسر قوله حرمت عليكم.
﴿ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ ﴾ بفتح الصاد هنا باتفاق السبعة، وأما في غير هذا الموضوع فقرأ الكسائي بالكسر، فعلى الفتح هو اسم مفعول، وفاعل الإحصان إنا الأزواج أو الأولياء أو الله، وعلى الكسر اسم فاعل بمعنى إنهن أحصن أنفسهن، واعلم أن الإحصان يطلق على التزوج كما في هذه الآية، وعلى الحرية كما في قوله:﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ﴾[النساء: ٢٥] وعلى الإسلام كما في قوله:﴿ فَإِذَآ أُحْصِنَّ ﴾[النساء: ٢٥] وعلى العفة كما في قوله:﴿ مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ ﴾[النساء: ٢٥] وقوله: (أن تنكحوهن) أي تعقدوا عليهن في العصمة وما ألحق بها كالعدة، وقد أشار لذلك بقوله: (قبل مفارقة أزواجهن). قوله: (أو لا) أي بل كن إماء أو كتابيات. قوله: ﴿ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ ﴾ الاستثناء متصل، ويشير له قول المفسر وإن كان لهن أزواج، ولكن فيه شائبة انقطاع من وجهين: الأول أن المستثنى الوطء، والمستثنى منه العقد، والثاني أن المستثنى منه المتزوجات بالفعل، والمستثنى من كن متزوجات، فإنه بمجرد السبي تنقطع عصمة الكافر. قوله: (نصب على المصدر) أي المؤكد لعامله المعنوي المستفاد من قوله حرمت، فإن التحريم والفرض والكتب بمعنى واحد. قوله: (بالبناء للفاعل والمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان، ولفاعل هو الله، وحذف للعلم به. قوله: ﴿ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ ﴾ أي غير ما ذكر لكم، وهذا عام مخصوص بغير ما حرم بالسنة كباقي المحرمات من الرضاع، والجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، والملاعنة على ملاعنتها، والمعتدة، فقوله: (أي سوء ما حرم عليكم من النساء) أي كتاباً وسنة. قوله: ﴿ أَن تَبْتَغُواْ ﴾ علة لقوله: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ ﴾ أي أحل لكم لأجل أن تبتغوا. قوله: (بصداق) أي بالتزوج، وقوله: (أو ثمن) أي بالملك. قوله: (متزوجين) أي أو متملكين بدليل قوله: (أو ثمن). وقوله: ﴿ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ ﴾ حال أخرى، وسمى الزنا سفاحاً، لأن الزانيين لا يقصدان إلا صبّ الماء، ولا يقصدان نسلاً، فإن الأصل في السفح الصب. قوله: ﴿ فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ ﴾ أشار المفسر بقوله: (أي من) إلى أن ما واقعة على من يعقل وهن الزوجات، والمراد الزوجات اللاتي تمتعتم به منهن، فالآية واردة في النكاح الصحيح، فهو بمعنى قوله تعالى:﴿ وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾[النساء: ٤] الآية، وكرره لتتميم حكم الحل، وقيل إن الآية وردت في نكاح المتعة، وكان في صدر الإسلام حلالاً، فكان الرجل ينكح المرأة وقتاً معلوماً ثم يسرحها، وقد نسخ هذا، فعلى هذا الآية منسوخة. قوله: (بالوطء) أي ومقدماته. قوله: (مهورهن) سمى المهر أجراً لأنه في مقابلة الاستمتاع لا الذات. قوله: (فرضتم لهن) أشار بذلك إلى أن الفريضة مفعول لمحذوف وهو متصل بما قبله، فإن لم يكن فرض لها شيئاً وقد دخل بها، فإنه يلزمه مهر مثلها. قوله: ﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ أي ولا عليهن. قوله: (أنتم وهن) أي إن كن رشيدات، أو أولياؤهن إن كن سفيهات. قوله: (من حطها الخ) بيان لما، والكلام موزع، والمعنى فلا جناح عليكم فيما تراضيتم به من الحط، ولا جناح عليهن فيما تراضين من أخذ الزيادة.
قوله: ﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ ﴾ من شرطية أو موصولة، ويستطع إما فعل الشرط أو صلة الموصول، وقوله: و ﴿ مِنكُمْ ﴾ أي الأحرار وهو شروع في بيان حكم نكاح الإماء للأحرار، فأفاد أنه لا يجوز للحر أن ينكح الأمة إلا بشروط ثلاثة: أن لا يجد للحرائر طولاً، وأن تكون تلك الأمة مؤمنة، وأن يخشى على نفسه العنت، وذلك الحكم يخصص ما تقدم في قوله:﴿ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ ﴾[النساء: ٣].
وقوله:﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ ﴾[النساء: ٢٤] وعلة حرمة نكاح الأمة لئلا يصير الولد رقيقاً لسيد الأمة، فإن كان لا يولد له أو لها أو كان ولده يعتق على سيدها مثل أمة الجد، فإنه يجوز له تزوج الأمة بشرط كونها مؤمنة. قوله: ﴿ أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ﴾ أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول لقوله طولاً على حد،﴿ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ﴾[البلد: ١٤-١٥].
قوله: (فلا مفهوم له) أي فإذا وجد طولاً لحرة كتابية، فلا يجوز له أن يتزوج بالأمة. قوله: ﴿ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم ﴾ إما جواب الشرط أو خبر المبتدأ، وقدر المفسر العامل مؤخراً لإفادة الحصر. قوله: ﴿ مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ﴾ جمع فتاة وهي الشابة من النساء. قوله: (تفضل الحرة فيه) أي الإيمان بأن تكون من كبار الأولياء وأرباب الأسرار مثلاً. قوله: ﴿ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ ﴾ أي من جنس بعض في الدين والنسب، كقول علي كرّم الله وجهه بيت شعر من البسيط: النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيلِ أَكْفَاءٌ أَبُوهُم آدَمُ وَالأُمُّ حَوَّاءقوله: (من غير مطل) أي عدم أداء مع القدرة عليه. قوله: (حال) أي من قوله: ﴿ فَٱنكِحُوهُنَّ ﴾ أي حال كونهن عفائف عن الزنا، وهذا شرط كمال على المعتمد. قوله: ﴿ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ ﴾ حال مؤكدة. قوله: ﴿ وَلاَ مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٍ ﴾ جمع خدن بالكسر وهو الصاحب والخليل، وإنما ذكره بعده لأنه كان في الجاهلية الزنا قسمان: جهراً وسراً، فكان الأكابر منهم يحرمون القسم الأول ويحلون القسم الثاني. قوله: (وفي قراءة بالبناء للفاعل) أي فهما قراءتان سبعيتان، والمعنى على هذه القراءة أحصن أنفسهن. قوله: ﴿ فَإِنْ أَتَيْنَ ﴾ شرط في الشرط، وقوله: ﴿ فَعَلَيْهِنَّ ﴾ الخ، جواب الثاني، والثاني وجوابه جواب الأول على حد: إن جئتني فإن لم أكرمك فعبدي حر. قوله: (الأكابر) إنما قيد بذلك لأن حد غير البكر من الأحرار الرحم وهو لا ينتصف. قوله: (ويغرَّ بن نصف سنة) هذا مذهب الإمام الشافعي، وأما عند مالك فلا تغريب على الرقيق، ذكراً أو أنثى. قوله: (ولم يجعل الإحصان الخ) إنما احتاج للسؤال والجواب، لأنه فسر الإحصان بالتزوج، وإلا فلو فسره بالإسلام كما فعل غيره لما احتاج لذلك كله. قوله (وأصله المشقة) أي أصله الثاني، وإلا فأصله الأول الكسر بعد الجبر، ثم نقل لكل مشقة تحصل للإنسان. قوله: (والعقوبة في الآخرة) أي إن لم يقم عليه الحد في الدنيا على المعتمد من أن الحدود جوابر. قوله: (فلا يحل له نكاحها) محل ذلك إن لم يخف العنت في أمة معينة ولم يجد ما يكفه عنها من الحرائر، فعند مالك يجوز له نكاحها لأنه عادم للحرائر حكماً. قوله: (وعليه الشافعي) أي ومالك وأحمد، وقال أبو حنيفة بجواز نكاح الأمة لمن ليس تحته حرة بالفعل، ولو كان واجداً لمهرها، وخالف في اشتراط إسلام الأمة. قوله: (ولو عدم) أي الطول وخاف العنت. قوله: ﴿ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ أي فالصبر أجمل حيث أمكن التحيل على ذلك لقوله في الحديث:" من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء "، ولقوله تعالى:﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾[النور: ٣٣].
قوله: (بالتوسعة في ذلك) أي في نكاح الأمة.
قوله: ﴿ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾ أي يفصل ويظهر. قوله: (فتتبعوهم) أي على منوال شرعكم. قوله: ﴿ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾ أي يقبل توبتكم إذا تبتم. قوله: (عن معصيته) أي اللغوية، وإلا فقبل التشريع لم تكن معصية. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾ أي يحب ذلك ويرضاه، وليست الإرادة على حقيقتها، لأنه يقتضي أن إرادة الله متعلقة بتوبة كل، مع أنه ليس كذلك، فالمعنى الله يحب توبة العبد فيتوب عليه، ومن هنا قيل إن قبول التوبة قطعي. قوله: (أو المجوس) أي فكانوا يجوزون نكاح الأخوات من الأب وبنت الأخ، فلما حرمهن الله صاروا يقولون للمؤمنين إنكم تحلون نكاح بنت العمة وبنت الخالة، فلا فرق بينهما وبين الأخ والأخت. قوله: (فكونوا مثلهم) أي لأن المصيبة إذا عمت هانت. قوله: (يسهل عليكم أحكام الشرع) أي فلم يجعلها ثقيلة عسرة كما كان في الأمم السابقة، قال تعالى:﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ ﴾[البقرة: ١٨٥]، وقال تعالى:﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾[الحج: ٧٨].
قوله: ﴿ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ﴾ هذا كالتعليل لقوله: ﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ﴾.
قوله: (لا يصبر عن النساء) أي لما في الحديث" لا خير في النساء ولا صبر عنهن، يغلبن كريماً ويغلبن لئيماً، فأحب أن أكون كريماً مغلوباً، ولا أحب أن أكون لئيماً غالباً "وقوله: (أو الشهوات) أي مطلقاً ومن جملتها النساء، وفي الحديث:" إن لنفسك عليك حقا "قوله: ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الخ، لما بين النهي عن بعض الفروج وإباحة بعضها، شرع بين النهي عن بعض الأموال والأنفس. قوله: ﴿ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ ﴾ أي بإنفاقها في المعاصي، والمراد بالأكل مطلق الأخذ، وإنما عبر بالأكل لأنه معظم المقصود من الأموال. قوله: (كالربا والغصب) أي والسرقة والرشوة وغير ذلك من المحرمات. قوله: ﴿ إِلاَّ ﴾ (لكن) أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع. قوله: (وفي القراءة بالنصب) أي على أن تكون ناقصة وتجارة خبرها واسمها محذوف، وأما على الرفع فتكون تامة، والقراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ ﴾ أي وأما إذا لم تكن عن تراض، بل كانت غصباً أو غشاً أو خديعة، فليست حلالاً، ويشترط أن تكون على الوجه المرضي في الشرع، وخص التجارة بالذكر، لأن غالب التصرف في الأموال بها لذوي المروءات. قوله: (أيا كان في الدنيا الخ) أي بأن يزني وهو محصن، فيرتب عليه الرجم، أو يقتل أحداً فيقتل، أو يقتل نفسه غماً وأسفاً، لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فهو يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً فيها أبداً "قوله: (أي ما نهى عنه) أي وهو قتل النفس أو أكل الأموال بالباطل. قوله: (تأكيد) أي لأن الظلم والعدوان بمعنى واحد، وهو تجاوز الحد.
قوله: ﴿ وَكَانَ ذٰلِكَ ﴾ أي الإصلاء المذكور. قوله: (وهي ما ورد عليها وعيد) أي واحد، ولا تحد بالعد. قوله: (أقرب) أي منها للسبعين التي قيل بها. قوله: (بالطاعات) أي يفعلها زيادة على الاجتناب كذا قيل، وقيل لا يشترط ذلك، بل تكفر الصغائر باجتناب الكبائر فقط، فإن اجتناب الكبائر من أعظم الطاعات، وهو المعتد. قوله: (بضم الميم) أي فيكون مصدراً على صورة المفعول، لأن مصدر الرباعي يأتي على صورة اسم المفعول ومفعول محذوف، أي ندخلكم الجنة إدخالاً، وقوله: (وفتحها) أي فيكون اسم مكان، فقوله: (أي إدخالاً أو موضعاً) لف ونشر مرتب، ويحتمل أن كلاً لكل لكن الأول أقرب، وهما سبعيتان إلا في الإسراء فبالضم لا غير. قوله: (هو الجنة) هذا يناسب كونه اسم مكان، وأما على كونه مصدراً، فالمراد أن قرار الإدخال الكريم الجنة، ومعنى كونه كريماً أنه لا نكد فيه ولا تعب، بل فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قوله: ﴿ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ ﴾ سيأتي في المفسر سبب نزولها، وهو تمني أم سلمة كونها من الرجال، وذلك لأن الله فضل الرجال على الناس بأمور منها: الجهاد والجمعة والزيادة في الميراث وغير ذلك، والتمني هو التعلق بحصول أمر في المستقبل، عكس التلهف لأنه التعلّق بحصول أمر في الماضي، فإن تعلق بانتقال ما لغيره له أو لغيره مع زواله عنه، فهو حسد مذموم، وهو معنى قوله تعالى:﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾[النساء: ٥٤] وفي ذلك قال ابن حنبل: أَلاَّ قُلْ لِمَنْ بَاتَ لي حَاسِداً أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْت الأدَبَأَسَأت عَلَى اللهِ في فِعْلِهِ كَأنَّكَ لَمْ تَرْضَ لي مَا وَهَبَفَكَانَ جَزَاؤُكَ أَنْ خَصَّنِي وسَدَّ عَلَيْكَ طَرِيقُ الطَّلَبوإن تعلق بمثل ما لغيره مع بقاء نعمته، فإن كان تقوى أو صلاحاً وإنفاق مال في الخير فهو مندوب، وهو المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام" لا حد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الخير، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس "وأما إن كان تمني المال لمجرد الغنى فهو جائز. قوله: (وغيره) أي من أنواع البر، كالصلاة والصوم وغيرهما. قوله: (من طاعة أزواجهن) أي لما في الحديث:" لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها "وفي الحديث:" إذا بات الرجل غضباناً على زوجته باتت الملائكة تلعنها إلى الصباح "قوله: (أم سلمة) أي وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ترتب على تمنيها نزول تلك الآية، ونزول قوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ ﴾[الأحزاب: ٣٥] إلى قوله:﴿ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾[الأحزاب: ٣٥].
قوله: (ليتنا كنّا رجالاً) أي ينتقل لنا وصفهم، ولا خصوصية لأم سلمة بهذا التمني، فقد تمنى مثلها جماعة من النسوة، وقيل سبب نزولها تمني الرجال أن الله كما فضلهم على النساء في الدنيا، يفضلهم عليهن في الآخرة. قوله: (بهمزة ودونها) أي فهما قراءتان سبعيتان. والحاصل أن هذه المادة إن وردت بغيرهما فالقراءة بدون الهمزة لا غير، نحو:﴿ سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾[البقرة: ٢١١]، وإن وردت لغائب مع الواو أو الفاء نحو:﴿ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ﴾[الممتحنة: ١٠]، فالقراءة بالهمزة لا غير. قوله: ﴿ وَلِكُلٍّ ﴾ أي لكل من مات من الرجال أو النساء موالي، أي ورثة يرثونهم، وقوله: ﴿ مِمَّا تَرَكَ ٱلْوَٰلِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ ﴾ أي من المال الذي تركه الوالدان والأقربون إن ماتوا، وهذا حل المفسر، وقال غيره إن قوله: ﴿ ٱلْوَٰلِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ ﴾ بيان للموالي فيكونون وارثين لا موروثين، وكل صحيح، والأقرب الأول وعليه ابن عباس، والقصد بذلك نسخ ما كانت عليه الجاهلية من توريث الخلفاء، فكان الواحد منهم يأخذ بيمين صاحبه ويقول له دمي دمك وهدمي هدمك، أعقل عنك وتعقل عني، وأرثك وترثني، وقد كان في صدر الإسلام لكل واحد من صاحبه السدس، ثم نسخ بهذه الآية، أو بقوله تعالى:﴿ وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾[الأنفال: ٧٥، الأحزاب: ٦] كما يأتي، وقوله: دمي دمك أي أنت ولي دمي وأما ولي دمك، وقوله: هدمي هدمك بفتح الحاء وسكون الدال أي إذا وقع بيننا قتل كان المقتول منا هدراً، وقوله أعقل عنك وتعقل غني، أي إذا ألزمتك دية شاركتك فيها وأنت كذلك. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ﴾ مبتدأه خبره قوله: ﴿ فَآتُوهُمْ ﴾ وقد فرضه المفسر في تحالف الجاهلية، وبعضهم فرضه في مؤاخاة النبي بين المهاجرين والأنصار، وكل صحيح، وعلى كل فالميراث لهم منسوخ. قوله: (بألف ودونها) أي فهما قراءتان سبعيتان. وروي عن حمزة التشديد مع حذف الألف. قوله: ﴿ فَآتُوهُمْ ﴾ (الآن) أي في صدر الإسلام، وقد علمت أن المفسر فرضه في تحالف الجاهلية، ويجوز فرضه في مخالفة المهاجرين مع الأنصار. قوله: (وهذا منسوخ) أي قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ﴾ الآية. قوله: (بقوله وأولوا الأرحام) وقيل منسوخ بالآية قبلها، والواقع أن كلاً ناسخ لها.
قوله: ﴿ ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ ﴾ سبب نزولها أن سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار، نشزت زوجته واسمها حبيبة بنت زيد فلطمها، فانطلق بها أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال لقد لطم كريمتي، فقال النبي لتقتص من زوجها، فذهبت مع أبيها، فقال له عليه الصلاة والسلام: ارجعوا إن جبريل أتاني وقرأ الآية، ثم قال أردنا أمراً وأراد الله أمراً، وما أراد الله خير. وهذا كلام مستأنف قصد به بيان تفضيل الرجال على النساء، وأفاد أن التفضيل لحكمتين: الأولى وهيبة، والثانية كسيبة، واعلم أن بعض الرجال أفضل من جنس النساء، فلا ينافي أن بعض أفراد النساء أفضل من بعض أفراد الرجال، كمريم بنت عمران، وفاطمة الزهراء، وخديجة، وعائشة. قوله: (مسلطون) أي قيام سلطنة، كقيام الولاة على الرعايا فالمرأة رعية زوجها، وفي الحديث:" كل راعٍ مسؤول عن رعيته "قوله: (ويأخذون على أيديهن) أي يمنعونهن من كل مكروه كالخروج من المنزل. قوله: ﴿ بِمَا فَضَّلَ ﴾ الباء سببية وما مصدرية، أي بتفضيل الله، والبعض الأول الرجال، والثاني النساء، وأبهم البعض إشارة إلى أن التفضيل بالجملة لا بالتفصيل. قوله: (بالعلم الخ) أشار المفسر لبعض الأمور التي فضلت الرجال بها على النساء، ومنها زيادة العقل والدين، والولاية والشهادة والجهاد والجمعة والجماعات، وكون الأنبياء والسلاطين من الرجال، ومنها كون الرجل يتزوج بأربع في الدنيا، وبأكثر في الجنة، دون المرأة، وكون الطلاق والرجعة بيد الرجل. قوله: ﴿ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ ﴾ يقال فيه ما قيل في قوله: ﴿ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ ﴾ أي وبإنفاقهم، ومن جملة الإنفاق دفع المهر. قوله: (مطيعات لأزواجهن) أي في غير معصية الله. قوله: (في غيبة أزواجهن) أي عنهم. قوله: ﴿ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ ﴾ أشار المفسر إلى أن ما اسم موصول، أو نكرة موصوفة، والعائد محذوف قدره بقوله هن، والباء سببية أي بسبب الذي، أو شيء حفظهن الله به، ولفظ الجلالة فاعل حفظ، والمعنى أن الله كما أوصى الأزواج بحفظ النساء، كذلك لا تسمى النساء صالحات إلا إذا حفظهن الأزواج، لأنه كما يدين الفتى يدان، ويحتمل أن ما مصدرية، والمعنى بحفظ الله، أي توفيق الله لهن. قوله: (عصيانهن لكم) أي فيما تأمرونهن به. قوله: (بأن ظهرت أماراته) أي النشوز بأن ظننتم ذلك. قوله: ﴿ فَعِظُوهُنَّ ﴾ أي: بنحو: اتقي الله واحذري عقابه، فإن الرجل له حق على المرأة، وهذا الترتيب واجب، وأخذ وجوبه من السنة، قوله: (غير مبرح) أي وهو الذي لا يكسر عظماً، ولا يشين جارحة، واعلم أن الهجر والضرب لا يسوغ فعلهما إلا إذا تحقق النشوز، ويزاد في الضرب ظن الإفادة، وأما الوعظ فلا يشترط فيه تحقق النشوز، ولا ظن الإفادة. قوله: (طريقاً إلى ضربهن ظلماً) أي كأن توبخوهن على ما كان منهن، فليلجأ الأمر إلى الخصام والضرب، فإذا عدن للنشوز رجع الترتيب الأول، ولا يضربن من أول وهلة. قوله: (فاحذروه أن يعاقبكم إن ظلمتموهن) أي فالمطلوب أن تستوصوا بهن خيراً، لما في الحديث:" استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً ". قوله: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ ﴾ الخطاب لولاة الأمور أو لأشراف البلدة التي هما بها. قوله: (والإضافة للاتِّساع) أي والأصل شقاقاً بينهما، فأضيف المصدر إلى ظرفه مثل مكر الليل. قوله: ﴿ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ أي إن وجد كل من الأهلين معاً، فإن لم يوجدا، أو وجد أحدهما دون الآخر، اختار ولي الأمر رجلين، وبعثهما واحداً عنها وواحداً عنه، واعلم أن كون الحكمين من الأهلين عند وجودهما، مندوب عند الشافعي، واجب عند مالك. قوله: (إن رأياه) أي صواباً ومصلحة. قوله: (أي الحكمان) ويحتمل أن يعود الضمير على الزوجين، والمعنى أن يرد الزوجان إصلاحاً معاشرة بالمعروف وترك ما يسيء تحصل الموافقة بينهما، وقوله: (بين الزوجين) ويحتمل أن يعود على الحكمين، والمعنى لا يحصل اختلاف بين الحكمين، بل تحصل الموافقة بينهما، فيحكمان بما أنزل الله، فتحصل أن الضميرين يصح عودهما معاً على الزوجين أو الحكمين، أو الأول للزوجين، والثاني للحكمين وبالعكس، وقوله: ﴿ إِصْلَٰحاً ﴾ أي مصلحة، وإليه يشير قول المفسر بعد ذلك من إصلاح أو فراق.
قوله: ﴿ وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ ﴾ الخطاب للمكلفين، لأن العبادة تتوقف على معرفة المعبود والنية، ولكن المراد ما يشمل القربة التي هي ما تتوقف على معرفة المتقرب إليه، والطاعة التي لا تتوقف على شيء. قوله: (وحدوده) حيث فسر العباد بالتوحيد، كان قوله بعد ذلك: ﴿ وَلاَ تُشْرِكُواْ ﴾ تأكيداً، ولكن الأولى التعميم كما قدمناه، فيكون قوله: ﴿ وَلاَ تُشْرِكُواْ ﴾ تأسيساً، وهذا نظير قوله تعالى:﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً ﴾[الكهف: ١١٠].
قوله: ﴿ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ﴾ يحتمل أن شيئاً مفعول به، والمعنى لا تشركوا به شيئاً من الأشياء صنماً أو غيره، ويحتمل أنه مفعول مطلق صفة لمصدر محذوف، والمعنى إشراكاً شيئاً جلياً أو خفياً كالرياء والسمعة. قوله: ﴿ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ ﴾ قرن بر الوالدين بعبادة الله، إشارة لتأكيد حقهما وتخويفاً من عقوقهما، وقدر المفسر أحسنوا إشارة إلى أن ﴿ إِحْسَاناً ﴾ مفعول مطلق لفعل محذوف، والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلق بأحسنوا المقدر، وإليه يشير المفسر، ويحتمل أنه متعلق بإحساناً؛ ولا يقال إن المصدر لا يعمل في متقدم، لأنه يقال محله في غير الجار والمجرور والظرف. قوله: (براً ولين جانب) أي بأن يعظمهما ويخدمهما ويفعل معهما أنواع البر، وقد بين أنواعه في قوله تعالى:﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ﴾[الإسراء: ٢٣] الآية، وإنما خص حالة الكبر لأن عندها يثقلان، وإنما تكررت الآيات المتعلقة بالوصية على الوالدين دون العكس، لأن الله جعل الرأفة القائمة بقلوب الوالدين على الأولاد، مغنية عن التكليف بالقيام بحقوق الأولاد بخلاف الأولاد، فلذا شدد على الأولاد دون الوالدين. قوله: ﴿ وَبِذِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾ كرر الباء إشارة إلى تأكيد حق القرابة لما في الحديث:" والرحم معلقة بالعرش تقول يا رب من وصلني فأوصله ومن قطعني فاقطعه "قوله: ﴿ وَٱلْيَتَٰمَىٰ ﴾ جمع يتيم وهو من مات أبوه، ويستمر يتمه إلى البلوغ، فإذا بلغ زال يتمه. قوله: ﴿ وَٱلْمَسَٰكِينِ ﴾ جمع مسكين وهو من التصقت يده بالتراب، والمراد ما يشمل الفقير. قول: (أو النسب) أو مانعة خلو تجوز الجمع، لما في الحديث:" الجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام، وجار له حقان حق الجوار وحق الإسلام، وجار له حق واحد حق الجوار، وهو المشرك من أهل الكتاب "قوله: (الرفيق في سفر) ومثله الملاصق لك في نحو درس علم أو صلاة. قوله: (المنقطع في سفر) المناسب تفسيره بالغريب كان منقطعاً أو لا. قوله: (من الأرقاء) لا مفهوم له بل مثله الدواب المملوكة، إنما خص الأرقاء لقوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ ﴾[الإسراء: ٧٠] فالإحسان إليهم متأكد لقوله في الحديث:" إن الله ملككم إياهم ولو شاء ملكهم إياكم "قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ﴾ علة لمحذوف تقديره أمركم الله بذلك فلا تفخروا إن الله الخ. قوله: (متكبراً) أي معجباً بنفسه مستحقراً لغيره. قوله: (بما أوتي) أي من النعم. قوله: (بما يجب عليهم) أي من الزكاة وغيرها. قوله: ﴿ بِٱلْبُخْلِ ﴾ (به) أي بما يجب. قوله: (من العلم) أي كصفاة النبي الموجودة في التوراة والإنجيل. قوله: ﴿ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ ﴾ علة لخبر المبتدأ المحذوف. قوله: (مرائين لهم) أشار به إلى أن رئاء حال من الواو في ينفقون. قوله: (كهؤلاء) أي الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون، ومن ينفق ماله مرائياً، ومن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.
قوله: ﴿ فَسَآءَ قِرِيناً ﴾ ساء بمعنى بئس تساق للذم فهي نظيرتها في المعنى والعمل، وقريناً تمييز، والأصل فساء القرين قرينهم، وقدر المخصوص بالذم بقوله: (هو) واعلم أن كل إنسان له قرين من الشياطين يوسوس له في الدنيا ويكون معه في النار في سلسلة واختلف فقيل الذم في الدنيا على مطاوعته فيما يأمره به، وقيل في الآخرة على مقارنته له في السلسلة في النار. قوله: (أي أي ضرر) أشار بذلك إلى أن ماذا استفهام وهو للإنكار والتوبيخ. قوله: (ولو مصدرية) أي والكلام على تقدير في، وإليه يشير المفسر بقوله أي لا ضرر عليهم فيه، فالتقدير وماذا عليهم في إيمانهم. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ المقصود من ذلك إظهار العدل في المجازاة على السيئات وكمال الفضل في المجازاة على الحسنات. قوله: (أصغر نملة) وقيل هو الهباء الذي يكون في الشمس، فقوله: (من مؤمن) أي لا من كافر، بل تكون هباءً منثوراً. قوله: (وفي قراءة بالرفع) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ يُضَٰعِفْهَا ﴾ أي يضاعف ثوابها. قوله: (لا يقدره) أي لا يحصره ولا يعده، بل من محض فضله وكرمه. قوله: ﴿ فَكَيْفَ ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، قدره المفسر بقوله: (حال الكفار) وهو استفهام تعجبي استعظامي، أي تعجب من حالهم، فإنه بلغ الغاية في الفظاعة والشناعة، لعظيم ما رأوه من الأهوال العظيمة. قوله: (إذا جئنا) ظرف متعلق بالمبتدأ المحذوف. قوله: ﴿ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ ﴾ أي أمم الأنبياء الكفار حين ينكرون تبليغ أنبيائهم لهم الرسالة. وحاصل ذلك، أنه بعد انفضاض الموقف تحضر الأنبياء الكفار حين ينكرون تبليغ أنبيائهم لهم الرسالة. وحاصل ذلك، أنه بعد انفضاض الموقف تحضر الأنبياء مع أممهم، فيقول الله للأمم: ألم تبلغكم الرسل الشرائع، فيقولون: يا ربنا مت بلغونا، فيسأل الله الرسل: ألم تبلغوهم ما أرسلتكم به؟ فيقولون: بلى، فيقول الله للرسل: هل لكم شهود؟ فيقولون: محمد وأمته، فيؤتى بهم فيشهدون على الأمم بالتكذيب وللأنبياء بالبراءة، ثم بعد ذلك إن وقع منهم إنكار تنطق عليهم ألسنتهم، بل وجميع أعضائهم والأزمنة والأمكنة بتكذيبهم، وهذا الاحتمال هو الأظهر، ويحتمل أن اسم الإشارة عائد على المشركين مطلقاً من أول الزمان إلى آخره، أو عائد على الكفار والمنافقين من أمته صلى الله عليه وسلم وإنما رجع للنبي وأمته على الاحتمال الأول، وإن كانت الدعوى من معصوم، تبكيتاً لكفار الأمم السابقة، وإظهاراً لشرف هذه الأمة وعظم قدرها. قوله: (يوم المجيء) أشار بذلك إلى أن التنوين في يومئذ عوض عن جملة جئنا من كل أمة إلى آخرها.
قوله: ﴿ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي يتمنى الكفار مطلقاً. قوله: ﴿ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ ﴾ أي رسول كل أمة فأل فيه للجنس. وقوله: (أي أن) أشار بذلك إلى أن ﴿ لَوْ ﴾ مصدرية. قوله: (بالبناء للمفعول) أي مع تخفيف السين، وقوله: (للفاعل الخ) هذه قراءة ثانية، وقوله: (ومع إدغامها) قراءة ثالثة. فالحاصل أن القراءات ثلاث: البناء للمفعول مع تخفيف السين، والبناء للفاعل مع التخفيف بحذف إحدى التائين، والتشديد بقلب التاء سيناً وإدغامها في السين، والبناء للفاعل مع التخفيف بحذف إحدى التائين، والتشديد بقلب التاء سيناً وإدغامها في السين. قوله: (بأن يكون تراباً مثلها) أو بأن تنشق الأرض وتبتلعها أو يدفنون فيها، والأقرب ما ذكره المفسر، لأن خير ما فسرته بالوارد. قوله: ﴿ وَلاَ يَكْتُمُونَ ﴾ معطوف على ﴿ يَوَدُّ ﴾ فأخبر عنهم بأنهم يوم القيامة بقع منهم شيئان: تمني أن الأرض تستوي بهم، وعدم كتمانهم عن الله حديثاً. قوله: (وفي وقت آخر الخ) جواب عن سؤال، وهو أم هذه الآية أفادت عدم الكتمان، وآية الأنعام أفادت إثباته. وحاصل الجواب أن الكتمان يقع منهم ابتداء وعدمه انتهاء.
قوله: ﴿ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ ﴾ إنما نهى عن القربان للمبالغة في النهي، وقوله: ﴿ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ ﴾ إن قلت: إن السكران لا عقل عنده فكيف ينهى؟ أجيب: بأن المراد لا تسكروا في أوقات الصلوات. قوله: (لأن سبب نزولها) اختصر المفسر السبب. وحاصله أنه روي عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قال: صنع لنا ابم عوف طعاماً فدعانا، فأكلنا وأسقانا خمراً قبل أن تحرم الخمر، فأخذت منا، وحضرت الصلاة، أي صلاة المغرب، فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون لا نعبد ما تعبدون، فنزلت الآية، فحرمت في أوقات الصلاة حتى نزلت آية المائدة فحرمت مطلقاً. قوله: ﴿ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ﴾ حتى جاره بمعنى إلى، والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة، وما يجوز فيها أن تكون بمعنى الذي، أو نكرة موصوفة، والعائد على كل محذوف أو مصدرية ولا حذف. قوله: (ونصبه على الحال) أي فهو معطوف على قوله: ﴿ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ ﴾.
قوله: (وهو يطلق) أي لفظ جنب. قوله: ﴿ إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ﴾ الأحسن أن إلا بمعنى غير صفة لجنبا، ومفهومة أن الجنب المسافر يكفيه التيمم وهو كذلك. قوله: (سيأتي) أي في قوله: ﴿ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ ﴾ الخ. قوله: (وقيل المراد النهي الخ) هذا تفسير آخر للآية، وبه أخذ الإمام الشافعي، وقال مالك بحرمة مرور الجنب في المسجد إذا كان غير مضطر. قوله: (يضره الماء) أي فيتيمم ويصلي، ولا إعادة عليه عند مالك وأبي حنيفة، وقال الشافعي بالإعادة. قوله: (أي مسافرين) أي ولو كان غير قصر. قوله: (أو محدثون) أي بالريح مثلاً. قوله: (وهو المكان المعد لقضاء الحاجة) أي في الأصل، ثم أطلق على نفس الحاجة من إطلاق المحل، وإرادة الحال يدل عليه. قوله: (أي أحدث). قوله: (وهو الجس باليد) أي ولو كان من غير قصد أو وجدان لغير محرم وعليه الشافعي، وقال مالك يقيد بالقصد أو الوجدان، وأخذ أبو حنيفة بكلام ابن عباس، فالجس باليد عنده لا يوجب الوضوء مطلقاً. قوله: (وهو راجع إلى ما عدا المرضى) أي وأما المرضى فيتيممون مع وجوده، لأنهم لا يقدرون على استعماله، أو يراد بعدم الوجود حقيقة أو حكماً فيشمل المرضى، لأن المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً. قوله: (بعد دخول الوقت) إنما قيد بذلك لأن التيمم لا يصح قبله. قوله: (تراباً طاهراً) هكذا فسر به الشافعي، وقال مالك الصعيد هو ما صعد على وجه الأرض من أجزائها، ولم يحرق بالنار، ولم يكن من الجواهر النفسية كالتراب أو الرمل أو الحجارة أو غير ذلك. قوله: (مع المرفقين) أي فمسحهما واجب وبه أخذ الشافعي، وقال مالك إن التكميل للمرفقين سنة، وإنما الفرض عنده مس اليدين للكوعين كما هو ظاهر الآية. قوله: (منه) قدره لبيان المسموح به، كما صرح به في آية المائدة. قوله: (ومسح يتعدى بنفسه) أي فعليه تكون الباء زائدة، وقوله: (وبالحرف) أو وعليه تكون الباء للتعدية، لأن سيبويه حكى: مسحت رأسه وبرأسه. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً ﴾ تعليل للترخيص المستفاد مما قبله. قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ كلام مستأنف سيق لتعجب النبي والمؤمنين من سوء حالهم. قوله: ﴿ إِلَى ٱلَّذِينَ ﴾ أبهمهم لفظاعة حالهم وشناعته. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ ﴾ أي التوراة. قوله: (وهم اليهود) أي بعض علمائهم. قوله: (بالهدى) قدره إشارة إلى أن المقابل محذوف. والمعنى أنهم يأخذون الضلالة بدل الهدى، والمراد بالضلالة الكفر وتكذيب سيدنا محمد، والمراد بالهدة الإيمان وتصديقه. قوله: ﴿ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ ﴾ هذا ترق في التعجيب. والمعنى أنهم اختاروا الضلالة لأنفسهم، ومع ذلك يحبونها لغيرهم، قال تعالى:﴿ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً ﴾[النساء: ٨٩] روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود، كانت يأتيان رأس المنافقين عبد الله بن أبي رهطة يثبطانهم عن الإسلام، وعنه أيضاً أنه نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم، كانا إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لويا لسانهما وعاباه. قوله: (لتجتنبوهم) أي لتتحرزوا منهم.
قوله: ﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ ﴾ الباء حرف جر زائد، ولفظ الجلالة فاعل كفى. قوله: ﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً ﴾ تأكيداً لما قبله وهو معنى قوله تعالى:﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ ﴾[محمد: ١١].
قوله: ﴿ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ خبر مقدم لمبتدأ محذوف، قدره المفسر بقوله قوم، وقوله: ﴿ يُحَرِّفُونَ ﴾ نعت لذلك المحذوف، وحذف المنعوت كثير إن تقدمه من التبعيضية على حد: منا ظعن ومنا أقام، أي فريق ظعن، وفريق أقام، وهذا الكلام تفصيل لبعض قبائحهم. قوله: ﴿ ٱلْكَلِمَ ﴾ أي الكلام. قوله: (من نعت محمد) أي من كونه أبيض مشرباً بحمرة، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير مثلاً، فقد حرفوه وقالوا أسود اللون، طويل جداً، حرصاً على الرياسة، وعلى ما يأخذونه من سفلتهم، ومن جملة ما غيروه آية الرجم بالجلد. ومن ذلك أنه في كتبهم من خالف محمداً خلد في النار، فغيروه وقالوا لن تمسنا النار إلا أربعين يوماً، مدة عبادة العجل. قوله: ﴿ وَعَصَيْنَا ﴾ (أمرك) هذا بحسب باطنهم، وأما بحسب ظاهرهم فمعناه عصينا قول غيرك، وكذا قوله: ﴿ وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ﴾ أي اسمع الخير منا غير سامع ما يؤذيك، وكذا قوله: ﴿ وَرَٰعِنَا ﴾ أي اشملنا بنظرك، فهذا من الكلام الموجه الذي يحتمل معنيين مختلفين في المدح والذم. قوله: (أي لا سمعت) يحتمل أن المعنى لا سمعت خيراً ولا سمعت شيئاً أصلاً بأن تبتلى بالصمم أو الموت. قوله: (وقد نهى عن خطابه بها) أي في قوله تعالى:﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا ﴾[البقرة: ١٠٤] قوله: (وهي كلمة سب بلغتهم) يحتمل أنها موضوعة للسب في لغتهم، ويحتمل أنهم قصدوا بها السب، وإن كانت تحتمل الدعاء بخير من الرعاية وهي الحفظ وبشر ومعناها الرعونة وهي الطيش في العقل، كأنهم يقولون اشملنا برعونتك. قوله: ﴿ لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ ﴾ أي صرفاً للكلام عن ظاهره، وأصله لويا، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، قلبت الواو ياء أدغمت في الياء، وهو في الأصل فتل الحبل، فشبه به الكلام الذي قصد منه غير ظاهره وطوي، ذكر المشبه به وهو الحبل المفتول، ورمز له بشيء من لوازمه وهو اللي، فإثباته تخييل. قوله: ﴿ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ هذا جواب لو، واسم التفضيل ليس على بابه، ويحتمل أنه على بابه على حسب ما زعموا من أن حرصهم على الكفر يبقي لهم حظ الرياسة والدنيا التي يأخذونها من عوامهم وهو خير دنيوي. قوله: ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ صفة الموصوف محذوف، أي إلا فرياً قليلاً. قوله: (نمحو) أي نزيل ما فيها. قوله: (فقيل كان وعيداً بشرط) أي لأن رحمة الله تسبق غضبه، والحاصل أنه اختلف في ذلك الوعيد، هل كان معلقاً ثم ارتفع، وقيل إنه واقع لكن في آخر الزمان، وقيل إنه واقع في الآخرة، فيقومون من قبورهم ممسوخة صورهم، وما مانع من إرادتها كلها، وليس في القرآن وعيد لأمة محمد بتعجيل العقوبة مثل هذا، لأنهم بالغوا في الكفر وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (بشرط) أي وهو عدم إيمان أحد منهم، ويؤيده ما روي أن عبد الله وما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي إلى قفاي، وكذا ما روي أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية على كعب الأحبار، فقال كعب الأحبار: يا رب آمنت يا رب أسلمت مخافة أن يصيبه وعيدها. قوله: (وقيل يكون) أي يحصل، وقوله: (قبل قيام الساعة) أي زمن عيسى. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ﴾ إن وما دخلت عليه في تأويل مصدر أشاء له المفسر بقوله: (أي الإشراك) والمعنى أن الله لا يغفر للكافر إشراكاً أو غيره، فالمراد بالشرك الكفر، لا الشرك الأصغر الذي هو الرياء، فإنه من جملة الذنوب التي تغفر، وهذا رد على اليهود، حيث زعموا أن الشرك لا يضرهم لكون أجدادهم أنبياء، وزعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه. قوله: (من الذنوب) بيان لما. قوله: ﴿ لِمَن يَشَآءُ ﴾ (المغفرة له) أي إن مات من غير توبة، وإلا فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، هذا معنى قوه صاحب الجوهرة: ومَنْ يَمُتْ وَلَمْ يَتُبْ مِنْ ذَنْبِهِ فَأَمْرُهُ مُفَوَّضٌ لِرَبِّهِوالغالب المغفرة، لأن فضل الله واسع، ورحمته تغلب غضبه، وكل ذلك ما لم يمت هديماً أو غريقاً أو مقتولاً ظلماً مثلاً، وإلا فيقوم ما ذكر مقام التوبة.
قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ كالدليل لما قبله. قوله: (وهم اليهود) وقيل هم والنصارى، لأن هذه المقالة وقعت منهما، لقوله تعالى:﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ ﴾[المائدة: ١٨].
قوله: (حيث قالوا نحن أبناء الله) أي كالأبناء من حيث إن منزلتنا عنده عظيمة، وقائل هذه اللفظة كافر، ولو على سبيل المجاز. قوله: (أي ليس الأمر بتزكيتهم الخ) أي ليس الأمر منوطاً ومعتبراً بتزكيتهم أنفسهم، وهذا تمهيد لقوله تعالى: ﴿ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ ﴾.
قوله: (بالإيمان) أي وجميع الأعمال الصالحة، وإنما اقتصر عليه لأن مدار النجاة عليه. قوله: ﴿ وَلاَ يُظْلَمُونَ ﴾ يحتمل أن الضمير عائد على المؤمنين، أي فيجازيهم على أعمالهم الصالحة، ولا ينقص منه شيء ولو كان أقل قليل، وهذا هو المتبادر من المفسر، وقيل إنه عائد على الكفار، أي فيعذبهم بذنوبهم، ولا ينقصون شيئاً من أعمالهم، ويحتمل العموم وهو الأولى. قوله: (قدر قشرة النواة) هذا سبق قلم، والمناسب قدر الخيط الذي يكون في بطن النواة، وأما القطمير فهو قشر النواة، والنقير النقرة التي تكون في وسطها، والثفروق هو ما بين النواة والقمع، وذكر في القرآن الثلاثة الأول، وعادة العرب تمثل بأحد الأربعة لأقل قليل. قوله: (متعجباً) أشار بذلك إلى أن الاستفهام تعجبي. قوله: ﴿ وَكَفَىٰ بِهِ ﴾ أي الافتراق. قوله: (ونزل في كعب بن الأشرف الخ) حاصل ما ذكره الخازن، أنه بعد وقعة بدر، ضاق صدر كعب بن الأشرف، فركب مع سبعين راكباً من اليهود حتى قدموا مكة، فنزلوا على أبي سفيان وأصحابه، فأحسنوا مثواهم، ثم قال لهم أبو سفيان وأصحابه: ماذا تريدون؟ فقالوا: نريد حرب محمد ونقض عهده، فقال أبو سفيان وأصحابه: لا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم، فإن كان ما تقولون حقاً، فاسجدوا لهذين الصنمين، ففعلوا، ثم قال كعب: ليأتِ منكم ثلاثون رجلاً ومنا ثلاثون، فنلزق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد رب البيت لنجهدن في قتال محمد، ففعلوا، ثم قال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج ونسقيهم الماء، ونقري الضيف، ونفك العاني ونصل الرحم، وديننا القديم، ودين محمد حادث، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد، فنزلت الآية. قوله: (ونحوه من علماء اليهود) أي وكانوا سبعين راكباً. قوله: (وحرضوا المشركين) أي أبا سفيان وأصحابه. قوله: (بثأرهم) بالهمز وتركه.
قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ أي تعلم وتنظر لفعلهم. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ ﴾ أي التوراة. قوله: ﴿ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ ﴾ أي بسجودهم لهما. قوله: (صنمان لقريش) وقيل الجبت اسم لكل صنم يعبد، والطاغوت الشيطان التي يلبس الصنم ويكلم الناس، فلكل صنم شيطان يغر الناس. قوله: (ونفك العاني) أي الأسير. قوله: (نفعل) يحتمل أنه بالفاء والعين، أي نفعل غير ما ذكر من الأمور الجميلة المستحسنة، أو بالعين ثم القاف أي نؤدي العقل بمعنى الدية عن حلفائنا. قوله: (أي أنتم) أشار بذلك إلى أنه خطاب لهم، وإنما المولى حكاه عنهم بالمعنى. قوله: (أي ليس لهم) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: ﴿ فَإِذاً ﴾ الفاء واقعة في جواب شرط مقدر، أشار المفسر بقوله، (ولو كان) وإنما قدر لو دون أن، لأن الجواب مرفوع مجزوم، وهذا ذم لهم بالبخل بعد ذمهم بالجهل، وسيأتي ذمهم بالحسد، قوله: (بل) الإضراب انتقالي من صفة لصفة أخرى أقبح منها. قوله: (أي النبي) أي فهو من باب تسمية الخاص باسم العام، إشارة إلى أنه جمعت فيه كمالات الأولين والآخرين، قال الشاعر: وَلَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكِر أَنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِدقوله: (جده) بيان لإبراهيم فهو بالجر. قوله: (تسع وتسعون امرأة) أي غير امرأة وزيره، فقد أخذها بعد موته، فتكامل له مائة. قوله: ﴿ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ ﴾ أي كعبد الله بن سلام وأضرابه. قوله: (فلم يؤمن) أي ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرابهما. قوله: (بأن تعاد إلى حالها) ورد أنها تعاد في الساعة الواحدة مائة مرة، بل ورد أنها تعاد في اليوم الواحد سبعين ألف مرة، وورد أن بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسروع، وورد أن ضرس الكافر يكون كأحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ذكر للمقابل وهو راجع لقوله: ﴿ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ ﴾ كما أن قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ راجع لقوله: ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ ﴾ على عادته سبحانه إذا ذكر الوعيد أعقبه بالوعد. قوله: (وكل قذر) أي كالنفائس وغيره. قوله: (لا تنسخه شمس) أي لعدم وجودها. قال تعالى:﴿ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ﴾[الإنسان: ١٣].
قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ ﴾ الخطاب للمكلفين لما سيأتي أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله: ﴿ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ ﴾ أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول ثانٍ ليأمر، والأصل يأمركم تأدية الأمانات، أو منصوب ينزع الخافض، لأن حذفه مع أن وإن مطرد، ويقال في ﴿ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ ﴾ ما قيل فيه لأنه معطوف عليه، وقوله: ﴿ إِذَا حَكَمْتُمْ ﴾ ظرف له، ولا يقال يلزم عليه تقديم معمول الصلة عليها، لأنه يقال إنه ظريق ويغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره. قوله: (من الحقوق) اعلم أن الأمانات ثلاثة أقسام، الأول: عبادات الله بأن يفعل المأمورات ويجتنب المنهيات، الثاني: نعمه التي أنعم بها كالسمع والبصر والعافية وغير ذلك فلا يصرفها فيما يغضب الله، الثالث: حقوق العباد كالودائع وغيرها فيجب على الإنسان تأدية الأمانات مطلقاً، كانت قولية أو فعلية أو اعتقادية، فالقولية كحفظ القرآن، والفعلية كحفظ الودائع والعواري، والاعتقادية كالتوحيد وحسن الظن بالخلق، وبالجملة فهذه الآية من جوامع الكلم، وهي بمعنى قوله تعالى:﴿ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾[الأحزاب: ٧٢] الآية على التحقيق. قوله: (نزلت لما أخذ علي مفتاح الكعبة الخ) قال البغوي قلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار وكان سادن الكعبة، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة والفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح قيل له إنه مع عثمان. فطلب منه فأبى وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه المفتاح، فلوى علي بن أبي طالب يده وأخذ المفتاح وفتح الباب، ودخل رسول الله البيت وصلى فيه ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح لتجتمع له السقاية والسدانة، فأنزل الله هذه الآية، فأمر رسول الله علياً أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر له، ففعل ذلك، فقال عثمان أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال علي لقد أنزل الله في شأنك قرآناً وقرأ عليه الآية فأسلم، فكان المفتاح معه إلى أن مات، فدفعه إلى أخيه شيبة فهي في أولادهم إلى يوم القيامة. قوله: (الحجبي) أي الذي يحجب الناس بمعنى يمنعهم من الدخول. قوله: (سادنها) أي خادمها، وقوله: (قسراً) أي قهراً قوله: (لما قدم النبي) ظرف لأخذ وكان ذلك في رمضان، وقوله: (عام الفتح) أو وهو سنة ثمان. قوله: (وقال لو علمت الخ) أي فهو غير مصدق برسالته، وإلا فذاته إذ ذاك غير خافية على أحد. قوله: (خالدة تالدة) أي مخلدة في المستقبل كما كانت متأصلة فيكم. قوله: (فعمومها معتبراً الخ) أشار بذلك لما قيل في العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومحل ذلك إن توجد قرينة الخصوص فيكون معتبراً، كالنهي عن قتل النساء، فإن سببه أن رسول الله رأى امرأة حربية مقتولة، فذلك يدل على اختصاصه بالحربيات، فلا يدخل فيه المرتدة ولا الزانية. قوله: ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ ﴾ فيه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه وهو جائز إذا كان ظرفاً. قوله: ﴿ نِعِمَّا ﴾ بكسر النون اتباعاً لكسرة العين، وأصله نعم على وزن علم. قوله: (أين نعم شيئاً) أشار بذلك إلى أن ما مميز، ويكون الفاعل مستتراً وجوباً تقديره وجوباً تقديره نعم هذا الشيء شيئاً، والمخصوص بالمدح محذوف قدره بقوله: (تأدية الأمانة) وقيل أن ما فاعل، وقد ذكر القولين ابن مالك بقوله: وَمَا مُمَيِّزٍ وقِيلَ فَاعِلٍ فِي نَحْوِ نَعم مَا يَقُولُ الفَاضِلُقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ هذا خطاب لسائر الناس، بعد أن خاطب ولاة الأمور بالحكم بالعدل، وفي هذه الآية إشارة لأدلة الفقه الأربعة، فقوله: ﴿ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ ﴾ إشارة للكتاب، وقوله: ﴿ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ ﴾ إشارة للسنة، وقوله: ﴿ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ ﴾ إشارة للإجماع، وقوله: ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ ﴾ الخ، إشارة للقياس. قوله: ﴿ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ ﴾ يدخل فيه الخلفاء الراشدون، والأئمة المجتهدون، والقضاة والحكام. قوله: (أي إذا أمروكم بطاعة الله ورسوله) إي لا بمعصية فلا يطاعوا في ذلك، لما في الحديث" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "قوله: ﴿ فِي شَيْءٍ ﴾ أي غير منصوص عليه. قوله: (مدة حياته) أي بسؤال، وقوله: (إلى سنته) أي فيعرض عليها. قوله: ﴿ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ ﴾ أي فردوه. قوله ﴿ ذٰلِكَ خَيْرٌ ﴾ اسم التفضيل ليس على بابه بقرينه ﴿ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ ﴾ فمخالفة ما ذكر ليس فيها خير، بل هي شر وضلال. قوله: (مآلا) أي عاقبة. قوله: (ونزل لما اختصم يهودي الخ) حاصلها تفصيلاً، قال ابن عباس: نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر، كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: تنطلق إلى محمد، وقال المنافق: ننطلق إلى كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الطاغوت، فإن اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي، فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال انطلق بنا إلى عمر، فقال اليهودي اختصمت أنا وهذا إلى محمد، فقضى عليه، فلم يرض بقضائه، وزعم أنه يخاصمني إليك، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ فقال نعم، فقال لهما عمر: رويداً حتى أخرج إليكما، فدخل عمر البيت وأخذ السيف واشتمل عليه ثم خرج، فضرب به المنافق حتى برد أي مات، وقال هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله، فنزلت هذه الآية، وقال جبريل: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فسمي الفاروق، وإنما دعا المنافق لكعب بن الأشرف لأنه يقبل الرشوة، والنبي لا يقبلها بل يحكم بالحق، وكان الحق إذ ذاك مع اليهودي.
قوله: ﴿ يَزْعُمُونَ ﴾ أي يقولون قولاً كذباً، لأن الزعم مطية الكذب، قوله: ﴿ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ أي وهو جميع الكتب السماوية. قوله: (الكثير الطغيان) وقيل إنه صنم يعبد من دون الله، وقيل اسم من يعبد من دون الله صنماً أو غيره. قوله: ﴿ بَعِيداً ﴾ يحتمل أنه صفة كاشفة لأن الضلال هو البعد ويحتمل أنه صفة مخصصة، ويكون معنى بعده أنه لا يهتدي بعد ذلك أصلاً، وهذا هو مراد الشيطان، ويؤيده قول المفسر عن الحق. قوله: ﴿ رَأَيْتَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ ﴾ رأى بصرية والمنافقين مفعول لها، وجملة يصدون حال. قوله: (يعرضون) أشار بذلك إلى أن الصد هنا بمعنى الإعراض فهو لازم، لا بمعنى المنع فيكون متعدياً، فقوله: ﴿ صُدُوداً ﴾ مفعول مطلق لقوله: ﴿ يَصُدُّونَ ﴾ قوله: ﴿ فَكَيْفَ ﴾ يصح أن تكون مفعولاً لمحذوف تقديره (يصنعون) كما قدره المفسر، ويصح أن تكون خبراً لمحذوف تقديره صنعهم. قوله: ﴿ إِذَآ أَصَٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ ﴾ أي عاجلة أو آجلة. قوله: (لا) هذا جواب الاستفهام. قوله: ﴿ ثُمَّ جَآءُوكَ ﴾ أي أهل المنافق، يعتذرون إليك ويسترون على أنفسهم النفاق، ويحتمل أنهم جاؤوا مطالبين بدمه مثبتين إسلامه، فلولا هذه الآية لربما اقتص من عمر، لعدم البينة على كفر المنافق. قوله: (بالتقريب) أي التساهل في الحكم، كأن يعمل صلحاً، ويقسم المدعى به بين الخصمين. قوله ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ أي ولا تقتلهم، وهذا قبل الأمر بإخراجهم وقتلهم، والفاء واقعة في جواب شرط مقدر تقديره إذا كان حالهم كذلك فأعرض عن قبول عذرهم. قوله: ﴿ فِيۤ ﴾ (شأن) ﴿ أَنْفُسِهِمْ ﴾ أي في حقها وما انطوت عليه، ويحتمل أن المعنى حالياً ليس معهم غيرهم. قوله: (ليرجعوا) أي لعله أن يترتب عن ذلك رجوعهم عما هم عليه. قوله: (بأمره) أشار بذلك إلى أنه ليس المراد بالإذن الإرادة، وإلا فيلزم عليه أن لا يتخلف عن طاعة أحد، لأن ما أراده الله وقوعه واقع، ولا بد من أن الواقع خلافه، فدفع ذلك المفسر بقوله: (بأمره) لأنه لا يلزم من الإرادة الأمر ولا عكس. قوله: (بتحاكمهم) الباء سببية.
قوله: ﴿ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي بالتوبة والإخلاص. قوله: ﴿ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ ﴾ أي سامحهم وعفا عنهم وطلب لهم المغفرة، لأنه تعلق به حقان: حق الله وحق لرسوله. قوله: (فيه التفاف) أي وحقه واستغفرت لهم. قوله: (لا زائدة) أي لتأكيد القسم، وهو اختيار الزمخشري في الكشاف وهو الأحسن، ولذا اقتصر عليه المفسر. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ ﴾ الخ، هذه شروط ثلاثة لكمال الإيمان، وهذه الآية بمعنى قوله تعالى:﴿ وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ﴾[النور: ٤٨-٤٩] الآيات. قوله: (اختلط) أي أشكل والتبس. قوله: (من غير معارضة) أي بأن ينقادوا للأحكام من غير توقف. قوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ بيان لسوء حالهم، وأنهم لو شدد عليهم كما شدد على من قبلهم لم يفعل ذلك إلا ما قل منهم. قوله: (مفسرة) أي بمعنى أي، وضابطها أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه نظير:﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾[يونس: ١٠] وانطلق الملأ منهم أن امشوا، ويحتمل أن تكون مصدرية، وعليه فيكون ﴿ كَتَبْنَا ﴾ بمعنى ألزمنا التقدير ولو أنا ألزمناهم قتل أنفسهم. قوله: ﴿ أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ ﴾ جمهور القراء على ضم النون والواو من أو اخرجوا، وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما، وقرأ أبو عمرة بكسر النون وضم الواو، وأما ضم النون وكسر الواو فلم يقرأ به أحد. قوله: (على البدل) أي وهو المختار عند النحاة، قال ابن مالك: وبعد نفي أو كنفي انتخب. اتباع ما اتصل. وقوله: (والنصب على الاستثناء) أي فهما قراءتان سبعيتان على حد سواء وإن كان الرفع أرجح عند النحاة من النصب، فالمنزه عنه القرآن كونه ليس على قواعد النحاة، وأما كون القراءات له وجه قوي في العربية دون بعض فلا مانع منه. قوله: ﴿ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ اسم التفضيل ليس على بابه إذ ما هم عليه ليس بخير. قوله: (أي لو ثبتوا) ليس تفسير إلا ذابل، إشارة إلى أن ﴿ إِذاً ﴾ واقعة في جواب سؤال مقدر، وقوله: ﴿ لأَتَيْنَٰهُم ﴾ جواب الشرط، وأصل الكلام فما جزاؤهم لو ثبتوا إذ لآتيناهم الخ، فالحامل للمفسر على تقدير (لو ثبتوا) قوله بعد: ﴿ لأَتَيْنَٰهُم ﴾ والحامل لنا على تقدير السؤال قوله: ﴿ إِذاً ﴾ وهي هنا ملغاة عن عمل النصب لفقد شرطها. قوله: ﴿ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ أي ديناً قيما لا اعوجاج فيه، وهو دين الإسلام، فتحل أنهم لو امتثلوا لأعطاهم الله خير الدنيا والآخرة. قوله: (وأنت في الدرجات العلى) أي التي ليس فوقها درجة، وهذا السؤال كما توجه من الصحابة، يتوجه أيضاً من الأنبياء، فإنه أعلى من جميع المخلوقات الإطلاق حتى الأنبياء، قال البوصيري: كَيْفَ تَرْقَى رَقِيّكَ الأَنْبِيَاء يَا سَمَاء مَا طَاوَلَتْهَا سَمَاءقوله: (فيما أمرا به) أي ونهيا عنه، فالطاعة امتثال المأمورات واجتناب المنهيات. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ ﴾ الخ، بيان للذين والمعنى أن من أطاع الله كان رفيقا لمن ذكر، وليس ذلك بسفر ولا مشقة، بل يكشف له عمن ذكر ويحادثه مع كون كل درجته لا يصعد هذا لهذا، ولا ينزل هذا لهذا، قال تعالى﴿ إِخْوَٰناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَـٰبِلِينَ ﴾[الحجر: ٤٧] فإذا تمنى الشخص مشاهدة النبي ومحادثته، حصل ذلك من غير مشقة ولا انتقال. قوله: (أفاضل أصحاب الأنبياء) أي فالصديقية تحت مرتبة النبوة. قوله: ﴿ وَٱلصَّالِحِينَ ﴾ أي القائمين بحقوق الله وعباده. قوله: (غير من ذكر) أتى به دفعاً للتكرار، لأن جميع من تقدم صالحون. قوله: ﴿ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً ﴾ حسن كنعم تستعمل للمدح وفيها معنى التعجب، وأولئك فاعل، ورفيقاً تمييز، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره هؤلاء. قوله: (رفقاء) أشار بذلك إلى أن رفيقاً فعيل يستوي فيه الواحد وغيره، ويحتمل أن أفرد نظراً لكل واحد مما ذكر. قوله: (والحضور معهم) أي مجالستهم حيثما أحب. قوله: (مبتدأ خبره) ﴿ ٱلْفَضْلُ ﴾ ويحتمل أن ﴿ ٱلْفَضْلُ ﴾ نعت لاسم الإشارة أو بدل، قوله: ﴿ مِنَ ٱللَّهِ ﴾ خبره. قوله: (لا أنهم نالوه بطاعتهم) أي نالوا الرفق بسبب طاعتهم، ففي الحقيقة دخول الجنة وارتقاء منازلها ومرافقة من ذكر بمحض فضل الله، وإلا فأي طاعة يستحق بها الإنسان شيئاً من ذلك. قوله: (أي فثقوا) أي اعتمدوا على ذلك الخبر ولا تشكوا. قوله: (ولا ينبئك مثل خبير) أي لا يخبرك بأحوال الجنة وغيرها، مثل خبير عالم ببواطن الأشياء كظواهرها الذي هو الله تعالى.
قوله: ﴿ حِذْرَكُمْ ﴾ هو الحذر بفتحتين مصدران بمعنى التحفظ والتيقظ وهو مبالغة، كأنه جعل حفظ النفس آلة تؤخذ، وبعضهم فسّر الحذر بآلة الحرب، وعليه فلا مبالغة في قوله: ﴿ خُذُواْ ﴾.
قوله: ﴿ فَٱنفِرُواْ ﴾ فعله نفر ينفر من باب ضرب وقعد، مصدره النفر والنفور والنفير. قوله: ﴿ ثُبَاتٍ ﴾ جمع ثبة وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة إلى المائة، والسرية الجماعة أقلها مائة وغايتها أربعمائة، والمنسر من أربعمائة إلى ثمانمائة، والجيش من ثمانمائة إلى أربعة آلاف، والجحفل ما زاد على ذلك. قوله: (سرية بعد أخرى) أي جماعات بعد جماعات، سرية أو غيرها. قوله: ﴿ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً ﴾ هذا التخيير لولاة الأمور بحسب اجتهادهم. قوله: ﴿ لَمَن ﴾ اللام لام ابتداء ودخلت على اسم إن لوقوع الخبر فأصلاً. وقوله: (ليتأخرن) أشار بذلك إلى أن بطأ لازم بمعنى قام به البطء وهو التأخر، ويصح أن يكون متعدياً، والمفعول محذوف أي غيره، فالمعنى يكسلن غيره عن القتال. قوله: (من حيث الظاهر) أي وإلا ففي نفس الأمر ليس منهم بل هو عدو لهم. قوله: (وهزيمة) أي لبعض الجيش، وإلا فمن قال إن الله رسول الله هزم، فقد كفر، وما وقع في أحد وهوازن كان لأطراف الجيش من حيث الغنيمة. قوله: (فأصاب) هو بالنصب بأن مضمرة بعد وفاء السببية بعد الأمر. قوله: ﴿ وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله ﴾ هذه الآية معنى قوله تعالى﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ﴾[التوبة: ٥٠] قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان، فعلى التاء الأمر ظاهر، وعلى الياء فالمودة بمعنى الود. قوله: (وهذا راجع) أي قوله كأن لم يكن بينكم وبينه مودة، والمعنى حاله في الفرح بمصيبة المسلمين، كحال من لم يكن بينكم وبينه مودة. قوله: (للتنبيه) أي لدخولها على الحرف، ويحتمل أنها للنداء، والمنادى محذوف أي يا هؤلاء. قوله: ﴿ فَأَفُوزَ ﴾ منصوب بأن مضمرة في جواب النهي بعد فاء السببية. قوله: ﴿ فَلْيُقَاتِلْ ﴾ الفاء واقعة في جواب شرط مقدر تقديره إذا ترك المنافقون القتال وتأخروا عنه فليقاتل الخ. قوله: (يبيعون) دفع بذلك ما يقال إن القاعدة دخول الباء في الشراء على المتروك، ولا يصح ذلك هنا لأنه يصير ذماً، فأجاب بأن الشراء بمعنى البيع نظير﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ﴾[يوسف: ٢٠].
قوله: ﴿ وَمَن يُقَاتِلْ ﴾ الخ، من اسم شرط مبتدأ، ويقاتل فعل الشرط، وقوله: ﴿ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ ﴾ معطوف على ﴿ يُقَاتِلْ ﴾ عطف مسبب على سبب، وقوله: ﴿ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ جواب الشرط وجملة الشرط وجوابه خبر المبتدأ.
قوله: ﴿ وَمَا لَكُمْ ﴾ الخ، ما اسم استفهام مبتدأ، ولكم جار ومجرور خبره، وجملة ﴿ لاَ تُقَٰتِلُونَ ﴾ في محل نصب على الحال، والمعنى أي شيء ثبت لكم حال كونكم غير مقاتلين، وهذا أحسن الأعاريب. قوله: ﴿ وَ ﴾ (في تخليص) ﴿ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ ﴾ أشار بذلك إلى أن قوله ﴿ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ ﴾ معطوف على سبيل الله، لكن على حذف مضاف. وسبب نزولها أنه كان قبل الهجرة لم يشرع الجهاد، فلما هاجر عليه الصلاة والسلام أمر بالجهاد، فتكاسل بعض ضعفاء المؤمنين وجميع المنافقين، فنزلت الآية توبيخاً لهم على ترك القتال، لإعلاء كلمة الله وتخليص المستضعفين. قوله: ﴿ وَٱلْوِلْدَٰنِ ﴾ قيل جمع وليد بمعنى ولد، وقيل جمع ولد أي الصغار. قوله: (الذين حبسهم الكفار) أي بمكة. قوله: (كنت أنا وأمي) أي وأخي الفضل. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ صفة للمستضعفين و ﴿ يَقُولُونَ ﴾ صلة الذين. قوله: ﴿ ٱلظَّالِمِ ﴾ نعت القرية و ﴿ أَهْلُهَا ﴾ فاعل الظالم وذكر النعت وإن كان المنعوت مؤنثاً لأنه نعت سببي رفع اسماً ظاهراً، فذكر نظراً لذلك الاسم الظاهر. قوله: (إلى أن فتحت مكة) أي في السنة الثامنة من الهجرة. قوله: (عتاب بن أسيد) أي وكان عمره ثمانية عشر سنة، فكان ينصر المظلومين من الظالمين، ويأخذ للضعيف من القوي، الدعاء بهذه الآية مستجاب لمن وقع في بلدة كثر ظلم أهلها. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الخ، المقصود من ذلك تحريض المؤمنين على القتال وترغيبهم فيه. قوله: ﴿ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ أي في مرضاته لإعلاء دينه. وقوله: ﴿ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ ﴾ أي في مرضاته. قوله: (تغلبوهم) مجزوم في جواب الأمر. وقوله: (لقوتكم) علة له. قوله: ﴿ كَانَ ضَعِيفاً ﴾ أي بالنسبة إلى كيد الله تعالى، وأما عظم كيد النساء في آية يوسف، فبالنسبة إلى الرجال فضعف كيد الشيطان لمقابلته بكيد الله، وعظم كيد النساء لمقابلته بكيد الرجال، وإلا فأصل كيد النساء التقدير من الشيطان، وفي الحديث:" النساء حبائل الشيطان "قوله: (واهياً) أي لا ضرر فيه أصلاً، ولذا خذل الشيطان أولياءه لما رأى الملائكة نزلت يوم بدر، وكان النصر لأولياء الله وحزبه.
قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ الاستفهام تعجبي، أي تعجب يا محمد من قومك كيف يكرهون القتال مع كونهم قبل ذلك كانوا طالبين له وراغبين فيه. قوله: (وهم جماعة من الصحابة) منهم عبد الرحمن بن عوف، والمقداد بن الأسود، وسعد بن أبي وقاص، وقدامة بن مظعون، وجماعة كانوا بمكة يتحملون أذى الكفار كثيراً، والله يأمرهم بالتحمل والكف عن القتال في نيف وسبعين آية، فكانوا يقولون لولا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالقتال كرهوا ذلك فنزلت الآية، وقوله: (بمكة) متعلق بـ (طلبوه) وليس ذلك نفاقاً منهم، وإنما كراهتهم ذلك، إما لغلبة الرأفة عليهم أو لمحبتهم المعيشة في طاعة الله، وإلا لذمهم الله على ذلك، ولما نزلت الآية، أقلعوا عما خطر ببالهم، وشمروا عن ساعد الجد والاجتهاد، وجاهدوا في الله حق جهاده. قوله: و ﴿ إِذَا فَرِيقٌ ﴾ قيل إذ ظرف مكان وقيل ظرف زمان وقيل حرف والأولى الأول، وعليه فإذا خبر متقدم، وفريق مبتدأ مؤخر، ومنهم صفة لفريق، وكذلك جملة ﴿ يَخْشَوْنَ ﴾ ويصح أن تكون حالاً لوجود المسوغ، والتقدير ففي الحضرة فريق كائن منهم خاشون أو خاشين. وقوله: ﴿ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ ﴾ مفعول مطلق أي خشية كخشية الله. قوله: (أي عذابهم بالقتل) ويحتمل أن المراد بخشيتهم احترامهم القرابة. قوله: (ونصب أشد على الحال) أي من خشية الثاني، لأنه نعت نكرة تقدم عليها. قوله: (دل عليه إذا الخ) المناسب أن يقول وجواب لما إذا وما بعدها. قوله: (أي فاجأتهم الخشية) الأوضح أن يقول فاجأ كتب القتال عليهم الخشية، لأن الخشية فاجأت كتب القتال لا ذواتهم. قوله: (جزعاً من الموت) يحتمل أنهم قالوا ذلك لاعتقادهم أن القاتل يقطع المقتول من أجله، فأعلمهم الله تعالى أن الأجل محتم، لا يزيد بالبعد عن القتال ولا ينقص به، وليس ذلك نقصاً فيهم. قال تعالى: ﴿ ﴾ ويحتمل أنهم قالوا ذلك بحسب الطبيعة البشرية، وليس عندهم اعتقاد ذلك. قوله: ﴿ قُلْ ﴾ (لهم) أي ليزدادوا رغبة في دار البقاء، وزهداً في دار الفناء. قوله: ﴿ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ ﴾ أي لأنه لا كدر فيها ولا نصب، ولذلك حين دخولها يقولون: الحمد لله الذي أذهبَ عنَّا الحزن. قوله: (بترك معصيته) أي كالشرك وغيره، ومعلوم أن كل من زادت تقواه، كان نعيمه في الآخرة أكبر. قوله: (بالتاء والياء) أي فهمل قراءتان سبعيتان، فعلى التاء يكون خطاباً لهم، وعلى الياء يكون تحديثاً عنهم، والمعنى بلغتهم يا محمد أنهم لا يظلمون فتيلاً. وقوله: (قدر قشرة النواة) تقدم أنه غير مناسب، والمناسب تفسيره بالخيط الذي يكون في باطن نواة.
قوله: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ ﴾ هذا تسلية لهم أيضاً وأين اسم شرط جازم، وما صلة، وتكونوا فعل الشرط مجزوم بحذف النون والواو اسمها و ﴿ يُدْرِككُّمُ ﴾ جواب الشرط، و ﴿ ٱلْمَوْتُ ﴾ فاعله، والمعنى أن الموت يدرككم أينما تكونوا في أي زمان أو مكان متى حضر الأجل. قوله: ﴿ فِي بُرُوجٍ ﴾ جمع برج وهو القلعة والحصن. قوله: (مرتفعة) أي عالية البناء، أو المعنى مطلية بالشيد أي الجص وقوله: (أي اليهود) أي والمنافقين. قوله: (عند قدوم النبي المدينة) أي حيث دعاهم إلى الإيمان فكفروا فحصل لهم الجدب، فقالوا هذا شؤمه، والشؤم ضد اليمن والبركة. قوله: ﴿ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾ أي خلقاً وإيجاداً. قوله: ﴿ فَمَالِ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلْقَوْمِ ﴾ الخ، أي أي شيء ثبت لهؤلاء لا يقربون من فهم الحديث والموعظة. قوله: (وما استفهام تعجيب) أي وتوبيخ. قوله: (أيها الإنسان) أي فهو خطاب عام لكل أحد وقيل الخطاب للنبي والمراد به غيره. قوله: ﴿ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾ أي من شؤمك وسوء كسبك فنسبة ذلك إلى النفس مجاز، باعتبار سوء الكسب والشؤم من إسناد الشيء لسببه، وبهذا اندفع التنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى: ﴿ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾ فنسبة الأشياء جميعها إلى الله من حيث الإيجاد، ونسبة الشر إلى العبد، فباعتبار أن سوء كسبه سبب ذلك، عن عائشة رضي الله عنها قالت:" وما من مسلمك يصيبه وصب لا نصب، ولا الشوكة يشاكها، وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر "وأما حديث" أشدكم بلاء الأنبياء الخ "فمعناه أن الله امتحنهم بالبلايا، وألقى عليهم الصبر والمحبة، فشاهدوا إعطاء الله في تلك البلايا، فصارت البلايا عطايا، فتحصل أن البلاء إما أن يكون من شؤم الذنب، وذلك للعصاة الذين لم يتلقوه بالرضا والتسليم، وإما أن يكون اختباراً أو امتحاناً، وذلك للأنبياء والصالحين ليرقيهم به أعلى الدرجات، ولذلك قال العارف الجيلي: تَلُذُّ لِي الآلاَمُ مُذْ اَنْتَ مُسْقَمِي وَإِنْ تَمْتَحِنِّي فَهِيَ عِنْدِي صَنَائِعقوله: ﴿ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً ﴾ والمعنى حيث ثبتت رسالته بشهادة الله، اتضح من ذلك أن من أطاعه أطاع الله. قوله: (فلا يهمنك) بضم الياء من أهم، أو بفتحها من هم، ومعناه لا يحزنك إعراضهم وقدره المفسر إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف.
وقوله: ﴿ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ ﴾ الخ علة للجواب المحذوف. قوله: (بل نذيراً) اقتصر عليه لأنه في سياق من أعرض، ولا يناسبه إلا الإنذار، وإلا فرسول الله بعث بشيراً ونذيراً. قوله: (أمرنا) ﴿ طَاعَةٌ ﴾ أشار بذلك إلى أن طاعة خبر مبتدأ محذوف واجب الحذف، لأن الخبر مصدر بدل من لفظ الفعل، فهو نائب عن أطعنا، ويصح أن يكون مبتدأ والخبر محذوف أي منا طاعة. قوله: (بأدغام التاء في الطائفة) أي بعد قلبها طاء. وقوله: (وتركه) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أي أضمرت) المعنى أظهرت ما أضمرته! وإلا فالإضمار كان واقعاً منهم قبل الخروج من عند النبي صلى الله عليه وسلم: قوله: (من الطاعة) بيان للذي تقول. قوله (إلى عصيانك) تفسير لقوله: ﴿ غَيْرَ ٱلَّذِي تَقُولُ ﴾.
قوله: (ليجازوا عليه) أي في العاجل والآجل. قوله: ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ أي لا تقتلهم ولا تفضحهم، وهذا قبل الأمر بقتلهم وإخراجهم. قوله: (ثق به) أي اعتمد عليه. قوله: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف تقديره أيعرضون عنك فلا يتدبرون، وهو استقباح لحالهم وتشنيع عليهم، والتدبر في الأصل النظر في عواقب الأمور، لتقع على الوجه الأكمل، والمراد هنا مطلق التأمل والتفكر. قوله: (تناقضاً في معانيه) أي بأن يكون بعض إخباره غير مطابق لبعض. وقوله: (وتبايناً في نظمه) أي بأن يكون بعضه فصيحاً بليغاً، وبعضه ليس كذلك، فلما كان جميعه على منوال واحد، ليس بعضه مناقضاً لبعض، بل إخباره كلها متوافقة، وهو فصيح بليغ ليس فيه ما ينافي ذلك ثبت أنه عند الله لأن هذا الأمر لا يقدر عليه غيره، ولو ثبت فرضاً أنه من عند غير الله، لوجدوا فيه اختلافاً في المعنى أو اللفظ. إن قلت إن قوله كثيراً ربما يوهم أن فيه اختلافاً قليلاً، أجيب: أن بالتقييد بالكثرة للمبالغة، والمعنى أن القرآن ليس فيه اختلاف أصلاً، فلو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً فضلاً عن القليل فهو من عند الله، فلم يكن فيه اختلاف أصلاً لا كثير ولا قليل.
قوله: ﴿ وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ ﴾ الخ، سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث البعوث والسرايا، فإذا غلبوا الكفار أو غلبوهم بادر المنافقون للاستخبار عن حالهم، ثم يتحدثون بذلك ويشيعونه قبل أن يسمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كبار أصحابه، وقصدهم بذلك افتتان ضعفاء المؤمنين. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلأَمْنِ ﴾ الخ، بيان الأمر. قوله: (من المنافقين) أي وقصدهم بذلك فتنة الضعفاء وقوله: (أو ضعفاء المؤمنين) أي جهلاً منهم بذلك وهما قولان والراجح الأول. قوله: (فتضعف قلوب المؤمنين) هذا ظاهر بالنسبة للهزيمة، وأما إشاعة النصر فالضعف فيه من حيث إن هذا الخبر بما وصل الكفار فيتجهزون ويعبدون الحرب ثانياً، ففيه فتنة للضعفاء على كل حال. قوله: (من أكابر الصحابة) أي كأبي بكر وعمر ونظائرهما. قوله: (حتى يخبروا به) بالبناء للمفعول، أي حتى يخبرهم النبي به. قوله: (هل هو مما ينبغي الخ) أي لعلموا صفته وكيفيته، وإلا فهم عالمون به قبل ذلك. قوله: (وهم المذيعون) أي المنافقون أو ضعفاء المؤمنين، وهو تفسير للذين يستنبطونه، وهو إظهار في محل الإضمار أي لعلموه. وقوله: ﴿ مِنْهُمْ ﴾ من ابتدائية، والجار المجرور متعلق يستنبطون، والمعنى يتلقونه من جهة الرسول أو كبار الصحابة. قوله: (بالإسلام) أي بسبب إرسال محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ اعلم أن في هذا استثناء ستة أوجه: أحدها أنه مستثنى من فاعل اتبعتم، والمعنى لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم فإنه لم يتبعه، كقس بن ساعدة وعمرو بن نفيل وورقة بن نوفل ممن كان على دين عيسى قبل بعثة محمد، والمراد بالفضل والرحمة المنتفيين على هذا بعثة محمد والقرآن ثانيهما أنه مستثنى من فاعل أذاعوا، والمعنى أظهر وأخبر الأمن أو الخوف إلا قليلاً فلم يظهروا. رابعها أنه مستثنى من فاعل علمه، أي علمه الذي يستنبطونه إلا قليلاً فلم يعلموا. خامسها أنه مستثنى من فاعل وجدوا أي إلا قليلاً، فلم يجدوا فيه اختلافاً كثيراً لبلادتهم وعدم معرفتهم. سادسها أن قوله لاتبعتم خطاب لجميع الناس عموماً. والمراد بالقليل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأحسن هذه الأوجه أولها، وهو المأخوذ من سياق المفسر، وأبعدها الأخير تأمل.
قوله: ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ الفاء واقعة في جواب شرط مقدر تقديره إذا تكاسلوا عن القتال فقاتل الخ، فإنك منصور على كل حال، ولو اجتمعت عليك أهل الأرض جميعاً. قوله: ﴿ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ﴾ هذه الجملة حال من فاعل قاتل، والمعنى قاتل في سبيل الله ولا تنظر لكسلهم حال كونك غير مكلف إلا نفسك، فلا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم عن القتال، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحرب لا يتغير وجهه أبداً، بل كان يبتسم إذ ذاك ولا يكترث بملاقاة الأعداء، قال البوصيري: مُسْفِرٌ يَلْتَقِي الكَتِيبَةَ بِسَا مَا إذَا أَسْهَمَ الوُجُوه اللِّقَاءقوله: (المعنى قاتل ولو وحدك) أي فكان من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه إذا هم بالحرب لا يرجع حتى يحكم الله بينه وبين عدوه. قوله: ﴿ وَحَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي بالآيات الواردة في فضل الجهاد، فإن تخلفوا بعد ذلك فلا يضرونك، وإنما وبالهم على أنفسهم. قول: ﴿ عَسَى ٱللَّهُ ﴾ الخ، هذا وعد من الله بكفهم، وهو وإن ورد بصيغة الترجي، فهو في المعنى محقق لتعلق قدرته وإرادته بذلك، ويستحيل تخلف ما تعلقا به، لأنه يصير عاجزاً، فلا فرق في تحقق وعد الله بين أن يرد بصيغة الترجي أو غيره. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً ﴾ أي قوة وسطوة. قوله: ﴿ تَنكِيلاً ﴾ من النكل، وهو في الأصل القيد ثم أطلق على العذاب، قوله: (والذي نفسي بيده) إنما أقسم بذلك لأنه دائماً في حضرة ربه. وقوله: (بيده) أي قدرته، وكان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يحلف بذلك. قوله: (فخرج بسبعين راكباً) أي في السنة الرابعة لأن أحداً كانت في الثالثة، فلما انصرف منها أبو سفيان نادى بأعلى صوته يا محمد موعدك العام القابل في بدر، فقال عليه الصلاة والسلام: إن شاء الله تعالى، فلما جاء العام القابل طلب المؤمنين للخروج، فتقاعد المنافقون وتبعهم بعض ضعفاء المؤمنين بسبب تثبيط نعيم بن مسعود الأشجعي لهم، قال تعالى حكاية عنه:﴿ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ﴾الآيات [آل عمران: ١٧٣] وقوله: (بسبعين راكباً) تبع في ذلك بعض السير وهو ضعيف، والراجح أنه خرج معه ألف وخمسمائة من أصحابه وعشرة أفراس، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، فأقاموا على بدر ينتظرون أبا سفيان، فألقى الله في قلوب الأعداء الرعب، ولم ينتقلوا من محل يسمى الآن بوادي فاطمة فاجتمعت قبائل العرب من كل جهة لإقامة السوق في بدر، فصارت الصحابة يتجرون إلى أن ربحوا ربحاً عظيماً، فمكثوا في بدر ثمانية أيام، فلم تأتِ الكفار ولم يحصل بينهم حرب أصلاً، قال تعالى:﴿ فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ ﴾[آل عمران: ١٧٤] وتقدم بسط القصة في آل عمران. قوله: (ومنع أبي سفيان) معطوف على الفاء فهو مصدر.
قوله: ﴿ مَّن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً حَسَنَةً ﴾ هذه الجملة أفادت أن تحريض النبي للمؤمنين على القتال شفاعة حسنة، فله حظ وافر في نظير ذلك، والشفاعة هي سؤال الخير للغير، ويندرج في ذلك الدعاء للمسلم بظهر الغيب، فقد ورد" من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك "وفي الحديث أيضاً" أدعوني بألسنة ما عصيتموني بها "قال العلماء هو الدعاء للغير. قوله: ﴿ وَمَن يَشْفَعْ شَفَٰعَةً سَيِّئَةً ﴾ إنما أطلق عليها شفاعة مشاكلة، لأن حقيقة الشفاعة لا تكون إلا في الخير، قال بعضهم هي النميمة، وهي نقل الكلام لإيقاع العداوة بين الناس، وقيل هي السعي بالفساد مطلقاً. قوله: (نصيب) أشار بذلك إلى أن الكفل مرادف للنصيب وإنما غاير تفننا. قوله: ﴿ مُّقِيتاً ﴾ هو في الأصل معناه الموصل لكل أحد قوته، ومعلوم أن هذا لا يكون إلا من المقتدر أطلق وأريد منه المقتدر بمعنى القادر الذي لا يعجزه شيء. قوله: (بما عمله) أي من خير أو شر.
قوله: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ ﴾ هذا من جملة أفراد الشفاعة الحسنة، وفيه تعليم محاسن الأخلاق، وهو أنه ينبغي للإنسان أن يجازي على المعروف بأحسن منه أو بمثله، والتحية في الأصل الدعاء بطول الحياة، وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضاً يقول له حياك الله، ثم استعملت في الإسلام وإنما اختير لفظ السلام على لفظها الأصلي أنه أتم وأنفع، لأن السلام معناه السلامة من الآفات الدنيوية والآخروية، ورحمة الله إنعامه وبركاته حفظه من الزوال، وأما طول الحياة فلا يلزم منه السلامة، من الآفات، بل قد يكون طول الحياة مذموماً كما إذا كان في المعاصي، فكان السلام بهذا المعنى أتم وأكمل، وأصل (تحية تحيية كتزكية، نقلت حركة الياء الأولى إلى ما قبلها ثم أدغمت فيما بعدها. قوله: (كأن قيل لكم سلام عليكم) أي بهذا اللفظ وما شابهه، كالسلام عليكم، أو سلامي عليكم، أو سلام الله عليكم والأولى أن يأتي بميم الجمع، ولو كان المسلم عليه واحداً أو مثنى أو جمع نسوة نظراً للملائكة المصاحبين للمسلم عليه، فإذا سلم بغير هذا اللفظ وما شابهه، كالسلام عليكم، أو سلامي عليكم، أو سلام الله عليكم والأولى أن يأتي بميم الجمع، ولو كان المسلم عليه واحداً أو مثنى أو جمع نسوة نظراً للملائكة المصاحبين للمسلم عليه، فإذا سلم بغير هذا اللفظ كأمان الله عليكم أو غير ذلك، فلا يجب عليه الرد، ومن المطلوب المصافحة، لما ورد أنها تذهب الغل من القلوب، وأما تقبيل اليد فهو مكروه إلا لمن ترجى بركته كشيخ أو والد، وأما المعانقة فمكروهة إلا لشوق، كقدوم من سفر ونحوه. واعلم أن ابتداء السلام سنة، ورده فرض كفاية، ولكن الابتداء أفضل من الرد، لما ورد" أن للبادئ تسعين حسنة، وللراد عشرة "ومثله الوضوء قبل الوقت فإنه مندوب، لكنه أفضل من الوضوء بعده الواجب، وإبراء المعسر مندوب، وهو أفضل من أنظاره الواجب. وجمع ذلك بعضهم في قوله: الْفَرْضُ أَفْضَلِ مِنْ تَطَوّعٍ عَابِد حَتَّى وَلَو قَدْ جَاءَ مِنْهُ بِأَكْثَرإلاَّ التَّطَهُّرِ قَبْلَ وَقْتٍ وَابْتداء لِلسَّلاَمِ كَذَاكَ إِبرا المعْسروقد تقدم في آخر البقرة. قوله: ﴿ فَحَيُّواْ ﴾ أصله حييوا، استثقلت الضمة على إيلاء فحذفت الضمة فالتقى ساكنان الياء والواو، فحذفت الياء وضم ما قبل الواو. قوله: (بأن تقولوا عليك السلام ورحمة الله وبركاته) أي فإذا اقتصر البادئ على السلام وزاد الراد الرحمة والبركة،" روي أن رجلاً، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليك، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله، فقال وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فقال الرجل: نقصتني الفضل على سلامي، فأين ما قال الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تترك لي فضلاً فرددت عليه مثله، ولا يزاد على البركة شيء لا من البادي ولا من الراد، لما ورد أن رجلاً سلم على ابن عباس فقال له السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم زاد شيئاً، "فقال ابن عباس إن السلام انتهى إلى البركة. قوله: ﴿ أَوْ رُدُّوهَآ ﴾ أي ردوا مثلها على حد واسأل القرية لأن رد عينها محال. قوله: (والمبتدع) أي صاحب البدعة التي تخالف الشرع. قوله: (والفاسق) أي بالجارحة المتجاهر. قوله: (على قاضي الحاجة) أي ومن في حكمه كمن في محل مستقذر، أو في حال الاستنجاء. قوله: (ومن في الحمام) أي في محل الحرارة لا خارجه في محل نزع الثياب. قوله: (والآكل) أي بالفعل بأن كان فمه مشغولاً بالمضغ لا وقت خلوه منه فيجب الرد. قوله: (بل يكره في غير الأخير) أي الآكل بالفعل. قوله: (ويقال للكافر وعليك) أي لأنه يقول في سلامه السام عليك، والسام الموت، فيرد عليه بقوله وعليك، ومحل ذلك ما لم يتحقق منه النطق بالسلام بلفظه وإلا فيرد. قوله: ﴿ ٱللَّهُ ﴾ مبتدأ.
﴿ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ خبر أول، و ﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ﴾ خبر ثان، ورد بالخبر الأول على منكري التوحيد، وبالثاني على منكري البعث. قوله: (والله) أشار بذلك إلى أن اللام في ﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ﴾ موطئة لقسم محذوف. قوله: ﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ﴾ أي يحشركم بعد تفرقكم، قال تعالى:﴿ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ ﴾[الشورى: ٢٩].
قوله: ﴿ إِلَىٰ ﴾ (في) أشار بذلك إلى أن ﴿ إِلَىٰ ﴾ مضمنة معنى (في) ويصح بقاؤها على أصلها، ويضمن الفعل معنى يحشر، وهو الأقرب، لأن التجوز في الفعل أكثر من التجوز في الحرف. قوله: ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي لا تردد ولا تحير في ذلك اليوم. قوله (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: ﴿ حَدِيثاً ﴾ تمييز. قوله: (ولما رجع ناس) هذا إشارة لسبب نزول الآية، والمراد بالناس عبد الله بن أبي وأًحابه الثلثمائة وكانوا منافقين. قوله: (اختلف الناس) أي الصحابة، وقوله: (اقتلهم) أي للأمارة الدالة على كفرهم، وقوله: (وقال فريق لا) أي لنطقهم بالشهادتين، واللوم في الحقيقة راجع على الفريق الثاني القائل لا تقتلهم.
قوله: ﴿ فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ ﴾ ما مبتدأ ولكم جاء ومجرور خبر، وفي المنافقين متعلق بما تعلق به الخبر، أو متعلق بمحذوف حال من فئتين، لأنه نعت نكرة تقدم عليها، أو متعلق بفئتين لتأويله بمشتق أي مفترقين، وقوله: ﴿ فِئَتَيْنِ ﴾ خبر لصار المحذوفة كما قدره المفسر. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ ﴾ الركس في الأصل النكس، وهو قلب الشيء على رأسه، فمعناه على هذا ردهم من حالة العلو وهو عز الإسلام، إلى السفل وهو ذل الكفر بالسبي والقتل. قوله: (ردهم) أي عن القتال ومنعهم منه، ولم يجر على أيديهم خير بسبب كسبهم، لما في الحديث" إن العبد ليحرم الخير بالذنب يصيبه "وفي نسخة بددهم أي فرق شملهم وجمعهم. قوله: (من الكفر الخ) بيان لما كسبوا، وقوله: (والمعاصي) عطف عام على خاص. قوله: (للإنكار) أي مع التوبيخ، والمعنى لا تفترقوا في قتلهم، أو لا تجعلوهم من المهتدين، ولا تعدوهم منهم، وهذا إشارة لليأس من هداهم، فلم يهتدوا بعد ذلك أبداً. قوله: ﴿ كَمَا كَفَرُواْ ﴾ نعت لمحذوف، والتقدير ودوا لو تكفرون كفراً مثل كفرهم. قوله: ﴿ فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾ مفرع على قوله: ﴿ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ والجمع باعتبار الأفراد. قوله: ﴿ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ ﴾ غاية في عدم اتخاذ الأولياء منهم، والمعنى امتنعوا من اتخاذ الأولياء منهم إلى أن تقع منهم الهجرة، بمعنى الجهاد في سبيل الله مخلصين له الدين. واعلم أن الهجرة ثلاثة أقسام: هجرة للمؤمنين في أول الإسلام وهي قوله تعالى للفقراء المهاجرين، وهجرة المنافقين وهي خروجهم للقتال من رسول الله صابرين محتسبين لأغراض الدنيا وهي المرادة هنا، وهجرة عن جميع المعاصي وهي التي قال فيها عليه الصلاة والسلام:" المهاجر من هجر ما نهى الله عنه "، قوله: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ ﴾ أي أعرضوا عن عما أمرتهم به، وقوله: (وأقاموا على ما هم عليه) دفع به ما يتوهم من قوله: ﴿ تَوَلَّوْاْ ﴾ أنه كان حصل منهم إقبال ثم أعرضوا، فأجاب بأن المراد أقاموا وداموا على ما هم. قوله: ﴿ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ أي في حل أو في حرم لأنهم من جملة الكفار، فيفعل بهم ما فعل بسائر الكفار.
قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ ﴾ هذا استثناء من الأخذ والقتل فقط، ولا يرجع للموالاة فإنها لا تجوز مطلقاً. قوله: ﴿ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَٰقٌ ﴾ أي وهم الأسلميون، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت خروجه إلى مكة، قد وقع بينه وبين هلال بن عويمر الأسلمي عهد، أن لا يعين على النبي ولا يعينه، وعلى أن من لجأ إليه لا يتعرض له، وكذلك بنو بكر بن زيد وخزاعة. قوله: ﴿ أَوْ جَآءُوكُمْ ﴾ معطوف على ﴿ يَصِلُونَ ﴾ كما قدر الموصول المفسر، فالمستثنى فريقان: فريق التجؤوا للمعاهدين، وفريق ترك قتالنا مع قومه، وقتال قومه معنا. قوله: وقد ﴿ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ﴾ أي وهم بنو مدلج جاؤوا لرسول الله غير مقاتلين. قوله: (وهذا) أي قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ ﴾ وقوله: ﴿ أَوْ جَآءُوكُمْ ﴾ وقوله: (وما بعده) أي وهو قوله: ﴿ فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ ﴾ الخ. قوله: (منسوخ بآية السيف) أي التي نزلت في براءة وهي قوله تعالى:﴿ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[التوبة: ٥] الآيات فصار بعد نزولها آية السيف لا يقبل منهم عهد أبداً، إلى أن انتشر الإسلام، فخصصت آية السيف بالجزية والعهود. قوله: ﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ الخ، هذا تسلية للمؤمنين وتذكير لنعم الله عليهم. قوله: ﴿ لَسَلَّطَهُمْ ﴾ هذا تمهيد لجواب ﴿ لَوْ ﴾ وجوابها. قوله: ﴿ فَلَقَٰتَلُوكُمْ ﴾ قوله: (ولكنه لم يشأ الخ) أشار بهذا الاستدراج إلى تتميم القياس، لأنه ذكر المقدم بقوله: ﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ وبالتالي بقوله: ﴿ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ فذكر المفسر نقيض المقدم بقوله لكن، والنتيجة بقوله: (فألقى في قلوبهم الرعب). قوله: ﴿ فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ ﴾ أي بوجه من الوجوه المتقدمة، وهي التجاؤهم إلى من بيننا وبينه عهد، وهي التجاؤهم، أو تركهم القتال معنا ومع قومهم. قوله: (أي انقادوا) للصلح والأمان ورضوا به. قوله: ﴿ آخَرِينَ ﴾ أي قوماً آخرين من المنافقين، وسيأتي أنهم أسد وغطفان، كانوا حول المدينة فأسلموا ظاهراً ليأمنوا من القتل والأسر، وكانوا إذا خلوا بالكفار يقولون آمنا بالقرد والعقرب والخنفساء، وإذا لقوا النبي وأصحابه يقولون إنا على دينكم ليأمنوا من الفريقين. قوله: (وقعوا أشد وقوع) أي رجعوا إلى الشرك أعظم رجوع. قوله: (لغدرهم) أي خيانتهم.
قوله: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ﴾ أي لا يسوع ولا يصلح لمنصف بالإيمان أن يقتل أخاه في الإيمان، والمعنى يبعد كل البعد، لأن شأن الإيمان الرأفة والرحمة بالإخوان، قال تعالى مدحاً في أصحاب رسول الله (أشداء على الكفار رحماء بينهم). قوله: ﴿ إِلاَّ خَطَئاً ﴾ الاستثناء منقطع لأن ما قبله محمول على العمد، والمعنى لكن قد يقع خطأ، ويصح أن يقع متصلاً، والمعنى لا ينبغي أن يقع القتل من المؤمن للمؤمن في حال من الأحوال إلا في حالة الخطأ. قوله: (مخطئاً) أشار بذلك إلى أن خطأ حال، إلا أنه مؤول باسم الفاعل. قوله: (من غير قصد) أي للضرب من أصله، أو ضرب من يجوز له ضربه فصادف غيره. قوله: ﴿ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً ﴾ الخ، حاصل ما ذكره في الخطأ ثلاثة أقسام: لأن المقتول إما مؤمن ورثته وورثته مسلمون، أو مؤمن وورثته حربيون، أو معاهد، فالأول فيه الدية والكفارة وكذا الثالث، وأما الثاني ففيه الكفارة فقط، ومن إما اسم موصول مبتدأ وقتل صلتها، وقوله: ﴿ فَتَحْرِيرُ ﴾ خبره وقرن بالفاء لشبهه بالشرط، وإما اسم الشرط وقتل فعله، وقوله فتحرير جوابه والجملة خبره من حيث كونه مبتدأ. قوله: (عليه) أشار بذلك إلى أن قوله فتحرير مبتدأ خبره محذوف، ويصح أن يكون خبر المحذوف، والتقدير فالواجب عليه تحرير الخ، أو فاعل بفعل محذوف أي فيجب عليه تحرير. قوله: ﴿ وَدِيَةٌ ﴾ معطوف على تحرير، والدية مصدر في الأصل أطلقت على المال المأخوذ في نظير القتل، وهو والمراد هنا، ولذا وصفها بمسلمة، وأصلها ودي حذفت الواو وعوض عنها تاء التأنيث. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ ﴾ أصله يتصدقوا قلبت التاء صاداً وأدغمت في الصاد هو حال من أهله، والمعنى إلا متصدقين. قوله: (بأن يعفو) أي أهله وسمي العفو عنها صدقة تنبيهاً على فضله، لأن كل معروف صدقة. قوله: (أنها مائة من الإبل) هذا مخصوص بأهل الإبل، وأما على أهل الذهب فألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم. قوله: (بنت مخاض) أي وهي ما أوفت سنة ودخلت في الثانية. قوله: (وكذا بنات لبون) أي وابن اللبون ما أوفى سنتين ودخل في الثالثة. قوله: (وحقاق) الحقة ما أوفت ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، وقوله: (وجذاع) الجذعة ما أوفت أربع سنين ودخلت في الخامسة. قوله: (وأنها على عاقلة القاتل) أي وهو إن كان غنياً كواحد منهم عند مالك، وعند الشافعي ليس عليه شيء منها، وهذه دية الخطأ، وأما دية العمد فمغلظة من أربعة أنواع: بإسقاط ابن اللبون من كل نوع خمس وعشرون عند مالك، إلا إذا قتل الأب ابنه عمداً غير قاصد إزهاق روحه بأن لم يذبحه، فعليه ثلاثون حقه وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، والخلفة: الناقة الحامل، والتغليظ عند الشافعي يكون بتلك الأنواع الثلاثة لا غير. قوله: (إلا الأصل والفرع) هذا مذهب الشافعي، وأما عند مالك فلا فرق بين الأصل والفرع وغيرهما، في أن كلاً منهما يدفع كغيره. قوله: (على الغني منهم نصف دينار) يؤخذ منه أن العاقلة غير محدودة بعدد، وهو مذهب الشافعي، وعند مالك تفرض الدية على ما زيد على ألف من أقاربه، وقيل على سبعمائة. قوله: ﴿ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ ﴾ أي بأن جاء من بلاد الكفر وأسلم عندنا ثم قتل خطأ. قوله: (حرب) بكسر الحاء أي محارب. قوله: ﴿ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ ﴾ الخ، أي بأن كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً. قوله: (وهي ثلث دية المؤمن) هذا مذهب الإمام الشافعي، وأما عند مالك فهو على النصف من الحر المسلم، كأنثى الحر المسلم. قوله: (وثلثا عشرها إن كان مجوسياً) هذا باتفاق بين مالك والشافعي، وأنثاه على النصف منه. قوله: (الرقبة) قدره إشارة إلى أن مفعول يجد محذوف. قوله: ﴿ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ﴾ يقال فيه من الإعراب ما قيل في ﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾.
قوله: (وبه أخذ الشافعي) أي ومالك. قوله: (المقدر) أي وتقديره تاب الله عليكم توبة، ويصح أن يكون مفعولاً لأجله، أي شرع لكم ذلك لأجل التوبة عليكم وهو الأحسن، إن قلت: إن الخطأ ليس بذنب فما معنى التوبة منه؟ أجيب: بأن ذلك لجبر الخلل الذي حصل منه في عدم إمعان النظر والتحفظ. قوله: ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً ﴾ مقابل قوله من قتل مؤمناً خطأ، وقوله متعمداً أي عدواناً ليخرج المقتول قصاصاً أو حداً، كالزاني المحصن والمحارب. وسبب نزولها: أن رجلاً يقال له مقيس بن صبابة أسلم هو وأخوه هشام على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ثم إن مقيساً وجد أخاه مقتولاً في بني النجار، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فأرسل معه رجلاً يقال له فهر من بني مهران إلى بني النجار، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أنكم إذا عرفتم عين القاتل فسلموه لمقيس، وإن لم تعرفوه فأعطوا له الدية، فقالوا سمعاً وطاعة إنا لا نعرف عين القاتل وأعطوه مائة بعير! فلما ذهب من عندهم سول الشيطان لمقيس أن يقتل فهراً بدل أخيه، فتأخر عنه وضربه فقتله وركب بعيراً وساق باقيها راجعاً إلى مكة، وقال شعراً في ذلك: قَتَلْتُ بِهِ فَهْراً وَأَحْمَلْت عَقْله سَرَاة بَني النَجَّارِ أَرْبَاب قَارِعوَأَدْرَكْتُ ثَأْرِي وَاضْجَعْتُ تَوَسُّدا وَكُنْتُ إلَى الأَصْنَامِ أَوَّل رَاجِع فنزلت فيه الآية، لوما كان الفتح استثناه النبي ممن أمنه! فقتله الصحابة وهو متعلق بأستار الكعبة، فعلى هذا الخلود في الآية على ظاهره. قوله: ﴿ خَٰلِداً ﴾ حال من الضمير في جزاؤه. قوله: ﴿ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ ﴾ معطوف على محذوف، والتقدير حكم الله عليه بذلك وغضب الله عليه. قوله: ﴿ وَلَعَنَهُ ﴾ عطف على ﴿ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ ﴾ مرادف لأن اللعنة هي الغضب. قوله: (وهذا مؤول إلخ) يشرع في ذكر الأجوبة عن السؤال الوارد على الآية. وحاصله أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وظاهر الآية يقتضي أن جزاء القاتل عمداً الخلود في النار، ولو مات مؤمناً، وليس كذلك فأجاب المفسر عن ذلك بثلاثة أجوبة: الأول أنه محمول على المستحل لذلك، الثاني أن هذا جزاؤه إن جوزي، أي إن عامله الله بعد له، جازاه بذلك، وإن عامله بفضله فجائز أن لا يدخله النار، ولكن في هذا الجواب شيء، لأن فيه تسليم أنه إذا جوزي يخلد في النار، وهو غير سديد للقواطع الدالة على أنه لا يخلد في النار إلا من مات على الكفر، وقد أجاب البيضاوي بجواب آخر: أن يحمل الخلود على طول المكث، الثالث أشار له المفسر بقوله: (وعن ابن عباس الخ). قوله: (وأنها ناسخة) الأولى مخصصة، وكلام ابن عباس خارج مخرج الزجر والتشديد، وليس على حقيقته على مقتضى مذهب أهل السنة. قوله: (وسبق قدرها) أي في تفسير الآية التي قبلها. قوله: (أن بين العمد والخطأ الخ) سبق للمفسر أنه أدخله في الخطأ بقوله أو ضربه بما لا يقتل غالباً. قوله: (يسمى شبه العمد) أي فأشبه العمد من حيث تغليظ الدية بكونها من ثلاثة أنواع: ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة، وأشبه الخطأ من حيث كونه لا قصاص فيه وهذا مذهب الشافعي، وعند أبي حنيفة لا يقتص من القاتل إلا إذا قتله بآلة محددة كسيف وبندق وإلا فيلزمه الدية، وعند مالك يقتص من القاتل إذا قتل بأي آلة ولو بضرب كف أو سوط لا بكمروحة. قوله: (في الصفة) أي من حيث كونها من ثلاثة أنواع: قوله: (في التأجيل) أي كونها على ثلاث سنين وقوله: (والحمل) أي كون العاقلة تحملها. قوله: (وهو) أي شبه العمد، وقوله: (أولى بالكفارة) أي فتجب وهذا مذهب الشافعي، وعند مالك ليس كالخطأ، بل تستحب الكفارة فقط. قوله: (ونزل لما نفر الخ) هذه رواية ابن عباس في سبب نزول الآية، روي عنه أيضاً أنها نزلت في رجل من بني مرة بن عون يقال له مرداس بن نهيك، وكان من أهل فدك، لم يسلم من قومه غيره! فلما سمعوا بسرية رسول الله صلى الله عليه وسلم هربوا وبقي ذلك الرجل، فلما رأى الخيل خاف أن لا يكونوا مسلمين، فالجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد هو الجبل، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون، فعرف أنهم من أصحاب رسول الله، فكبَّر ونزل وهو يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم، فتغشاه أساة بن زيد بسيفه فقتله واستاق غنمه، ثم رجعوا إلى رسول الله فأخبروه الخب، فوجد رسول الله من ذلك وجداً شديداً، وكان قد سبقهم الخبز، فقال عليه الصلاة والسلام أقتلتموه إرادة ما معه، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة هذه الآية، فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فقال: كيف أنت بلا إله إلا الله يقولها ثلاث مرات، قال أسامة: فما زال رسول الله يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذٍ، ثم استغفر له رسول الله وقال اعتق رقبة. وروي عن أسامة أنه قال: قلت يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، فقال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفاً أم لا.
قوله: ﴿ فَتَبَيَّنُواْ ﴾ أي تمهلوا حتى يكشف لكم حقيقة الأمر، وما وقع من الصحابة اجتهاد، غير أنهم مخطئون فيه، حيث اعتمدوا على مجرد الظن، فلذا عاتبهم الله على ذلك، وهذا مرتب على وعيد القاتل عمداً، أي حيث ثبت الوعيد العظيم للقاتل عمداً، فالواجب التثبت والتحفظ، فرتب على ذلك ما وقع من الصحابة، قوله: (في الموضعين) أي هنا، وقوله فيما يأتي: ﴿ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ ﴾، وبقي موضع ثالث في الحجرات وهو قوله تعالى:﴿ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ ﴾[الحجرات: ٦] وفيه القراءتان، ويحتمل أن قوله في الموضعين أي ما هنا بشقيه والحجرات والأول أقرب. قوله: (بالألف ودونها) أي فهما قراءتان سبعيتان، وروي عن عاصم كسر السين وسكون اللام وهو بمعنى المفتوحة، قوله: (أي التحية أو الانقياد) لف ونشر مرتب. قوله: (التي هي أمارة على إسلامه) تقدم أنه وقع منه الأمران. قوله: ﴿ تَبْتَغُونَ ﴾ النهي منصب على القيد والمقيد، وليس كقولهم لا تطلب العلم تبتغي به الدنيا قوله: ﴿ فَعِنْدَ ٱللَّهِ ﴾ تعليل للنهي المذكور. قوله: ﴿ كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ ﴾ أي كنتم مثله في مبدأ الإسلام. قوله: ﴿ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ أي قبل منكم النطق بالشهادتين، ولم يأمر بالبحث على سرائركم. قوله: ﴿ فَتَبَيَّنُواْ ﴾ أي في المستقبل في مثل هذه الوقعة فهو تأكيد لفظي، وقبل ليس تأكيد الاختلاف متعلقيهما، لأن الأول فيمن تقتلونه، والثاني في شأن نعمة الله عليكم بالإسلام لتشكروه. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ متعلق بمحذوف حال من ﴿ ٱلْقَٰعِدُونَ ﴾.
قوله: (بالرفع صفة) أي لقوله: ﴿ ٱلْقَٰعِدُونَ ﴾ إما لأن غير إذا وقعت بين ضدين قد تتعرف، أو لأن أل في القاعدون للجنس فأشبه النكرة، والأظهر أنه مرفوع على البدلية من القاعدون! لأنه لا يشترط استواء البدل والمبدل منه تعريفاً أو تنكيراً. قوله: (والنصب استثناء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (من زمانه) بيان للضرر وهي المرض، وقوله: (أو نحوه) أي كالعرج. قوله: (فضيلة) أي في الآخرة، والمعنى أن من تقاعد عن القتال لمرض ونحوه، فهو ناقص عن المباشرين للجهاد درجة لأنهم استووا معهم في الجهاد بالنية، وإنما زاد المجاهدون بالمباشرة، وكل من القسمين وعده الله بالجنة. قوله: (الجنة) أي لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم.
قوله: ﴿ دَرَجَاتٍ ﴾ قيل سبعة وقيل سبعون وقيل سبعمائة، كل درجة كما بين السماء والأرض. قوله: (بفعلهما المقدر) أي غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة. قوله: (فقتلوا يوم بدر) أي وهل ماتوا عصاة أو كفاراً خلاف، لأن الهجرة كانت ركناً أو شرطاً في صحة الإسلام. قال تعالى:﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ ﴾[الأنفال: ٧٢] وهذا كان قبل الفتح، ثم نسخ بعده، والقاتل لهؤلاء الملائكة لعلمهم بأن الله لم يقبل منهم الإسلام لفقد شرطه، وهو الهجرة مع قدرتهم عليها، وليس التخلف ومن أجل صيانة المال والعيال عذراً، والمتبادر من ذلك أنهم ماتوا كفاراً. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ﴾ يصح أن يكون ماضياً ولم يؤت فيه بعلامة التأنيث، لأن التأنيث مجازي، ويصح أن يكون مضارعاً حذفت منه إحدى التائين، والأصل تتوفاهم. قال ابن مالك: ومَا بِتَاءَيْن ابْتَدَى قَدْ يَقْتَصِر فِيهِ عَلَى تَا كتبين العِبَرقوله: ﴿ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾ يعني ملك الموت وهو عزرائيل، وإنما جمع تعظيماً، وقيل المراد أعوانه وهم ستة: ثلاثة منهم يقبضون أرواح المؤمنين، وثلاثة منهم يقبضون أرواح الكفار. قوله: ﴿ قَالُواْ ﴾ (لهم موبخين) أي عند قبض أرواحهم. قوله: ﴿ فِيمَ كُنتُمْ ﴾ ما اسم استفهام حذفت ألفها لجرها بالحرف. قال ابن مالك: وَمَا فِي الاسْتِفْهَامِ إنْ جرّت حُذِفَ أَلْفهَا وَأَوَّلَها الهَا إنْ تَقِفُقوله: (أي في شيء كنتم) أي أكننتم مؤمنين أم كفاراً. قوله: ﴿ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ ﴾ هذا اعتذار غير صحيح، فلذا ردت الملائكة عليهم هذا الاعتذار. قوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ هذا هو خبر إن، وقرن بالفاء لأن في الأصل خبر عن الموصول وهو يشبه الشرط. قوله: (هي) هذا هو المخصوص بالذم. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ ﴾ هذا الاستثناء منقطع على التحقيق. قوله: ﴿ مِنَ ٱلرِّجَالِ ﴾ هو ما يعبده بيان للمستشعفين، وذلك كعباس بن ربيعة وسلمة بن هشام وغيرهما، وقوله: ﴿ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَانِ ﴾ قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان. قوله: ﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ﴾ هذه الجملة إما مستأنفة مبينة للاستضعاف جواب سؤال مقدر تقديره ما وجه استضعافهم، أو صفة للمستضعفين. قوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ﴾ عسى في كلام الله بمنزلة التحقيق، لعلمه بعواقب الأمور، وقدرته على كل شيء، وأما في كلام غيره فللرجاء، لجهله بعواقب الأمور وعجزه.
قوله: ﴿ وَمَن يُهَاجِرْ ﴾ هذا ترغيب في الهجرة. قوله: (مهاجراً) بالفتح أي أماكن يهاجر إليها، وعبر عنها بالمراغم إشارة إلى أن من فعل ذلك أرغم الله به أنف عدوه: أي يقهره ويذله، والرغام في الأصل التراب، فأطلق وأريد لازمه، وهو الذل والهوان، لأن من التصق أنفه بالتراب فقد ذل وصغر. قوله: (كما وقع لجندع بن ضمرة الليثي) وذلك أنه لما نزل قوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾[النساء: ٩٧] الآيات، بعث بها صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فتليت على المسلمين الذين كانوا فيها إذ ذاك، فسمعها رجل من بني ليث، شيخ مريض كبير يقال له جندع بن ضمرة فقال: والله ما أنا ممن استثنى الله، فإني لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني إلى المدينة وأبعد منها، والله لا أبيتن بمكة، أخرجوني، فخرجوا به على سرير حتى أتوا به التنعيم، فأدركه الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال: اللهم هذه لك ولرسولك، أبايعك على ما بايعك رسولك، ثم مات، فبلغ خبره أصحاب رسول الله فقالوا: لو وافى المدينة لكان أتم وأوفى أجراً، وضحك منه المشركون وقالوا: ما أدرك ما طلب، فنزلت الآية. قوله: ﴿ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ ﴾ أي تفضلاً منه وكرماً ويدخل في ذلك من قصد أي طاعة ثم عجز عن إتمامها، فيكتب له ثوابها كاملاً.
وقوله: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي عنده وفي علمه. قوله: ﴿ ﴾ ذكر هذه عقب الهجرة للترغيب، فكأن قال لا بأس في الهجرة ولا مشقة فيها لكون الصلاة تقصر فيها فهذا من جملة السعة التي يرونها في السفر. قوله: (سافرتم) أي سفراً طويلاً وسيأتي أن أقله أربعة برد عند الشافعي، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل سنة آلاف ذراع، والذراع ستة وثلاثون أصبعاً، والأصبع ست شعيرات، والشعيرة ست شعرات من شعر البرذون، وكذا عند مالك، وعند أبي حنيفة ثلاثة أيام من قصر الأيام مع الاستراحات، فلا يصح القصر في أقل من أربعة برد عند مالك والشافعي، ولا في أقل من ثلاثة أياك عند أبي حنيفة إلا في مناسك الحج، فإنهم يقصرون في أقل من ذلك للسنة. قوله: (في) ﴿ أَن تَقْصُرُواْ ﴾ أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بالحرف، والجار والمجرور متعلق بجناح، أي ليس عليكم جناح في القصر. قوله: ﴿ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ ﴾ يصح أن تكون تبعيضية، وأل في الصلاة للجنس أو وهو الرباعيات، ويصح أن تكون زائدة على مذهب الأخفش وأل للجنس، والمراد جنس مخصوص وهو الرباعية، وقد بين بالسنة. قوله: (بأن تردوها من أربع إلى اثنتين) هذا أحد أقوال ثلاثة، لأنه اختلف هل فرضت الصلاة كاملة ثم نقصت في السفر وبقيت في الحضر على حالها أو فرضت ناقصة فبقيت في السفر وزيدت في الحضر، وقيل فرض كل مستقبلاً. قوله: (بيان للواقع) أي قوله: ﴿ إِنْ خِفْتُمْ ﴾ الخ، أي لأن غالب أسفارنا وأصحابه لم تخل من خوف العدو لكثرة المشركين حينئذٍ، وقوله: (فلا مفهوم له) أي لأنه يكون في سفر التجارة وغيرها من كل سفر مأذون فيه واجباً كان أو مندوباً أو مباحاً. قوله: وهي مرحلتان) أي سير يومين معتدلين، كل يوم اثنا عشر ساعة بسير الجمال المثقلة بالأحمال. قوله: (إنه رخصة) أي جائز ما لم يبلغ سفره ثلاث مراحل، وإلا كان أفضل للخروج من خلاف أبي حنيفة فإنه قال بوجوبه، وعند مالك سنة مؤكدة. قوله: ﴿ عَدُوّاً مُّبِيناً ﴾ العدو يقع بلفظ واحد على المذكر والمؤنث والمجموع والمثنى.
قوله: ﴿ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ ﴾ شروع في ذكر صلاة القسمة في الخوف. واعلم أن صلاة الخوف على أقسام، فتارة يكون العدو في غير تجاه القبلة، وفي هذا القسم تكون صلاة القسمة، وهي على كيفيتين: الأولى: أن يقسم الجيش طائفتين، فطائفة تقف تجاه العدو، وطائفة تصلي مع الإمام بتمامها، فبعد السلام تنصرف للعدو، ويأتي الطائفة الثانية فيعبد الإمام بهم الصلاة ثانياً فصلاة الطائفة الأولى فرض خلف فرض، والثانية فرض خلف نفل، وهذه الكيفية انفرد بها الإمام الشافعي. الثانية: أن يصلي بكل طائفة ركعة في الثنائية وركعتين في الرباعية، وبالطائفة الأولى ركعتين في الثلاثية والثانية ركعة، وبها قال مالك والشافعي أيضاً، لكن مالك يقول بها وإن كان العدو تجاه القبلة، وتارة يكون العدو تجاه القبلة، وهي على قسمين أيضاً: إما أن يتقدم الإمام ويقف الجيش خلفه صفوفاً، فعند ركوع الإمام تركع طائفة مع الإمام ويصلون جميعاً معه ويركعون ويسجدون، وبها أخذ مالك، وتارة يلتحم القتال فيصلون كيف شاؤوا، وحل للضرورة مشي وركض وإمساك ملطخ، وهذه الكيفية عند مالك والشافعي، وعند أبي حنيفة إن ضاق الوقت قدموا القتال وأخّروا الصلاة ثم يقضونها، وتفاصيل هذه الأقسام مبينة عند أرباب المذاهب. قوله: (وتتأخر طائفة) أي بإزالة العدو. قوله: (أي صلوا) أي شرعوا في الصلاة. قوله: ﴿ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ ﴾ أي وهي الواقعة تجاه العدو. قوله: ﴿ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ ﴾ أي صلاة ثانية، أو يتيمموا معك الصلاة فالأولى. قوله: ﴿ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ﴾ إنما زاد هنا الأمر بالحذر لكونها مظنة تنبه الكفرة على تلك الطائفة، وأما في الطائفة الأولى فلم ينتبهوا لهم. قوله: (ببطن نخل) سببه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى مع أصحابه جميعاً الظهر، فتنبه المشركون وقال بعضهم لبعض إنا نظفر بهم في أوقات الصلاة، وتحزب المشركون على ذلك، فنزل جبريل على رسول الله بالآية، وعلمه صلاة القسمة ففعلها في صلاة العصر، وقد مشى المفسر على أن هذه الآية في صلاة بطن نخل، وهو موضع من نجد إلى أرض غطفان، بينه وبين المدينة يومان، وقال غيره إنها في صلاة أرض عسفان، وقال آخرون إنها في ذات الرقاع. قوله: ﴿ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الخ، سبب نزولها كما قال ابن عباس،" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا بني محارب وبني أنمار، فنزلوا لا يرون من العدو أحداً، فوضع الناس السلاح، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته حتى قطع الوادي، والسماء ترش بالمطر، فسال الوادي فحال السيل بين رسول الله وبين أصحابه فجلس تحت شجرة، فبصر به غورث بن الحرب المحاربي فقال: قتلني الله إن لم أقتله، ثم انحدر من الجبل ومعه السيف، ولم يشعر به رسول الله إلا وهو قائم على رأسه، وقد سل سيفه من غمده وقال: يا محمد من يمنعك مني الآن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله، ثم قال: اللهم اكفني غورث بن الحرب بما شئت، فأهوى غورث بالسيف ليضرب رسول الله، فأكب بوجهه من زلخة زلخها فندر السيف من يده فقام رسول الله وأخذ السيف ثم قال: يا غورث من يمنعك مني الآن، فقال: لا أحد، فال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فقال: لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك ولا أعين عليك عدواً فأعطاه رسول الله سيفه، فقال غورث: أنت خير مني، فقال رسول الله: أنا أحق بذلك منك، فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا له: ويلك يا غورث ما منعك منه، فقال: والله لقد أهويت إليه بالسيف لأضربه به، فوالله ما أدري من زلخني بين كتفي فخررت، وذكر لهم حاله مع رسول الله. قال وسكن الوادي، فقطع رسول الله الوادي إلى أصحابه وأخبرهم الخبر وقرأ هذه الآية، "والزلخة الدفعة. قوله: ﴿ لَوْ تَغْفُلُونَ ﴾ أي غفلتكم. قوله: ﴿ فَيَمِيلُونَ ﴾ أي: يشتدون. قوله: ﴿ مِّن مَّطَرٍ ﴾ أي لأنه يفسد بالماء. قوله: ﴿ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ ﴾ أي لا طاقة لكم على حمله. قوله: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَٰوةَ ﴾ أي صلاة الخوف أي تمتموها على الوجه المبين. قوله: ﴿ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ﴾ الأمر للندب لأنه في الفضائل، وقوله: (بالتهليل والتسبيح) أي والتحميد والتكبير. قوله: (في كل حال) أي فالمراد من قوله: ﴿ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ﴾ الأحوال. قوله: ﴿ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ ﴾ أي التي دخل وقتها حينئذ، ومعنى إقامتها أداؤها بالشروط والأركان. قوله: (مقدراً وقتها) أي مفروضاً وقتاً بعد وقت. قوله: (لما بعث) المناسب أن يقول لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر من حضر بالخروج لطلب أبي سفيان وأصحابه، وقوله: (طائفة) أي وهي جميع من حضر أحداً من المؤمنين الخالصين وكانوا ستمائة وثلاثين. قوله: (لما رجعوا من أحد) أي فرغوا من وقعتها، والضمير عائد على الصحابة، فحينئذٍ همَّ أبو سفيان وتشاور مع أصحابه في العود إلى المدينة ليستأصلوا المسلمين، فبلغ ذلك رسول الله، فنادى في اليوم الثاني من وقعة أحد، ليخرج من كان معنا بالأمس ولا يخرج معنا غيرهم، فخرجوا حتى بلغوا إلى حمراء الأسد، وتقدم ذلك في آل عمران.
قوله: ﴿ وَلاَ تَهِنُواْ ﴾ الجمهور على كسر الهاء، وقرئ شذوذاً بفتحها من وهن بالكسر أو الفتح قوله: ﴿ فِي ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ ﴾ أي قتالهم. قوله: ﴿ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ ﴾ تعليل للنهي وتشجيع لهم، والمعنى ليس الألم مختصاً بكم بل هم كذلك. قوله: (ولا يجبنوا) المناسب يجنبون بالنون إلا أن يقال حذفت تخفيفاً. قوله: (والثواب عليه) أي على الجهاد، فإنكم تقاتلون في سبيل الله، وهم يقاتلون في سبيل الطاغوت، فأنتم أحق بالشجاعة والقدوم عليهم. قوله: (وسرق طعمة) بتثليث الطاء والكسر أفصح (أبيرق) بضم الهمزة وفتح الباء بعدها راء مكسورة تصغيراً برق، وطعمة من الأنصار من بني ظفر سرق الدرع من دار جاره قتادة، وكان في جراب فيه دقيق فصار الدقيق يتناثر منه، فاتهم طعمة بها، فحلف كاذباً أنه ما أخذها وما له بها علم، وكان ودعها عند يهودي يقال له زين بن السمين، فقال أصحاب الدرع نتبع أثر الدقيق فتتبعوه حتى وصل إلى دار اليهودي، فأخبر أنه ودعه عنده طعمة وشهد به قومه، فقال قوم طعمة نذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نشهد أن اليهودي هو السارق، فذهبوا وشهدوا زوراً ولم يظهروا زوراً، ولم يظهر صلى الله عليه وسلم قادح فيهم، فهم بقطع اليهودي فنزلت الآية، فأراد أن يقطع طعمه فهرب إلى مكة وارتد، فنقب حائطاً ليسرق متاع أهله فوقع عليه فمات مرتداً. قوله: (وخبأها) أي الدرع. قوله: (عند يهودي) أي واسمه زيد بن السمين. قوله: (متعلق بأنزل) أي أنه على حال منه. قوله: ﴿ لِتَحْكُمَ ﴾ متعلق بأنزلنا. قوله ﴿ بِمَآ أَرَاكَ ﴾ أي عرفانية تتعدى بالهمزة لمفعولين الكاف مفعول، والمفعول الثاني محذوف تقديره إياه إذا علمت ذلك، فالمناسب للمفسر أن يقول عرفك. قوله: ﴿ لِّلْخَآئِنِينَ ﴾ اللام للتعليل، ومفعول ﴿ خَصِيماً ﴾ محذوف تقديره شخصاً بريئاً، فاللام على بابها لا بمعنى عن، فقول المفسر: (مخاصماً عنهم) إيضاح للمعنى. قوله: (مما هممت به) أي من القضاء على اليهودي فإنه ذنب صورة على حد: (وعصى آدم ربه فغوى) فهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.
قوله: ﴿ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ ﴾ أي كطعمة وقومه المعينين فإنهم شركاء في الإثم. قوله: ﴿ مَن كَانَ خَوَّاناً ﴾ صيغة مبالغة بمعنى كثير الخيانة، لأنه وقعت منهم خيانات كثيرة، أولاً السرقة، ثم اتهام اليهودي، قم الحلف كاذباً، ثم الشهادة زوراً. إن قلت: إن مقتضى الآية إن الله يحب من كان عنده أصل الخيانة مع أنه ليس كذلك. أجيب: بأن ذلك بالنظر لمن نزلت فيهم وهو طعمة وقومه، فالواقع أن عندهم خيانات كثيرة. قوله: (أي يعاقبه) تفسير لعدم محبة الله له. قوله: ﴿ يَسْتَخْفُونَ ﴾ أي يطلبون الخفاء والستر، وهذه الجملة مستأنفة بيان لطلبهم الستر من الناس. قوله: ﴿ وَهُوَ مَعَهُمْ ﴾ الجملة حالية. قوله: (يضمرون) هذا هو المراد من التبييت هنا، وإلا فهو في الأصل تدبير الأمر ليلاً. قوله: (علماً) تمييز محول عن الفاعل. قوله: ﴿ هَٰأَنْتُمْ ﴾ ها للتنبيه أي تنبهوا يا مخاطبون في المجادلة عن السارق. قوله: (وقرئ) أي شذوذاً. قوله: (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: ﴿ مَن يَعْمَلْ سُوۤءاً ﴾ حث وتحريض لطعمة على التوبة، ومع ذلك لم يتب. قوله: (اليهودي) مفعول لرمي وطعمة فاعلة. قوله: (قاصر عليه) كاليمين الكاذبة. قوله: (أي يتب) المراد التوبة الصادقة بشروطها، فليس المراد مجرد الاستغفار باللسان مع الإصرار، فإن توبة الكذابين. قوله: (ذنباً) أي متعلقاً به أو بغيره. قوله: (ولا يضره غيره). إن قلت: إن معصية طعمة أصابت قومه فضرتهم. أجيب: بأن ضررهم إنما جاء من كسبهم، لمعاونتهم له، وشهادتهم الزور معه، وعزمهم على الحلف كذباً. قوله: ﴿ ثُمَّ يَرْمِ بِهِ ﴾ أي بالخطيئة والإثم، وإنما أفرد الضمير لأن العطف بأو. قوله: ﴿ بَرِيئاً ﴾ صفة لموصوف محذوف، أي شخصاً بريئاً.
قوله: ﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ ﴾ الخ جوابها قوله: ﴿ لَهَمَّتْ ﴾.
واستشكل بأن الوهم قد وقع منهم، والمأخوذ من لولا أنه لم يقع لوجود فضل الله ورحمته، وأجيب بأن المراد هم يحصل معه الإضلال، فالمعنى انتفى إضلالك الذي هموا به لوجود فضل الله ورحمته. قوله: (بالعصمة) أي الحفظ من المعاصي والمخالفات صغيرها وكبيرها. قوله: (زائدة) أي في مفعول ﴿ يَضُرُّونَكَ ﴾ المطلق. قوله: (والغيب) أي علم الغيب وهو ما غاب عنا. قوله: (بذلك) أي بإنزال الكتاب والحكمة، وتعليمه ما لم يكن يعلم، وقوله: (وغيره) أي كالفضائل التي اختص بها مما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى.
قوله: ﴿ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ ﴾ لا نافية للجنس وخير اسمها، وفي كثير متعلق بمحذوف خبرها، وقوله: ﴿ مِّن نَّجْوَاهُمْ ﴾ بمحذوف حال من متعلق الخبر. قوله: (أي الناس) أشار بذلك إلى أن الآية عامة وليست مخصوصة بقوم طعمة المتقدم. قوله: (أي ما يتناجون فيه ويتحدثون) أشار بذلك إلى أن معنى النجوى المحادثة من بعض القوم لبعض اثنان ففوق، قال تعالى:﴿ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ﴾[المجادلة: ٧] الآية، والنجوى ضد السر، وهو محادثة الإنسان نفسه، وعطف قوله: (يتحدثون) على (يتناجون) للتفسير. قوله: ﴿ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ ﴾ يحتمل أنه استثناء منقطع إن أبقينا الكلام على ظاهره، لأن المستثنى الشخص، والمستثنى منه الكلام، ولا شك أنه غيره، ويحتمل أنه متصل وهو على حذف مضاف، وإليه يشير المفسر بقوله: ﴿ إِلاَّ ﴾ (نجوى) الخ. قوله: ﴿ بِصَدَقَةٍ ﴾ أي واجبة أو مندوبة. قوله: ﴿ أَوْ مَعْرُوفٍ ﴾ المراد به كل طاعة لله، فيدخل فيه جميع أعمال البر، فهو من عطف العام على الخاص، وقوله: ﴿ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ أَوْ مَعْرُوفٍ ﴾ من عطف الخاص على العام اعتناءاً بشأنه واهتماماً به، وإنما خصت الثلاثة لأن الأمر المرضي لله، أما إيصال نفع وهو إما جسماني أو روحاني، فالأول كالصدقات، والثاني كالأمر بالمعروف، أو دفع ضرر كالإصلاح بين الناس، لأن المفاسد مترتبة على التشاحن، وبالإصلاح يحصل الخير والبركة ودفع الشرور، ولذا حثّ عليه صلى الله عليه وسلم بقوله:" امشِ ميلاً عد مريضاً، امش ميلين أصلح بين اثنين "وبالجملة فكثرة الكلام لا خير فيها، قال بعضهم: من كثر لغطه كثر سقطه، وفي الحديث:" وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم "قوله: ﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ﴾ اسم الإشارة عائد على الثلاثة، وإنما أفرد لأن العطف بأو إن قلت مقتضى السياق ومن يأمر بذلك، أجيب بأن هذا راجع للمأمور به، فاسم الإشارة عائد على المأمور به وتقديره ومن يفعل المأمور به من صدقة أو معروف أو إصلاح، فاستفيد من الآية أولاً وآخراً ثواب الأمر والفاعل، وفي الحديث:" الدال على الخير كفاعله "وأجيب أيضاً بأنه عبر عن الأمر بالفعل لأنه فعل لساني والأقرب الأول. قوله: (لا غيره من أمور الدنيا) أي لأن ثواب الأعمال الصالحة منوط بالإخلاص كان من الآمر والفاعل، فلو كان الفعل أو الأمر رياء وسمعة أو لغرض دنيوي لم يستحق به عند الله أجراً. قوله: (بالنون والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان، وفي قراءة النون التفات من الغيبة للتكلم، لأن الاسم الظاهر من قبيل الغيبة. قوله: ﴿ أَجْراً عَظِيماً ﴾ أي وهو الجنة وما فيها، قال تعالى: و﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ﴾[يونس: ٢٦] وفي التعبير بسوف إشارة إلى أن جزاء الأعمال الصالحة في الآخرة لا الدنيا، لأنها ليست دار جزاء، بل عطاء الدنيا لكل من وجد فيها أطاع أو عصى كلف أو لا. قوله: ﴿ وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ ﴾ الخ، لما ذكر سبحانه وتعالى المطيعين وما أعد لهم في الآخرة، ذكر وعيد الكفار وعاقبه أمرهم على عادته سبحانه في كتابه. قوله: (فيما جاء من الحق) أي من الأمور التكليفية والأحكام الشرعية. قوله: ﴿ وَيَتَّبِعْ ﴾ عطف لازم على ملزوم. قوله: (بأن نخلي بينه) أي المشاقق، وقوله: (وبينه) أي الضلال، والمعنى أن من خالف ما أمر الله به، فإن الله يستدرجه بالنعم ويمهله ولا يعجل عقوبته، قال تعالى:﴿ قُلْ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً ﴾[مريم: ٧٥] الآية. قوله: ﴿ وَسَآءَتْ مَصِيراً ﴾ ساء كبش للذم فاعلها مستتر وجوباً يعود على جهنم ومصيراً تمييز، والمخصوص بالذم محذوف قدره المفسر بقوله هي. قوله: ﴿ أَن يُشْرَكَ بِهِ ﴾ أي إذا مات على ذلك لقوله تعالى:﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾[الأنفال: ٣٨].
قوله: ﴿ لِمَن يَشَآءُ ﴾ أي إن مات من غير توبة. قوله: ﴿ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾ أي فالشرك أعظم أنواع الضلال، إن قلت: إن ما تقدم في شأن أهل الكتاب وهم عندهم علم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق، وإنما كفرهم عناد، فسماه الله افتراء أي كذباً، وما هنا في شأن مشركي العرب وهم ليس لهم علم بذلك إن هم كالأنعام بل هم أضل، فلذا سماه الله ضلالاً بعيداً. وقوله: ﴿ إِن يَدْعُونَ ﴾ هذا كالدليل، والتعليل لقوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ﴾ قوله: (ما) ﴿ يَدْعُونَ ﴾ أشار بذلك إلى أن إن نافية بمعنى ما. قوله: (يعبد المشركون) أطلق الدعاء على العبادة لأنه منها، وكثيراً ما يطلق الدعاء عليها. قوله: (أصناماً مؤنثة) أي لتأنيث أسمائها، ورد أنه ما من مشرط إلا وكان له صنم قد سماه باسم أنثى من العرب، وحلاه بأنواع الحلى، وكانوا يقولون هم بنات الله. قوله: (كاللات والعزى ومناة) اللات مأخوذة من إله والعزى من العزيز، ومناة من المنان، فاقتطعوها وسموها بها أصنامهم. قوله: (بعبادتها) الباء سببية أي فالمسؤول لهم على عبادتها الشيطان، فعبادتها لازمة لعبادة الشيطان لأنه يحضر عندهم، فهم في الصورة يعبدون الأصنام، وفي الحقيقة العبادة للشيطان. قوله: ﴿ مَّرِيداً ﴾ أي متمرداً بمعنى بلغ الغاية في العتو والفجور لخروجه عن طاعة ربه، حتى أمر الناس بعبادة غير الله.
قوله: ﴿ لَّعَنَهُ ٱللَّهُ ﴾ صفة ثانية لشيطاناً. قوله: (عن رحمته) أي جنته وما فيها. قوله: ﴿ وَقَالَ ﴾ الخ، الجملة إما صفة لشيطاناً أو حال منه، أي ما يدعون إلا شيطاناً بكونه مريداً، وبكونه مطروداً عن رحمته، بكونه قائلاً أو حال كونه قائلاً، وهذا القول قد وقع منه عند قول الله تعالى: ويكون مطروداً عن رحمته، بكونه قائلاً أو حال كونه قائلاً، وهذا القول وقع منه عند قول الله تعالى:﴿ فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ ﴾[الأعراف: ١٣].
قوله: ﴿ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾ ورد أنهم تسعمائة وتسعة وتسعون من كل ألف، لما في الحديث:" ما أنتم فيمن سواكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود "وورد أن يوم القيامة يقول الله لآدم: أخرج من ذريتك بعث النار، فيقول: يا رب وما بعث النار، فيقول الله تعالى: أخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعند ذلك تشيب الأطفال من شدة الهول. قوله: ﴿ وَلأُضِلَّنَّهُمْ ﴾ (عن الحق) أي أميلن قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد. قوله: (وقد فعل ذلك بالبحائر) جمع بحيرة وهي أن تلد الناقة أربعة بطون وتأتي في الخامس بذكر، فكانوا لا يحملون عليها، ولا يأخذون نتاجها، ويجعلون لبنها للطواغيت، ويشقون آذانها علامة على ذلك. قوله: ﴿ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ ﴾ أي ما خلقه، ومن ذلك تغيير صفات نبينا الواقع من اليهود والنصارى، وتغيير كتبهم، ومن ذلك تغيير الجسم بالوشم، وتغيير للشعر بالوصل، لما في الحديث:" لعن الله الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة "قوله: ﴿ خُسْرَاناً مُّبِيناً ﴾ أي لأنه ضيع رأس ماله وهي طاعة الله وعبادته. قوله: ﴿ إِلاَّ غُرُوراً ﴾ أي مزين الظاهر فاسد الباطن. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ أي أولياء الشيطان. قوله: (معدلاً) أي منفذاً ومهرباً.
قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ بيان لوعد المؤمنين إثر بيان وعيد الكفار. قوله: (أي وعدهم الله ذلك وعداً) أشار بذلك إلى أن وعداً وحقاً منصوبان بفعلين محذوفين من لفظهما، ويصح أن يكون حقاً صفة لوعداً. قوله: (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، وهو كالدليل لما قبله: قوله: (لما أفتخر المسلمون وأهل الكتاب) أي حيث قال المسلمون: نبينا خاتم الأنبياء، وكتابنا يقضي على سائر الكتب، ونحن آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا، فنحن أولى بالله منكم، وقال أهل الكتاب: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم فنحن أولى منكم، وقيل سبب نزول الآية افتخار أهل الكتاب ومشركي العرب، وعليه فلا يحتاج لتأويل في قوله: ﴿ يُجْزَ بِهِ ﴾ بل يحمل الجزاء لكل من الفريقين على الخلود في النار. قوله: ﴿ لَّيْسَ ﴾ (الأمر منوطاً) أشار بذلك إلى أن اسم ليس ضمير عائد على الأمر، وقوله: ﴿ بِأَمَـٰنِيِّكُمْ ﴾ متعلق بمحذوف خبرها أي منوطاً بمعنى متعلقاً ومرتبطاً. قوله: ﴿ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا ﴾ أي من مؤمن أو كافر. قوله: (إما في الآخرة) أي وهو محتم في حق من مات كافراً، وأما من مات عاصياً ولم يتب فتحت المشيئة. قوله: (كما ورد في الحديث) أي" وهو أن أبا بكر لما نزلت قال: يا رسول الله وأينا لم يعمل السوء، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه، فقال صلى الله عليه وسلم: " أما أنت وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس عليكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة "، وفي رواية قال أبو بكر: فمن ينجو من هذا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أما تمرض أو يصيبك البلاء؟ قال: بلى، قال: هو ذلك ". قوله: ﴿ وَمَن يَعْمَلْ ﴾ هذا مقابل قوله: ﴿ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ قوله: (شيئاً) أشار بذلك إلى أن من للتبعيض، لأنه لا يمكن استيفاء جميع الأعمال الصالحة. قوله: ﴿ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ ﴾ الجار والمجرور متعلق بشيئاً الذي قدره المفسر. قوله: ﴿ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ ﴾ حال من الضمير في ﴿ يَعْمَلْ ﴾ وكذا قوله: ﴿ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ وأما الكافر فأعماله الصالحة ضائعة، قال تعالى:﴿ وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾[الفرقان: ٢٣] قوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ ﴾ هذه الجملة جواب الشرط. قوله: (بالبناء للمفعول) أي والجنة مفعول ثان، والواو نائب الفاعل مفعول أول، لأنه من أدخل الرباعي فهو ينصب مفعولين، وقوله: (والفاعل) أي من دخل فهو ينصب مفعولاً واحداً فمفعوله الجنة والواو فاعله، وهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾ أي لا ينقصون شيئاً أبداً لا قليلاً ولا كثيراً، ويؤخذ من الآية أن جزاء الأعمال الصالحة في الآخرة، وأما النعم التي يعطاها المؤمن في الدنيا من عافية ورزق وغير ذلك، فليست جزاء لأعماله الصالحة، بل تكفل الله بها لكل حي في الدنيا مسلماً أو كافراً، بل بعض العبيد من أهل المحبة في الله لا ينتظر بعمله الجنة، بل يقول إنما عبدناك لذاتك لا لشيء آخر، قال العارف بن الفارض حين كشف له عن الجنة وما أعد له فيها في مرض موته: إنْ كَانَ مَنْزِلَتِي في الحُبِّ عِنْدَكُمْ مَا قَدْ رَأَيْتُ فَقَدْ ضَيَّعْتُ أيَّاميقوله: (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي.
قوله: ﴿ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ ﴾ أي نفسه وذاته، وعبر عنها بالوجه لأنه أشرف أعضاء الإنسان. قوله: (وهو محسن) الجملة حال من ضمير أسلم. قوله: ﴿ واتَّبَعَ ﴾ إما عطف لازم على ملزوم، وعلة على معلول، أو حال ثانية، والقصد بذلك إقامة الحجة على المشركين جميعاً في عدم اتباعهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن إبراهيم متفق على مدحه حتى من اليهود والنصارى، فالمعنى ما تقولون فيمن اتبع ملة إبراهيم، فيقولون لا أحد أحسن منه، فيقال لهم إن محمداً على ملة إبراهيم فلِمَ لم تتبعوه وتتركوا ما أنتم عليه من عبادة غير الله. قوله: (حال) أي إما من ضمير اتبع أو من إبراهيم، ولصحة هذين المعنيين أجمل المفسر في الحال. قوله: (خالص المحبة له) أي لم يجعل في قلبه غير محبة ربه، لتخللها في حشاشته وانطباعها في مهجته، وقوله: ﴿ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾ كالدليل لما قبله، أي من اتخذه الله خليلاً فهو جدير بأن تتبع ملته. قوله: ﴿ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ هذا دليل ما تقدم، أي حيث كانت السماوات وما فيها، والأرض وما فيها لله وحده ولا مشارك له في شيء من ذلك، فما معنى إشراك من لا يملك لنفسه شيئاً، مع من له جميع المخلوقات، وهو آخذ بناصيتها، وقيل أتى بهذه الآية دفعاً لما يتوهم أن اتخاذ إبراهيم خليلاً عن احتياج كما هو شأن الآدميين، بل ذلك من فضله وكرمه. قوله: (علماً وقدرة) أشار بذلك لقولين في تفسير قوله: ﴿ مُّحِيطاً ﴾ قيل علماً وقيل قدرة وكل صحيح. قوله: (أي لم يزل) أشار بذلك إلى أن كان للاستمرار لا للانقطاع. قوله: (يطلبون منك الفتوى) أي بيان ما حكم الله به في شأنهن، والفتوى بالواو فتفتح الفاء والياء فتضم وجمعها فتاوي بكسر الواو، ويجوز الفتح للخفة.
قوله: ﴿ فِي ﴾ (شأن) ﴿ ٱلنِّسَآءِ ﴾ أي ما يتعلق بهن من دفع المهر لهن وعدم إيذائهن. قوله: (وميراثهن) عطف خاص رداً على من كان يمنعه من الجاهلية. قوله: ﴿ يُفْتِيكُمْ ﴾ أي يبين لكم تلك الأحكام. قوله: ﴿ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾ يحتمل أن ما معطوف على لفظ الجلالة، أو على الضمير المستتر في يفتيكم، والفاصل موجود وهو الكاف، لقول ابن مالك: وَإنْ عَلَى ضَمِير رَفْع مُتَّصِل عَطفت فَافْصُلْ بِالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِأو فاصل ما، وعلى كل فيكون المفتي اثنين: الله سبحانه وتعالى وكتابه والتغاير بالاعتبار، فالمعنى يفتيكم بنفسه على لسان نبيه، فتأمل، وفيه مزيد اعتناء بتلك الفتوى. قوله: (من آية الميراث) أي وهي قوله تعالى:﴿ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ ﴾[النساء: ١١] الآيات، وكذلك الوصية التي تقدمت في أوائل السورة كقوله:﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾[النساء: ١٩] فالمناسب للمفسر أن لا يقتصر على آية الميراث. قوله: (ويفتيكم أيضاً) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ﴾ متعلق بمحذوف معطوف على الضمير في قوله: ﴿ فِيهِنَّ ﴾ العاطف محذوف، التقدير الله وكتابه يفتيكم في شأن النساء عموماً، والله وكتابه يفتيكم في يتامى النساء، فهو من عطف الخاص على العام والنكتة الاعتناء بشأنهن. قوله: ﴿ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ﴾ الإضافة على معنى من أي اليتامى من النساء، أو من إضافة الصفة للموصوف أي النساء اليتامى. قوله: (من الميراث) أي وباقي الحقوق كالمهور. قوله: (عن) ﴿ أَن تَنكِحُوهُنَّ ﴾ معلوم أن حذف الجار مع أن وإن مطرد، وإنما قدر عن إشارة إلى أن الرغبة بمعنى الزهد فتعدى بعن، وبعضهم قدر في إشارة إلى أن الرغبة بمعنى الحب، والمعنى تحبون وترغبون في نكاحهن لمالهن، ولولا ذلك ما تزوجتموهن، وهو مذموم أيضاً، بل الواجب تقوى الله فيهن، فإن أكل مال اليتيم فيه الوعيد الشديد، فضلاً عن كون اليتيم امرأة لا ناصر لها، روى مسلم عن عائشة قالت: هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن ينقص صداقها. فنهوا في نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن، قالت عائشة رضي الله عنها: فاستفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ ﴾ فبين لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها، ولم يلحقوا بسنتها في إكمال الصداق، وإذا كانت مرغوباً عنها في قلة المال والجمال والتمسوا غيرها قال: فكما يتركونها حين يرغبون عنها، فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها، إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق، وقد تقدم بسط ذلك أول السورة. قوله: (لدمامتهن) أي فقرهن. قوله: (وتعضلوهن) أي تمنعوهن، وهذا التخويف للأولياء كما هو مقتضى المفسر، وفي الحقيقة هو عام للأولياء، ومن يتزوج بها فتخويف الولي من حيث عضلهن عن الزواج لأخذ مالهن، وتخويف الزوج من حيث تزوجها لأخذ مالها، أو بغير مهر مثلها وعدم إعطائها إياه، وبالجملة فلا يجوز لولي ولا زوج أكل مال اليتيم ميراثاً أو مهراً. قوله: ﴿ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ ﴾ معطوف على يتامى عطف عام على خاص. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْوِلْدَٰنِ ﴾ أي ذكوراً أو إناثاً، وكانوا في الجاهلية لا يورثون الصبيان مطلقاً ولا النساء، وإنما كانوا يقولونك لا نورث إلا من يحمي الحوزة ويذب عن الحرم، فيحرمون المرأة والصبي. قوله: ﴿ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ فِي يَتَٰمَى ﴾ من عطف العام أيضاً، ويصح نصبه بإضمار فعل، وهو الذي مشى عليه المفسر بقوله: ﴿ وَ ﴾ (يأمركم) وهو خطاب للأولياء والحكام، والمراد باليتامى مطلقاً ذكوراً أو إناثاً. قوله: ﴿ مِنْ خَيْرٍ ﴾ بيان لما. قوله: (مرفوع بفعل يفسره) ﴿ خَافَتْ ﴾ أي فهو من باب الاشتغال، ولا يصح جعله مبتدأً، لأن أداة الشرط لا يليها إلا الفعل ولو تقديراً، ونظيره وإن أحد من المشركين استجارك.
قوله: ﴿ خَافَتْ ﴾ الخوف توقع الأمر المكروه، فقوله: (توقعت) أي انتظرته. قوله: (زوجها) أي ويقال له سيد أيضاً، قال تعالى:﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا ﴾[يوسف: ٢٥] والسيد والبعل مختصان بالرجل، والزوج كما يطلق على الرجل يطلق على المرأة. قوله: (يترك مضاجعتها) الباء سببية، والمراد بالترك التقليل من ذلك. قوله: (والتقصير في نفقتها) أي التقليل منها، مع كونه لم يكن يترك الحقوق الواجبة، وإلا فصلحه بالمال على ترك الحقوق الواجبة يحرم عليه ولا يحل له أخذه، مع أن الموضوع أنه لا جناح عليه ولا عليها فيه فتأمل. قوله: (وطموح عينه) أي تلفته ونظره إلى غيرها قوله: (إلى أجمل منها) أي ولو بحسب ما عنده. قوله: ﴿ أَوْ إِعْرَاضاً ﴾ معطوف على ﴿ نُشُوزاً ﴾ والمراد بالإعراض عنها بوجهه عدم البشاشة معها ولقاؤها بوجه عبوس، قال الشاعر: وَلِلْغَدْرِ عَيْنٌ لَنْ تَزَالَ عبوسةٌ وَعَيْنُ الرِّضَا مَصْحُوبَةً بِالتَّبَسُّمِقوله: ﴿ فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ ﴾ أي لا إثم في ذلك على المرأة إذا صالحته على ترك القسم أو النفقة أو الكسوة، ولا على الرجل في قبول ذلك منها، ونفي الجناح على الرجل ظاهر لأنه يأخذ منها شيئاً، فهو مظنة الجناح، وأما نفي الجناح عن المرأة فمن حيث دفع ذلك، لأنه ربما يقال إنه كان كالربا، فإنه حرام على الدافع والآخذ. قوله: (فيه إدغام التاء) أي بعد قلبها صاداً وتسكينها. قوله: (وفي قراءة يصلحا) أي وهي سبعية، وقوله: ﴿ صُلْحاً ﴾ مفعول مطلق على كلا القراءتين، ويصح على القراءة الثانية جعله مفعولاً به إن ضمن يصلحا معنى يوفقا، وقوله: ﴿ بَيْنَهُمَا ﴾ حال من قوله: ﴿ صُلْحاً ﴾ لأنه نعت نكرة قدم عليها، وأقحمه إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون ذلك الصلح سراً لا يطلع عليه إلا أهلهما. قوله: (بأن نترك له شيئاً) أي بما لها عليه من الحقوق، كالنفقة والكسوة والمبيت، قوله: (فإن رضيت بذلك) جواب الشرط محذوف تقديره لزمها ذلك، قوله: ﴿ وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ هذه الجملة كالتي بعدها معترضة بين جملة الشرط الأولى والثانية، وقوله: ﴿ خَيْرٌ ﴾ اسم تفضيل والمفضل عليه محذوف، قدره المفسر بقوله: (من الفرقة) لا يقال الفرقة لا خير فيها إلا أن يقال قد يكون في الفرقة خير أيضاً لكنه متوهم، وأما خيرية الصلح فمحققة، وقيل إنه ليس على بابه، بل على الصلح خير من الخيور، كما أن النشوز شر من الشرور. قوله: ﴿ وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ ﴾ الأنفس نائب فاعل، أحضرت مفعول أول، والشح مفعول ثان، والمعنى أحضر الله الأنفس الشح أي كل ما عليه، فمتى تعلقت الأنفس بشيء فلا ترجع عنه إلا بمشقة. قوله: (والمعنى) أي المراد من المعنى في ذلك ترغيب في الصلح، وترك هوى النفس. قوله: (عِشرة النساء) قدره إشارة إلى أن مفعول ﴿ تُحْسِنُواْ ﴾ محذوف. قوله: ﴿ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ أي بعلمكم من النساء خيراً أو شراً. قوله: (في المحبة) أي والمحادثة والمضاجعة. قوله: ﴿ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ ﴾ أي فلا تعرضوا كل الإعراض، بل يلزمكم العدل في المبيت وتركه حرام لما في الحديث: " من لك يعدل بين نسائه جاء يوم القيامة وشقه ساقط " وأما الميل القلبي إلى إحداهما فلا حرج فيه، ولذا قال عليه الصلاة والسلام:" اللَّهُم إن هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك "قوله: (الممال عنها) على بمعنى عن، أي الممال عنها بمعنى المبغوضة. قوله: ﴿ كَٱلْمُعَلَّقَةِ ﴾ الكاف بمعنى مثل مفعول ثان لتذروا، والهاء مفعول أول، لأنها إذا كانت بمعنى ترك تنصب مفعولين. قوله: (التي لا هي أيم) الأيم هي التي لا زوج لها، كأن سبق لها زواج أو لم تتزوج أصلاً. قوله: ﴿ وَإِن يَتَفَرَّقَا ﴾ مقابل قوله: ﴿ فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا ﴾.
بقوله: (في الفضل) متعلق بواسعاً. قوله: ﴿ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ الخ، هذا كالعلة والدليل لقوله: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً ﴾.
قوله: (فلا يضره كفركم) أي فليس أمرهم بالطاعة عن احتياج تنزه الله عن أن يصل له نفع من طاعتهم أو ضر من كفرهم، وهذا هو جواب الشرط، وقوله: ﴿ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ دليل الجواب قوله: ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ﴾ أي يستأصلكم بالمرة، وقوله: ﴿ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ﴾ أي يقوم آخرين دفعة مكانكم.
قوله: ﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا ﴾ جواب الشرط محذوف تقديره فقد ساء عمله وخاب نظره، وقوله: ﴿ فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ ﴾ مرتب على محذوف التقدير، فلا يقصر نظره وطلبه على إحداهما فعند الله الخ، قوله: (لمن أراده) متعلق بقوله: ﴿ فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ ﴾ وهذا معنى قوله تعالى:﴿ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾[البقرة: ٢٠٠] الآية، قوله: (وهلا طلب الأعلى بإخلاصه) أي فالواجب على المكلف أن لا يطلب بعمله الصالح إلا الآخرة، لأن الدنيا مضمونة لكل حيوان.
قوله: ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ قيل سبب نزولها أن غنياً وفقيراً اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى أن الفقير لا يظلم الغني، فنزلت الآية، فالخطاب للنبي وأمته. قوله: (قائمين) هذا بيان لأصل المادة، وإلا فالمراد مد يمين القيام، لأن صيغة المبالغة لا تتحقق إلا بالدوام على القيام بالقسط، يقال قسط يقسط، جار وعدل، والمراد هنا العدل بقرينة المقام، وأما أقسط فمعناه عدل لا غير، واسم الفاعل من الأول قاسط، ومن الثاني مقسط. وقوله: ﴿ شُهَدَآءَ ﴾ خبر ثان لكونوا، والواو اسمها، وقوامين خبر أول. قوله: (بالحق) أي لا بالباطل فلا تجوز الشهادة به، وقوله الله أي لمحض وجهه لا لغرض آخر. قوله: ﴿ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر لكان المحذوفة، لأن حذف كان مع اسمها بعد لو كثير، قال ابن مالك: وَيَحْذُفُونَهَا وَيُبْقُونَ الخَبَر وَبَعْدَ أَنْ وَلَوْ كَثِيراً ذَا اشْتَهَرأي هذا إذا كانت الشهادة على الغير، ولو على النفس. قوله: (بأن تقروا بالحق) أي فالمراد بالشهادة الإقرار، ويحتمل أن تكون الشهادة على حقيقتها، وهي الإخبار عن الغير بأمر، كأن يكون شاهداً على ابنه مثلاً بحق، فالواجب أداؤها ولو حصل منها ضرر للنفس. قوله: ﴿ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ ﴾ في حيز المبالغة، ولا عبرة بغضبهما حينئذٍ إذا كان الولد شاهداً عليهما بحق. قوله: ﴿ إِن يَكُنْ ﴾ (المشهود عليه) أي من الوالدين والأقربين والأجانب. قوله: ﴿ فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ﴾ استشكل تثنية الضمير مع كون العطف بأو، أجيب بأن الضمير ليس عائداً على الغني والفقير المتقدمين، بل هو عائد على جنسهما المدلول عليه بالمذكورين، ويدل على ذلك قراءة أبي فالله أولى بهم، وأجيب أيضاً بأن أو للتقسيم للمشهود له والمشهود عليه، لأنهما إما أن يكونا غنيين أو فقيرين، والمشهود له غنياً، والمشهود عليه فقيراً، أو بالعكس، فالضمير في الحقيقة عائد على المشهود له والمشهود عليه، وقد يجاب أيضاً بأن أو بمعنى الواو. قوله: (لرضاه) أي الغني فربما واساكم. وقوله: (بأن تحابوا) تصوير للمنفي. قوله: ﴿ أَن ﴾ (لا) ﴿ تَعْدِلُواْ ﴾ تعليل للنهي، لأن من اتّبع الهوى فقد اتصف بالجور، ومن ترك أتباعه فلا يتصف به فيصير المعنى انتهوا عن اتباع الهوى لأحل أن لا يحصل منكم جور، وهذا ما مشى عليه المفسر، من أن العدل بمعنى الجور، فاحتاج إلى تقدير لا، وقال في الكشاف أن العدل ضد الجور، وعليه فليس فيه تقدير لا، ولا يصير المعنى انتهوا عن اتباع الهوى لأجل اتصافكم بالعدل وكل صحيح، والثاني أقرب لعدم لكلفة. قوله: (تحرفوا الشهادة) أي بأن يشهد على خلاف ما يعلم من الدعوى. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً، وأصل تلووا تلويون استثقلت الضمة على الياء، فنقلت للواو قبلها بعد سلب حركتها، فحذفت الياء التي هي لام الكلمة، وحذفت النون للجازم، فصار وزنه تفعوا، وعلى القراءة الثانية حذفت عين الكلمة التي هي الواو الأولى بعد نقل ضمتها إلى اللام، فصار وزنه تفواأ، وفيه إجحاف، لأنه لم يبق إلا فاؤها. قوله: ﴿ أَوْ تُعْرِضُواْ ﴾ أي بأن تنكروها من أصلها، فالعطف مغاير خلافاً لمن قال بالترادف. قوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ ﴾ دليل الجواب، والجواب محذوف تقديره يعاقبكم على ذلك لأن الله كان بما تعلمون خبيراً. قوله: ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾ الخ، ذكر هذه الآية بعد الأمر بالعدل من ذكر السبب بعد المسبب، لأن الإيمان بفعل الطاعات، لأن فعلها يزيد في الإيمان، ولا تكونوا ممن بدل وغير ممن سيأتي ذكرهم والتشنيع عليهم. قوله: (بمعنى الكتب) أي فأل للجنس. قوله: (في الفعلين) أي نزل وأنزل، وفاعل الإنزال هو الله تعالى. قوله: ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ ﴾ أي بشيء من ذلك بأن أنكر صفة من صفات الله أو سب ملائكته، أو أنكر الكتب السماوية، أو سبّ رسله أو أنكر رسالتهم أو لم يصدق باليوم الآخر، فالكفر بواحد من هذه المذكورات كاف في استحقاق الوعيد، لأن الإيمان بكل واحد أصل من أصول الدين. قوله: (بعده) أي بعد رجوعه إليهم من المناجاة. قوله: (أقاموا عليه) أي مدة إقامتهم عليه، ودفع بذلك ما يقال إن ظاهر الآية يقتضي عدم المغفرة لهم ولو تابوا فأفاد أن عدم المغفرة لهم مقيدة بمدة إقامتهم على الكفر، أما إن تابوا ورجعوا عنه فإن الله يقبل توبتهم، قال تعالى:﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾[الأنفال: ٣٨] وخبر كان في الآية محذوف وهو متعلق اللام تقديره لم يكن الله مريداً ليغفر لهم، والفعل منصوب بأن مضمرة بعد هذه اللام لأنها لام الجحود، والفعل تأويل مصدر مفعول لمريد التقدير لم يكن الله مريداً غفران كفرهم.
قوله: ﴿ بَشِّرِ ﴾ البشارة في الأصل هي الخبر السار، سمي بذلك لأنه يغير البشرة أي الجلدة. قوله: (أخبر) أشار بذلك إلى أن المراد بالبشارة هنا مطلق الإخبار، وسماه بشارة تهكماً بها وإشارة إلى أن وعيدهم بالعذاب لا يخلف، كما أن وعيد المؤمن بالخير لا يخلف، وفي الكلام استعمل تبعية، حيث شبهت النذارة بالبشارة، واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق من البشارة بشر بمعنى أنذر، والجامع التأثر في كل، لأن من سمع الخبر الضار تأثّر به، ومن سمع الخبر السار تأثر به. قوله: ﴿ ٱلْمُنَافِقِينَ ﴾ أي وهم الذين يسرون الكفر، ويظهرون الإسلام، والنفاق قسمان: عملي واعتقادي. فالعملي أشار له صلى الله عليه وسلم بقوله:" إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان "والاعتقادي هو إظهار الإسلام وإخفاء الكفر. قوله: ﴿ أَوْلِيَآءَ ﴾ أي أصحاباً يوالونهم ويستعزون بهم، لزعمه أن الكفار لهم اليد العليا، وأن الإسلام سيهدم لقلة أهله. قوله: (استفهام إنكاري) أي بمعنى النفي. قوله: (إلا أولياءه) أي المؤمنون، قال تعالى:﴿ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾[المنافقون: ٨].
قوله: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾ أي يا أيها المؤمنون، والذي نزل هو قوله تعالى:﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾[الأنعام: ٦٨] وهذا نزل بمكة، لأن المشركين كانوا يخوضون في القرآن يستهزؤون به، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، صار اليهود يفعلون مثل المشركين وكان المنافقون يجلسون إليهم، ويسمعون منهم الخوض، ويستهزؤون معهم، فنهى الله تعالى المؤمنين عن مجالستهم والقعود معهم. قوله: (بالبناء للفاعل) أي والفاعل ضمير يعود على الله تعالى، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعوله وهذا على كونه مشدداً، وأن ما دخلت عليه في تأويل مصدر نائب فاعل. قوله: ﴿ يُكْفَرُ بِهَا ﴾ أي إما من غير استهزاء وهو الواقع من المشركين واليهود، أو مع الاستهزاء وهو الواقع من المنافقين. قوله: (أي الكافرين) أي كالمشركين واليهود، وقوله: (والمستهزئين) أي وهم المنافقون، وسموا مستهزئين لقولهم: (إذا خلوا بشياطينهم إنا معكم إنما نحت مستهزؤون). قوله:﴿ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾[الأنعام: ٦٨] أي غير الحديث المتقدم من الكفر والاستهزاء قوله: ﴿ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ ﴾ أي مشاركون لهم في الإثم، قال بعضهم: وَسَمعكَ صَنّ عَنْ سِمَاعِ القَبيحِ كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنِ النُّطْقِ بِهفَإنَّكَ عِنْدَ سَمِاعِ القَبِيحِ شَريكٌ لِقَائِلِهِ فَانْتَبِهقوله: (في الإثم) أي كفر أو غيره، فالراضي بالكفر كافر، والراضي بالمحرم عاص، وبالجملة فجليس الطائع مثله، وجليس العاصي مثله. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلْمُنَٰفِقِينَ ﴾ الخ، هذه كالعلة والدليل لقوله: ﴿ إِذاً مِّثْلُهُمْ ﴾.
قوله: (من الذين قبله) أي وهو قوله: (الذين يتخذون الكافرين أولياء) والأحسن أنه نعت ثان للمنافقين. قوله: ﴿ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ ﴾ أي بأن كانت الغلبة للمؤمنين، والخذلان للكفار. قوله: (من الظفر عليكم) أي كما وقع في أحد. قوله: ﴿ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ ﴾ الاستحواذ الاقتدار والاستيلاء. قوله: (فأبقينا عليكم) أي رفقنا بكم ورحمناكم. قوله: (فلنا عليكم المنة) أي فأعطونا نصيباً من الدنيا، فهم لا حظ لهم غير أخذ المال. قوله: (بالاستئصال) دفع بذلك ما يقال إن الكفار بالمشاهدة لهم سبيل على المؤمنين في الدنيا، فأجاب المفسر: بأن معنى ذلك أن الكفار لا يستأصلون المؤمنين ويجاب أيضاً: بأن المراد في القيامة فلا يطالبونا بشيء يوم القيامة، أو المراد سبيلاً بالشرع، فإن شريعة الإسلام ظاهرة إلى يوم القيامة، فمن ذلك أن الكافر لا يرث المسلم، وليس له أن يملك عبداً مسلماً، ولا يقتل المسلم بالذمي.
قوله: ﴿ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ ﴾ أي رسوله، وهذا بيان لبعض قبائحهم. قوله: (بإظهارهم خلاف ما أبطنوه) أي من الإظهار الإيمان وإخفاء الكفر. قوله: (فيفتضحون في الدنيا) أي يفتضحون في الآخرة أيضاً لما روي أنه يوم القيامة حين يمتاز الكفار من المؤمنين، تبقى هذه الأمة وفيها منافقوها فيتجلى الله لهم، فيخرّ المؤمنون سجداً، والمنافقون يصير ظهورهم طبقاً، فلا يستطيعون السجود، وروي أنهم يعطون على الصراط نوراً كما يعطى المؤمنون، فيمضون بنورهم ثم يطفأ نورهم، ويبقى نور المؤمنين فينادون المؤمنين: انظرونا نقتبس من نوركم، وهو بمعنى قوله تعالى:﴿ يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾[الحديد: ١٣] الآية. قوله: ﴿ كُسَالَىٰ ﴾ أي لعدم الداعية في قلوبهم وهو نصب على الحال، والكسل الفتور والتواني، قوله: ﴿ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ ﴾ أي النبي وأصحابه، والمعنى أنهم يقصدون بصلاتهم النجاة من النبي وأصحابه، والجملة خال من كسالى. قوله: (يصلون) إنما سميت الصلاة ذكراً، لأنها اشتملت عليه. قوله: ﴿ مُّذَبْذَبِينَ ﴾ حال من فاعل يراؤون، وحقيقة المذبذب ما يذب ويدفع من كلا الجانبين مرة بعد أخرى، وقد أفاده المفسر بقوله: (مترددين) قوله: ﴿ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ ﴾ الخ، متعلق في الموضعين بمحذوف حال من مذبذبين، قدره المفسر بقوله: (منسوبين). قوله: (أي الكفار) أي فيقتلون ويترتب عليهم أحكامه. وقوله: (أي المؤمنين) أي فينجون في الدنيا والآخرة. قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ خطاب للمؤمنين الخلص. قوله: ﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ أي كما فعل المنافقون، فيرتب عليه الوعيد العظيم فاحذروا ذلك. قوله: ﴿ أَتُرِيدُونَ ﴾ الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لا تريدون ذلك. قوله: ﴿ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ ﴾ الدركات بالكاف منازل أهل النار، والدرجات بالجيم منازل أهل الجنة. قوله: (وهو قعرها) أي لأنها سبع طبقات، العليا لعصاة المؤمنين وتسمى جهنم، والثانية لظى للنصارى، والثالثة الحكمة لليهود، والرابعة السعير للصابئين، والخامسة سقر للمجوس، والسادسة الجحيم للمشركين، والسابعة الهاوية للمنافقين وفرعون وجنوده، لقوله تعالى:﴿ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ ﴾[غافر: ٤٦].
قوله: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ﴾ استثناء من قوله: ﴿ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ ﴾.
قوله: ﴿ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ ﴾ ما استفهامية، الباء سببية، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي. أي لا يفعل بعذابكم شيئاً حيث حسنت توبتكم، ويصح أن تكون ما نافية والباء زائدة ومدخولها مفعول لقوله بفعل، والمعنى ما يفعل عذابكم، أي لا يعذبكم حيث صدقت التوبة، فالمآل في المعنيين واحد. قوله: ﴿ وَآمَنْتُمْ ﴾ عطف على خاص على عام، أو مسبب على سبب، لأن الشكر سبب في الإيمان، فإن الإنسان إذا تذكر نعم الله حملته على الإيمان.
قوله: ﴿ لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ ﴾ هذا مرتب على ما تقدم من ذكر أحوال المنافقين، أي فلا تتوهم أيها العاقل من تقبيح الله لبعض عبيده، إنه يجوز لكل أحد التقبيح لمن علم منه سوءاً، أو ظنة فيه، وسبب نزولها: أن رجلاً استضاف قوماً فلم يحسنوا ضيافته، فلما خرج تكلم فيها جهراً بسوء، وقيل إن سبب نزولها أن رجلاً نال من أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم حاضر، فسكت عنه مراراً ثم رد عليه فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله شتمني فلم تقل شيئاً، حتى إذا رددت عليه قمت، فقتل له إن ملكاً كان يجيب عنك، فلما رددت عليه ذهب الملك وجاء الشيطان فقمت فنزلت، وقوله: ﴿ بِٱلسُّوۤءِ ﴾ هو اسم جامع لكل فحش، كالبر فإنه اسم جامع لكل خير، وقوله: ﴿ مِنَ ٱلْقَوْلِ ﴾ بيان للجهر بالسوء ومثل القول الفعل، فلا مفهوم للجهر ولا للقول، وإنما خصا لأنهما سبب النزول ولكونهما الغالب. قوله: (من أحد) قدره إشارة إلى أن فاعل المصدر محذوف، وهو من المواضع التي ينقاس فيها حذف الفاعل، وقد جمعها بعضهم بقوله: عِنْدَ النِّيَابَةِ مَصْدَرٌ وَتَعَجُّب مُفْرِغٌ يَنْقَاسُ حَذْفَ الْفَاعِلِقوله: (أي يعاقب) دفع بذلك ما يقال إن الحب والبغض معنى قائم بالقلب وهو مستحيل على الله تعالى، فأجاب بأن المراد لازمه وهو العقاب، لأن من غضب من أحد عاقبه، ودخل في الجهر بالسوء التعريض والسخرية به والغيبة والنميمة، قال تعالى:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ ﴾[الحجرات: ١١] الآية. وقال تعالى:﴿ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً ﴾[الحجرات: ١٢] إلى غير ذلك، وفي الحديث: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة الواحدة يهوي بها في النار سبعين خريفاً ". قوله: (بأن يخبر عن ظلم ظالمه) أي لمن ينصفه بأن يقول: شتمني، أو غصبني، أو أخذ مالي، أو ضربني مثلاً. قوله: (ويدعو عليه) أي بدعاء جائز مثل: اللهم خلِّص حقي منه، أو جازه، أو انتقم ممن ظلمني، أو خذ لي بثأري منه، ولا يجوز الدعاء على الظالم بسوء الخاتمة على المعتمد، ولو بلغ في الظلم مهما بلغ، ولا بخراب دياره أو هلاكه مثلاً، والصبر وعدم الدعاء أجمل، وهو مقام عظيم، ولذا أمر به صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:﴿ فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ ﴾[الحجر: ٨٥] وقوله: ﴿ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ﴾ أي مثلاً، ومثله المستفتي والمستغيث والمحذر والمعرف والمتجاهر، وقد جمعها بعضهم بقوله: تظلم واستغث واستفت حذر وعرف بدعة فسق المجاهروجمعت أيضاً في قول بعضهم: لقب ومستفت وفسقٌ ظاهر مُتَظلِّم ومعرف ومحذرقوله: (لما يقال) أي من الظالم والمظلوم. وقوله: (بما يفعل) أي من الظالم والمظلوم. قوله: (من أعمال البر) أي كالصلاة والصدقة وفعل المعروف وحسن الظن. قوله: ﴿ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوۤءٍ ﴾ هذا هو محط الفائدة بدليل قوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ﴾ وهذا بيان للخلق الكامل، فالعفو والمسامحة أجل وأعلى من الانتصار. قوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ ﴾ الخ، دليل الجواب، والجواب محذوف تقديره يعفو عنكم.
قوله: ﴿ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ ﴾ الخ، عطف سبب على مسبب، أي فكفركم بالتفرقة لا باعتقاد للشريك لله مثلاً. قوله: (من الرسل) أي كموسى وعيسى. قوله: ﴿ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ﴾ كمحمد. قوله: (طريقاً يذهبون إليه) أي واسطة بين الإيمان والكفر، وهو الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعض. قوله: (مصدر مؤكد) أي وعامله محذوف ويقدر مؤخراً عن الجملة المؤكدة لها تقديره أحقه حقاً، نظير زيد أبوك عطوفاً. قال ابن مالك: وَإنْ تُؤكّد جُمْلَةٌ فَمُضْمَرٌ عَامِلَها وَلَفظهَا يُؤَخَّرُويصح أن يكون حالاً من قوله: ﴿ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ ﴾ أي حال كون كفرهم حقاً أي لا شك فيه. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ مقابل قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ ﴾ وقوله: ﴿ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ ﴾ مقابل قوله: ﴿ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ ﴾.
قوله: ﴿ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ﴾ أي في الإيمان بأن يؤمنوا بجميعهم. قوله: (بالنون والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان، وعلى النون فيكون فيه التفات من الغيبة للتكلم، لأن الاسم الظاهر من قبيل الغيبة.
قوله: ﴿ يَسْأَلُكَ ﴾ أي سؤال تعنت ذو عناد، فلذا لم يبلغهم الله مرادهم، ولو كان سؤالهم لطلب الاسترشاد لأجيبوا. قوله: (اليهود) أي أحبارهم. قوله: ﴿ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ أي فقالوا إن كنت نبياً فائتنا بكتاب محرر بخط سماوي في ألواح كما نزلت التوراة. قوله: (تعنتاً) مفعول لأجله أي فالحامل لهم على السؤال التعنت والعناد والاسترشاد، وإلا لأجيبوا. قوله: (فإن استكبرت ذلك) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ ﴾ جواب شرط محذوف، والمعنى إن استعظمت سؤالهم، فقد وقع من أصولهم ما هو أعظم من ذلك. قوله: (أي آباؤهم) أي إنما نسب السؤال لهم لأنهم راضون بها فكأنها وقعت منهم. قوله: ﴿ فَقَالُوۤاْ ﴾ تفسير لسألوا على حد توضأ فغسل وجهه. قوله: (عياناً) أي معاينين له، وذلك أن موسى عليه السلام اختار من قومه سبعين من بني إسرائيل، فخرج معهم إلى الجبل ليستغفروا لقومهم حيث عبدوا العجل ﴿ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً ﴾.
قوله: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ ﴾ أي ثم أحيوا بعد ذلك حين قال موسى: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي. قوله: ﴿ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ ﴾ ثم للترتيب الذكري الإخباري، لأن عبادة العجل كانت قبل ذلك قوله: (المعجزات) أي كالعصا واليد البيضاء والسنين وفلق البحر. قوله: ﴿ فَعَفَوْنَا عَن ذٰلِكَ ﴾ أي قبلنا توبتهم، فتوبوا أنتم أيضاً حتى يعفو عنكم. قوله: ﴿ سُلْطَاناً ﴾ أي قهراً عظيماً وسلطنة جليلة. قوله: (فأطاعوه) أي فقتل منهم سبعون ألفاً في يوم واحد. قوله: ﴿ بِمِيثَاقِهِمْ ﴾ أي حين جاءهم موسى بالتوراة، وفيها الأحكام فامتنعوا من قبولها، فرفع الله فوقهم الطور، فخافوا من وقوعه عليهم فقبلوه وسجدوا على جبينهم وأعينهم تنظر له، فصار ذلك فيهم إلى الآن. قوله: (فيقبلوه) أي الميثاق ولا ينقضوه. قوله: (وهو مظل عليهم) أي مرفوع عليهم، والتقييد بذلك سبق قلم، لأن القول قيل على لسان يوشع بن نون وهي قرية الجبارين، وأما رفع الجبل فكان قبل دخولهم التيه حين جاءتهم التوراة فلم يؤمنوا بها. قوله: (سجود انحناء) أي خضوع وتذلل، فخافوا ودخلوا يزحفون على أستاهم، وتقدم بسط ذلك في البقرة. قوله: ﴿ لاَ تَعْدُواْ ﴾ بسكون العين وضم الدال من عدا يعدو بمعنى جار، وأصله تعدووا بضم الواو الأولى وهي لام الكلمة، استثقلت الضمة عليها فحذفت فالتقى ساكنان، حذفت الواو لالتقائهما ووزنه تفعوا. قوله: (وفي قراءة بفتح العين) أي فأصله تعتدوا قلبت التاء جالاً ثم أدغمت في الدال، والمعنى أنهم نهوا عن الاعتداء في السبت بصيد السمك، فخالف بعضهم واصطاد وامتنع بعضهم من غير نهي للآخرين وامتنع بعضهم مع نهي من اصطاد، فحل بمن اصطاد العذاب ونجا من نهي، وسيأتي بسط ذلك في سورة الأعراف. قوله: ﴿ مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾ أي أنهم إن خالفوا عذبهم الله بأي نوع من العذاب وأراده. قوله: ﴿ بَآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ أي القرآن أو كتابهم. قوله: ﴿ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ أي حتى في زعمهم، أي فهم مقرّون بأن القتل بغير وجه. قوله: ﴿ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا ﴾ أي غشيت وغطيت بغطاء معنوي لا حسي كما قالوا تهكماً، بمعنى أنهم صم بكمٌ عمي لا يهتدون للحق ولا يعونه. قوله: ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ قيل إنه مستثنى من فاعل ﴿ يُؤْمِنُونَ ﴾ ورد بأن من آمن لم يطبع على قلبه، والأحسن أنه مستثنى من الهاء في قوله: ﴿ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا ﴾ أي إلا قليلاً فلم يطبع على قلوبهم. قوله: (ثانياً بعيسى) أي وأولاً بموسى. قوله: (وكرر الباء) أي في قوله: و ﴿ بِكُفْرِهِمْ ﴾.
قوله: (للفصل) أي بأجنبي وهو قوله: ﴿ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ ﴾.
قوله: (حيث رمونا بالزنا) أي منكرين تعلق قدرة الله تعالى بخلق واد من غير والد، ومعتقد ذلك كافراً لأنه يلزم عليه القول بقدم العالم، لأن كل ولد لا بد له من والد وهكذا.
قوله: ﴿ رَسُولَ ٱللَّهِ ﴾ إن قلت: أنهم لم يعترفوا برسالته! بل كفروا به وقالوا هو ساحر ابن ساحرة. وأجيب: بأنهم قالوا ذلك تهكّماً به، نظير قول فرعون لموسى أن رسولكم الذي أرسل إليكن لمجنون، وقول مشركي العرب في حق محمد: يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون. وأجيب أيضاً: بأنه من كلامه تعالى مدحاً له وتنزيهاً له عن مقالتهم، فيكون منصوباً بفعل محذوف، أي أمدح رسول الله. قوله: (في زعمهم) متعلق بقوله: ﴿ قَتَلْنَا ﴾ والمناسب حذفه لأن تكذيبهم في القتل معلوم من قول بعد: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ ﴾ وفي نسخة في زعمه بالإفراد، ويكون متعلقاً بقوله: ﴿ رَسُولَ ٱللَّهِ ﴾ وهي أولى. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ روي أن رهطاً من اليهود سبوه وأمه! فدعا عليهم فمسخهم الله قردة وخنازير، فاجتمعت اليهود على قتله، فأخبره الله بذلك، وكان له صاحب منافق، فقالوا له: اذهب إلى عيسى وأخرجه لنا، فلما دخل دار عيسى ألقى شبهه عليه، ورفع عيسى إلى السماء، فلما خرج إليهم قتلوه. قوله: (بعيسى) متعلق بشبه، وقوله: (عليه) أي الصاحب، وقوله: (شبهه) أي شبه عيسى. قوله: (استثناء منقطع) أي لأن إتباع الظن ليس من جنس العلم. قوله: (مؤكدة لنفي القتل) أي انتفى قتلهم له انتفاءً يقيناً لا شك فيه، فيلاحظ القيد بعد وجود النفي، فهو من باب تيقن العدم لا من عدم التيقن، ومحصله أنه نفي للقيد الذي هو اليقين، والمقيد الذي هو القتل، ويصح أن يكون حالاً من فاعل قتلوه أي ما فعلوا القتل في حال تيقنهم له، بل فعلوه شاكين فيه، وقيل منصوب بما بعد بل من قوله: ﴿ بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ ﴾ ورد بأن ما بعد بل لا يعمل فيما قبلها. قوله: ﴿ بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ ﴾ أي إلى محل رضاه وانفراد حكمه وهو السماء الثالثة، كما في الجامع الصغير، أو الثانية كما في بعض المعاريج. قوله: (حين يعاين ملائكة الموت) روي أن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره وقالوا له: يا عدو الله أتاك عيسى نبياً فكذبت به، فيقول آمنت بأنه عبد الله ورسوله، ويقال للنصراني: أتاك عيسى نبياً فزعمت أنه الله وابن الله، فيقول آمنت بأنه عبد الله، فأهل الكتاب يؤمنون به، ولكن لا ينفعهم إيمانهم لحصوله وقع معاينة العذاب. قوله: (أو قبل موت عيسى) هذا تفسير آخر وهو صحيح أيضاً، والمعنى أن عيسى حين ينزل إلى الأرض ما من أحد يكون من اليهودي أو النصارى، أو ممن يعبد غير الله إلا من آمن بعيسى، حتى تصير الملة كلها إسلامية.
قوله: ﴿ شَهِيداً ﴾ أي فيشهد على اليهود بالتكذيب، وعلى النصارى بأنهم اعتقدوا فيه أنه ابن الله. قوله: ﴿ فَبِظُلْمٍ ﴾ الجار والمجرور متعلق بحرمنا والباء سببية. قوله: (هم اليهود) سموا بذلك لأنهم هادوا بمعنى تابوا، ورجعوا عن عبادة العجل. قوله: ﴿ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾ صفة لطيبات، أي طيبات كانت حلال لهم، فلما حرمت عليهم، صاروا يقولون: لسنا بأول من حرمت عليه، بل كانت حراماً على من قبلنا! فرد الله عليهم بقوله: (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) الآية. قوله: ﴿ وَبِصَدِّهِمْ ﴾ هذا تفصيل لبعض أنواع الظلم، وكرر الجار للفصل بين العاطف والمعطوف بقوله: ﴿ حَرَّمْنَا ﴾ ولم يكرره في قوله: ﴿ وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا ﴾ ﴿ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ ﴾ لعدم الفاصل. قوله: (صداً) ﴿ كَثِيراً ﴾ أشار بذلك إلى أن كثيراً صفة لموصوف محذوف مفعول مطلق لقوله صدهم، ويصح أن يكون المحذوف مفعولاً به والتقدير خلقاً كثيراً. قوله: ﴿ وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ ﴾ الجملة حالية. قوله: (بالرشا في الحكم) جمع رشوة، وهي ما يعطيه الشخص للحاكم ليحكم له؟ والمقصود من ذكر هذه الأمور الاتعاظ بها؟ وبيان أنها حرام في شرعنا أيضاً، ففي الحديث:" كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به، قالوا: وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم "فالحاكم لا يجوز له أن يأخذ شيئاً على حكمه، ومثله الضامن، وذو الجاه، والمقرض، ففي الحديث:" ثلاثة لا تكون إلا لله: القرض، والضمان، والجاه "قوله: ﴿ مِنْهُمْ ﴾ أي وممن حذا حذوهم. قوله: ﴿ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ أي وهو الخلود في النار.
قوله: ﴿ لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ ﴾ استدراك على قوله:﴿ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾[النساء: ١٦١] والمعنى من كان من اليهود، وفعل تلك الأفعال المتقدمة، وأصر على الكفر، ومات عليه، أعتدنا لهم عذاباً أليماً، وأما من كان من اليهود، غير أنه رسخ في العلم، وآمن وعمل صالحاً، فأولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً، و ﴿ ٱلرَّاسِخُونَ ﴾ مبتدأ، و ﴿ فِي ٱلْعِلْمِ ﴾ متعلق به، وقوله: ﴿ مِنْهُمْ ﴾ متعلق بمحذوف حال من الراسخون. وقوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ مبتدأ، و ﴿ سَنُؤْتِيهِمْ ﴾ خبره، والجملة خبر الراسخون. قوله: ﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ عطف على الراسخون عطف مفصل على مجمل، لأن الإيمان وما بعده متنوع ولازم للرسوخ في العلم، فنزل التغاير الاعتباري منزلة التغاير الذاتي، وهذا على أن المراد المؤمنون منهم وأما على أن المراد المؤمنون من غيرهم، أو ما هو أعم، فالمغايرة ظاهرة، وقوله: ﴿ يُؤْمِنُونَ ﴾ الخ حال من المؤمنون والراسخون. قوله: ﴿ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ ﴾ أي وهو القرآن، وهذه الصفات للإيمان الكامل، فلا يكون الإنسان كامل الإيمان حتى يتصف بجميعها. قوله: (نصب على المدح) أي فتكون جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، وإنما نصبهم تعظيماً لشأنهم، وما قاله المفسر هو أحسن الأجوبة عن الآية، ويصح أنه معطوف على الكاف في إليك، ويكون المراد بالمقيمين الأنبياء، ويصح أنه معطوف على ما أنزل، ويكون المراد بالمقيمين الأنبياء والملائكة، ويصح أن يكون معطوفاً على الهاء في أي منهم، أي لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين. قوله: (وقرئ بالرفع) أي وعليها، فلا إشكال وهي شاذة وإن وردت عن كثير. قوله: ﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ﴾ أي المصدقون بأن الله يجب له كل كمال، ويستحيل عليه كل نقص، وقوله: ﴿ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾ أي يصدقون بأنه حق وما يقع فيه صدق. قوله: (هو الجنة) أي الخلود فيها، وهو مقابل قوله: (وأعتدنا لهم عذاباً أليماً).
قوله: ﴿ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ قيل سبب نزولها أن مسكيناً وعدي بن زيد قالا: يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء من بعد موسى، وقيل هو جواب لقولهم: (لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتاباً من السماء جملة واحدة) فالمعنى أنكم تقرون بنبوة نوح وجميع الأنبياء المذكورين في الآية ولم ينزل على أحد من هؤلاء كتاباً جملة مثل ما أنزل على موسى، فقدم إنزال الكتاب جملة ليس قادحاً في نبوتهم، فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ كَمَآ أَوْحَيْنَآ ﴾ يحتمل أن تكون ما مصدرية، والمعنى كوحينا، وأن تكون اسم موصول والعائد محذوف، والتقدير كالذي أوحيناه أي في الأحكام التي أوحيناها إلى نوح الخ. قوله: ﴿ إِلَىٰ نُوحٍ ﴾ قدمه لأنه أول نبي أرسله الله لينذر الناس من الشرك، وعاش ألف سنة وخمسين عاماً وهو صابر على أذى قومه، لم يشب فيها ولم تنقص قواه، وهو أول الأنبياء أولي العزم، وكان أبا البشر بعد آدم لانحصار الناس في ذريته. قوله: ﴿ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ﴾ خصه بعد نوح، لأن أكثر الأنبياء من ذريته وهو ابن تارخ، وقيل هو آزر، وقيل هو أخوه فآزر عم إبراهيم. قوله: ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ كان نبياً ورسولاً بمكة، ثم لما مات نقل إلى الشام. قوله: ﴿ وَإسْحَاقَ ﴾ كان رسولاً بالشام بعد إسماعيل ومات بها. قوله: ﴿ وَيَعْقُوبَ ﴾ هو إسرائيل، ثم يوسف ابنه، ثم شعيب بن نويب، ثم هود بن عبد الله، ثم صالح ابن آسف، ثم موسى وهارون ابنا عمران، ثم أيوب، ثم الخضر، ثم داود بن أيشا، ثم سليمان بن داود، ثم يونس بن متى، ثم الياس، ثم ذو الكفل، وكل نبي ذكر في القرآن فهو من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح وهود ولوط وصالح، ولم يكن نبي من العرب إلا خمسة: هود وصالح واسماعيل وشعيب ومحمد صلى الله عليه وسلم. قوله: (ابنيه) أي إبراهيم، اسماعيل من هاجر من هاجر وإسحاق من سارة. قوله: (أولاده) أي أولاد يعقوب منهم يوسف نبي ورسول باتفاق وباقيهم فيه اختلاف، والصحيح نبوتهم وليسوا رسلاً مشرعين، ولذلك وقع منهم ما يخالف الشرع الظاهر للمصالح التي ترتبت على تلك المخالفة، وسيأتي ذلك في سورة يوسف. قوله: ﴿ وَيُونُسَ ﴾ أي ابن متى، وفيه لغات ست بالواو والهمزة مع تثليث النون، والذي قرئ به في السبع ضم النون أو كسرها مع الواو، وقوله: ﴿ وَهَارُونَ ﴾ أي أخي موسى. قوله: (اسم للكتاب المؤتى) أي وهو مائة وخمسون سورة، ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، بل هو تسبيح وتقديس وتحميد وثناء ومواعظ، وكان داود عليه السلام يخرج إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور، وتقوم علماء بني إسرائيل خلفه، ويقوم الناس خلف العلماء، وتقوم الجن خلف الناس، والشياطين خلف الجن، وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه، وترفرف الطيور على رؤوس الناس هم يستمعون لقراءة داود ويتعجبون منها، لأن الله أعطاه صوتاً حسناً، وقد ورد أن أبا موسى الأشعري كان يقرأ القرآن ليلاً بصوت حسن، فلما أصبح قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعجبتني قراءتك الليلة، كأنك مزماراً من مزامير داود، فقال أبو موسى: لو علمت بك لحبرته لك تحبيراً. قوله: (وبالضم) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ ﴾ الخ، هذا رد لقول اليهود للمصطفى عليه الصلاة والسلام: إنك لم تذكر موسى مع ما عددته من الأنبياء، فهذا دليل على عدم رسالتك، فرد ذلك الله بهذه الآية وبما بعدها. قوله: (روي أنه تعالى الخ) هذه الرواية ضعيفة، فلذا تبرأ منها المفسر، والرواية المشهورة أن الأنبياء مائة ألف، وفي رواية مائتا ألف وأربعة وعشرون ألفاً الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر أو خمسة عشر، وبعد ذلك فالحق أنه لم يبلغنا عددهم على الصحيح، وإنما هي أحاديث مختلفة تقبل الطعن كما أفاده الأشياخ. قوله: (قاله الشيخ) أي الجلال المحلّي، وقوله: (في سورة غافر) أي في قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾[غافر: ٧٨].
قوله: ﴿ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ ﴾ أي أزال عنه الحجاب فسمع كلام الله، وليس المراد أن الله كان ساكناً ثم تكلم، لأن ذلك مستحيل على الله تعالى. قوله: ﴿ تَكْلِيماً ﴾ مصدر مؤكد لقوله كلم، وإنما أكد رفعاً لاحتمال المجاز، لأن الله كلم موسى بكلامه الأزلي القديم، من غير حرف ولا صوت ولا كيف ولا انحسار، ولا يعلم الله إلا الله.
قوله: ﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ ﴾ هذه اللام لام كي متعلقة متعلقة بمنذرين وأضمر في الأول وحذف، وهذا هو الأولى، ويحتمل أنه متعلق بمحذوف تقديره (أرسلناهم) وعلى ذلك درج المفسر، إلا أن يقال إنه حل معنى لا حل إعراب. قوله: ﴿ حُجَّةٌ ﴾ أي معذرة يعتذرون بها، وسماها الله حجة تفضلاً منه وكرماً، فأهل الفترة ناجون ولو بدلوا وغيروا، قال تعالى:﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾[الإسراء: ١٥] وقال تعالى:﴿ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ﴾[طه: ١٣٤] الآية، وما ورد من تعذيب بعض أفراد من أهل الفترة، فأحاديث آحاد لا تقاوم القطعيات، كما أفاده أشياخنا المحققون. قوله: ﴿ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ ﴾ أي وإنزال الكتب، والمعنى لو لم يرسل الله رسولاً لكان للناس عذر في ترك التوحيد فقطع الله عذرهم بإرسال الرسل، والظرف متعلق بالنفي، أي انتفت حجتهم واعتذارهم بعد إرسال الرسل، وأما قبل الإرسال فكانوا يعتذرون، فإن قلت: كيف يكون للناس حجة قبل الرسل، مع قيام الأدلة التي تدل على معرفة الله ووحدانيته كما قيل: وَفِي كُلِّ شَيْءِ لَهُ آية تَدُلُّ عَلَى أنَّهُ الْواحِدأجيب: بأن الله لا يكلفنا بذلك بمجرد العقل، بل لا بد من ضميمة الرسل التي تنبه على الأدلة، وشاهده هذه الآية، وقوله تعالى:﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾[الإسراء: ١٥] فلذلك قال أهل السنة: إن معرفة الله لا تثبت إلا بالشرع، خلافاً للمعتزلة. قوله: (لولا أرسلت) لولا للتحضيض وهو الطلب بحث وإزعاج، ولكن المراد بها هنا العرض وهو الطلب بلين ورفق. قوله: ﴿ عَزِيزاً ﴾ أي غالباً قاهراً لغيره منفرداً بالإيجاد والإعدام، وقوله: ﴿ حَكِيماً ﴾ أي يضع الشيء في محله. قوله: (ونزل لما سئل اليهود) أي حين قال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود:" أنتم تشهدون بأني مذكور في كتبكم "، فقالوا: لا نشهد بذلك، وما نعلم من بشر أوحي إليه بعد موسى، وقيل إن السائل مشركو العرب حيث قالوا للنبي: إنّا نسأل اليهود عنك وعن صفتك في كتابهم، فزعموا أنهم لا يعرفونك فنزلت، والمعنى أن أنكروك وكفروا ما أنزل إليك، فقد كذبوا فيما قالوا، لأن الله يشهد لك بالنبوة والرسالة، ويشهد بما أنزل إليك.
قوله: ﴿ لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ ﴾ استدراك على ما ذكر في سبب النزول. قوله: (من القرآن المعجز) أي لكل مخلوق، ولم ينزل كتاب معجز يتحدى به على نبي من الأنبياء غير نبينا. قوله: ﴿ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ﴾ أشار المفسر إلى أن الباء للملابسة أو بمعنى في، والمعنى على الأول أنزله ملتبساً بعلمه، أي وهو عالم به، لأن التأليف يحسن على قدر علم مؤلفه، فحيث كان هذا القرآن ناشئاً عن علم الله التام المتعلق بكل شيء، كان في أعلى طبقات البلاغة، فلا يمكن أحداً غيره الإتيان بشيء منه، والمعنى على الثاني أنزله، والحال أن فيه علمه أي معلوماته الغيبية، بمعنى أنه مشتمل على المغيبات، وعلى مصالح الخلق وما يحتاجون إليه، فحيث اشتمل على ذلك فهو شاهد صدق على أنه من عند الله، وإنما خص القرآن بالذكر لأن إنكارهم وتعرضهم كان له، ولأنه أكبر معجزاته. قوله: ﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً ﴾ لفظ الجلالة فاعل كفى، والباء زائدة، وشهيداً حال، وقوله: (على ذلك) أي على صحة نبوتك، والمعنى أن شهادة الله تغنيك وتكفيك. قوله: ﴿ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ أي منعوا الناس من طريق الهدى. قوله: ﴿ ضَلَٰلاً بَعِيداً ﴾ أي لأنهم ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم، ومن كان هذا وصفه يبعد عنه الهدى. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ ﴾ وهم اليهود. قوله: ﴿ لَمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ﴾ أي مريداً ليغفر لهم حيث ماتوا على الكفر. قوله: ﴿ إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ ﴾ استثناء متصل لأنه مستثنى من عموم الطرق، والمراد بجهنم الدار المسماة الحطمة، والمعنى " أنهم لا يهتدون إلى طريق الرشاد أبداً، بل دائماً أعمالهم تجرهم إلى طريق جهنم. قوله: ﴿ وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً ﴾ رد بذلك عليهم حيث زعموا وقالوا:﴿ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ ﴾[المائدة: ١٨] ولا يهون عليه أن يعذب أحباؤه. قوله: (أي أهل مكة) جري على القاعدة، وهو أن المخاطب بيا أيها الناس أهل مكة، ولكن المراد العموم. قوله: ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ متعلق بجاء، وقوله: ﴿ مِن رَّبِّكُمْ ﴾ متعلق بمحذوف حال من الحق، أي جاءكم بالحق حال كونه من ربكم. قوله: (واقصدوا) ﴿ خَيْراً ﴾ أشار بذلك إلى أن قوله خيراً مفعول لمحذوف، ويصح أن يكون خبراً لكان المحذوفة، والتقدير آمنوا يكن الإيمان خيراً وهو الأقرب. وقوله: (مما أنتم فيه) أي وهو الكفر على حسب زعمكم أن فيه خيراً، وإلا فالكفر لا خير فيه. قوله: (لا يضره كفركم) قدره إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف، وقوله: ﴿ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ دليل الجواب. قوله: ﴿ حَكِيماً ﴾ (في صنعه) أي لا يصنع شيئاً إلا محكماً متقناً. قوله: (الإنجيل) أي فالخطاب للنصارى فقط، ويحتمل أنه خطاب لليهود والنصارى، لأن غلو اليهود بتنقيص عيسى حيث قالوا إنه ابن زانية، وغلو النصارى بالمبالغة في تعظيمه حيث جعلوه ابن الله.
قوله: ﴿ إِلاَّ ﴾ (القول) ﴿ ٱلْحَقَّ ﴾ أشار بذلك إلى أن صفة لمصدر محذوف. قوله: ﴿ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ﴾ المسيح مبتدأ، وعيسى بدل أو عطف بيان عليه، وابن مريم صفته، ورسول الله خبره. قوله: ﴿ وَكَلِمَتُهُ ﴾ أي أنه نشأ بكلمة كن، من غير واسطة أب ولا نطفة، وقوله: ﴿ أَلْقَاهَا ﴾ أي بنفخ جبريل في جيب درعها، فحصل النفخ إلى فرجها فحملت به. قوله: ﴿ وَرُوحٌ مِّنْهُ ﴾ سمي بذلك لأنه حصل من الريح الحاصل من نفخ جبريل، روي أن الله تعالى لما خلق أرواح البشر جعلها في صلب آدم عليه السلام، وأمسك عنده روح عيسى، فلما أراد الله أن يخلقه، أرسل بروحه مع جبريل إلى مريم، فنفخ في جيب درعها فحملت بعيسى. قوله: ﴿ مِّنْهُ ﴾ أي نشأت وخلقت، فمن ابتدائية لا تبغيضية كما زعمت النصارى. حكي أن طبيباً حاذقاً نصرانياً جاء للرشيد، فناظر علي بن الحسين الواقدي ذات يوم، فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى جزء من الله وتلا هذه الآية، فقرأ الواقدي له:﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ ﴾[الجاثية: ١٣] فقال: إذن يلزم أن تكوين جميع الأشياء جزءاً منه سبحانه، فبهت النصراني وأسلم، وفرح الرشيد فرحاً شديداً، وأعطى الواقدي صلة فاخرة. قوله: (أنه ابن الله الخ) أشار بذلك إلى أنهم فرق ثلاثة: فرقة تقول إنه ابن الله، وفرقة تقول إنهما إلهان الله وعيسى، وفرقة تقول الآلهة ثلاثة: الله وعيسى وأمه. قوله: (لأن ذا الروح مركب) أشار بذلك إلى قياسٍ من الشكل الأول، وتقريره أن تقول عيسى ذو روح، وكل ذي روح مركب، وكل مركب لا يكون إلهاً ينتج عيسى لا يكون إلهاً. قوله: (الآلهة) ﴿ ثَلاَثَةٌ ﴾ أشار بذلك إلى أن ثلاثة خبر لمحذوف، والجملة مقول القول. قوله: (وائتوا) ﴿ خَيْراً ﴾ أي اقصدوه، ويصح أن يكون خبراً لكان المحذوفة، أي يكن الانتهاء خيراً قوله: (منه) أي مما ادعيتموه، وقوله: (وهو التوحيد) بيان للخير. قوله: ﴿ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي فإذا كان يملك جميع ما فيهما ومن جملة ذلك، عيسى، فكيف يتوهم كون عيسى ابن الله، فهذه الجملة تعليل لقوله سبحانه.
قوله: ﴿ لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ ﴾ سبب نزولها أن وفد نجران قالوا يا محمد إنك تعيب صاحبنا فتقول إنه عبد الله، فقال رسول الله: إنه ليس بعار على عيسى أن يكون عبد الله، فنزلت. قوله: (عن) ﴿ أَن يَكُونَ ﴾ أشار بذلك إلى أنه حذف الجار من أن، والمعنى لن يستنكف المسيح عن كونه عبد الله. قوله: (وهذا من أحسن الاستطراد) أي قوله: ﴿ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ ﴾ لأن الاستطراد ذكر الشيء في غير محله لمناسبة، والمناسبة هنا الرد على النصارى في عيسى، فناسب أن يرد على المشركين في قولهم الملائكة بنات الله. قوله: ﴿ وَمَن يَسْتَنْكِفْ ﴾ من اسم شرط، ويستنكف فعل الشرط، ويستكبر معطوف عليه، وقوله: ﴿ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً ﴾ جوابه، ولكن لما كان فيه إجمال فصله بما بعده، وجميعاً حال من الهاء في يحشرهم، والمعنى أنه يحشر المستنكفين وغيرهم. قوله: ﴿ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ ﴾ أي فوق مضاعفة أعمالهم. قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ العبرة بعموم اللفظ، وإن كان السياق لأهل مكة. قوله: ﴿ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لبرهان، أو ظرف لغة متعلق بجاء. قوله: (عليكم) أي إن خالفتم ولكم إن أطعتم. قوله: (وهو القرآن) أي فالعطف مغاير، ويصح أن يراد بالبرهان النبي وما جاء به، ويراد بالنور المبين القرآن، ويكون عطف خاص على عام، والنكتة الاعتناء بشأن القرآن، وما مشى عليه المفسر أسهل لعدم الكلفة. قوله: ﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الخ، أي فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فأما الذين آمنوا الخ، وترك الشق الثاني لأنهم مهملون ولا يعتني بهم، وأيضاً قد تقدم ذكرهم فتركهم اتكالاً على ما تقدم، وأعاد ذكر المؤمنين ثانياً تعجيلاً للمسرة والفرح، وتعظيماً لشأنهم. قوله: ﴿ وَٱعْتَصَمُواْ بِهِ ﴾ أي تمسكوا به. قوله: ﴿ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ ﴾ أي وهي الجنة، من باب تسمية المحل باسم الحال فيه، وقوله: ﴿ وَفَضْلٍ ﴾ أي إحسان وإكرام وزيادة إنعام، وهو رؤية وجه الله الكريم ودوام رضاه. قوله: ﴿ وَيَهْدِيهِمْ ﴾ عطف سبب على مسبب، لأن سبب الجنة هو الهدى في الدنيا
قوله: ﴿ يَسْتَفْتُونَكَ ﴾ ختم هذه السورة بهذه الآية لاشتمالها على الميراث، كما ابتدأها بذلك للمشاكلة بين المبدأ والختام، وجملة ما ذكر في هذه السورة من المواريث ثلاثة مواضع، الأول: في ميراث الأصول والفروع وهو قوله:﴿ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ ﴾[النساء: ١١] إلى آخر الربع. الثاني: ميراث الزوجين والإخوة والأخوات للأم وهو قوله:﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ ﴾[النساء: ١٢] إلى قوله:﴿ غَيْرَ مُضَآرٍّ ﴾[النساء: ١٢].
الثالث: ميراث الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب وهو هذه الآية، وأما أولو الأرحام فسيأتي ذكرهم في آخر الأنفال. وسبب نزول هذه الآية أن جابر بن عبد الله تمرض، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ليعوداه ماشيين، فلما دخلا عليه وجداه مغمى عليه، فتوضأ رسول الله ثم صب عليه من وضوئه فأفاق، فقال: يا رسول الله كيف أصنع في مالي: فلم يرد عليه حتى نزلت الآية، وكان له تسع أخوات وقيل سبع. قوله: ﴿ فِي ٱلْكَلاَلَةِ ﴾ تنازعه كل من يستفتونك ويفتيكم فأعمل الثاني وأضمر في الأول وحذف، وهكذا كل ما جاء في القرآن من التنازع كقوله تعالى:﴿ آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ﴾[الكهف: ٩٦]﴿ هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ ﴾[الحاقة: ١٩] وبهذا أخذ البصريون، وتقدم أن الكلالة هي أن يموت الميت وليس له فرع ولا أصل، وهو أصح الأقوال فيها. قوله: ﴿ إِن ٱمْرُؤٌ ﴾ هذه الجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر تقديره وما تفسير الكلالة وما الحكم فيها، فالوقف على الكلالة. قوله: (مرفوع بفعل يفسره) ﴿ هَلَكَ ﴾ أي فهو من باب الاشتغال، وإنما لم يجعل امرؤ مبتدأ أو جملة هلك خبره، لأن إن الشرطية لا يليها إلا الفعل ولو تقديراً. قوله ﴿ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ﴾ الجملة في محل رفع صفة لامرؤ، ولا يصح أن تكون حالاً منه لأنه نكرة، ولم يوجد له مسوغ لأن هلك ليس صفة له، وإنما هو مفسر للفعل المحذوف فتأمل. قوله: (أي ولا والد) أخذ هذا من توريث الأخت لأنها لا ترث مع وجوده. قوله: (من أبوين) أي وهي الشقيقة. قوله: ﴿ وَهُوَ ﴾ الضمير عائد على لفظ امرؤ لا على معناه، على حد: عندي درهم ونصفه، والمعنى أن ذلك على سبيل الفرض والتقدير، أي أن فرض موته دونها فلها النصف، وإن فرض موتها دونه فله المال كله، إن لم يكن لها فرع وارث. قوله: (أو أنثى) أي واحدة أو متعددة، وقوله: (فله ما فضل عن نصيبها) أي وهو النصف في الأولى والثلث في الثانية. قوله: (كما تقدم أول السورة) أي في قوله:﴿ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَٰلَةً ﴾[النساء: ١٢] الآية. قوله: (وقد مات عن أخوات) جملة مستأنفة مقيدة لما قبلها لا أنها حالية، لأن جابراً عاش بعده صلى الله عليه وسلم، بل قيل إنه آخر الصحابة مؤتاً بالمدينة، وقوله: (عن أخوات) قيل تسع وقيل سبع. قوله: ﴿ وَإِن كَانُوۤاْ إِخْوَةً ﴾ أي وأخوات ففيه تغليب الذكور على الإناث. قوله: (شرائع دينكم) قدره إشارة إلى أن مفعول ﴿ يُبَيِّنُ ﴾ محذوف. قوله: ﴿ أَن ﴾ (لا) ﴿ تَضِلُّواْ ﴾ إشارة بذلك إلى أنه مفعول لأجله ولا مقدرة، والمعنى يبين لكم الشرائع لأجل عدم ضلالكم، نظير قوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ ﴾[فاطر: ٤١] أي لئلا تزولا، ويصح أن يكون المحذوف مضافاً، والتقدير كراهة أن تضلوا. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ كالعلة لما قبله، وقد ختم هذه السورة ببيان كمال العلم وسعته، كما ابتدأها بسعة قدرته وكمال تنزهه، وذلك يدل على اختصاصه بالربوبية والألوهية. قوله: (أي من الفرائض) دفع بذلك ما يقال إن آخر آية نزلت على الإطلاق (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله) فإنها نزلت قبل موت رسول الله بأحد وعشرون يوماً، ونزل قبلها آية الربا، وقبلها﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾[المائدة: ٣] وقبلها آية الكلالة فهي من الأواخر، إذا علمت ذلك فقول المفسر: (أي من الفرائض) غير متعين، بل يصح أن يكون آخراً نسبياً.