تفسير سورة النساء

زهرة التفاسير
تفسير سورة سورة النساء من كتاب زهرة التفاسير .
لمؤلفه أبو زهرة . المتوفي سنة 1394 هـ
تمهيد
قبل ان نتجه إلى التفسير التحليلي لآيات هذه السورة، لا بد من تمهيد موجز يعطي القارئ صورة لما اشتملت عليه.
لقد اتفق الرواة على ان هذه السورة مدنية، أي نزلت بعد الهجرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وان ما اشتملت عليه يدل على انها نزلت بعد ان كان للإسلام دولة تنظم علاقاتها بغيرها، وبعد ان من الله تعالى على الذين استضعفوا في الأرض وجعلهم أئمة يهدون بأمر الله تعالى فيها.
وقد روى ان ابن عباس –رضي الله عنهما – قال :"ثماني آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت. أولهن :﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم٢٦ ﴾ [ النساء ] والثانية :﴿ والله يريد ان يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات ان تميلوا ميلا عظيما٢٧ ﴾ [ النساء ] والثالثة :﴿ يريد الله ان يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا٢٨ ﴾ [ النساء ] والرابعة :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما٤٠ ﴾[ النساء ] والخامسة :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما٣١ ﴾[ النساء ] والسادسة :﴿ إن الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء بالله فقد ضل ضلالا بعيدا١١٦ ﴾[ النساء ] والسابعة :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو انهم إذ ظلموا انفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما٦٤ ﴾[ النساء ] والثامنة :﴿ ومن يعمل سوءا او يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما١١٠ ﴾[ النساء ].
وإن صحت هذه الرواية عن ابن عباس١
فإنها تدل على انه اتجه إلى عدل الله ورحمته بعباده، وفتحه باب التوبة والمغفرة. وإلا فإن القران كله بكل سورة وآياته خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.
وسورة النساء هي سورة الإنسانية، ففيها عين القرآن الكريم العلاقات الإنسانية التي تربط الناس بعضهم ببعض، وما ينبغي ان تنهجه المجتمعات الفاضلة في جعل العلاقة الإنسانية الأصيلة تسير في مجراها الطبيعي الذي رسمه رب العالمين بمقتضى الفطرة، وفيها ما حده الله – تعالى – لعلاج الانحراف الذي ينحرف به ذوو الأهواء من الآحاد والجماعات.
ابتدأت السورة الكريمة ببيان الارتباط الإنساني الجامع الذي تلتقي عنده البشرية جميعها، فقال – سبحانه - :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها... ١ ﴾ [ النساء ] وإذا كان الناس جميعا ينتهون إلى أصل واحد فإنه لا بد من التساوي، ولا بد من التراحم لهذه الرحم الواصلة، ثم عن اول مظاهر التراحم هو الأخذ بيد الضعفاء، وأوضح الضعفاء مظهرا أولئك اليتامى الذين لا عائل يعولهم، وإن اليتيم المقهور هو الذي يتولد فيه الانحراف، ومن الانحراف تكون العداوة، ويكون الشر المستطير، ولذلك ابتدأت السورة بعد إثبات الوحدة الجامعة بعلاج اليتم لتكون الجماعات في طريق المودة.
واليتيم لا يحتاج فقط إلى الغذاء والكساء بل يحتاج إلى المودة والإصلاح في نفسه وماله :﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا٩ ﴾[ النساء ].
وفي سبيل بيان حقوق اليتامى يبين- سبحانه – نظام التوزيع المالي للأسرة عندما يموت واحد منها، فيبين الميراث وانه حد لله تعالى للحقوق المالية لمن يخلفون المتوفى في ماله، وان الانحراف عنه عصيان لله تعالى.
وبعد ذلك اخذ يبين الله سبحانه وتعالى تكوين الأسرة الإسلامية، وأساس التكوين هو العلاقة بين الرجل والمرأة، او بتعبير القرآن السامي العلاقة بين النفس وزوجها، فنفى ان تكون العلاقة بينهما كالعلاقة بين أنثى الحيوان والذكر، بل العلاقة بينهما أسمى وأعلا، ولذلك أشار إلى عقوبة من ينزل إلى مرتبة الحيوان فقال :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت او يجعل الله لهن سبيلا١٥ ﴾[ النساء ].
وبين ان باب التوبة مفتوح لمن يقع في هذه الخطيئة الحيوانية، ثم اخذ يرسم -سبحانه وتعالى – الطريق السليم للعلاقة بين الرجل والمرأة، وهو الزواج، وحرم ما كان عليه اهل الجاهلية من وراثة النساء وسمى ذلك مقتا، ثم اخذ يبين سبحانه شرائط العقد الصحيح، والنساء اللائي يحرمن في الزواج، ثم نفى سبحانه ان يكون اتخاذ الأخدان سبيلا من سبل تكوين الأسرة ومن اتخاذ الأخدان ما يسمى بالمتعة وهو اتخاذ المراة لمد محدود في نظير اجر معلوم.
وبعد ان بين سبحانه العماد الذي تقوم عليه الأسرة، وهو الزوجان، اخذ يبين علاقة الإنسان بغيره من الناحية المالية فقال سبحانه وتعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا ان تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما٢٩ ﴾[ النساء ].
ولقد كانت العلاقة بين الرجل والمرأة موضع نظر الماضين كما هي الآن موضع النظر والقول/ فوضع الله سبحانه وتعالى الحدود التي تبين حقوق كليهما، فبين الله سبحانه وتعالى ان لكل منهما نصيبه من الكسب، ﴿... للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله عن الله كان بكل شيء عليما٣٢ ﴾ [ النساء ]. وبين مع ذلك ان للرجال فضل الرياسة والقوامة، وان ذلك يظهر فيما للرجل على امرأته من ولاية التأديب، وقد ذكر سبحانه ضروب التأديب التي يملكها الرجل على زوجه، وكلها من غير قسوة ولا شذوذ ولا طغيان، ثم بين سبحانه العلاج إذا أصابت الأسرة آفة الشقاق، فقال سبحانه وتعالى :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها عن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما عن الله كان عليما خبيرا٣٥ ﴾[ النساء ].
وبعد ان بين سبحانه ما هو قوام الأسرة وعمادها – وقد أشار إلى العلاقات المالية بين الناس، وان أساسها التراضي – أخذ سبحانه وتعالى يبين لنا العلاقة بين العبد وربه، والعلاقة بين العبد والناس بغير التجارة، فأما العلاقة بين العبد وربه فهي العبادة لله وحده، لا يشرك به أحدا، وأما العلاقة بينه وبين الناس فهي الإحسان، وأول من يجب له الإحسان الوالدان، ثم الإحسان إلى ذوي القربى واليتامى أيان كانوا ؛ لأنهم عن أهملوا تربت بينهم وبين المجتمع روح العداوة، ثم الإحسان إلى الجار والمجاور، والجار القريب لك، ومن تصاحبه في طريق او عمل، والإحسان إلى ابن السبيل والضعفاء جميعا، والتضامن والتواضع، ولذا قال تعالى :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا٣٢ ﴾ [ النساء ].
وبين سبحانه التلازم بين الاختيال والفخر والبخل، وبين عاقبة كليهما، وذكر ان من المختالين البخلاء من ينفقون اموالهم رئاء الناس، وان هذه العيوب النفسية هي من وسوسة الشيطان، وبين سبحانه وتعالى عقاب هؤلاء في الدنيا والآخرة وكيف يحضرون يوم القيامة :﴿ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول أو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا٤٢ ﴾[ النساء ].
وقد بين سبحانه وتعالى الأساس الذي تقوم عليه العلاقة الإنسانية، وهو الضمير، والضمير لا يتربى إلا بالصلاة، ولذلك أخذ يشير إلى احكامها، مشيرا إلى تحريم ام الخبائث وهي الخمر، فقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا …٤٣ ﴾[ النساء ].
ثم بين سبحانه حال أولئك الذين ماتت ضمائرهم مع ما اوتوه من علم لكتاب، وهم اليهود، فقد اتخذوا منه ذريعة للسلطان والسيطرة، وبذلك عملوا على إضلال غيرهم، وإفساد عقائد من كانوا يجاورونهم، وبين في هذا محاولتهم إيذاء النبي والتهكم عليه في دعوته، وفي أثناء بيان رسالته، وربط سبحانه ان الباعث على هذا الضلال والتضليل هو إرادتهم الملك والحسد، ولذا قال سبحانه :{ أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناي غلا نقيرا٥٣ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما٥٤[ النساء ] وبين سبحانه من بعد ذلك عاقبة الذين يكفرون بآياته سواء أكانوا ممن أوتوا الكتاب من قبل أم كانوا من المشركين. وقابل هذه العاقبة بما أفاضه الله- تعالى – من نعيم أخروي على المؤمنين.
وقد بين سبحانه وتعالى من بعد ذلك أساس الحكم الإسلامي، فذكر أنه العدل والأمانة، وان أمثل طريق لتحري العدل والأمانة هو إطاعة الله ورسوله، وان الحاكم عليه ان يرد كل تنازع إلى حكم الكتاب والسنة، وان التحاكم إلى غير كتاب الله تعالى وسنة رسوله تحاكم إلى الطاغوت، وان المنافق هو الذي يرتضي حكم الطاغوت بدل حكم الله تعالى :﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا٦١ ﴾[ النساء ] وقد بين أن أمارة الإيمان هو تحكيم الكتاب والسنة﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما٦٥ ﴾[ النساء ].
وإن الحق يجب ان ينصر، وإن المؤمن لا يصح أن يستسلم للاعتداء، وإن كان العدل وأداء الأمانة وإطاعة الله ورسوله أساس الحكم الإسلامي، فإن العدل مع المخالفين هو أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وإن القتال إذا كان العدل يستوجبه يكون أمرا لازما، فإذا اعتدي على الإسلام وأهله وجب القتال، ووجب أخذ الأهبة، وكان الحذر من الأعداء بقتالهم :﴿ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل او يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما٧٤ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا٧٥ ﴾[ النساء ].
وإن الخروج للقتال هو العلاقة المميزة بين أقوياء الإيمان وضعفاء الإيمان ومنهم المنافقون، فهؤلاء وأولئك يقولون :﴿... لولا أخرتنا إلى اجل قريب... ٧٧ ﴾[ النساء ].
وشأن الضعاف أن يزيلوا عن أنفسهم مظنة التقصير، وينسبوا ما يصيبهم من سيئة لغيرهم، وينكروا فضل ذوي الفضل :﴿... وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا٧٨ ﴾ [ النساء ].
وإن أولئك يخالفون الرسول، فالله أكد لهم أن من يطع الرسول فقد أطاع الله، وان ذلك كله من هجرهم لأوامر القرآن، وعدم تدبرهم لإعجازه ومراميه، وان عليهم أن يردوا ما يستغلق عليهم فهمه إلى سنة الرسول وإلى العلماء منهم.
وإن أولئك المنافقين معوقون، ولذا أمر الله نبيه بألا يلتفت إليهم :﴿ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ٨٤ ﴾[ النساء ].
وقد بين سبحانه ان المعاملة بالمثل هي أساس الإسلام، وان الجزاء مجانس للعمل دائما، والله سبحانه وتعالى سيجمع الناس جميعا يوم القيامة.
وقد ذكر سبحانه وتعالى ما ينبغي ان يعامل به المنافقون الذين هم كالداء الوبيل في جسم الأمة، فبين الله سبحانه وتعالى ان يعاملوا باحتراس ولا
١ رواها ابن جرير الطبري في تفسيره، وروى الحاكم بإسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه عن ابن عباس انه قال: سلوني عن سورة النساء؛ فإني قرأت القرآن وأنا صغير..

قال تعالى :
﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث فيهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا١ وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا٢ ﴾
قلنا في الاستعراض الذي ذكرناه لسورة النساء : إنها سورة المجتمع الإنساني، وتنظيم العلاقات بين الآحاد والجماعات والدول، فهي تنظم الأسرة، والمجتمع الصغير، والمجتمع في الأمة الإسلامية، وحالها في الدفاع عن نفسها، ودفع عناصر الفساد فيها، وتنقيتها من كل بواعث السوء، وعلاقتها بغيرها ممن القوا السلم، وممن نابذوها العداوة.
ولذلك كان ابتداؤها بهذا النص السامي الشامل في معناه، فقال سبحانه :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾.
يذكر بعض المفسرين ان النداء ب" يا أيها الناس" يخاطب به اهل مكة، والنداء ب" ياأيها الناس" نزلت بمكة، وأكثر الآيات التي ابتدأت ب" يا أيها الذين آمنوا" نزلت بالمدينة، ولا شك في أن "يا أيها الذين آمنوا" خاصة في ندائها بأهل الإيمان ؛ لأن صلة الموصول تعين ذلك. أما"يا أيها الناس" فتخصيصها بأهل مكة تخصيص بغير مخصص، غنما تسرى على عمومها، وهو عموم الخطاب لمن يعقلون، وذلك اللفظ وما هو مضمون النداء عام شامل جميع الناس، فكلمة"الناس" تشمل كل بني الإنسان، وأما في مضمون النداء من إنذار وتبشير وبيان للحقائق الوجودية والكونية، والأدلة والبراهين أمور عامة لا تختص بقبيل دون قبيل، ولا بقوم دون قوم. وفي النص الكريم الذي نتكلم فيه يتضمن النداء حقيقة عامة نفسية تجمع بني الإنسان مهما تختلف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم، فهو يثبت أن الأصل هو "نفس واحدة" كلهم يرجعون إليها، ويتصلون بها، وهذا النص يشبه قوله تعالى :﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم... ١٣ ﴾[ الحجرات ].
بيد أن النص الذي نتحدث عنه يثبت ان الذكر والأنثى من طبيعة واحدة، ويثبت في مضمونه الصلة الرحيمة التي تربط الناس جميعا، وما ينبني عليها من تعاطف وتواد وتراحم، والنص الآخر يبين وجوب التعارف الذي هو الطريق للتراحم والتواد، فهنا بيان الغاية، وهنالك بيان طريقها.
نادى الله سبحانه وتعالى الإنسانية، ذلك النداء الخالد ونبههم سبحانه وتعالى على الوحدة في أمرين :
أولهما : وحدة الربوبية، فإن ربكم واحد، إذ قال سبحانه وتعالى :﴿ اتقوا ربكم ﴾ الذي هو رب الجميع، رب الأبيض والأسود والأعجمي، والعالم والجاهل، فصلة الجميع به واحدة، وهي صلة الربوبية، وإن هذه الصلة توجب أن يشعر الجميع بأنه لا فضل لجنس على جنس، ولا للون على لون إلا بمقدار الاتصال الروحي بخالق الخلق، وذلك بالتقوى، فهذه الصلة مقوية للأمر بالتقوى، وأنها مناط التفضيل، وهي سبيل قوة الصلة الرابطة.
والثاني : وحدة التكوين والإنسان، فالكل ينتهي إلى نفس واحدة هي الجنس العام الجامع، مهما يعل ابن آدم أو ينخفض فإلى هذه النفس ينتمي، وبهذه الأخوة العامة يرتبط.
والأمر بالتقوى في هذا المقام لبيان الصلة التي تربط الإنسان بالرب الذي انعم بهذا الوجود على كل من في هذا الوجود، وكان ذلك المر ممهدا لأمر آخر، وهو ان يلاحظ كل إنسان تلك الأخوة الرابطة في كل عمل يعمله، وكل غاية يتغياها ويريدها، وما أجود ما قاله الزمخشري في هذا المقام، فقد قال جار الله رضي الله عنه :"أراد بالتقوى تقوى خاصة، وهي ان يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله، فقيل اتقوا ربكم الذي وصل بينكم، حيث جعلكم صنوانا مفرغة من أرومة واحدة فيما يجب على بعضكم لبعض، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه، وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة".
والنفس الواحدة هي آدم أبو الأناسي في هذا الوجود، والمعنى على هذا الكلام يتطابق مع قول النبي صلى الله عليه وسلم"كلكم لآدم وآدم من تراب"١ وهذا نظر الأكثرين من المتقدمين، وهو الذي يتلاقى مع قوله بعد ذلك :﴿ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ﴾.
وقد ذكر الرازي في مثل هذا المقام انه قد يراد نفس واحدة ان البشر جميعا متجانسون متحدون في المنشأ ونفوسهم متشابهة متلاقية، فهم جميعا ينتهون إلى نوع من النفوس واحد، وقد ذكر هذا المعنى في قوله تعالى :﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها... ١٨٩ ﴾[ الأعراف ] فقد نقل عن القفال في تأويل هذه الآية انه تعالى ذكر هذه القصة على سبيل ضرب المثل، والمراد خلق كل واحد منكم من نفس واحدة، وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية، وارتضى ان يكون هذا احد التأويلات.
وعلى هذا الكلام يكون المعنى : إن الله تعالى خلق نفسا واحدة تلتقي عندها كل النفس متشابهة متشاكلة، وإن ذلك يقتضي التشابك في كل بني الإنسان، ومع التساوي في الخلق يكون التساوي في الحقوق والواجبات.
﴿ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ﴾ الزوج القرين المجانس او المقابل غير المجانس، وقد قال في ذلك الأصفهاني :"يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة زوج، ولكل قرينين فيها وفي غيرها زوج، ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له او مضادا زوج. قال تعالى :﴿ فجعل منه الزوجين الذكر و الأنثى ٣٩ ﴾[ القيامة ] قال : وزوجك الجنة٢، وزوجة لغة رديئة، وجمعها زوجات. قال الشاعر :" فشكا بناتي شجوهن وزوجتي".
وإن كثيرا من المفسرين على ان المراد من الزوج حواء، وقد خلقت من آدم، وقد اخذوا من ظواهر آثار وردت عن الصحابة، وعن تفسير بعض التابعين، ومن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم :"إن المراة خلقت من ضلع اعوج وإن اعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته وغن استمتعت بها استمتعت بها وفيه عوج"٣.
وإن كثيرين من المفسرين قالوا إن المراد من جنسها أي من طبيعتها، ومن خواصها، وذلك مثل قوله تعالى :
﴿ ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة... ٢١ ﴾[ الروم ]. ومثل قوله تعالى :﴿ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة... ٧٢ ﴾[ النحل ]. وقوله تعالى :﴿ فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن النعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير١١ ﴾ ]الشورى ].
وإذا كانت الزوج من جنس النفس العامة فإنه يسكن إليها ويطمئن عندها كما ذكر في آيات أخرى غير الآية التي هي موضوع كلامنا.
وقد كانت نتيجة ذلك الازدواج النفسي والجسدي، ان كان البشر، ولذلك قال سبحانه :﴿ وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ﴾. والبث معناه النشر والتفريق، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ و زرابي مبثوثة١٦ ﴾[ الغاشية ] وإن هذا يدل على أن البشر الذين تفرقوا في هذه الوجود رجالا وإناثا، وانشعبوا قبائل متفرقة في أقصى الأرض وأدناها، كلهم ينتمون إلى هذه النفس الواحدة بلا فرق بينهم في أصل الانتماء، وفوق هذا يدل الكلام على ان طبيعة المرأة من طبيعة الرجل، وأنها ليست من جنس مرذول يجري الشيطان في عروقه ولا يجري في عروق الرجل، وأنها لعنة الله في الأرض كما تجري عبارات بعض المتكلمين في المسائل الدينية من غير المسلمين، وإن الآيات المتضافرة التي تدل على ان الزوج من نفس الزوج فيها إشارة إلى وجوب التجانس النفسي بين الزوجين، وان الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، وكل رجل يكون كنصف دائرة يسبح في الوجود حتى يلتقي بنصف الدائرة الذي قطره فيكون الالتئام وتتكون الحياة الزوجية الهنيئة.
﴿ واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ﴾ تساءلون أصلها تتساءلون فأدمغت التاء في السين، وقرئ تساءلون بطرح إحدى التاءين، ومعناها يوثق بعضكم مطالبه من أخيه ومسألته له بالله تعالى أي يسأل بعضكم مزكيا مسألته بذكر الله تعالى، وبذكر الأرحام الرابطة بينكم، ووشائج القربى.
والأمر بالتقوى تكرر لتربية المهابة في النفس، ولتوكيد الطلب، ولن مقام التقوى في الثاني غير مقام التقوى في الأول، فمقام التقوى في الأول هو مقام التقوى التي تتجلى في شكر الرب على ما انعم، وبقيام الواجب نحو الخلق للصلة الجامعة الوثيقة، فهي تقوى الربوبية والإنعام، و مقام التقوى في الثاني تقوى الألوهية، ولذلك ذكر لفظ الجلالة الدالة على كل معاني الألوهية، فهي تقوى العابد الخائف الراجي رحمته، والأولى تقوى الشاكر المحس بجلائل الإنعام.
والأرحام قرئت بفتح الميم٤، ويكون المعنى اتقوا الله واتقوا الأرحام، ومعنى اتقاء الأرحام الا يقطعوها، بان يجعلوا لها وقاية من المودة الواصلة، والأرحام هنا هي كل الصلات الإنسانية التي وصل بها بين الخلق بخلقهم من نفس واحدة وبالأولى تدخل الأرحام الخاصة، والقرابات القريبة.
ويصح ان يكون المعنى اتقوا الله الذي تتساءلون به وبالأرحام، وتكون الواو واو المعية، وتتلاقى هذه مع قراءة الكسر٥، وقراءة الكسر قد تتعارض مع قواعد النحاة الذين قد يقولون عن العطف لبا يكون على ضمير موصول مجرور، ولكن قراءات القرآن المتواترة فوق قواعد النحاة، وهي أصدق في الفصحى.
﴿ إن الله كان عليكم رقيبا ﴾ هذا ختام للآية الكريمة فيه حث على المبالغة في التقوى ورعاية الرحم، والصلات الإنسانية التي تربط بين الناس بعضهم للوحدة الإنسانية الشاملة، وكان الحث على التقوى لإشعارهم جميعا بقوة رقابة الله سبحانه وتعالى. وقد ذكر العلي القدير رقابته مؤكدة بأوثق توكيد، فأكدها ب"إن" وبتكرار لفظ الجلالة الذي يربي في نفس المؤمن كل معاني العبودية، وبالتعبير ب"كان" الدالة على الدوام والاستمرار، وبذكر الفوقية في قوله تعالى﴿ عليكم ﴾ وهي دالة على معنى الاطلاع الدائم مع السيطرة والقهر، وأخيرا بصفة المبالغة إذ قال :﴿ رقيبا ﴾ وإن الله يؤكد صلة الأرحام بهذا وباقترانها به في الذكر وباقترانها به عند السؤال باسم الله تعالى، ويقول الزمخشري :"وقد آذن عز وجل إذ قرن الأرحام باسمه – ان صلتها منه بمكان كما قال تعالى :﴿... ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا... ٢٣ ﴾[ الإسراء ] وعن الحسين : إذا سألك بالله فأعطه، وإذا سألك بالرحم فأعطه".
١ جزء من حديث رواه احمد(١٠٥٥٥)، والترمذي(٤١٢٧) وحسنه، وابو داود بنحوه(٥١١١) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
٢ أي في قوله تعالى في سورة البقرة(٣٥):﴿وقلنا يا آدم اسكن انت وزوجك الجنة﴾..
٣ أصح ما ورد في هذا الحديث ما جاء في الصحيحين؛ رواه مسلم: الرضاع – الوصية بالنساء(١٤٦٨)، ولفظه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن المراة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وغن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها"، ورواه البخاري: النكاح – المداراة مع النساء(٥١٨٤)..
٤ قرأها بالجر حمزة، وقرأ الباقون بالنصب.[غاية الاختصار ج٢، ص٤٥٩]..
٥ هي قراءة حمزة كما سبق بيانه..
﴿ وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ﴾ اوجب سبحانه وتعالى الرحمة العامة في الآية السابقة واخصها ما كان في الأسرة الواحدة، وقد ابتدأ في هذا بأحق الناس بالرحمة العاطفة، والمودة الواصلة، وهم الذين نزلوا إلى هذا الوجود من غير حام غير الله تعالى يحميهم، ولا قلب يحنو عليهم حنو الوالد الشفيق، وأولئك هم اليتامى، واليتم معناه( الانفراد ) واليتيم هو الصغير الذي مات أبوه، وقد حث الله تعالى على إكرام اليتامى في آيات كثيرة، وأحاديث نبوية مستفيضة قد تضافرت كلها على وجوب إكرامه ومنع قهره وإذلاله، ذلك ان اليتيم يحتاج إلى إصلاح وعطف ومحبة تعوضه عما فقد من رعاية، وإن العواطف الإنسانية تنمو في الطفل وهو صغير بالمجاوبة النفسية بينه وبين من يحيطون به. فإذا انقطعت تلك العاطفة في الصغر نفر ونظر إلى الجماعة كلها نظرة العدو إلى عدوه، فيكون من هؤلاء الذين فقدوا عطف الأبوة ولم يكن ما يعوضها – الشذاذ وقطاع الطرق، وبعبارة عامة من ليس عندهم ضمائر، ولا نفوس لوامة.
وقوله تعالى :﴿ وآتوا اليتامى أموالهم ﴾ فيه أمر واضح بالرعاية من ناحية المال، فلا يمنعون حقهم المالي، والمر بالإيتاء امر لعموم الجماعة الإسلامية بأن تتضافر في تمكين اليتيم من ان يصل إليه ماله، فلا يأكله الورثة ويضيعون حقه، وعلى ذلك يكون معنى الإيتاء تخصيص نصيب لليتامى كاملا غير منقوص، فتحفظ لهم حصتهم في أبيهم او في مورثهم، ويحفظ لهم نصيبهم في كل غلة لموالهم، ويكون وصف اليتامى على حقيقته ؛ لأن ذلك وهم صغار، وفسر بعض العلماء الإيتاء بالإعطاء لهم إذا بلغوا رشدهم، ويكون التعبير عنهم باليتامى باعتبار ما كان.
وقوله تعالى :﴿ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ﴾ معناه : لا تجعلوا لهم خبيث المال بدل الطيب، ويكون الطيب معناه الجيد، والخبيث معناه الردئ فعلى هذا يكون المعنى الجملي : لا تجعلوا ردئ المال لهم بدل الجيد، فإذا كانت التركة شاء فلا تجعلوا لهم الهزيلة، ولكم السمينة، وإذا كانت فلا تجعلوا لهم الزيوف، وتجعلوا لنفسكم الجيد، ومعنى التبدل، جعل شيء بدل شيء أي يجعلون الردئ بدل الجيد، والباء في مادة التبادل يجوز ان تدخل على المتروك، ويجوز ان تدخل على المأخوذ، وهي هنا على المتروك، لأنه يترك عنهم الجيد، ويؤخذ لهم الردئ وفسر بعضهم الخبيث بالحرام، والطيب بالحلال، ويكون المعنى : لا تجعلوا الحرام عليكم بدلا عن الحلال، أي لا تأخذوا الحرام من مالهم وتتركوا الحلال الطيب من أموالكم، وبهذا فسر الزمخشري.
﴿ ولا تأكلوا أموالهم إلى واموالكم ﴾ الكلام السابق كان في تخصيص أنصبة لهم غير منقوصة، وتخير هذه النصبة من الطيب دون الخبيث، وهنا الكلام في خلط أموالهم بأموال الأوصياء، ومعنى النص الكريم : لا تضموا أموالهم على أموالكم آكلين لها. والآية صريحة في النهي عن خلط مال القاصر بمال الموصى عليه قاصدا آكله ؛ لأن الأكل في ذاته حرام، وهي أيضا تتضمن النهي عن خلط مال القاصر، ولو لم يقصد أكله ؛ لأنه قد يؤدي إلى ضياعه وعدم تمييزه، إذ يخشى ان يموت من غير ان يعرف مال اليتيم من ماله، فيؤدي الأمر إلى أكله، وإن لم يكن مقصودا، ولذا يقول الفقهاء : إذا مات الموصي على اليتيم مجهلا مال اليتيم اعتبر مستهلكا له.
﴿ وإنه كان جوبا كبيرا ﴾الضمير يعود إلى النهي عن أكل مال اليتيم بأي طريق كان الأكل، ومعنى"حوبا كبيرا" : إثما كبيرا، فالحوب معناه الإثم، وفلان يتحوب أي يتأثم، والحوباء النفس المرتكبة للإثم، وإن الإثم في هذا كان كبيرا ؛ لأنه اعتداء على ضعيف، والاعتداء على الضعيف اكبر الإثم، ولأنه خيانة للأمانة، ولأنه تضييع لنفس بشرية وهي نفس اليتيم ؛ لأنه إذا كان يؤكل ماله فمم يأكل ؟ ولأن ذلك ينشئ اليتيم على النفرة من المجتمع، وفي ذلك شر مستطير، ﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا٩ ﴾[ النساء ].
﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم الا تعدلوا فواحدة او ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى الا تعولوا٣ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا٤ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا٥ ﴾
بين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة حق اليتيم من العطف والرعاية ومضار إهماله وعدم إصلاحه والعمل على إذلاله، وفي هذه الآيات يبين حق النساء، والأمر فيهن يتلاقى مع أمر اليتيم ؛ لأنهم ضعاف١، فهن في حاجة إلى رعاية وإصلاح وعطف، ومعاملة عادلة لا شطط فيها ولا جور، ولذا قال تعالى :﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع... ٣ ﴾[ المائدة ].
معنى الإقساط العدل، ومن ذلك قوله تعالى :﴿... إن الله يحب المقسطين٤٢ ﴾[ المائدة ] وقوله تعالى :﴿ وتقسطوا إليهم ﴾ أي تقيموا العدل بيسر ليصل إليهم من غير مجهود، فمن النقص في العدل ألا يصل إلى صاحبه إلا بمشقة وجهد.
ومعنى"خفتم" : ظننتم، ومعنى" ما طاب لكم" : ما حل. وقد تفسر بمعنى ما تستحسنونه من النساء لدين وخلق ونسب وجمال أو لواحد من هذا، و"ما" هنا في موضع العاقل، وعبر ب"ما"، وهي في أصل وضعها لغير العاقل، إما لأنه أريد الصفات ؛ لن طاب تدل على ان الوصف أساس الاختيار، وإما لأن جماعة الإناث تعامل في نسق القول معاملة غير العاقلين كما قرر الزمخشري، وإما لأنه عند التعميم يستعمل( ما ) في موضع ( من )، و ( من ) في موضع ( ما ) كقوله تعالى :﴿... فمنهم من يمشي على بطنه... ٤٥ ﴾[ النور ] وذلك هو الذي نختاره. والنكاح هنا معناه العقد، وكلمة النكاح في القرآن الكريم لن تستعمل إلا في موضع العقد، لا الوطء.
وهنا شرط وجواب، والشرط هو﴿ وإن خفتم الا تقسطوا في اليتامى ﴾ والجواب هو ﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ﴾، وقد تكلم العلماء في العلاقة بين الشرط وجزائه، وتساءلوا ما العلاقة بين الإقساط في اليتامى، والزاج مثنى وثلاث ورباع، إلى آخر النص الكريم ؟ وقد أجيب عن ذلك بعدة إجابات :
أولها : أن الرجل تكون في ولايته يتيمة، فيخشى ألا يتزوجها خشية ظلمها، او يخشى ان يطلبها من وليها فيكون منه الظلم لضعفها وعدم وجود حام لها، فقال الله تعالى ما معناه إن رغبتم في الزواج من اليتيمات، وخشيتم من تحقيق هذه الرغبة ألا تعدلوا في اليتامى فلا تحققوا هذه الرغبة، وانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، وتكون إباحة التعدد وتقييده قد جاءت عرضا، لا بالقصد الأصلي في البيان، وقد روى المفسرون ذلك عن عائشة رضي الله عنها.
وثانيها : ان المعنى : إن خفتم الا تقسطوا في اليتامى فخافوا أيضا ألا تقسطوا في النساء بتزوج اكثر من أربع، او في دائرة الأربع ولا تعدلوا، أي انه إذا كان قد تحقق منكم هذا الخوف بالنسبة لليتامى فخافوا بالنسبة للنساء، فلا تتزوجوا أكثر من أربع، وعلى هذا التخريج يكون النص قد سيق لتقدير التعدد لا لإباحته، وقد قال هذا بعض التابعين.
وثالثها : وقد ذكره الزمخشري، وهو ان يكون المعنى : إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فخافوا الزنا أيضا، وإذا خفتم الزنا فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، والربط بين الزنا وظلم اليتامى ان كليهما فيه إضعاف للنسل، فالزنا إضعاف له بإخراج مولود ليس له ولي أصلا، واليتم فقد الولي، فكلاهما فاقد للنصير، ومن حماية الإنسان من الزنا ان ينكح ما طاب له مثنى وثلاث ورباع، ويكون في هذا التخريج بيان التعدد المباح، وإشارة إلى بعض حكمته.
ورابعها : وهو ما اختاره ابن جرير الطبري، ان المعنى إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فخافوا أيضا ألا تقسطوا في النساء إذا تخلفت العدالة عند التعدد فلا تعددوا، وإذا تخلفت العدالة في الواحدة فمما ملكت أيمانكم، فالآية سيقت للعدالة في التعدد وعدم التعدد، وهو قريب من الثاني، فإن كليهما لمنع ظلم الفساد، بيد ان الثاني تخريجه على أساس تقييد العدد، اما هذا فسياقه المطالبة بالعدالة، وهما متلاقيان في الجملة.
وعلى كليهما يكون التعدد والعدالة قد سيق الكلام لهما، ولم يكن عرضا، وغنا نختار ذلك، وسياق القول يدل عليه، وذلك ان الكلام في اليتامى قد اختلط بالكلام في النساء، وذلك لأن كليهما ضعيف، وقد كانت حقوق المرأة ضائعة مأكولة كما كانت حقوق اليتيم ضائعة مأكولة، والمرأة في عهد نزول القرآن كانت أسيرة في بيت أبيها وبيت زوجها فأوصى الله برعايتها كما أوصى برعاية اليتيم، ولذلك قيد التعدد بالعدل، وقيد بالقدرة على الإنفاق كما سنبين، وذلك لكيلا يقع ظلم على المرأة.
ولفظ"مثنى" معدول به عن اثنين، اثنين، وثلاث معدول به عن ثلاث ثلاث، ورباع معدول به عن أربع أربع، ومعنى جاء الجند مثنى أي جاءوا اثنين اثنين، وجاءوا ثلاث أي ثلاثة ثلاثة، ورباع أي أربعة أربعة، ومعنى الآية على هذا ان لجماعة العاقلين ان يتزوجوا معددين جامعين اثنين أو جامعين ثلاثا، او جامعين أربعا، والخطاب في قوله تعالى :﴿ فانكحوا ﴾ لجماعة المسلمين، أي كونوا أيها المسلمون معددين اثنين أو ثلاثا إلى آخره.
والعطف على نية تكرار العامل، أي انكحوا جامعين اثنين او انكحوا جامعين ثلاثا او انكحوا جامعين أربعا، وبهذا النص يستفاد ان الإباحة مقصورة على أربع، وقد ثبت في السنة ان بعض الذين أسلموا كان معهم في عصمتهم أكثر من أربع فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ان يقتصروا على أربع، ويطلقوا الزائد عنهن٢.
وقد قيد التعدد بقيدين احدهما القدرة على العدالة، والثاني القدرة على الإنفاق، ولذلك قال سبحانه وتعالى بعد ذلك :﴿ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ﴾.
العدالة شرط في كل زواج ول كان ذا زوجة واحدة، فمن كان غير قادر على العدالة او على الإنفاق لا يحل له أن يتزوج، والزواج مطلوب من القادر على العدالة والإنفاق، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة( أي تكاليف الزواج من نفقة وغيرها ) فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"٣ أي إنه قاطع شهواته إنه قاطع شهواته بالسيطرة عليها، وإذا كانت العدالة مطلوبة في الزواج الواحد، فهي ألزم في تعدد الزوجات، ومعناها يتسع، فتكون العادلة مع كل واحدة بحيث لا يظلمها في ذاتها، ويجب عليه أن يساويها مع غيرها، والعدل المطلوب هو العدل الظاهر بالتسوية بينهن في المطعم والملبس والبيت، فلا يبيت عند واحد أكثر من غيرها إلا بإذنها، أما العدل الباطن بمعنى التسوية في المحبة القلبية، فهي غير ممكنة وغير مطلوبة، وقد جاء في أحكام القرآن للجصاص :"أمر الله تعالى بالاقتصار على واحدة إذا خاف الجور ومجابنة العدل. إنها إباحة اللاثنتين إذا شاء، وللثلاث إن شاء، وللربع إن شاء، فإن خاف ألا يعدل اقتصر من الربع على الثلاث، فإن خاف ألا يعدل اقتصر على اثنتين، فإن خاف ألا يعدل اقتصر على واحدة... والعدل المطلوب هو العدل الظاهر، وهو القسم بين الزوجين، والمساواة في الإنفاق، والمساواة في المعاملة الظاهرة، وليس هو العدل في المحبة الباطنة فغن ذلك لا يستطيعه احد، ولا يكلف الله إلا ما يكون في الوسع، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسوي بين أزواجه في المحبة القلبية ؛ ولذلك كان يقول عند قسمه بين أزواجه :"اللهم إن هذا قسمي فيما املك، فلا تؤاخذني فيما لا املك"٤.
وقد وفق العلماء بين هذه الآية التي تطالب بالعدل، وبين الآية التي تنفي إمكانه، وهو قوله تعالى :﴿ ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة... ١٢٩ ﴾[ النساء ] فقالوا إن العدل المطلوب هو العدل الظاهر والمساواة في المعاملة والعدل المنفي المساواة في المحبة القلبية.
وإنه واضح انه إذا لم يستطع العدل الظاهري وجب الاقتصار على واحدة، وإن لم يستطع العدل معها اكتفى بالدخول بملك اليمين، أي بالدخول بالجارية التي يملكها، وقد زال الرق، فزالت معه تلك الرخصة، فمن لم يستطع العدالة مع زوجه عليه ان يروض نفسه بالصوم، او يروض نفسه على العدالة.
وقد قيد التعدد بقيد ثان، وهو القدرة على الإنفاق على النسوة اللائي يتزوجهن، وعلى من سيرزقهم الله منهن، وقد أشار القرآن إلى وجوب مراعاة ذلك، فقد قال تعالى :﴿ ذلك أدنى ألا تعولوا ﴾ أي إن هذا التقييد بهذا العدد المحدود، مع قيد العدالة، ومنها القدرة على الإنفاق، أقرب إلى ألا تعولوا، وعال يعول معناها مال، ومنه عال الميزان أي مال، وفسرها بعض العلماء بمعنى ذلك أدنى ألا تجوروا، وروى ذلك التفسير عن عائشة- رضي الله عنها، ولكن فسرها الإمام الشافعي بألا يكثر عيالكم، وهذا التفسير يؤدي إلى معنى جديد، لم يفهم مما سبق، وقد رجح ذلك الزمخشري بقوله :"والذي يحكى عن الشافعي انه فسر ألا تعولوا : ألا تكثر عيالكم فوجهه ان يجعل من قولك عال الرجل عياله يعولهم، كقولهم مانهم يمونهم إذا انفق عليهم، لن من كثر عياله لزمه ان يعولهم، وفي ذلك ما يصعب المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب، وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورءوس المجتهدين حقيق بالحمل على الصحة والسداد، وألا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا، فقد روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال :"لا تظن بكلمة خرجت من في أخيك سوءا وأنت تجد له محملا"، وكفى بكتابنا"شافي العي، من كلام الشافعي" شاهدا بأنه أعلى كعبا، وأطول باعا في علم كلام العرب من ان يخفى عليه مثل هذا، ولكن للعلماء طرقا وأساليب، فسلك الشافعي في هذه الكلمة طريق الكنايات".
ومع أن التعدد مقيد بالعدالة والقدرة على الإنفاق، وهي تدخل في العدالة، لا يعتبر العقد فاسدا إذا لم يتوافر هذان الشرطان ولم يحدث أن قاضيا او حاكما اشترط لصحة العقد او نفاذه ذلك الشرط، والإجماع على انه لا أثر لفقد الشرطين في العقد، وكل كلام غير ذلك هو بدعة لم تكن عند السلف، وإنما لم يفسد العقد لن الفساد يكون بأسباب واقعة، لا بأسباب متوقعة، والعدالة والإنفاق أمران مقدران في المستقبل، فقد يتوب من الظلم، وربما يجعل الله من عسره يسرا، ولأن الظلم أمر نفسي، والفساد والبطلان لا يكونان لأمور نفسية خفية لا يجري عليها الإثبات. وإذا سوغ بعض الناس للقاضي ألا يأذن إلا إذا تأكدت العدالة والقدرة على الإنفاق، فقد جعل للقاضي ما لا سبيل إلى التأكد منه، ثم إن العدالة والقدرة على الإنفاق لازمان في الزواج٥ لزومهما في الزواج الثاني والثالث، فلماذا يسوغان ذلك للقاضي عند التعدد فقط ؟ ! إن ذلك معاندة لشرع الله تعالى الذي أباح التعدد.
والتعدد لا بد منه عند استحكام الشهوات ؛ لأنه إن لم يعدد اتجه إلى الحرام، والحلال على أية صورة خير من الحرام، واتخاذ الحلائل خير من اتخاذ الخلائل، والتعدد قد يكون علاجا اجتماعيا، عندما تأكل الحرب شباب امة من الأمم ويكون عدد النساء الصالحات للزواج أكثر من الشباب بأضعاف مضاعفة، ولا سبيل لإكثار النسل إلا بالتعدد، وهو في هذه الحال منع للمرأة من الابت
١ عن أبي هريرة رضي اله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه كان يقول على المنبر:"أحرج مال الضعيفين: اليتيم والمرأة". رواه الحاكم في المستدرك(٧٢٤٥): ج٤، ص١٤٣، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه..
٢ عن سالم، عن أبيه قال: أسلم غيلان بن سلمة الثقفي وعنده عشر نسوة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ منهن أربعا. رواه الحاكم في المستدرك(٢٨٢٩) ج٢، ص٢٠٩..
٣ رواه البخاري: النكاح – من لم يستطع الباءة فليصم(٥٠٦٦)...
٤ روى أبو داود: النكاح – القسم بين الزوجات (٢١٣٤) عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول:"اللهم هذا قسمي فيما املك فلا املك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" قال أبو داود: يعني القلب..
٥ أي في الزواج الأول، وبعبارة أخرى: في الزواج بواحدة..
﴿ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ﴾ هذا الكلام في بيان العدالة مع النساء في المعاملة، فلا يصح أن يستهان بحقوقهن التي ينشئها الزواج، وأولها المهر، فالصدقة هنا هي المهر، وسمى صدقة لأن تقديمه يدل على صدق النية، والإخلاص في طلب الزوجة، فمن اخلص في طلب يد امرأة قدم لها ما يليق بمثلها تكريما لمعنى الزوجية، وتشريفا لتلك العلاقة، وقال تعالى :﴿ نحلة ﴾ ومعناها عطاء بعض العلماء بمعنى فريضة واجبة، وقد فسرها بذلك أبو عبيدة، وقال الزجاج في آتوهن صدقاتهن نحلة( تدينا ) أي أن الدين اوجب ذلك، والخطاب لجماعة المؤمنين يوجب أداء المهور صادقي النية طيبي النفوس متدينين بهذا العطاء.
﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ﴾ الحياة الزوجية لا تقوم فقط على التكليف الواجب، بل تقوم على المودة الرابطة والتسامح، وقد يجهد الرجل المهر كله، فيقتضي حسن العشرة ان تترك بعض مهرها طيبة النفس، وليست المهور كسائر الديون، إنما هو دين فيه معنى الهدية، ولذلك فتح الشارع الباب لمثل هذه المعاني. ولذلك قال تعالى :﴿... ولا تنسوا الفضل بينكم عن الله بما تعملون بصير٢٣٧ ﴾[ البقرة ] ومعنى طابت نفسا رضيت من غير تورط، ولا تغرير ولا ضغط ولا إرهاق، وطيبة النفس بالعطاء أرق من الرضا به ؛ لأن الرضا قد يتصور مع التورط أما طيبة النفس فلا تتصور إلا بالسماح، بل من غير طلب بالتصريح او بالإشارة، ومعنى هنيئا، أي لا ألم في أخذه، ومعنى مريئا حسن العاقبة، واكل المال أخذه، فلا يراد بالأكل هنا حقيقته، بل يراد الأخذ الذي يؤدي إليه.
وقد كان يحدث أن بعض الناس يرهقون زوجاتهم ليتركوا بعض المهر أو كله، فكان الفقهاء حريصين على ان تتوافر الحرية كاملة في العطاء، ولذا كتب عمر –رضي الله عنه – إلى بعض قضاته :"إن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فلها ذلك". وروى ان رجلا أبرأته امرأته من مهرها، ثم طلقها فرجعت١ فاحتكما إلى عبد الملك بن مروان فحكم لها، وقال شريح في مثل هذه الحال : لو طابت نفسها ما رجعت، وكان الأوزاعي لا يجيز هبة المهر إلا بعد ان تنجب منه، او تمضي سنة على زفافها – والنص يشير إلى انه يحسن ألا تترك له كل المهر، ولذا قال تعالى :﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه ﴾ ومن للتبعيض أي عن بعضه، ويظهر ان هذا التأكيد طيب نفسها، ويجوز الإبراء منه كله.
١ أي رجعت فيما أبرأت من مهرها..
﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ﴾ السفهاء جمع سفيه، والسفه اضطراب في الرأي والفكر، وأصله من اضطراب المحسوسات. ويقول الراغب الأصفهاني في مفرداته :"السفه صفة في البدن، ومنه قيل زمان سفيه كثير الاضطراب، وثوب سفيه ردئ النسج، واستعمل السفه في صفة النفس لنقصان العقل في الأمور الدنيوية".
والسفهاء هنا هم الذين لا يحسنون تدبير الموال إما لصغر سنهم، وإما لنقص عقولهم، وغما لسوء تدبيرهم وتبذيرهم، والقيام هنا هو الولاية المالية والسلطان، وعبر عن الولاية بالقيام، لأن القيام هو العماد والإسناد في اللغة، والولاية المالية المقصود منها أن تكون عمادا وسندا للقاصر المولى عليه، وعلى هذا التفسير يكون معنى السفهاء شاملا لكل العاجزين عن تدبير المال أيا كان سبب العجز. ويكون معنى النص الكريم : لا تعطوا المال للذين لا يحسنون القيام عليه لصغر او نقص عقل، أو فساد رأي ثابت، والمراد مال هؤلاء، ولكن أضيف المال إلى الأولياء ليحثهم على حفظه وصيانته كأنه مالهم، وقد يكون الخطاب لجميع الأمة بالدعوة إلى المحافظة على أموال العاجزين ؛ لأنه من حال الأمة المتضافرة المتعاونة المتكافلة، ورجح الزمخشري انه خطاب للأولياء، وقال في ذلك :" والخطاب للأولياء وأضاف الأموال إليهم ؛ لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم، كما قال :﴿... ولا تقتلوا أنفسكم... ٢٩ ﴾[ النساء ] والدليل على انه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله :﴿ وارزقوهم فيها واكسوهم ﴾ وإنه على ان الخطاب لمجموع الأمة المتكافلة يكون من التكافل رزق اليتامى وعدم قهرهم.
﴿ وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ﴾ معنى الرزق الإنفاق المستمر المنظم على الشخص في طعامه وكسوته، فالكسوة بل المسكن داخلان في ارزقوهم وإنما خص الكسوة بالذكر ؛ لأنها كثيرا ما تهمل، وللحث على المبالغة في تكريمهم، و من مظاهر التكريم الكسوة الحسنة، وقال ارزقوهم فيها واكسوهم، ولم يقل ارزقوهم منها للإشارة إلى ان الرزق لا يقتطع منها، بل يتجر فيها ويعمل فيها ليكون الرزق فيها من الكسب لا من أصلها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :"اتجروا في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة"١ وقد قال الزمخشري في تفسير ارزقوهم فيها :"اجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال" وقد أمر الله تعالى بألا يرهق المحجور عليه، ولا يستذلوا ولا يقهروا ؛ ولذا قال :﴿ وقولوا لهم قولا معروفا ﴾ أي قولا غير منكر وغير مسترذل، وغير قاهر وغير مضعف لنفوسهم، ولا مذل لهم، وذلك لكيلا يذهب الحجر بعزة نفوسهم، وليشعروا انه في مصلحتهم، ولكيلا تضعف شخصيتهم، ويمردوا مع الذلة صغارا ؛ فيعادوا الناس كبارا، والله هو الولي وهو نعم المولى ونعم النصير.
١ روى الترمذي: الزكاة – زكاة مال اليتيم(٦٤١) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال:"ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة"..
﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا ان يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا٦ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا٧ وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا٨ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا٩ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا١٠ ﴾
قلنا إن الآيات الكريمات من أول السورة في بيان العلاقات الإنسانية، وقد نظم سبحانه وتعالى العلاقات بين بني الإنسان، وعنى ببيان حقوق الضعفاء، وهم اليتامى والنساء، فقد كانت المرأة في الماضي مظنة ان تؤكل حقوقها وتهضم، واليتيم مقهور إلا إذا من الله تعالى بكالئ من البشر يحوطه بعنايته، وفي هذه الآيات التالية يبين سبحانه معاملة اليتيم حتى يبلغ، وحقه في الميراث، وكيف تجب حياطته والعناية به وبماله، ولا يدفع إليه ماله إلا إذا رشد.
﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منه رشدا ﴾ الابتلاء معناه اختبار حال اليتيم من حيث قدرته على التصرف في ماله، ويمرن على ذلك قبيل البلوغ، حتى لا يجئ وقت إلا وقد صار في قدرة على إدارتها، وقد قال القرطبي في بيان اختباره :"لا بأس ان يدفع إليه شيئا من ماله يبيح له التصرف فيه، فإن نماه وحسن النظر فيه فقد وقع الاختبار، ووجب على الوصي تسليم جميع ماله إليه( أي بعد بلوغه ) وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك المال عنده"... وقال جماعة من الفقهاء : الصغير لا يخلو ان يكون غلاما او جارية، فإن كان غلاما رد النظر إليه في نفقة الدار شهرا، وأعطاه شيئا نزرا ليتصرف فيه، ليعرف كيف تدبيره وتصرفه، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه، فإذا رآه متوخيا سلم إليه ماله عند البلوغ وأشهد عليه، وإن كان جارية رد عليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه في الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته، واستيفاء الغزل وجودته، فإن رآها رشيدة سلم إليها مالها وأشهد عليها وإلا بقيا تحت الحجر
وإن نهاية اليتيم ببلوغ النكاح، أي بوجود المظاهر التي تدل على الرجولة في الغلام، والتي تدل على مبلغ بلوغ النساء في الفتاة، وإن أقصى مدة البلوغ ذلك المبلغ اختلف الفقهاء فيها، فالجمهور على ان البلوغ بالسن وهو أقصى غاية : لظهور أمارات النكاح ببلوغ خمس عشرة، وأبو حنيفة على انه سبع عشرة بالنسبة للفتاة وثماني عشرة سنة بالنسبة للصبي... وقوله تعالى :﴿ بلغوا النكاح ﴾ كناية واضحة عن ظهور أمارات الرجولة الكاملة، وأمارات الأنوثة ؛ لأن الاستعداد للزواج هو كذلك، و"حتى" هنا للغاية، وهي داخلة على الجملة، فهي تبين نهاية الصغر، والجملة التي دخلت عليها ظرفية في معنى الشرط.
ولا يدفع المال بمجرد البلوغ، بل لا بد من الرشد، ولذلك قال تعالى :
﴿ فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا ان يكبروا ﴾ آنس معناها أبصر، ولذلك قال تعالى :﴿... آنس من جانب الطور نارا... ٢٩ ﴾[ القصص ] وقيل آنس معناها أحس، وعندي ان معنى الإحساس ثابت في آنس، فهو ليس رؤية فقط، بل هو رؤية، اتصل بها إحساسه ووجدانه، ومعنى الرشد الصلاح في العقل والخلق والمال، ونكر الرشد، فقال﴿ رشدا ﴾ للإشارة إلى انه لا يطلب من الصغير ان يؤتى الرشد الكامل بمجرد البلوغ بل إنه يكتفي بنوع من استئناس الرشد وتوقع الخير منه، ولا يطلب منه الكمال وإلا ما اعطى صغير يبلغ ماله قط ؛ لن الرشد الكامل لا يكون إلا بالممارسة المستمرة.
ومعنى هذا الكلام انه لا بد من فترة بعد البلوغ يستأنس فيها الرشد، بعد الاختبار في الصغر، إلا إذا كان الاختبار في الصغر أثبت رشدا، وإذا بلغ غير رشيد ولم يؤنس منه رشد استمر تحت الولاية عند جمهور الفقهاء مهما تبلغ سنه، وذلك لقوله تعالى :﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما... ٥ ﴾[ النساء ] وقال أبو حنيفة : لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ الخامسة والعشرين، فإذا بلغها عاقلا، ولو غير رشيد فليس لأحد عليه سبيل، وعلى هذا الرأي إبراهيم النخعي.
وقد نهى الله الأوصياء عن ان يأكلوا مال اليتامى، فقال :﴿ ولا تأكلوها إسرافا وبدارا ان يكبروا ﴾ أي لا تأكلوا في مدة وصايتكم أموال اليتامى مسرفين في الكل، او مبادرين بالأخذ خشية ان يكبروا، فالإسراف والبدار مصدران وقعا في موقع الحال، وهما في معنى الوصف، وليس المراد ان لهم ان يأكلوا غير مسرفين ولا مبادرين، بل إن ذلك بيان لأشنع الأحوال التي يقع فيها الأوصياء، وهي ان يأكلوا أموال اليتامى بإسراف مبادرين إلى الكل خشية ان يكبروا فتؤخذ منهم تلك الموال وتئول إلى أصحابها.
وقد بين سبحانه جواز الكل من مال اليتيم عند الضرورة فقال :
﴿ ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ﴾ قسمت الآية الأوصياء إلى قسمين : غنى يقوم برعاية اليتيم من غير اجر حسبة لله تعالى، وقال عنه :﴿ فليستعفف ﴾ ومعناها ليعف نفسه، وقال الزمخشري : إن الاستعفاف أبلغ من العفاف ؛ لأنه تحرى العفاف وبلوغ أقصى غاياته، ومعنى ذلك انه لا يأخذ شيئا ؛ لأن طلب أي شيء من غير حاجة طمع في مال اليتيم، يتنافى مع العفاف الذي ينبغي ان يتحلى به الأوصياء.
والقسم الثاني : فقير أذنه الله تعالى بأن يأكل من مال الصغير بالمعروف أي بالقدر الذي لا يستنكر، فلا يسرف في الأخذ، وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم، فقال له :"كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متاثل"١ أي جامع مدخر تتجاوز الحاجة، وقد روى ان عمر بن الخطاب شبه الوالي على المسلمين بالوصي على اليتيم، قال( ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت ).
ونرى من هذا ان الآية تشير إلى انه لا تفرض أجرة للغني قط، أما الفقير فيأكل بالمعروف، ولا يكون ذلك أجرة لأنه ممنوع من التأثل والادخار ؛ وذلك لأن اليتيم رعايته فرض كفاية على المسلمين ليخرج أليفا مألوفا، ولا يخرج منابذا الجماعة، شرا عليها.
وجمهور الفقهاء قد قرروا جواز فرض أجرة حتى للغني خشية ان يحجم الناس عن ولاية امر اليتيم، والله سبحانه يتولاه برعايته، ويحفظه بكلاءته.
﴿ فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيب ﴾ هذا بيان ما يجب القيام به عند انتهاء الوصاية عليه، وهو ان يدفع إليه ماله كاملا، وللاحتياط من الخصومات والمنازعات يشهد على دفعه المال، والشهادة في هذه الحال حجة لازمة ملزمة للمحجور عليه الذي انتهت الوصاية عليه، فهذا إرشاد عظيم من الله سبحانه وتعالى لمنع المشاحة ولإبراء الوصي، ولكي يكون ليتيم على بينة من أمره، والكلام يتضمن تقديم حساب عن التصرفات التي تصرفها في مال القاصر، وقد كان علي بن أبي طالب –رضي الله عنه – وصيا على يتامى، فلما اعطى إليهم أموالهم حاسبهم وحاسبوه، وكان في ضمن الحساب زكوات أموالهم ؛ إذ كان يدفعها من هذه الأموال.
وإنه في هذا الحساب يكتفي أبو حنيفة بيمينه إذا كان هناك خلاف في شأنها ؛ لأنه أمين لم تعرف خيانته، إذ لو عرفت لعزل، والأمين يصدق باليمين إذا خولف، والمالكية والشافعية والحنابلة لا يقبل الحساب عندهم إلا بالإقرار من القاصر، أو البينة الكاملة، وهي رجلان او رجل وامرأتان، وإن حساب الناس قد يغادر الكثير، والأمر في ذلك إلى الضمير الديني، والقلب المخلص، ولذلك كان وراء حساب الناس حساب الله الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولذا قال سبحانه :﴿ وكفى بالله حسيب ﴾ والحسيب هو المحاسب المراقب المشاهد الدقيق الحساب الذي لا يترك شيئا، وكفى ان يكون هذا الحساب، وكان المعنى : حاسبوا أنفسكم فقدموا الحساب عن مال اليتيم صادقا ؛ فإنكم إن أفلتم من حساب الدنيا فلن تفلتوا أبدا من حساب الله المحيط الدقيق، وإن استطعتم الإخفاء والكتمان والتحايل على الناس، فلن تستطيعوا ذلك عند الله تعالى.
١ رواه احمد: الوصايا: مسند عبد الله بن عمرو بن العاص(٦٧٢٦) ولفظه: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مال ولي يتيم. فقال:" كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا، ومن غير أن تقي مالك – او قال تفدي- مالك – بماله"، والنسائي: الوصايا – ما للوصي من مال اليتيم(٣٦٠٨)..
﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ هذه قاعدة عامة لأصل التوريث في الإسلام، وهي قاعدة ان الرجال لا يختصون بالميراث، بل للنساء معهم حظ مقسوم، ونصيب مفروض، سواء أكان قليلا ام كان كثيرا، وهذا إبطال لما كان يقع في الجاهلية من حرمان النساء من الميراث وقصره على الرجال. وذكر في هذا الموضع عند الكلام في شئون اليتامى ؛ لن الظلم عليهم كما يقع في أموالهم الثابتة، قد يقع في أموالهم التي تئول إليهم من مورثيهم، فهذا النص أفاد دفع الظلم عن ضعيفين هما المراة واليتيم، أفاد دفع الظلم عن المرأة بالنص، وأفاد دفع الظلم عن اليتيم بالإشارة، وسيصرح القرآن الكريم بذلك في قوله سبحانه :﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم... ٩ ﴾[ النساء ]. ولقد روى ابن عباس انه قال : كان اهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت وترك ابنتين وابنا صغيرا، فجاء ابنا عمه – وهما عصبته – فأخذا ميراثه كله، فأتت امرأته رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت ذلك، فنزل قوله تعالى :﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ﴾١.
وقد ذكر سبحانه الحق مرتين، فذكره اولا للرجال فقال :﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ ثم ذكره ثانيا للنساء فقال :﴿ وللنساء ﴾ وذلك ليؤكد حقهم، وليبين انه حق مستقل عن حق الرجل، ثبت لها استقلالا بالقرابة، كما ثبت له استقلالا بالقرابة، حتى لا يتوهم احد ان حقها تابع لحقه بأي نوع من أنواع التبعية، ثم أكد سبحانه الحق بقوله :
﴿ مما قل او كثر نصيبا مفروضا ﴾ هذا تأكيد لحق النساء في التركة، وقد أكده مرتين –أولاهما- انه يجب في كل تركة قليلة أو كثيرة فليس حقها تسامحا يعطي، ولكنه حق ثابت، لا يقدم حق للرجل، ويؤخر حق المراة، بل يثبتان معا في القليل والكثير، ولا تسامح في القليل- ثانيهما قوله :﴿ نصيبا مفروضا ﴾ وهي منصوبة على الاختصاص، والاختصاص يفيد العناية أي قدرا عناه الله تعالى وقصده﴿ مفروضا ﴾ أي مقطوعا لا سبيل إلى الهوادة فيه، والاكتفاء ببعضه نزرا يسيرا، او مقدارا كبيرا، فلا بد من إعطائه كاملا غير منقوص.
١ أورده السيوطي في الدر المنثور ج ٢، ص٤٣٧ وقال: اخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: كان اهل الجاهلية لا يورثون البنات، ولا الصغار الذكور حتى يدركوا..
﴿ وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ﴾ هذا النص الكريم ورد في الأقارب الذين لا ميراث لهم كما قال أكثر المفسرين، ولكن القارئ للنص يرى انه أوسع شمولا ؛ لأنه يشمل المساكين واليتامى بإطلاق، وإن لم يكونوا أولى قربى، والمساكين هم الفقراء الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم، وليس المراد من حضورهم أن يكونوا مشاهدين للقسمة ؛ لأن قسمة الموال لا تكون عادة في حضرة هؤلاء الضعفاء، وإنما المراد العلم بهم من مقسمي التركة علم حضور ومعاينة، ومعنى الرزق إعطاؤهم مالا ينفقون منه، ويسدون منه حاجاتهم بحيث لا يكونون أثرياء. والمر في قوله تعالى :﴿ فارزقوهم ﴾. قال بعض التابعين : إنه للندب، فعلى الورثة أن يرضخوا١ مقدارا من المال ندبا، وحجة هؤلاء في أن الطلب للندب انه غير مقدر، والفرض الذي يكون لازما من المال لا بد ان يكون مقدرا، وقد كان الصحابة يفعلون ذلك، حتى غنه يروى ان عبد الله بن عبد الرحمن بن ابي بكر قسم ميراث أبيه، وأم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – على قيد الحياة، فلم يدع في الدار أحدا إلا اعطاه.
وقال بعض التابعين : عن ذلك واجب، وهو للقرابة الفقيرة واليتامى والمساكين في التركات، فهو ثابت كثبوت حق الورثة، ولا يزيد احدهما على الآخر، وعدم التقدير فيه ليس إجمالا، بل ترك الأمر فيه إلى الورثة، وغلى القاضي الذي يقوم على تنفيذ التركات، وقد ادعى بعض التابعين نسخ الوجوب في الآية فرد قوله سعيد بن جبير، فقال :" إن ناسا يقولون نسخت، والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون به الناس".
وإن الذين قرروا ان الأمر للوجوب قصروا العطاء على ( النقود ) وما يشبهها كالقمح ونحوه دون العقار، وقد روى ان الحسن والنخعي قالا :[ أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات واليتامى والمساكين من العين( أي الذهب والفضة ) فإذا قسم الذهب والفضة وصارت القسمة إلى الأرضين والرقيق – قالوا لهم قولا معروفا ].
وقد قرر من الفقهاء وجوب العطاء – الظاهرية، فقالوا يجب إعطاء هؤلاء من التركة مقدارا يتناسب مع حال الورثة وحال هؤلاء ومقدار التركة، ويقدره القضاء.
والقول المعروف مطلوب : وهو القول الذي لا يخدش الكرامة، وليس فيه منة العطاء، وقد فيه الزمخشري( وان يلطفوا لهم القول، ويقولوا خذوا بارك الله عليكم، ويعتذروا إليهم، ويستقلوا ما أعطوهم، ولا يستكثروه ولا يمنوا عليهم ).
١ رضخ له من ماله يرضخ رضخا: اعطاه. الرضخ: العطية القليلة.[لسان العرب – رضخ]..
﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ﴾ واضح ان هذا النص وارد في اليتامى، ويحتمل ان يكون المراد الحث على إعطاء اليتامى غير الوارثين مقدارا يعين على إصلاحهم، ويكون تخصيصهم بالذكر للحث على إكرام اليتيم، وذلك سنن القرآن الكريم دائما، ويحتمل وهو الراجح ان يكون الكلام في شأن نصيب اليتامى في التركات، ويكون المخاطبون غير المخاطبين فيما مضى أو هم، ولكن لعمل آخر وهو المحافظة على حق اليتيم في الميراث فلا يضيع، وقد حث سبحانه على المحافظة على حق اليتيم بأبلغ تعبير، فقال ما معناه : على الذين يتحكمون في مال اليتيم فيطففونه او تكون عندهم هذه النية ان يخافوا على أنفسهم، ويخشوا ان يكون لهم من بعدهم ذرية ضعاف أي أولادا لا حول لهم ولا طول، ويكونوا يتامى كهؤلاء الذين يتحكمون فيهم، وإذا كانوا كذلك فليتقوا الله في مال اليتيم ولا ينقصوه ولا يضيعوا له حقا ؛ فإن القصاص سيكون في أولادهم، وقد جعل الله تعالى من شعورهم بالحنان على ذرياتهم باعثا لهم على الحنان على أيتامهم، وخير الناس من يجعل من شعوره بالمحافظة على العزيز عنده شعورا مثله لمن يكونون في مثل امره.
وقد فسر بعضهم القول السديد هنا بما يقارن القول المعروف، ونحن نرى ان القول السديد هو القول المسدد نحو الحق المصيب للهدف، وذلك بأن يقول القول لا تطيبا لليتامى فقط، بل يقوله للمحافظة على حقوقهم، فإن رأى من المقتسمين رغبة في نقصهم سدد القول وقال الحق ومنع الظلم حتى لا يؤكل نصيب اليتيم في التركة، او يضيع حقه في أي تصرف من التصرفات.
﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ﴾ إن اليتامى مظنة ان يبخسوا في الميراث، فأكل مالهم هنا ظلما هو بخسهم حظهم في الميراث، او أكل الأوصياء أموالهم والأخذ من مال اليتيم سماه الله تعالى أكلا لما فيه من معنى الأخذ وان يقصد به تنمية ماله كما ينمي جسمه بالأكل، ولكنها تنمية آثمة مآلها البوار"ومن نبت لحمه من حرام فالنار أولى به"١ وقال سبحانه﴿ ظلما ﴾ لكمال التشنيع على الكل، إذ هم يظلمون ضعيفا لا يقوى على الانتصاف منهم، وقد ذكر سبحانه إثم ذلك الكل بقوله :﴿ إنما يأكلون في بطونهم ﴾ و هذا تصوير لضرر الأكل عليهم، لأنه يكون أكلهم كمن يأكل النار و يضعها في بطنه أي يملأ بطنه بها فهو في ألم دائم حتى يهلك، وكذلك دائما من يأكلون أموال اليتامى لا يأكلون اكلأ هنيئا ولا مريئا، بل هم في وسواس دائم حتى يقضى الله عليهم، وقد رأينا بيوتا خربت لأنها أكلت مال اليتيم. وهذا عقابهم في حاضرهم، اما العقاب الذي ينتظرهم في الآخرة فقال :﴿ وسيصلون سعيرا ﴾ أي ستوقد بهم نار شديدة الأوار، يستمرون في بلاء شديد منها. اللهم ارزقنا رزقا حسنا، وجنبنا ما حرمت، وأقنعنا بالحلال الطيب، إنك سميع الدعاء.
١ جاء في كشف الخفا(١٩٧٣):"كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به". رواه البيهقي وأبو نعيم عن أبي بكر، قال المناوي: وسنده ضعيف، والمشهور على الألسنة:"كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به"..
﴿ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن وكانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها او دين آباءكم وأبناءكم لا تذرون أيهم اقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما١١ * ولكم نصف ما ترك أزواجكم عن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها او دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها او دين وإن كان رجل يورث كلالة او امرأة وله أخ او أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصي بها او دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم١٢ تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم١٣ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين١٤ ﴾
قد بين الله سبحانه وتعالى الواجب بالنسبة لليتامى ورعاية حقوقهم، في الموال التي يرثونها، والأموال التي تئول إليهم. كما بين سبحانه حق الفقراء والمساكين وذوي القرابة الذين لا ميراث لهم عند تقسيم التركات. وفي هذه الآية يبين حقوق أكثر الوارثين، وهي تقسيم الله سبحانه وتعالى.
إن الميراث قد تولى القرآن بيان أكثر أحكامه، ولم يفصل أحكاما كما فصل أحكام الميراث، وقد قال صلى الله عليه وسلم :"العلم ثلاثة : آية محكمة، او سنة قائمة، او فريضة عادلة"١. وقد عده نصف العلم، وهذا العدد دليل على مقدار وجوب العناية به، فقد قال صلى الله عليه وسلم :"تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنه نصف العلم، وهو اول شيء ينسى، وأول شيء ينتزع من أمتي"٢.
والميراث هو وصية الله تعالى بتوزيع التركات على مستحقيها ؛ فإنه إذا كان للعبد وصايا في أمواله من بعد وفاته، فالميراث هو وصيته سبحانه وتعالى ووصية الله تعالى أولى بالإيجاب وأحق بالتنفيذ. ولكي تكون وصية الله تعالى لها مكانتها فإنه قد جعل لها الثلثين، ولوصية صاحب المال الثلث، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :"إن الله تعالى قد تصدق عليكم في آخر أعماركم بثلث أموالكم فضعوه حيث شئتم". وقد أراد بعض الصحابة ان يوصي بماله كله، فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد أن يوصي بالثلث فأجازه، وقال :" والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من ان تدعهم عالة يتكففون الناس"، او كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الآيات كما قلنا بيان حقوق طائفة من الوارثين، وهم الأولاد والآباء، والزواج وأولاد الأم، وقد مزج بين الآباء والأولاد في الحقوق ؛ لأن الأولاد لا يحجبون الآباء أي لا يمنعونهم من الميراث، ولذلك يعدون طبقة واحدة، وقد قال تعالى في ذلك :
﴿ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ﴾ هذا النص الكريم يبين ميراث الأولاد، وقد ذكر لهم ثلاث أحوال : الحال الأولى إذا كانوا ذكورا وإناثا فإن الميراث بينهم يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، والحظ هنا النصيب، والتعبير بالحظ إشارة إلى ان عطاء الأنثى، ولو كان نصف عطاء الرجل، قدر كبير لها فيه حظ، أي عطاء فيه كرم وسخاء ؛ لأن التكليفات المالية عليها دون التكليفات المالية على الرجل بقدر كبير يعد أكثر من النصف.
الحال الثانية : ان الأولاد إن كن نساء فقط، يكون نصيبهن الثلثين، والنص الكريم يقول :﴿ فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ﴾ يفيد بيان نصيب الأكثر من اثنتين، ولم يبين الأنثيين، ولكن يفهم من آية أخرى ان نصيب الثنتين هو الثلثان أيضا ؛ لن الله تعالى قال في توريث الإخوة والأخوات :
﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك وليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك... ١٧٦ ﴾ [ النساء ].
ففي الأخوات نص على ان نصيب الأختين الثلثان، وبالأولى يكون نصيب البنتين الثلثين ؛ لأن البنتين أقوى قرابة وأكثر اتصالا، وأجدر بالرعاية، فإذا كانت الأختان تأخذان الثلثين فأولى ان تأخذ البنتان الثلثين، فما حذف في آية البنات وجد ما يدل عليه في آية الأخوات. وكذلك حذف في آية الأخوات نصيب الأكثر من أختين، وصرح به في آية البنات، ففهم بطريق الأولى ان الأكثر من أختين تأخذان الثلثين ؛ لأنه إذا كان الأكثر من بنتين يأخذ الثلثين فقط، فأولى ان يأخذ الأكثر من أختين الثلثين. والمعنى انه حذف من آية البنات ما يفهم بالأولى من آية الأخوات، وحذف من آية الأخوات ما يفهم بالأولى من آية البنات، وذلك بلاغة الإيجاز، وهو من سر الأعجاز.
الحال الثالثة : ان يترك الشخص بنتا واحدة، وهي في هذه الحال تستحق النصف بصريح الآية :﴿ وإن كانت واحدة فلها النصف ﴾.
هذا توريث الولاد، ويلاحظ ما يأتي :
أولا : ان نصيب الأولاد إذا كانوا ذكورا وإناثا يكون بعد ان يأخذ الأبوان والأجداد والجدات واحد الزوجين أنصبتهم. فإذا كان للمتوفى أب وزوجة وأبناء وبنات، فإن القسمة للذكر مثل حظ الأنثيين تكون بعد اخذ الأب والزوجة نصيبهما.
ثانيا : ان الأولاد يطلقون على كل فروع الشخص من صلبه، أي أبناؤه وأبناء أبنائه، وبنات أبنائه. اما بنات بناته، فإنهم لا يكن من أولاده. وقد خالف في ذلك الشيعة فلم يفرقوا في نسبة الأولاد بين من يكون من أولاد الظهور ومن يكون من أولاد البطون، أي لا يفرقون بين من تتوسط بينه وبين المتوفى أنثى ومن لا تتوسط.
ثالثها : ان أبناء الشخص وبناته يقدمن على أبناء أبنائه وبنات ابنه، أي ان الطبقة الأولى تمنع من يليها.
رابها : إن بنات الابن يأخذن حكم البنات تماما إذا لم يكن للشخص أولادا قط، لا ذكورا ولا إناثا، بل إن جمهور الفقهاء يجعل لبنات الابن السدس، وإذا كان للمتوفى بنت واحدة تأخذ النصف، وذلك لحديث ابن مسعود الذي سئل فيه عن رجل توفى عن بنته وبنت ابن ابنه وأخته... فأعطى البنت النصف، وبنت الابن السدس، والأخت الباقي، وقال : ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم٣.
﴿ ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس ﴾ هذا ميراث الأبوين، وقد ذكر القرآن الكريم حالا يشترك فيها الأب والأم، وهي ان يأخذ كل واحد منهما السدس إذا كان للمتوفى ولد. والمراد من الولد الفرع الذي لا يتوسط بينه وبين المتوفى أنثى، وذلك عند الجمهور، وعند الشيعة الإمامية : كل من يتصل إلى الميت من الفروع بطريق الإناث او الذكور فهو ولد.
و الأب قد يأخذ مع السدس باقي التركة إذا كان للمتوفى فروع من الإناث فقط، فإنه عند الجمهور يأخذ السدس مع الباقي، والباقي ثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم "ما بقي بعد أصحاب الفروض فلأقرب رجل ذكر"٤ فبهذا الحديث يأخذ الباقي، وبنص الآية يأخذ السدس.
وحالا ثانية ذكرها للأم صراحة، وللأب ضمنا، فقال سبحانه :﴿ فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ﴾ فإن هذا النص يفيد أمرين : أحدهما – أن الميراث للأبوين إن لم يكن أولاد، وثانيهما – أنه يكون للأم الثلث، ومادام الميراث منحصرا في الأبوين ؛ فإنه يكون للأم الثلث والباقي للأب.
وإذا كان معهما زوج أو زوجة، فهل الآية تفيد الحكم ؟ ونقول إنها لا تفيده صراحة، بل تفيده ضمنا، وذلك انها قررت انه في حال انحصار الإرث في الأبوين يكون نصيب الأم الثلث، ونصيب الأب الثلثين فهذه الآية قد حددت النسبة، أي أن نصيب الأم يكون على النصف من نصيب الأب، وبتطبيق ذلك على حال وجود أحد الزوجين، فإن أحدهما يأخذ فرضه وتأخذ الأم ثلث الباقي، ويأخذ الأب ثلثيه، وهذا رأي ابن مسعود وزيد، وعلى، على أرجح الروايتين عنه، وعمر وعثمان، وهو الذي اختاره الأئمة الأربعة وأكثر فقهاء الأمصار.
وهناك رأيان آخران : أحدهما- أنها تأخذ ثلث التركة كلها، وقد أخذ هذا القول من صريح الآية، وهو يؤدي إلى ألا يكون نصيب الأم، كأن يكون زوج وأم و أب، فإن الزوج يأخذ النصف والأم تأخذ الثلث، والأب يأخذ الباقي وهو السدس، أي أن الأب يأخذ نصف نصيب الأم، وهذا الرأي رأي الإمامية، وفيه شذوذ كما ترى، وقد نسب إلى ابن عباس، وقيل إنه روى عن علي ومعاذ بن جبل. والثاني – أنها تأخذ ثلث الكل في حال ما إذا كانت زوجة وأب وأم، وتأخذ ثلث الباقي إذا كانت المسألة فيها زوج بدل الزوجة، وذلك لا يأخذ الأب أقل من الأم. وأسلم الآراء أولها، وهو أوضحها وأعدلها.
وحالا ثالثة بالنسبة للأم أنها تأخذ السدس إذا كان هناك إخوة أو أخوات زادوا على واحد، فإنها تأخذ السدس، وهذه الحال خاصة بالأم ؛ لأن الأب لا يؤثر في نصيبه على الإخوة والأخوات، بل إنهم لا يرثون معه.
هذا ميراث الأولاد والأبوين، وقد بين – سبحانه وتعالى – حكمة ذلك وأكد تقسيمه بقوله سبحانه :
﴿ آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ﴾ يبين الله أن هذه قسمته، ولا يصح أن تحكموا أهواءكم في أموالكم بعد وفاتكم، فإنكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا، آباؤكم أو أبناؤكم ؛ لأنه عند حكم الهوى يفقد العقل تقديره ميزانه فلا يدري أين يكون النفع، وقد صدر الآية بذكر الآباء والأبناء لقوة قرابتهم واتحاد اتصالهم، ومع ذلك لا يعلمون النافع منهم. وقد أكد الله معنى هذا التقسيم بتأكيدين : أحدهما – قوله سبحانه﴿ فريضة من الله ﴾ أي فرض الله ذلك فريضة وقدره تقديرا فلا يجوز خلافه، لأنه تقدير الله وقسمته، وليس لأحد أن يخالف قسمة الله جلت قدرته – التأكيد الثاني : قوله سبحانه :﴿ إن الله كان عليما حكيما ﴾. فإن الله تعالى ذيل النص الكريم بهذه الآية تأكيدا للنفع في هذا التقسيم ؛ لأن الله الذي قسم القسمة العادلة، وهو كان دائما عليما حكيما، يعلم كل شيء ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، وهو يدبر الأمر على مقتضى هذا العلم، وبحكمته سبحانه، وهو العزيز الحكيم.
١ عن عبد الله بن عمرو بن العاص ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"العلم ثلاثة: وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة او سنة قائمة او فريضة عادلة".[رواه أبو داود: الفرائض – ما جاء في تعليم الفرائض (٢٨٨٥)، وابن ماجة: المقدمة – اجتناب الرأي والقياس(٥٤)] وفي إسناده مقال..
٢ رواه ابن ماجة: الفرائض – الحث على تعليم الفرائض (٢٧١٩)..
٣ روى البخاري: الفرائض – ميراث ابنة الابن(٦٧٣٦) عن هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى عن بنت وابنة وأخت فقال للبنت النصف وللأخت النصف، وأت ابن مسعود فسيتابعني فسئل ابن مسعود واخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذا وما انا من المهتدين؛ أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم:" للابنة النصف، ولابنة ابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت فأتينا ابا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني مادام هذا الحبر فيكم"..
٤ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر"[رواه البخاري: الفرائض – ميراث الرجل من أبيه وأمه (٦٧٣٢)، ومسلم: الفرائض – ألحقوا الفرائض (١٦١٥)]..
﴿ ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن ﴾ هذا بيان أحوال ميراث الزوج، فإنه يكون له النصف إن لم يكن للمتوفاة ولد، والمراد من الولد أولاد الظهور أي الفروع الذين لا يتوسط بينهم وبين المتوفاة أنثى، خلافا للشيعة، وإن كان للمتوفاة ولد فإن الزوج يكون له الربع.
﴿ ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم ﴾ وهذا بيان ميراث الزوجة تأخذ الربع إذا لم يكن للمتوفى ولد، وقد بينا معنى الولد، وتأخذ الثمن إن كان للمتوفى ولد. ونرى من هذا أن الزوجة على النصف في التقدير من الزوج، وهو قاعدة عامة في قسمة الميراث بالنسبة للرجل والمرأة، ولم يستثن إلا الإخوة لأم.
﴿ وإن كان الرجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ﴾ هذا النص في ميراث الإخوة والأخوات لأم، وقد عبر عنهم بالكلالة، والكلالة هم القرابة من غير الأصول والفروع، وقد قيل إن الملالة مشتقة من الإكليل، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه، وقرابة الكلالة وهي غير الأصول والفروع تحيط بالشخص من جوانبه، وليست في أصله ولا فرعه، ومعنى﴿ يورث كلالة ﴾ أي يورث من غير أصوله أو فروعه، والميراث بالكلالة ذكر في موضعين : أحدهما هذا الموضع، والثاني قوله تعالى في آخر هذه السورة :﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك... ١٧٦ ﴾[ النساء ].
وقد اجمع الصحابة على ان المراد من الإخوة والأخوات هنا الإخوة لأم والأخوات لأم، كما أجمعوا على ان المراد بالإخوة في آخر السورة الأشقاء ثم لأب. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة في هذه الآية فذكر انها أولاد الأم، وبهذا يتبين أن هذا النص الكريم فيه أحوال ميراث الإخوة والأخوات لأم، وقد ذكر لهم حالين : إحداهما – أن يأخذ الواحد او الواحدة السدس، والثانية ان يأخذ الأكثر من واحدة او واحد الثلث يشتركون فيه بالسوية بلا فرق بين الذكر والأنثى ؛ لأن الله تعالى يقول :﴿ فهم شركاء في الثلث ﴾ والشركة الأصل فيها التسوية حتى يذكر النص الدال على التفاوت، ولم يوجد في النص ما يدل على التفاوت. وهناك حال فهمت من التعبير بالكلالة، وهي ان هؤلاء لا يرثون إلا إذا لم يكن فروع ولا أصول.
هذا، ومرتبة في التقسيم بعد سداد الديون، وبعد تنفيذ الوصايا، فالتركة لا تقسم إلا بعد سداد الديون، ولا تميز أنصبة كل وارث إلا بعد تنفيذ الوصايا التي لا تتجاوز الثلث. فنصيب الورثة دائما لا يكون إلا في الباقي بعد الوصايا، و لذا قال سبحانه في كل قسمة إنها بعد تنفيذ الوصية و الدين، فقال بعد ميراث الأبوين والأولاد :﴿ من بعد وصية يوصي بها ﴾، وقال بعد ميراث الزوج :﴿ من بعد وصية يوصين بها ﴾ وقال بعد ميراث الزوجة :﴿ من بعد وصية توصون بها او دين ﴾.
وهنا أمران تجب الإشارة إليهما :
أولهما : انه كرر في كل حال حق الدائنين والموصى لهم، تبرئة لذمة المتوفى وتأكيدا لحقهم. وهو دليل على ان حق الدائنين والوصايا هو حق للميت نفسه، فهو أولى من غيره. وقدم الوصايا في الذكر، مع انها مؤخرة عن الدين في السداد، وذلك للتشديد في تنفيذها ؛ لأنها مظنة الإهمال او مظنة الإخفاء، فكان من الأسلوب الحكيم العناية بتنفيذها، وكان من العناية تقديمها في الذكر.
الأمر الثاني : أنه ذكر عند ميراث أولاد الم التحريض على الأداء، فقال تعالى :﴿ غير مضار وصية من الله ﴾ فكان التحريض مرتين، مرة بمنع المضارة، ومرة أخرى بتأكيد أن هذه وصية الله، فمن خالفها فقد تمرد على وصية الله العليم الحليم الذي يعلم كل شيء وإن لم ينزل العقاب فور الجريمة. وكان ذلك في أولاد الأم ؛ لن حقوقهم مظنة الضياع والإهمال، ولا يزال الناس إلى الآن يكادون يهملون نصيب أولاد الم، وإذا ذكروا به، كان ذلك بمنزلة التذكير بأمر غريب، فكان التأكيد لهذا.
وقد كانت أحكام المواريث مظنة التلاعب في الماضي، ولا تزال حقوق النساء فيها موضع التلاعب إلى اليوم، ولذلك أكد الله سبحانه حق الميراث بقوله :﴿ تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ﴾ أي أن الميراث حد رسمه الله تعالى، فمن أطاع الله تعالى فقد فاز فوزا عظيما. وإن ذكر الجنات في هذا المقام له موضعه ؛ لأن هذا الذي يترك التوزيع لله تعالى، ويتغلب على هوى نفسه فيمن يحب او يكره يجزيه الله تعالى جنات تجري من تحتها النهار، وهذا الجزاء هو الفوز العظيم ؛ لأن فيه النجاة وفيه النعيم، فمن فعله فقد نال الحسنيين، فإذا كان قد تغلب على منازع الدنيا، فقد نال نعيم الآخرة، ومن ينظر إلى مآل ماله عليه ان ينظر قبل كل شيء إلى مآل شخصه.
﴿ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ﴾
هذا جزاء من يخالف حكم الله وخصوصا في الميراث، فهو عاص لله سبحانه، وقد تعدى ما رسمه الله من حدود في ماله. وإن جزاءه ان يدخل النار ويخلد فيها، وله عذاب مهين أبلغ إهانة في الآخرة، فهو قد باع آخرته بدنيا غيره، وإذا كان أراد السعادة الدنيوية لغيره بهذا المال فقد نال الشقاء الأخروي بعمله، وإذا كان قد أراد إعزاز بعض من يحب فقد أهان نفسه، والله هو الذي يبين الحق، ويهدي إلى الرشد، كما قال تعالى :﴿ يبين الله لكم ان تضلوا والله بكل شيء عليم ﴾.
﴿ والتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت او يجعل الله لهن سبيلا١٥ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما١٦ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما١٧ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر احدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما١٨ ﴾
ابتدأت سورة النساء ببيان العلاقة الإنسانية التي تربط الناس بعضهم ببعض، وتثبت ان الناس جميعا امة واحدة بحكم الخلق والتكوين، وكان ذلك هو الذي ينبغي، ولكنهم اختلفوا من بعد. وبعد الإشارة إلى هذا المعنى الإنساني الجامع، بين – سبحانه – حق الضعفاء على المجموع، ثم اخذ يبين سبحانه حقهم في الأسرة، ووجوب رعايتهم.
وفي هذه الآيات التي نتلوها، يتجه النص الكريم على إقامة دعائم الأسرة، التي هي خلية التكوين الإنساني، وخلية البناء الاجتماعي، والمهد الذي يتربى فيه.
النوع تربية يكون بها الإلف والائتلاف مع المجتمع الذي ينشأ فيه. وقد ابتدأ بإبعاد ما من شانه إفساد بناء الأسرة، وهو الفاحشة، فغن مثل من يبنى الأسرة كمثل من يبني قصرا مشيدا، ينقى اولا مواد البناء من العناصر التي لا تجعله قويا متماسكا، او تكون مواد تنقص بناءه، ولذا قال سبحانه وتعالى :
﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ﴾ فحش معناها زاد، وأطلق على الزيادة التي لا تسر، وأطلق على القبيح من الأفعال ؛ لأنه انحراف عن الفطرة. وقد جاء في مفردات الراغب :" إن الله لا يأمر بالفحشاء٢٨ }[ الأعراف ].
﴿ وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي٩٠ ﴾[ النحل ]. ﴿ من يأت منكن بفاحشة مبينة٣٠ ﴾[ الأحزاب ] ﴿ إنما حرم ربي الفواحش٣٣ ﴾ [ الأعراف ] ﴿ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة١٩ ﴾[ النساء ] كناية عن الزنا، وكذلك قوله تعالى :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم١٥ ﴾.
فالفاحشة هنا هي الزنا، والله سبحانه وتعالى يعبر عن هذه المعاني التي لا تألفها النفس الكريمة بعبارات تسترها، فتكون الكناية بدل التصريح، وذلك من تأديب الله لنا في التعبير.
وقد ذكر سبحانه وتعالى علاج النساء اللائي وقعن في ذلك الأمر المنكر، وقد سماه بهذا الاسم كما سماه بأنه"إد"١، فكان علاجهن بأمرين احدهما –يختص بهن، والثاني – يشتركن مع الرجال فيه، فأما الذي يختص بهن فهو إمساكهن في البيوت، وليس الإمساك معناه الحبس والتضييق المجرد، بل الإمساك معناه الحفظ والصيانة والرعاية، ويتضمن ذلك معنى الإرشاد والتوجيه والوعظ، ولذا قال الراغب : إمساك الشيء التعلق به وحفظه، قال تعالى :﴿ فإمساك بمعروف او تسريح بإحسان... ٢٢٩ ﴾[ البقرة ] وقال :﴿ ويمسك السماء ان تقع على الأرض... ٦٥ ﴾[ الحج ] أي يحفظها. فمعنى الإمساك في البيوت الحفظ فيها والرعاية والتهذيب بعطف ؛ وذلك لن المرأة تزل إذا فقدت التهذيب، وحرمت من الصيانة فتنطلق غير مقيدة. إذا لم يكن لها هاد مرشد وإذا كان ذلك سبب الزلل، فعلاج الانحراف بالإمساك في البيوت مع الحفظ والرعاية. ويستمر الإمساك حتى الوفاة، او حتى الزواج، كما قال :﴿ فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت او يجعل الله لهن سبيلا ﴾، أي طريقا واضحا لمنع الزلل والابتعاد عنه، وذلك بتحصين نفسها بالزواج.
والرمي بالزنا أفحش ما ترمي به المراة والرجل، وكثيرات من النساء يكن فريسة لشائعات كاذبة، ولذلك شدد الله تعالى في إثبات الزنا أبلغ ما يكون التشديد، فقرر ان يكون بشهادة أربعة من الرجال بحيث لا تقبل في ذلك شهادة النساء، وقرر ان تكون الشهادة بالمعاينة لا بالسماع، ولذا قال :﴿ فإن شهدوا ﴾ أي إن ذكروا انهم عاينوا وشهدوا﴿ فأمسكوهن في البيوت ﴾ ؛ ولحماية الشارع لعرض المرأة من ان يكون مضغة في الأفواه – قرر عقوبة شديدة لمن يرمي النساء والرجال من غير ان يكون أربعة يشهدون، فقال تعالى :﴿ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون٤ ﴾ [ النور ].
١ أي سمى الله تعالى المر المنكر بالفاحشة، كم سماه(أي المر المنكر بالإد) قال الرازي في تفسيره سورة النساء (١٥):" قوله:﴿يأتين الفاحشة﴾ أي يفعلنها يقال: أتيت امرا قبيحا، أي فعلته قال تعالى:﴿لقد جئت شيئا فريا﴾(مريم: ٢٧) وقال:﴿لقد جئتم شيئا إدا﴾ (مريم: ٨٩)".
وفي لسان العرب(أدد) الإد هو العجب والمر الفظيع العظيم والداهية.
.

هذا هو العلاج الوقائي الذي خص القرآن به المراة، حتى لا تستمر في غيها، وذلك هو طريق الإثبات، اما العلاج الذي الرجل والمرأة، فهو ما جاء في قوله تعالى :﴿ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ﴾.
هذا حكم الذكر والأنثى إذا أتيا تلك الفاحشة، وهي الأمر الإد، وهي المنكر الذي تنكره العقول. والعلاج في هذه الحال ليس علاجا نفسيا لهما فقط، بل هو زجر اجتماعي ليرتدع غيرهما، وهذا العلاج هو العقوبة الشديدة المؤذية في البدن وفي النفس، وكانت هذه علاجا نفسيا ؛ لن النفس المنحرفة لا تقوم إلا بشدة كالعود المعوج لا يقوم إلا بعمل شديد ليس بسهل، ولكن يلاحظ ألا ينكسر العود، وألا تنكسر النفس وتهون، ولذا كان العلاج بالإمساك والحفظ والرعاية.
ولقد ذكرت العقوبة هنا مجملة غير واضحة المقدار، بل كانت مجرد الإيذاء، وذكرت بعد ذلك مفصلة بينة المقدار في قوله تعالى :﴿ الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بها رأفة في دين الله عن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين٢ الزاني لا ينكح إلا زانية او مشركة والزانية لا تنكح إلا زان او مشرك وحرم ذلك على المؤمنين٣ ﴾[ النور ].
ففي هذا النص عقوبتان مؤدبتان : إحداهما الجلد، والثانية منع الزواج من الزاني والزانية، وذلك ليحملهما على التوبة. وقد يقول قائل : إن الله تعالى ذكر علاجا تهذيبيا للمرأة، وهو الإمساك والرعاية في البيت، ولم يذكر علاجا تهذيبيا للرجل. نقول غنه ذكر له علاج تهذيبي، وهو منع الزواج منه كالمرأة، وذكر علاج له في السنة وهو التغريب سنة١ ؛ لأن التغريب سنة يبعده عن الجو الذي عاش فيه آثما وأعلن فيه إثمه، وغنه في ذلك سيكون تحت رقابة الحاكم ورعايته، فهذا التغريب يقابل الإمساك في البيوت. ولم يعاقب الرجل بالجبس ؛ لأن الرجل مطلوب منه الكدح والعمل لنفقته ونفقة من يعوله، فكان التهذيب مدة معلومة انسب له، والإمساك في البيوت أليق بالمرأة.
وإذا تكررت الجريمة تكرر العقاب، إلى ان تكون التوبة والإقلاع عن ذلك المنكر، ولذا قال تعالى :
﴿ فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما عن الله كان توابا رحيما ﴾ عالج الإسلام نفس المذنب ليتوب، ودعا إلى التوبة دعوة صريحة بفتح باب المغفرة. وفي هذه الجريمة التي تعد من اكبر الكبائر، كما انه قد عالج نفس المذنب، بالإمساك في البيوت للحفظ والرعاية والصيانة، وبالتغريب بالنسبة للرجل ليسترد كرامته التي هانت بالجريمة والعقوبة المعلنة، وبمنع الزواج من الزاني والزانية حتى تكون التوبة. فإذا تم العلاج، وفي المذنب من الداء، وكانت التوبة الصحيحة، وكان من الواجب الإعراض عنهما وعدم تذكيرهما بالجريمة، فالإعراض هنا ليس معناه الصدود والاستنكار بل معناه ألا يذكرا بجريمتهما، وان يعاملا معاملة الأطهار الأبرار وان يكون لهما كل تقدير واعتبار، فإن الإصرار على وصف الجريمة يجعل النفس تهون، وإذا هانت سهل عليها الهوان، وأغراها الشيطان بالمعاودة. ويروى ان النبي صلى الله عليه وسلم عاقب شاربا للخمر بعقوبة الشرب، وبعد تمامها قال له بعض الحاضرين :﴿ أخزاك الله"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"لا تعينوا عليه الشيطان"٢ ؛ لن الخزي يشعر النفس بالصغار، ومع الصغار يسهل الإجرام. وقد ذكر سبحانه وتعالى مع التوبة الإصلاح، فقال :{ فإن تابا وأصلحا ﴾، والإصلاح هو إصلاح النفس، وصلاح العمل، وذلك دليل التوبة الصادقة، وقد قرن الله تعالى التوبة دائما بالعمل الصالح، مما يدل على ان العمل دليل الإقلاع ؛ لن النفس إذا انحرفت، وأحاطت بها الخطيئة، لا يكون الخروج من دائرتها بالقول فقط، بل بالقول والنية والعمل وإن الله تعالى حينئذ يقبل التوبة، ولذا ذيل الله تعالى بقوله تعالى :﴿ إن الله كان توابا رحيما ﴾ أي ان الله تعالى يقبل التوبة عن عباده دائما. وقد أكد ذلك ب "إن"، وب "كان" التي تدل على الدوام، وبصيغة المبالغة"توابا" وأشار سبحانه إلى ان ذلك من رحمته التي وسعت كل شيء، ولقد سبقت رحمته عذابه، وإن الله تعالى ليفرح بتوبة العبد أكثر من فرح العبد بإقلاعه عن ذنبه.
١ عن زيد بن خالد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه امر فيمن زنى ولم يحصن بجلد مائة وتغريب عام. [رواه البخاري: الشهادات – شهادة القاذف والسارق والزاني (٢٦٤٩)]..
٢ عن ابي هريرة رضي الله عنه أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب قال:"اضربوه" قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله قال صلى الله عليه وسلم:"لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان".[رواه البخاري: الحدود –الضرب بالجريد والنعال(٦٧٧٧)، كما رواه أبو داود واحمد]..
﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ التوبة هي الرجوع إلى الله تعالى وعلى أوامر دينه بعد الانحراف عنها، ويعرف الأصفهاني التوبة في الشرع بأنها ترك الذنب لقبحه تداركه من الأعمال بالإعادة، والتوبة على هذا النحو أعلى درجات الاعتذار، وذلك ان الاعتذار على أنواع ثلاثة، احدها : وهو أدناها إنكار الوقوع، وهذا لا يتأتى بالنسبة للعلام خبير الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض، وثانيها : تبرير الفعل، وذلك أيضا لا يمكن ان يكون امام الله تعالى، وثالثها : وهو أعلاها الاعتراف بالوقوع وبأنه لا مبرر له، وانه يرجو الصفح والغفران، وانه مقلع عما ارتكب، وذلك هو التوبة.
والتوبة إذا كانت قريبة من وقوع الذنب فقد وعدنا الله تعالى، ووعده الصدق الحق، بأن الله تعالى يقبلها. وتفضل الله سبحانه وتعالى تأكيدا للوعد، وحثا على التوبة، فعبر سبحانه بأن الغفران حق عليه، ولذا عبر سبحانه بلفظ "على" فقال :﴿ إنما التوبة على الله ﴾ أي ان قبول التوبة حق على الله تعالى، وذلك أبلغ درجات الصفح والغفران، سبحانك إنك التواب الرحيم، غفار للذنوب.
وعبر سبحانه وتعالى ب" إنما" الدالة على الحصر، أي لا يكون قبول التوبة حقا على الله تعالى إلا بتحقق شروط ثلاثة : أولها : ان يكون ذنبه ليس كثيرا ولم يحط بنفسه و قلبه، و لذلك قال تعالى :﴿ يعملون السوء ﴾ أي يقع منهم ما يسئ من غير ان تركس نفسه في السيئات وتحيط بها. وثانيها : ان يكون الفعل ﴿ بجهالة ﴾ أي أنه وقع في حال غفوة الضمير و الضعف النفسي، و من غير إدراك للعواقب، ولا قصد للنتائج، وقد قال السلف : إن كل ذنب على هذا النحو يكون بجهالة. وثالثها : انهم﴿ يتوبون من قريب ﴾، بحيث لا يسترسل في الشر استرسالا، ويستمرئه ويكرره ويستمر عليه، وهؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة او ظلموا انفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون١٣٥ ﴾[ آل عمران ].
وذلك لن من يفعل الذنب على ذلك النحو لا يستغرق قلبه، وقد ورد في الأثر" إن المذنب إذا أذنب نكتت نكتة سوداء في قلبه، ثم تتوالى النكت السوداء حتى يربد قلبه"، ومن يعمل السوء بجهالة ثم يتوب من قريب ليس كذلك، وقد أكد الله قبول التوبة فقال :﴿ فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ﴾.
أي هؤلاء الذين ارتكبوا عن جهالة بعض الذنوب، ولم تربد قلوبهم بتكرار الذنوب وتعددها واستمرائها والاستمرار عليها، يتوب الله عليهم أي يقبل توبتهم، ويأخذ بأيديهم إلى الهداية ويطهر نفوسهم من أرجاس الذنوب، وهذا ما تضمنه النص السامي﴿ يتوب الله ﴾ أي يسبغ التوبة عليهم، وهي تتضمن معنى الاهتداء والاتجاه إليه سبحانه، وإسباغ التوبة عليهم هو إلقاء الطهر عليهم فتتطهر نفوسهم، وقد بين سبحانه ان ذلك مقتضى علمه وحكمته، فقال :﴿ وكان الله عليما حكيما ﴾ أي أن الله تعالى يعلم النفوس وحركاتها وخلجاتها وسكناتها وميولها وانحرافاتها، ويعلم ما يطهرها، وما يركسها، وما يهديها وما يغويها، وهو بحكمته يعالج أدواءها. وقبول التوبة أبلغ علاج، والصفح في أكثر أحواله دواء للأسقام التي تعرض للنفوس، ولم تستقر فيها استقرارا.
﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيئات ﴾ بعد ان بين سبحانه الذين أخذ العهد ان يقبل توبتهم، وهم الذين قد كانت حالهم ما ذكره سبحانه، بين حال الذين لا تقبل توبتهم، فقال تعالت كلماته :﴿ وليست التوبة ﴾ هنا نفي لوقوع التوبة ؛ لن حقيقة التوبة كما بينا تقتضي ان يكون العبد في فسحة من الوقت تمكنه من معاودة الخير، فمن يقول عند حضور الموت :﴿ إني تبت الآن ﴾ ليس بتائب. وإذا لم تتحقق منه التوبة فإنه لا يستحق من الله تعالى القبول ؛ إذ لا موضوع له.
ومن هم أولئك الذين لا توجد منهم التوبة، حتى لا يتصور قبولها ؟ ذكر الله فريقين : فريق العصاة من المسلمين، وفريق الذين يموتون وهم كفار، اما فريق العصاة من المسلمين فقد ذكر لهم وصفين او أمرين : احدهما – انهم يعملون السيئات، أي تتعدد أنواع السوء، وتكثر وتشيع في النفوس، حتى يربد القلب بها ويسود، وهم الذين قال الله تعالى في أمثالهم :﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك اصحاب النار هم فيها خالدون٨١ ﴾[ البقرة ] فالفرق بين هؤلاء ومن سبقوا ان الأولين ارتكبوا في غفوة من الضمير، ولم يمت. وأما هؤلاء فقد مات وجدانهم الديني، كأولئك الذين نراهم سادرين في الفساد وقد استهانوا بكل المحرمات الدينية والتكليفات الربانية. والوصف الثاني انهم لا ينطقون بالتوبة في وقت الاختيار، بل ينطقون بها في وقت الاضطرار ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ حتى إذا حضر احدهم الموت قال إني تبت الآن ﴾.
أي انهم يستمرون في غيهم يعمهون، لا يستيقظ لهم ضمير، ولا يقلعون عن معصية، حتى إذا أزفت الآزفة، وحضر الموت، ولم يكن مناص من أخذهم، قال قائلهم : إني تبت الآن، ولم يقل سبحانه عن حالهم غنهم تابوا، بل حكى قول أحد :﴿ إني تبت الآن ﴾ مما يدل على انهم لم تقع منه توبة قط، وقوله لا يعد توبة في حقيقته، وإنما سماه هو توبة.
وقد ذكر سبحانه من عصاة المسلمين فريقين :
أحدهما : الفريق الذي يتوب من قريب وقد ارتكب السوء بجهالة، وقد وعد سبحانه بأنه يقبل التوبة منه، وتفضل سبحانه فجعل القبول حقا عليه، وهو فوق عباده.
والفريق الثاني : أولئك الذين استمروا في غيهم حتى أدركهم الموت. وبقى ثالث لم يذكره سبحانه، وهو الذي لم يتب من قريب، ولكنه تاب قبل ان يحضره الموت، فما شان هذا الفريق الثالث ؟ قال مفسرو السلف إنه يعد قد تاب من قريب، وإن تأخر في الزمان بالنسبة لأجله، مادام قد تاب قبل ان يحضره الموت، وكان في فسحة من الوقت، وقد رووا في ذلك آثارا عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها ما روى عن عبد الله بن عمرو ان النبي صلى الله عليه وسلم قال :"ما من عبد يتوب قبل الموت بشهر إلا قبل الله منه"١. فمقياس القرب هو الا تكون التوبة وقت حضور الموت، ووقته علمه بأنها دنت، اما إذا كانت التوبة وهو صحيح يرجو الحياة، فإنها مقبولة، واجل الإنسان كله قريب. وقد بين سبحانه بعد ذلك الذين لا تقبل توبتهم من غير المسلمين فقال :﴿ ولا الذين يموتون وهم كفار ﴾.
أي ان الله تعالى لا يعتبر توبة الكفار عن ذنوبهم توبة لنهم لن يؤمنوا، فأساس الطاعات الإيمان. وإن تابوا قبل ان يموتوا وهم في فسحة من الوقت، فإن توبتهم غير مقبولة، وإنما تكون مقبولة إذا آمنوا ولم تكن من قبيل قول فرعون عند الغرق :﴿... آمنت انه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين٩٠ ﴾[ يونس ].
﴿ أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ أي أولئك الذين لم يتوبوا، هيأنا لهم عذابا مؤلما وجيعا، وهذا يشمل عصاة المؤمنين، والذين ماتوا وهم كفار، غير ان الكفار خالدون في النار، وأما عصاة المؤمنين فبمقدار ذنوبهم.. اللهم نجنا من عذاب النار واقبل توبتنا، ﴿ ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك... ٧ ﴾[ غافر ].
١ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: من تاب قبل موته تيب عليه ومن تاب قبل موته بشهر تيب عليه حتى قال: يوما حتى قال: ساعة حتى قال: فواقا. قال: قال الرجل: أرأيت إن كان مشركا أسلم؟ قال: إنما أحدثكم كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.[رواه احمد: مسند المكثرين(٦٨٨١)]..
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم ان ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا ان يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى ان تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا١٩ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا٢٠ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا٢١ ﴾
الكلام في الأسرة، وإن حماية الأسرة تكون بحماية ضعفائها، ومن لا يستطيع الذود عن نفسه، ولذلك تكلم القرآن الكريم في شان اليتامى، ثم في شان النساء. وقد تكلم سبحانه في الميراث ظالم، كان من عادات بعض اهل الجاهلية، لم يكن موضوع الميراث فيه مالا، ولا حقا يقبل التوريث، بل كان موضوع الميراث في زعمهم حق امرأة المتوفى في نفسها، فقد زعموا ان من يموت زوجها، لا تكون مالكة لمر نفسها بموته بل يكون امر زواجها بيد أوليائه الذين يرثون ماله، فإنهم يرثون مع ماله الولاية على زوجه، فلا تتزوج إلا بإذنهم او تزويجهم، ولذا قال سبحانه :﴿ ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم ان ترثوا النساء كرها ﴾.
صدر النص السامي بالنداء للذين آمنوا، للإشارة إلى ان ذلك لا يتفق مع الإيمان، بل إنه من مظالم الجاهلية. وإذا كان مثله يصدر عن اهل الشرك، فإنه لا يسوغ مع الإيمان، ولا يليق ان يصدر عن المؤمنين ؛ لأن حقوق الأشخاص لا تورث، وليست المراة ولا حق زواجها متاعا يقبل التوريث.
ولقد روى الزهري انه كان من عادات اهل الجاهلية انه إذا مات الرجل يلقى ابنه من غيرها او اقرب عصبته على المراة، فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها، فغن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره واخذ صداقها، ولم يعطها شيئا، وإن شاء عضلها من الزواج، أي منعها منعا مشددا لتفتدى نفسها بما ورثته من الميت او تموت فيرثها ! !.
ومغزى هذه الرواية أنهم يجدون لهم حقا في إمساكها ومنعها من الزواج، بما كان قد دفع لها زوجها من صداق، وبما كان له عليها من حق الإمساك. ونهى القرآن الكريم عن ذلك بقوله :﴿ لا يحل لكم ان ترثوا النساء كرها ﴾، ومعنى النص الكريم على هذا انه لا يصح ان يرث أولياء الميت حق تزويج نساء المتوفين كرها عنهن من غير توكيل، فليس الميراث هو ميراث ذات المراة كزوجة، بحيث يملك زواجها بغير عقد، بل المراد حق تزويجها من نفسه او من غيره، من غير ان تكون لها إرادة حرة في الزواج.
وبعض العلماء فهم أن المراد من الميراث هو ميراث الزوجية نفسها، بحيث تكون المراة زوجا من غير عقد، كما فهم آخرون ان المراد لا يحل ان ترثوا أموالهن. ولكن الظاهر من مجموع الروايات، ان المراد بالميراث هو ميراث حق التزويج، وميراث ما أعطيت من صداق. وقد عبر الله سبحانه وتعالى – ولكلامه المثل الأعلى – عن النهي عن هذا العمل بقوله تعالى :﴿ لا يحل ﴾ بدل لا ترثوا للإشارة إلى انه امر غير مستحسن في ذاته، فهو في ذاته غير حلال وغير لائق، فلا يحتاج في نفي الحل إلى نهي ينشئ التحريم، بل عن الفطرة السليمة تدرك عدم حله، وقد كان الجاهلون في ضلال مبين وظلم شديد، إذ كانوا يفعلونه، ولذلك استنكره كثيرون منهم، وكان العمل من بعضهم، لا من كلهم.
﴿ ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ﴾ العضل هنا معناه التضييق والتشديد لمنع الزواج، او الظلم الشديد من الأزواج، وقد قال الراغب في معنى العضل :"العضلة كل لحم صلب في عصب الرجل، ورجل عضل مكتنز اللحم، وعضلته شددته بالعضل نحو عصبته، وتجوز به في كل معنى شديد" قال تعالى :
﴿ ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ﴾ والمراد هنا التضييق الشديد، والخطاب هنا إما ان يكون لأولياء الميت، وتكون﴿ لا تعضلوهن ﴾ معطوفة على﴿ أن ترثوا النساء ﴾ وتكون ( لا ) لتأكيد النفي، والمعنى على هذا : لا يحل لكم ان ترثوا النساء كرها، ولا تعضلوهن وتمنعوهن من الزواج لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن، أي لتضيقوا عليهن حتى يتركن حقهن في المهر الذي أخذنه، او بقى لهن، ومعنى﴿ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ﴾ تضيعون حقوقهن، إذ يقال ذهب بالأمر او بالحق : أضاعه، ومن ذلك قوله تعالى :﴿.. ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون١٧ ﴾[ البقرة ].
هذا احتمال في النص الكريم، وهناك احتمال آخر في توجيه الخطاب، وهو ان يكون ذلك نهيا مستأنفا، محمولا في النسق على نفي الحل السابق، ويكون الخطاب للأزواج، فيكون المعنى على هذا : لا يحل لكم ان ترثوا النساء كرها، فتتزوجوهن او تزوجوهن بغير رضاهن، وكذلك لا تعضلوهن بأن تضيقوا عليهن وتظلموهن وترهقوهن وهن زوجات، لتكرهوهن على طلب التفريق في نظير ان تأخذوا بعض ما آتيتموهن. وإذا كان التضييق لأخذ بعض المهر منهيا عنه، فأولى ان يكون في موضع النهي التضييق عليهن لأخذ المهر كله.
وإنا نختار ان يكون الخطاب موجها للأزواج، ويكون النص السامي قد اشتمل على بيان التحريم في موضعين : أولهما – إكراه المرأة على زواج لا تريده، وذلك بدعوى حقهم في ميراث حق تزويجها. والثاني –النهي عن إكراه المرأة على طلب التفريق حتى يضيع عليها بعض حقها في المهر، وبالأولى إكراهها حتى يضيع حقها كله، والمؤدى في الأمرين هو حماية المرأة من ان يتحكم فيها أولياء زوجها ببطشهم، او يتحكم فيها بسلطان الغلب والزوجية.
ولكن قد تكون المراة ظالمة لزوجها، فهل يحل أخذ شيء من مهرها لأنها أفسدت الحياة الزوجية ؟ قد بين النص الكريم انه يحل ذلك بقوله تعالى :﴿ إلا ان يأتين بفاحشة مبينة ﴾.
الاستثناء هنا منقطع، معناه لكن إن يأتين بفاحشة مبينة يحل اخذ المهر الذي أوتينه او بعضه، ومؤدى هذا الكلام تحريم وتحليل، اما التحريم فهو ما بين في الكلام السابق، وهو انه لا يصح ان يعضل امرأته ظالما لها كارها، ويريد طلاقها ويفعل ذلك ليكرهها على طلب الطلاق في نظير ما اعطى كله او بعضه. وأما التحليل فهو إباحة ان يطلقها في نظير بعض ما قدم لها او كله، إذا كانت ظالمة له مفسدة للحياة الزوجية. والفاحشة المبينة هي الفاحشة الواضحة المعلنة التي تعلن نفسها، وتكشف أمرها ؛ لأن المبين يكون بينا دائما، فعبر عن البين بلفظ المبين مبالغة في وضوحه وبيانه وإعلانه. وما هي الفاحشة ؟ قال بعض العلماء هي الزنا، والمعنى انه يباح في هذه الحال، استرداد المهر كله، ولو بغير رضاها، وقد قال الإمام مالك ذلك. والتعبير عن الزنا بلفظ الفاحشة تعبير يجري في القرآن كثيرا، وأصل الفحش الأمر السيئ الذي يزيد عن كل معقول مقبول، فالعقول تمجه في كل صورة ولا شيء أكثر من الزنا في ذلك.
وقال بعضهم : الفاحشة هي النشوز وإفساد الحياة الزوجية بكل طرق العناد والمشاكسة والمباغضة. وقال آخرون : البذاءة والفحش في القول والعمل والمكارهة بالعبارات والفعل. وفي الحق عن الفاحشة البينة الواضحة تشمل كل هذا، وهي في كل صورها إفساد المرأة للحياة الزوجية، وقد اتفق العلماء على انه في هذه الحال يحل للزوج ان يأخذ كل ما اعطى او بعضه.
وهذا هو موضوع قوله تعالى :﴿ ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا ان يخافا ألا يقيما حدود الله فغن خفتم الا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها... ٢٢٩ ﴾[ البقرة ].
هذا، وإن الرجل هو الراعي، وهو المسئول عن هذه الرعية، ولذلك خاطب الله تعالى الأزواج بقوله تعالى :
﴿ وعاشروهن بالمعروف ﴾ امر الله سبحانه وتعالى الزواج بالعشرة الحسنة، بالمعروف، وإن العشرة هي المخالطة والممازجة بحيث تلتقي النفسان، ومن طبيعتها ان تكون في ألفة لا في نفرة، وقد أطلقت العشرة على المعاملة، والمراد بالمعروف ان يعامل الرجال أزواجهم معاملة تليق بأمثالهن من غير ان يكون منهم ما يستنكر عقلا او شرعا، او عادة، فهو يؤنسها ولا ينفرها، ويقربها ولا يبعدها، وكان الأمر بالعشرة الحسنة بعد الإشارة إلى ما قد يكون منهن من نشوز وبذاءة وفحش في القول، لبيان انه لا يسوغ لرجل ان يفترق لمجرد ظهور النشوز منها، بل يعالجها بالرفق، وإزالة أسباب النفرة إن أمكن. وإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعاشرون أزواجهم على أكمل ما تكون العشرة، ويقربونهن بكل وسائل التقريب، حتى إن ابن عباس كان يقول : إني أتزين لامرأتي كما تتزين لي. وقد يكون سبب النفرة من الرجل نفسه، وإنه ليروى في ذلك ان امرأة ذهبت إلى الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه تطلب الفراق من زوجها، فرأى عمر الزوج، وإذا هو أشعث أغبر خلق الثياب مستطيل الشعر، فأدرك بثاقب نظره ان النفرة من هذه الحال، فأجلها وأرسله إلى المغتسل فاغتسل، وألبسه ثيابا حسنة، وأزال شعثه، ثم ناداها، فسألها : أمصرة على ما تطلب ؟ فلما رأت زوجها على حاله الجديدة عدلت عن طلب الطلاق.
وإن معاملة المرأة بالحسنى دليل على كمال الرجولة والخلق، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :"خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"١.
ثم بين سبحانه وتعالى انه لا يصح للرجل ان يسترسل في كراهيته إن عرضت له أسباب الكراهية، بل يتعرف المحاسن، ولا يقتصر على النظر إلى المساوئ، ولذا قال تعالى :﴿ فإن كرهتموهن فعسى ان تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾.
إن العشرة الحسنة مطلوبة ولو في حال كراهية الزوج لزوجته، فإنه لو أظهر الكره لكانت المباغضة، ولا سترسل في غواية تضله، فيصر على الكراهية، وقد كان في الإمكان ان يرى فيها المسرة بدل المضرة، وأسباب المحبة بدل البغض.
وغن النص الكريم يشير إلى معنى سليم، ويدعو إلى إدراك معان مختلفة كثيرة : أولها –ان ينظر إلى الحياة الزوجية من جميع نواحيها، ولا من ناحية واحدة منها، وهي البغض والحب، فينظر إلى مصلحة أولاده، وإلى نظام بيته، وعلى محاسنها بدل ان ينظر إلى مساويها. وثانيها – ان يفكر في من يعقبها : أهي خير منها ام لا ؟ وثالثها – ان ينظر في شان العلاقة بعين العقل والمصلحة المشتركة لا بعين الهوى المسيطر الجامح. ورابعها – وهو أعظمها ان ينظر إلى المسألة بالقلب الديني، وان يتذكر في وقت الكراهية العشرة الحلوة السابقة، ولذا قال الله سبحانه وتعالى :﴿ فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾، والخير الكثير يتكشف للرجل في الأمر المكروه بإحدى حالين : إما بالنظر الثاقب الذي يتغلب فيه التدارك، ويكون الندم المرير، ولا حين مندم.
وإن هذا النص يشير إلى معنى جليل عام لا يخص الحياة الزوجية وحدها، وهو الا يبت في الأمور تحت تأثير الكراهة، فإنها عارض وجداني قد يزول، وقد يكون في المكروه الخير الكثير الذي غاب عنه في وقت إدراكه، فيفوته النفع العظيم تحت تأثير الكراهية التي قد يبعث عليها أمر حسي عارض. وفي الحديث الصحيح." لا يفرك مؤمن مؤمنة، عن سخط منها خلقا رضي منها آخر"٢ والفرك البغض الكلي الذي تنسى فيه كل المحاسن. وروى مكحول عن ابن عمر انه كان يقول :" إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له، فيسخط على ربه عز وجل، فلا يلبث ان ينظر في العاقبة، فإذا هو قد خير له".
١ رواه ابن ماجة: النكاح – حسن معاشرة النساء(١٩٧٧)..
٢ رواه مسلم: الرضاع – الوصية بالنساء(١٤٦٩)، واحمد: باقي مسند المكثرين(٨١٦٣) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
﴿ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ﴾ بين سبحانه في النصوص الكريمة السابقة حال أخذ الرجل بعض ما آتاه إذا أتت المراة بفاحشة بينة واضحة تعلن نفسها، وذكر سبحانه علاج الرجل لنفسه إذا أحس بكراهية، لكي يتجنب الطلاق الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم :"ما أحل الله شيئا ابغضه كالطلاق"١، فإذا استرسل في الكراهية، واختار ابغض الحلال، فإنه لا يصح ان يسترد منها أي مقدار أعطاها إياه ولو كان قنطارا من فضة او ذهب، فالتفريق هنا بمجرد إرادته لا بسبب من جانبها، ولذا قال :"وإن أردتم } وعبر في التعليق ب"إن" وهي لا تكون لوقوع الفعل مؤكدا، لينبه على ان الإرادة قد تكون غير سليمة، وغير مبنية على أسباب قوية، والاستبدال طلب البدل، بان يطلق واحدة ويتزوج أخرى. وقوله تعالى :﴿ وآتيتم إحداهن قنطارا ﴾ لبيانه انه لا يسترد شيء مهما يكن كبيرا ؛ إذ القنطار أقصى ما يتصور من مهور. والقنطار أصله من قنطرت الشيء إذا رفعته، ومنه القنطرة ؛ لأنها بناء مرتفع مشيد، وقد قال الشاعر :
كقنطرة الرومي أقسم ربها لتكتنفن حتى تشاد بقرمد٢
وخلاصة المعنى انه لا يصح ان يأخذ شيئا ما دام التفريق بإرادته وبسبب من جانبه، ولم يكن لها فيه أي عمل، وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى :﴿... ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا ان يخافا الا يقيما حدود الله... ٢٢٩ ﴾ [ البقرة ] فإن الآية التي نتكلم فيها كان الطلاق بسبب من جانبه وهو إرادته الاستبدال، وأما الآية الأخرى، فإنها عندما تريد المراة ذاتها التفريق غير معضولة ولا مبخوسة أي حق من حقوق الزوجية المفروضة على الزوج.
وقد وبخ سبحانه وتعالى على الأخذ عند إرادة الاستبدال بنصين كريمين : أولهما قوله تعالى :
﴿ أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ﴾ هذا توبيخ واستنكار للأخذ، والبهتان هو الكذب غير المعقول الذي يتحير فيه العقل، ويطلق على كل أمر يتحير العقل في إدراك سببه، او لا يعرف مبررا لوقوعه، كمن يعتدي على الناس من غير عداوة سابقة ولا نفع مجلوب، ولا غرض مقصود. والإثم الذنب العظيم، والمبين الواضح الذين يعلن نفسه ووضحه، ويكشف عن مقدار الأذى فيه. وقد قال العلماء : إن البهتان والإثم مصدران قصد بهما الوصف، أي أتأخذونه باهتين فاعلين فعلا تتحير العقول في سببه، آثمين بفعله واضحا معلن الوضوح مستنكر الوقوع، ويصح ان يكون المصدران مفعولين لأجله، ويكون ذلك توبيخا أشد، ويكون المعنى عليه : أتأخذونه لأجل البهتان والإثم المبين ؟ ويكون في التعليل توبيخ أشد، وهذا هو الذي نراه.
١ عن محارب قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم:"ما احل الله شيئا ابغض إليه من الطلاق". رواه أبو داود: الطلاق – كراهية الطلاق(٢١٧٧)..
٢ البيت قاله طرفه بن العبد البكري في معلقته وهو تشبيه للناقة. والقرمد والقرمدة: الآجر..
هذا، هو النص الأول الموبخ، والنص الثاني هو قوله تعالى :
﴿ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم على بعض وأخذن منه ميثاقا غليظا ﴾ الإفضاء معناه الخلوص، أي يخلص كل واحد الآخر، وفسر بأنه الخلوة بين الرجل وزوجه ليس معهما احد ؛ لأن الفضاء هو الذي يكون بينهما. والاستنكار هنا للحال الواقعة، فالأول كان استنكارا لذات الأخذ، وهنا الاستنكار لما أحاط بالأخذ من أحوال. والمؤدى ان الأخذ عند إرادة الاستبدال امر مستنكر في ذاته، ثم هو مستنكر لأجل الأحوال التي كانت بين الزوجين. وقد ذكر سبحانه وتعالى سببين للاستنكار : أحدهما –الإفضاء وخلوص زوج لنفس صاحبه حتى صارا كأنهما نفس واحدة. وثانيهما – الميثاق الغليظ أي الشديد القوي الثابت الذي هو عهد ثقيل لا يصح منه التخلص. وذلك الميثاق، هو الارتباط بين الزوجين أمدا صارت فيه نفس كل واحد قطعة من الآخر، وهو أمر الله تعالى إذ يقول :﴿... فإمساك بمعروف او تسريح بإحسان... ٢٢٩ ﴾[ البقرة ]، وليس الأخذ من التسريح بإحسان، وهو المودة التي تظل بين الزوجين في مدة الحياة الزوجية التي صورها الله سبحانه وتعالى :﴿ ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون٢١ ﴾[ الروم ].
هذا، وقبل نختم الكلام في هذه الآيات نقرر أمرين :
أحدهما – ان الرجل في افتراقه عن زوجه لا يحل له دينا ان يأخذ منها شيئا إذا كان النشوز من جانبه، ولا يحل ان يأخذ أكثر مما اعطى إذا كان النشوز من جانبها، وما أخذ في غير ذلك يكون كسبا خبيثا، وقد اتفق على ذلك العلماء.
ثانيهما – ان قوله تعالى :﴿ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا ﴾ تدل على انه ليس للمهر حد أعلى، وقد استدلت بذلك امرأة امام أمير المؤمنين عمر عندما قال( ألا تغالوا في صدقات النساء، فلها لو كانت مكرمة في الدنيا او تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى اله عليه وسلم ؛ ما امهر قط امرأة من بناته ولا نسائه فوق اثنتي عشرة أوقية ). وجعل رضي الله عنه ذلك حدا أعلى، فقالت امرأة( يعطينا الله وتحرمنا )، وتلك الآية، فقال الإمام العادل( اخطأ عمر وأصابت امرأة )، ولكن عمر كان ينظر بنور الله وروح الإسلام، فإن اخطأ في الحد بمقدار، فإنه لم يخطئ في منع المغالاة في المهور، ولله عاقبة الأمور.
﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا٢٢ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا قد دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وان تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما٢٣ ﴾
كانت الآيات السابقة في بيان تحريم ظلم المراة في حال الزوجية وظلمها بعد وفاة زوجها، وظلمها عند إرادة الافتراق عنها. وفي هذه الآيات يبين الله سبحانه من يحل من النساء الزواج بهن، ومن لا يحل، وإذا كانت الآيات السابقة لدعم الأسرة بمنع الظلم ؛ لن العدل به قوام الأسرة وقوتها، ومنع الظلم تقوية سلبية، فالآيات التي تبين المحرمات من النساء تبين أسباب قوة الأسرة من ناحية المودة التي تربط بين الزوجين برباط الرحمة والمحبة، وتجعل الزواج مثمرا ثمراته الطيبة من العلاقة الزوجية التي لا ترنقها علاقة أخرى. وقد ابتدأ سبحانه ببيان تحريم زوجة الآباء إذا افترقوا عنها، فكما ان الرجل لا يحل له ان يرث حق تزويج زوجة أصله كذلك لا يحل له أن يتزوجها. وقد ابتدأ بهذا النوع من التحريم لتناسبه مع منع ميراث حق التزويج للنساء. ولذلك قال سبحانه :﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ﴾.
كان فاشيا بين العرب في الجاهلية ان يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا مات عنها أبوه، وكان ذلك يؤدي إلى منعها من حرية الاختيار في الزواج، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك في الماضي من الآيات الكريمات، وهنا يمنع تزويج الولد ممن كانت زوجة أبيه، بل ممن كانت زوجة آبائه على وجه العموم ؛ وذلك لأن كلمة"آباؤكم" تشمل كل الأصول من الرجال أي تشمل الأجداد جميعا سواء كانوا من جهة أبيه ام كانوا من جهة أمه، وذلك من قبيل الإطلاق المجازى.
والنكاح هو قاعدة الزواج، وهو لا يستعمل في القرآن إلا على الزواج، وقد يطلق على المباشرة نفسها، ولكنه لم يطلق في القران إلا على العقد، ولذلك قال الشافعي وكثيرون من الفقهاء، إن النكاح حقيقة في العقد، وإذا أريد به المباشرة كان ذلك مجازا من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب، وذلك انه لا يكون إلا في المباشرة الحلال، والحنفية قالوا إنه حقيقة في المباشرة مجاز في العقد. والذي يتفق مع تعبير القرآن هو رأي الشافعي.
ولما كان ذلك النوع من الزواج كثيرا في الجاهلية، وربما وقع فيه بعض المؤمنين في الجاهلية قبل الإسلام، أشار سبحانه إلى أن ما كان في الجاهلية هو موضع عفو لا يعاقب الله تعالى عليه، ولذا قال سبحانه :﴿ إلا ما قد سلف ﴾ أي أنكم لا تؤاخذون على ما قد مضى منكم في الجاهلية، والاستثناء هنا منقطع، و"إلا" بمعنى "لكن"، والمعنى : لكن ما قد سلف لا تؤاخذون عليه، والله يعفو عنكم، وهو ينتهي بهذا التحريم، فمن كان متزوجا ممن كانت امرأة أبيه، فإنها حرام عليه من وقت نزول ذلك النص الكريم، وعفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام.
والتحريم له حكمته. فإنه يتنافى فيما للآباء من وقار، ومما يجب لهم من حسن صحبة، ولأن امرأة الأب لا تحتشم على الابن، فلو كانت تحل له بعد الفراق لتطلعت النفس إليها، وقد ترغب فيه، فتفارق الأب او تغاضبه طمعا في ابنه، ولا إساءة إلى الأب أبلغ من هذا، فكان المنع لأجل الرحم والمودة في القربى، وحسن الصحبة. والعقد ذاته سبب التحريم، فإذا عقد الأب او الجد فإنها تكون حراما على الأبناء والأحفاد، ولو لم يدخل بها ؛ لأن ذلك ما يقتضيه الإحسان إلى الوالدين.
وفي النص إشارة إلى انه لا عقوبات من غير نص محرم، وهؤلاء كانوا يرتكبون ما يرتكبون مستحلين له، فلما جاء النص القاطع المحرم كان العقاب، ولا عقاب قبل النص المحرم.
وإن ذلك النوع من النكاح سيئ في ذاته، لا يقدم عليه كريم، ولذا قال سبحانه وتعالى فيه :
﴿ إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ﴾ هذه أوصاف ثلاثة وصف الله بها ذلك النوع من العقود : أولها انه فاحشة، أي أمر زائد في القبح شرعا وخلقا، والفحش هو الأمر الزائد زيادة قبيحة، فهو زيادة قبيحة على موجب الفطرة المستقيمة. والوصف الثاني انه مقت، وهو مصدر وصف به أي انه ممقوت من ذوي المروءات لا يقبلونه ولا يرضونه. والثالث انه أسوأ سبيل لطلب الولد ؛ إذ يكون ابنه أخا لأخيه من أبيه وبنته أختا لأخيه او لأخته من أبيه، وذلك نوع من المجوسية، فهو لذلك كان سبيلا سيئا.
وقد قال الزمخشري في هذا النص :" كانوا ينكحون روابهم( أي تنكح المراة ربيبها )، وناس منهم كانوا يمقتونه من ذوي مروءتهم ويسمونه نكاح المقت، وكان المولود عليه يقال له المقتى، ومن ثم قيل﴿ ومقتا ﴾، كأنه قيل إنه فاحشة في دين الله بالغة في القبح، قبيح ممقوت في المروءة، ولا مزيد على ما يجمع القبحين".
بعد ذلك بين سبحانه وتعالى المحرمات من الأقارب فقال تعالى :
﴿ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت ﴾ هذا النص الكريم لبيان تحريم أربع طوائف من القرابة، فمعنى حرمت عليكم أمهاتكم، أي حرم عليكم نكاح أمهاتكم.
والطوائف الأربع أولاهن : الأمهات والجدات ؛ لأن الأمهات يراد بهن الأصول، إذ الم تطلق على الأصل، كما قال تعالى :﴿... وعنده ام الكتاب٣٩ ﴾[ الرعد ] ويصح ان يراد من الأمهات الصلبيات، ولكن يثبت تحريم الجدات بطريق الأولى، لأنه إذا كانت العمة والخالة حراما، فأولى ان تكون الجدة حراما، لأن الأم هي طريق الوصول في القرابة إلى هؤلاء، وقد اجمع المسلمون على تحريم الجدات.
والطائفة الثانية : الفروع من النساء، ولذلك ثبت بقوله تعالى :﴿ وبناتكم ﴾ بالعطف على﴿ أمهاتكم ﴾، وقد ثبت تحريم البنات بالنص، وبقية الفروع من النساء ثبت تحريمهن بالأولى ؛ لأن النص يحرم بنت الخ وبنت الأخت، وإذا كانت بنت الأخ والأخت، حراما، فأولى بالتحريم بنت البنت وبنت الابن ؛ لأن البنت أقرب من الأخت.
والابن اقرب من الخ، فأولادهما أولى بالتحريم، وقد انعقد الإجماع على تحريم الفروع من النساء مهما تكن طبقتهن.
والطائفة الثالثة : فروع الأبوين، وهن الأخوات، وبنات الإخوة والأخوات، وثبت تحريمهن بقوله تعالى :﴿ وأخواتكم ﴾ ثم قوله تعالى :﴿ وبنات الأخ وبنات الأخت ﴾، وذلك يشمل الأخوات شقيقات أو لأب أو لأم، كما يشمل فروع الإخوة والأخوات جميعا ؛ لأن كلمة( بنات الإخوة والأخوات ) تشمل كل الفروع على سبيل المجاز، ولأن التحريم يثبت بالأولى، لأن عمة الجد حرام بالنص فأولى بالتحريم بنت ابن الأخ، وبنت الأخ او الأخت ؛ لأنهن أقرب، وقد انعقد الإجماع على تحريمهن.
والطائفة الرابعة : العمات والخالات، وقد ثبت التحريم بقوله تعالى :﴿ وعماتكم وخالاتكم ﴾ بالعطف على الأمهات من حيث التحريم، والعمات والخالات، يشملن عمات الأب والأم وخالات الأب والأم، وعمات الجد والجدة، وخالات الجد والجدة ؛ لأن هؤلاء يطلق عليهن عرفا اسم العمة والخالة، واللغة لا تمنع ذلك، وقد انعقد الإجماع على ذلك. والنص على تحريم العمة والخالة والاقتصار على ذلك يدل على انه لا يكون تحريما لبنت العم وبنت الخال والخالة، أيا كانت طبقة العمومة والخئولة، فبنت عم الأب حالا، وبنت خال الجد حلال أيضا.
وإن هؤلاء المحرمات قد ثبت تحريمهن في الشرائع السماوية كلها ؛ لأن تحريمهن مشتق من الفطرة، وفي الزواج بهن إيجاد نسل غير قوي، لأن التجارب العلمية أثبتت ان التلاقح بين سلائل مختلفة الأرومة ينتج نسلا قويا، والتلاقح بين حيوانات متحدة الأرومة ينتج نسلا ضعيفا، وعلى ذلك يكون التزاوج بين القرابة القريبة منتجا نسلا ضعيفا. ولقد ضعف آل السائب ؛ لنهم كانوا لا يتزاوجون إلا فيما بينهم، فقال لهم الإمام عمر :{ قد أضويتم يا آل السائب فانكحوا النوابغ ).
وإن الزواج من القرابة القريبة يفسد علاقة القرابة والعواطف الشريفة التي تربط بينهم، فعلاقة الأمومة والبنوة والأخوة والعمومية والخئولة يفسدها الزواج بما يكون بين الزوجين من مباسطات او منافرات أحيانا، والحياة الزوجية على القبض والبسط، والرضا والسخط، والمداعبة والهجر أحيانا، وكل ذلك يفسد القرابة.
﴿ وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ﴾ الأم الرضاعية هي التي أرضعته، والأخت الرضاعية هي التي أرضعتها أمه، او رضعت من ظئر رضع هو منها، او بعبارة عامة التقيا على ثدي واحدة، ولا يشترط أن تكون الرضاعة من لبنه او لبنها، بل إن كل من ترضع ولدا تحرم عليه بناتها جميعا صغيرة او كبيرة. وقد قرر جمهور الفقهاء انه يعتبر من الأخوات الرضاعيات كل من رضعت من امرأة أبيه إذا كان اللبن الذي رضعته كان أبوه هو السبب فيه. وهذه العلاقة الرضاعية نشأت من قبل أبيه لا من قبل أمه، فمن رضعت من لبن أخيه لأبيه او أخته لأبيه تعد أختا رضاعية له.
والأمهات الرضاعيات يشملن الأم التي أرضعته وجداته اللائي كانت العلاقة بينه وبينهن رضاعية، في أي طبقة من الطبقات، سواء أكن جدات رضاعيات له من جهة أبيه ام من جهة أمه.
وإنه يلاحظ انه لا يحرم بالرضاعة الأمهات والأخوات فقط، بل البنات والعمات والخالات، وبنات الأخ والأخت، وإن نزلت درجاتهن في القرابة. وقد فهم كثيرون من المفسرين تحريم هذا كله من الآية الكريمة ؛ وذلك لأنه سبحانه وتعالى لما سمى المرضع اما، وابنة المرضع أختا، فقد نبه بذلك إلى انه أجرى الرضاعة مجرى النسب، ففهم بفحوى الخطاب باقي المحرمات رضاعا اللائي يعتبرن نظيرا للقريبات، وإنه قد نص على تحريم الأخت رضاعا، وليست الأخت اقرب من بنت البنت الرضاعية، فتحرم عليه بالأولى، ولقد جاءت السنة موضحة حمزة قال :"لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب"١. وروى ان عائشة كانت قد رضعت من امرأة أبي القعيس، فجاء أخوه أفلح يستأذن عليها، فقالت : أرضعتني امرأة أخيه، فلا آذن له، حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ذكرت ذلك لرسول الله قال :"ائذني له فإنه عمك تربت يداك"٢، وذلك لما رضعت من امرأة أخيه على ولد أخيه اعتبر أبا رضاعيا لها، فيكون عمها.
والرضاعة المحرمة عند مالك وأبي حنيفة هي كل مقدار قل او كثر، وعند الشافعي واحمد لا يحرم إلا خمس رضعات مشبعات ليمكن ان يكون الولد جزءا ممن أرضته ؛ إذ يكون قد اخذ منها غذاء يوم كامل. ولا بد ان تكون الرضاعة في الصغر، لقوله عليه الصلاة والسلام :"إنما الرضاعة من المجاعة"٣ وذلك يكون في السنتين الأوليين من حياة المولود، ولذا قال سبحانه :﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين... ٢٣٣ ﴾[ البقرة ]. وقال أبو حنيفة : عن الرضاعة المحرمة هي ما تكون في الثلاثين شهرا التي أعقبت الولادة.
والحكمة من التحريم بالرضاعة ان المولود يتكون جسمه من جسم التي أرضعته فيكون جزءا منها، كما هو جزء من أمه، التي حملته، وإذا كانت هذه غذته بدمها في بطنها، فتلك غذته بلبنها في حجرها، وربما تكون مدة الإقامة في حجرها أطول كثيرا من مدة الحمل، فكان لا بد ان يثبت لهذه الم الرضاعية ما يثبت للأم النسبية من حرمة وكرامة، وإن تكريم المرضعات بذلك التحريم الذي يكون للأمهات الحقيقيات يشجع النساء على الرضاعة، فلا يضيع الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم، وفي التحريم فوق ذلك تنبيه إلى ان يتخير الآباء من يرضعن أولادهم ؛ لأنهم إذا علموا ان أولادهم ستتكون أجزاؤهم ممن يرضعنهم تخيروهن أولادهم ؛ لأنهم إذا علموا ان أولادهم ستتكون أجزاؤهم ممن يرضعنهم تخيروهن من ذوات الأجسام القوية، والدماء النقية التي لا يدنسها مرض ينتقل بالوراثة، ولقد كان العرب والسلف الصالح يتخيرون مراضع أولادهم لهذه المعاني.
﴿ وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ﴾ هذه النصوص تعرضت للمحرمات بسبب المصاهرة، وهي تتم ما ابتدأه سبحانه بقوله تعالى :﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ﴾ التي تعرضنا لذكر أحكامها في ابتداء القول في المحرمات، وهذه النصوص شملت ثلاث طوائف.
أولاها :﴿ أمهات نسائكم ﴾ وأمهات من كانت زوجة للشخص يكن حراما سواء أكن أمهات صليبيات ام جدات، فيشمل النص كل الجدات، لما ذكرنا من ان كلمة الأمهات تشمل الجدات، ولإجماع الفقهاء على ذلك، ولبيان النبي صلى الله عليه وسلم. وأما من عقد عليها وافترق تحرم عليه، سواء ادخل بها ام لم يدخل ؛ لأن الأم توحش صدر ابنتها إذا تزوجت من مطلقها، ولأن الأم لا يليق بها ان تتطلع إلى الزواج ممن كان زوج ابنتها، ولو لم يدخل بها، فإن ذلك مخل بكرامة الأمومة وشرفها وحنانها، وهو سبيل لقطع رحمها، وشيوع ذلك يؤدي إلى الفساد. والطائفة الثانية بينها الله تعالى بقوله :﴿ وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ﴾.
والربيبة هي ابنة الزوجة لأن الزوج في أكثر الأحوال يربها أي يربيها ويعطف عليها، وهي في غالب الأحوال تكون في حجره، أي في بيته وتحت رعايته، فقوله تعالى :﴿ اللاتي في حجوركم ﴾ كناية عن الرعاية والحياطة والعطف، وغيرها من أنواع البر التي يحوط بها أولاد زوجته من غيره إن كان رجلا عطوفا كريما، وهذا الوصف جار مجرى العادة، والتعبير فيه مجازى لبيان قبح من يتزوج بنات امرأته، وقد اشترط للتحريم ان يكون قد دخل بزوجته التي افترق عنها، وأراد ان يتزوج ابنتها، ولذلك صرح سبحانه وتعالى بالحل، إن لم يكن قد دخل بالأم وافترق عنها وأراد الزواج بالبنت، إذ قال سبحانه :﴿ فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ﴾ أي لا إثم عليكم في ان تعقدوا عليهن، وإن المعاني التي من اجلها حرم الزواج بالأم عند العقد على البنت ليست قوية في حال التزوج بالبنت بعد الافتراق عن الأم، فالأم لها من الحنان والعطف والشفقة ما يجعلها تغفر لابنتها تزوجها ممن كان زوجها إذا لم يكن دخول، ولأن البنت ليس فيها من الكرامة والاحترام والشرف ما للأم الرءوم العطوف، لذلك اشترط التحريم الدخول بها.
والحكمة في التحريم واضحة ؛ لأنه لو كانت الإباحة، فيباح للرجل ان يطلق الأم المدخول بها ويتزوج ابنتها، ويطلق البنت ويتزوجها، لدى ذلك على تقطيع الأرحام بين الأم والبنت، ولأدى إلى التضييق في الأسرة، فلا يباح للرجل ان يضم إليه أولاده امرأته، ولا يباح له ان يعطف على بناتها، ويؤويهن عنده إن كن في حاجة إلى إيواء، خشية ان يؤدي ذلك إلى الرغبة في الزواج بواحدة منهن.
والطائفة الثالثة بين سبحانه وتعالى تحريمها بقوله :﴿ وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ﴾ والحلائل جمع حليلة وهي الزوجة التي تحل، والأبناء يشملون الأولاد من الطبقة الأولى والطبقات الأخرى، وقد انعقد الإجماع على ذلك ؛ فمن كانت زوجة ابنه او ابن ابنه او ابن بنته لا تحل له لأنها كانت حليلة لأحد هؤلاء، والتحريم ثابت سواء ادخل بها فرعه ام لم يدخل، وقوله تعالى﴿ من أصلابكم ﴾ – معناها من ظهوركم، وكان في ذكر كلمة( أبنائكم ) ما قد يغنى عن ذكر﴿ أصلابكم ﴾، ولكنها ذكرت ليخرج الذين يتبنون، فقد كان العرب يعتبرون المتبنى ولدا له كل حقوق الأولاد، ويحرمون على انفسهم الزواج من أزواج المتبنين، وقد سماهم القران أدعياء، ولذلك قال تعالى :﴿ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل ادعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل٤ ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما اخطاتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما٥ ﴾ [ الأحزاب ] ومن اجل إباحة الزواج بمن كانت زوجة المتبنى امر الله نبيه بان يتزوج امرأة زيد بعد ان يطلقها لأنه كان متبنى للنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، ولذا قال سبحانه عند الأمر بزواجها :﴿ فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان امر الله مفعولا٣٧ ﴾[ الأحزاب ].
﴿ وان تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ﴾ هذا نوع
١ رواه بهذا اللفظ مسلم: الرضاع – تحريم ابنة الخ من الرضاعة(١٤٧٧) عن سعيد بن ابي عروبة، وبنحوه رواه البخاري: الشهادات – الشهادة على الأنساب(٢٦٤٥) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
٢ عن عائشة قالت: إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعد ما نزل الحجاب فقلت: والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن أخا أبي القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني=امرأة أبي القعيس، فدخل علي رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن امرأته. قال صلى الله عليه وسلم:"ائذني له فإنه عمك تربت يمينك". [رواه البخاري واللفظ له: النسب – قول النبي صلى الله عليه وسلم: تربت يمينك(٦١٥٦)، ومسلم مختصرا(١٤٤٥)]..
٣ متفق له: رواه البخاري(٢٥٩٥) كتاب الشهادات – باب الشهادة على النساب والرضاع المستفيض، ومسلم غنما الرضاعة من المجاعة(٣٥٦١). من حديث عائشة ام المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها..
﴿ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم واحل لكم ما وراء ذلكم ان تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما٢٤ ﴾
قوله تعالى﴿ والمحصنات ﴾ بالضم معطوف على أمهاتكم في آية التحريم السابقة التي صدرت بقوله تعالى :﴿ حرمت عليكم أمهاتكم ﴾، فهذه الآيات تتمة لبيان المحرمات. ثم بعد ذلك بينت المحللات من النساء بعبارة جامعة، ثم بعبارة مفصلة لحل الإماء. وأحصن متلاقية في المعنى مع كلمة الحصن، وهو المكان المحكم الذي يتقى به أذى العدو، فمعنى أحصن المرأة جعلها في حصن الفضيلة، وقد جاء في مفردات الأصفهاني( يقال حصان العفيفة، ولذات حرمة، وقال تعالى :﴿ ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها... ١٢ ﴾[ التحريم ]. وقال تعالى :﴿ و فإذا أحصن... ٢٥ ﴾[ النساء ] أي تزوجن، و" أحصن" زوجن، والحصان في الجملة المحصنة إما بعفتها أو بتزوجها او بمانع من شرفها وحريتها ).
وبهذا يتبين ان المراة المحصنة هي التي صانت نفسها وتحصنت بحصن الفضيلة والبعد عن الفحشاء، وإحصانها بزواجها، او بعفافها المجرد، او بحريتها وشرفها، ولذلك تطلق كلمة المحصنات، ويراد بها أحيانا العفيفات، وتطلق بمعنى الحرائر، وفي هذه الآيات استعملت كلمة المحصنات بالمعاني الثلاثة، فقوله﴿ والمحصنات من النساء ﴾ المراد المتزوجات، وقوله تعالى﴿ المحصنات المؤمنات٢٥ ﴾[ النساء ] المراد الحرائر، وقوله﴿ محصنات غير مسافحات٢٥ ﴾ [ النساء ] المراد العفيفات، وقوله تعالى :﴿ فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ المراد بهن الحرائر.
﴿ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ﴾ المحصنات هنا المتزوجات اللائي يكن في عصمة أزواجهن، ويدخل في عموم المحصنات المعتدات، فزوجة الغير ومعتدته لا تجوز، وتحريمهن ثابت بمقتضى الفطرة والطبيعة الإنسانية، وسنة الله تعالى في الخلق والتكوين، ولكن استثنى من ذلك الدخول بغير الزوجات المملوكات، فإنه يجوز الدخول بهن، إذ إن قوله تعالى :﴿ حرمت عليكم أمهاتكم ﴾ إلى قوله :﴿ والمحصنات ﴾ كل هذا في تحريم العقد، لا في تحريم الدخول فقط، فالاستثناء بعد ذلك في الدخول بملك اليمين، لا يكون على منهاج الاستثناء المتصل، وقد قرر العلماء ان السبايا اللائي يدخلن في الرق لا يلتفت إلى أزواجهن السابق، بل تصير ملكا يحل للمالك ان يدخل بها بمقتضى الملك، لقوله تعالى :﴿ ولا تمسكوهن بعصم الكوافر١٠ ﴾ [ الممتحنة ] وهذا متفق عليه، وهو مما ينطبق عليه النص الكريم، فقط ينتظر حتى تستبرئ رحمها من الحمل.
وهناك صورة أخرى قد اختلف فيها الفقهاء، وهي الأمة التي تكون مملوكة ثم عقد زواجها، وبعد ذلك باعها مالكها : أيلزم المشتري الجديد بهذا الزواج، قال بعض العلماء إنه يفرق بينهما بعد هذا الشراء ؛ لأن الذي عقد هو وليها الأول، ولا يلزم بعقده الثاني، وقال بعض الفقهاء : يلزم الثاني ؛ لأن الزواج سابق على الشراء، فيكون قد اشتراها ملتزما بما كان من قبل. ويظهر انه من المتفق عليه ان مالكها إذا زوجها فهو ملزم بهذا الزواج لا يبطل بإبطاله، لأنه التزم به، فلا ينقض أمرا ثم من جهته. ومن المقررات الفقهية ان من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه.
ويتبين من هذا ان الاستثناء الخاص بالدخول بملك اليمين مقصور على حال السبي بالاتفاق، وقد قيل إن الآية نزلت في ذلك، وادعى بعض الفقهاء انها تشمل حال المشتراة التي سبق زواجها.
﴿ كتاب الله عليكم ﴾ جاء هذا النص بعد بيان المحرمات من قوله تعالى :﴿ حرمت عليكم أمهاتكم ﴾ إلى قوله :﴿ والمحصنات ﴾ وكان سياقه لتأكيد التحريم وتوثيقه، و"كتاب الله"، لها في الأعراب تخريجان، كل واحد منهما يشير إلى معنى مستقيم : أولهما – ان يكون ( كتاب ) مصدر كتب، والمعنى : كتب الله تعالى التحريم كتابا مفروضا بأحكامه عليكم، فليس لكم ان تتخلوا عنه. وثانيهما – أن يكون المراد القرآن، والمعنى : ألزموا كتاب الله الذي هو حجة عليكم إلى يوم القيامة، وهو الذي بين شريعة تحريم المحرمات فأطيعوه.
فكلا التخريجين يؤدي إلى توثيق التحريم وتوكيده بنسبته إلى الله تعالى، إما باعتباره كتبه وفرضه هو، وإما لأنه نص عليه في كتابه الخالد الباقي إلى يوم القيامة، ولم يترك بيانه لرسول أو نبي.
﴿ واحل لكم ما وراء ذلكم ﴾ في الآيات السابقة بيان المحرمات، وفي هذا النص الكريم يشير بلفظ عام إلى الحلال من النساء، ف ( ما ) هنا المراد بها النساء، وقالوا تكون لما لا يعقل و( من ) تكون لمن يعقل ؛ وهي هنا لمن يعقل، لأن العموم يعبر عنه بها. وفي الحق أن المستقرئ لاستعمال القرآن يتبين له ان ( ما ) و( من ) يتبادلان من يعقل وما لا يعقل، فمن استعمال ( ما ) لمن يعقل هذا النص، ومن استعمال( من ) لما لا يعقل قوله تعالى :﴿ فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع٤٥ ﴾[ النور ]، ولذلك أرى انه لا ضرورة لتعيين إحداهما للعقلاء والأخرى لغير العقلاء، ثم التمحل١ من بعد ذلك فكتاب الله تعالى هو حجته الفصحى، وليس من حجة تقاربه.
وكلمة( وراء ) المراد بها غير هؤلاء، وهي في أصل استعمالها للخلف، وكان المعنى ان المحرمات مقدمات إلى الأمام، والمحللات خلفهن، وفي ذلك إشارة إلى ان التحريم كان للتكريم والتشريف، وملاحظة المودة، فليس التحريم إيذاء، ولكنه تكريم. وقد قيل إن الآيات السابقة لم تشمل كل المحرمات، فالجمع بين المرأة وخالتها او عمتها، حرام، ولم ينص عليه في المحرمات، فكان الجمع جائز بينهن، ولقد فهم هذا بعض الذين لا يأخذون بالسنة المشهورة، وقد أجيب عن ذلك بإجابتين :
الأولى : ان هذا النص جاء بصدد بيان المحللات بدواتهن، بخلاف التحريم لعارض الجمع فقد بينته السنة، فإن الخالة وحدها حلال٢، وبنت الأخت وحدها، وكذلك بنت الأخ والعمة، كل واحدة حلال بذاتها، إنما التحريم هو في الجمع، والنص بين المحللات لذواتهن، وهذه الإجابة بينها الشافعي في الرسالة.
الثانية : أن التحريم ثابت في الجمع بالنص السابق ؛ لأن النص السابق قال الله فيه سبحانه فحرم الجمع بين الأختين بالنص، وثبت تحريم الجمع بين الخالة وبنت أختها والعمة وبنت أخيها بالأولى، لأن الخالة صنو الأم، وكذلك العمة، فإذا كان الجمع بين الأختين حراما، فأولى بالتحريم الجمع بين البنت ومن هي بمنزلة أمها، وقد انعقد الإجماع على ذلك.
﴿ أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ﴾ هذا بيان ضرورة المهر لشرف المحل، ولإعزاز المرأة وتكريمها، ولتستعين به فيما تتأهل به للزواج، ومعنى النص الكريم ان الإحلال يقتضي ان تبتغوا، أي ان تطلبوا الزواج أشد الطلب، وان ترغبوا فيه أشد الرغبة، متقدمين في ذلك بأموالكم، فإن المال يكون دليل الرغبة.
ثم أشار سبحانه إلى فرق ما بين الزواج والفاحشة، فقال :﴿ محصنين غير مسافحين ﴾ أي ابتغوا الزواج واطلبوه حالة أنكم تحصنون به أنفسكم، ونطفكم، وتحفظون به أولادكم، فمعنى الإحصان هنا الإعفاف، وما يتضمنه من حفظ النطف والولد. وجعل في مقابل الذين يحصنون انفسهم ونطفهم الذين يسافحون، والسفاح من سفح الماء او الدم أساله، ومنه قوله تعالى :﴿ او دما مسفوحا... ١٤٥ ﴾[ الأنعام ]، والزاني يسفح النطفة ويلقيها ويسيلها على تراب الرذيلة. فالسفاح على هذا إلقاء للنطفة الإنسانية، وهي الجوهر المادي للإنسان، والزواج تحصين لهذه النطفة، ووضع لها في حرثها الذي أعده الله تعالى لها.
﴿ فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ﴾ الاستمتاع الاستيلاء على ما فيه متعة وخير ومتاع، وقد كان الرجل في الجاهلية يتزوج المراة، ويستمتع بها، ثم يتركها خالية الوفاض٣، فذكر اله تعالى ضرورة إعطاء المهور التي فرضت وقدرت وقت العقد، وقد سماها الله تعالى هنا أجرا، والأجر هو الجزاء على ما قدم الإنسان من عمل، وقد يطلق على معنى العطاء، كما هو ظاهر قوله تعالى :﴿ فلهم اجر غير ممنون٦ ﴾[ التين ] ؛ لأن اقتران كلمة الأجر بعدم المن يرشح لأن يكون المراد بها العطاء، إذ هو الذي يجري فيه المن والأذى، وعلى أي حال فإن الظاهر في كلمة الأجر هنا هو الجزاء، وقد يقال : لماذا عبر هنا بالأجر، وفي أصل فرضية المهر بما يفيد انه عطاء، فقد قال تعالى :﴿ واتوا النساء صدقاتهن نحلة٤ ﴾ [ النساء ] ! والجواب عن ذلك ان الآيات التي بينت أصل الوجوب تبين القصد من الشرعية، وهو كونه هدية واجبة لبيان شرف العلاقة بين الرجل والمرأة، وللمعاني التي شرع من اجلها المهر، اما الآيات التي سمت أجرا٤ فهي لبيان الأداء بعد ان تأخر عن ميقاته، فلتأكيد الأداء سمى أجرا، وأصبح المؤدى غير جدير بأن يسمى معطيا او ناحلا او مانحا.
وهذا النص قد تعلق به بعض المفسرين الذين لم يفهموا معنى العلاقات المحرمة بين الرجل والمرأة، فادعوا انه يبيح المتعة، وهي عقد بين الرجل والمرأة يستمتع بها مدة معلومة في نظير مهر معلوم، او في نظير أجرة معلومة، ولو تخلفت المراة في بعض المدة ولم تسلم نفسها نقص من مهرها، او بالأحرى من أجرتها والنص بعيد عن هذا المعنى الفاسد بعد من قالوه عن الهداية ؛ لن الكلام كله في عقد الزواج، فسابقه ولاحقه في عقد الزواج، والمتعة حتى على كلامهم لا تسمى عقد نكاح أبدا، وقد تعلقوا مع هذا بعبارات رواها مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم انه أباح المتعة في غزوات ثم نسخها، وبان عبد الله بن عباس كان يبيحها في الغزوات٥، وهذا الاستدلال باطل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نسخها، فكان عليهم عند تعلقهم برواية مسلم ان يأخذوا بها جملة او يتركوها، وجملتها تؤدى إلى النسخ لا إلى البقاء، وإذا قالوا : إنا نتفق معكم على الإباحة ونخالفكم في النسخ فنأخذ المجمع عليه ونترك غيره، قلنا لهم : إن النصوص التي أثبتت الإباحة هي التي أثبتت النسخ، وما اتفقنا معكم على الإباحة، لأننا نقرر نسخ الإباحة، على أننا نقول عن ترك النبي صلى الله عليه وسلم المتعة لهم قبل الأمر الجازم بالمنع ليس من قبيل الإباحة، بل هو من قبيل الترك حتى تستأنس القلوب بالإيمان، وتترك عادات الجاهلية، وقد كان شائعا بينهم اتخاذ الأخدان، وهو ما نسميه اتخاذ الخلائل، وهذه هي متعتهم، فنهى القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم عنها٦. وإن الترك مدة لا يسمى إباحة، إنما يسمى عفوا، حتى تخرج النفوس من جاهليتها، والذين تركت عفوا حتى جاء النص القاطع بالتحريم، وابن عباس رضي الله عنه قد رجع عن فتواه، بعد ان قال له إمام الهدى علي كرم الله وجهه :"إنك امرؤ تائه، لقد نسخها النبي صلى الله عليه وسلم، والله لا أوتي بمستمتعين إلا ورجمتهما"٧.
﴿ ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة عن الله كان عليما حكيما ﴾ الجنوح معناه الميل، والجناح الإثم، والفريضة المهر المقدر، والتراضي من بعده غما على زيادته، وغما على نقصه، والمعنى لا ميل إلى الإثم في الأمر الذي تتراضون عليه من بعد المهر الذي سميتموه وفرضتموه على أنفسكم، وعليكم ان تلتزموا بما التزمتم من بعد العقد، قليلا كان أو كثيرا، مع ملاحظة ان المرأة إذا تركت بعض مهرها من بعد الفريضة فيجب ان يكون
١ تمحل للأمر: احتال له[القاموس –محل]..
٢ أي خالة المرأة وحدها حلال، وهكذا عمتها..
٣ أصل الوفاض الجلدة التي توضع تحت الرحى [لسان العرب – وفض]. فخلوها إذن كناية عن الفقر..
٤ أي سمت المهر أجرا..
٥ عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وقال:"ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة ومن كان أعطى شيئا فلا يأخذه". [رواه مسلم: النكاح –نكاح المتعة وبيان انه أبيح ثم نسخ(١٤٠٦)]..
٦ عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر. قال أبو عيسى: حديث علي حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند اهل العلم من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإنما روي عن ابن عباس شيء من الرخصة في المتعة، ثم رجع عن قوله حيث اخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم. [الترمذي: النكاح- ما جاء في تحريم نكاح المتعة (١١٢١)].
بل قد روى الترمذي(١١٢٢) عن ابن عباس قال: غنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى انه يقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شيئه حتى إذا نزلت الآية:﴿إلا على أزواجهم او ما ملكت أيمانهم﴾ قال ابن عباس: فكل فرج سوى هذين فهو حرام..

٧ رواه البيهقي في الكبرى(١٤٣٦٢) ج١٠، ص٤٧٩، كما رواه الطبراني في الوسط عن محمد ابن الحنفية ورجاله رجال الصحيح. راجع مجمع الزوائد(١٩٣٧)..
﴿ ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله اعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخذان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وان تصبروا خير لكم والله غفور رحيم٢٥ ﴾
﴿ ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ﴾ المحصنات الحرائر، والفتيات الإماء، فإن الإسلام لا يعبر عن العبد إذا أضيف إلى مولاه بالعبد، بل يعبر عنه بالفتى، وهذا من أدب الإسلام وتكريم الإنسان، ولذا ورد في الحديث الصحيح :"لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي"١. كما نهى النبي العبد عن ان يقول : سيدي وسيدتي، بل يقول : مولاي ومولاتي. والطول : القدرة والسعة في المال والجسم، ومعنى ملك اليمين، ان تكون في ملكه، وعبر باليمين لإفادة السلطان، فإن يمين الرجل مظهر قوته، وبها يكون الصفق في البياعات، فأضيف الملك إليها لأنها سببه. والآية بمضمونها أفادت أنه لا يحل الزواج من الإماء إلا إذا لم يكن في طوله ان يتزوج حرة. وقد اختلف الفقهاء في حدود الطول والقدرة، فقال أبو حنيفة : الطول ان يكون متزوجا حرة، فمن كان عنده حرة لا يجوز أن يتزوج امة، وإن عقد كان عقده باطلا. وقال مالك : الطول السعة والقدرة على المهر والنفقة، فمن عجز عن مهر الحرة ونفقتها وهو قادر على الزواج من امة فإنه يجوز له زواج الأمة، ولو كانت عنده حرة. وقال الشافعي، وهو قول عند مالك : إنه يجوز له زواج الأمة بشرطين، احدهما : عدم القدرة على زواج الحرة، والثاني : ان يخشى العنت أي المشقة الشديدة إن لم يتزوجها. وفسر بعض العلماء عدم الطول بان يتعلق بها وتهواها نفسه، بحيث يخشى على نفسه ان يقع معها في زنا إن لم يتزوجها.
واشترط الشافعي ومالك واحمد لإباحة زواج الأمة ان تكون مؤمنة كنص الآية، وابو حنيفة أباح الزواج من الأمة الكتابية إن لم يكن عنده حرة. وشدد الإسلام في إباحة الزواج من الإماء لحمل المالكين على عتقهن، فمن رغب في أمة فليشترها، وليعتقها ثم يتزوجها ؛ ولأن الولد يتبع أمه في الرق، فلمنع كثرة الرقيق قيد الزواج من الإماء بحيث لا يدخل بهن إلا أولياؤهن فيكون الولد حرا، ويعتق أمه، كما هو مدون في الفقه، او تعتق ثم يكون الزواج منها.
﴿ والله اعلم بإيمانكم بعضكم من بعض ﴾ هذه جملة معترضة بين إباحة نكاح الفتيات المؤمنات، وصورة العقد عليهن. وهذه الجملة السامية فيها فائدتان : أولاهما : التفتيش النفسي عن القلب، وما تخفيه الصدور بحيث يكون الشخص دائم التفتيش عن عيوبه، لأن الله تعالى اعلم بإيماننا منا، وهو سيحاسبنا على ما يعلم، وافعل التفضيل في قوله تعالى :"أعلم" على بابه، فهو اعلم منا بأنفسنا، او نقول إنه للعلم المطلق الذي لا يصل علم مهما يكن على مقداره، فيكون افعل التفضيل على غير بابه. والفائدة الثانية : بيان ان الناس جميعا من دم واحد وانه لا يصح أن يستعلى حر على عبد، ولا حرة على امة، فإن بعضنا من بعض، فقوله تعالى :﴿ بعضكم من بعض ﴾ أي أنكم جميعا تضمكم إنسانية واحدة، وكل له حقوقها وعليه واجباتها. فالعبيد من الأحرار ؛ لنهم من أصل حر، والأحرار قد يكونون من العبيد، والله سبحانه وتعالى فوق الجميع بالعدل، فلا يظلم بعضكم بعضا.
﴿ فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخذان ﴾ النكاح العقد ولا يستعمل في القرآن إلا بهذا المعنى، والمعنى : فاعقدوا عليهن عقد الزواج بإذن أهلهن، وأهلهن في هذا المقام هم المالكون لهن. وعبر عن المالكين بالأهل حملا للناس على الأدب في التعبير، ولأنه يجب ان تكون العلاقة بين العبد ومالكه علاقة اهل لا علاقة رق، ولذا يجب عليه ان يعطيه كل حقوق قرابته من مأكل ومسكن وملبس، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إخوانكم خولكم( أي مكنكم الله من رقابهم ) قد ملككم الله إياهم، ولو شاء لملكهم إياكم، أطعموهم مما تطعمون، واكسوهم مما تكسون"٢. وأمر سبحانه وتعالى بإعطاء المهور، وشدد في ذلك، وقال﴿ بالمعروف ﴾ أي بالقدر الذي لا يستنكر العرف، فلا يتخذ من كونها امة سبيلا لغمط حقها، وتصغير شأنها. وبين ان إعطاء الأجر يكون للأمة نفسها، وهذا يدل على انها تملكه وهو حقها، وهي تحتاج إليه في إعداد نفسها للزواج، وبذلك يثبت ان العبيد اهل للملكية، وقد أثبتت الملكية للعبيد والإماء – الظاهرية، وذلك ظاهر القرآن الكريم، كما تدل الآية الكريمة، إذ فرقت الآية بين العقد والمهر، فالعقد يتولاه المولى، والمهر تعطاه هي.
وقوله :﴿ محصنات غير مسافحات ﴾ حال من قوله :﴿ فانكحوهن بإذن أهلهن ﴾، وهنا وصف بالإحصان، أي العفة، الزوجات دون الأزواج، وذلك لأن الزوجات من الإماء، وهن مظنة الانزلاق ؛ إذ الرق والضعف وفقدان الحرية يكون معها الهوان، وحيث كان الهوان كانت الرذيلة قريبة ؛ لأنه لا شيء كالهوان يفتح السبيل للشيطان، ولذلك طالبهن الله تعالى وقد كرمهن بالزواج أن يحصن أنفسهن به، وان يباعدن السفاح، ولهذا المعنى كانت الجريمة من الإماء أقل شانا من الجريمة من الحرائر، وكانت العقوبة عليهن أقل. ومعنى اتخاذ الخدان اتخاذ الخليل الملازم من غير زواج، ولو باتفاق على مهر ونفقة، فالخدن هو الخليل، وهذه هي المتعة التي حرمها القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ فإذا أحصن فإن أتين لفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ معنى الإحصان هنا الزواج، فمعنى قوله تعالى :﴿ فإذا أحصن ﴾إذا تزوجن. وجاء الشرط ب
" إذا" الدالة على تحقق الشرط، لوقوع ذلك الإحصان وللترغيب فيه، والفاحشة هنا الزنا، والعذاب هو الحد، والمحصنات هنا الحرائر، وعبر سبحانه في جانب شرط الفاحشة ب"إن" في قوله﴿ فإن أتين بفاحشة ﴾، و"إن" تدل على الشك في وقوع الشرط ؛ لأن الفاحشة غير متوقعة وهي امر منفور منه غير متصور أن يكون مرغوبا فيه، وخصوصا من زوجة حرة او غير حرة.
ومرمى النص الكريم أن الأمة إذا ارتكبت الفحشاء تكون عقوبتها نصف عقوبة الحرة ؛ لأن الجريمة تهون بهوان مرتكبها وتعلو بعلو مرتكبها. وإذا علت الجريمة علت معها العقوبة، وإذا نقضت معها العقوبة، وهذا دليل على عدل الشريعة، وعلو الأحكام الإسلامية عن القانون الروماني وغيره من قوانين أهل الدنيا، ففي القانون الروماني كان العبد إذا زنا بحرة قتل، وإذا زنا الشريف حكم عليه بغرامة، فكان هذا ظلما، ولكن الإسلام قال إن عقوبة العبد على النصف من عقوبة الحر، فإذا زنا الحر الشريف جلد مائة أو رجم، وإذا زنا العبد عوقب بخمسين جلدة٣.
وإن الزواج من الإماء هو عند خشية العنت والمشقة، ولذلك قال سبحانه :
ذلك لمن خشي العنت منكم وان تصبروا خير لكم والله غفور رحيم } العنت المشقة الشديدة التي يخشى منها التلف او الوقوع في الزنا، والإشارة في قوله تعالى : ذلك لمن خشي العنت منكم } للزواج من الإماء المنوه عنه بقوله تعالى :﴿ ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات ﴾ و( خشي ) معناها خاف من امر متوقع هو قريب من الواقع، فالرق بين الخوف والخشية ان الخشية تكون من امر متوقع قريب الوقوع او واقع بالفعل، فكان زواج الإماء لا يباح إلا للضرورة او للحاجة الشديدة، ومع ذلك فالصبر أولى، ولذا قال :﴿ وان تصبروا خير لكم ﴾ فتحملوا مشقة الحرمان أولى من زواج الإماء ؛ لأن الولد يكون رقيقا، وفي ذلك تكثير للرق، لأنه لا يمكنه ان يقوم على تربيته وشئونه، ولأنها لا يتكون منها مع بقائها على رقها بيت زوجية صالحة ؛ إذ ستكون مطالبة بخدمة وليها، فالحياة الزوجية لا تكون كاملة، ولذا روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال :"الحرائر صلاح البيت، والإماء هلاك البيت"٤.
ومن هذا يكون السبيل للزواج بهن شراءهن وإعتاقهن، وبذلك يقل الرقيق، ويكثر الأحرار، وإذا دخل بها مولاها كان ابنه حرا وكان سبيلا لحريتها ومنع بيعها، فيكثر الأحرار. وقد ختم الله سبحانه الآية بقوله :﴿ والله غفور رحيم ﴾ للإشارة إلى عظيم رحمته بعباده فيما شرع، وإلى عظيم غفرانه لمن يرتكب إثما ثم يتوب، وإلى أن غفرانه من رحمته، إنه غفار لمن اهتدى. فاللهم اجعلنا من التوابين الذين ينالون مغفرتك، إنك انت التواب الرحيم.
١ متفق عليه، رواه البخاري: العتق –كراهية التطاول على العبيد(٢٥٥٢)، ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها(٢٢٤٩) عن ابي هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال:"لا يقل أحدكم اطعم ربك وضئ ربك اسق ربك وليقل سيدي مولاي، ولا يقل أحدكم عبدي أمتي وليقل فتاي وفتاتي وغلامي"..
٢ رواه بلفظ مقارب البخاري: الإيمان(٢٥٤٥)، ومسلم(١٦٦١) عن أبي ذر رضي الله عنه، كما رواه غيرهما من أصحاب السنن، وليس في هذه الرواية عندهم ذكر الملك..
٣ قال الآلوسى:﴿فإن أتين بفاحشة﴾ أي فإن فعلن فاحشة وهي الزنا وثبت ذلك. ﴿فعليهن﴾ أي فثابت عليهن شرعا﴿نصف ما على المحصنات﴾ أي الحرائر الأبكار﴿من العذاب﴾ أي الحد الذي هو جلد مائة، فنصفه خمسون ولا رجم عليهن لأنه لا يتنصف. وقال ابن كثير: وقوله:﴿نصف ما على المحصنات من العذاب﴾ يدل على ان المراد من العذاب الذي يمكن تنصيفه وهو الجلد لا الرجم، والله اعلم. وقال الثعالبي: و﴿المحصنات﴾ في هذه الآية: الحرائر؛ إذ هي الصفة المشروطة في الحد الكامل، والرجم لا يتنصف، فلم في الآية بإجماع..
٤ مسند الفردوس عن ابي هريرة مرفوعا، رواه الديلمي والثعلبي عن ابي هريرة وضعفه السخاوي[تنقيح القول الحثيث بشرح لباب الحديث – الباب الخامس والعشرين] وجاء في كشف الخفا (١١٢٣) ج٤، ص٤٠. رواه الثعلبي بسند فيه احمد بن محمد اليماني – متروك – عن يونس بن مرداس خادم أنس – وهو مجهول – انه قال: كنت بين انس وأبي هريرة، فقال انس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من احب ان يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر"، فقال أبو هريرة: سمعته يقول:" الحرائر صلاح البيت، والإماء فساد البيت"، أو قال:"هلاك البيت"..
﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم٢٦ والله يريد ان يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات ان تميلوا ميلا عظيما٢٧ يريد الله ان يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا٢٨ ﴾
بين سبحانه في الآيات السابقة المحرمات، ونبه إلى ما كان يقع فيه أهل الجاهلية من استباحة بعض هذه المحرمات، كزواجهم ممن كانوا أزواجا لآبائهم، وكاستباحتهم الجمع بين المرأة وأختها. وفي هذه النص الكريم يبين سبحانه ان ما قرره هو الهداية، وهو سنة الفطرة، وهو شريعة النبيين أجمعين. ثم بين سبحانه بالإشارة والعبارة ان تحصين الفروج مطلب ديني سام، وان الإحصان حماية لمعنى الإنسانية وترفع عن الحيوانية. وفي هذا النص بأهل الإيمان الخير، ولكن يريدون ان تتحكم الأهواء والشهوات لا يريدون بأهل الإيمان الخير، ولكن يريدون ان تتحكم الأهواء والشهوات، وتسيطر وتدفع إلى العبث والحيوانية. وقد قال سبحانه :
﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ﴾ معنى هذا النص الكريم ان الله تعالى يريد، بما شرع من أحكام، وما ذكر من محرمات، أن يبين ما فيه خيركم، وما فيه صلاح مجتمعكم، وما يعلو بكم من دركة الحيوان إلى سمو الإنسان، وما يحمل العلاقة بين الرجل والأنثى علاقة معنوية روحية، ولا تكون مادية حيوانية فقط، وما يحفظ النوع الإنساني متدرجا في سبيل الرقي، والسمو الروحي. ويريد سبحانه أن يبين سنن الذين من قبلكم، أي الطريقة المثلى التي كانت تسير عليها المجتمعات الفاضلة قبلكم، وما جاء به النبيون، وهدى إليه المرسلون، فيبين ان هذا هو سنن الذين من قبلكم وهو سنة الفطرة. ولم يصرح بأن ذلك هو ما جاء به النبيون، وغن كان ذلك مفهوما، بل صرح بان هذا هو سنن الذين من قبلكم للإشارة إلى انه امر مشتق من الفطرة الإنسانية. وان من يخالفه إنما يشذ عن مقتضى الفطرة وحكم العقل، وسنة الإنسانية. فبعض الملوك أو المم الذين استباحوا المحرمات كانوا في حكم الأجيال الإنسانية من شذاذ ؛ لأنهم خرجوا عن سنة الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
وفي النص القرآني الكريم مباحث لغوية لا بد من الإشارة إليها لتقريب المعنى السامي :
أولها – معنى اللام في قوله تعالى :﴿ يريد الله ليبين ﴾، فإن له تخريجات مختلفة، منها ان المعنى : يريد الله تعالى ذكر ما ذكر من محرمات ويقصد إليه ليبين لكم، فاللام على هذا تكون للتعليل، و"ان" مضمرة بعدها – ومنها ان اللام زائدة، وان النصب ب"أن" المحذوفة، وزيدت اللام لبيان أحكام إرادة الله سبحانه وتعالى في بيان ما يبين توثيق هذا البيان، وهذا ما اختاره الزمخشري في الكشاف – ومنها ان اللام هي الناصبة للفعل، وأنها بمعنى ان. فإن اللام قد تقوم مقام ان، وذلك إذا كان الفعل قبلها يدل على الإرادة او الأمر، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم... ٣٢ ﴾[ التوبة ] وفي الأول ذكرت اللام بدل"أن". وقوله تعالى :﴿ وأمرنا لنسلم لرب العالمين٧١ ﴾[ الأنعام ] وفي معنى قريب منه :﴿ وأمرت ان أسلم... ٦٦ ﴾[ غافر ] وقوله تعالى :﴿ وأمرت لأعدل بينكم... ١٥ ﴾[ الشورى ]، وهذا التخريج الأخير هو عند الكوفيين، والأولان عن البصريين، ونسب ثانيهما لسيبويه. وإن مفعول"يبين" محذوف، وقد دل عليه السياق، والمعنى يبين لكم ما فيه مصلحتكم، وتكوين جماعتكم الفاضلة العفيفة النزهة الطيبة.
وثانيها- قوله تعالى :﴿ ويهديكم سنن الذين من قبلكم ﴾، نرى ان"هدى" قد تعدت بنفسها هنا، ولم تعد ب"إلى" ولا باللام كما في قوله تعالى :﴿ الحمد لله الذي هدانا لهذا... ٤٣ ﴾[ الأعراف ]، وقوله تعالى :﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم٩ ﴾[ الإسراء ]، ويتعدى ب"إلى" كما في قوله تعالى :﴿ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم١٠١ ﴾[ آل عمران ] وقوله تعالى :﴿ وهديناهم إلى صراط مستقيم٨٧ ﴾[ الأنعام ] وقوله تعالى :﴿ أفمن يهدي إلى الحق أحق ان يتبع... ٣٥ ﴾[ يونس ]. وفي الواقع ان اختيار القرآن الكريم للتعبيرات المختلفة من حيث إنه يعبر أحيانا بالتعدية ب"إلى"، وأخرى باللام، وثالثة بنفسها، يكون لمعان اقتضاها المقام. ويصح ان يقال إنها تعدت هنا بنفسها لتضمنها معنى البيان وقبول الفطرة السليمة لهذا البيان، فمعنى يهديكم سنن الذين من قبلكم : بينها لكم بيانا مشفوعا بالقبول منكم لأنه الفطرة.
وثالثها : معنى سنن الذين من قبلكم : السنة هي الطريقة، وفي أكثر استعمالها تكون للطريقة المثلى الهادية إلى الحق، وسنن الذين من قبلكم قيل هي شرائع النبيين، والذي نراه هو ان السنن هي طرائق الذين سبقوكم من الأمم التي سارت على الفطرة، فحرمت هذه المحرمات بوصايا الأنبياء السابقين، وإحكام العقل المستقيم والطبع السليم.
﴿ ويتوب عليكم والله عليم حكيم ﴾ قرن سبحانه وتعالى التوبة بعد هذا البيان لسببين :
أحدهما – ان يبين ان الله تعالى فاتح باب التوبة دائما، فمن تاب من الذنوب صغيرة او كبيرة، فغن الله يتوب عليه، ويغفر له ما تقدم من ذنبه إذا كانت توبته نصوحا.
وثانيهما – ان الآيات السابقة تتضمن تحريما لأمور كان أهل الجاهلية يستبيحونها، فقد كانوا يستبيحون نكاح زوجات الآباء، ويستبيحون الجمع بين المحارم، ويستبيحون اتخاذ الأخدان، وهو ما يسمى اتخاذ الخلائل في عصرنا، وكانوا يثبتون بذلك النسب، فبين الله حرمة هذا كله، ولا تزال تطلع على طائفة من الناس يعيشون عيشة اهل الجاهلية في اتخاذ الأخدان، ويستبيحونها، وقد ذكر سبحانه وتعالى لهذا ان الله بين الحلال والحرام، وعلى المرتكب لأي محرم ان يقلع، وغن الله تعالى يتوب عليه، والتعبير عن قبول التوبة في كل الواضع﴿ يتوب عليكم ﴾ في التعدي ب"على" ؛ للإشارة إلى ما يتضمنه معنى قبول التوبة من ستر للذنوب، ومنع لكشفها، فهي غطاء على المعاصي يمنعها من الظهور، حتى يذهب تأثيرها في النفس، وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة والإنعام المستحق وحده للعبودية مطلع على كل ما يعمل الإنسان من خير وشر، وهو يعلم الذنوب التي يقع فيها العباد، وهو الذي يغفرها عند التوبة، وإنه سبحانه وتعالى حكيم يضع الأمور في مواضعها، فيغفر ويقبل التوبة من عباده إذا أخلصوا النية واعتزموا الخير وأقلعوا عن الشر.
وقد بين سبحانه محبته للتوبة فقال :
﴿ والله يريد ان يتوب عليكم ﴾ هذا النص يفيد إرادة الله سبحانه وتعالى قبول توبة عباده، وستر ذنوبهم وغفرانها، وذلك إذا أقلعوا عن هذه الذنوب، وتابوا إلى الله توبة نصوحا ؛ لأن الله تعالى يريد التوبة من عباده عما أسلفوا من ذنوب، وقد بين لهم طريق الحق، والوصول إليه، وان الماضي من الذنوب لا يعوق عن الاتجاه إلى الله ولا يكون سببا للقنوط من رحمته، كما قال تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله عن الله يغفر الذنوب جميعا غنه هو الغفور الرحيم٥٣ ﴾[ الزمر ] وعلى ذلك تكون إرادة الله تعالى للتوبة عليهم متضمنة بيان الهداية لهم، ووجوب سلوك طريق الفطرة المستقيمية، وتسهيل الرجوع إليه سبحانه لتتطهر نفوسهم وتصغي إلى الحق أفئدتهم، وغفران الذنب إن أحسنوا التوبة واخلصوا النية، واعتزموا السير في طريق الحق، وإنه في الوقت الذي يريد الله للناس الهداية والتوبة – يوجد – من إخوان إبليس من يحرضون على الغواية، ولذا قال سبحانه :
﴿ ويريد الذين يتبعون الشهوات ان تميلوا ميلا عظيما ﴾ هذه إشارة إلى كمال المباينة بين دعوة الحق التي يدعو إليها الله سبحانه وتعالى، ويبين سبلها، ودعوة أولياء الشيطان، فغن دعوة الله تعالى هي دعوة إلى الفطرة السليمة التي لم تنحرف، ولم تخرج عن النجد السوي، ليس فيها تحريم للطيبات ومتع الحياة وليس فيها انطلاق إلى الأهواء والشهوات والخروج عن سنن الفطرة المستقيمة.
وأما دعوة أولياء الشيطان، فهي دعوة إلى الانحراف، والميل إلى جانب الشهوة ميلا عظيما، ينحرف به عن سبيل الإنسانية المهذبة. وهذا الكلام يدل على ان الناس في كل عصر يوجد فيهم داعيتان : احدهما إلى الحق والاعتدال، وأولئك يدعون بدعاية الرحمن، وهداية الأديان لا تحرم ما احل الله من طيبات، ولكن بقدر لا اعتداء فيه ولا انحراف، وآخرون هم داعية الشيطان، وهؤلاء يكونون بأعمالهم وأقوالهم وأشعارهم في الماضي وصحفهم في الحاضر داعين إلى الانحراف، وعبر عن هؤلاء سبحانه بقوله :﴿ ويريد الذين يتبعون الشهوات ﴾ أي انهم، بسبب استغراق الشهوات لنفوسهم وصيرورتها قائدا لهم يتبعونه، وقد أصبحوا يريدون ان يكون الناس على شاكلتهم من الانحراف. وقد بين سبحانه إرادتهم للمهتدين فقال :﴿ أن تميلوا ميلا عظيما ﴾، والميل أصله الانحراف من الوسط إلى جانب من الجوانب، ولما كان الاعتدال فيه العدل أطلق الميل على الجور والاعتداء، وهؤلاء لا يكتفون بمجرد الميل يريدون الناس عليه، بل يريدون ان يميلوا ميلا عظيما، أي يريدون ان ينحرفوا انحرافا مطلقا فيبتعدون عن الاعتدال إلى أقصى الانحراف.
سبحانك ربي، ما أصدق بيانك واحكم قرآنك ! إننا نجد الآن كما كان في الماضي الذين يتبعون الشهوات ويريدون من اهل الحق ان يميلوا ميلا عظيما، فهؤلاء الآن يدعون على مجونهم، مرة باسم الوجودية، وأخرى باسم التحرر، وثالثة باسم الحرية، وقد كتبوا في ذلك كتبا، ونشروا قصصا مثيرة يدعون إلى أن يميل الناس كل الميل، واسترسلوا في ذلك استرسالا بكل وسائل الدعاية، فمن خيالة تري المناظر المثيرة، ومناظر في الطرقات تحرض على الفسق والمجون، ومن استباحة علنية لكل ما يخالف الدين والخلق لتتحقق إرادتهم، ولكن إرادة الله تعالى غالبة بعونه سبحانه.
﴿ يريد الله أن يخفف عنكم ﴾ يريد الله تعالى بهذه الأحكام التي ليست فيها شدة تنوء القوى الإنسانية، وليس فيها حرمان من الطبائع البشرية، كما انها لا تفتح باب الشهوات والعبث والمجون، يريد سبحانه ان يخفف عنكم، فلا يكون فيكم الحرمان من متع الحياة، ولا يكون فيكم الانطلاق الذي يحل جماعتكم، ويسلط عليكم الأهواء والشهوات، فترديكم، وتذهب ريحكم، فشرع الله تعالى إباحة الطيبات، ومن حرمها فقد خالف أمر ربه إذ قال سبحانه :﴿ لا تحرموا طيبات ما احل الله لكم... ٨٧ ﴾[ المائدة ] وقال تعالى :﴿ قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق... ٣٢ ﴾[ الأعراف ] وقال صلى الله عليه وسلم :"كلوا واشربوا والبسوا من غير سرف ولا مخيلة"١، وليس في الإسلام رهبانية، ولا انقطاع عن النساء، ولكن ليس فيه إباحة مطلقة، وكان ذلك التخفيف في التكليف ليسهل على الإنسان الاحتمال، وقد قال تعالى :
﴿ وخلق الإنسان ضعيفا ﴾ أي خلق الله تعالى الإنسان والضعف ملازم له، وليس الضعف المذكور هو الضعف البدني فقط، بل يشمل الضعف النفسي، فالتكليفات يلاحظ فيها ذلك الضعف، ولذلك كانت كل التكليفات يسهل تعويد النفس عليها، ولا يصعب احتمالها والمداومة عليها، وقد حث الإسلام على السهل من الأعمال التي تمكن المداومة عليها، ولذا قال عليه الصلاة والسلام :"أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"٢، ولضعف الإنسان أبيح له من الشهوات ما لا يجعله عبدا لشهوته، بل يكون سيدا عليها، وإن أبرز مظاهر الضعف الإنساني يكون اما النساء، ولذا أبيح له مثنى وثلاث ورباع، من غير بغي ولا ظلم. ، ولقد قال سعيد بن المسيب : ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلا آتاهم من قبل النساء، فقد اتى علي ثمانون سنة، وذهبت إحدى عيني، وأنا أعشو بالأخرى، وإن اخوف ما اخاف على فتنة النساء٣ ! وقانا الله تعالى شر ضعف نفوسنا، وقوى عزائمنا وهدانا إلى الحق، والله سبحانه وتعالى يتولانا برحمته.
١ ذكره البخاري تعليقا، وسبق تخريجه من رواية النسائي وابن ماجة واحمد عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما..
٢ عن عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"سددوا وقاربوا واعلموا ان لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وان احب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل". رواه البخاري: الرقاق – القصد والمداومة على العمل (٦٤٦٤)..
٣ عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما تركت فتنة أضر على الرجال من النساء"[رواه البخاري: النكاح – ما يتقى من شؤم المراة (٥٠٦٩)، ومسلم: الذكر والدعاء – أكثر اهل الجنة الفقراء(٢٧٤٠)]..
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا ان تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما٢٩ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا٣٠ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما٣١ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسئلوا من فضله إن الله كان بكل شيء عليما٣٢ ﴾
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى الأسس التي يقوم عليها بناء الأسرة، وكيف يختار كل واحد من الزوجين صاحبه، وبين الآفات التي قد تعترى الأسرة في ابتداء تكونها، وبين ان دعائم الأسرة التي يقيمها عليها هي من فطرة، وهي سنن الذين كانوا قبل الإسلام. وبعد هذا انتقل إل العلاقات الاجتماعية العامة، وذلك تدرج من الخاص إلى العام، فالعلاقات في الأسرة خاصة والعلاقات بالمعاملات العامة، وذلك تدرج من الخاص إلى العام، فالعلاقات في الأسرة خاصة والعلاقات بالمعاملات المالية علاقة عامة، ولذا قال :
﴿ يا أيها الذين آمنوا ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ أكل المال معناه أخذه، وأطلق الأكل وأريد به الأخذ للإشارة إلى الأصل في وظيفة المال الإنسانية وهو ان يكون وسيلة لمتع الحياة التي اخصها الكل، وإذا تحول المال من كونه وسيلة لنيل المطاعم إلى ان يقصد لذاته ليكون كمتعة مطلوبة كالكل، فعندئذ يكون الشح والحرص والتنازع على طلبه بحل او بغير حل، وهذا شان من يأخذون الباطل يستمتعون به كما يستمتع الآكل بالطعام. وعبر بأموالكم للإشارة إلى ان مال آحاد الأمة مال الأمة موزعا بين آحادها بتوزيع الله تعالى الذي قسم الأرزاق، وان المال كله في حماية المجتمع، ولو كان مملوكا ملكا خاصا. وذكر كلمة﴿ بينكم ﴾للإشارة إلى ان التبادل بين الآحاد يكون على أساس من الحق، ولا يكون بالباطل، والباطل هو الطرق المحرمة لجمع المال كالربا والرشوة والسرقة والغصب والنصب والتزوير والغش والتدليس والاحتكار الآثم، وغير هذا من الأساليب التي لا تبيحها شريعة ولا يبيحها قانون.
﴿ إلا ان تكون تجارة عن تراض منكم ﴾ الاستثناء هنا منقطع، والمعنى لكن يباح لكم اخذ المال بالتجارة الناشئة عن تراض، فلا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفس أخيه١، كما ورد في بعض الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يسأل سائل : لماذا جاء هذا بعد النهي عن أكل مال الناس بالباطل ؟ والجواب عن ذلك أن بعض ما يستباح مما حرمه الله يشبه بالتجارة، فالذين يأكلون الربا يشبهون الزيادة بالكسب الذي يجئ من البيع والشراء، ولذلك حكى الله سبحانه عن المشركين انهم قالوا :﴿... إنما البيع مثل الربا... ٢٧٥ ﴾[ البقرة ] ورد اله قولهم :﴿... واحل الله البيع وحرم الربا... ٢٧٥ ﴾[ البقرة ] وبهذا بين الله سبحانه وتعالى حل التجارة حتى لا يتوهم احد ان مكاسب التجارة من أكل أموال الناس بالباطل، فإنها مال حلال ما دام أساسها التراضي وطيب النفس.
والتراضي أساس العقود عامة وأساس المبادلات المالية خاصة، فلا بيع من غير تراض ولا شراء ولا إجارة ولا شركة ولا غيرها من عقود التجارة ما لم يتحقق الرضا. وقد وسع الفقهاء الباب للرضا، فأباحوا للعاقد ان يفسخ العقد إذا خفيت العيوب ولم تظهر ؛ لأن الرضا لم يكن على أساس سليم، وأباحوا للعاقد أن يشترط لنفسه حق الفسخ، ومن الفقهاء من أباح له الفسخ طول مدة مجلس العقد، ولو أعلن الرضا، ولذلك كله للاحتياط، ولكن يكون الرضا على أساس من العلم الصحيح والجزم القاطع، والبت القائم على بينة ومعرفة.
وهل التراضي أساس حر للتعاقد من غير قيد يقيده إلا التحريم ؛ بمعنى ان كل ما يشترط ويتعاقد عليه المتعاقدون يكون حلالا ملزما للعاقدين ولو لم يرد به نص خاص ؟. للفقهاء في ذلك منهاجان مختلفان أحدهما : ان التراضي أساس للإلزام والالتزام ولو لم يرد نص لكل عقد وشرط مادام لا نص يمنع، فكل ما يشترطه العاقدان ويتراضيان عليه يكون لازما لا يصح نقضه، إذا لم يكن نص يحرمه، ولقد قال في ذلك عمر – رضي الله عنه - : مقاطع الحقوق عند الشروط. وأكثر الحنابلة وبعض المالكية على ذلك المنهاج. والمنهاج الثاني : انه لا يلزم من الشروط والعقود إلا ما جاء الدليل على وجوب احترامه، وهذا منهاج الشافعية والحنفية فعندهم لا يلزم الشرط إلا إذا قام الدليل على وجوب الوفاء به.
والتجارة باب من أبوا الكسب الطيب وفيها فائدة للناس، وهي تنقل ما فيه الحاجة الإنسانية من مكان إلى مكان، وبهذا النقل تتغير قيمة الأشياء بالتحويل الصناعي، فإن الحديد مثلا إذا تحول إلى آلة زادت قيمته بما زادت الصناعة فيه، فكذلك بنقل البضائع من مكان إلى مكان تزيد القيمة بهذا النقل.
وإن علماء المسلمين كانوا يرحبون بالتجارة التي تنقل البضائع من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم، ولا يرحبون بالتجارة في البلد الواحد ؛ لأن هذا ليس فيه طلب للأرزاق، ولأنه قد يؤدي إلى الاحتكار، وقد جاء في القرطبي :"والبياعات التي تحصل بها الأغراض نوعان : تقلب في الحضر من غير نقلة ولا سفر، وهذا تربص واحتكار، قد رغب عنه أولوا الأقدار، وزهد فيه ذوو الأخطار.
والثاني : تقلب المال بالأسفار، ونقله إلى الأمصار، وهذا أليق بأهل المروءة واعم جدوى ومنفعة"٢.
وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حث على الاتجار بالنقل من بلد إلى بلد، ومنع الاحتكار وما يؤدي إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"المحتكر خاطئ والجالب مرزوق"٣.
﴿ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ﴾ جاء هذا بعد النهي عن أكل أموال الناس بالباطل ؛ لأن المال عند الناس بمنزلة النفس او قريب منها، وقد اختلف العلماء في معنى قوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ فقال بعضهم : معناه لا يقتل أحدكم نفسه، فإن ذلك إثم، ومن قتل نفسه فقد اعتدى على نفس حرم الله قتلها، وهذا تأويل متفق مع السياق، وإن كان ظاهر اللفظ ربما يفيده، وقال بعضهم : عن المعنى ولا يقتل بعضكم بعضا ؛ فإن قتل واحد منكم للآخر قتل لأنفسكم، وتحريض على الدماء بينكم، وقتل نفس كقتل الناس جميعا، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا٣٢ ﴾[ المائدة ] وإن السياق على هذا يكون فيه ترق في النهي عن الاعتداء، ابتدأ بمنع الاعتداء على المال، ثم بمنع الاعتداء على النفس، فهو انتقال من الكبيرة إلى اكبر منها. وقال بعضهم إن المعنى لا تقتلوا أنفسكم بأكل بعضكم أموال بعض، وبارتكاب المعاصي، فغن ذلك مفرق لجماعتكم مفسد لأمركم مذهب لوحدتكم، وبذلك تقتل الأمم والجماعات، وقد ارتضى هذا ابن بشير فقال :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ أي بارتكاب محارم الله تعالى ومعاصيه، واكل أموالكم بينكم. وإن هذا هو الذي نرتضيه، وهو يتضمن في ثناياه النهي عن القتل بكل ضروبه لأنه داخل في محارم الله.
وقد ذيل الله سبحانه وتعالى النص بقوله تعالت كلماته :﴿ إن الله كان بكم رحيما ﴾للإشارة إلى ان الله نهى عن هذه المحرمات وأباح هذه المباحات من التجارة بكل أنواعها رحمة بكم، فكل شرع الله رحمة، وكل شرع صادر عن رحمة الله التي هي شان من شئونه٤، كما قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين١٠٧ ﴾[ الأنبياء ].
١ " إنه لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه" جزء من حديث رواه أحمد(٢٠١٧٢): اول مسند البصريين عن عم أبي حرة الرقاشي..
٢ راجع الجامع لأحكام القرآن: تفسير سورة النساء (٢٩). الجزء ٥، ص٣١..
٣ روى مسلم في صحيحه: المساقاة – تحريم الاحتكار في الأقوات (١٦٠٥) انه كان سعيد بن المسيب يحدث ان معمرا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من احتكر فهو خاطئ".
ومعنى الاحتكار: إمساك السلعة وعدم بيعها حتى يرتفع ثمنها..

٤ قال ابن جرير الطبري – ج٥، ص٢٠: "فإنه يعني ان الله تبارك وتعالى لم يزل رحيما بخلقه، ومن رحمته بكم كف بعضكم عن قتل بعض أيها المؤمنون، بتحريم دماء بعضكم على بعض إلا بحقها، وحظر أكل مال بعضكم على بعض بالباطل، إلا عن تجارة يملك بها عليه برضاه وطيب نفسه، لولا ذلك هلكتم واهلك بعضكم بعضا قتلا وسلبا وغصبا" ا هـ..
﴿ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا ﴾ الإشارة هنا إلى أمرين : أكل أموال الناس بالباطل وما يتضمنه من معاص وطرق للشر مختلفة، والثاني ما يترتب عليه من قتل نخوة الأمة وتفرق أمرها، وذهاب وحدتها وتمكن أعدائها منها. والنص تهديد شديد، والعدوان في أصل اللغة معناه مجاورة الحد المشروع قصدا، والظلم وضع الشئ في غير موضعه، وهما متلاقيان في المعنى، والجمع بينهما كان ليشمل العذاب كل أحوال الارتكاب، وليخرج ما كان غير مقصود، فمن الظلم ما لا يكون مقصودا لمن يتلف مال غيره غير قاصد، فإنه ظالم ويعوض ما تلف، ولكن لا يكون له ذلك العذاب الشديد.
وقوله :﴿ فسوف نصليه نارا ﴾ وإن إنزال ذلك العذاب الشديد ليس أمرا على الله عسيرا، ولكنه على الله تعالى يسير سها، ولذلك قال :﴿ وما كان ذلك على الله يسيرا ﴾ فكل ما في الكون ما غاب منه وما ظهر هو في قبضة يده، وإن بيان يسر هذا العذاب فيه تهديد أشد، وفيه بيان لقوة الله تعالى وعظمته في العقاب وفي الثواب معا.
﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ بعد ان انذر سبحانه وتعالى ذلك الإنذار الشديد فتح باب التوبة حتى لا ييئس العباد من رجمته، ولا يقنطوا من العودة إليه سبحانه فقال :﴿ إن تجتنبوا ﴾، والاجتناب معناه البعد، حتى تكون المعاصي في جانب وهو في جانب، ولا يتلاقيا قط، ومعنى التكفير ستر السيئات او إبعادها وإماطة أذاها عن النفس، فإن التوبة الصادقة النصوح كالماء الطهور تطهر النفس. وفي النص إشارة إلى ان المعاصي قسمان كبائر وصغائر، وسمى الصغائر هنا سيئات لأنها تسوء صاحبها وتؤلمه وتسوء في ذاتها، ولا تتعدى في كثير من الحيان، وسماها في آية أخرى اللمم، فقال تعالى :﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم... ٣٢ ﴾[ النجم ] أي ما يلم به الإنسان من غير إصرار عليه، ولا استمرار فيه، ومن هذين الوصفين نستطيع ان نعرف صغائر الذنوب بأنها ما تسوء في ذاتها من غير تعد ويرتكبها الشخص من غير إصرار، فإن الإساءة تتعدى وتفحش، وغن كان ثمة إصرار فليست صغيرة.
وبتعريف الصغائر نستهدي إلى تعرف الكبائر، وقد روى في الصحيحين ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل : يا رسول الله وما هن ؟ قال :"الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، واكل الربا، واكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات"١، ولا شك ان هذا الحديث لا يدل على الإحصاء للكبائر، فقد ذكر في احاديث أخرى ان منها عقوق الوالدين، وشرب الخمر، وقد جاء في حديث آخر ان من أكبر الكبائر الزنا، وأفحشه٢ ما كان بحليلة الجار. وقد قيل لابن عباس : الكبائر سبع، فقال رضي الله عنه : هي إلى سبعمائة أقرب. لأنه لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار.
وإننا إذا تتبعنا الكبائر التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم من غير إحصاء، نرى انها قد اتسمت بسمتين – إحداهما : انها تهدم أمرا ضروريا من ضروريات المجتمع، فالزنا يهدم الأسرة، والقذف يهدمها ويشيع الفاحشة، وشرب الخمر يفسد العقل وهو ضروري للمجتمع، والسحر يفسد العلاقات الإنسانية، وعقوق الوالدين ينقض بناء الأسرة من قواعده، وهكذا – والسمة الثانية : ان الاعتياد عليها يميت الضمير، ويجعل النفس تمرن على الشر.
ولذلك نقول : عن الكبائر هي المفاسد التي تهدم بناء المجتمع الفاضل، والمعاصي التي يصر عليها الشخص ومن شأنها ان تفسده او تفسد غيره، ولو كانت في ذاتها هينة ؛ لن استمرار النفس للمعصية الصغيرة يسهل الكبيرة٣.
﴿ وندخلكم مدخلا كريما ﴾ وعد الله الذين يباعدون الكبائر عن نفوسهم بان يكفر عنهم سيئاتهم، وإنه ليس بعد زوال السيئات إلا الثواب، ولذلك قال تعالى :﴿ وندخلكم مدخلا كريما ﴾."المدخل" اسم مكان من"أدخل"، وعبر بالإدخال للإشارة إلى ان ذلك تفضل من الله ورحمة، إذ لم يملكوا الأسباب والمفاتيح إلا بتفضل منه ورحمة، ووصف المكان بالكرم للإشارة إلى أمرين : احدهما : انه مكان طيب، ينعم المقيم فيه، ويستطيب الإقامة، والثاني : أن من يحل فيه يكرمه الله تعالى، ويفيض عليه برضوانه، فهو مكان كريم في ذاته، ولا يدخله إلا كريم مكرم يفيض الله تعالى عليه بكرمه ومنته.
١ متفق عليه؛ رواه البخاري: الوصايا – قول الله تعالى﴿إن الذين يأكلون أموال﴾(٢٧٦٧)، ومسلم: الإيمان –بيان الكبائر وأكبرها. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال:"الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، واكل الربا، واكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات"..
٢ يؤيده ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال:"أن تجعل لله ندا وهو خلقك" قلت: إن ذلك لعظيم. قلت: ثم أي؟ قال:"وان تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك" قلت: ثم أي؟ قال:"أن تزاني حليلة جارك". رواه البخاري: تفسير القرآن..
٣ عن عبد الله بن مسعود ان رسول اله صلى الله عليه وسلم قال:"إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه" وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل فيجيء بالعود حتى جمعوا سوادا فأججوا نارا وانضجوا ما قذفوا فيها..
﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ التمني تصور ما لا حقيقة له وطلب ما لم تتخذ الأسباب لتحصيله، ويتضمن معنى الطمع فيما في يد الغير، والحسد له، وإن ذلك يؤدي إلى شقاء النفس وفساد الخلق والدين، وإن الله تعالى فضل بعض الناس بالعقل والذكاء، وبعضهم بالجاه، وبعضهم بالقدرة على إدارة شئون الدولة، وبعضهم بفضل من المال. والفضل معناه الزيادة لا ترتيب الدرجات، فقد يكون المفضول أعلى درجة عند الله ممن زاد عليه. ومعنى النص الكريم : لا تتمنوا ولا تطيعوا وتتطلعوا على ما زاد اله به بعضكم على بعض في المال او الجاه او العمل او الجهاد، فإن ذلك يجعلكم في اضطراب وبلبال مستمر وقلق دائم يزعجكم ويزعج بكم، وما كانت الانقلابات الاجتماعية والفتن المخربة إلا بسبب تطلع كل إنسان لما اعطاه الله غيره من فضل ليس عنده، فذو المال يحسد ذا العقل والتدبير، والفقير يحسد ذا المال، وهكذا يكون كل إنسان في انزعاج بسبب تمنيه وتطلعه لما لا يستطيع.
وإن الله سبحانه وتعالى قد سهل عمل الخير لكل إنسان، وله من نتائج عمله الجزاء على قدر العمل، وغن التكليف على قدر الطاقة وعلى مقتضى التكوين الإلهي للأشخاص والأنواع، ولذلك قال سبحانه :
﴿ للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ﴾ عن للرجال حظا مما اكتسبوا من أعمال قاموا بها من جهاد في سبيله، وغدارة لشئون المسلمين، وفصل في الخصومات، وقيام بالتكليفات العامة، وللرجال حظ من الأموال بمقدار ما يكلفون من أعمال اجتماعية، وللنساء نصيب واجر مما اكتسبن، فلهن جزاء على آلام الحمل وآلام الوضع، وآلام التربية والسهر على الطفل والرعاية لشئونه، والصبر على هذه الرعاية، ولهن الجزاء الأوفى على القيام على مملكة البيت التي هي راعيتها، ولهن من المال في الميراث بمقدار ما يكلفن من تكليفات اجتماعية، فليرض كل من الرجال والنساء بحظهم الذي يتفق مع تكوينهم وكل له جزاؤه في الواجبات العامة لكلا الصنفين، والواجبات الخاصة بأحدهما، ولا يتمن احد ما ليس له.
﴿ واسألوا الله من فضله ﴾ أي لا تتمنوا ولا تتطلعوا إلى ما لم تتخذوا الأسباب له، واتجهوا إلى الله تعالى علام الغيوب الرزاق ذي القوة المتين، واسألوه ما يتفضل به عليكم، وما يزيدكم به من حظوظ الدنيا والآخرة، فإنكم عندئذ تطمئنون وتستقر نفوسكم، ويبعد عنكم القلق والانزعاج، والله سبحانه هو المعطي الوهاب.
﴿ إن الله كان بكل شيء عليما ﴾إن الله تعالى ذو الفضل العظيم وهو يعطي من فضله بمقدار علمه وبمقدار تكوينه للأشياء وتقديره لما يصلح، وغنه سبحانه وزع الأرزاق والمواهب بمقتضى علمه، فجعل من الناس الغني والفقير ؛ إذ لو كان الناس سواء في الغنى والفقر ما كان من يعمل بيده ويزرع الأرض، ويقيم العمران وينمي الزرع والحرث، ولو كان الناس جميعا ذوي مواهب عالية ما وجد من ينفذ ما يفكر فيه أولئك العلماء، و لو كان الناس جميعا ساسة ما وجد من يسوسونه، ولكان الاختلاف ولا يكون الناس أمة واحدة، وإن الناس كهرم قاعدته أوسعه ساحة، ثم يعلو حتى يضيق أعلاه، والقاعدة هي أساس البناء، وإن ذلك التنظيم هو مقتضى العلم ومقتضى النظر، اللهم إليك الأمر والنهي والتقدير، قد فوضنا كل أمورنا إليك، وإنك نعم المولى ونعم النصير.
﴿ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا٣٣ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله والتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا٣٤ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من اهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا٣٥* ﴾
في الآيات السابقة ذكر سبحانه وتعالى انه جعل لكل من الذكور والإناث حظه مما اكتسبه، رجالا ونساء، فليس لحد ان يتمنى ما فضل به غيره عليه، وإلا عبث الشيطان بعقله وقلبه، فالأماني الكاذبة مطايا الشيطان دائما.
وفي هذا النص الكريم يبين انه جعل كذلك حظوظ الميراث بما قدر سبحانه وتعالى، وقد جعله في الأولياء النصراء الذين كان يستنصرنهم في حياته، ويأمن بهم من الاعتداء والجور، ففي ظلمهم وقربهم كان كسبه، فيكون لهم بعد وزفاته ما قدره العليم بكل شيء. وقد قدر سبحانه الميراث بنوع القرابة وقربها، لا بآحادها كالشأن في كل الشرائع والقوانين، تقدر أحكامها بالأنواع لا بالآحاد، ولذا قال تعالى :
﴿ ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم ﴾ المولى هو النصير والصديق والقريب، ويقول الأصفهاني في مفرداته :"الولاء والتوالي ان يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث ذلك للقرب والنصرة والاعتقاد"، واقرب المعاني هنا ان يكون الموالي هم الذين يخلفون الشخص في ماله وشخصه، فتكون حياتهم امتدادا لحياته، وهم الوارثون. والمعنى كما يبدو من النص الكريم : ولكل احد ممن يتركون هذه الحياة الدنيا إلى الحياة العليا جعلنا خلفاء له في ماله من أقرب الناس له، وأكثرهم نصرة، ويكون لكل من هؤلاء الأولياء حظ من ماله يأخذه، وهؤلاء هم أبناؤه وأقاربه والذين عقدت أيمانكم. وفي النص الكريم بعض مباحث لفظية ومعنوية.
فالنص يشير اولا إلى ان الذين يخلفون الآباء والأقربين والذين عقدت الأيمان هم النصراء والأقارب الأدنون ؛ لنهم شاركوه في الجهد بنصرتهم وقرابتهم، ولن بقاء شخصه يكون ببقائهم، والنص يشير ثانيا إلى ان المال الذي يتركه موزع بين هؤلاء لا يستبد به قريب، إذا اتحدت درجة القرابة وقوتها ؛ لن الميراث يتبع الاقربية، فهو للأقرب فالأقرب. ويشير ثالثا إلى سبب الميراث، وهو القرابة ويدخل فيها الزوجية هنا ؛ لن الزواج يوجد ارتباطا نفسيا يكون كالقرابة، بل يكون أقوى من بعضها، فتصير المرأة بضعة من الرجل. والسبب الثاني هو عقد اليمين، ويقال عقدت الأيمان لكل عقد قوي موثق، والأيمان هنا هي الأيدي جمع يمين، وهي اليد اليمنى ؛ لأن العقد الموثق يضع فيه يده في يد الآخر عند عقده، ولذلك يقال للبياعات الصفقات ؛ لن كل عاقد يصفق بيمينه على يمين الآخر. ومن هم﴿ والذين عقدت أيمانكم ﴾ كما جاء في النص ؟. لقد نسب إلى الأستاذ الشيخ محمد عبده أنه قال : إن المراد الأزواج ؛ لن سبب الميراث هو عقد الزواج والقرابة، والأكثرون بل الجميع من المتقدمين على أن المراد عقد الولاء، وهو ان يعقد الشخص مع رجل أقوى منه نصيرا على أن تكون له نصرته، وان يرثه إذا لم يكن له وارث، فالأقوى ينصر الأضعف، ويرثه إذا مات، وقد كان ذلك واقعا. وقال بعض الفقهاء : إنه نسخ الميراث به، كما نسخ الميراث بالإخاء، وقال الحنفية ومعهم بعض الفقهاء : إنه ما زال باقيا لم ينسخ، وهذا ما نميل إليه، ونحن بهذا نخالف ما نسب إلى الأستاذ الشيخ محمد عبده، ونخالف من ادعوا النسخ، ووجهتنا في الأول أن القرآن الكريم لم يعبر عن أحد الزوجين بمن عقدت أيمانكم ؛ لأن الحياة الزوجية ليست العلاقة فيها مجرد تعاقد بين الرجل والمرأة، بل هي بعد استقرارها تكون ازدواجا نفسيا، فتكون هي قطعة منه ويكون هو قطعة منها. وتكون بينهما لحمة أقوى من لحمة النسب، إذا أعقبا أولادا يتكونون من أجزائهما، فيريان فيهم شخصيهما قد اندمجا، فكانا ذلك الحي الذي هو خلب الكبد.
وأما وجهتنا في عدم نسخ الميراث بالولاء، فهي أنه لا يوجد دليل ناسخ/ وما وجد من السنة هو ظني أولا، والظني لا ينسخ القطعي، وقد ورد في نسخ الإخاء، وقد حلت القرابة محل الإخاء، والميراث بالولاء لا يتعارض مع الميراث بالقرابة ؛ لأنه يكون إذا لم يكن الشخص أحد من الأقارب قط، وبذلك لا يكون للولاء قوة القرابة، ولكن تكون له قوة الوصية التي تتأخر عن القرابة والزوجية، وإن أقصى ما يدل عليه عقد الولاء ان يقدم على بيت المال، وهو مؤخر عن الوصايا الصريحة إذا كانت لا تزيد على الثلث، وبذلك تكون النصرة الخاصة مقدمة على النصرة العامة ؛ إذ عقد الولاء سبب للنصرة الخاصة والأمة هي النصير العام، وإن بيت المال يأخذ المال الضائع، وما دام قد جعل المال لواحد من بعده فإنه لا يعد ضائعا.
﴿ فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا ﴾ إذا كان توزيع التركات بجعل الله تعالى وتقديره، فيجب أن يؤتى كل واحد حظه منه ؛ إذ هو نصيب لم يكن بمنحة من احد، ولكن بعطية من الله تعالى، فليس لأحد ان يمنع ذا حق حقه، إذا كان ذلك الحق قد قرره مالك الملك، فلا يجوز للذكور أن يحرموا الإناث من نثيبهم فغن ذلك يكون ظلما مبينا، ولا يجوز للقوى من الوارثين ان يطفف من نصيب الآخرين، كما انه لا يجوز لحاكم ان يغير ميراث الله تعالى، ولا ان يمنعه، فكل من ملك مالا او حقا فلورثته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :"من ترك مالا او حقا فلورثته"١. وقد أكد الله سبحانه وتعالى امره بمنع الظلم في الميراث بقوله :﴿ إن الله كان على كل شيء شهيدا ﴾أي أن الله تعالى ذا الجلال والإكرام يشاهد كل شيء، ويشهد عليه، فيعرف الظالم الذي يأخذه وآله معرفة المشاهد المعاين، فمن أراد إخفاء مال، او أكل الحق من صاحبه، فليعلم ان الله تعالى سيأخذه أخذ عزيز مقتدر.
١ رواه البخاري: الاستقراض وأداء الديون –الصلاة على من ترك دينا(٢٣٩٨)، ومسلم: الجمعة –تخفيف الصلاة والخطبة(٨٦٧)، وغيرهما ولفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كم ترك مالا فلورثته ومن ترك كلا فإلينا"..
﴿ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ﴾ يقال قام على الشيء وهو قائم عليه وقوام عليه، إذا كان يرعاه ويحفظه ويتولاه بعنايته والمحافظة عليه، وليست القوامة مطلق الرياسة، بل إن الرياسة تسمى قوامة إذا كان الرئيس يقوم على رعاية المرءوس والمحافظة على حقوقه وواجباته، ومن هذا المعنى قوله تعالى :﴿ الرجال قوامون على النساء ﴾ فإن المعنى أن الرجال يقومون على شئون النساء بالحفظ والرعاية والكلاءة والحماية، فيقوم الآباء على رعاية بناتهم والمحفظة على أنفسهن وأخلاقهن ودينهن، والأزواج يقومون على شئون زوجاتهم بالحفظ والرعاية والحماية والصيانة، ومن هنا تجئ الرياسة، بل إني أقرر أن قيام الرجل على شئون الزوجة ليس فيه رياسة، إنما فيه حماية ورعاية وهو من قبيل توزيع التكليفات، فإذا كان للرجل رياسة عامة، فللمرأة أيضا رياسة نوعية، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :"الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها"١.
وقد ذكر سبحانه وتعالى سبب تكليف الرجل هذه الرعاية دون المرأة، فبين سببين : أولهما : قال فيه﴿ بما فضل الله بعضهم على بعض ﴾، والتفضيل هو الزيادة في القوة الجسمية والمعرفة، واختصاص الرجال بالرسالة الإلهية، والولايات الكبرى، وقد تبع هذا تكليفات كثيرة على الرجل، منها الجهاد ودفع الأعداء، وما عرف التاريخ ان امرأة قادت الحروب، ومهما يكن من عمل للمرأة في الحروب فهو من قبيل العمال الثانوية، لا الأعمال الأصلية، والتفضيل هو تفضيل الجنس على الجنس، لا تفضيل آحاد، فمن النساء من هي أقوى من الرجال عقلا، ومعرفة، بل قوة جسم في بعض الأحيان، وقال :﴿ بما فضل الله بعضهم على بعض ﴾ ولم يقل : بما فضلهم الله عليهن اولا للإشارة إلى البعضية المشتركة، وان الرجال من النساء والنساء من الرجال، فاللحمة الواصلة واحدة، وللإشارة إلى ان ذلك التفضيل لصالح الجميع، يؤدي عمله الذي خلقه الله سبحانه وتعالى له.
والسبب الثاني في القوامة والرعاية والحفظ والصيانة هو ما عبر الله سبحانه وتعالى عنه بقوله :﴿ وبما أنفقوا من أموالهم ﴾، وذلك لأن تكليف الرجل بالإنفاق، وجعله حقا للمرأة عليه، يجعله مكلفا أيضا أن يرعاها ويصونها ؛ إذ إن ذلك التكليف استوجب ان يكون عمل المرأة داخل المنزل، وعمل الرجل خارجه ؟ فهي عاكفة على شئون الأطفال وإعداد البيت ليكون جنة الحياة، وهو مكلف رعاية الجنة وحمايتها وصيانتها.
﴿ فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ﴾ عن رعاية الرجل للمرأة والعمل على صيانتها وحفظها تختلف باختلاف المرأة، والمرأة المتزوجة نوعان : إحداهن الصالحة، والثانية من ليست كذلك، وهنا يبين هذا النوع. ومعنى الصالحة النافعة المستقيمة في خلقها ودينها، فهي صالحة في نفسها وزوجيتها، وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بوصفين ظاهرين يميزانها، ويكشفان عن صلاحها، في نفسها ودينها : أحدهما أنها قانتة. وقانتة معناها مطيعة عن طيب نفس، واطمئنان قلب، لا عن قسر وإكراه، وهي مطيعة لله تعالى في كل مظاهرها، ومن طاعة الله تعالى طاعة زوجها في غير معصية. ولم يبين في اللفظ من تطيعه للإشارة إلا ان من طبيعتها الطاعة لصاحب الطاعة. وصاحبها هو الله، وهو مصدر الطاعات كلها. والوصف الثاني انها حافظة للرجل في غيبه، وقد عبر الله سبحانه عن ذلك بقوله :﴿ حافظات للغيب بما حفظ الله ﴾ أي يحفظن الأمور المغيبة المستترة، فلا يفشين ما يكون بينهن وأزواجهن، ولا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، ولا يعتدين عليه، ولا يضعن في الوديعة التي أودعها الله إليهن ما لا يجوز ان يكون فيها، وقوله تعالى :﴿ بما حفظ الله ﴾ ( ما ) إما مصدرية وإما موصولة، والمعنى على انها مصدرية : حافظات للغيب بحفظه تعالى، أي بالصورة التي حفظ الله بها ذلك الأمر وجعله غيبا مكنونا. وعلى انها موصولة : حافظات للأمور الغيبية المستورة بالأمر الذي حفظها الله تعالى في تكوينه وشرعه. والخلاصة على التخريجين ان المرأة الفاضلة الصالحة مع طاعتها لزوجها تحفظ غيبه وستره وعرضه، وقد جاء الوصفان في قول النبي صلى الله عليه وسلم :"خير النساء من إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته"٢.
هذا هو القسم الأول من النساء المتزوجات، والقسم الثاني ما بينه بقوله :
﴿ واللاتي تخافون نشوزهن فعظهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ﴾ ذلك القسم هو غير الطائع وغير الصالح بلا ريب، والنشوز خروج الزوجة عما توجبه الحياة الزوجية من طاعة الزوجة لزوجها، وقيامها على شئون بيتها، وأصل شاذا فيها، فيكون نشوز المراة ترفعا او إعراضا عن الحياة الزوجية الطيبة وشذوذا فيها، وقال سبحانه، ﴿ تخافون نشوزهن فعظوهن ﴾ ولم يقل"ينشزن" للإشارة إلى أمرين : أولهما علاج الداء قبل أن يستفحل، وذلك بأن يكون العلاج عند وقوع بوادر النشوز وظهور أماراته، حتى لا يصل إلى أقصى درجاته، وهو ان تهجر الزوج، وتخرج من منزله ؛ لأن ذلك العلاج يكون وهي في ظل العش الزوجي لم تغادره- والأمر الثاني استكثار وقوع النشوز بالفعل، وهو ان تترك البيت على من فيه وما فيه، وكأنه لا يتصور أن تقع زوجة في ذلك، ولو لم تسم في لغة الشرع زوجة صالحة. وقد ذكر الله لهذا النوع من النساء ثلاثة أنواع من العلاج :
أولها – ما ذكره سبحانه بقوله تعالى :﴿ فعظوهن ﴾"الفاء" هنا واقعة في خبر الموصول ؛ لأنه في معنى الشرط فدخلت الفاء في خبره الطلبي، كما تدخل في جزاء الشرط إذا كان طلبا. والوعظ القول الذي يؤثر في النفس ويوجهها إلى الخير، وقد قال الخليل بن أحمد :"الوعظ هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب" فالوعظ توجيه إلى الخير بذكر نتائج الشر، وهو مراتب أعلاها التوبيخ، وهو أيضا مراتب. ولكل امرأة من النساء ما يليق بمثلها، فذات الإحساس الرقيق إذا كان منها ما لا يستحسنه، يقال مثلا : أفعلت هذا ؟ كأنه ينكر ان يكون حدث منها، او يقول : ما تصورت ان يكون هذا من مثلك. ثم يذكرها بشرف أسرتها، ثم يذكرها بحق الله تعالى، ثم يوبخها، ومنه اللوم، وهو في كل هذا لا يقسو ولا يعنف.
والثاني – الهجر في المضجع، والمضجع في المجاز هو المسكن كله، والهجر المطلوب هو الهجر الجميل، وهو الهجر من غير جفوة. والهجر مراتب : أدناها ان يكون الهجر في موضع النوم، وهو المضجع الحقيقي، والآخر مجازى بان يدير لها ظهره ولا ينام، فإن علا نام في منام آخر، فإن علا ترك حجرة النوم إلى حجرة أخرى من غير مجافاة ولا مخاصمة، ولكل حال نوعها من النساء ونوع من أمارات النشوز وعلاماته التي تكشف عن توقعه عن ترك حبلها على غاربها.
الثالث – من دواء النشوز، الضرب وهو أقصاها، ولا يلجأ إليه إلا عند فشل الدواءين السابقين. وقد ثبت ان الضرب المباح يكون عندما تبلغ الحياة الزوجية درجة يخشى عليها من النشوز والافتراق، وقد قيدته السنة بقيدين. احدهما : ان يكون غير مبرح، وان يكون غير مشين بألا يضرب الوجه، فقد صرحت بذلك السنة٣، وسئل ابن عباس عن الضرب غير المبرح، فقال : هو الضرب بالسواك او مثله. وهذا هو الضرب المباح، فهو رمز لاستحقاق الضرب، وليس بضرب. وقد نص في مذهب مالك على ان الزوج إذا ظلم زوجته وشكته إلى القاضي، وعظه، فإن تكررت الشكوى حكم لها بالنفقة ولم يحكم له بالطاعة زمنا، فإن شكته بعد ذلك عزره بالضرب ليستقيم، وهذه عقوبات ثلاث تقابل عقاب الزوج لزوجته، ولكنها اشد واعنف، فالضرب لا يكون غير مبرح.
﴿ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا ﴾البغي الطلب الشديد، ومعنى النص الكريم : فإن أطاعت الزوجات فلا تطلبوا طريقا من طرق العقاب أيا كان باغين عليهن به ظالمين، والمغزى ان كل عقاب مع الطاعة ظلم وبغى لا يقصد ولا يطلب، بل يقصد الزوج إلى استدناء مودتها بالرحمة والعطف والتقريب والتحبب بكل أساليبه. وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله :﴿ إن الله كان عليا كبيرا ﴾، للإشارة إلى قوته القاهرة، وانه إذا استعلى الرجل على امرأته فالله العلي الكبير فوقه، وهو مؤاخذه وآخذه بعذاب أليم.
١ عن عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته".[رواه البخاري: الجمعة في القرى والمدن(٨٩٣)، ومسلم بنحوه: الإمارة(١٨٢٩)]..
٢ مسند الطيالسي عن ابي هريرة رضي الله عنهما، وروى أبو داود: الزكاة – في حقوق المال(١٦٦٤) عن ابن عباس مرفوعا..
٣ عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال: قلت يا رسول اله ما حق زوجة احدنا عليه؟ قال " ان تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتست – او اكتسبت – ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت" رواه أبو داود: النكاح –حق المراة على زوجها (٢١٤٢)، وابن ماجة: النكاح –حق المراة على الزوج(١٨٥٠)، واحمد: اول مسند البصريين(١٩٥٠٩)..
﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من اهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا ﴾ هذه حال ثالثة للحياة الزوجية، وهي حال خوف الشقاق، وهي غير حال خوف النشوز ؛ لأن خوف النشوز يكون والزوجة في بيت زوجها له نوع سلطان عليها، وهناك مودة بينهما، فتكون تلك المودة من سبل العلاج، ولذلك كان من العلاج الهجر الجميل، إذ لا يصلح عقابا إلا عند قيام المحبة، اما الشقاق فإنه يكون عندما تنشعب المودة، ويكون كل واحد من الزوجين في شق، وهذه حال لا يتولى إصلاحها الزوج ؛ لأن القلوب تنافر ودها، ولهذا كان العلاج لا بد ان يكون من طريق آخر، وقد بينه الله تعالى بقوله :﴿ فابعثوا حكما من أهله وحكما من اهلها ﴾، والبعث معناه الإثارة، وهو هنا الإثارة مع التخير ؛ لأنه ليس كل إنسان يصلح طبيبا معالجا للنفوس المتنافرة، والحكم من له حق الحكم والفصل، وعمل الحكم يتجه إلى احد أمرين : احدهما الإصلاح بينهما ورد النفوس الشاردة إلى مستقر الحياة الزوجية، وإن ذلك يقتضي ان يكون عند الزوجين نية إزالة الخلاف او على الأقل لا يمانعان فيه، ولذا قال تعالى :﴿ إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ﴾ أي إذا كان كلا الزوجين مع وجود النفرة يرغب في إزالتها. فإن الله موفق بينهما، بان يجعل كل قلب يلتقي مع الآخر، والتوفيق يقتضي ان يفتح كل واحد جزءا من قلبه ليدخل فيه او يلتحم معه القلب الثاني.
والأمر الثاني التفريق بينهما، وقد كان الخلاف بين الفقهاء في جوازه، فقال ابو حنيفة والشافعي ؛ لا يجوز ذلك إلا بتوكيل من الزوج، لأن النص بين ان عملهما في الإصلاح، فإن عجزا عنه فقد انتهت مهمتهما، ولأن الطلاق حق الزوج وحده، ولا يتولاه غيره إلا بالنيابة عنه، وقال مالك واحمد : لهما التفريق إن عجزا عن الإصلاح ؛ لأن الله تعالى سماهما حكمين، والحكم هو الذي يحسم الخلاف، فإن عجزا عن الإصلاح حسما الخلاف بالتفريق، ولأن عليا – رضي الله عنه –عندما بعث حكمان لحسم الخلاف بين عقيل بن أبي طالب وامرأته قال : أتدريان ما عليكما ؟ إن عليكما إن رأيتما ان تفرقا فرقتما، وإن رأيتما ان تجمعا جمعتما. وعلي أحق من فسر القرآن. وبعث الحكمين يكون بأمر القاضي، والبعث يكون عند خوف الشقاق ؛ لأن الشقاق يكون بالانفصال التام، والخوف قبله. وقد ذيل الله الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته :﴿ إن الله كان عليما حكيما ﴾ أي أنه متصف بصفة العلم الدقيق المحيط الذي يعلم أحوال النفوس وطرق علاجها، ويعلم ما يقوم به الناس، ويعلم ما تخفي الصدور، وعنده الجزاء والعقاب وهو على كل شيء قدير.
﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم عن الله لا يحب من كان مختالا فخورا٣٦ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذابا مهينا٣٧ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله واليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا٣٨ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما٣٩ ﴾
في الآيات السابقة من اول السورة وردت أحكام الأسرة، وواجبات الأقوياء فيها بالنسبة لضعفائها، والدعائم التي تقوم عليها، والحقوق المتبادلة بين آحادها، وأشير إلى الآفات التي قد تعروها، ثم بينت عناصر تكوينها سليمة، وأشير إلى المعاملات المالية بينها من غير تفضيل، ثم بين علاج ما يكون بين الزوجين من أسباب النزاع التي قد تهدد المودة الواصلة بينهما بالقطع، وفي هذه الآيات ذكر سبحانه الأسس التي تقوم عليها المعاملات العامة والخاصة، وذكر وجوب الإحسان إلى كل من يتصل بالشخص بقرابة او جواز، ثم بين حال الذين يقطعون العلاقات بين الناس، وبين سبحانه وتعالى ان أساس التعامل الفاضل هو عبادة الله تعالى وحده، من غير إشراك، وان أساس التعامل الفاسد هو ان يريد الشخص بعبادته غرضا من أغراض الدنيا من غير اتجاه إليه سبحانه، ومراعاة حق الناس عليه.
ولذا قال سبحانه :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ هذا اول الخط الذي يسير فيه الفاضل في علاقته بالله وبالناس، وهو اول الخط المستقيم، والعبادة معناها خلوص النفس لله تعالى، والاتجاه إليه وحده، والإخلاص في كل ما يعمل لله تعالى، وهي بهذا المعنى تشمل العبادات من صلاة وحج وصوم، وصدقات. والصلاة لب العبادة، وهي ذات صور مختلفة في الديانات، ولكنها في صميمها لا تكون صلاة إلا إذا تحققت فيها الضراعة التامة، والاتجاه إلى الله وحده، وعدم الانشغال عنه سبحانه بأي عرض من اعراص الدنيا. وهذه هي العبادات المفروضة، وبعدها يكون الاتجاه إلى الله تعالى في كل مقصد وعمل، ولا يحس بالالتجاء إلا له، فالدعاء له وحده، لا يشرك معه أحدا في دعائه، ولذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال :"الدعاء مخ العبادة"١. ويلي هذه المرتبة في سمو العبادة ألا يفعل العمال إلا لله، ولا يحب إلا في الله ولا يبغض إلا في الله.
وهذه المرتبة يصورها قول النبي صلى الله عليه وسلم :"لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله"٢.
هذه هي العبادة، او إشارات إلى أنواعها ومراتبها. وإن الأخذ بها يجعل كل العمال في دائرة الفضيلة، وينير البصيرة، وإن نقيض العبادة الخالصة لله تعالى الشرك، وهو منهي عنه. وكما ان العبادة مراتب فالشرك مراتب أيضا، أعلاها الشرك الأعظم، وهو اعتقاد شريك لله تعالى في ألوهيته واستحقاقه للعبودية، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء... ١١٦ ﴾[ النساء ] ويليه ان يعتقد ان أحدا ينفع ويضر من دون الله، والالتجاء إلى غير الله والخضوع لغير الله وبغير ما امر الله تعالى. والمرتبة الثالثة الإشراك في القربات، بأن يصلى مرائيا، او يزكي مباهيا، او يصوم متعاليا، ولا يقصد وجه الله بصومه، وقد يرائي فقد أشرك"٣، ويسمى هذا النوع الشرك الخفي. وقد روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن أخوف ما أتخوف أمتي : الإشراك بالله، اما إني لست أقول يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا، ولكن أعمالا لغير الله وشهوة خفية"٤.
وإن النهي عن الشرك يشمل الإشراك بالله في أي شيء او أي حال، ولذا قال تعالى﴿ ولا تشركوا به شيئا ﴾، أي شيء وعلى أي نحو كان، سواء أكان شركا ظاهرا ام كان شركا خفيا. وإن الإشراك في كل صوره يضعف الضمير، والإيمان بالله يقوي الضمير، وإن اول مظاهر قوة الضمير قوة الضمير التي توجدها عبادة الله وحده، البر بالناس، ولذا عقب طلب البر والإحسان بالنهي عن الإشراك فقال تعالى :
﴿ وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين ﴾ وقد قرن الله سبحانه وتعالى النهي عن الإشراك بالإحسان إلى الوالدين، ومن وليهما، وقد جاء في آيات أخرى ذكر الإحسان بالوالدين فقط بعد النهي عن الإشراك، كما قال تعالى :﴿ وقضى ربك الا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ﴾[ الإسراء ] لأن أحق من يستحق الإرضاء بعد الله الوالدان، ولا يستحق غيرهما بعد الله الشكر، ولذا قال تعالى :﴿ ان اشكر لي ولوالديك... ١٤ ﴾[ لقمان ] وقال عليه الصلاة والسلام :"رضاء الرب من رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين"٥، والإحسان إلى الوالدين بالصحبة الكريمة، وسد حاجتهما، والقول الحسن، وعدم التململ من حياتهما إن بلغا الكبر، وتعبا تعب الشيخوخة، وصارت حياتهما عبئا على أولادهما، ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ إما يبلغن عندك الكبر احدهما او كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما٢٣ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا٢٤ ﴾[ الإسراء ].
والإحسان إلى ذي القربى من هذا الصنف، فعلى القريب أن يحسن بقريبه، بسد حاجته، ويكرم صحبته، ويصله ولو قاطعه، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :"ليس الواصل بالمكافئ إنما الواصل من يصل رحمه عند القطيعة"٦، ويكون في عونه دائما في دفع الملمات، والمواساة في الشدائد.
والإحسان باليتيم، يكون بإيوائه، والعطف الذي يقوم مقام عطف أبيه، وسد حاجاته، والاختلاط به بالرحمة، فيجعله مع أولاده مختلطا بهم، مؤتنسا معهم، ويسوي بينهم وبينه، لكي ينشأ أليفا مألوفا مع المجتمع الذي يعيش فيه، وقد ورد في الأثر :"إن خير بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم"٧، وإن قهر اليتيم وإذلاله ينشئه نافرا شاذا، فيكون عدوا للجماعة لا يألفها، ويكون منه الإجرام، والإيذاء، وقد قال الله تعالى :﴿ فأما اليتيم فلا تقهر٩ ﴾[ الضحى ].
والمساكين هم الفقراء والذين لا طاقة لهم على عمل، لمرض مزمن او شيخوخة فانية، او آفة في جسمهم تجعلهم غير قادرين، او تعطل لا يجدون معه عملا يعملون، والإحسان بهم سد حاجاتهم، وكفالة الراحة لهم.
وبعد ان بين سبحانه الإحسان اللازم المطلوب الذي لا مناص عنه، وهو دفع الآفات الاجتماعية، اتجه إلى الإحسان إلى المجتمع القريب، والإحسان في المعاملة بشكل عام، فقال :
﴿ والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم ﴾ ﴿ والجار ذي القربى ﴾ هو الجار الذي يتصل بالإنسان بصلة الرحم والقرابة، وهذا له مع حق الجوار حق الرحم، فقد ثبت له الإحسان من ناحيتين :
إحداهما : من ناحية القرابة، فهو داخل في ذي القربى، والثانية : الجوار، وقد يقول قائل : لماذا امر بالإحسان به في الجوار مع انه مذكور في القرابة ؟ والجواب عن ذلك ان الجوار قد يوجد احتكاكا، تكون معه الشحناء، فللحرص على بقاء المودة الواصلة، نبه – سبحانه – إلى ان الجوار يوثق الإحسان ولا يباعده، فهو يجعله اوجب وألزم.
﴿ والجار الجنب ﴾ هو الجار الذي يكون مسكنه او متجره، او مزرعته بجنبك، والإحسان إليه بألا يكون منه أذى له بأي نوع من أنواع الأذى، فلا يزعجه في أمنه، ولا يمنع الماء عنه، ولا يرسل إليه الماء غير الصالح، ويلقى عليه مزابل بيته. ثم من الإحسان به مواساته في شدائده، ومعاونته في حاجاته، وان يحفظ سره، ولا يكشف عورته، ولا يعلن منه ما يخفي على الناس. ومن الإحسان إليه أن يهدي إليه ما يعجز عن شرائه لأولاده من حلوى وفاكهة ونحو ذلك. ومن الإحسان إلى الجار هو الأمر الذي يدعو إليه التآلف الإسلامي في المجتمعات الصغيرة، وقد أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من الحث على الإحسان بالجار٨.
﴿ والصاحب بالجنب ﴾هو الصاحب الذي يكون بجنبك في عمل او سفر، او طريق، او مركب، وقد قال جار الله الزمخشري في ذلك :
"الصاحب بالجنب هو الذي صحبك بان حصل بجنبك إما رفيقا في سفر، وإما شريكا في تعلم علم او حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس او مسجد، أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه. فعليك ان ترعى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان" وإن من الإحسان إلى الصاحب الذي يكون بجنبك، ألا تؤذيه بمنظر كريه أو ريح كريهة، وان تحافظ على الحياء في مجلسك، فلا تجعل نعلك يحف بثيابه او بحيث يؤذيه، وان تعاونه عن كان محتاجا إلى معاونتك.
﴿ وابن السبيل ﴾ هو المنقطع عن أهله ولا مال له، فكان الطريق تبناه، والإحسان إليه بإيوائه وإطعامه وتسهيل الحياة له حتى يعود إلى أهله. وقد اوجب الإسلام إعداد مأوى من بيت مال الزكاة، وإمدادهم بالطعام والكساء حتى يثوبوا إلى أهلهم.
﴿ وما ملكت أيمانكم ﴾ هم العبيد والإماء الذين ملكت رقابهم في الحروب العادلة، فهم في سيطرة المالك لهم، وكان رقابهم في يمينه يسيرها كما شاء. والإحسان إليهم يكون من مالكهم بالإطعام والكساء والمأوى، وعدم إيذائهم بأي نوع من أنواع الأذى، فلا يضربون، ولا يلطمون، وقد قال عليه الصلاة والسلام :"من كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه"٩.
وفي سبيل الإحسان بهم نهى النبي عن ان يقول المالك عبدي وأمتي، فقال"لا يقل أحدكم عبدي وأمتي، بل ليقل فتاي وفتاتي"١٠، ونهى عن ضربهم :"من لطم عبده فكفارته عتقه"١١، وقال بعض الحنابلة : إنه بمجرد اللطم يكون عتيقا.
وهنا بحث لفظي في الكلمة السامية :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾، فقد قالوا : إن "أحسن"تتعدى بنفسها وذلك بالنسبة للأعمال، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا٣٠ ﴾[ الكهف ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم :"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا ان يحسنه"١٢ وقول علي رضي الله عنه :( الناس أبناء ما يحسنون ). ويتعدى بالباء، وبإلى وباللام، وتكون بمعنى الإنعام والإكرام. وقالوا : إنها في تعديها بالباء تكون بمعنى الإكرام مع الاتصال والمودة والقرب ممن أحسن إليه.
﴿ إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ﴾ المختال هو ذو الخيلاء أي الكبر ؛ وذلك لأن المتكبر يتخيل لنفسه من الصفات والسجايا والأفعال ما ليس فيه، فسيعلى على الناس، والفخور هو الذي يكثر من ذكر مزاياه ويبالغ فيها، ويحب ان يحمد بما لم يفعل. وإن هذين الوصفين يتلازمان، فحيث كان الكبر كان الفخر الكاذب، والله تعالى لا يحب هؤلاء ؛ لأنهم يستنكفون عن الاتصال بالناس، ويغمطون حقوق الناس، ولا يقومون بحق النعمة التي انعم الله بها عليهم، ولذا قال عليه الصلاة والسلام :"الكبر بطر وغمط الناس"١٣.
وكان ذكر ذلك النص الكريم بعد طلب الإحسان للإشارة إلى ان المتصف بهاتين الصفتين لا يمن ان يكون محسنا لأحد – هو إيذاء بصفاته وبأفعاله، وهو مصدر الشر والتفرق في الجماعات،
١ رواه الترمذي: الدعوات عن انس بن مالك رضي الله عنه. وقد سبق تخريجه..
٢ سبق تخريجه..
٣ سبق تخريجه من رواية أحمد عن شداد بن أوس بن ثابت..
٤ رواه بهذا اللفظ ابن ماجة: الزهد –الرياء والسمعة(٤٢٠٥) عن شداد بن أوس رضي الله عنه..
٥ رواه البزار عن عبد الله بن عمرو. الترغيب والترهيب٣/٢٢١..
٦ رواه البخاري: الأدب – ليس الواصل بالمكافئ(٥٩٩١)، والترمذي: البر والصلة- ما جاء في صلة الرحم(١٩٠٨)، وأبو داود: الزكاة – في صلة الرحم (١٦٩٧)، واحمد: مسند المكثرين(٦٤٨٨)..
٧ سبق تخريجه، وقد اخرجه ابن ماجة في الأدب – حق اليتيم(٣٦٧٩) مرفوعا بلفظ:"خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه" وأخرجه البخاري في الأدب المفرد، وابو نعيم في الحلية. عن أبي هريرة رضي الله عنه..
٨ من ذلك ما رواه البخاري: الأدب – الوصية بالجار (٦٠٤١)، ومسلم: البر والصلة – الوصية بالجار(٢٦٢٤) عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت انه سيورثه"..
٩ عن المعرور بن سويد قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:"يا أبا ذر أعيرته بأمه! إنك امرؤ فيك جاهلية؛ إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فغن كلفتموهم فأعينوهم".[رواه البخاري: الإيمان – المعاصي من امر الجاهلية(٣٠)، ومسلم بنحوه: ألأيمان(١٦٦١)]..
١٠ سبق تخريجه..
١١ رواه مسلم في صحيحه: الأيمان – صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده(١٦٥٧) وتمامه: أن زاذان ان ابن عمر دعا بغلام له فرأى بظهره أثرا فقال له: أوجعتك؟ قال: لا. قال: فأنت عتيق. قال: ثم أخذ شيئا من الأرض فقال: ما لي فيه من الأجر ما يزن هذا؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من ضرب غلاما له حدا لم يأته، او لطمه فإن كفارته ان يعتقه" وفي حديث وكيع:"من لطم عبده.." ولم يذكر الحد. كما رواه أبو داود: الأدب(٥١٢٨)، واحمد: مسند المكثرين(٤٧٦٩)..
١٢ في مجمع الزوائد(٦٤٦): وفيه: مصعب بن ثابت، وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة. والحديث رواه البيهقي وابن عساكر بلفظ مقارب..
١٣ عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" قال رجل: عن الرجل يحب ان يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة. قال:" إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس". [رواه مسلم: الإيمان – تحريم الكبر وبيانه(٩١)، والترمذي: البر والصلة(١٩٩٩)، ورواه احمد في مسند المكثرين(٣٧٩٧) بنحوه..
وقد بين الله سبحانه وتعالى حقيقتهم بأوصافهم، وذكرها سبحانه وتعالى صفة صفة، فقال :
﴿ والذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ﴾ وإن من صفة هؤلاء المختالين انهم بخلاء، ويحرضون الناس على البخل، ويكتمون ما أعطاهم الله من فضله. والبخل ان يضن الشخص في مواضع الخير، فليس البخل مرادفا للاستمساك بالمال ؛ إذ أن الإنفاق في الشر والضن على الخير يسمى بخلا في لسان الشرع والعقل، كما ان الإنفاق في سبيل البر مهما يكثر لا يكون إسرافا، فتبرع أبي بكر بكل ماله في الحرب لا يسمى إسرافا، ومثل ذلك تبرع عمر رضي الله عنه بالشطر من ماله، وكذلك تبرع عثمان بالأموال الضخمة للمسلمين، ولهذا روى عن عبد الله بن عباس :"درهم في الشر إسراف وألف في الخير ليس بإسراف" فلا غرابة إذن إذا وجدنا المختالين ينفقون الألوف في المظاهر والاستعلاء، ومع ذلك وصفهم الله تعالى بالبخل، ولا تناقض بين وصفهم بالبخل، وكونهم مثل الذين ينفقون رئاء الناس ؛ لأن كلا الوصفين ينبع من نفس واحدة، وهي الشح في الخير.
ودأب هؤلاء ان يبخلوا وان يحرضوا على طريقهم الذي سلكوه، ويسخروا ممن يؤثرون على انفسهم، ولو كان بهم خصاصة ؛ لنهم في طبيعتهم لا يحسون إلا بأنفسهم، ولا يؤمنون بحق الغير عليهم.
وقوله تعالى :﴿ ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ﴾، والمراد بها كتمان المال في موضع البر، فهم أشحة على الخير يحسبونه مفنيا لمالهم، فيكتمون ما أعطاهم الله من مال بفضله، وعلى هذا سار بعض المفسرين، وحجته ان الكلام في المال، فالكتمان فيه.
وقال آخرون : إن المراد كتمان العلم الذي أوتوه بفضل الله عليهم، وإرسال رسل كثيرين فيهم، ويكون النص في اليهود لأنهم يتصفون بكل هذا، ويرشح لذلك قوله تعالى في ختام الآية :﴿ واعتدنا للكافرين عذابا مهينا ﴾ وأرى ان يفسر الكتمان تفسيرا عاما يشمل العلم والمال.
وقوله تعالى :﴿ وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ﴾معناه : وهيأنا للجاحدين لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولوحدانية الله تعالى عذابا يهينهم ويذلهم، فإذا كانوا قد استكبروا وطغوا واستعلوا واختالوا في الدنيا، وهي متاع قليل، فالذل الدائم والهوان المستمر لهم في الآخرة.
وتعقيب هذا النص السامي للأوصاف السابقة يشير إلى تلك الأوصاف أوصاف الكافرين الجاحدين بنعيم الله، لا أوصاف المؤمنين المقربين بأنعمه، وقد وصف سبحانه أمثال هؤلاء بقوله :﴿ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾.
﴿ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ الرئاء مصدر راءى يرائى مراءاة ورياء، ورئاء، وهو أن يعمل العمل، أو ينفق المال يظهر للناس أنه يقصد الخير، وهو يقصد بذلك الظهور أمام الناس والشهرة بالخير، وهو من صنف مماثل للبخلاء أو هو منهم، لأنه ينفق لنفسه لا لغيره، فكأن أولئك المختالين الفخورين صنفان : صنف لا ينفق على الناس قط، ولا يعين بأي نوع من العون في طريق البر، وصنف يعطى في سبل النفع، ولكن لا يقصد وجه الله تعالى، بل يقصد ما عند الناس، من رجاء محمدة، أو تفاخر، أو استعلاء، أو طلب جاه لدى ذي جاه، كأولئك الذين ينفقون النفقات العظيمة، ويتصدقون بالصدقات الكبيرة، تملقا لذوي الجاه، أو رجاء لما عندهم، وإن هذا النوع يكون إنفاقه إلى بوار عليه، ولا ثواب عليه، ولو كان من أهل الإسلام.
وقد قال عليه الصلاة والسلام في المرائين الذين ينفقون رياء :"يقول صاحب المال يوم القيامة لربه : ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك، فيقول الله تعالى : كذبت إنما أردت أن يقال جواد، فقد قيل" ١.
وقد ذكر سبحانه بجوار الإنفاق رياء عدم الإيمان، فقال في أوصافهم﴿ ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾ وهذا وصف يعم الذين يراءون، ويشمل الكافرين، وهو حقيقي في الكافرين الذين لا يذعنون للحق، فيؤمنون بالله واليوم الآخر، ودائم معهم بدوام كفرهم، وبالنسبة للمرائين من أهل القبلة ثابت لهم وقت رئائهم، لأن من يتصدق راجيا ما عند العباد من جاه أو ملق أو استعلاء، لا يؤمن بحق الله عليه وقت تبرعه، ولا يؤمن بأن وجه الله هو الذي يقصد، ولا ينظر إلا إلى متاع الدنيا، ولا يؤمن في عمله هذا باليوم الآخر، ولو كان يؤمن بالله في عمله هذا لقصد وجهه الكريم، وما يكون من ثواب مضاعف على فعله، وإن هذا كله من عمل الشيطان.
﴿ ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ﴾الشيطان هنا كل ما يحرض على الشر من وسوسة نفس، وصاحب مفسد، ومن تسلط على عباد الله تعالى لإغوائهم، وفي النص القرآني إيجاز بالحذف معجز، إذ المعنى : وقد دفع هؤلاء إلى الرياء في إنفاقهم وإلى البخل والكتمان قرناء السوء من شياطين الإنس والجن، والقرين هو الصاحب الملازم الذي يخلط نفسك بنفسه، ويقرنها بها حتى تصيرا كأنهما شيء واحد، ومعنى قوله :﴿ ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ﴾ من يكن الشيطان صاحبا ملازما له قد اختلط به ومازج نفسه، فما أسوأه من قرين محرض على الشر يدفع إليه بصحبته، وملازمته وإغوائه، والعدوى التي تسري إليه. وفي النص إشارة إلى أن قرناء السوء يفسدون الأخلاق، لأن عدوى الأخلاق تصل بالمجاورة كما تصل عدوى الأمراض.
١ جزء من حديث رواه مسلم: الإمارة- من قاتل للرياء(١٩٠٥) والترمذي في الزهد- ما جاء في الرياء والسمعة(٢٣٨٢)، والنسائي : الجهاد- من قاتل ليقال فلان جرئ(٣١٣٧) وأحمد: باقي مسند المكثرين(٨٠٧٨). عن أبي هريرة رضي الله عنه..
﴿ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله ﴾
هذا النص توبيخ للذين يؤثرون رضا الناس على رضا الله، فلا يبتغون ما عنده، ويبتغون ما عند الناس، فيراءون ويمنعون الخير لذات الخير. والمعنى : ماذا يكون عليهم من مغبة أو تبعة أو ضرر، لو أنهم آمنوا بالله حق الإيمان وباليوم الآخر الذي يكون فيه الجزاء الحقيقي، ولم يأخذهم زخرف الحياة الدنيا فلا يرعوا سواها ؟ إنه لا ضرر بلا شك في الاتجاه إلى الله، وإنفاق بعض رزقه الذي أعطاه إياهم ؛ إذ لا ينفقون إلا بعض ما أعطى، ومع عدم الضرر هناك نفع عظيم جليل، وهو رضا الله، وثواب يوم القيامة، وصلاح حالهم صلاحا حقيقيا في الدنيا. وبمقارنة ذلك بما عليه حالهم من رياء أو بخل أو كتمان، يتبين أنهم اختاروا الصفقة الخاسرة، لأن في إنفاقهم لأجل الرياء أو بخلهم، إغضابا لله، وتعرضا لعقابه وإفسادا لمجتمعهم، وما ينالون من نفع ضئيل بجوار ما ينالهم من ضرر خطير. ولم يذكر سبحانه وتعالى ما ينالون من نفع في دنياهم، لأنه لا يعد في حقيقة الأمر نفعا، فضررهم مؤكد، ولا نفع، وإذا اتجهوا إلى الله فالنفع ثابت ولا ضرر.
﴿ وكان الله بهم عليما ﴾هذه إشارة إلى الضرر الذي ينالهم، وهو عقاب الله تعالى لهم، وهو عليم بأحوالهم يعلم سرهم وما يخفى من شؤونهم، وإنه سيجازيهم بعملهم، فالعقاب لاحق بهم لا محالة، وقانا الله تعالى شر نفوسنا، وجعلنا لله لا لأحد سواه.
﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما( ٤٠ ) فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا( ٤١ ) يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض و لا يكتمون الله حديثا( ٤٢ ) ﴾
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة، سواء أكانت هذه العبادة في التكليفات التي خصصت للعبادة ذاتها، أم كانت من المعاملات بين الناس التي لا بد من نية القربة فيها. فالإنفاق لا بد أن يخلص لله تعالى، كالصلاة لا بد أن تكون خالصة لله. فالنية في الأقوال والأفعال أساس الجزاء من عقاب وثواب.
وفي هذه الآية الكريمة بين الجزاء الأوفى من خير أو شر، وأن الشر لا يجازى إلا بمثله، وأن الحسنة تكون بأضعافها، ولذا قال سبحانه :
﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾المثقال- معناه المقدار الذي له ثقل يحتمل أن يوزن، والذرة الغبار الذي لا يرى في أكثر الأحوال، والمعنى اللفظي أن الله لا ينقص عاملا حقا وزن ذرة، وهي لا تعلي الميزان ولا تخفضه، إلا أن يكون ميزانا دقيقا جدا، وهذا النوع من الموازين لا يوجد في الدنيا، ولكن يوجد في الآخرة، فعندئذ تكون الموازين القسط التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا قومتها.
ومعنى النص في مرماه أن الله سبحانه وتعالى، لا ينقص أحدا من ثواب عمله أي مقدار ولو ضؤل، فهذا الكلام فيه استعارة مؤداها أنه لا ينقص عمل عامل، لقوله تعالى :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره( ٧ ) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره( ٨ ) ﴾( الزلزلة ). وإن النص عام يشمل المؤمن وغير المؤمن في ظاهره، ولذا تكلم العلماء في أعمال الخير التي تقع من الكافر إذا قصد بها وجه الله تعالى مع كفره وضلاله، وقال الأكثرون إن الله لا يغفر الشرك، ويعطي الكافر ثواب الخير في الدنيا، أما المسلم فيؤتيه ثواب الخير في الدنيا والآخرة، واستندوا في ذلك إلى ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى بها إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها"١.
وإن ذلك نظر حسن يفسره ما نراه للكافرين من نعم مادية في الدنيا تجرى عليهم، فلعلها ثمرة لما عملوا من بعض الخيرات في التعاون الإنساني، وثمرة لاتخاذهم أسباب الرزق على وجه كامل.
ويميل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده إلى أن الكافر إن عمل خيرا يقصد به وجه الله أو سبيل الخير المجردة، لا يضيعه الله تعالى عليه يوم القيامة، ولكن ينقص به من سيئاته، غير الكفر والإشراك فإن هذين لا يكفرهما شيء، ويؤيد نظره هذا بأن الآثار قد وردت بأنه يخفف عن أبي طالب لكفالته النبي صلى الله عليه وسلم، وحمايته له٢، وقد كان في ذلك حماية للدولة الإسلامية.
وقد روى أيضا أنه يخفف عن أبي لهب لعتقه ثويبة حين بشرت بمولد النبي صلى الله عليه وسلم٣، وأبو لهب هذا هو الذي قال الله تعالى فيه وفي امرأته :﴿ تبت يدا أبي لهب وتب( ١ ) ﴾ إلى قوله{ وامرأته حمالة الحطب( ٤ ) في جيدها حبل من مسد( ٥ )( المسد ). فحسنات الكفار تكفر السيئات التي دون الشرك والكفر، على هذا النظر، فالكفر لا يغفر، ويذهب من السيئات الأخرى بمقدار الحسنات، ونحن لا نرى في ذلك خروجا عن حكم الإسلام، وهو معقول في ذاته يتفق مع عموم النصوص، وإن كنا نميل إلى الأول.
﴿ وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾وإن الله سبحانه وتعالى عفو غفور رحيم بعباده، لا يكتفي بمنع الظلم عمن يحسن، بل إنه يضاعف الأجر لمن يحسن، و"تك" أصلها"تكن" حذفت النون و"كان"هنا ناقصة، والمعنى : وإن تكن الفعلة حسنة تكون مضاعفة، ومعنى يضاعفها أي يكون بدلها أمثالا كثيرة لها. وقد قيل : إن الفرق بين المضاعفة والتضعيف أن المضاعفة تكون بأضعاف كثيرة، والتضعيف يكون بضعفين اثنين، والمؤدى أن الحسنة تكون بأمثال كثيرة لها كقوله تعالى :
﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة( ٢٤٥ ) ﴾( البقرة ) وقوله تعالى :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون( ١٦٠ ) ﴾ ( الأنعام )فالله سبحانه وتعالى لا ينقص من عمل الخير شيئا بل يضاعفه في الآخرة، وإن الله سبحانه وتعالى فوق هذا الجزاء المضاعف أضعافا كثيرة يزيد المحسن من عطائه، ولذا قال سبحانه :﴿ ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾أي أن الله تعالى يعطي عطاء كثيرا، غير ملاحظ فيه المثلية والمضاعفة، بل إنه سبحانه فوق مضاعفة الحسنة بأمثالها، يعطي عطاء سمحا غير مقيد بالمضاعفة، بل إنه يكون سماحا، وكرما من الله تعالى. وسمى ذلك العطاء أجرا، وهو في الحقيقة ليس في مقابل عمل، لأن مقابلة العمل كانت بالأمثال السابقة، لأن الأجر قد يطلق على مطلق العطاء، وإن لم يكن له مقابل، وتفضل الله تعالى في كرمه فسماه أجرا، وإن لم يكن له نظير، فهو أجر غير ممنون.
وقد عظم الله سبحانه وتعالى العطاء غير الممنون بوصفين.
أحدهما : أنه عظيم في ذاته ذو جلال وشأن، فهو رضوان الله تعالى، ونعيم مقيم، وجنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
والثاني : أنه عطاء من لدن الله تعالى، فهو نال شرفا إضافيا بأنه من الله تعالى.
وكانت عظمة العطاء على ذلك الوجه ليقدم المؤمن على العمل الصالح.
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن كل ما يكون يوم القيامة من حساب، أدلته ثابتة من نطق الجوارح بما صنعت، ومن شهادة الأنبياء بالتبليغ والبيان، فالجرائم معها دليل وقوعها، والقانون الذي نظم العقاب وجرمها قائم بشهادة الذين أعلنوه وبينوه، ولذا قال تعالى :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾.
١ رواه مسلم : صفة القيامة والجنة والنار "٢٨٠٨" عن أنس بن مالك رضي الله عنه..
٢ قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك، فإنه يحوطك ويغضب لك؟ قال: "هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"(رواه البخاري: المناقب قصة أبي طالب(٣٨٨٣)، ومسلم: الإيمان شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبى طالب(٢٠٩). والضحضاح من النار: موضع لا عمق له يبلغ كعبيه تغلى منه دماغه، كما فسرته الروايات الأخرى في صحيح البخاري..
٣ قال عروة: وثويبة مولاة لأبي لهب كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة، قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة. رواه البخاري: النكاح﴿وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم﴾(٥١٥١) وشر حيبة: على أسوأ حالة من الهم والحزن..
﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة، سواء أكانت هذه العبادة في التكليفات التي خصصت للعبادة ذاتها، أم كانت من المعاملات بين الناس التي لا بد من نية القربة فيها. فالإنفاق لا بد أن يخلص لله تعالى، كالصلاة لا بد أن تكون خالصة لله. فالنية في الأقوال والأفعال أساس الجزاء من عقاب وثواب.
الاستفهام هنا للتنبيه، وبيان ما سيكون يوم القيامة من حساب يتبعه عقاب عادل، أو ثواب يتبعه جزاء سابغ وعطاء غير ممنون. والمعنى تنبهوا أي هؤلاء الذين يجحدون الأدلة القائمة، والرسالات الثابتة، وتصوروا حالكم، وأعمالكم تنطق بها ألسنتكم وجوارحكم، ومعكم النبيون يشهدون عليكم بالتبليغ والبيان، وأنه لم يكن لكم حجة في كفر، ولا معذرة في جحود. والشهيد هو الشاهد الناطق بالحق، المتحري المستقصي الذي لا يترك حقا لم يبينه. ومعنى قوله تعالى :
﴿ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾أنه يؤتى لكل أمة من الأمم بشهيد منها هو نبيها الذي بعث فيها ودعاها إلى الحق، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فكل نبي يشهد على قومه بالتبليغ والبيان. وما من أمة إلا كان لها نذير، فقد قال تعالى :﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير( ٢٤ ) ﴾( فاطر )، وقال تعالى{... وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا( ١٥ )( الإسراء ).
وقد اختلف في الإشارة في قوله تعالى :﴿ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾، فقال بعض المفسرين : إن الإشارة في هؤلاء إلى النبيين السابقين، فالنبي صلى الله عليه وسلم باعتباره خاتم النبيين، وأن رسالته خالدة إلى يوم القيامة، ولتكريم الله تعالى، يكون شاهدا على كل النبيين السابقين، والشهادة عليهم بمعنى أداء الشهادة بأنهم بلغوا، وكانت التعدية بعلى للإشارة إلى معنى المحافظة على أصول الشرائع السابقة لاشتمال القرآن الكريم عليها، ونشرها خالصة سائغة واضحة بينة للأجيال.
هذا هو القول الأول_ والقول الثاني أن المشار إليهم في النص الكريم هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي أكثر الأمم عددا ؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا ؛ إذ دينه لم يحرف ولم يبدل، فقد حفظت أصوله في القرآن الكريم، وهو نور الله تعالى الباقي إلى يوم القيامة، كما قال تعالى :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون( ٩ ) ﴾( الحجر ) وإن الكثيرين على الأول ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم له شهادتان إحداهما شهادة للرسالات السابقة بالصدق والبيان، وقد اطلع على الشهادة المسلمون ببيان القرآن، والثانية شهادته على أمته، وقد جمع الشهادتين قوله تعالى :﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا( ١٤٣ ) ﴾( البقرة ) وإن تلك منزلة عالية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به إيمانا صادقا الذين يذعنون للحق دائما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعظم أمر هذه الشهادة، فقد روى أحمد في مسنده، والبخاري في صحيحه والترمذي والنسائي في سننهما، عن عبد الله بن مسعود أنه قال :"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ علي"، قلت : يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أنزل ؟ قال :"نعم أحب أن أسمع من غيري"، فقرأت سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾، فقال :"أمسك"، وفي رواية :"حسبك الآن"، فإذا عيناه تذرفان١. وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرط إيمانه بالله تعالى تخوف يوم الحساب والعقاب، واستعظم تلك الشهادة التي وضعت في عنقه، وهي أعظم أمانة، فسالت عبرات عينيه صلى الله عليه وسلم٢.
١ متفق عليه، وهذا الفظ في صحيح البخاري: تفسير القرآن﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد﴾(٥٤٨٢)، فضائل القرآن_ قول المقرئ للقارئ: حسبك(٥٠٥٠)، ورواه مسلم: صلاة المسافرين_ فضل استماع القرآن(٨٠٠). عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه..
٢ وفي البحر المحيط ج٣، ص٦٤٢: وبكاؤه_ والله أعلم_ هو إشفاق على أمته ورحمة لهم من هول ذلك اليوم. وقال الآلوسي ج٥، ص٣٣: "فإذا كان هذا الشاهد تفيض عيناه لهول هذه المقالة وعظم تلك الحالة، فماذا لعمرى يصنع المشهود عليه؟! وكأنه بالقيامة وقد أناخت لديه.."
وفي الدر المنثورج٢، ٥٤٠: وأخرج ابن أبي حاتم والبغوي في معجمه والطبراني بسند حسن عن محمد بن فضالة الأنصاري- وكان ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في نبى ظفر ومعه ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وناس من أصحابه، فأمر قارئا فقرأ فأتى على هذه الآية﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا﴾فبكى حتى اضطرب لحياه وجنباه، وقال:" يا رب هذا شهدت على من أنا بين ظهريه فكيف بمن لم أراه؟".
فائدة: في بكاء النبي صلى الله عليه وسلم من زاد المعاد ج١، ص١٣٤: وأما بكاؤه، فكان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا، ويسمه لصدره أزيز. وكان بكاؤه تارة رحمة للميت، وتارة خوفا على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال، مصاحب للخوف والخشية..

﴿ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ﴾
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة، سواء أكانت هذه العبادة في التكليفات التي خصصت للعبادة ذاتها، أم كانت من المعاملات بين الناس التي لا بد من نية القربة فيها. فالإنفاق لا بد أن يخلص لله تعالى، كالصلاة لا بد أن تكون خالصة لله. فالنية في الأقوال والأفعال أساس الجزاء من عقاب وثواب.
يومئذ- هي ظرف مضاف إلى الظرف، ودخله التنوين على غير ما يقرره قياس النحويين، لبيان عظم ذلك الزمان الثاني وهوله، وأضيف الظرف إلى الظرف لتأكيد وجود ذلك الزمان، فهو يوم مؤكد الوقوع وهو على الكافرين عسير، ولشدته يحب ويتمنى الذين كفروا وعصوا الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم أو عصوا أي رسول بعث إليهم_ وتكون اللام للاستغراق_ أن يكون ترابا كالأرض ؛ كما قال تعالى :﴿ ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا( ٤٠ ) ﴾( النبأ )، وهذا معنى تسويته بالأرض. ويصح أن يكون المعنى أن يدفنوا ويعودوا إلى القبور، وتسوى بهم الأرض كما كانوا من قبل. ويصح أن يكون المراد ألا يبعثوا وأن يستمروا مقبورين، والأرض مسواة عليهم. والباء في قوله تعالى"بهم" على التخريجات السابقة التي تنتهي إلى معنى واحد، للملاصقة، أي يستمرون ملاصقين للأرض على أنهم جزء منها أو في داخلها.
وهذا التمني الذي تدل عليه "لو"سببه عصيانهم وكفرهم بالأنبياء، وشهادة النبيين عليهم بالتبليغ وشهادة جوارحهم عليهم بالارتكاب، وقد قال سبحانه من بعد ذلك :
﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾أي لا يكتمون يوم القيامة حديثا من أحاديث أنفسهم، فكل ما يجول بخاطرهم تنطق به ألسنتهم وجوارحهم، وإذا كذبت الألسنة صدقت الجوارح، وقوله تعالى :﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾عطف على﴿ يود ﴾في النص السابق، والمعنى أنهم يودون لو تسوى بهم الأرض، ولا يكتمون مع ذلك حديثا، أي حال التمني هذه ربما كانت تسوغ لهم الكذب، ولكنهم مع ذلك لا يكتمون منه، وإن كذبت الألسنة شهدت سائر الأعضاء.
وقيل إن الواو في قوله تعالى :﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ للحال، والمعنى على هذا : أنهم يودون أن تسوى بهم الأرض، والحال أنهم مع ذلك لا يكتمون حديثا من أحوالهم في الدنيا. والمؤدى على التخريجين واحد، فلا مناص من ثبوت جرائهم. وشهادة الأنبياء بالتبليغ. اللهم إنا نضرع إليك أن تجنبنا الزلل، وأن تغفر لنا خطايانا، وأن تغمرنا برحمتك يوم المطلع والحساب والعقاب، كما غمرتنا بها في الدنيا، فإنك الغفور الرحيم.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا( ٤٣ ) ﴾
أمر الله سبحانه وتعالى فيما سبق من قول حكيم بعبادته وحده، وألا يشرك العبد به شيئا، ثُم أمر بعد ذلك بحسن المعاملة، بالأقربين، ثم بالناس أجمعين، وبالأخذ بيد الضعيف، وبإخلاص النية له سبحانه في القول والعمل، وأن الرياء ينافي الاتجاه إلى الله وحده. وفي هذه الآية الكريمة بين طريق المعاملة الكريمة، وتربية الإخلاص له سبحانه وتعالى، وهي الصلاة، وقد ذكرها بذكر ما يجب من مقدماتها، وهو تطهير الجسم والقلب، فقال سبحانه وتعالى :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ﴾ يذكر المفسرون في معنى لا تقربوا الصلاة تأويلين : أحدهما : أن المعنى لا تقوموا بها، أو لا تغشوها واجتنبوها وأنتم سكارى، كما قال سبحانه" ﴿ ولا تقربوا مال اليتيم( ٣٤ ) ﴾ ( الإسراء )، وكما قال تعالى :﴿ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ﴾. و الثاني : أن معنى قرب الصلاة قرب مواضعها، أي لا تقربوا مواضع الصلاة وأنتم سكارى، وإذا كان النهي عن قرب الموضع قائما، فهو بلا ريب متضمن النهي عن الفعل نفسه، فهذا التأويل يزيد المعنى فيه عن الأول بالنهي عن دخول السكران المسجد حتى يستفيق، وفي ذلك احترام للمسجد وتكريم لبيوت أذن الله تعالى أن يرفع ذكره فيها.
والنهي هنا عن الصلاة في حال السكر، لأن ذلك يتنافى مع الخشوع والقصد وإخلاص النية في كل جزء من أجزائها لله تعالى. وقد حد النهي بنهاية معينة، وهي الاستفاقة وفهم ما يقول، ولذا قال سبحانه :﴿ حتى تعلموا ما تقولون ﴾أي حتى تقصدوا قصدا حقيقيا بنية خالصة، عالمين موقفكم من الله تعالى، وعالمين بما يشير إليه لفظ التكبير، ولفظ التسبيح، ومعاني الفاتحة التي هي دعاء القرآن وضراعة المؤمن لربه، ومعاني الآيات التي تتلى في الصلاة، فهذا هو ما يقال في الصلاة. فليس العلم الذي هو الغاية التي ينتهي عندها هو مجرد الإدراك والفهم، وذهاب غيبوبة السكر، بل العلم هو هذا اليقين والإدراك العالي الذي به تقام الصلاة، ويكون حسن إقامتها.
وقد يقال : كيف يخاطب السكران بهذا النهي ؟والجواب عن ذلك أنه خطاب له وهو وعيه بحيث يعمل على تجنب السكر في وقت الصلاة، ولا قرب وقتها، فكان النهي يتضمن الأمر بتجنب الشرب قي أوقات الصلاة وما قبلها، بحيث يتحرى ألا يجيء وقت الصلاة إلا وهو مدرك إدراكا تاما. وإنه يؤيد هذا قوله :﴿ وأنتم سكارى ﴾فإن هذا التعبير يفيد النهي عن القرب من الصلاة وهم بهذه الحال، فهو يفيد النهي عن السكر قبلها، حتى يكون صاحيا وقتها.
وإنه يترتب على هذا مراعاة أن يكون السكر في غير أوقات الصلاة، وأن يتأكد أن وقت الصلاة لا يدركه إلا وهو يعلم ما يقول، فلا يسكر الشخص قط في أثناء النهار ؛ لأنه لا يمكن أن يضمن الصحو في وقت الصلاة، إذا شرب مسكرا في أثاء اليوم. ولا يتمكن من السكر إلا بعد العشاء، وإنه يجب أن يعلم أن الصحابة الذين كان يقع منهم الشرب أحيانا قبل التحريم الشافي، منهم من كان يتهجد في الليل، وإذا تردد بين الشرب والتهجد آثر صلاة الليل.
وإن ذلك كله قبل التحريم القاطع المنهي لحال العفو عن الشرب، وقد قالوا : عن ذلك قبيل كان من التدرج حتى يألفوا اجتناب الخمر، ويستأنسوا بتحريمها تحريما قاطعا.
﴿ ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ﴾والجنب من أتى النساء ولم يغتسل، وتكون المرأة أيضا جنبا، وهو يستعمل وصفا، وأصله مصدر، ولذلك يطلق على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، ولفظ جنب هنا المراد به الجمع، وهو عطف على الحال، وهو :﴿ وأنتم سكارى ﴾.
والمعنى : النهي عن قرب الصلاة جنبا، كالنهي عن قرب الصلاة( وهو سكارى ). وإذا كان النهي في لأول مؤداه الأمر بتجنب السكر وقت الصلاة. فكذلك الأمر هنا مؤداه تجنب ما يكون سببا للجنابة وقت الصلاة.
وقوله تعالى :﴿ إلا عابري سبيل ﴾، قال بعضهم : إنه المسافر، لأن المسافر يعبر الطريق ولا يتوقف بل يسير. وقد استبعد الأستاذ الشيخ محمد عبده أن يعبر عن المسافر ب"عابر سبيل" بل التعبير القرآني الشائع هو كلمة"على سفر". وقالوا إن تفسير عابري السبيل بالمسافر هو على منهاج من يفسر﴿ لا تقربوا الصلاة ﴾ بقربها هي. وأما من قال إن المراد من قرب الصلاة قرب موضعها، المتضمن النهي عنها، فإنه يكون معنى عابر السبيل الذي يمر من المسجد لحاجة، فإن الجنب محرم عليه دخول المسجد إلا أن يكون عابر طريق فيه لحاجة، ولا يمكنه لوصول إلى حاجته إلا إذا مر من المسجد. وقد مر أن النهي عن قرب مكان الصلاة وهو جنب نهي ضمني عن الصلاة ذاتها، ولذا أشرنا باختياره، ولقد روى أن عائشة رضي الله عنها قالت :"جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال :"وجهوا هذه البيوت عن المسجد"١، فقبل توجيه البيوت كان بعض الذين بيوتهم تجاور المسجد لا ينفذون إلى الطريق إلا منه، وبعض فقراء الصحابة كانوا يقيمون في المسجد، ولهذا استثنى عابر السبيل منه لحاجته، لكيلا يكون على المؤمن حرج.
وقوله تعالى :﴿ حتى تغتسلوا ﴾ بيان لغاية المنع بالنسبة للجنب، فكما أن المنع بالنسبة لمن هو في حال سكر هو أن يعلم ما يقول، فكذلك النهي لمن هو في حال جنابة نهايته هو الاغتسال. والاغتسال تعميم الجسم كله بالماء، وإن الاغتسال بعد الجنابة طهارة حسية، ونفسية، وتعويض بدني، وإنعاش للأعصاب بعد أن أنهكت أو أجهدت. وإن الطهارة النفسية بالاغتسال لما في الاغتسال والاستعداد به للصلاة من تذكر لله تعالى وقت أن استحكمت الشهوة وتحكمت ونفذت، فتخلص نفسه من المادية التي كانت فيها وسيطرت عليها، وإذا تذكر الله طلب الولد والنسل والذرية الطيبة من زوجه الطاهرة. وأما الإنعاش للأعصاب، والتعويض البدني، فإن هذين الأمرين يؤيدهما الحس والتجربة، ولا ينكرهما الطب.
وإن بعض الناس يكون مريضا يشق عليه استعمال الماء، أو يكون على سفر يشق عليه الحصول على الماء، ولذلك شرع له التيمم، وهو طهارة روحية فقط، إذا عجز عن الطهارة الحسية بالماء، ولذا قاله سبحانه :
﴿ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ﴾هذا النص اشتمل على الأعذار التي تسوغ التيمم، وأول هذه الأعذار المرض، وهو الذي يضر معه استعمال الماء، أو يزيده الماء، أو يبطئ برءه، فإن الله يرخص لهذا المريض أن يتيمم بدل أن يتوضأ، أو يغتسل إذا كان الموجب لاستعمال الماء هو الجنابة. وثاني هذه الأعذار السفر، والسفر عادة يقل فيه الماء، فإذا لم يجده أصلا، أو كان معه من ماء يبقيه ليتقى به العطش في مجاهل الأرض، فإنه يكون له أن يتيمم بدل الوضوء والاغتسال، كل في موضعه وعند تحقق سببه. والثالث عدم وجود الماء في الحضر من غير سفر، فإنه يسوغ التيمم... ومثل حال المرض ما إذا كان الماء باردا بردا شديدا، ولا يوجد معه ما يدفئ به الماء، ليتقي ضرره، فإنه يسوغ التيمم، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقد كان عمرو بن العاص على سفر في غزوة، فأصابهم ما أوجب الاغتسال، وكان البرد شديدا، والماء شديد البرد، فتيمم خشية من استعمال الماء الشديد البرودة، وأبلغ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأقره٢ وإنه إذا كان المرض يجيز التيمم فتوقعه المؤكد أو الذي يغلب على الظن يبيح التيمم أيضا.
وبين سبحانه بالإشارة أسباب الوضوء أو التيمم فقال :"أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء }، والغائط من الغيط، الأصل في معناه ما انخفض من الأرض، والجمع غيطان وأغواط، ولما كان ما يلفظ من باطن الإنسان عن طريقه الطبيعي يكون في غوط الأرض عند الكثيرين من أهل البادية أطلق عليه ذلك الاسم، من قبيل إطلاق اسم المكان على ما يحول فيه، وهذا مجاز عربي اشتهر حتى صار حقيقة عرفية، والمجاز إذا اشتهر صار كالحقيقة لا يبحث له عن أصل، ولا عن علاقة، فصار يطلق ولو كان ذلك الملفوظ لا يلقى في غوط الأرض أو منخفضها.
وقوله تعالى :﴿ أو لامستم ﴾ في قراءة :﴿ أو لامستم النساء ﴾٣كناية عن الدخول بهن، فهو لا يعبر عن هذا المعنى إلا بهذه الكناية الظاهرة، ومثله المس يعبر عن الدخول، فقد قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها( ٤٩ ) ﴾( الأحزاب )، وقال تعالى :{ لا جناح عليكم إذا طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة( ٢٣٦ )( البقرة )، ففي هذه العبارات السامية وأمثالها، يكون المس المراد به الدخول. وقد جوز الشافعي الجمع بين الحقيقة والمجاز، فلم يمنع أن يراد باللمس معناه الحقيقي وهو مس بشرة الجسم، ومعناه المجازي أو الكنائي وهو الدخول بالمرأة، ولذا نقض الوضوء عنده بمطلق لمس امرأة ليست ذات رحم محرم ما دامت قد بلغت البلوغ الطبيعي.
و( أو )في قوله تعالى :﴿ أو جاء أحد منكم من الغائط ﴾قال بعض العلماء إنها بمعنى الواو، والمعنى على ذلك : وإن كنتم مرضى، أو على سفر، وجاء أحد منكم من الغائط، أو جامعتم النساء، فتيمموا صعيدا طيبا. والأولى أن تكون على معناها، ويكون الكلام على تقدير محذوف دل عليه ما بعده، وتأويل القول هكذا : وإن كنتم مرضى أو على سفر، وأصابتكم جنابة، أو ما ينقض الوضوء، فتيمموا. أو أصابكم ما ينقض الوضوء أو ما يحدث جنابة فلم تجدوا ماء فتيمموا في الكلام تقسيم حسن أوله التيمم لأجل المرض أو السفر وشح الماء، والثاني التيمم في حال الإقامة إذا لم يوجد الماء، ويكون قوله تعالى :﴿ فلم تجدوا ماء ﴾ متصلا بحال السلامة والإقامة، وهو معقول، إذ المرض يسوغ التيمم، ولو كان ماء، والمسافر قد يجد الماء، ولكن يحتاج إليه للشرب، والإقامة التي لا يكون فيها الماء، ويكون فقده هو المبرر وحده.
﴿ فتيمموا صعيدا طيبا ﴾التيمم معناه في اللغة القصد، وأطلق شرعا على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به، ولذا قال :﴿ فتيمموا صعيدا طيبا ﴾، أي اقصدوا ترابا على ظاهر الأرض طاهرا. فالصعيد هو سطح الأرض، والتيمم من التراب الثابت فيه، ومعنى الطيب الطاهر، فمادة التيمم تراب طاهر، والتيمم عبادة يتقدم بها إلى الصلاة، والأمر فيها تعبدي، لا يبحث عن علته، ولكن الطاعة فيه تدل على قوة الإيمان، وهو كيفما كان رمز لخلوص القلب وصفاء النفس بالاتجاه إلى الله تعالى. وينقض التيمم ما ينقض الوضوء، كما ينقضه وجود الماء والقدرة على استعماله قبل انتهاء وقت الصلاة أو قبل أدائها به، فإجماع العلماء أن على من وجد الماء أو قدر على استعماله قبل أداء الصلاة- نقض تيممه ووجب عليه الوضوء.
وقد بين سبحانه وتعالى أركان التيمم فقال :﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾أي امسحوا وجوهكم وأيديكم بالتراب. وقد اتفقوا على ضرورة مسح الوجه كله كالوضوء، والأكثرون على أن مسح اليدين إلى المرفقين، وهو المنصوص عليه في القرآن بالنسبة للوضوء، فقد قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قم
١ رواه أبو داود(٢٣٢)، والبيهقي في السنن الكبرى(٤٣٥٦)، وفي صحيح ابن خزيمة(١٣٢٧)، وفي مسند إسحاق بن راهويه(١٧٨٠) عن عائشة رضي الله عنها..
٢ عن عمر ابن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟" فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما﴾فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا. رواه أبو داود: الطهارة- إذا خاف الجنب البرد أيتيمم، وأحمد: مسند الشاميين(١٧٣٥٦) وذكره البخاري تعليقا: كتاب التيمم، فقال: باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم، ويذكر أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة فتيمم وتلا: ﴿ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما﴾ فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف..
٣ قرأها﴿لمستم﴾بغير ألف: حمزة والكسائي وخلف، والمفضل عن عاصم، وقرأ الباقون﴿لامستم﴾. غاية لاختصار-ج٢، ص٤٦٤. تحقيق د. أشرف محمد فؤاد طلعت. التوعية الإسلامية..
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل( ٤٤ ) والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا( ٤٥ ) من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليِِِّاً بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليل( ٤٦ ). ﴾
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى وجوب الإخلاص لله سبحانه وتعالى فيما يؤدي العبد من فرائض، وما يقوم من صدقات، وأشار إلى أن الرياء يمحق فعل الخير، ويقرب العبد من الشرك، بل إن الرياء في العبادات هو الشرك الخفي، ثم بين سبحانه وتعالى مقام أهل الإيمان ممن سبقوهم، ومقام صاحب الرسالة في الشهادة على كل من سبقوه، فرسالته هي الحق، وأنه لا يصح لمؤمن أن يستمع لما يكذب به الضالون من أهل الكتاب، وقال سبحانه في ذلك :﴿ ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ﴾
﴿ ألم تر ﴾هذا تعبير قرآني قد تكرر في كثير من آي القرآن الكريم، وأصل الصيغة للاستفهام، وهو موجه إلى عدم الرؤية، والاستفهام إنكاري لنفي وقوع ما دخل عليه، فإذا قال القائل : أفعل فلان كذا... ؟ ! يستنكر نسبة الفعل إليه، فمعناه نفي الفعل مع توبيخ من نسب إليه ذلك، أو تنبيه السامع إلى النفي، لأن معناه حينئذ : ما وقع من فلان هذا الفعل، وما كان يعقل أن يقع منه. والاستفهام هنا متجه إلى أمر منفي، ويقول العلماء إن نفي النفي إثبات، فيكون معنى النص : قد رأيت ونظرت ببصيرتك وبصرك إلى عمل الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، وفي هذا التعبير تنبيه إلى تأكد العلم بحال هؤلاء الذين تراهم من أهل الكتاب، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم أوتوا نصيبا أي مقدارا من الكتاب ولم يؤتوا الكتاب كله ؛ لأنهم نسوا حظا مما ذكروا به، ولأن الأحداث التي توالت عليهم من غارات التتار ومظالم الرومان، قد جعلت أجزاء من كتبهم تتقطع سلسلة سندها، ويذهب عنهم علمها، وهم فوق ذلك لم يعملوا بأحكام ما وصل إليهم، فهل قد وصل إليهم بعض الكتاب، وحرفوا ذلك الذي وصل إليهم، وأوّلوه على غير معناه، وأهملوا العمل بأكثره، فهم لم يؤتوا علما وتفسيرا وعملا إلا أقله !.
وموضع التنبيه والغرابة ليس هو وصفهم، وإن كان في ذاته أمرا أعجبا، إنما موضعه أنهم يبتغون الضلالة ويطلبونها ولو دفعوا فيها أغلى الأثمان، وهو الهدى، ولا يطلبونها لنفسهم، بل يريدون أن يكون غيرهم مثلهم في ضلالهم، ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل ﴾ أي تبعدوا عن الطريق المستقيم الذي هو صراط الله تعالى قال فيه تعالى :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( ١٥٣ ) ﴾ ( الأنعام ).
وهما يرد بحثان لغويان : أحدهما أنه ذكر هنا المطلوب وهو الضلالة، ولم يذكر المتروك كما في بعض الآيات الكريمة :﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى( ١٦ ) ﴾( البقرة ) والجواب عن ذلك أن ذكر المطلوب وهو الضلالة من غير ذكر المتروك وهو الهدى، أو ذكر المبيع من غير ذكر الثمن، فيه ما يدل على أنهم يطلبون الضلالة في ذاتها، فالبعد عن الحق مطلب لهم وغاية، لأنهم مردوا على الباطل لا يستمرئون غيره ولا يبتغون سواه ! ! ويدل على هذا أن هناك قراءة بالياء١ في ( أن تضلوا )وتكون الآية على هذه القراءة :( ويريدون أن يضلوا )أي أنهم يبتغون الباطل ويريدونه ولا يقعون فيه عن جهل وعماية، بل عن قصد وإرادة، وذلك شر ما تبتلى به النفس.
البحث اللغوي الثاني : أن"ال" في السبيل للعهد، لا للاستغراق، والسبيل الحق معروف بيّن لا عوج فيه، وهو وحده الموصل إلى الحق، لأنه الطريق المستقيم، ولأنه صراط العزيز الحميد.
وإن هؤلاء هم أعداء أهل الإيمان حقا وصدقا، لأنهم يبتغون الضلالة لأنفسهم، ويبتغون الضلالة لغيرهم من المؤمنين، ولقد قال سبحانه مقررا عداوتهم :﴿ والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ﴾.
١ ليست في العشر المتواترة..
﴿ والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ﴾
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى وجوب الإخلاص لله سبحانه وتعالى فيما يؤدي العبد من فرائض، وما يقوم من صدقات، وأشار إلى أن الرياء يمحق فعل الخير، ويقرب العبد من الشرك، بل إن الرياء في العبادات هو الشرك الخفي، ثم بين سبحانه وتعالى مقام أهل الإيمان ممن سبقوهم، ومقام صاحب الرسالة في الشهادة على كل من سبقوه، فرسالته هي الحق، وأنه لا يصح لمؤمن أن يستمع لما يكذب به الضالون من أهل الكتاب، وقال سبحانه في ذلك :﴿ ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ﴾
في هذا النص السادس تحذير للمؤمنين من هؤلاء الذين أوتوا حظّا من الكتاب، وهم يطلبون الضلالة ويبتغونها لأنفسهم وللمؤمنين، لأنهم يحسدونهم، ولأنهم يريدون لهم الخذلان والضلال وأن يكونوا قوما بورا، ! وقد أشار بالنص الكريم إلى أنهم أعداء المؤمنين، وإن كانوا يخفون ما لا يبدون، ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ والله أعلم بأعدائكم ﴾أي أن الله جلت قدرته أعلم منكم بأعدائكم، لأنكم تعلمون ما يبدو من أفعالهم وما يظهر على ألسنتهم، والله سبحانه وتعالى يعلم ما تخفي الصدور، وقد قال تعالى في آية أخرى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لاتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون( ١١٨ ) ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور( ١١٩ ) إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط( ١٢٠ ) ﴾( آل عمران }.
ومع أن هؤلاء أعداؤكم فلا تخافوهم ولكن احذروهم، ولا تتخذوا منهم أولياء توالونهم، بأن تتخذوا ولايتهم ولاية لكم بأن تنضووا تحتها، ولا تستنصروا بهم لأنهم يريدون لكم الخذلان لا النصر، ومن اعتز بغير الله ذل، ومن استنصر بعدوه خذل، وقال سبحانه :﴿ وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ﴾ ويكفي المؤمن في الإعتزاز أن يكون الله وليه، لا ينضوي إلا تحت لواء أهل دينه، ولا يدخل ولاية غير ولايتهم، كما قال تعالى :﴿ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا( ٥٥ ) ﴾( المائدة ). وكما أنه يكفي المؤمن أن يكون لله وليه، فإنه يكفيه أيضا أن يكون الله تعالى ناصره :{ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون( ١٦٠ ) ( آل عمران ).
وهنا بحثان لغويان : أولهما : أن النحويين يقررون أن الباء في قوله تعالى :﴿ وكفى بالله ﴾زائدة في الإعراب، ولكن ليست زائدة في المعنى ؛ إذ هي تشير إلى تضمن الإكتفاء بولاية الله وعونه ونصرته، وكان المعنى : اكتفوا بولاية الله ونصرته، وكفاكم الله الولاية والنصرة والمعونة.
والبحث الثاني : تكرار كلمة﴿ وكفى بالله ﴾وذلك لإلقاء الاطمئنان في قلوب المؤمنين، فإن التكرار فيه توكيد، وفيه الإشعار بعظمة الله جل جلاله الذي يتولى ولايتهم ونصرتهم.
﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى وجوب الإخلاص لله سبحانه وتعالى فيما يؤدي العبد من فرائض، وما يقوم من صدقات، وأشار إلى أن الرياء يمحق فعل الخير، ويقرب العبد من الشرك، بل إن الرياء في العبادات هو الشرك الخفي، ثم بين سبحانه وتعالى مقام أهل الإيمان ممن سبقوهم، ومقام صاحب الرسالة في الشهادة على كل من سبقوه، فرسالته هي الحق، وأنه لا يصح لمؤمن أن يستمع لما يكذب به الضالون من أهل الكتاب، وقال سبحانه في ذلك :﴿ ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ﴾
هذه طائفة من أعمال اليهود في استماعهم لدعوة النبي إلى الحق، وإلى صراط الله المستقيم، وقد ذكر سبحانه أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه، فقوله تعالى :﴿ من الذين هادوا يحرفون ﴾ فيه مبتدأ محذوف يقدر بفريق، والتحريف معناه الإمالة وجعل الكلام محتملا غير معناه.
جاء في مفردات الراغب الأصفهاني : تحريف الكلام أن جعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين. قال عز وجل :﴿ يحرفون الكلم عن مواضعه ﴾ومن بعد مواضعه :﴿... وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون( ٧٥ ) ﴾( البقرة ).
وهذا الفريق ليس تحريفه هو التحريف العام الذي وقع من اليهود في تأويل كتبهم وإهمال كثير منها، وإخفائهم التبشير بالنبي صلى الله عليه وسلم، إنما تحريفهم هو حمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على غير وجهه، وجعله يحتمل ما لا يراد به، كما سنبين، هذا الفريق هو الذي قال الله تعالى فيه :﴿ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون( ٧٥ ) ﴾( البقرة ).
فهذا الفريق لا يكتفي بما فعله أسلافه وما يتحمل وزره الذين يعلمون الكتاب المنزل من قبل ويكتمونه، بل إنه يجعل كلام النبي صلى الله عليه وسلم منحرفا في أذهانهم الملتوية عن حقيقة معناه، ويتهكمون عليه، ويحملونه بأغراضهم الفاسدة ما لا يحتمل المعاني، ولا يكتفون بذلك التحريف، بل يجمعون معه النطق بالعصيان عند السماع، وقد قال الله سبحانه عن تلقيهم لأحكام الشرع التي يبينها النبي صلى الله عليه وسلم :
﴿ ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع ﴾وإن حال هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، كما حرف أسلافهم كتبهم، إنهم إذا سمعوا ما أنزل على الرسول لا يستمعون ليتبعوا الحق إن ظهرت بيناته، بل يستمعون على نية الرد، والاستمرار في العناد، وسد كل أبواب الهداية لكيلا تصل إلى قلوبهم، فإذا سمعوا الرسول يدعو إلى الحق، وإلى صراط مستقيم جمجموا في أنفسهم١ أو غمزوا به فيما بينهم قائلين :﴿ سمعنا وعصينا ﴾أي سمعنا قولك ووعيناه، وعصينا ما تدعونا إليه، وإن كان الحق الذي لا مرية فيه، ولا توجد نفس أوغلت في العناد بأكثر من ذلك ! ! وإنهم يردفون ذلك القول العاصي الذي يرددونه فيما بينهم بكلام من جنسه فيقولون :﴿ واسمع غير مسمع ﴾وقولهم﴿ واسمع ﴾ المراد به إسمع صدى دعوتك لنا وردنا عليها، وقد ذكر الزمخشري أن كلمة﴿ غير مسمع ﴾تحتمل ثلاثة وجوه : أولها : أن يكون المعنى الدعاء على النبي الكريم بأن يصاب بالصمم فلا يسمع، أو لا يسمع خيرا قط. والوجه الثاني : أن يكون المعنى غير مسمع كلامك فلا يجاب ولا يقبل. والوجه الثالث : ما ذكره بقوله رضي الله عنه :"ويجوز أن يكون غير مسمع مفعول اسمع أي اسمع كلاما غير مسمع إياك، لأن أذنيك لا تعيه نبوا عنه"، وإنا نختار ما عليه أكثر المفسرين، وهو أن يكون مرادهم لعنهم الله الدعوة عليه، عليه الصلاة والسلام بعدم السماع، وذلك هو الذي يتفق مع ما عرف عنهم من حقد وحسد للناس على ما آتاهم الله من فضل، وما أودعت نفوسهم من بغض للناس وكره لهم، لحسبانهم أنهم المستحقون للتكريم والرفعة وحدهم بزعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، زادهم الله خزيا في الدنيا، وعذابا في الآخرة، وزاد الله محمدا صلى الله عليه وسلم وشريعته رفعة وتكريما وإعزازا. وإن هؤلاء لعنهم الله يلوون ألسنتهم طعنا في الدين، ولذلك حكى الله عنهم ذلك فقال :
﴿ وراعنا ليّا بألسنتهم وطعنا في الدين ﴾بدل أن يعبروا في خطابهم بقولهم :"انظرنا"نظرة رعاية ومحبة طالبين منه الإقبال عليهم، وإن كان ذلك موجودا، يقولون﴿ وراعنا ﴾ : يفتلون بها ألسنتهم ويحولونها عن المعنى الظاهر لها إلى معنى غير قويم ولا مستقيم، وهو رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرعونة والسفه، ويطعنون بذلك في الدين الذي يدعو إليه، والحق الذي ينفذه. وقد جاء في مفردات الراغب في تفسير قولهم :( وراعنا ) :"قال الله تعالى :﴿... لا تقولوا راعنا...( ١٠٤ ) ﴾( البقرة )، ﴿ وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ﴾ كان ذلك قولا للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التهكم يقصدون رميه بالرعونة، ويوهمون أنهم يقولون :( راعنا )أي ( احفظنا ) فهم ينطقون بالكلمة على أن النون من بنية الكلمة، وليس ضمير المتكلمين، وذلك لي اللسان وفتله، والطعن في الدين.
﴿ ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ﴾هذا بيان لما كان ينبغي، والمعنى : لو ثبت لهم أنهم قالوا سمعنا الحق واتبعناه، وكلام الرسول وأطعناه، ولو قالوا للرسول إسمع إجابتنا دعوة الحق، وانظر إلينا نظرة إقبال وعطف ورعاية من غير أن يلووا ألسنتهم، ويحرفوا القول عن موضعه، وما يدل عليه بظاهره، لكان ذلك خيرا لهم، إذ يفتح باب الهداية في قلوبهم ولا يطمس عليها، ولا يكون ذلك الخزي والذل في الدنيا، أدامه الله تعالى عليهم وبدلهم من أمنهم خوفا، إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا، ولكان ذلك خيرا لهم﴿ وأقوم ﴾أي كان هذا هو الأمر القويم الذي يجب أن يسلكه العقلاء طلاب الهداية. وأفعل التفضيل ليس على بابه، ومعناه أن يكونوا بلغوا من الاستقامة أقصاه، ولكنهم ضلوا ضلالا بعيدا، ولذلك قال سبحانه :
﴿ ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾استدراك مما كان ينبغي لهم، أي أنهم لم يفعلوا ما ينبغي، لأن الله تعالى لعنهم بأن طردهم من رحمته، فبعدوا عن الهداية بسبب إصرارهم على الكفر، وهم بذلك دخلوا في الكفر بإرادتهم، وأوغلوا فيه حتى صار الكفر بالنبوات ديدنهم، فغلقت أبواب الحق عليهم وطمس الله بصائرهم، فلم تر الحق ولم تذعن له، فلا يؤمنون، أي ليس الإيمان من شأنهم بعد أن كان منهم ما كان، ولكن الله تعالى بعدله وحكمته لا ينفي الإيمان عنهم نفيا مطلقا، بل يقرر أن منهم من يؤمن، ولكنه عدد قليل، ولذا قال سبحانه وتعالى :( فلا يؤمنون إلا قليلا )أي إلا عددا قليلا لا يدخل في عموم اللعنة التي كتبها الله تعالى عليهم في جملتهم، وهذا كقوله في آية :﴿ منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون( ٦٦ ) ﴾( المائدة )- هدانا الله تعالى إلى الحق.
١ والجمجمة: أن لا يبين كلامه من غير عي، وفي التهذيب: ألا تبين كلامك من عي..
﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا( ٤٧ ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فد افترى إثما عظيما( ٤٨ ) ﴾.
يقرن الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم طلب التوبة والإيمان بحال المذنبين ولو كانوا قد أسرفوا على أنفسهم، كما قال تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا( ٥٣ ) ﴾ ( الزمر )، فباب الإيمان والتوبة مفتوح للعصاة والكافرين، وإن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وإن أولئك اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يزالون على عهدهم، قد أسرفوا في عصيانهم، ولجوا حتى لقد كان قائلهم يقول إذا سمع دعوة الحق :﴿... سمعنا وعصينا... ( ٤٦ ) ﴾ ( النساء ) ويلوون ألسنتهم استهزاء عند سماع الهدى النبوي ! ! ولا لجاجة في الكفر أكثر من الاستهزاء بالداعي إلى الإيمان ! ومع هذه الحال فيهم وجه الله سبحانه وتعالى الدعوة إلى الإيمان منذرا لمن لا يجيب، ومرغبا من يجد باب الهداية مفتوحا في قلبه، فقال :﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم ﴾
﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم ﴾ النداء لأهل الكتاب كما ترى، والتعبير بالموصول للإشارة إلى أن إعطاء علم الكتاب لهم كان يوجب أن يؤمنوا، لا أن يعرضوا ويعاندوا ويلجوا في العناد. وفي النص الكريم تحريض على الإيمان بثلاثة أمور :
أولها : أنهم أوتوا الكتاب وعلم النبوات، وأنهم يعلمون الوحي الإلهي، والكتاب الذي نزل على نبيهم، والأنبياء قبله، وإن ذلك كله يوجب المسارعة إلى تلبية داعي الحق إذا دعوا، وألا تأخذوا العصبية الدينية، كما تأخذ أهل الشرك العصبية الجاهلية.
وثانيها : أن هذا الإيمان هو التصديق بما نزل الله تعالى على نبيه، والله هو الذي أنزل على نبيكم أو أنبيائكم شرائعه، وهو الذي نزل الشريعة التي تدعوكم إلى الإيمان، ووحدة المنزل توجب الإيمان بكل ما أنزل، وإلا كنتم تؤمنون ببعض وتكفرون ببعض.
وثالثها : أن هذا الذي يدعوكم رب العالمين إلى الإيمان به، هو مصدق ما معكم من الحق ؛ لأن البشارة برسوله عندكم، وقد كنتم تستفتحون به على الذين كفروا، لأن الفضائل الدينية والاجتماعية قد اتفقت فيما يدعو إليه النبي مع ما دعا إليه أنبياؤكم من قبل، فالوحدة الدينية قائمة بوحدة المنزل، وبوحدة الحق الذي يدعوكم إليه رب العالمين.
وقد يقول قائل : في الآيات السابقة، ذكر سبحانه في غير هذا المقام أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به، وفي هذه الآية يناديهم بأنهم "أوتوا الكتاب" ؟ ونقول في الإجابة عن ذلك : إن نسيانهم حظا مما ذكروه به، وتركهم نصيبا منه، لا يمنع الحكم بأنهم أوتوا الكتاب، لأنه نزل على أنبيائهم السابقين كاملا غير منقوص، فهم أعطوه ثم نقصوه، والخطاب لهم على أساس ما أوتوه، لا ما حرفوه، ولعله كان من أحبارهم من يعلم علم الكتاب كله، بل إن ذلك يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى :﴿ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون( ١٥٩ ) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم( ١٦٠ ) ﴾ ( البقرة ).
وقد يكون معنى الكتاب هنا جنسه، وهو يشمل ما بقي عندهم معلنا معرفا، وإن كان ناقصا محرفا.
﴿ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم ﴾ هذا إنذار بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة إن لم يؤمنوا، وقد جاءت في مفردات الأصفهاني في معنى الطمس ما نصه :( الطمس إزالة الأثر بالمحو، قال تعالى :﴿ فإذا النجوم طمست( ٨ ) ﴾( المرسلات )، ﴿ ربنا اطمس على أموالهم...( ٨٨ ) ﴾( يونس ) أي أزل صورتها، ﴿ ولو نشاء لطمسنا على أعينهم...( ٦٦ ) ﴾ ( يس ) أي أزلنا ضوءها وصورتها كما يطمس الأثر. وقوله تعالى :﴿ من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم ﴾، منهم من قال عنى ذلك في الدنيا، وهو أن يصير على وجوههم الشعر، فتصير صورهم كصورة القردة والكلاب، ومنهم من قال ذلك هو في الآخرة إشارة إلى ما قال تعالى :﴿ وأما من أوتي كتابه وراء ظهره( ١٠ ) ﴾ ( الانشقاق )، وهو أن تصير عيونهم في قفاهم. وقيل معناه يردهم عن الهداية إلى الضلال، كقوله تعالى :﴿ وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه( ٢٣ ) ﴾ ( الجاثية : ٢٣ ). وقيل عنى بالوجوه الأعيان والرؤساء، ومعناه نجعل رؤساءهم أذنابا وذلك أعظم البوار ).
هذا هو التفسير اللغوي لمعنى الطمس، وقد حاول الأصفهاني تخريج الآية التي نتكلم في معناها على ما ارتأى من وجوه، فصرنا حيارى في أيها نختار، لو اقتصرنا على ما قال، وقبل أن نبين ما نراه معنى للنص الكريم نبين معنى الأدبار وردها : الأدبار جمع مفرده"دبر"، هو الخلف، أو ما اشتملت عليه أجزاء الجسم الخلفية، والارتداد على الأدبار يكون في القتال يوم الزحف يجعل الوجوه في موضع الأدبار فرارا أو جبنا، بمعنى أنه كان يجب أن يستقبل المقاتلين بوجهه فينقلب إلى جهة دبره. وقد يكون الارتداد على الأدبار معنويا كقوله تعالى :﴿ إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم( ٢٥ ) ﴾( محمد ).
إن الذي يبدوا لنا من ظاهر النص أنه يراد به سحقهم في القتال، وحملهم على أن يولوا الأدبار، فتكون وجوههم غير بادية بصورها، بعد أن كانوا مقبلين بها، فأزالها السيف والخوف، وجعل صورتها مختفية، وأقفيتهم هي البادية الواضحة، فكأن صورة الوجوه قد زالت وحلت محلها صورة الأدبار.
وعلى ذلك يكون المعنى أنكم استرسلتم في غيكم وضلالكم، ومع ذلك نطالبكم بالهداية والإيمان قبل أن ينزل الله سبحانه وتعالى غضبه عليكم في الدنيا إذ تماديتم، وذلك بتسليط المؤمنين بالحق عليكم، فيذيقونكم بأس القتال فتفرون، وتختفي وجوهكم، وترد إلى مواضع الأدبار، فلا ترى إلا أدباركم. وإذا لم يكتب الله سحقكم وحملكم على تولي الأدبار، فإنكم ستلعنون كما لعن أصحاب السبت، وتطردون من رحمته، ويكتب عليكم الذل إلى يوم القيامة.
﴿ أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا ﴾اللعن الطرد من الرحمة وإنزال العذاب، وقد كان في شريعة بني إسرائيل ألا يعملوا في يوم السبت ليستريحوا وينصرفوا للعبادة، والتعاون الاجتماعي، ولكن رغبتهم في المال وشرههم إليه يحمل بعضهم على العمل، فإنه كانت قرية كبيرة تطل على البحر، قد اختبرها الله تعالى، فكانت في يوم السبت تأتيهم الحيتان ظاهرة في هذا اليوم الذي ينقطعون فيه عن العمل، ولا تأتيهم اليوم الذي يعملون فيه، ليحملهم الله تعالى على الطاعة للأوامر الإلهية، وليدركوا سر الله في خلق الكون، وأنه فعال لما يريد، وهذا قوله تعالى :﴿ واسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون( ١٦٣ ) ﴾( الأعراف ) : وقال سبحانه :﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين( ٦٥ ) ﴾( البقرة ). فالله سبحانه عاقب الذين اعتدوا في السبت بأن سلط عليهم نزوات أهوائهم وشهواتهم، وبها ضربت عليهم الذلة، ولعنهم الله تعالى، فكذلك هؤلاء الذين عاندوا وكفروا. وذلك أمر قدره الله عليهم فهم ملعونون في كل الأجيال والأزمان، ولذا قال سبحانه :﴿ وكان أمر الله مفعولا ﴾أي قد ثبت وتقرر أن أمر الله تعالى فيما يخبر به، مقدر واقع لا محالة، فلا مناص منه، فهؤلاء الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم لهم أحد العذابين : إما سحقهم بالقتال الذي يولون فيه الأدبار، وإما ضرب الذلة عليهم ولعنهم من الناس أجمعين. وإن ذلك محقق بعون الله، وقد قال الزمخشري في هذا المقام : قد حصل اللعن، فهم ملعونون بكل لسان ! والظاهر اللعن المتعارف دون المسخ، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير( ٦٠ ) ﴾ ( المائدة ).
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾
يقرن الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم طلب التوبة والإيمان بحال المذنبين ولو كانوا قد أسرفوا على أنفسهم، كما قال تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا( ٥٣ ) ﴾ ( الزمر )، فباب الإيمان والتوبة مفتوح للعصاة والكافرين، وإن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وإن أولئك اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يزالون على عهدهم، قد أسرفوا في عصيانهم، ولجوا حتى لقد كان قائلهم يقول إذا سمع دعوة الحق :﴿... سمعنا وعصينا... ( ٤٦ ) ﴾ ( النساء ) ويلوون ألسنتهم استهزاء عند سماع الهدى النبوي ! ! ولا لجاجة في الكفر أكثر من الاستهزاء بالداعي إلى الإيمان ! ومع هذه الحال فيهم وجه الله سبحانه وتعالى الدعوة إلى الإيمان منذرا لمن لا يجيب، ومرغبا من يجد باب الهداية مفتوحا في قلبه، فقال :﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم ﴾
اشتملت الآية السابقة على دعوة أهل الكتاب، وأنه إن ينتهوا يغفر لهم ما سلف، وعلى إنذار شديد في الدنيا بإجلائهم وقتلهم أو لعنهم من الناس أجمعين، وفي هذا النص الكريم فتح لباب المغفرة التي كتبها الله على نفسه لعباده ؛ لأنه كتب على نفسه الرحمة، ومعنى النص : إن الله تعالى ليس من شأنه أن يغفر لمن يشرك به في العبادة أو الربوبية، لأن الشرك انحراف شديد لا يقبل الغفران، إلا أن يعود إلى التوحيد المطلق بعد الإشراك. والإشراك نوعان : إشراك في الإنشاء والتكوين أو العبادة، كأولئك الذين يعتقدون أن الكواكب لها دخل في الإنشاء، وكأولئك الذين يعبدون غير الله، وإن كانوا يعتقدون أن الله تعالى وحده هو الذي خلق وأنشأ وكون، ويعبدون الأوثان لأنها في زعمهم تقربهم إلى الله زلفى. والنوع الثاني من الإشراك أن يتركوا كتب الله تعالى، ويعرضوا عنها، ويتخذوا دينهم من الأحبار، ولو غيروا فيه وبدلوا، زاعمين أنهم لا يتكلمون إلا عن الله تعالى، وإن كان الكتاب يخالف قولهم، ومن هؤلاء من أشار الله تعالى إليهم بقوله تعالى :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون( ٣١ ) ﴾( التوبة ).
فهذا النوع من الإشراك لا يقل خطرا عن الشرك في العبادة، لأن الله وحده هو الذي أنشأ الكون، وهو وحده الذي يشرع لعباده، وبين لهم أوامره ونواهيه، وليس لأحد أن يتكلم عنه إلا أن يكون رسولا منه إلى العالمين، فمن اتخذ غير الرسول طريقا لمعرفة شرع الله من غير كتاب الرسول وكلامه فقد أشرك بالله.
وقد ذكر سبحانه أنه لا يغفر ذلك، وأكد عدم الغفران لهذه الحال ب( إن ) التي تفيد التوكيد، فلا يرجوا مشرك غفرانا، أيا كان نوع الشرك، إلا أن يقلع عنه، فإن الله تعالى غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا.
وقد ذكر سبحانه أنه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، وما دون الشرك يكون من مرتكب الكبيرة أو الصغيرة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن آمن بالأنبياء السابقين قبل أن تنسخ شريعتهم بالشريعة المحمدية، فإن هؤلاء قد وعد سبحانه وتعالى فضلا منه ومنة على عباده أن يغفر لهم ما يشاء لمن يشاء من عباده. ذلك أن من يرتكب الكبيرة إن تاب عنها غفرها الله تعالى، وإن لم يتب ولم تحط الخطايا بنفسه، وله حسنات، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وفي ميزان الله تعالى العادل يوم القيامة توزن الحسنات والسيئات، فمن ثقلت كفة حسناته فأولئك هم المفلحون.
ومشيئة الله تعالى هي مشيئة الحكيم الخبير، الذي يضع كل أمر في موضعه، ولا يظلم ربك أحدا.
﴿ ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ﴾الافتراء هنا معناه الكذب الشديد لذي يؤدي إلى الفساد، جاء في مفردات الراغب : الفرى قطع الجلد للخرز والإصلاح، والإفراء للإفساد، والافتراء فيهما، وفي الإفساد أكثر، وكذلك استعمل القرآن في الكذب والشرك والظلم نحو :﴿ ومن يشرك بالله افترى إثما عظيما ﴾ فمعنى ( فقد افترى إثما عظيما ) فقد كذب كذبا فيه ظلم وفيه إفساد وضلال، وكان ذلك كله إثما عظيما.
فالشرك يتضمن الكذب على الله تعالى بادعاء شريك له تعالى، ويتضمن ظلما ؛ لأنه اعتداء على المستحق للعبادة وحده، وهو فساد النفوس. و( افترى ) هنا تضمن قولا كذبا، وفعلا ظالما، وتضمن أعظم ذنب في الوجود، لأنه اعتداء على رب العالمين. وقد يقول قائل إن الافتراء أكثر ما يكون باللسان، فكيف يقال "فقد افترى إثما عظيما" ؟ والجواب عن ذلك الافتراء بالنسبة للشرك لما تضمنه من أفعال، اعتبر في ذاته ارتكابا لأعظم ذنب في الوجود. اللهم جنبنا الشرك ما ظهر منه وما خفي، واجعلنا من عبادك المخلصين.
﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا( ٤٩ ) انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا( ٥٠ ) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا( ٥١ ) أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا( ٥٢ ) أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا( ٥٣ ) ﴾.
كانت الآيات السابقة تدعوا أهل الكتاب إلى الإيمان، وتذكرهم بعاقبة الكفر، وهي الذل في الدنيا والخزي في الآخرة، واللعن من الرحمن، والهوان. وبين سبحانه وتعالى لهم ولغيرهم أن باب التوبة والمغفرة مفتوح لكل من يذعن لرسالة الله تعالى، ولا يكفر بها، وذلك لكيلا يسرفوا على أنفسهم، ويوغلوا في معاصيهم. وفي هذه الآيات يبين سببا من أسباب ضلال اليهود ومن على شاكلتهم، فقال تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ﴾
﴿ ألم تر ﴾، هذا تعبير قرآني فيه استفهام دخل على النفي، وهو استفهام إنكاري يتضمن معنى النفي، فهو نفي داخل نفي. ومؤدى الكلام : قد نظرت إلى الذين يزكون أنفسهم متعجبا من حالهم مستغربا أمرهم. ورأى هنا معناه نظر، ولذلك تعدت ب"إلى". وتزكية تطلق بمعنى تطهيرها وإبعادها عن دنس المعصية، وقد تطلق على الفعل المحمود. والمراد هنا أنهم يصفون أنفسهم بالأفعال الحسنة، وليسوا بمستحقيها، وقد يدعون أنهم يطهرون أنفسهم، ويبعدونها عن الدنس في نظرهم، وليسوا كذلك. وأصل التزكية كما ترى من زكاء النفس جاء في مفردات الراغب :( زكاء النفس طهارتها، يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وهو بأن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره، وذلك ينسب تارة إلى البعد لكونه مكتسبا ذلك، نحو﴿ قد أفلح من زكاها( ٩ ) ﴾( الشمس ) وتارة إليه تعالى لكونه فاعلا في الحقيقة نحو﴿ بل الله يزكي من يشاء ﴾.
وتزكية اليهود والنصارى لأنفسهم تحتمل أمرين : أولهما : أنهم يصفون أنفسهم بالطهارة والتقوى، وتحرى ما يربى التقوى في النفس، ويستطيلون على الناس بذلك. والأمر الثاني : أن يدعوا أنهم بأعمالهم واتخاذهم ما هم عليه مذهبا يطهر النفس، أي يدعون أنهم يسلكون سبيل الهداية وتطهير النفس. والأمر الأول هو الذي عليه جمهور المفسرين، وهو أوضح ويتفق المأثور من أسباب النزول، فقد تضافرت المرويات عن التابعين على أنهم كانوا يدعون أنهم المغفور لهم دائما.
وقال الضحاك والسدّي إنهم كانوا يقولون :( لا ذنوب لنا، وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا. وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا، ونحن كالأطفال ). وقد رد الله تعالى ذلك بقوله :﴿ بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ﴾.
على تفسير تزكيتهم أنفسهم بمعنى أنهم يدعون أنهم بأفعالهم يطهرونها، يكون المعنى أن الله تعالى رد عليهم ادعائهم أن ما هم عليه تطهير لأنفسهم، فبين أن الله تعالى هو الذي يطهر النفوس ويزكيها، لأنه هو الذي يبين طريق الهداية، وقد بين، فما أنتم عليه ضلال في ضلال. وعلى الاحتمال الراجح، وهو أنهم يصفون أنفسهم بالأوصاف الحميدة، وأنهم أهل المغفرة، ﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى...( ١١١ ) ﴾( البقرة )، وقولهم :﴿... نحن أبناء الله وأحباؤه...( ١٨ ) ﴾( المائدة ) على هذا الاحتمال يكون المعنى أن الله تعالى هو وحده الذي يصف أفعال عباده بالخير أو الشر، لأنه وحده الذي رسم طريق الخير وطريق الشر. وإن تزكيته سبحانه تقتضي رحمته وغفرانه، وأن يجزى الجزاء الأوفى. فليصفوا أنفسهم بما شاءوا، وليمنوا أنفسهم الأماني بأنهم لا ذنوب لهم، أو أنها تمحى فور ارتكابها، فكل ذلك من مزاعمهم، والله وحده هو الذي يصف الأفعال المحمودة والأفعال المذمومة، ويعطي عليها الثواب أو العقاب، ولذلك قال سبحانه من بعد ذلك﴿ ولا يظلمون فتيلا ﴾، أي لا ينقصون أي قدر مهما ضؤل ولو كان بقدر الفتيل، وهو الخيط الذي يكون في شق نواة التمر، وقيل القشرة التي تكون حول النواة ويطلق على ما يفتل من خيوط دقيقة، والمعنى : لا ينقصون أي قدر من أعمالهم، ولو كان كأصغر الأشياء التي لا يلتفت إليها، ولا يتجه النظر نحوها، ولكن الله تعالى عليم بكل شيء وكل شيء في كتاب﴿... لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها...( ٤٩ ) ﴾( الكهف ) ﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره( ٧ ) ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره( ٨ ) ﴾( الزلزلة ).
﴿ أنظر كيف يفترون على الله الكذب ﴾
كانت الآيات السابقة تدعوا أهل الكتاب إلى الإيمان، وتذكرهم بعاقبة الكفر، وهي الذل في الدنيا والخزي في الآخرة، واللعن من الرحمن، والهوان. وبين سبحانه وتعالى لهم ولغيرهم أن باب التوبة والمغفرة مفتوح لكل من يذعن لرسالة الله تعالى، ولا يكفر بها، وذلك لكيلا يسرفوا على أنفسهم، ويوغلوا في معاصيهم. وفي هذه الآيات يبين سببا من أسباب ضلال اليهود ومن على شاكلتهم، فقال تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ﴾
أنظر أيها الرسول أنت ومن معك كيف تطوع لهم نفوسهم أن يدعوا أنهم بأعمالهم القبيحة، وتكذيبهم للرسل، يزكون أنفسهم ويطهرونها، وأنهم بذلك ممدوحون أمام الله تعالى، وأنهم محبوبون منه، وأنه يغفر لهم كل ما يفعلون ! انظر إلى هذه الحال وتعجب ! وإنهم بهذا يكذبون على الله تعالى قاطعين في هذا الكذب فيحسبون أنهم مقبولون عند الله محبوبون، وهم يعاندون رسوله، ويبالغون ويكيدون له، فهم يفترون الكذب على الله ورسوله والمؤمنين.
﴿ وكفى به إثما مبينا ﴾أي كفاهم هذا العمل أن يكون إثما بينا واضحا. والإثم والآثام الأفعال المبطئة عن الخيرات التي يثاب عليها، وهؤلاء قد ارتكبوا بتزكيتهم أنفسهم بغير الحق الأمر البين الذي يبطئهم عن فعل الخيرات ويوقعهم في السوء ؛ ذلك أن هؤلاء ضلوا وحسبوا ضلالهم هم الخير، ومن كان شأنه كذلك فإنه لا يتجه إلى الخير، لأن الذين يرتكبون الشر ثلاث مراتب : أدناها أنه يقع فيه عن جهل وسفه وحمق، وهذا قريب التوبة والرجوع إلى الحق، وهو من الذين قال الله تعالى فيهم﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب...( ١٧ ) ﴾( النساء ). والثانية : أن يرتكب السيئات ويوغل فيها، ولكنه يعلم أنها سيئات لا يمدح فاعلها، بل يذم، وأنها لا تستحق التزكية، بل تستحق اللوم، وهذا ترجى توبته وعودته إلى الله. والثالثة : أن يزين له سوء أعماله، فيفعل الشر، ويفخر به، وهذا يكون في مرتبة تبطئه أو تبعده إبعاد كليا عن الاتجاه إلى الحق طلبه.
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ﴾
كانت الآيات السابقة تدعوا أهل الكتاب إلى الإيمان، وتذكرهم بعاقبة الكفر، وهي الذل في الدنيا والخزي في الآخرة، واللعن من الرحمن، والهوان. وبين سبحانه وتعالى لهم ولغيرهم أن باب التوبة والمغفرة مفتوح لكل من يذعن لرسالة الله تعالى، ولا يكفر بها، وذلك لكيلا يسرفوا على أنفسهم، ويوغلوا في معاصيهم. وفي هذه الآيات يبين سببا من أسباب ضلال اليهود ومن على شاكلتهم، فقال تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ﴾
قد رأيت أيها النبي الأمين متعجبا مستغربا حال الذين أوتوا حظا من الكتاب، وعلموا بعض علم الرسالات الإلهية، يؤمنون بأردإ العقائد والأخلاق، وبالطغيان والظلم والاندفاع نحو الشر. فالجبت هنا هو الردئ من الأفكار، أصله الجبس قلبت السين تاء، وهو الردئ من الأشياء، فهؤلاء يؤمنون بأردإ الأوهام، ويؤمنون مع ذلك بالطغيان والسيطرة الظالمة، ولذلك يخنعون لكل ذي سلطان، ويضعون ظهورهم لكل راكب، ويطغون على كل عادل لا يذل ولا يؤذى ! ! وعبر هنا بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، وفي مقام آخر خاطبهم بقوله :﴿ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم...( ٤٧ ) ﴾ ( النساء )، وذلك لأنهم أنزلت عليهم كتب الرسالة الأولى لنبيهم، فبمقتضاها يدعون إلى الإيمان، ولذا عبر بالكتاب كله لا ببعضه، فهم في هذا المقام يخاطبون بمقتضى الكتاب الذي نزل على رسولهم. أما هنا فيذكر حقيقة أمرهم، وهو أنهم نسوا حظا مما ذكروا به.
ومن جهة أخرى فإن نيلهم أقل قدر من علم الكتاب يتنافى مع إيمانهم بأتفه الأوهام، وإيمانهم بالظلم والطغيان، واعتبارهما سبيلا للعيش في الحياة، فهم ظالمون يرضون بالظلم يقع عليهم، ويتنافى علم الكتاب مع ممالأتهم لعبدة الأوثان على أهل التوحيد، فيقولون في المشركين هؤلاء أهدى طريقا من المؤمنين، وهذا قول الله تعالى :
﴿ ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ﴾والذين كفروا هنا هم المشركون، أي أنهم يقولون لأجل إرضاء الذين كفروا وأشركوا وعبدوا الأوثان : هؤلاء في شركهم وعبادتهم غير الله تعالى أرشد طريقا، وسبيلهم هو سبيل الهداية، أما سبيل الذين آمنوا بالله وحده، ولم يشركوا به غيره، وأذعنوا لأحكام الله تعالى في أوامره ونواهيه، فليس هو سبيل الرشاد.
ويروى أن اليهود عندما بلغ بهم حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم أقصى مداه، ذهب فريق منهم إلى أهل مكة يحالفونهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم المشركون : أنتم أهل الكتاب، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا، فلا نؤمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم، ففعلوا. وقال أبو سفيان : أنحن أهدى سبيلا أم محمد ؟ فقال المتحدث باسم اليهود : ماذا يقول محمد ؟ قالوا : يأمر بعبادة الله وحده وينهى عن الشرك، وقال : ما دينكم ؟ قالوا : نحن ولاة البيت ونسقي الحجيج، ونقري الضيف ونفك العاني، قال : أنتم أهدى سبيلا.
هذا شأن أولئك اليهود العجب، وهم قد أوتوا بعض علم الكتاب، يدفعهم الهوى والتعصب وفساد النفس إلى أن يجعلوا عبدة الأوثان أهدى من عبدة الديان !.
﴿ أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ﴾
كانت الآيات السابقة تدعوا أهل الكتاب إلى الإيمان، وتذكرهم بعاقبة الكفر، وهي الذل في الدنيا والخزي في الآخرة، واللعن من الرحمن، والهوان. وبين سبحانه وتعالى لهم ولغيرهم أن باب التوبة والمغفرة مفتوح لكل من يذعن لرسالة الله تعالى، ولا يكفر بها، وذلك لكيلا يسرفوا على أنفسهم، ويوغلوا في معاصيهم. وفي هذه الآيات يبين سببا من أسباب ضلال اليهود ومن على شاكلتهم، فقال تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ﴾
أولئك الذين غلب عليهم الهوى، ودفعهم تعصبهم الأعمى إلى أن يحالفوا أولياء الشيطان على أولياء الرحمن ويمالئونهم في القول والعمل، فيسجدوا لأصنامهم، ويزكوا أفعالهم، ويقولوا إن طريقهم هو طريق الهداية، وطريق أهل التوحيد لا هداية فيه ! بسبب هذا لعنهم الله تعالى بأن طردهم من رحمته، فكتب عليهم بغض الناس في الدنيا، والذل والمقت فيها، وعذاب الله تعالى في الآخرة. والإشارة في قوله تعالى"أولئك" إشارة إليهم موصوفين بالصفات التي وصفهم الله بها من نفاق وخداع، وكذب وتعصب وسيطرة الهوى على نفوسهم، وضياع الحقوق بينهم، وهذه الصفات هي سبب الطرد من رحمة الله تعالى. وإذا كانوا مطرودين من رحمة الله قد كتب الله تعالى غضبه عليهم، فلن ينصرهم أحد من أهل الأرض﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز( ٢١ ) ﴾( المجادلة ) فإذا كانوا قد ذهبوا إلى أهل مكة يستنصرون بهم فلن ينصروهم، ولن يثقوا بهم، ولذلك قال تعالى :﴿ فلن تجد له نصيرا ﴾أي فلن تجد للملعون الذي طرده الله تعالى من رحمته نصيرا ينصره من الناس، و"لن" هنا لتأكيد النفي، ويقول الزمخشري( إن لن تفيد تأكيد النفي أبدا )، أي أنهم لم ينصرهم الله ولن يجدوا أبدا نصيرا من الناس تستمر نصرته، وإذا استطاعوا أن يستنصروا بأمثالهم في هذه الأيام، فإن الخذلان وراءهم إن شاء الله تعالى، وهم أشد مقتا عند الله وعند الناس في هذه الأيام كما كانوا في كل ماضيهم، والله المنتقم الجبار. وقد أخبر الله تعالى نبيه بأنهم إذا كان لهم أحيانا نصيب من الملك غير مستقر ولا دائم، فسيكون ظلما كبيرا ولا يرضى الله لعباده أن يستمر فيهم ظلم.
﴿ أم لهم نصيب من الملك ﴾
كانت الآيات السابقة تدعوا أهل الكتاب إلى الإيمان، وتذكرهم بعاقبة الكفر، وهي الذل في الدنيا والخزي في الآخرة، واللعن من الرحمن، والهوان. وبين سبحانه وتعالى لهم ولغيرهم أن باب التوبة والمغفرة مفتوح لكل من يذعن لرسالة الله تعالى، ولا يكفر بها، وذلك لكيلا يسرفوا على أنفسهم، ويوغلوا في معاصيهم. وفي هذه الآيات يبين سببا من أسباب ضلال اليهود ومن على شاكلتهم، فقال تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ﴾
( أم ) هنا تفيد الانتقال في القول من التعجب من حالهم في ممالأة المشركين إلى بيان حالهم العجيب إذا أوتوا أي حظ من السلطان والحكم، والمعنى : أثبت أنهم إذا كان لهم حظ من الملك والسلطان ولو كان ضئيلا يحكمون بالعدل، ويقومون بالقسطاس المستقيم ؟ والاستفهام لنفي الوقوع، وهو نفي لوقوع العدل منهم إذا أعطوا أي حظ من الحكم، ذلك لأن المنافق لا يمكن أن يكون عادلا ؛ لأن العدل والالتواء نقيضان لا يجتمعان، ولأنهم أهل هوى، ولا عدل مع سيطرة الهوى، ولأنهم غلبت عليهم عصبية دينية جامحة، وكل حكم يصدر من التعصب لا يكون عدلا بالنسبة لمن تعصب عليه. ولذا قال سبحانه فيهم إذا حكموا :
﴿ فإذاً لا يُؤتون الناس نقيرا ﴾ النقير العلامة السوداء الصغيرة التي تكون في ظهر النواة، وهي الثقبة التي تنبت منها النخلة، ويضرب بها المثل في الشيء الصغير البالغ أقصى حدود الصغر. والمعنى : إذا تولى هؤلاء نصيبا من الملك والسلطان، فإنهم لا يعطون الناس أي قدر من حقوقهم عليهم، ولو كان ضئيلا بالغا أقصى حدود الضآلة ؛ ذلك لأن العادل يكون حكمه لمصلحة المحكومين، لا لمصلحته. وهؤلاء لا ينظرون إلى منافعهم الذاتية. ولأن العادل يحس من الناس له ما لهم وعليه ما عليهم، وهؤلاء يظنون أنهم صنف في الخليقة ممتاز، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، والناس جميعا دونهم. ولأنهم يبغضون الناس جميعا ؛ لأنهم يظنون أنهم سلبوهم حقوقهم، بمقتضى ما لهم من امتياز بمقتضى التكوين. فهم بهذه الأهواء الواهمة عادوا الناس وأبغضوهم، ويحسبون أنفسهم في حرب مستمرة من البشر ! أنقذ الله أهل الإسلام من شرهم، وأرداهم هم ومن يعاونونهم على الغي والظلم والفساد، والله من ورائهم محيط.
﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما( ٥٤ ) فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا( ٥٥ ) إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما( ٥٦ ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا( ٥٧ ) ﴾.
الآية موصولة بما قبلها، فالحديث في اليهود الذين ذهب بهم حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أن يقولوا وهم أهل الكتاب نزل عليهم من السماء وإن حرفوه، إن المشركين أهدى إلى الحق وإلى الصراط المستقيم من المؤمنين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين من بعده. وفي هذه الآية يبين سبب انحرافهم، وجزاء الضالين يوم القيامة، ثم جزاء المهتدين. والسبب الباعث على ضلالهم أنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولذا قال سبحانه :
﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ﴾ الحسد هو الألم الشديد لما يصيب الناس من خير، وتمني زواله، ثم العمل على زواله، فهو يبتدئ بألم شديد يحز بالنفس الحاسدة، ثم يصحبه تمني الزوال، ثم يكون بعد ذلك بخس المحسود حظه وحقه، والنيل منه ! والفرق بينه وبين الغبطة أن الغبطة السرور بما ينال الغير من خير، وذلك وصف أهل الإيمان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :"المؤمن يغبط والمنافق يحسد"١ والحسد يذيب النفس ويذهب بفضائلها، ولقد قال الحسن البصري :"ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد"وإن من يحسد إنما يعادي الله ويعادي نعمه، لأنه كلما آتى الله أحدا نعمة نقمها على صاحبها، فكأنما يعادي الله الذي أعطاها، ويعاديها، ولقد قال عبد الله بن مسعود :( لا تعادوا نعم الله ! قيل له : ومن يعادي نعم الله ؟ قال : الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ).
والناس هنا في النص الكريم، قيل العرب وعندي أنهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إن أريد التخصيص، وإن كان التعميم فهي على عمومها. وأولئك اليهود قد أسكن الله تعالى قلوبهم حسدا على الناس، فهم إذا حسدوا النبي والمؤمنين، فلأنهم ناس أتاهم الله تعالى جزءا من فضله، فإن فضله عظيم، ف"من" هنا للبعضية، أو نقول إنها بيانية، فقد كان الإيتاء صادرا عن فضله ومجرد تكرمه. وفي هذا إشارة إلى الذين يحسدون من يتكرم عليه الله، فإنما يعاندون الله تعالى. وسبب هذا الحسد الدائم فيهم أنهم يعتقدون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم اختصوا بالنبوة دون غيرهم من الناس، وقد بين الله سبحانه أن ذلك وهم، فقال تعالت كلماته :
﴿ فلقد آتينا إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ﴾ أي إذا كنتم تحسدون الناس لما توهمتم أن النبوة فيكم، وأنكم أهل الوحي دون غيركم، فقد كذبتم على أنفسكم، فإن الله تعالى قد أعطى آل إبراهيم، أي قرابته القريبة من ذريته من إسماعيل وإسحق الكتاب، أي بعث فيهم النبيين بالكتب من غير تفرقة. والحكمة أي العلم النافع الذي يصحبه عمل نافع و إصلاح بين الناس، وأعطاهم مع علم النبوة ومع نشر أحكامها ملكا عظيما، أي سلطانا وبسطة في الأرض فلستم مختصين بالنبوة، ولستم مختصين بإبراهيم، فله قرابة غيركم كانوا في العرب، ولم يكن تلقى الناس لذلك الهدى ولهذا السلطان واحدا :﴿ فمنهم من آمن ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا ﴾.
١ المؤمن يغبط والمنافق يحسد. من كلام الفضيل بن عياض كما في كشف الخفا للعجلوني(٢٦٩٤).
وفي سير أعلام النبلاء(ج ٥، ص٤٨٣ ): "وعن الفضيل قال: المؤمن يغبط ولا يحسد، الغبطة من الإيمان، والحسد من النفاق..

﴿ فمنهم من آمن ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا ﴾ أي فمنهم قرابة إبراهيم وذريته وأوليائه الذين جاءوا، من آمن بما جاء به من هدى، وسار على مقتضاه، وانتفع به انتفاعا كليا، أو نهل من موارده العذبة، أو أخذ بقدر ما تقوى عليه نفسه، وهو في ضمن المهديين، ومنهم من أعرض عنه، وإن ذلك المعرض له جزاؤه وهو جهنم التي تلتهب نارها، وتستعر، فلم يكن من آل إبراهيم وذريته مقتضيا أن يصدقوا بالرسائل الإلهية التي نزلت بين ربوعهم وفي أوساطهم، فمن العرب وهم من آل إبراهيم من أشرك بالله وعبد الأوثان، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من آل إبراهيم بعث فيهم رحمة للعالمين، وأنتم معشر اليهود كفرتم وكذبتم الرسل من آل إبراهيم وقتلتم بعضهم، ولم ينفعكم أنكم من ذرية إسحق بن إبراهيم، فلا عبرة بالأنساب، إنما العبرة الاستجابة للحق، والإيمان به والإذعان لحقائقه.
وهنا بحثان لفظيان : أحدهما أن ( صدّ ) تستعمل لازمة متعدية، وإذا كانت لازمة فمصدرها الصدود ومعناه الإعراض، وإن كانت متعدية فمصدرها الصد، ومن ذلك قوله تعالى﴿... وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل...( ٣٨ ) ﴾( العنكبوت ) والنص هنا معناه الإعراض عن الهداية التي جاءت إليهم فهو من اللازم.
والثاني : قوله تعالى :﴿ وكفى بجهنم سعيرا ﴾لم يذكر فيها من كانت جهنم كفاية لهم، وهو مفهوم من فحوى الكلام، والمعنى كفاهم أن تكون جهنم بسعيرها ولهيبها مصيرا لهم.
وإن هذا مصير كل كافر سواء أكان من اليهود أم كان من غيرهم، ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا ﴾.
﴿ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا ﴾ الصّلى معناه إيقاد النار، وصلى وقع في النار، وأصليناهم نارا : ابتليناهم وعذبناهم بنار، فالتميز هنا فيه تأكيد لمعنى العذاب بالنار والإيقاع فيها، وإن العذاب الشديد الذي يستقبلهم يوم القيامة يستحقه الكافرون بسبب كفرهم، من غير تفرقة بين ذرية إسحاق وإسماعيل وغيرهم، ولذلك عبر بالموصول، إذ التعبير بالموصول يشعر بأنه الصلة سبب الحكم، فهؤلاء حكم عليهم بالعذاب، لأنهم كفروا، ومتى تحقق السبب تحقق الحكم بلا فرق بين قبيل وقبيل، وأن عذاب الكفار دائم، وآلامه مستمرة، وقد أكد وجود العذاب بقوله سبحانه :﴿ سوف نصليهم ناراً ﴾فسوف هنا كما قال سيبويه للتهديد، فهي لتأكيد العذاب المقبل ولو بتراخ، وتراخي العذاب مع تأكيده يجعل النفس في فزع حتى يقع.
﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ﴾فعذاب هؤلاء الكفار دائم لا مناص لهم من الاستمرار فيه. فكلما أصاب العذاب موضع الإحساس من الجسم أعاد الله تعالى ذلك الإحساس إليه، وذلك أن موضع الإحساس في الجسم هو الطبقة التي تلاصق اللحم مع الجلد، فإذا فسدت هذه الطبقة ذهب الإحساس بالألم، ولقد عبر الله تعالى عن موت الإحساس ثم إعادته بقوله تعالى :﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ﴾فشبه سبحانه وتعالى حالهم في تعذيبهم بالنار بحال قطع من اللحم تلقى في النار، فإذا تهدأت الجلود من شدة النار حتى صارت لا تحس بدل الله تعالى هذه الجلود بأخرى، فيكون العذاب وآلامه في استمرار دائم ! ولا موضع إذن لاعتراض الذين يقولون : كيف يعذب جلد لم يعص لجريمة جلد قد عصى ؛ لأن الجسم المعذب واحد، ولكن الكلام تصويري لبيان استمرار الإحساس بآلام العذاب، فلا ينقلبون كقطعة فحم، بل يستمر الإحساس بالألم الدائم، وهذا يتلاقى مع ما روى عن الفضيل في تفسير هذا النص :"يجعل النضج غير نضيج" أي يجعل الجلد مع إصابة موضع الإحساس منه بما يميته لا يموت، بل يستمر ! ومن العلماء من قال : إن الجلد لا يتغير ذاته بل يتغير وصفه، فيخلق فيه هذا الإحساس بعد أن يبلى موضع الإحساس بالنار.
والغاية أن يذوقوا العذاب، أي أن يستمروا في ذوقه والإحساس به، وقد شبه الإحساس بالذوق، للإشارة إلى عظيم الألم، لأنهم يحسون به كمن يحس بذوق المرير من الطعام أو بمن يذوق النار ليأكلها، واللسان أشد أعضاء الجسم حساسية، فإذا كان العذاب يذاق، فهذا دليل على شدة الإحساس، وحيث اشتد الإحساس كان الألم، وحيث مات الإحساس فلا ألم، وليس لجرح بميت إيلام ! وقد ختم الله تعالى الآية بما يبين عظم سلطان الله :
﴿ إن الله كان عزيزا حكيما ﴾هذا تذييل بلاغي يؤكد التهديد الذي اشتمل عليه، فإن منزل العذاب قوي غالب، هو المسيطر على كل شيء، ولا يسيطر سواه، وليس فوقه أحد، ولا ناصر لأحد من أمره، وهو حكيم يضع الأمور في مواضعها، فلا يعذب محسنا ولا يثيب كافرا وإن كان يعفو عن كثير من دون الكفر.
وقد أكد سبحانه عزته وحكمته ب"إن" وب"كان" التي تدل على الاستمرار، وإن من مقتضى حكمته أن يثيب الأبرار كما يعاقب الكفار.
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ﴾ وفي مقابل العذاب الذي نزل بالكافرين كان ثواب للمؤمنين. وإذا كان الكفر هو السبب في العقاب، فإن الإيمان والعمل الصالح هو سبب الثواب، وقد عبر سبحانه وتعالى بالموصول للإشارة على أن العلة التي أثبتت الثواب الذي يتفضل الله تعالى به على عباده المؤمنين، هو الإيمان والعمل الصالح، ولا شك أن الإيمان هو الأساس في الجزاء، والعمل الصالح ثمرته، ولا إيمان من غير عمل صالح إلا أن يكون غير مثمر لأعظم ثمراته. ولقد قرر سبحانه وتعالى في وعده أنه سيدخل هؤلاء المؤمنين العملين جنات تكمل فيها أسباب النعيم، فالأنهار تجري من تحت أشجارها، وهي ليست نعيما وقتيا، بل هي نعيم خالد، وقد أكد الخلود بالتأييد، فكأن الخلود ثابت مؤكدا لا شبهة فيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. ويلاحظ هنا أنه في التعبير عن المستقبل عبر بقوله( سندخلهم )أتى بالسين دون سوف، وكلاهما يفيد تأكيد القول في المستقبل، واختيار السين هنا يؤيد سيبويه فيما قاله من أن سوف قد تكون للتهديد، ويظهر على هذا أن السين عكسها.
وأن كل من يتصور من نعيم الدنيا يوجد مثله على صورة أعظم وأكمل، ومن أكمل متع الحياة الدنيا الحياة الزوجية :
﴿ لهم فيها أزواج مطهرة ﴾من أعظم نعم الدنيا الزواج، فهم ظل المرأة، ومأوى الرجل، ومستقر حياته، ومطمأنها ونعيمها، وفيه مكاشفة النفس، وفيه الازدواج الروحي والمادي، وفيه المعاونة الإنسانية على أعلى صورها، وإن نعيم الجنة أكمل من نعيم الدنيا، فيه ما فيها من نعيم، ولكن على صورة أعلى وأكمل، والفرق بينهما كبير شاسع، يجتمعان في الاسم ويختلفان في الحقيقة. ولذلك كان في الجنة أزواج، فللنساء أزواج وللرجال أزواج مثلهم، وأزواج الجنة مطهرون من الرجس المادي والرجس المعنوي، فلا حيض، ولا نفاس، ولا أخلاق ذميمة ؛ لأنه لا يدخل الجنة وفيه خلق ناقص، من أخلاق أهل الدنيا. وقد تكلم الناس في نوع العلاقة بين الزوجين في الجنة، ولكن القرآن لم يفصل ذلك الجزء، فنتركه على ما تركه الله تعالى :
﴿ وندخلهم ظلا ظليلا ﴾الظل هو ما يحجب الشمس وحرارتها، ويقال ظل الليل وظل الجنة، وقد قال الأصفهاني أنه يعبر عن الظل بالعز والمنعة، وقد قال في ذلك :"ويعبر بالظل عن العز والمنعة وعن الرفاهة، قال تعالى :﴿ إن المتقين في ظلال( ٤١ ) ﴾( المرسلات ) أي في عزة ومتاع. قال تعالى :﴿... أكلها دائم وظلها( ٣٥ ) ﴾( الرعد ) ﴿ هم وأزواجهم في ظلال...( ٥٦ ) ﴾ ( يس ).
وعلى ذلك نقول إن هذا النص السامي :﴿ وندخلهم ظلا ظليلا ﴾، إما أن يراد به الظل الحسي، ومعنى ظليل أنه عميق ساتر لا يتخلله أي شيء مما يؤذي، ويقول الزمخشري في تعريف الظل الظليل :( هو ما كان فينانا لا جدب فيه، ودائما لا تنسخه شمس، وسجسجا لا حر فيه ولا برد، وليس ذلك إلا ظل الجنة ) ويصح أن يراد بالظل المنعة والعزة، ويكون المعنى ندخلهم في عزة ومنعة ورحمة ورعاية كريمة من الله تعالى. اللهم ارزقنا نعمة رضاك ووفقنا للعمل الصالح.
﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بن الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا( ٥٨ )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا( ٥٩ ) ﴾
ضاع اليهود بأمرين : أولهما أنهم كانوا لا يؤدون الأمانات، كما قال تعالى في أكثرهم :﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل... ( ٧٥ ) ﴾( آل عمران ). الأمر الثاني الذي أضاع بني إسرائيل في الماضي، أنهم لا يقيمون العدل إذا حكموا كما قال سبحانه :﴿ أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يُؤتون الناس نقيرا( ٥٣ ) ﴾( النساء )، فبالظلم ذهب ملكهم في الماضي، وسيذهب في الحاضر إن شاء الله تعالى، وإذا كانت الخيانة قد أفسدت أمرهم، والظلم قد أذهب سلطانهم، فعلى المؤمنين أن يقيموا علاقاتهم على دعائم الأمانة والعدالة، ولذا قال سبحانه :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾
﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ هذا أمر عام للمؤمنين جميعا، لا يختص به راع دون الرعية، ولا قوي دون ضعيف، ولا غني دون فقير.
وقد أسند الأمر إلى الله تعالى بقوله تعالت كلماته مؤكدا أمره﴿ إن الله يأمركم ﴾، وذلك لتأكيد الأداء فضل تأكيد بهذا التصريح، وذلك أن الأمر من قبل الله سبحانه مضافا إليه أمر مؤكد، كما يقال لتأكيد الأمر للعبد بالطاعة : سيدك يأمرك بكذا، ولله المثل الأعلى في أوامره ونواهيه، وذلك فوق التأكيد ب"إنّ" في صدر النص الكريم.
والأمانة مصدر بمعنى المفعول، فالمراد بالأمانة ما يؤتمن عليه الإنسان عليه، وقد جمعها سبحانه بقوله تعالى﴿ الأمانات ﴾ لتشمل كل ما يؤتمن الإنسان عليه من علم، ومال، وودائع، وأسرار وغير ذلك مما يقع في دائرة الائتمان وتنبغي المحافظة عليه. ومعنى أدائها إلى أهلها توصيلها إلى ذويها كما هي، من غير بخس ولا تطفيف. فالعالم يؤدي أمانة العلم من غير تزيد عليها ولا تحريف لها ؛ لأن التزيد طمس لمعالم العلم، والتحريف تبديل للحق. فمن أوتي علما بالقرآن لا يؤوله لهوى في نفسه، بل يقدمه للناس من غير تحريف للكلم عن مواضعه. والحكم أمانة في أعناق الحكام، عليهم أن يُؤدوا الأمانة فيه بإقامة العدل، وتوخي المصلحة، وتجنب الفساد، سواء أكان فسادا معنويا، أم كان فسادا ماديا، والأول أعلى أنواع الفساد، والثاني أدناها. ومن أمانة الحكم ألا يشقوا على الرعية، وألا يفسدوا ضمائرهم، ولا يزعجوهم بالتظنن والتتبع ما داموا مؤمنين مذعنين، كما قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا...( ١٢ ) ﴾( الحجرات ). وإذا كانت رعاية الأمانات وأداؤها واجبا مفروضا على الأمة كلها، حاكمها ومحكومها، وأنها متفاوتة المراتب، فإن الحاكم قد اختص بواجب آخر هو العدل، وهو من نوع الأمانة التي اختص بها، ولذا قال سبحانه بعد الأمر بأداء الأمانات :
﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾ قال بعض العلماء : إن الخطاب في هذا النص موجه إلى الذين يحكمون، وهم الحكام من ولاة وقضاة وغيرهم ممن يلون الحاكم، ولا مانع عندنا من أن يكون الخطاب موجها للأمة كلها، لأن الأمة العزيزة غير الذليلة التي تتولى أمور نفسها من غير تحكم من ملك أو طاغ قاهر، هي محكومة ومحكّمة، فهي التي تختار حاكمها، وهي في هذه محكّمة، مطلوب منها العدل، فلا تختار لهوى، أو لعطاء، أو لمصلحة شخصية أيا كان نوعها. وهي محكّمة في حاكمها فلا تقول فيه إلا حقا، ولا تطالبه إلا بما هو حق لا جور فيه، ولا تشتط في نقده، ولا تسكت عن نصيحته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول :"الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"١.
والعدل معناه في أصل اللغة المثيل، وأطلق في مقام الحكم بمعنى أن يكون الحكم مساويا لما يستوجبه، فإذا ارتكب شخص جرما كان الحكم النازل مساويا للجرم المرتكب، وإذا كان الحكم بدين وجب أن يكون مساويا لما أخذ من غير زيادة وهكذا. وإن العدل أنواع مختلفة، وله وسائل متباينة، وإذا كان مطلوبا في ذاته فوسائله يجب أن تتحقق فيها العدالة أيضا، وأخص أنواع العدالة عدالة القاضي في حكمه، وهي تتطلب أمورا أربعة : أولها : معرفة حكم الشرع والقانون فيما يقضي فيه. وثانيها : معرفة موضوع القضية معرفة متقص لأطرافها مستوعب لكل أجزائها. وثالثها : أن يبعد الهوى من نفسه، وأن ينظر دائما نظرا غير متحيز.
ورابعها : أن يسوى بين الخصمين في كل شيء، وقد جاء في تفسير فخر الدين الرازي عن الشافعي ما يأتي :"قال الشافعي_ رضي الله عنه_ : ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء : في الدخول عليه، والجلوس بين يديه، و الإقبال عليهما والاستماع منهما، والحكم عليهما، ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته، ولا شاهدا شهادته، لأن ذلك يضر بأحد الخصمين. ولا يلقن المدعي الدعوى والاستخلاف، ولا يلقن المدعى عليه الإنكار والإقرار، ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أو لا يشهدوا.
وعدالة الحاكم الأكبر تقتضي الرفق بالرعية، وألا يعمل إلا ما فيه مصلحة، وأن يمنع الرشوة، وألا يولي أحد ممن دونه لهوى أو غرض ! فلا يوسد الحكم لمن دونه إلا لمن هو أهل له، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إذا وُسّد الأمر لغير أهله فانتظروا الساعة"٢.
والأمانة واجبة سواء أكان من ائتمنك عادلا أم كان جائرا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول :"أدّ الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك"٣. ومن المقررات في الفقه الإسلامي أن الظالم لا يُظلم.
والعدل مطلوب في ذاته، يستوي في ذلك المسلم وغير المسلم، فقد قال تعالى :﴿... ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى...( ٨ ) ﴾( المائدة ).
﴿ إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ﴾ الوعظ معناه التذكير بالخير والتحذير من الشر، بما يرق له القلب، ويخضع له الوجدان. و( ما ) هنا إما نكرة بمعنى شيء، أو موصول، والمعنى واحد، وإن اختلف التخريج النحوي. ومؤدى النص أن الله جلت حكمته وهو العليم بكل شيء يأمركم بالأمانة والعدالة ولنعم هما شيئا خطيرا جليلا ذا أثر عظيم، في حياتكم العامة والخاصة، يذكركم به ويدعوكم إليه، فأداء الأمانات وإقامة العدالة، بهما تقوم الأمم، وعليهما تبنى دعائم العزة والكرامة الإنسانية، فهما ممدوحان دائما، ولا ينتج عنهما إلا خير، ولا ينتج عن تركهما إلا الشر.
وإن الله تعالى إذ يأمركم بذلك الخير العميم نفعه يراقبكم في تنفيذه، وإنه لن يترككم ولن يخليكم من العقاب إن لم تقوموا به، ولذلك ذيل الآية الكريمة بقوله تعالى :﴿ إن الله كان سميعا بصيرا ﴾، أي إن الله تعالى يعلم أحوالكم علم من يسمع، فهو يسمع خطرات نفوسكم وحركات قلوبكم، وعلم من يبصر، فهو يرى أعمالكم. هو إذن يسمع كلمة الحق نطق بها القاضي، وكلمة الرعية يختارون بها راعيهم بالأمانة والصدق والإخلاص، ويرى عمل الوالي إذا عدل، فيجزيه بالحسنى، وعمله إذا ظلم أو شق على رعيته أو أرهقها من أمرها عسرا، فيأخذه سبحانه بظلمه إن ظلم. ويرى سبحانه الأمة وهي تقصر في حقوقها، ولا ترعى واجب الأمانة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع الظالم من ظلمه، فيفسد أمرها، ويتحقق فيها قول النبي الأمين :" لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطُرنّه على الحق أطرا أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض ثم تدعون فلا يستجاب لكم"٤ ! !.
وإذا كان العدل، وجبت الطاعة لولي الأمر مقرونة بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله، لأنها مشتقة من طاعتهما، ولذا قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾.
١ سبق تخريجه من رواية مسلم وغيره عن تميم الداري، وذكره البخاري في ترجمة الباب..
٢ عن أبي هريرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال: "أين أراه السائل عن الساعة؟" قال: ها أنا يا رسول الله قال: "فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة" قال: كيف إضاعتها؟ قال: "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة". رواه البخاري: العلم- من سئل علما وهو مشتغل بحديثه فأتم (٥٩)، ورواه أحمد: باقي مسند المكثرين(٨٥١٢) بلفظ: "إذا توسد". ومعنى وسد: أسند..
٣ رواه الترمذي: البيوع- النهي للمسلم أن يدفع إلى الذمى الخمر(١٢٦٤). رواه أبو داود: البيوع- في الرجل يأخذ حقه من تحت يده(٣٥٣٥)..
٤ سبق تخريجه من رواية أبي داود: الفتن والملاحم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه..
﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾.
ضاع اليهود بأمرين : أولهما أنهم كانوا لا يؤدون الأمانات، كما قال تعالى في أكثرهم :﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل... ( ٧٥ ) ﴾( آل عمران ). الأمر الثاني الذي أضاع بني إسرائيل في الماضي، أنهم لا يقيمون العدل إذا حكموا كما قال سبحانه :﴿ أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يُؤتون الناس نقيرا( ٥٣ ) ﴾( النساء )، فبالظلم ذهب ملكهم في الماضي، وسيذهب في الحاضر إن شاء الله تعالى، وإذا كانت الخيانة قد أفسدت أمرهم، والظلم قد أذهب سلطانهم، فعلى المؤمنين أن يقيموا علاقاتهم على دعائم الأمانة والعدالة، ولذا قال سبحانه :﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾
طاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، فإطاعة الرسول إطاعة لله، وإطاعة الله إطاعة للرسول أو تقتضيها، فقد قال الله تعالى :"﴿... وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا...( ٧ ) ﴾( الحشر ).
وأولو الأمر هم الذين بيدهم الحل والعقد وبيدهم مقاليد الأمة التي يقومون على رعاية مصالحها وشئونها وإرشادها وتوجيهها. وقد قال بعض الحكام إنهم الفقهاء والذين يستطيعون استنباط الأحكام، ولكن الأكثرين على أن ولاة الأمر هم الحكام وأهل الحل والعقد.
ونلاحظ هنا أمرين :
أحدهما : أن القرآن الكريم يصرح بأن ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم يجب أن يكونوا من المؤمنين، ولذالك يقول سبحانه"منكم"، فلا طاعة مطلقا لمن يغلبون على شئون المسلمين ممن ليسوا من أهل الإيمان، فأولئك المنحرفون من بعض أهل الهوى الذين يزعمون أنهم مسلمون، ويزعمون أن الإنجليز أيام حكمهم كانوا من ولاة الأمور الذين يوجب النص طاعتهم_ قد ضلوا ضلالا بعيدا، وهم بهذا وبغيره خارجون عن حكم الإسلام.
ثانيهما : أن الله قرن طاعة أولي الأمر بطاعة الله ورسوله، فوجب أن تكون طاعتهما من جنس طاعة الله ورسوله، بأن تكون في سبيل العدل، ولا تخرج عن حدوده، وبأن باقتران هذه الآية بالآية السابقة يستبين أن ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم هم العادلون ؛ لأن الأولى أوجبت العدل، والثانية أمرت بالطاعة، فلو كانوا غير عدول لكانت الطاعة مسايرة لهم على الظلم. وقد نهينا عنه. ولقد قال الزمخشري في هذا المقام ما نصه :
"المراد بأولي الأمر منكم أمراء الحق، لأن أمور الجور- الله ورسوله بريئان منهم- فلا يُعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل، واختيار الحق، والأمر بهما، والنهي عن أضدادهما، كالخلفاء الراشدين. وكان الخلفاء يقولون : أطيعوني ما عدلت فيكم، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم.
وعن أبي حازم أن سلمة بن عبد الملك قال : ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله تعالى :﴿ وأولي الأمر منكم ﴾ قال : أليس قد نُزِعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :"من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني"١.
ولكي تكون طاعة أولياء الأمر في سبيل الحق والعدل، ومقترنة بطاعة الله ورسوله، وجب الرجوع عند الاختلاف إلى الكتاب والسنة، ولذا قال سبحانه :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾وقد ثبت بإجماع العلماء لا مماراة فيه أن طاعة أولياء الأمر إنما تكون فيما فيه طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله الأمين كما نوهنا، وأنه ليس لولي الأمر طاعة في معصية، لقوله صلى الله عليه سلم :"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"٢، ولقوله صلى الله عليه وسلم :"إنما الطاعة في المعروف"٣، والمعصية منكر لا طاعة فيه، ولقوله عليه الصلاة والسلام :"على المرء المسلم السمع والطاعة، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"٤، ولِما قررنا من أن طاعة أولي الأمر مقرونة بطاعة الله ورسوله، وأنه ليس من المعقول أن يفهم من الآية أن ولي الأمر يطاع حيث يعصى الله ورسوله، وهما مقترنتان، وولي الأمر منًّا حقا وصدقا لا يخالف الله ورسوله، وإلا كان متغلبا طاغيا.
وإذا كانت طاعة ولي الأمر لا تكون إلا في دائرة الكتاب والسنة، فلا بد أن يكونا هما المرجع في الوفاق والخلاف معا، فإن اتفق أهل الحل والعقد على أمر مشتق من كتاب الله وسنة رسوله، وغير خارج عنهما ولا عن أصولهما المقررة، فهو الحجة الواضحة، كما كان يفعل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقد كانا يعرضان الأمر الذي لا يعرفان له حكما من كتاب ولا سنة على الصحابة، وأحيانا على كل أهل المدينة، فما يثبت أنه ورد فيه قرآن أو سنة خضع الجميع له، وإلا فإنهم ينظرون مجتهدين فيما يكون من جنس ما يأمر به الكتاب أو السنة، فإن اتفقوا عليه نفذوه. وإذا كان اختلاف، فإنه لا حكم في الاختلاف إلا الكتاب والسنة أيضا، وهذا موضع قوله تعالى :﴿ فإن تنازعتم ﴾وليس التنازع هو المحاربة، وإنما التنازع هو الاختلاف في طلب الحق في الأمر، وقد جاء في تفسير معنى التنازع في مفردات الراغب :"نزع الشيء جذبه... والتنازع والمنازعة المجاذبة، ويعبر بهما عن المخالفة والمجادلة". وكأن كل واحد من المختلفين يجذب من الآخر الحجة لدليله، ويجعل الحق في جانبه بجذب الحجة على مخالفه، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم :"ما لي أنازَعُ القرآن"٥. وذلك أن بعض المأمومين جهر خلفه فنازعه القراءة فشغله، فنهى_ عليه الصلاة والسلام_ عن الجهر بالقراءة خلفه في الصلاة.
ويجب بهذا النص عند التنازع الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، وذلك بالتماس ما يكون من الأحكام متفقا مع المقاصد والغايات التي جاء بها الكتاب والسنة، وإن لعلماء الإسلام في ذلك منهاجين : أحدهما : أن يبحث في الأصلين عن حكم منصوص عليه يشبه في سبب الحكم الحادثة التي لا يجدون فيها نصا، وهذا يسمى القياس الفقهي، وهو ما تيسر عليه الكثرة الكبرى من الفقهاء. والمنهاج الثاني : أن ينظر إلى المقاصد العامة للشريعة، وهي مصالح الناس، الثابت الأخذ بها من مجموع النصوص لا من نص بعينه، فإذا كان في الأمر المتنازع فيه مصلحة ملائمة لمقاصد الشارع، من غير مخالفة أي نص، أخذ بها، وهذا المنهاج أخذ به الإمام مالك، وأحمد وزيد.
ولكن يرد هنا سؤالان من الذين يجري بينهم التنازع ؟ ومن الذين يتولون رد الأمر إلى الكتاب والسنة ؟.
والجواب عن السؤال الأول : أن الذين يجري بينهم الخلاف هم أهل الحل والعقد، وذلك يقتضي أن كون هناك جماعة مصطفاة مختارة تتولى سن النظم ووضع القوانين المشتقة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وهم رجال الشورى الذين ترتضيهم الأمة.
والجواب عن السؤال الثاني : أن الذين يردون الأمر المختلف فيه يجب أن يكونوا على علم بالكتاب والسنة ومقاصد الشريعة وغاياتها، وهم علماء الإسلام المتفقهون في أحكامه. ولذلك يجب أن يكون في أهل الحل والعقد، أو بجوارهم يعملون معهم، رجال فقهاء الإسلام المخلصين المؤمنين بحقائقه، الذين لا يغلب عليهم الهوى، ولا يخضعون لهوى الحكام، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه.
وإن الله تعالى يقرر- تعالت كلماته- أن ذلك وهو الرد إلى الكتاب شأن أهل الإيمان بالله حقا وصدقا، والذين لا تغلبهم الدنيا ومتعها العاجلة، ولذلك يقول﴿ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ أي إن كنتم تذعنون للحق الذي شرعه الله تعالى لكم وتصدقون وتؤمنون بالآخرة وما فيها من حساب وعقاب، ولم تستول عليكم الدنيا بأهوائها وشهواتها، فإنكم بلا ريب سترجعون على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه سلم، ذلك أن المؤمن حقا ومصدقا بالله واليوم الأخر لا تستهويه شهوات الدنيا، فيظنها مصالح، بل يذعن لحكم الله دائما، ولا يكون كأولئك الذين قال الله تعالى فيهم :﴿ وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون( ٤٨ ) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين( ٤٩ ) أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون( ٥٠ ) ﴾( النور ). وإن اتباع القرآن والسنة في الحكم فيه الخير وحسن المآب، ولذا قال سبحانه :
﴿ ذلك خير وأحسن تأويلا ﴾ إن ذلك الرجوع إلى الكتاب والسنة، في الفرقان والافتراق، خير لكم في الدنيا، لأن فيه مصلحتكم الحقيقية وفيه بعد عن الهوى، وفيه خضوع لله تعالى. وأحسن تأويلا أي مآلا ونهاية، وفهما لأمور هذه الحياة، فإن شئون الحياة معقدة، تختلط فيها الشهوات بالمصالح، فلا يمكن فهمها على حقيقتها إذا تشابكت إلا بالرجوع إلى شرع الله، ففيه الفهم الصحيح، وفيه الغاية السامية، وفيه المآل الذي لا شر فيه. فاللهم وفق أمتك للأخذ بشرعتك واجعلنا من الذين لا يحرفون الكلم عن مواضعه، إنك سميع الدعاء.
١ رواه البخاري: الأحكام- قول الله تعالى: ﴿وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾(٧١٣٧)، ومسلم: الإمارة- وجوب طاعة الأمراء في المعروف وتحريمها في المعصية(١٨٣٥)عن أبي هريرة رضي الله عنه..
٢ رواه القضاعي في مسند الشهاب ج٢، ص٥٥(٨٧٣) عن عمران بن حصين رضي الله عنه، والبغوي في شرح السنة والنواس بن سمعان، كما في مشكاة المصابيح ج٤، ص٢٣٨. كما رواه أحمد في مسنده وعن الحكم بن عمرو والغفاري وعمران بن حصين(٢٠١٣٠)، وعن علي رضي الله عنه(١٠٩٨)، ولفظه عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل". وهو عند البخاري بسنده عن علي..
٣ متفق عليه. وراجع التخريج السابق..
٤ متفق عليه رواه البخاري: الأحكام- السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية(٧١٤٤)، ومسلم: الإمارة- وجوب طاعة الأمراء في غير معصية(١٨٣٩) ولفظه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" ولفظ البخاري عن نافع عن عبد الله رضي الله عنه{أي ابن عمر حيث الرواية عن نافع) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"..
٥ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال صلى الله عليه وسلم: "هل قرأ معي أحد منكم آنفا؟" فقال رجل: نعم يا رسول الله. قال: "إني أقول ما لي أنازع القرآن" قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (رواه الترمذي: الصلاة- ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر الإمام(٣١٢)، والنسائي: الافتتاح - ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر به(٩١٩)، وأبو داود: الصلاة- من كره القراءة بفاتحة الكتاب إذا جهر الإمام(٨٢٦)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها- إذا قرأ الإمام فأنصتوا(٨٤٩)، وأحمد: مسند المكثرين(٧٢٢٨)..
﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا( ٦٠ ) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا( ٦١ ) فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا( ٦٢ ) أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا( ٦٣ ) ﴾
دعت الآيتان السابقتان المؤمنين إلى أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يحكموا بالعدل. وقد ذكرت الآية الثانية أن طاعة الله ورسوله واجبة، وأن طاعة أولي الأمر لازمة ما استقاموا على الحق من غير عوج، وأن ذلك سبيل الحق والعدل، واستقرارهما. وفي هذه الآية يبين سبحانه وتعالى حال بعض أهل الكتاب الذين يتركون الأحكام المقررة في الشرائع السماوية، ويستبدلون بها الظلم وحكم الطغيان، ولذا قال سبحانه :﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾
﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾
﴿ ألم تر ﴾هذا التعبير القرآني، وهو استفهام سيق للتعجب والإنكار، فيه التعجب وتوبيخ الذين وقع منهم هذا الفعل. وأداة الاستفهام دخلت على النفي، ونفي النفي إثبات. والمعنى : قد رأيت الأمر العجب المستنكر الذي وقع من أولئك الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. والزعم يكون فيمن يقول قولا لا يوجد ما يدل على صدقه، والمعنى : قد رأيت حال أولئك الذين يدعون كذبا أنهم يعتقدون ويُذعنون للذي أنزل إليك من شريعة عادلة وحاكمة بين الناس بالعدل، وأنهم يؤمنون بالكتب المنزلة وما اشتملت عليها، ومع ذلك يتركون الحق الواضح البين الذي لا شبهة فيه، الذي اشتملت عليه شريعتك وما قبلها، ويتحاكمون إلى الطاغوت وهو الطغيان الكثير، ولعل المراد به هنا الحكم الذي لا يبنى على الحق، ولا يقوم على أساسه، وليس له نظام وقانون مقرر ثابت، يعرف فيه كل واحد من الخصمين ما له من حقوق وما عليه من التزامات.
وواضح من النص الكريم أن هؤلاء متصفون بصفتين :
أولهما : أنهم يدّعون الإيمان وليسوا بمؤمنين، إذ قال سبحانه :﴿ يزعمون أنهم آمنوا ﴾.
وثانيتهما : أنهم في الأصل من أهل الكتاب الذين يدعون أنهم آمنوا بما أنزل على موسى والأنبياء قبله. وبهذا النص الكريم يتعين أن يكون أولئك من المنافقين من اليهود الذين كانوا يظهرون الإيمان، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون، أو من الضعفاء الذين ليس عندهم من قوة الإيمان ما يحملهم على الخضوع لأحكام الله تعالى.
وإن المفسرين قد تكلموا في سبب نزول هذه الآيات، ورووا في ذلك روايات مختلفة، وأقربها إلى معنى الآية أن منافقا اختلف مع يهودي، فأراد اليهودي أن يكون الحكم هو النبي لما يعرف عنه من عدالة وامتناع عن رشوة، ولأنه يحكم بقانون ثابت لا عوج فيه ولا انحراف، وأراد المنافق أن يتحكما إلى غير النبي- قيل إلى كاهن، وقيل إلى أحد كبار اليهود- وكلا الحكمين لا يمكن أن يكون بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم إلا ظالما، حكمه فيه طغيان كثير ؛ لأنه لا يعتمد على قانون منظم للحقوق والالتزامات.
﴿ ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ﴾وإذا كان الله تعالى قد أمرهم أن يكفروا بحكم الهوى والغرض والظلم وبحكم الأوهام والكهنة، واختاروا هم الاحتكام إلى طاغية من طغاتهم، أو كاهن من الكهان، فقد كان ذلك بوسوسة الشيطان المضل في نفوسهم، وهو لا يريد لهم إلا العدول عن الخط المستقيم. فالضلال هو العُدول عن الخط المستقيم، سواء أكان ذلك في المعنويات أم كان في السير الحسي. ومن عدل عن الطريق المستقيم واستمر في غيره، فهو كمن بعُد عن الطريق السوي، وسار في متاهات، كلما أمعن بعد. وهؤلاء قد ابتدءوا بالنفاق، فكلما وسوس لهم شيطانهم بالباطل أبعدهم عن الحق وعن طريقه. فمعنى يضلهم ضلالا بعيدا يبعدهم عن الحق الذي ابتدئوا باجتنابه، فصاروا كمن يوغلون في متاهات من الأرض، كلما أوغلوا زادوا بعدا عن الطريق المستقيم.
وإن هذا النص يومئ إلى أنه لا يتفق الإيمان الصادق أن يتحاكم المؤمن إلى غير النظام الذي يقرره القرآن والسنة، ويومئ النص إلى أن كل تحاكم لغير شريعة الله تعالى وما تقرره من أحكام، هو تحاكم إلى طغيان كبير لا يقوم الحكم فيه إلا على الهوى. ألم تر كل النظم التي تحكم بغير القرآن لا تعاقب الزاني، ولا تعتبر فعله جريمة إلا إذا كان فيه اعتداء على الزوجية أو اغتصاب، أو زنى بقاصرة وأي طغيان وهوى أعظم من ذلك جرما ؟ !
ويومئ النص كذلك إلى أن من يرفض حكم القرآن يخضع لحكم الشيطان، ويضل به ضلالا، كلما سار فيه بعد عن الحق المبين :﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ﴾.
﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ﴾
دعت الآيتان السابقتان المؤمنين إلى أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يحكموا بالعدل. وقد ذكرت الآية الثانية أن طاعة الله ورسوله واجبة، وأن طاعة أولي الأمر لازمة ما استقاموا على الحق من غير عوج، وأن ذلك سبيل الحق والعدل، واستقرارهما. وفي هذه الآية يبين سبحانه وتعالى حال بعض أهل الكتاب الذين يتركون الأحكام المقررة في الشرائع السماوية، ويستبدلون بها الظلم وحكم الطغيان، ولذا قال سبحانه :﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾
إذا قيل لهؤلاء الذين ضعف إيمانهم فلم يذعنوا للحق، ولم يخضعوا لحكم الله : تعالوا وأقبلوا على الخضوع لله تعالى ولحكمه- رأيت الذين اتسموا بالنفاق منهم يعرضون عنك إعراضا شديدا ؛ وذلك لأنهم لمرض النفاق في قلوبهم ينفرون من العدل والحق نفورهم من الإيمان الصريح الذي لا دخل فيه١، ومن الطريق المستقيم الخالي من العوج.
وفي الآية الكريمة إشارتان بيانيتان :
إحداهما : التعبير بقوله تعالى :﴿ إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ﴾ فإن هذا يبين لهم أنهم يتركون الحكم المنزل من السماء من عند الله إلى حكم الأرض وأهواء أهلها، ويبين لهم أن الرجوع في الحكم إلى الرسول هو رجوع إلى حكم الله الذي ينطق به رسوله الأمين، وأن امتناعهم عن ذلك إنكار للرسالات الإلهية مع أنهم من أهل الكتاب، الذين يعتزون على العرب بأنهم يؤمنون بشرائع السماء وغيرهم أميون ! ! ثم يبين ذلك أن الخضوع لحكم الرسول خضوع لحكم الله تعالى وما أنزله الله، فالمعترض على حكم الرسول معترض على الله سبحانه وتعالى.
الثانية : في قوله تعالى :﴿ رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ﴾ فإنه يشير إلى أن الذين يعرضون عن حكم الله تعالى وينفرون منه هم المنافقون الذين يسرون ما لا يظهرون ويخفون ما لا يبدون، فالإعراض عن حكم الله تعالى سمة من سمات النفاق أو بالأحرى أوضحها وأبينها.
والنص يشير مع هذا إلى أن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت فريقان : فريق ضعيف الإيمان، وفريق منافق، وأن المنافقين من بينهم شديدو النفرة والإعراض. اللهم إلا أن يقال إن ذلك إظهار في موضع الإضمار، أي أن الذين يزعمون أنهم آمنوا بالله وبالرسول، الذين يرتضون حكم الطاغوت هم منافقون، وهو بسبب نفاقهم يعرضون عن حكم الله إعراضا شديدا، فهم طائفة واحدة ! وأظهر وصفهم ليعلم أنه علة إعراضهم، وهذا ما نرتضيه، ويتفق مع قوله تعالى من قبل﴿ يزعمون أنهم آمنوا ﴾.
١ والدَّخَل: ما داخل الإنسان من فساد في عقل أو جسم، وقد دَخل دخلا ودُخل دخلا، فهو مدخول أي في عقله دَخَل، وفي حديث قتادة بن النعمان: وكنت أرى إسلامه مدخولا، الدخل بالتحريك: العيب والغش والفساد، يعني أن إيمانه كان فيه نفاق..
﴿ فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ﴾
دعت الآيتان السابقتان المؤمنين إلى أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يحكموا بالعدل. وقد ذكرت الآية الثانية أن طاعة الله ورسوله واجبة، وأن طاعة أولي الأمر لازمة ما استقاموا على الحق من غير عوج، وأن ذلك سبيل الحق والعدل، واستقرارهما. وفي هذه الآية يبين سبحانه وتعالى حال بعض أهل الكتاب الذين يتركون الأحكام المقررة في الشرائع السماوية، ويستبدلون بها الظلم وحكم الطغيان، ولذا قال سبحانه :﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾
إذا كان أولئك المنافقون يصدون ذلك الصدود، ويعرضون هذا الإعراض، فلينظروا إلى حالهم عندما تصيبهم مصيبة بسبب تركهم التحاكم إلى القانون العادل والحاكم العادل، كيف تكون حالهم عندما تنزل بهم مصيبة الظلم وعدم الخضوع لقانون عادل يرد الحق إلى نصابه ! وذلك أن الذي يترك القانون الذي لا يخضع لهوى، والقاضي الذي لا يخضع لغرض، ولا ينحرف عن الحق لأي غرض من أغراض الدنيا- تنزل به مصيبته لا محالة، وهي الاضطراب، وعدم الاطمئنان إلى حكم حاكم، والجماعة التي تترك الحكم المستقيم إلى الحكم المعوج الذي يستمد من الطغيان والظلم، لا بد أن تنزل بها مصيبة التفرق والانقسام، وعدم التواصي بالحق. فالقرآن يشير للمنافقين بهذه النتيجة، بل ينبئهم فيقول لهم : كيف تكون حالكم إذ تصيبكم مصيبة التظالم، وأكل بعضكم مال بعض، ونفرة الرسول منكم، وظهور أمركم وانكشاف حالكم، وذلك بما قدمته أيديكم من ترك للحق وعدم خضوع له ! والتعبير"بما قدمت أيديكم" يبين ما سبق من أمرهم، وإن لم يكن باليد، لأن اليد مظهر العمل، فهي كناية عن عمل الإنسان، وإن كان باللسان أو القلب.
ثم إنهم بعد أن تصيبهم مصيبة الباطل وانكشاف أمرهم، ونفرتك منهم- جاءوك يعتذرون إليك ويوثقون اعتذارهم بالحلف بالله تعالى قائلين : ما أردنا بالمخاصمة لغيرك إلا إحسان المعاملة والتوفيق بين الخصوم.
والمعنى الجلي للنص السامي : تكون حالهم إذا نزلت بهم النازلة التي تترتب على تركهم حكم الله إلى حكم الطغيان، ثم جاءوا إليك معتذرين عما سبق منهم، قائلين حالفين بالله أنهم ما قصدوا الإعراض، بل أرادوا التوفيق، والمعاملة الحسنة ! !.
والتعبير ب"ثم" في هذا المقام، يشير إلى التباين بين حالهم في الإعراض والصدود، وإقبالهم بالاعتذار والحلف والازدلاف.
﴿ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ﴾
دعت الآيتان السابقتان المؤمنين إلى أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يحكموا بالعدل. وقد ذكرت الآية الثانية أن طاعة الله ورسوله واجبة، وأن طاعة أولي الأمر لازمة ما استقاموا على الحق من غير عوج، وأن ذلك سبيل الحق والعدل، واستقرارهما. وفي هذه الآية يبين سبحانه وتعالى حال بعض أهل الكتاب الذين يتركون الأحكام المقررة في الشرائع السماوية، ويستبدلون بها الظلم وحكم الطغيان، ولذا قال سبحانه :﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾
أولئك النافرون عن حكم الله تعالى إلى حكم الطغيان والهوى والشيطان، وهم يزعمون أنهم من أهل الإيمان يعلم الله تعالى ما يستكن في قلوبهم، وما يدفعهم إلى أعمالهم وخروجهم عن حكم الحق إلى حكم الهوى. والإبهام في قوله تعالى﴿ يعلم الله ما في قلوبهم ﴾ للإشارة إلى خفائه إذ يخفونه ويبدون غيره، وإلى أنه شيء كثير من الفساد والإنحراف النفسي يُحكمون إخفاءه، وإلى تنوعه من رغبة في الكيد والأذى، والتفريق بين المؤمنين وممالأة المشركين وغير ذلك.
وإذا كان الله يعلم ما في نفوسهم علما دقيقا، لا يغيب عنه شيء، لأنه وحده العليم بذات الصدور الذي لا يخفى عليه شيء في السماء والأرض، فإنه سبحانه وتعالى مجازيهم في الآخرة بأعمالهم ودوافعها المكنونة في قلوبهم، إن استمروا على حالهم ولكن عليك أنت أيها الرسول أن تبلغهم الحق، وتدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.
﴿ فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ﴾ أي : إذا كانوا كذلك من السوء فأعرض عنهم. وفي هذا النص بيان لطرق علاج المنحرفين غي نفوسهم إذا كانوا صالحين للعلاج، وهذه الطرق ثلاث مراحل متداخلة :
أولها : الإعراض عنهم بألا يقبل عليهم ليشعروا باستنكاره لأعمالهم، وأنه غير راض عنهم، وذلك في غير جفوة، لأنه إذا كانت الجفوة كان العناد فلا يمكن أن يصل إلى المرحلة الثانية. وهذه المرحلة الأولى هي التي عبر عنها سبحانه بقوله تعالى :﴿ فأعرض عنهم ﴾.
الثانية : الوعظ، وهو الزجر من التخويف بسوء العاقبة والمآل ونتائج أعمالهم، فإن ذلك قد يدفعهم إلى التفكير، ومع التفكير في العاقبة ينفتح باب الهداية وسلوك الطريق المستقيم.
الثالثة : الاتجاه إلى جذبهم بقول بليغ يصل إلى قلوبهم، بأن يبين لهم العاقبة الحسنى في العمل الحق، والخضوع لحكم القرآن المشتمل على شريعة الرحمن، ومعنى قوله تعالى :﴿ قولا بليغا ﴾ أنه يبلغ إلى كنه ما في قلوبهم، فيصل إلى أعماقها ويوجههم توجيها حسنا إلى ما فيه صلاح في الدنيا والآخرة، وذلك بأن يورد النبي صلى الله عليه وسلم القول على طريقة تجعلهم يقبلون قوله ولا ينفرون، فيقربهم ويدنيهم، ويأتيهم من قِبَل ما يألفون إن كان حقا.
وإن القول البليغ الذي يصل إلى كنه القلوب، يجب أن تتحقق فيه ثلاثة أوصاف : أولا : أن يكون المطلوب حقا، والثاني : أن يكون اللفظ مستقيما، والمعنى سليما، فلا يصل إلى الحق إلا بالحق، والثالث، أن يكون القول منبعثا من النفس، بحيث يؤمن القائل بصواب ما يقول فإنه لا يؤثر إلا المتأثر.
هذه طرق الدعوة إلى الحق، هدانا الله إلى الطيب من القول وهدانا إلى صراط الحميد.
﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما( ٦٤ ) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمون فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما( ٦٥ ) ﴾
ما قبل هذا النص الكريم كان في وجوب إطاعة الله تعالى ورسوله، ووجوب إطاعة أولي الأمر الذين ينفذون حكم الله تعالى ويقومون على رعاية شرعه، ويرجعون إليه في وفاقهم وفي اختلافهم، وكان فيما سبق أيضا بيان أن من يتركون حكم الله ورسوله، إنما يتحاكمون عند تركه إلى الظلم والطغيان، لأن ما جاء به الشرع هو الحق الذي لا شك فيه، وماذا بعد الحق إلا الضلال، وماذا بعد ترك حكم الله إلا حكم الطغيان.
وفي الآيات التالية يبين سبحانه أن الالتجاء إلى حكم الله تعالى، عندما يكون الخلاف، هو من الإيمان، فمن ترك حكم الله إلى غيره عامدا مستهينا، بحكم الله، أو منكرا عدالته وصلاحيته، لا يعد مؤمنا ولا يعد آخذا بحكم الرسالة، ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ﴾
﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ﴾ ومعنى النص السامي : لا نرسل أي رسول في أي أمة، إلا كان من شأنه أن يطاع، وهذه الطاعة اللازمة على من أرسل إليهم هي بإذن الله بطاعته، فالله تعالى هو الذي يأمر بطاعته، ومن عصاه فإنما يعصى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله...( ٨٠ ) ﴾ ( النساء ). وفي الأثر الصحيح :"من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني"١ أي أن من يعصى الأمير المعين من قبل الرسول، أو الذي عين على مقتضى أحكام شريعته، فقد عصى الله، فليس كل أمير يعد أميرا للرسول.
وقوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من رسول ﴾ يدل على أبلغ عموم وأبلغ استغراق، إذ تأكد الإستغراق بالتنكير وبحرف( من ) وبالنفي والإثبات، وإن هذا يدل على أن الطاعة هي مقتضى الرسالة، فأساس الإيمان بالرسالة الإيمان بأن ما يبلغ إنما يبلغ عن الله تعالى، ولقد أيد سبحانه وتعالى هذا المعنى وهو التبليغ عن الله تعالى بقوله :﴿ بإذن الله ﴾، فكل أمر يأمر به هو من الله تعالى، وكل ما ينهى عنه هو من الله تعالى، كما قال تعالى :﴿ إن هو إلا وحي يوحى( ٤ ) ﴾( النجم ).
ويجرنا الكلام في هذا إلى الكلام في اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم : هل طاعته واجبة فيه بإذن من الله، وبعبارة أخرى : أهو لا يخطئ فتجب الطاعة، ويكون ما ينتهي إليه في الاجتهاد هو كالموحى به ؟ والجواب عن ذلك أنه يجوز الخطأ على النبي صلى الله عليه وسلم في الاجتهاد في بيان بعض الأحكام، ويجوز الخطأ عليه في القضاء إذا لبَّس الخصوم. والخطأ الأول قد وقع فقد اجتهد مع أصحابه في معاملة الأسرى، وخطأهم الله في اجتهادهم في ذلك الموضع٢. وقد فرض عليه الصلاة والسلام جواز الخطأ في القضاء، فقد قال عليه الصلاة والسلام :"إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من البعض الآخر، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقتطع له قطعة من النار"٣. ولكن الخطأ في الأحكام لا يمكن أن يقره الله تعالى عليه، بل يبينه، لسلامة النقل عن الله تعالى، وليكون كل ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم حقا، وليتحقق معنى قوله عليه الصلاة والسلام :"ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فاجتنوه"٤. وكذلك لا يجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه ويكون باطلا، لأنه يكون ظلما، ولا يقع منه عليه الصلاة والسلام، وقوله السابق في هذا من قبيل فرض التقصير في نفسه، كما فرض التقصير في كثير من أمره تنزها عن الغرور، وتوجيها لنا. ولعل قوله عليه الصلاة والسلام لتعليم الناس قول الحق في مجلس القضاء، وليبين لهم أن إثم خطأ القاضي يقع عليهم، والقضاء لا يبرر الباطل ولا يغمط الحق، فإن أخطأ لا يحل دينا لمن كان الخطأ لمصلحته أن يأكل مال أخيه، أو يغمط حقه.
ولقد ذهبت الجرأة ببعض الذين يتكلمون في الفقه إلى أن ما يكون باجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون حجة. كأن النبي يمكن أن يقر على الخطأ في اجتهاده ! وذلك كلام باطل لا يكون إلا من مستهين بمقام النبوة، وتبليغ الرسالة ! ولقد قال بعض المالكية وقولهم الحق : إن كل من لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم وطعن فيه ورده، فهي ردة يستتاب فاعلها، فأولى بهؤلاء أن يصمتوا ولا يتكلموا، فكلامهم تلبيس وأوهام لا تصدر عن عالم الدين يفهم حقائقه، ويدرك معانيه !.
طاعة الرسول إذن واجبة في كل ما يأمر به على أنه دين واجب الأخذ به، وكل من يعاند الرسول في حكمه يكون ظالما لنفسه، لأنه تمرد على أمر ربه، ولأنه اختار الباطل بدل الحق، ويجب عليه التوبة والاستغفار. ولذا قال تعالى في أولئك الذين يتمردون على أحكام الرسول وقضائه.
﴿ ولو أنهم ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ﴾ أي : لو ثبت أن أولئك الذين تحاكموا إلى الطغيان والظلم، من اليهود والمنافقين، وظلموا أنفسهم بخروجهم عن جادة الحق وردهم الحق الثابت، جاءوا إليك تائبين راجعين فطلبوا غفران الله تعالى، وطلبت لهم ذلك لعلموا علم اليقين أن الله كثير القبول للتوبة، رحيم بعباده، بفتح باب المغفرة ليدخلوه آمنين مطمئنين إليه، وما سلكوا من طريق الضلال يغفر لهم سلوكه، لأن الله تعالى يحب قبول التوبة ويحب المغفرة. وإن مثلهم كمثل الناقة الشاردة التي يراها صاحبها، يضع لها أسباب التقريب، فإذا عادت إليه فرح بعودتها، بيد أن أحدا من عباد الله لا ينفعه !.
وهنا إشارات بيانية يجب التنبيه إليها :
أولها : أن الله تعالى سمى الذين تحاكموا إلى غير الشرع ظالمين لأنفسهم، يستوي في ذلك من حكم له ومن حكم عليه ؛ لأن تحكيم الطاغي الظالم هو بث للظلم ونشر له، وإذا شاع الظلم وكثر شاع معه الفساد والاضطراب، ومن فعل ما يؤدي إلى ذلك هو ظالم لنفسه، وظالم لجماعته التي يعيش فيها.
وثانيتها : أن الله تعالى قرن الاستغفار من الرسول بالاستغفار له، ليشير بهذا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول من عند نفسه، بل يقول عن الله تعالى، ولتكريم مقام الرسالة ومقام الحاكم العادل، فإن الإعراض عنه استهانة به، والاستهانة بالحاكم العادل تؤدي إلى الفوضى وعدم استقرار الأحكام.
والثالثة : أن قوله تعالى :﴿ واستغفر لهم الرسول ﴾ فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، ويقول الزمخشري في ذلك"لم يقل :( واستغفرت لهم ) وعدل عنه إلى طريق الالتفات، تفخيما لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما لاستغفاره. وتنبيها على أن شفاعة من اسمه رسول من الله بمكان". فالالتفات كما نرى للتنبيه إلى مكانة الرسالة، وتفخيمها، ولبيان أن شفاعة الرسول بمقتضى كونه رسولا، لها مقامها من الله تعالى، وفوق ذلك أن الالتفات يؤدي إلى أن يكون الاستغفار للرسول بوصفه أنه رسول، فالباعث على وجوب الاستغفار له هو أنه يبلغ رسالة الله، فترك حكمه استهانة بحكم الله وهو رسول الله، ورسول الله له حق الكرامة الكاملة.
١ سبق تخريجه قريبا..
٢ أومأ إمامنا إلى قوله تعالى: ﴿ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم﴾(الأنفال: ٦٧). قال القرطبي: هذه الآية نزلت يوم بدر، عتابا من الله تعالى لأصحاب نبيه صلى الله علي وسلم. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب، فالتوبيخ والعتاب إنما يكون متوجها بسبب من أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفدية.
.

٣ متفق عليه؛ رواه البخاري: الشهادات- من أقام البينة بعد اليمين(٢٦٨٠)، ومسلم: الأقضية الحكم الظاهر واللحن بالحجة(١٧١٣)..
٤ رواه ابن ماجة: المقدمة- إتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم(١) ولفظه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرتكم به فخذوه وما نهيتكم عنه فانتهوا". وهو في الصحيحين(١٣٣٧) البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة(٧٢٨٨)، ومسلم في الفضائل: ولفظه عند البخاري: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"..
﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾
ما قبل هذا النص الكريم كان في وجوب إطاعة الله تعالى ورسوله، ووجوب إطاعة أولي الأمر الذين ينفذون حكم الله تعالى ويقومون على رعاية شرعه، ويرجعون إليه في وفاقهم وفي اختلافهم، وكان فيما سبق أيضا بيان أن من يتركون حكم الله ورسوله، إنما يتحاكمون عند تركه إلى الظلم والطغيان، لأن ما جاء به الشرع هو الحق الذي لا شك فيه، وماذا بعد الحق إلا الضلال، وماذا بعد ترك حكم الله إلا حكم الطغيان.
وفي الآيات التالية يبين سبحانه أن الالتجاء إلى حكم الله تعالى، عندما يكون الخلاف، هو من الإيمان، فمن ترك حكم الله إلى غيره عامدا مستهينا، بحكم الله، أو منكرا عدالته وصلاحيته، لا يعد مؤمنا ولا يعد آخذا بحكم الرسالة، ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ﴾
﴿ شجر بينهم ﴾ معناها تنازعوا فيما بينهم، واختلط الحق بالباطل، وتشابكت الأمور كما تتشابك غصون الأشجار، وإن التحاكم يكون في مثل هذه الأمور التي تتشابك فيها عناصر الحق والباطل، ويتلبس بعضها ببعض، ولا يعرف الحق الصريح الواضح من بينها، ويميزه الحاكم العادل الفاحص، الذي ينظر إلى الأمور بعمق وتدبر وقوة فراسة، وعزمه على الحق وطلبه بإخلاص لا هوى.
﴿ فلا وربك ﴾ أيها النبي الكريم، لا يؤمنون، ولا يعدون في عداد المؤمنين، حتى يحكموك فيما يكون بينهم من خلاف، فإن من أول مظاهر الإيمان والإذعان للحق الرضا بتحكيم الشرع في الخلاف.
وهنا ثلاثة بحوث لفظية :
أولها :( الفاء ) في قوله تعالى :﴿ فلا وربك ﴾ ونقول إنها فاء الإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، ومعنى الكلام : إذا كانت طاعة الرسول واجبة بحكم أنه رسول من عند الله، فإنهم لا يؤمنون برسالته حتى يرتضوا التحاكم إليه.
ثانيها :( لا )في قوله تعالى :﴿ فلا وربك ﴾قال الزمخشري إنها زائدة لتقوية الكلام، فيكون النص كقوله تعالى :﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين( ٩٢ ) ﴾( الحجر )وقد قال الطبري إن "لا"ليست زائدة، وإنما هي رد على ما تقدم ذكره من تحاكمهم إلى الطاغوت وتركهم حكم الشرع، وقد قال في ذلك :"قوله( فلا )رد على ما تقدم ذكره، تقديره : فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ثم استأنف القسم بقوله﴿ وربك لا يؤمنون ﴾.
ثالثها : أن الله سبحانه وتعالى أقسم بذاته العلية، ولكنه أضاف الربوبية إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ وربك ﴾ يا أيها النبي، تكريما لذات النبي صلى الله عليه وسلم، وإعلاءً لشأنه، وجواب القسم هو قوله تعالى :﴿ لا يؤمنون ﴾.
ومن هذا النص السامي يتبين أن أول مظهر من مظاهر الإيمان الرضا بحكم الشرع، ولكن الرضا وحده ليس كافيا بل لا بد من أمرين آخرين، وهما أن يكون الرضا هن طيب نفس من غير حرج ولا ضيق، وثانيهما التسليم والخضوع لحكم الشرع. وقد قال سبحانه وتعالى في ذلك :﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ﴾ الحرج الضيق والتململ من الحكم أو الشك في صحته، والمعنى : أن من مظاهر الإيمان أن يقبلوا التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء، وإذا صدر الحكم لا يشكون في صحته، ولا يضيقون ويتبرمون به، بل يتقبلونه بقبول حسن، لأن قبول الأحكام على أنها من عند الله ينهي الخصومات، ويلقي بالسلام بعدها، لأنهم تحاكموا إلى ذي الجلال والإكرام. وقد تكلم العلماء في العطف ب"ثم" بدل الفاء أو الواو، فقال إن"ثم"تدل على التراخي، وكأن الله يغفر لهم الإثم الذي يصيبهم عند صدمة الحكم لهم بالنطق به، ولكن عليهم أن يروضوا أنفسهم على القبول والإذعان، من غير ضيق ولا تململ، لكي يكون الحكم حاسما للخلاف قاطعا للنزاع.
﴿ ويسلموا تسليما ﴾ هذا هو الوصف الثالث لأهل الإيمان بالنسبة لأحكام الشرع الشريف. والتسليم معناه الانقياد التام في المظهر والحس. وإذا كان الوصف الثاني لبيان الخضوع النفسي، فهذا الوصف الثالث لبيان الخضوع الحسي الظاهر. وقد أكد سبحانه وتعالى التسليم بالمصدر، فقال "تسليما" للإشارة إلى وجوب الإذعان المطلق من غير أن يثيروا أي شبهة حول الحكم، ولا أن يماروا فيه مراءً ظاهرا، فإن المراء قد يثير نزاعا جديدا، والقضاء يجب أن يكون حاسما قاطعا.
وأصل التسليم هو تقديم النفس، وجعلها خالصة لمن يسلم إليه. يقال : سلم لأمر الله وأسلم له. إذ جعل نفسه خالصة لله تعالى، ثم أطلق التسليم على الانقياد الظاهري، وعدم المماراة فيما يقرره الشرع من حقوق وواجبات.
ويجب التنبيه إلى أن التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته هو التحاكم إلى كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يعلم كل من يُسمي نفسه مسلما أن الله تعالى يقرر أنه لا يؤمن من لا يتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، ثم لا يجد ضيقا في حكم الشرع، بل يرضى به، وينقاد له انقيادا ظاهرا وباطنا. وإذا كان ذلك ما يقره الشرع، فليعلم المسلمون اليوم مكانهم من الإيمان، وقد ارتضوا حكم القوانين الأوربية بدل كتاب الله وسنة رسوله، وإذ دعوا إلى حكم الله ضاقت صدورهم حرجا، وتململوا ولم يسلموا، بل يناوئون ويعاندون ؛ إذ هم يؤمنون بما عند الأوربيين أكثر من إيمانهم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتُلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلا منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا( ٦٦ ) وإذاً لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما( ٦٧ ) ولهديناهم صراطا مستقيما( ٦٨ )ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا( ٦٩ )ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما( ٧٠ ) ﴾
الآيات السابقة بينت أحوال المنافقين وصفات الإيمان، وأن مظهر قوة الإيمان إطاعة الله ورسوله، والرجوع إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف، وتحكيمهما في كل أمور الحياة التي تحتاج إلى حكم وفصل. وأقسم الله بذاته العلية التي خلقت كل ما في الوجود، وقامت عليه بالحفظ، ألا يكون الإيمان الكامل إلا لمن يُحكِّم الله ورسوله في كل الخصومات، ويذعن للحكم من غير تململ، ولا تردد. وفي هذه الآيات يبين أن الذين يذعنون لأمر الله ونهيه، حتى في النفس وترك الأهل، قليلون وليسوا كثيرين، وهم الذين تقوم عليهم قوة الأمة، ولذا قال سبحانه :﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ﴾
﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ﴾
معنى قتل النفس تعريضها للتلف من غير أمل في النجاة، ويكون في ذلك إعلان للحق، ونصر للفضيلة ورفع شأنها، كهذا الذي ينطق بكلمة الحق أمام سلطان جائر ويتأكد أنه سيقتله إن قالها ! ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :"سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قال كلمة حق أمام سلطان جائر فقتله"١ ! ومن هذا أيضا أن يحمل على النطق بالكفر، فيمتنع فيقتل ! نعم إن الله سبحانه وتعالى قال :﴿ إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان( ١٠٦ ) ﴾( النحل )، فرخص له بالنطق بكلمة الكفر، ولكن الأفضل ألا يقول، وهو مثوب إذا أصر ولم يقل، ففي هذه الأحوال يكون التعرض للقتل فضيلة مشكورة، لأنه إعلان للناس بأن للحق أنصارا يفتدونه بأنفسهم، وفي ذلك تحريض على تأييده وهو دعوة صارخة له.
ومعنى الخروج من الديار : الهجرة من البلد منصرفين للجهاد في سبيل الله تعالى، وذلك إذا لم يكونوا مستضعفين في الأرض، محكومين بغير المسلمين.
ومعنى النص الكريم : لو ثبت أننا فرضنا عليهم أن يعرضوا أنفسهم للتلف من غير أمل في النجاة، أو يخرجوا من موضع استقرارهم وأمنهم في ديارهم، إلى حيث المشقة الشديدة والعمل الكادح، ما استجاب لهذه الفريضة إلا عدد قليل من الناس، وهذا يشير إلى أمرين :
أولهما : أن التكليفات الشرعية لا تكون إلا فيما يطاق من غير مشقة مجهدة، لأن الله- تعالى- يقول :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها...( ٢٨٦ ) ﴾( البقرة )، والتعبير ب( لو )يدل على أن التكليف لا يقع على هذا ؛لأن ( لو )كما يقول العلماء تدل على امتناع الشرط لامتناع الجواب، فالله تعالى لو يكلف ذلك التكليف لثقل التكليف إلا على عدد قليل منهم.
الثاني : أن في كل طائفة عددا يقوم بذلك الأمر الشاق، فهؤلاء المؤمنون الأولون قد صبروا على أذى المشركين في مكة من غير وهن ولا ضعف، ومنهم من مات تحت حر العذاب الشاق، ثم هاجروا وخرجوا من ديارهم، وهؤلاء أصحاب الأخدود الذين آذوا المؤمنين، فصبروا وهم يلقون في النيران وقد قال سبحانه وتعالى :﴿ قتل أصحاب الأخدود( ٤ )النار ذات الوقود( ٥ )إذ هم عليها قعود( ٦ )وهو ما يفعلون بالمؤمنين شهود( ٧ )وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد( ٨ ) ﴾( البروج ).
﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ﴾ وإذا كان الله سبحانه لا يكلف ما يشق أداؤه، ولا يمكن احتماله إلا لعدد من الأقوياء جعلوا منار الهدى أمام الناس في كل العصور، فإنه سبحانه يكلف الناس ما فيه خيرهم وتثبيتهم على الحق.
ومعنى النص السامي﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم ﴾ : لو ثبت أنهم فعلوا ما يكلفونه من تكليفات محتملة بينت لهم في نتائجها وثمراتها، لكان فيها الخير في الدنيا والآخرة، ففي الآخرة يكون الثواب العظيم والنعيم المقيم، وفي الدنيا يكون العدل والفضيلة، والمصلحة الحقيقية، وهذه الأمور هي خير الدنيا. فالشرع الإسلامي بني على هذه الأمور الثلاثة : الأول الفضيلة المهذبة للنفس، الموجهة إلى توثيق العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، والعبد ربه، والسعي نحو الكمال الإنساني، والمنزلة الرفيعة، والثاني العدالة التي هي الميزان في العلائق الإنسانية التي ينتظم بها معاشهم ومعادهم، والثالث المصلحة الحقيقية، فما من مصلحة حقيقية ليست هوى ملحا ولا شهوة جامحة_ إلا دعا إليها الإسلام، وما من حكم جاء به التكليف الإلهي إلا طويت فيه المصلحة، وكانت نتيجة وثمرة للأخذ به.
ومعنى قوله تعالى :﴿ وأشد تثبيتا ﴾أي يكون في الأخذ بالتكليف الذي يطاق تثبيت على الحق، وهو أشد تثبيت وأقواه. وكان في التكليف الذي يطاق تثبيت للحق، لأنه يمكن الاستمرار عليه، والاستمرار على فعل ما هو حق يثبته ويقرب الغاية منه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا إلى المداومة على الخير ولو كان قليلا، وقد قال صلى الله عليه وسلم :﴿ أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ"٢. وإن الاستمرار على طاعة الله يؤدي إلى مثلها، وإن الاستمرار على السهل يجعل المكلف قادر على الصعب، ثم على الأصعب، وهكذا حتى يصل إلى أعلى درجات التكليف مشقة، فيكون بعد هذه الخطوات أمرا مستطاعا. وإذا وصل إلى ذلك يكون الأجر العظيم، لذا قال سبحانه :{ وإذاً لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ﴾.
١ سبق تخريجه..
٢ سبق تخريجه..
﴿ وإذاً لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ﴾
الآيات السابقة بينت أحوال المنافقين وصفات الإيمان، وأن مظهر قوة الإيمان إطاعة الله ورسوله، والرجوع إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف، وتحكيمهما في كل أمور الحياة التي تحتاج إلى حكم وفصل. وأقسم الله بذاته العلية التي خلقت كل ما في الوجود، وقامت عليه بالحفظ، ألا يكون الإيمان الكامل إلا لمن يُحكِّم الله ورسوله في كل الخصومات، ويذعن للحكم من غير تململ، ولا تردد. وفي هذه الآيات يبين أن الذين يذعنون لأمر الله ونهيه، حتى في النفس وترك الأهل، قليلون وليسوا كثيرين، وهم الذين تقوم عليهم قوة الأمة، ولذا قال سبحانه :﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ﴾
وإنما قال المكلفون بما كفلوا، وأدوا حق الله تعالى، وقد زاد ثباتهم على الحق، ونالوا الخير، فإن لهم مع ذلك جزاء عظيما، لا حدود لعظمته. وقد تأكدت عظمة الجزاء بأمور ثلاثة : أولها : تنكيره، فهذا التنكير يشير إلى أنه غير محدود بحدود، فهي عظمة أقصى ما يصل إليه الخيال. ثانيها : أنه قال إن ذلك من لدن الله تعالى، وهذا شرف إضافي لهذا الجزاء، وهو جزاء يعلو على كل جزاء من الناس، ثم إنه جزاء يستهان في سبيله كل أذى. وثالثها : الوصف بالعظمة، والذي وصفه بذلك هو الحكيم الخبير، والخلاق العظيم.
﴿ ولهديناهم صراطا مستقيما ﴾
الآيات السابقة بينت أحوال المنافقين وصفات الإيمان، وأن مظهر قوة الإيمان إطاعة الله ورسوله، والرجوع إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف، وتحكيمهما في كل أمور الحياة التي تحتاج إلى حكم وفصل. وأقسم الله بذاته العلية التي خلقت كل ما في الوجود، وقامت عليه بالحفظ، ألا يكون الإيمان الكامل إلا لمن يُحكِّم الله ورسوله في كل الخصومات، ويذعن للحكم من غير تململ، ولا تردد. وفي هذه الآيات يبين أن الذين يذعنون لأمر الله ونهيه، حتى في النفس وترك الأهل، قليلون وليسوا كثيرين، وهم الذين تقوم عليهم قوة الأمة، ولذا قال سبحانه :﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ﴾
الصراط هو الطريق، والمستقيم هو الذي يوصل إلى غايته أو هدفه، ويقول علماء الهندسة : إن الخط المستقيم هو أقرب خط بين نقطتين، فالصراط المستقيم هو أقرب طريق يوصل إلى الحق، والهداية هنا هي التوفيق لأقرب طريق موصل إلى الله تعالى. ومعنى النص الكريم : من أجاب داعي الحق، وقام بالأوامر والنواهي على وجهها الأكمل، وفقه الله تعالى إلى طريقه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، ويصل بذلك إلى القرب من الله تعالى، فإن الذي يتقرب إلى الله بالطاعات يصل إلى إدراك نوراني لحقائق العبودية. ولقد قال البيضاوي في تفسير هذه الآية :( يصلون بسلوكه جناب القدس، ويفتح عليهم أبواب الغيب، قال النبي صلى الله عليه وسلم :"من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم"١، وإنه قد ورد أن العبد يتقرب إلى الله تعالى بنوافل الطاعات حتى يصير الله تعالى بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به ).
وإن الأساس في الارتفاع إلى هذه المقامات العليا هو طاعة الله وطاعة رسوله، ولذا قال سبحانه :﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ﴾.
١ أبو نعيم في (الحلية) من حديث أنس بهذا اللفظ. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس مرفوعا: "من تعلم علما فعمل به كان حقا على الله أن يعلمه ما لم يكن يعلم". وفي كتاب(رواية الكبار عن الصغار)لأبى يعقوب البغدادي عن سفيان: "من عمل بما يعلم وُفق لما لا يعلم". الدرر المنتثرة ج١، ص٧٩٣ برقم(٤٢٢)..
﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ﴾
الآيات السابقة بينت أحوال المنافقين وصفات الإيمان، وأن مظهر قوة الإيمان إطاعة الله ورسوله، والرجوع إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف، وتحكيمهما في كل أمور الحياة التي تحتاج إلى حكم وفصل. وأقسم الله بذاته العلية التي خلقت كل ما في الوجود، وقامت عليه بالحفظ، ألا يكون الإيمان الكامل إلا لمن يُحكِّم الله ورسوله في كل الخصومات، ويذعن للحكم من غير تململ، ولا تردد. وفي هذه الآيات يبين أن الذين يذعنون لأمر الله ونهيه، حتى في النفس وترك الأهل، قليلون وليسوا كثيرين، وهم الذين تقوم عليهم قوة الأمة، ولذا قال سبحانه :﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ﴾
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة فضل الطاعة وجزاءها، وهو أجر عظيم، وهداية إلى الطريق الذي يوصل إلى القدسية ومرتبة المشاهدة لله تعالى، وعظمته التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :{ اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"١ وفي هذه الآية الكريمة يذكر لهم جزاء آخر، وهو كرم الصحبة في الدنيا والآخرة، فهم إذ يسيرون في الصراط المستقيم الموصل إلى الله يكونون في قافلة الأطهار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وما أحسنها رفقة طاهرة كريمة طيبة ! !.
والإشارة في قوله تعالى :﴿ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم ﴾ إلى أولئك السابقين الذين أعطاهم الله سبحانه الأجر العظيم، وهداهم للوصول إلى مرتبة السُّمو، ومشاهدة المعاني القدسية وكرر ذكر الطاعة فقال :﴿ ومن يطع الله والرسول ﴾، لأن هذه الطاعة هي الأساس في هذه الأجزية المجزية، الرافعة السامية الهادية، وفي تكرارها تحريض عليها، ودعوة إليها.
وقد ذكر سبحانه أن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين قد أنعم عليهم، وإن ذلك هو الحق الذي لا ريب فيه، ففيهم جميعا نعم ثلاث قد اختصوا بها أولها : نعمة الهداية والتوفيق وتلك هي الأساس. والثانية : نعمة إدراك معاني الربوبية والعبودية، فهم يحسون بعظمة الخالق المنشئ، كما يحسون بعظمة المعبود، ويذوقون طعم الخضوع لله الواحد الأحد الذي ليس بوالد ولا ولد.
والثالثة : نعمة العمل الصالح. وتلك النعم هي معاني الإنسانية العالية التي تسمو عن كل مظاهر الحيوانية، وما بقي منها فإنه تقوى به هذه المعاني العالية، وتلك النعم السامية.
من هم أولئك الرفقاء الأطهار ؟ إنهم مراتب ودرجات، وهم أربعة :
أولهم : النبيون وهم الذي أنبأهم الله، واختارهم ليخبروا عنه سبحانه، ويبلغوا الناس شرعه ويفسروه، وإن من يبالغ في محبتهم وطاعتهم يكون معهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول :"المرء مع من أحب"٢.
وقد روى ابن جرير الطبري عن سعيد بن جبير قال :"جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون فقال : يا رسول الله، شيء فكرت فيه ! فقال الرسول :
"ما هو" ؟ قال : نحن نغدو إليك ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك ! فنزل قوله تعالى :﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم... ﴾ الآية. وروي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قلت : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له :"إنك لأحب إلي من نفسي، وأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي، فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي عرفت أنك إن دخلت الجنة رفعت مع النبيين فخشيت ألا أراك. فنزلت الآية الكريمة"٣.
والذي يعنينا في هذا أن من أحب الله ورسوله يكون مع حبيب الله محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء الأطهار.
والفريق الثاني من قافلة الأبرار الصد يقون ومرتبتهم تلي مرتبة النبيين، والصديقون جمع صديق، وقد فسر العلماء الصديق بأنه الصادق الذي لا يكذب، وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني : الصديق من كثر منه الصدق، وقيل : يقال لمن لا يكذب قط، وقيل لمن لا يأتي منه الكذب لتعوده على الصدق، وقيل : بل لمن صدق بقوله واعتقاده، وحقق صدقه بعمله. قال تعالى :﴿ واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا( ٥٦ ) ﴾( مريم ) وقال :﴿ وأمة صِدِّيقة...( ٧٥ ) ﴾( المائدة ) وقال :﴿ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ﴾.
وإن هذه المعاني متلازمة، فمن صدق في قوله لا يكذب قط، إذ يصير الصدق عادة نفسية له، فلا يتأتى منه الكذب، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا"٤.
وإن الصدق في القول إذا صار عادة نفسية زكت النفس وطهرت، واستقام الفكر والعمل، وصار يدرك الحق لذات الحق، ويتجه إلى طلبه من غير التواء، فيدركه من غير حجة ولا برهان، لأن أمارات الحق تلوح له، ويدركها بنور قلبه. وكذلك كان صدِّيق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه، وقد روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :"ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له نظرة، غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم"٥.
وإن زكاء النفس بمداومة الصدق يؤدي إلى سلامة الاعتقاد، وصحة العمل، وإلى المداومة على تعرف عيوبها، فيكون الصدوق سليم النظر في كل شيء لم يلبس بباطل، وبذلك يكون الصدِّيق لا يتأتي منه الكذب، ويسلم قلبه كما سلم لسانه، ويصح اعتقاده كما يصلح عمله.
والفريق الثالث من قافلة البر، هم الشهداء، وهم الذين شهدوا الحق وعلموه علما كعلم المعاينة والمشاهدة، فهؤلاء يشهدون بالحق، ويعلنون ويدعون إليه، فهم الذين قال الله تعالى في أمثالهم :﴿ وكذلك جعلنا أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا( ١٤٣ ) ﴾( البقرة )، فهم حضور الحق والشاهدون به والداعون إليه، وإن من أولئك بلا ريب الذين يقتلون في الجهاد في سبيل الله تعالى لإعلاء كلمة الحق، قاصدين وجه الله بقتالهم، لأنهم شهدوا الحق وأعلنوه، وضربوا الأمثال على افتدائه بأنفسهم، وشهد الله تعالى لهم بالجنة.
والفريق الرابع الصالحون، وهم من صلحت نفوسهم وأعمالهم فهم صالحون في الباطن والظاهر.
هذه القافلة المكونة من هذه الطوائف الأربع، هم أهل الإيمان حقا وصدقا، وهو رفقاء الخير، ورفقتهم أحسن النعم، ولذا قال سبحانه :
﴿ وحن أولئك رفيقا ﴾ الرفيق هو الصاحب الذي يلازمك في عمل أو سفر، وسمي رفيقا لأنك ترتفق به وتستعين، ويعاون كل منكما صاحبه، ويأتنس به في العمل والسفر والملازمة بشكل عام. والرفيق هنا ذكر مفردا واستعمل في معنى الجمع، فالمعنى : وحسن أولئك رفقاء ! وإنما أفرد لأن الحسن في ذات الرفقة، ولأن المصاحبة إفرادية، فكل واحد يصاحب الأحاد والجميع، فهم جميعا في معنى رفيق واحد، لتشاكل النفوس وتوافقها. وقال الزمخشري : إن "حَسُن"في معنى فعل التعجب، فالمعنى : ما أحسن وأطيب رفقة هؤلاء ! ولذلك كانت نعمة أنعم الله بها على عباده المخلصين. وهي من فضله.
١ سبق تخريجه..
٢ متفق عليه؛ رواه البخاري : الأدب- علامة حب الله عز وجل(٦١٦٨)، ومسلم: البر والصلة -المرء مع من أحب(٢٦٤١)، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه..
٣ رواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة. عن عائشة رضي الله عنها. مجمع الزوائد(٧٣٩٠١)..
٤ عن عبد الله( ابن مسعود) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا". (رواه مسلم: البر والصلة والآداب- قبح الكذب وحسن الصدق وفضله(٢٦٠٧)، كما رواه البخاري بلفظ مقارب: الأدب- قول الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾(٦٠٩٤)..
٥ رواه الديلمي عن ابن مسعود. كما في كنز العمال(٣٢٦١٢)..
﴿ ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ﴾
الآيات السابقة بينت أحوال المنافقين وصفات الإيمان، وأن مظهر قوة الإيمان إطاعة الله ورسوله، والرجوع إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف، وتحكيمهما في كل أمور الحياة التي تحتاج إلى حكم وفصل. وأقسم الله بذاته العلية التي خلقت كل ما في الوجود، وقامت عليه بالحفظ، ألا يكون الإيمان الكامل إلا لمن يُحكِّم الله ورسوله في كل الخصومات، ويذعن للحكم من غير تململ، ولا تردد. وفي هذه الآيات يبين أن الذين يذعنون لأمر الله ونهيه، حتى في النفس وترك الأهل، قليلون وليسوا كثيرين، وهم الذين تقوم عليهم قوة الأمة، ولذا قال سبحانه :﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ﴾
الإشارة إلى كل ما ذكر من جزاء على طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، من أجر عظيم، وهداية إلى الصراط المستقيم، ورفقته مع الأخيار الأبرار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هذا كله فضل من الله تعالى العلي الكبير، وعطاء منه، ورحمة يرحم بها المتقين، وهو العليم بكل ما يعملون من خير، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع البصير. فقوله تعالى :﴿ وكفى بالله عليما ﴾ فيه بيان أنه يعلم سبحانه من يستحق فضله وعطاءه، ومن لا يستحق، وفيه إشارة إلى أن الطاعة هي طاعة العالم بكل شيء، فالطاعة فيها مصلحة للعباد ؛ وكون الجزاء بفضل الله فيه إشارة إلى أن العمل وحده لا يستوجب العطاء، إنما هو من فضل الله تعالى. ولقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لن يُنَجِّي أحدا منكم عمله"، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال :"ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته. سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة ( أي من قيام الليل )والقصد القصد تبلغوا"١. اللهم اختم لنا بخير ما نعمل، ونجنا بفضل رحمتك من سوء أعمالنا، إنك ذو الفضل العظيم.
١ رواه البخاري: الرقاق- القصد والمداومة على العمل(٦٤٦٣)، ومسلم بنحوه: صفة القيامة والجنة والنار- لن يدخل أحد الجنة بعمله(٢٨١٦). عن أبي هريرة رضي الله عنه..
﴿ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثُبات أو انفروا جميعا( ٧١ )وإن منكم لمن ليُبَطِّئَنَّ فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا( ٧٢ )ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما( ٧٣ )*فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يُقتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما( ٧٤ ) ﴾
في الآيات السابقات بين الله سبحانه وتعالى دعائم الحكومة الإسلامية الوثيقة الأركان، فذكر لها ثلاثة أوصاف :
أولها : أن تسودها الأمانة في القول والعمل والمال، فلا تقوم حكومة قويمة إلا إذا كانت الأمانة هي السائدة بين الحكام والسائدة بين الشعب، والسائدة في العلاقات بين الشعب والحكومة. فإذا لم تكن الأمانة فسد أمر الحاكم والمحكوم، وضاعت الأمة.
وثانيها العدل، فهو ميزان الجماعة وميزان الحكم. ولقد كان العدل شعار الإسلام وسيماه ومعناه، فإذا كان لكل دين سمة واضحة فيه، فسمة الإسلام العدل من العدو والولي على سواء، ولا تقوم أمة إذا لم يقم بينها العدل، واحترام الحقوق التي قررها الله تعالى، ومنحها لعباده.
وثالثها الرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتخاذهما الحكم المرضي للحكومة دائما، لا يأخذ أحد منهما ما يحب ويدع ما لا يحب.
وإنه يجب أن يكون للأمة مجلس للحل والعقد يستشيره الحاكم ويشير عليه، فإن اختلف أهل الحل والعقد، احتكموا إلى كتاب الله تعالى، يشير إلى ذلك قوله تعالى :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر( ٥٩ ) ﴾( النساء ).
وفي الآيات السابقة أكد الأمر بطاعة الله تعالى، وبين أن أعلى الدرجات أن يطيع المؤمن الله ورسوله، ولو أمره بأن يتقدم لإعلان الحق والنطق به، وهو يعلم أنه سيقتل.
وإذا تكونت الأمة ذلك التكوين العادل الأمين، تقدمت للدفاع عن نفسها، ولذلك جاء بعده أخذ الأهبة للقتال، فقد قال سبحانه وتعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ﴾
﴿ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ﴾ يا أيها الذين أذعنوا للحق، واستجابوا لله ولرسوله، خذوا الأهبة بالحذر واتقاء أذى الأعداء، وكونوا متأهبين للقاء دائما، ولا يكن أخذ الحذر والاحتراس بالقعود في الديار، بل بالنفرة والاستعداد لمواجهة الأعداء في الميدان. فعلى المؤمنين أن ينفروا للحرب، جماعة بعد جماعة، تمر بالثغور التي تواجه الأعداء، أو تلاقي من تستطيع لقائه منهم. أو إذا تكاثف العدو في مكان، وأصبحت لا تكفيه جماعة الجند العامل، فلينفر الجند كلهم وليتقدم للميدان بكلكله١، وهذا معنى النص الكريم بالإجمال ولنتجه إلى تحليل بعض العبارات من ناحية اللفظ والمعنى.
وأولى هذه العبارات قوله تعالى :﴿ خذوا حذركم ﴾، فقد قال الزمخشري :( إن الحِذر والحَذر معناهما واحد، ويقال : أخذ حذره إذا تيقظ واحترس. ومعنى خذوا حذركم، أي خذوا ما فيه الاحتياط لكم، ودفع كل مخوف عنكم )، وقد ذكر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده :( أن من أخذ الحذر تعرف حال البلاد الإسلامية، وتعرف حال بلاد الأعداء، أو من يتوقع منهم الاعتداء، وتعرف بلاد المعاهدين وغيرهم، بحيث إذا اضطروا إلى الحرب كانوا عالمين بمواطن قوتها وأماكن ضعفها ). وذكر رضي الله عنه ( أنه يدخل في الاستعداد وأخذ الحذر واتقاء كل مخوف معرفة الأسلحة واستعمالها فإذا كان ذلك يتوقف على معرفة الهندسة والكيمياء والطبيعة وجر الأثقال، فإنه يجب تحصيل ذلك ). ولقد قال الإمام هذا في أول هذا القرن الذي يعيش فيه، وهو ألزم في هذا العصر الذي كشف ابن الأرض فيه الفضاء، وصارت الحرب لا تكون بشجاعة الشجعان، بل تكون بالأدوات وغيرها.. ولقد قال أبو بكر لخالد بن الوليد يوم حرب اليمامة :"حاربهم بمثل ما يحاربونك به" فعلينا أن نعد العدة بمثل ما يعدون، وقد ابتكروا ما يخرب الديار، فعلينا أن نعمل بهذا الابتكار، فإن الشر لا يدفع إلا بمثله. والله من ورائهم محيط.
والثانية في قوله تعالى :﴿ فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ﴾، فمعنى انفروا : أخرجوا إلى ميدان القتال أو الحراسة. وقالوا إن نفر ينفر معناه انزعج وخرج إلى عمل من الأعمال، ومنه قوله تعالى :﴿ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم( ١٢٢ ) ﴾( التوبة )، ومصدره النفر أو النفار أو النفير، والأخير قد يطلق بمعنى الجماعة النافرة. وقالوا إن نَفر ينفر- معناه انزعج عن الشيء، ومنه النفور من الأمور ونفور الدابة. ( وثُبات ) جمع ثُبَة، وهي في الأصل ثُبَيَّة، حذفت الياء ووزنها فعة. ويقال : ثيبت الجيش، جعله ثبة ثبة، أي جعلته جماعة متفرقة، كل واحدة لها مقصد خاص، وعمل تقوم به، اقتضاه توزيع القوى.
والنفير جماعةً جماعةً، هو الحال الدائمة المستمرة، فيجب أن تكون حراسة مستمرة للحدود والثغور، وهي المرابطة، كما قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون( ٢٠٠ ) ﴾( آل عمران ).
وأما النفير العام فإنما يكون عند قيام الحرب التي لا تكفي فيها كتيبة، أو كتيبتان، أو كالتعبير التاريخي في الإسلام : سرية أو سريتان أو أكثر، بل لا بد من الجيش المحارب كله والأمة من ورائه تؤيده وتؤازره.
ولكن ما المراد من النفير جميعا ؟ أهو الجيش المحارب كله، أم نفير الأمة كلها ؟ لاشك أنه إذا لم تغن السرية وجب أن يتقدم الجيش كله، وتقدم الجيش كله هو في معنى نفير الأمة كلها ؛ لأن الأمة عليها أن تكوِّن الجيش المقاتل، تؤازره وتؤيده بالمال والقول والعمل، وتكون من وراء ظهره تدفعه إلى العمل وتحميه من كل خيانة. فإن تكوين جيش مسلح كاف فرض كفاية على كل المسلمين، تأثم الأمة كلها إذا تركت تكوينه. ثم إذا دخل العدو الديار صار الواجب أن ينفر كل قادر من الأمة، وإلا كانت كلها مقصرة، ويكون الخروج فرض عين، وحين ذلك تنفر الأمة كلها حقيقة لا حكما.
إن هذا واجب المخلصين في الأمة، وفي كل أمة معوِّقون يقولون : هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا ! ولذا قال سبحانه :﴿ وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ﴾.
١ الكلكل: الصدر من كل شيء. لسان العرب..
﴿ وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ﴾.
في الآيات السابقات بين الله سبحانه وتعالى دعائم الحكومة الإسلامية الوثيقة الأركان، فذكر لها ثلاثة أوصاف :
أولها : أن تسودها الأمانة في القول والعمل والمال، فلا تقوم حكومة قويمة إلا إذا كانت الأمانة هي السائدة بين الحكام والسائدة بين الشعب، والسائدة في العلاقات بين الشعب والحكومة. فإذا لم تكن الأمانة فسد أمر الحاكم والمحكوم، وضاعت الأمة.
وثانيها العدل، فهو ميزان الجماعة وميزان الحكم. ولقد كان العدل شعار الإسلام وسيماه ومعناه، فإذا كان لكل دين سمة واضحة فيه، فسمة الإسلام العدل من العدو والولي على سواء، ولا تقوم أمة إذا لم يقم بينها العدل، واحترام الحقوق التي قررها الله تعالى، ومنحها لعباده.
وثالثها الرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتخاذهما الحكم المرضي للحكومة دائما، لا يأخذ أحد منهما ما يحب ويدع ما لا يحب.
وإنه يجب أن يكون للأمة مجلس للحل والعقد يستشيره الحاكم ويشير عليه، فإن اختلف أهل الحل والعقد، احتكموا إلى كتاب الله تعالى، يشير إلى ذلك قوله تعالى :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر( ٥٩ ) ﴾( النساء ).
وفي الآيات السابقة أكد الأمر بطاعة الله تعالى، وبين أن أعلى الدرجات أن يطيع المؤمن الله ورسوله، ولو أمره بأن يتقدم لإعلان الحق والنطق به، وهو يعلم أنه سيقتل.
وإذا تكونت الأمة ذلك التكوين العادل الأمين، تقدمت للدفاع عن نفسها، ولذلك جاء بعده أخذ الأهبة للقتال، فقد قال سبحانه وتعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ﴾
وإن ممن يعيشون معكم ويساكنونكم ويرتبطون معكم برحم واصلة، ويعلنون اسم الإيمان لمن يتثاقلون عند الدعوة إلى القتال، فيبطئون ولا يخرجون، يبطئون غيرهم ويثبطونهم. وهؤلاء لا ينظرون إليكم نظرة المحب الذي يودكم، بل يترقبون الأمر معكم، فإن أصابتكم هزيمة وقتية، أو استشهد عدد منكم، لا يتألمون، بل يفرحون، ويعتبرون قعودهم نعمة أنعم الله بها عليهم، ويحمدون الله تعالى إذ لم يكونوا حاضرين هذه الحرب ! فمعنى﴿ شهيدا ﴾حاضرا الحرب، يقاتل فيقتل أو يقتل.
ومن هم هؤلاء ؟ أهم المنافقون، أم ضعاف الإيمان ؟ قال أكثر مفسري الرواية : إنهم منافقون، وذلك شأنهم. والتعبير ب "منكم"يحتاج إلى توفيق بين هذا وقوله تعالى في شأن المنافقين :﴿ ما هم منكم ولا منهم( ١٤ ) ﴾( المجادلة )، والتوفيق أن يقال هنا إن المراد بقوله منكم، أي من أهلكم وعشيرتكم وتربطكم بهم رحم، فكل منافق كان في قرابته من هو صادق الإيمان، مجاهد في الله حق جهاده. ويزكي هذا قوله تعالى في الآية الآتية :﴿ كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ﴾.
وبعض المفسرين رأى أن المراد ضعاف الإيمان، ومن ليست عندهم عزيمة الجهاد، وذلك موجود في كل جماعة، ففي كل جماعة المؤمن القوي في نفسه ودينه، ومنهم الضعيف في نفسه وهمته ودينه.
والحق أنه يصح أن يشمل التعبير الطائفتين : المنافقين وضعاف الأنفس والإيمان، فكلا الفريقين لا يهمه إلا نفسه، ولا يندمج إحساسه في إحساس أهل الإيمان، فهو متربص منتظر، فإن وجد هزيمة لا يألم، بل يسر لأنها لم تصبه، إذ لا يعتبر آلام جماعته إيلاما لنفسه، وإن وجد نصرا تألم، لأنه لم يكن من الغانمين الذين اشتركوا في المعركة، ونالوا الفوز فيها، ولذا قال سبحانه وتعالى في شأن هؤلاء في حال النصر :﴿ ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ﴾.
﴿ ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ﴾
في الآيات السابقات بين الله سبحانه وتعالى دعائم الحكومة الإسلامية الوثيقة الأركان، فذكر لها ثلاثة أوصاف :
أولها : أن تسودها الأمانة في القول والعمل والمال، فلا تقوم حكومة قويمة إلا إذا كانت الأمانة هي السائدة بين الحكام والسائدة بين الشعب، والسائدة في العلاقات بين الشعب والحكومة. فإذا لم تكن الأمانة فسد أمر الحاكم والمحكوم، وضاعت الأمة.
وثانيها العدل، فهو ميزان الجماعة وميزان الحكم. ولقد كان العدل شعار الإسلام وسيماه ومعناه، فإذا كان لكل دين سمة واضحة فيه، فسمة الإسلام العدل من العدو والولي على سواء، ولا تقوم أمة إذا لم يقم بينها العدل، واحترام الحقوق التي قررها الله تعالى، ومنحها لعباده.
وثالثها الرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتخاذهما الحكم المرضي للحكومة دائما، لا يأخذ أحد منهما ما يحب ويدع ما لا يحب.
وإنه يجب أن يكون للأمة مجلس للحل والعقد يستشيره الحاكم ويشير عليه، فإن اختلف أهل الحل والعقد، احتكموا إلى كتاب الله تعالى، يشير إلى ذلك قوله تعالى :﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر( ٥٩ ) ﴾( النساء ).
وفي الآيات السابقة أكد الأمر بطاعة الله تعالى، وبين أن أعلى الدرجات أن يطيع المؤمن الله ورسوله، ولو أمره بأن يتقدم لإعلان الحق والنطق به، وهو يعلم أنه سيقتل.
وإذا تكونت الأمة ذلك التكوين العادل الأمين، تقدمت للدفاع عن نفسها، ولذلك جاء بعده أخذ الأهبة للقتال، فقد قال سبحانه وتعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ﴾
ولئن نلتم نصرا وغنما بفضل الله تعالى، لا يفكرون في سروركم ولا يحمدون الله على نصركم، ولكن يفكرون في أمانيهم، ويتمنون أن لو كانوا معكم ليفوزوا الفوز العظيم الذي نلتموه، وهو فوز النصر وفوز الغنيمة، فوز الاطمئنان وأداء الواجب، يفكرون فيما ينالهم من خير يرجونه، أو آلام يتجنبونها، ولا ينظرون إلى آلامكم وسروركم، كأن لم يكن بينكم وبينهم أية مودة، ولو كانت ضئيلة ! ! فتنكير المودة لبيان تصغيرها، وهذا شأن الأثر الذي يحب نفسه فقط، ولا يفكر في الجماعة التي يعيش فيها.
وهنا ثلاثة بحوث لفظية ومعنوية :
أولها : التعبير عن هذه الجماعة، المنافقة أو ضعيفة الإيمان، بالمفرد إتباعا للفظ ( مَن ) الذي يجوز عود الضمير عليه مفردا. وفي هذا التعبير إشارة إلى معنى الانفراد في الإحساس الذي اختصوا به، ولم يشاركوا أحدا في إحساسهم بالألم أو السرور.
وثانيها : التعبير بقوله :﴿ أصابكم فضل ﴾ فإن التعبير بإصابة الخير مع أنهم نالوه، للإشارة إلى أن ذلك إرادة الله تعالى، فإن أصابكم ما يؤلمكم فبإرادته، وإن نلتم من خير فبإرادته وبتفضله.
وثالثها : إن قوله تعالى :﴿ كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ﴾جملة معترضة بين القول ومقوله، للإشارة إلى فقدهم الإحساس الاجتماعي فقدا تاما، الذي يجعل مودة أيا كان مقدارها بين المتعاشرين أو المتجاورين أو المتجانسين ! لقد فقدوا هذا فقدا تاما، وهذا شأن كل من ينفصل عن جماعته بالإحساس والأنانية الخسيسة.
وفي قوله تعالى :﴿ فوزا عظيما ﴾ إشارة إلى استعظام الخير الذي ينال المؤمنين، شأن الحسود غير المحب.
وإن هؤلاء الذين يعيشون مع جماعة المؤمنين، ولا يحسون بإحساسهم، لا يخرجون إلى قتال، وإنما يخرج للقتال أولئك الذين يؤثرون على أنفسهم، ويقدمونها لله تعالى رجاء ما عنده، فهؤلاء هم القوة، وهم العماد في الحروب والشدائد، ولذا قال سبحانه :﴿ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ﴾.
﴿ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ﴾ إذا كان المخذِّلون يتربصون بالمجاهدين فإنه يجب أن يكون الجهاد للمخلصين، وأن يبعدوا عنهم المعوقين، فإنهم لا يزيدونهم إلا خبالا واضطرابا، فليتقدم للقتال الذين لا ينظرون إلى مغنم يبتغونه، ولا مال يريدونه، إنما يبيعون الحياة الدنيا ومتعها وشهواتها، ويطلبون ثمنا هو الآخرة وما فيها من جنات وعيون، ونعيمها ثابت دائم، ومعها رضوان الله تعالى. وسبيل الله التي يجب القتال فيها هي سبيل الحق، وإعلاء دينه، وجعل كلمة الله هي العليا.
و﴿ يشرون ﴾ هنا معناها يبيعون أنفسهم، وذلك مثل قوله تعالى :﴿ ولبئس ما شَرَوا به أنفسهم( ١٠٢ ) ﴾( البقرة ) وقوله تعالى :﴿ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله( ٢٠٧ ) ﴾( البقرة ) وقوله تعالى :﴿ وشروه بثمن بخس دراهم معدودة( ٢٠ ) ﴾( يوسف ) أي باعوه. وإن الذي يبيع نفسه لله، ليفتدي الحق وأهله، له جزاؤه وأجره العظيم، ولذا قال سبحانه :﴿ ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ﴾.
ومن يتقدم للقتال في سبيل الحق، طالبا رضاه سبحانه، فإن قتل واستشهد في سبيله سبحانه، أو غلب وانتصر بتأييد الله تعالى، ونال السلطان من الله بالغلب، فهو في كلتا حاليه سينال جزاء عظيما. و"سوف"هنا لتأكيد نيل الجزاء في المستقبل، وأكثر استعمالاتها في القرآن هي لتأكيد الوقوع في المقابل، ولذا لا تدخل على النفي. وقد وصف الجزاء بالعظم للدلالة على مقداره، ونَكَّر للدلالة على أنه لا يحده تعيين، ولا يبينه تعريف، مهما يكن دقيقا.
وإنما ينال ذلك الجزاء من خرج مجاهدا في سبيل الحق، لا يبتغي غير رضاء الله، ولا يبغي علوا في الأرض ولا تفاخرا. ولقد قال صلى الله عليه وسلم :"تَضَمَّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرج إلا جهادا في سبيلي، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة"١.
اللهم هب أمتك روح الجهاد في سبيل الحق، وهبنا رحمة من عندك، إنك أنت الوهاب.
١ رواه مسلم: الإمارة- فضل الجهاد والخروج في سبيل الله(١٨٧٦)، والبخاري بلفظ: "تكفل الله": فرض الخمس- أحلت لي الغنائم(٢١٢٣) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
.

﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا( ٧٥ )الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا( ٧٦ ) ﴾
هذه الآيات، وما يليها من آيات كريمات، للحض على الجهاد في سبيل الله، وقد ابتدأ بدعوة المؤمنين لأخذ الأهبة، والنَّفرَة للجهاد في سبيل الله وإعلاء الحق، والحفاظ على جماعتهم، وحماية أنفسهم، وأخذ الحذر لكيلا ينقض عليهم أعداؤهم.
وإنه في سبيل الاستعداد أن يبعدوا عن حسابهم أولئك الذين يثبطون عن القتال ولا يحتسبوا في عدادهم إلا أولئك الذين باعوا أنفسهم لله، وباعوا متع الحياة الدنيا، لينالوا نعيم الآخرة.
وفي هذه الآيات يحض على القتال بتذكيرهم بشرف ما يجاهدون من أجله، وهو رضا الله، وإعلاء كلمة الحق، ويذكرهم بإخوانهم الذين يرهقون بالظلم، ويعيشون مستضعفين أذلاء، لا يجدون وليا يلي أمرهم، ولا نصيرا ينصرهم ويستنقذهم مما هم فيه من بلاء، ولذلك قال تعالى :﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان ﴾
﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان ﴾ أي شيء ثبت لكم، حتى صرتم في حال لا تقاتلون فيها في طريق الله طريق الحق الصحيح، والدين الذي لا شك فيه، والهداية التي فيها خير الإنسانية في الدنيا، وحسن المآل في الآخرة، ولا تقاتلون في سبيل أولئك الذين استضعفوا لعدم وجود من ينصرهم، فضعفوا، وهانوا على أولئك الظالمين، وإن لم يهونوا عند الله سبحانه وتعالى، وعندكم أنتم أهل الحق والإيمان.
وأولئك المستضعفون الذين أراد المشركون إضعافهم وإذلالهم منهم الرجال الذين سلبوا كل حول وقوة، وصاروا أذلاء، ومنهم النساء اللائي لا قدرة لهن بحكم الأنوثة ومنهم الذرية الضعاف.
وهنا بحوث نحوية وبلاغية، لا بد من الإشارة إليها.
أولها : موضع﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ﴾ من الإعراب، وقد قيل : إن( ما )دخلت على فعل محذوف يتضمن الكلام معناه ويقتضي تقديره، ويكون المؤدي ما يثبت لكم حال كونكم لا تقاتلون في سبيل الله، فقوله سبحانه :﴿ لا تقاتلون في سبيل الله ﴾ استفهام إنكاري، وموضع الاستنكار أنهم يقاتلون في سبيل الله مع توافر دواعي القتال من الإيمان وحماية من تجب حمايتهم بحكم الشرف، والكرامة الإنسانية.
ثانيها : قوله تعالى :﴿ والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان ﴾ فإنهم قالوا إن القتال لاستنقاذهم قتال في سبيل الله، فلماذا ذكر بعد القتال في سبيل الله، وهو يشمله ؟ وقد أجابوا عن ذلك بأن هذا من قبيل عطف الخاص على العام ؛ لأن للخاص مزيد عناية بيانية. ومنهم من قال إن قوله تعالى :﴿ والمستضعفين ﴾منصوب على الاختصاص، والمعنى : لا تقاتلون في سبيل الله وخصوصا المستضعفين إلخ. ومهما يكن من التخريج النحوي، فإن المؤدي أن النص على هؤلاء للتحريض على القتال، بحكم الشرف والمروءة، بعد التحريض عليه بحكم الدين والقربى إلى الله سبحانه وتعالى، ذلك أن العربي الكريم المعدن، وإن لم يكن مؤمنا، يرى من المروءة والشرف والنجدة ألا يتعدى على ضعيف، لا قوة له، وأن من الواجب عليه أن ينصره وأن يغيثه.
ثالثها : أن النص على النساء والولدان الصغار فيه تحريض أقوى تحريض ؛ لأن هؤلاء يعيرون إذا تركوهم في أيدي الأعداء. وذكر الأولاد بالذات، وهم لم يجنوا أي جناية، فيه حث بذاته على القتال، فإذا كان المشركون قد أفحشوا في الاعتداء، فليس للمسلمين أن يخذلوا هؤلاء الضعفاء.
وإن هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والذرية ليسوا مستسلمين للظلم، ولكنهم يريدون دفعه، ويتجهون إلى الله تعالى أن يخرجهم منه، إذ يقولون كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم :
﴿ ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ﴾ لا يجدون لهم قوة إلا الدعاء والضراعة إلى الله سبحانه وتعالى يطلبون معونته وإمدادهم، فيقولون مقرين بأن الله وحده حق الربوبية، وبأنه هو الذي يحوطهم ويكلؤهم، وأنه وحده الذي يملك أمرهم : أخرجنا من هذه المدينة الكبيرة، وهي مكة التي يظلمنا أهلها، والظلم شأن من شؤونهم، ويضرعون إليه سبحانه أن يجعل لهم وليا ينتمون إليه، وولاية قوية يشعرون تحت سلطانها بالعزة والكرامة، ويبتعدون عن ولاية الكافرين الظالمة العاتية الباغية، وأن يجعل لهم من ينصرهم ويخرجهم من نير أهل الكفر، فهاهنا ثلاثة مطالب متلاحقة لهم توجهوا بها إلى ربهم :
أولها : الإخراج من نير الظلم وحكم الظالمين.
وثانيها : أن يكونوا تابعين لولاية دولة الله، وهي الدولة الإسلامية، فلا يخرجون مشردين لا دولة تحميهم ولا ديار تؤويهم.
وثالثها : أن يكون لهم من الله نصير دائم ينصرهم، فلا يتمكن الأعداء منهم.
وهنا بحوث بلاغية :
أولها : أن المراد من القرية مكة، وقد وصف أهلها بأنهم ظالمون، ولم توصف هي بأنها ظالمة، كما وصف غيرها من القرى مثل قوله تعالى :﴿ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشَتَها( ٥٨ ) ﴾( القصص ) وذلك تكريم لمكة، إذ هي حرم الله الآمن، ولم يمكن أن يوصف حرم الله الآمن بالظلم، ولو على سبيل المجاز والتقدير. وقد قال ناصر الدين السكندري في كتابه"الانتصاف" في هذه الآية ما نصه :"ووقفت على نكتة في هذه الآية حسنة، وهي أن كل قرية ذكرت في الكتاب العزيز، فالظلم إليها ينسب بطريق المجاز، كقوله تعالى :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة( ١١٢ ) ﴾ ( النحل )، إلى قوله تعالى :﴿ فكفرت بأنعم الله ﴾، وقوله تعالى :﴿ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها( ٥٨ ) ﴾( القصص )، وأما هذه القرية في سورة النساء، فينسب الظلم إلى أهلها على الحقيقة، لأن المراد بها مكة، فوُقِّرت عن نسبة الظلم إليها، تشريفا لها، شرفها الله تعالى.
ثانيها : أن النص يفيد أنهم يحسون بأن النصرة لا تكون إلا من الله، وأن الولاية لا تكون إلا منه فهم بذلك معتزون مطمئنون، ولو كانوا مستضعفين لا حول لهم ولا طول ؛ لأن من التجأ إلى الله تعالى عزيز، ولو كان في أرض الذل.
ثالثها : في التعبير﴿ لَّدُنك ﴾وهي بمعنى( عند )، ولا تكاد تستعمل في القرآن إلا مضافة إلى لفظ الجلالة، وعلى أي حال هي تفترق عن عند بأن ( عند ) تستعمل للعلو، والانخفاض في العندية، كما تستعمل في التساوي، فيقال فلان عند فلان إذا كانا متساويين في الرتبة أو أحدهما دون الآخر، أما( لدنك ) فإنها لا تستعمل إلا إذا كان المضاف إليه عليا، والمضاف دونه، فهذا التعبير يشير إلى أن أولئك الضعفاء قد لجأوا إلى الجانب الأعلى الذي لا يدانيه علو في الأرض ولا في السماء، وإذا كانوا قد لجأوا إلى الله، فإن الله ناصرهم.
﴿ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ﴾
هذه الآيات، وما يليها من آيات كريمات، للحض على الجهاد في سبيل الله، وقد ابتدأ بدعوة المؤمنين لأخذ الأهبة، والنَّفرَة للجهاد في سبيل الله وإعلاء الحق، والحفاظ على جماعتهم، وحماية أنفسهم، وأخذ الحذر لكيلا ينقض عليهم أعداؤهم.
وإنه في سبيل الاستعداد أن يبعدوا عن حسابهم أولئك الذين يثبطون عن القتال ولا يحتسبوا في عدادهم إلا أولئك الذين باعوا أنفسهم لله، وباعوا متع الحياة الدنيا، لينالوا نعيم الآخرة.
وفي هذه الآيات يحض على القتال بتذكيرهم بشرف ما يجاهدون من أجله، وهو رضا الله، وإعلاء كلمة الحق، ويذكرهم بإخوانهم الذين يرهقون بالظلم، ويعيشون مستضعفين أذلاء، لا يجدون وليا يلي أمرهم، ولا نصيرا ينصرهم ويستنقذهم مما هم فيه من بلاء، ولذلك قال تعالى :﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان ﴾
سبيل الله تعالى هي سبيل الحق الثابت الذي لا يكون فيه العدل، ولا يكون بغي ولا فحشاء ولا أذى، وفيه قيام المصالح ودفع المفاسد، والطاغوت هو فَعَلُوت من طغى، وهو مجاوزة الحد، والبغي الشديد، وترك الخير، وفعل الشر، والسعي في الأرض بالفساد.
وهنا مقابلة بين قتال أهل الإيمان، وقتال أهل الكفر- بالغاية منهما- فغاية المؤمنين نصرة الحق ودفع الفساد، وغاية الكافرين نشر الظلم والفساد في الأرض، ولو ترك الظالمون من غير أن يقاومهم أهل الحق، لعم الفساد، وذهب الخير، وهدم الحق، كما قال سبحانه :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين( ٢٥١ ) ﴾( البقرة ). ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدِّمت صوامع وبِيَع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز( ٤٠ ) ﴾( الحج ).
وإن السبب في أن يجاهد المؤمنون في سبيل الله، وهي سبيل الحق ورفع الإنسانية، والمحافظة على كرامة الإنسان، هو إيمانهم فالإيمان يدفع إلى أسمى الغايات، والدفاع عنها، وذلك السمو هو سبيل الله تعالى، والكافرون لعدم إيمانهم بالمثل العليا الإنسانية يقاتلون في سبيل الطغيان والسيطرة الظالمة على الأرض.
وإن هذه ظاهرة ثابتة، فالقتال في ظل الدين والتمسك بمثله العليا، رفعة للإنسانية، ومنع الفساد، ومنع لتحكم الرذيلة في الفضيلة، والماضي ينبئ عن ذلك، فقتال النبي والصحابة من بعده كان فيه حد من طغيان الملوك، وظلم الظالمين، ونشر للواء العدل، ومنع للفتنة في الدين، وتحكم الإنسان في أخيه الإنسان. وقد وصف الله المؤمنين إذا انتصروا، فقال سبحانه وتعالى في أحوالهم :﴿ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتَوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر( ٤١ ) ﴾( الحج )، أي أنهم إذا انتصروا رفعوا لواء العدل، وأقاموا مجتمعا فاضلا على أساس من الفضيلة ودفع الرذيلة.
وأما الذين لا يذعنون للحق، ولا يؤمنون به ولا يقيمون للفضيلة وزنا، فإن قتالهم في سبيل الغلب، والسلطان الغاشم، والتحكم والسيطرة، وإن الماضي والحاضر يشهدان بصدق ذلك، وإن العيان ليؤيد هذه الشهادة الصادقة. ألم تر إلى أولئك الذين يتحكمون الآن في مصاير العالم، لا يفكرون إلا في الغلب على قطعة من الأرض يستولون عليها، أو يبسطون نفوذهم فيها، وما ذلك إلا طغيان المتحكمين المسيطرين في بلادهم ! وانظر نظرة عميقة إلى أولئك الذين وضعوا أيديهم على أدوات الحرب المخربة، التي إذا ألقيت لا تبقي ولا تذر، وتأكل الأخضر واليابس، فإنهم يتغالبون على النفوذ، ولو استشيرت أممهم فردا فردا، لاستنكروا ما هم مقدمون عليه أو يكادون ! فالحروب التي يثيرها الكافرون في هذا الزمان لا يدفعها إلا طغيان أفراد معدودين، يتحكمون في الشعوب ومصايرها، بطريقة أقسى مما كان يتحكم الملوك من قبل !.
﴿ فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ﴾ إذا كان الكافرون يقاتلون في سبيل الطغيان، والظلم والسيطرة والفتنة في الدين، وإكراه الناس، حتى لا يستمروا على إيمانهم فإن على المؤمنين أن يقاتلوهم لأنهم نصراء الشيطان، أو الذين دخلوا في ولايته. ومعنى النص السامي : قاتلوا أيها المؤمنون الذين ارتضيتم سبيل الله طريقا، ونصرة الحق منهاجا، الكافرين الذين اتخذوا الشيطان لهم وليا يوالونه، ونصيرا لهم ينصرهم في زعمهم، وذلك لأنكم تُعلون الحق، وتدفعون الأذى، وتمنعون الشر والفتنة في الدين، وتحاربون الفساد. ولا تخافوا من هؤلاء الذين يوالون الشيطان، ويزعمون أنه ينصرهم، فإنهم يتبعون تدبير الشيطان لهم، أي يتبعون وساوس أنفسهم، وأهواءها التي يتحكم فيها الشيطان ويسيرها. وتدبير الشيطان مهما يكن، لا يكون قويا ينتصر به أهل الكفر والفساد على أهل الحق. وضعف ذلك الكيد والتدبير الذي يدبره الكافرون وإبليس معهم، سببه أنهم تسيطر عليهم الأهواء، والأهواء تفسد الفكر وتفسد الأعمال، وتوجد الشحناء. وأهل الحق لو اتخذوا كل أسباب القوة، واعتزموا أمورهم ودبروا تدبيرهم، وقد جانبوا الهوى والشهوات، هم غالبون محالة، وما يغلب أهل الباطل إلا لعدم اتخاذ أهل الإيمان الأسباب.
وسمى الله سبحانه تدبير الكافرين مع شيطانهم﴿ كيد ﴾، لأنهم لا يقصدون بالتدبير رفع حق أو خفض باطل، بل الكيد والأذى لأهل الحق.
اللهم اهد المؤمنين إلى أسباب القوة، وأخذ الأُهبة، وإعداد العدة للجهاد في سبيلك، سبيل الحق والكرامة والسمو والعُلو.
﴿ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل الآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا( ٧٧ ) أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا( ٧٨ ) ﴾
الآيات السابقة في الحض على القتال، وبيان أن القتال دفاع عن العجزة، والنساء، والأطفال، الذين لا يجدون حيلة للخروج من الهوان والاستكانة للظالمين، ولا يجدون سبيلا لأن يخرجوا من ديار الذل أو يدفعوا عن أنفسهم أوْضَاره وآلامه، ففي القتال دفاع عن هؤلاء، وإخراج لهم. ولكن المسلمين لم يكونوا سواء في تلقي شدائد القتال : فمنهم من يتقدم للميدان لا يهمه أن يقع على الموت أو يقع عليه، كعلي بن أبي طالب، وغيره من صناديد المؤمنين، ومنهم من يخشاه ويخافه، وهذا الصنف في كل جماعة، ولقد قال الله تعالى فيه :﴿ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾
﴿ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾ تكاثر جمع المؤمنين نسبيا في مكة، وخرجوا مهاجرين، ليقيموا دولة الفضيلة في المدينة، وسكنها النبي صلى الله عليه وسلم واستقر بها، وأخذ يعقد العقود، وينسق العلاقات بين المقيمين بها وحولها، حتى يكون الاطمئنان. ولقد أراد المؤمنون أن يتقدموا لقتال المشركين، حتى إن النسائي يروي أن عبد الرحمان بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا : يا نبي الله، كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا في ذل ! ! يريدون أن يأمرهم بقتال المشركين. وسواء أكان الطلب وهم بمكة، أم كان وهم بالمدينة، قبل أن يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم لدفع أذى المشركين بالسيف بعد أن استمادوا وطغوا في الأرض، وأكثروا فيها الفساد. فإن النبي بحكم الله أمرهم بأن يكفوا عن القتال وقتا ينظم فيه الأمر بتقوية أرواحهم، وتوجيهها إلى الله تعالى لتخلص لله وحده، وذلك بإقامة الصلاة، فإن الصلاة فيها تخليص النفس من أدران المآثم، والاتجاه بها إلى الله وحده، وهي إذا أديت على وجهها تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما أمرهم أن يتجهوا في هذه الفترة أيضا إلى تقوية أنفسهم، والربط بين آحادهم بصلات المودة والتعاون، وإزالة ضعف الضعفاء، وذلك بإعطاء الفقراء الزكوات التي كانت مفروضة في أول الإسلام. وإن تقوية الضعفاء سبيل قوة الدولة، كما قال صلى الله عليه وسلم :"ابغوني في ضعفائكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم"١... حتى إذا استقام أمر الجماعة الإسلامية كتب الله تعالى القتال الذي طلبه من قبل أقوياء الإيمان، ولم يعارضه غيرهم، فكان الطلب من الجميع، كتب الله تعالى دفاعا عن أهل الإيمان الذين يستذلهم المشركون، ومنعا للفتنة في الدين، وإعلاء كلمة الحق، ولكي يتقدم للإيمان كل مريد للحق طالب له، غير خائف من صوت الشرك. ولما كتب القتال كان الصادقون الأقوياء آخذين الأهبة، ومستعدين للإقدام، وكان الضعفاء في وجل، ولذا قال سبحانه :
﴿ فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ﴾ الخشية الخوف الشديد مع مهابة الضعيف لمن يخافه، وهذا الفريق الذي خاف القتال مع الهيبة من الأعداء هو من الضعفاء الذين لا يعلون بإيمانهم. والتعبير بقوله في أوصاف هذه الخشية :﴿ يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ﴾، فيه بعض إشارات بيانية.
أولها : أنه عبر عن الأعداء بقوله ﴿ الناس ﴾، وهو توبيخ أبلغ توبيخ، ذلك لأنهم أناس مثلهم، وليسوا في الفضل مثلهم، وفوق ذلك مع أنهم أناس مثلهم، يجعلون خشيتهم في مقابل خشية الله تعالى ذي الجلال والإكرام القاهر فوق عباده.
الثانية : التعبير بلفظ الجلالة فيه إشارة إلى بيان خورهم وفساد تفكيرهم، إذ يجعلون خشية الله- جل جلاله-، في مقابل الخشية من الناس، والله تعالى إذا كان معهم وقاموا بحق الجهاد، فلن يخذلوا أبدا.
الثالثة : في الترديد بين أن تكون خشيتهم من الله بمقدار خشيتهم من الناس، أو أكثر، فيه بيان لحال ضعفهم، واستمكان الضعف، وهو ترقِّ في التوضيح، إذ إنه من المقرر أن المؤمن لا يليق به أن يخاف الناس، كما يخاف الله، فكيف إذا كان يخاف الناس أكثر من الله ؟ ! ولا شك أن فريقا من أولئك الضعفاء أو المنافقين كان على هذه الحال.
وأولئك الجبناء لا يكتفون بالخوف والفزع، بل يصل بهم الأمر إلى درجة أن يعترضوا على فرضية القتال.
﴿ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ﴾ قد قالوا لفزعهم : ربنا الذي خلقنا ونمّانا وربانا، لأي شيء كتبت علينا القتال وفرضته وألزمتنا به، وهو أمر مخوف مرهوب ؟ ! فمن فرط ذهولهم وجبنهم ينسون العزة والكرامة، وأنهما مطلبان لا ينالان إلا بالحرب والجهاد، وينسون إذلال الكافرين للمؤمنين، والفتنة في الدين، ويسألون عن أسباب القتال !. نعم إن القتال أمر تكرهه النفوس، ولكن إن كان دفعا للذل يصير واجبا، كما قال تعالى :﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم( ٢١٦ ) ﴾( البقرة ). فيصير القتال أمرا مستمرا لشرف الغاية التي تدعو إليه.
وإذا ذكر أولئك الضعفاء بالباعث على شرعية القتال لا يذهب فزعهم، بل يقولون وجلين هلعين :﴿ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ﴾، أي : هلا أخرتنا في إجابة داعي القتال إلى زمن مؤجل قريب ؟ فهم بعد أن يعود إليهم رشدهم يطلبون أن يُؤَخروا هم، لا أن تؤخر الفرضية !. لقد كان كلامهم الأول في شأن الفرضية، ولما أدركوا سوء قولهم، كان كلامهم عن مطالبتهم بتأخير ذهابهم إلى القتال، وذلك ما يدل عليه تعبير الله عنهم بقوله :﴿ لولا أخَّرْتنا ﴾، فهذا الفريق الضعيف الإيمان يريد أن يذهب المجاهدون الأبرار، ويقعدوا هم مع القاعدين، وقد قال في ذلك القرطبي :( معاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم، يعلم ن الآجال محدودة، والأرزاق مقسومة، بل كانواأن الآجال محدودة والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين، سامعين طائعين، يريدون الوصول إلى الدار الآجلة خيرا من المقام في الدار العجلة، على ما هو معروف من سيرتهم اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه، ولا انشرح بالإسلام جنانه، فإن أهل الإيمان متفاضلون ؛ فمنهم الكامل ؛ ومنهم الناقص، وهو الذي تنفر نفسه عما يؤمر به، فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه الشدة ).
﴿ قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ﴾ إن الحرص على الدنيا والتعلق بها، يدفع إلى الرغبة في البقاء على أية صورة كان البقاء، سواء أكان البقاء في عزة أم كان في ذلة، فمطامع المال ومتاع الدنيا تجعل النفس ترضى بالحياة بكل صورها، وقديما قال العرب :﴿ أذلَّ الحرصُ أعناق الرجال ). فكان لابد لتربية روح الجهاد من تعريف المسلم بقيمة هذه الحياة، ووزنها بالنسبة لما بعدها، ولذلك أمر الله نبيه أن يقول لهؤلاء الذين كانت خشيتهم للناس كخشية الله أو أشد، واضطربوا عندما أمروا بالقتال : إن كل منافع الدنيا ولذاتها قليلة، مهما كبرت في نظركم، فكثيرها قليل إذا كانت في ذلة، ولا يبقى الانتفاع إذا تحكم فيكم الأعداء، وهي فانية لا تبقى، وكل ما يكون مآله الزوال ضئيل مهما تكاثر في العدد، وإذا وزن متاع الدنيا بمتاع الآخرة الباقي الخالد الدائم، فإنه لا يكون شيئا مذكورا ! ! ولذا جاء قول النبي بأمر الله تعالى :{ متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ﴾ والآخرة بما فيها من متاع دائم خير من الدنيا بكل حذافيرها، لأنه لا نزاع فيها ولا شر يتحكم ولا مغالبة، بل اطمئنان وهدوء، وسرور مستمر، لمن ينالون جنتها ويبعدهم الله تعالى عن جحيمها، وهي مع ذلك أكلها دائم، ونعيم مقيم، ورضوان من الله أكبر، وإن أعمال الخير في الدنيا، والجهاد في سبيل الحق، هي السبيل لنيل ما في الآخرة من خير وجنات تجري من تحتها الأنهار، ومن عمل عملا صالحا نال جزاءه موفورا، ولذا قال سبحانه وتعالى :
﴿ ولا تظلمون فتيلا ﴾ الفتيل : هو الخيط الدقيق الذي يكون في شق نواة التمر، وهو يضرب مثلا للقلة والتفاهة. والمعنى : إنه إذا كانت الآخرة خيرا من الدنيا وأبقى من متاعها، فإن طريق الآخرة هو الجهاد في سبيل الله، والقيام بطاعته، وإنكم ستنالون الجزاء الأوفى، ولا ينقص من أحد منكم أي قدر من جزائه، ولو كان قدرا ضئيلا لا تأبهون له في دنياكم، فإذا كان حرصكم هو الذي جعلكم تخشون القتال، وترجئونه فإنه يجب أن يكون حرصكم كبيرا على ما هو أغلى وأعظم، وما هو مؤكد لا احتمال فيه، ولقد كان حرصهم وخوفهم من القتال، لأنهم يريدون الحياة ويخافون الموت، فبين لهم سبحانه أن الموت آت لا محالة، وأنه لاحق بهم أينما يكونوا :﴿ أينما تكونوا يُدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ﴾
١ سبق تخريجه من رواية الترمذي وأبي داود والنسائي..
﴿ أينما تكونوا يُدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ﴾
الآيات السابقة في الحض على القتال، وبيان أن القتال دفاع عن العجزة، والنساء، والأطفال، الذين لا يجدون حيلة للخروج من الهوان والاستكانة للظالمين، ولا يجدون سبيلا لأن يخرجوا من ديار الذل أو يدفعوا عن أنفسهم أوْضَاره وآلامه، ففي القتال دفاع عن هؤلاء، وإخراج لهم. ولكن المسلمين لم يكونوا سواء في تلقي شدائد القتال : فمنهم من يتقدم للميدان لا يهمه أن يقع على الموت أو يقع عليه، كعلي بن أبي طالب، وغيره من صناديد المؤمنين، ومنهم من يخشاه ويخافه، وهذا الصنف في كل جماعة، ولقد قال الله تعالى فيه :﴿ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾
البروج جمع برج، وهو يطلق على الحصن المنيع، ويطلق على القصر العالي الذي لا يصل إليه أحد، ويبنى للملوك والكبراء لكيلا تصل إليهم الرعايا. مشيدة : أحكم بناؤها، وارتفعت، أو بنيت بالشيد، وهو الملاط القوي الذي تربط به اللبنات بعضها ببعض. ولقد قال طرفة بن العبد :
كأنها برج روميٍّ تكنَّفها بان بشيد وآجرّ وأحجار
ومعنى النص : إن كنتم تريدون بقعودكم عن الجهاد وطلب إرجائه أنم ترجئوا الموت أو تطيلوا الحياة، فقد أخطأتم، فإنه حيثما كنتم يدركك الموت ولو كنتم في أقوى الحصون، وأمنعها، واحكمها بناء.
وفي التعبير بكلمة "يدرككم" إشارة إلى أن الموت كأنه يطلب الإنسان ويتبعه حيثما كان، وفي أي وقت كان، فهو طالب لا بد أن يدرك ولا بد أن يصل، لأنه حقيقة محتومة فإن فررتم منه فإنه ملاقيكم، فلا تفروا منه واطلبوا الحق ولو أدى إليه، وما أحسن ما قاله زهير بن أبي سلمى :
ومن هاب أسباب المنايا ينلْنه وإن يَرْقَ أسباب السماء بسلَّم
وإن هؤلاء الذين ضعفت نفوسهم قد يدفعهم اضطرابهم إلى أن تسيطر عليهم الأوهام، فمنهم من يقول كلاما يثير الظنون ويسكت عنه الباقون منهم فكأنهم قالوه، ولذا حكى- سبحانه- القول عن هذا الفريق فقال :
﴿ وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ﴾ أي إن تصبهم حال حسنة تحسن عندهم، من رخاء أو خصب أو ظفر أو غنيمة أو سعة في الرزق، : هذه الحال من عند الله تعالى، فإن كان النصر قالوا : من عند الله. وإن يصبهم أمر يسيئهم، كالهزيمة، قالوا : ذلك من محمد، كأنهم ينسبونه إلى سوء تدبيره -عليه الصلاة والسلام-، أو يتشاءمون به، ويهبطون بذلك هبوطا شديدا فالحسنة ما يحسن عندهم، والسيئة ما يسوؤهم. وذلك التفكير الذين يفكرونه ناشئ من ضعفهم النفسي، وضعفهم الإيماني، وسوء ظنهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك شأن أهل النفاق ومن يستمعون إليهم من ضعفاء أهل الإسلام :
﴿ قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ﴾ أي إذا كنتم تنظرون إلى ما قدره الله تعالى في علمه المكنون، وما يوفق إليه عباده، وما يمدهم به من عون، فإن كل شيء من عند الله، فالشدة والرخاء من عند الله، والغنيمة والهزيمة بتقدير الله عند اتخاذ الأسباب، فلا ينصر الله متخاذلا، ولا يخذل من يريد ما عند الله، ويتجه إلى الجهاد مستعدا بقلبه وعدته وتنظيمه، وبهذا يرد عليهم ما توهموه، أو قالوه.
وقد بين سبحانه أن كلام هؤلاء كلام من لا يفقه الأمور على وجهها، ولا يدرك معاني الأقوال والأفعال. ولذا قال سبحانه :﴿ فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ﴾والمعنى : أن الأمر ثبت لهؤلاء الذين لم يدركوا الأمور حتى كادوا لا يدركون إدراكا حقيقيا أي حديث يتحدثون به، أو أي حديث يلقى إليهم، فلا يعلمون أن الله هو القابض الباسط القادر على كل شيء !. وإنهم لو فهموا ما يتلى عليهم من كتاب الله والحكمة لاهتدوا، وهذا الاستفهام توبيخ لهم وبيان لوصفهم الحقيقي، وهو أنهم لا يكادون يفهمون معنى ما يسمعون وما يقولون، اللهم اهدنا إلى الطيب من القول، واهدنا إلى الصراط الحميد.
﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا( ٧٩ )من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا( ٨٠ )ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا( ٨١ ) ﴾
هذه الآيات تتميم للمعاني التي اشتملت عليها الآيات السابقة، فإن هؤلاء المنافقين وضعاف الإيمان كانوا يُحَمِّلون النبي صلى الله عليه وسلم تبعة الهزيمة إن كانت. وإن كان ما يحسن في نظرهم قالوا : هذا بفضل الله، ونسوا أن كل شيء بتقدير الله سبحانه وتعالى وتوفيقه، فقد قدر النصر والفوز، كما قدر الضرر والأذى، وكل من عند الله سبحانه وتعالى. وقد حسب أولئك المنافقون والضعفاء أن البعد عن القتال ينجيهم من الموت، فبين الله سبحانه أنه لا نجاة من الموت حيثما كان الشخص فالموت مدركه ولاحقه.
وفي هذه الآيات يبين سبحانه أن ما يصيبك من أمر يحسن عندك، فإنه بفضل الله تعالى، إذ وفقك إلى سببه وجعل السبب منتهيا بالنتيجة وما أصابك من أمر يسوؤك فبسببك وعمل منك، وأن الرسول لا يحمل أوزاركم، وأن طاعته واجبة في المنشط والمكر، وأن الذين يظهرون الطاعة بألسنتهم أمامه ويبيتون العصيان من ورائه، الله بهم عليم، ولذا قال سبحانه :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ﴾
﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ﴾ في هذا النص الكريم تخريجان : أحدهما_ أن هذا من كلام الله تعالى، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو من بعد ذلك خطاب لكل مكلف مطالب بالعمل بالشرع الشريف.
والمراد بالحسنة ما يكون فيه ما يسر وما يحسن في نظر الإنسان، والسيئة ما يسوء في نظر الإنسان. والمعنى على هذا التخريج : ما أصابكم من أمور حسنة فبتوفيق الله تعالى لكم، وجعل نتائج مترتبة على أعمالكم التي اتخذتم فيها الأسباب، ولم تتقاصروا عن الاتجاه فيها إلى أسباب الظفر. وما يصيبكم مما يسوؤكم وينزل بكم من غم، فلتجنبكم الأسباب الموصلة إلى الغاية، ومخالفتكم أوامر الله ورؤسائكم، كما كان الشأن في أحد، فما كان الأمر الذي ساء إلا من المحاربين الذين أُمروا فخالفوا، وما كان النصر في بدر إلا من الله، وإطاعتهم الأوامر.
والتوفيق بين النص الكريم، وقوله من قبل :﴿ قل كل من عند الله( ٧٨ ) ﴾( النساء )، هو أن النص الأول كان موضعه الكلام في تقدير الله، فهم إن انتصر المؤمنون ينسبون للنبي صلى الله عليه وسلم أي فضل، بل يجردونه من الفضل، ويقولون هو من عند الله وما قصدوا التفويض والإيمان بالقدر، بل قصدوا الغض من مقام النبوة، وإن كان ما يسوء نسبوه إلى النبي إيذاءً وتمردا، فالله قال لهم : كل ذلك بتقدير الله وإرادته. أما هذا النص :﴿ ما أصابك ﴾، فموضوعه اتخاذ الأسباب، ومعناه أن من أخذ الأسباب وتوكل على الله، فالله تعالى يعطيه النتائج، ومن لا يتخذ الأسباب أو يخالف المنهاج السليم الموصل إلى الثمرة، أو لا يتوكل على الله تعالى ولا يفوض إليه، فإنه سيناله ما يسوؤه، وبسبب منه، فالأول لبيان القَدَر والثاني لبيان العمل.
وهذا هو التخريج الأول، والتخريج الثاني أن يكون :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ﴾، من حكاية قول المنافقين والضعفاء في إيمانهم، لأن آخر الآية السابقة :﴿ فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا( ٧٨ ) ﴾( النساء )، ثم ذكر سبحانه حديثهم الذي لم يفقهوه، وهو قولهم :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله ﴾ إلخ، ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فهم يقولون له : ليس لك من فضل في النصر الذي تناله، فإن ما أصابك من ظفر فمن الله، وما أصابك من هزيمة فمن نفسك ! وقد ذكر هذا التخريج القرطبي، وقال :"والمعنى : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، حتى يقولوا : ما أصابك الله من حسنة فمن الله !".
ويكون ذلك الكلام على هذا التخريج ترديدا لقولهم :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله ﴾، ويكون في أول الحديث عن أنفسهم، وفي الحديث الثاني عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الأول التطير والتشاؤم، وفي الثاني تجريد النبي صلى الله عليه وسلم من كل فضل.
وهم في الأمرين خارجون عن الطاعة متمردون، وقد رد الله تعالى كلامهم بقوله سبحانه :
﴿ وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ﴾ وإنا أيها النبي قد شرفناك برسالتنا، فأرسلناك رسولا فقط، لا تتكفل بالأرزاق، ولا تهب النصر، ولا تمسك مقاليد الكون، ولست تملك من أمر نفسك شيئا، إنما أنت مكلف بالتبليغ فقط، فإن بلغت فما عليك شيء، وإن اتخذت الأسباب في الحروب للظفر، وتوكلت على الله، فإن الله مانحك النصر، ومعطيك الغلب، وإن خالف من معك ما سننت لهم من منهاج للظفر، فإن الهزيمة واقعة بهم، ولست مسئولا عما يصيبهم القدر به من أمر يسرهم، ولا أمر يسوؤهم، وفي قوله تعالى :﴿ وأرسلناك للناس رسولا ﴾ يذكر سبحانه كلمة ﴿ رسولا ﴾ تأكيدا لوصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولبيان أن عمل الرسول ليس هو التحكم في القدر، إنما عمله التبليغ فقط، فإذا بلغ فما عليه من شيء.
وإذا كانوا قد اتهموك وقالوا ما قالوا، فكفاك شهادة الله لك بأنك بلغت وجاهدت، وأن ما يرمونك به باطلا، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.
وإن تصرف أولئك المنافقين والضعفاء فيه إخلال بواجب الطاعة، وإن الرسالة التي حمل عبئها محمد صلى الله عليه وسلم توجب عليهم طاعته من غير تمرد، بل مع الإذعان والخضوع لما يطلبه باسم الله، وأن يعلموا أن طاعته فيها طاعة الله، فإن تمردوا عليه أو تشاءموا به، فليعلموا أن ذلك تمرد على الله، ولذا قال سبحانه :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾.
﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾
هذه الآيات تتميم للمعاني التي اشتملت عليها الآيات السابقة، فإن هؤلاء المنافقين وضعاف الإيمان كانوا يُحَمِّلون النبي صلى الله عليه وسلم تبعة الهزيمة إن كانت. وإن كان ما يحسن في نظرهم قالوا : هذا بفضل الله، ونسوا أن كل شيء بتقدير الله سبحانه وتعالى وتوفيقه، فقد قدر النصر والفوز، كما قدر الضرر والأذى، وكل من عند الله سبحانه وتعالى. وقد حسب أولئك المنافقون والضعفاء أن البعد عن القتال ينجيهم من الموت، فبين الله سبحانه أنه لا نجاة من الموت حيثما كان الشخص فالموت مدركه ولاحقه.
وفي هذه الآيات يبين سبحانه أن ما يصيبك من أمر يحسن عندك، فإنه بفضل الله تعالى، إذ وفقك إلى سببه وجعل السبب منتهيا بالنتيجة وما أصابك من أمر يسوؤك فبسببك وعمل منك، وأن الرسول لا يحمل أوزاركم، وأن طاعته واجبة في المنشط والمكر، وأن الذين يظهرون الطاعة بألسنتهم أمامه ويبيتون العصيان من ورائه، الله بهم عليم، ولذا قال سبحانه :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ﴾
إن هؤلاء كانوا ينتقصون فضل النبي بنسبة الظفر إلى الله والهزيمة إلى النبي، وقد بين الله تعالى أنه رسوله، فإن تنقصتموه فإنما تتنقصون من أرسله، وإن تمردتم عليه فإنما تتمردون على من أرسله :﴿ من يطع الرسول ﴾. فيما يأمر به، وينهى عنه، وفي دعوته إلى الجهاد، فإنما يطيع الله تعالى، لأنه إنما يتكلم عن الله تعالى :﴿ إن هو إلا وحي يوحى( ٤ )علمه شديد القوى( ٥ ) ﴾( النجم ) وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"من أحبني فقد أحب الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله"، فقال الذين يشككون في الإسلام من المنافقين : ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل. لقد قارف الشرك، وهو ينهى أن يعبد غير اللهّ ! ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى، فنزلت هذه الآية :﴿ من يطع الرسول ﴾١وعندي أن الآية لا تحتاج إلى سبب نزول في بيانها لأنها واضحة بينة، يشهد لمعناها سابقها ولاحقها، وإن الحديث في ذاته صحيح المعنى، وروى مسلم مثله عن أبي هريرة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام :"من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع أميري فقد أطاعني ومن يعص أميري فقد عصاني"٢، ومن نال فضل طاعة الله ورسوله، فقد نال حظ الدنيا والآخرة، ومن أعرض عن ذلك فعليه تبعة عمله.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد أدى واجبه في التبليغ، ولذا قال سبحانه وتعالى :
﴿ ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ﴾ ومن عصى أمرك ولم يطعك، وأعرض عن الحق الذي أمرك الله تعالى بتبليغه، فإنه وحده الذي يتحمل تبعة إعراضه عن دين الله، ولا تبعة عليك، إنما عليك التبليغ فقط، وعلى الله تعالى حسابهم يوم الحساب، فلا تكلف نفسك ما لست مكلفه، فما أرسلك الله تعالى إلا مبشرا ونذيرا، وليس عليك أن تحمل الناس على الإيمان، ثم أنت مكلف بالمحافظة عليهم ومراقبتهم وتتبعهم حتى يكونوا مهتدين :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء...( ٥٦ ﴾( القصص )، وما أنت بمهيمن عليهم حتى تحاسبهم على الإيمان إنما الحساب عند الله.
وإن هؤلاء المنافقين يظهرون الطاعة، ويبطنون المخالفة، ولذا قال سبحانه :﴿ ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول ﴾.
١ ذكره جماعة من مفسري السلف منهم القرطبي والرازي وأبو السعود والآلوسي والبيضاوي والسمرقندي عن قتادة(من التابعين).
٢ متفق عليه، وقد سبق تخريجه..
﴿ ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول ﴾
هذه الآيات تتميم للمعاني التي اشتملت عليها الآيات السابقة، فإن هؤلاء المنافقين وضعاف الإيمان كانوا يُحَمِّلون النبي صلى الله عليه وسلم تبعة الهزيمة إن كانت. وإن كان ما يحسن في نظرهم قالوا : هذا بفضل الله، ونسوا أن كل شيء بتقدير الله سبحانه وتعالى وتوفيقه، فقد قدر النصر والفوز، كما قدر الضرر والأذى، وكل من عند الله سبحانه وتعالى. وقد حسب أولئك المنافقون والضعفاء أن البعد عن القتال ينجيهم من الموت، فبين الله سبحانه أنه لا نجاة من الموت حيثما كان الشخص فالموت مدركه ولاحقه.
وفي هذه الآيات يبين سبحانه أن ما يصيبك من أمر يحسن عندك، فإنه بفضل الله تعالى، إذ وفقك إلى سببه وجعل السبب منتهيا بالنتيجة وما أصابك من أمر يسوؤك فبسببك وعمل منك، وأن الرسول لا يحمل أوزاركم، وأن طاعته واجبة في المنشط والمكر، وأن الذين يظهرون الطاعة بألسنتهم أمامه ويبيتون العصيان من ورائه، الله بهم عليم، ولذا قال سبحانه :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ﴾
إنما يقول المسلمون جميعا : أمرنا معك طاعة وخضوع لما تطلب، فليس لنا إلا أن نطيعك، ولا يجوز أن نخالفك لأن طاعتك هي طاعة الله، فأنت فينا المطاع دائما وقد قصرنا أحوالنا على طاعتك.
هذا قول المسلمين عامة، ولكن المؤمنين يقولون ويذعنون ظاهرا وباطنا، وسرا وإعلانا، والمنافقون يقولون ذلك بظاهر من القول، وهو ينوون المخالفة ويصرون عليها ولا يتركونها، وهم الذين يقول الله تعالى فيهم :﴿ فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول ﴾، أي فإذا خرجوا من عندك بارزين ظاهرين غير مستخفين، أخذوا يتدبرون فيما بينهم الأمر الذي يكون مخالفا للطاعة والتعبير عن الخروج بالبروز للإشارة إلى تفاوت ما بين أحوالهم ! وتضارب مظهرهم مع خبيئتهم. ويقول الزمخشري في المعنى اللغوي للتبييت :( والتبييت إما من البيتوتة لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل، ويقال :"هذا أمر بُيِّت بليل". وإما من أبيات الشعر، لأن الشاعر يدبرها، ويسويها )، وعندي أن هذا المعنى غريب، ولكن الأولى هو الأول مضافا إليه معنى التزوير والتحسين، لأن( بيّت ) تتضمن معنى التزوير والتمويه. والمعنى على أي حال أن هذه الطائفة بعد خروجها من عندك، تدبر أمر مخالفتك، وتحسن هذه المخالفة وتزينها لنفسها في خفاء، والله يعلم ما يسرون وما يلعنون ولذا قال :
﴿ والله يكتب ما يُبَيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله ﴾ والله سبحانه وتعالى يعلم ما يبيتون، فلم يكن خافيا قبل أن يقع، ولم يزدد به علما بعد الوقوع، فهو يعلم ما كان وما يكون إلى يوم الدين. وفي هذه الجملة تهديد لهم وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم، بل إن علمه به علم ما يكتب وما يسجل عليهم، ليكون مرئيا لهم في صحائف أعمالهم يوم القيامة، وليعلم نبيه بتدبيرهم السيئ ونيتهم، ليتقي شرهم ويحفظه من أذاهم، فإنه هو ناصره وكافله. وإذا كان الله تعالى يكتب عليهم ما يخفونه، فليس للنبي أن يأبه لهم والله حافظه وكالئه، ولذلك أمره بألا يلتفت إليهم، ولا يأخذه هم في شأنهم وليعتمد على الله، وليكل إليه أموره، ولا يكل أموره إلى غيره، وإنه إن توكل على الله حق التوكل، حفظه، وكفاه شرهم، ولذا قال سبحانه وتعالى :﴿ وكفى بالله وكيلا ﴾.
والمعنى : يكفيك أن الله تعالى هو الموكل بأمرك، وهو حافظك وكالئك وحاميك، ومن كان الله تعالى وكيله والموكل بأموره، فلن يضيع أبدا.
اللهم هيئ للمسلمين أسباب العزة، ووفقهم للعمل الصالح، واجعلهم يكلون مآل أمورهم إليك، إنك نعم المولى ونعم النصير.
﴿ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا( ٨٢ )وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا( ٨٣ )فقاتل في سبيل الله لا تُكَلَّف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا( ٨٤ )من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مُّقيتا( ٨٥ )وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا( ٨٦ )الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا( ٨٧ ) ﴾
في الآيات السابقة بين الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أحوال المنافقين، وما هم عليه من لؤم الطبع والمكر والخداع، ثم أمره صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم، فهم لن يضروه شيئا مهما كان لؤمهم وخداعهم، ما عليه إلا أن يتوكل على الله، فهو حسبه، وسيكفيه شرهم، ولن يبلغوا منه شيئا.
وفي هذه الآيات لا يزال الكلام عن المنافقين متصلا، فالله سبحانه وتعالى يعيب عليهم حالهم في عدم تدبر القرآن الكريم والتفكر في معانيه، لأن التدبر في القرآن يجعلهم يفكرون في عاقبة أمرهم، ويستيقظون من سباتهم الذي يملك عليهم نفوسهم، ويتجسد أمام بصائرهم ما سوف ينالهم من جزاء يوم القيامة.
وهم لو تدبروا القرآن لرأوا فيه العجب العجاب، ولتبين لهم أن هذا الكتاب منزلة من الله رب العالمين، وأن محمدا عبد الله ورسوله.
فالقرآن الكريم يحمل بين جنباته دلائل صدقه، وبراهين أنه من لدن حكيم حميد، إذ لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه تناقضا في القضايا، واختلافا في الألفاظ، وتضاربا في المعاني، ولضربت الآيات بعضها بعضا، لأن الإنسان من البشر إذا تكلم بكلام كثير، لابد أن يوجد في كلامه اختلاف، لاختلاف مزاجه بين الحين والحين، ولما يعتوره من الصحة والمرض، ولاختلاف مواقفه في الزمان والمكان فيظهر ذلك كله في صورة تناقض في اللفظ أو الوصف، أو في المعاني، أو الصدق و الكذب إلى غير ذلك من صور الاختلاف.
ولكن القرآن الكريم بين أيديهم فليتدبروه حق التدبر، فلن يجدوا فيه اختلافا في وصف، ولا ردا في معنى، ولا تناقضا في قضاياه، ولا كذبا فيما يخبر به من أمور الغيب، ولكنهم بإعراضهم عن التدبر، يظلون كالأنعام بل هم أضل، قد أغلقوا قلوبهم عن الهدى، وأصموا آذانهم عن صوت البشير النذير، فما لهم لا يعقلون﴿ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها( ٢٤ ) ﴾( محمد ) فهم لا يفقهون.
﴿ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ﴾ عجبا لأمر هؤلاء المنافقين، إنهم يسارعون في الفتنة ويتحينون الفرص ليزرعوا الشكوك والظنون في صدور المؤمنين، ويشيعون الأخبار على غير حقيقتها فإذا سمعوا خبرا عن أمن المسلمين أو انتصارهم، أو عن الخوف عليهم والإشفاق من تحركاتهم، أسرع هؤلاء المنافقون لإذاعة الشائعات، وأظهروها وتحدثوا بها قبل أن يقفوا على حقيقتها، وقد يكون في ذلك ضرر بالإسلام والمسلمين، ولكنهم لا يبالون، بل ربما كان ذلك هو ما يبتغون.
وقال بعض المفسرين إن ضعاف المسلمين كانوا يفعلون ذلك أيضا، فقد كان بعضهم يفشي أمر النبي صلى الله عليه وسلم، دون إذن في ذلك، ويحسبون أنهم لا يخطئون فيما يفعلون ويسيئون ويحسبون أنهم يحسنون.
وسواء أكان ذلك من المنافقين أم من ضعاف المسلمين فهو خطأ لا يجوز أن يحدث، لذلك يجيء الأمر من الله تعالى بألا يسرع المسلم في الحديث بأخبار لم يتحقق منها، ولم يتبين له صدقها من كذبها، ولم يميز من أمرها بين النفع والضرر، بل يجب على هؤلاء وأولئك أن يردوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وينتظروا حتى يكون عليه الصلاة والسلام، هو الذي يتحدث به ويكشف عن صدقه، ويبين نفعه للمسلمين أو ضرره، وهذا الحكم ماض في كل زمان ومكان، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، فإنه قد ورَّث العلم لطائفة من أمته هم أولو العلم وأولو الأمر، وأهل الفقه في الدين فيجب على المسلمين أن يردوا مثل هذه الأمور إليهم، لأنهم إذا ردوا الأمر إليهم﴿ لعلمه الذين يستنبطونه منهم ﴾ أي يستخرجون معناه، ويبينون فحواه، فإذا الأمر معلوم، والحق واضح لا شبهة فيه، ولا غموض.
والاستنباط هو استخراج الماء من البئر، فشبهت الأفكار التي تدور في خَلَد الإنسان بالماء الذي في البئر، والعلماء يستخرجون هذه الأفكار ويكشفون عن معناها، فيعلمون ما ينبغي أن يقال وما يجب أن يستر ويكتم فلا يشيع بين الناس.
وفي تلك الجملة دليل على جواز اجتهاد العلماء في الأمور الفقهية عن طريق القياس، والحكم ما يبينه ذلك القياس، ما لم يكن هناك نص من القرآن أو السنة، وما لم يكن هناك إجماع.
﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ﴾لقد أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، وبين طريق الحق من الباطل، والهدى من الضلالة، والرشاد من الغواية، وهذا فضل من الله ورحمة، ولولا هدايتكم للعمل بما جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب لاتبعتم الشيطان، ولبقيتم على الكفر سائرين في طريق الضلال إلا قليلا منكم كانوا هم المهتدين، أو لاتبعتم الشيطان في غالب أعمالكم، وكان اتباعكم للرسول وللكتاب إتباعا قليلا، ولغلبت سيئاتكم حسناتكم وفي ذلك ما فيه من الخسران، والعياذ بالله تعالى.
﴿ فقاتل في سبيل الله ﴾ حتى ولو تركوك وحدك منفردا لا أحد معك، فإن معية الله خير وأبقى، فهو الذي أمرك بالقتال، وهو الذي تكفل بنصرك﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد( ٥١ ) ﴾( غافر ).
في الآية أمر من الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بألا يترك جهاد العدو، حتى ولو كان وحده، لأن الله ضمن له النصر، وهناك من يقولون أن الخطاب للأمة كلها، إذ قال ابن عطية في تفسيره :"هذا ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجيء في خبر قط أن القتال قد فرض عليه وحده دون الأمة مدة ما، فالمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك هذا الخطاب موجه إليه، وكل إنسان ليس مكلفا إلا عن نفسه، فإن تقدم نفسك للجهاد فإن الله هو ناصرك، وليس الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف من الجند، فالنصر أولا وأخيرا من عند الله.
وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى الخروج للقاء المشركين في معركة بدر الصغرى، وكان أبو سفيان قد واعد الرسول على أن يتلاقوا فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا، فنزلت الآية، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وليس معه إلا سبعون، ولو لم يخرج معه أحد لخرج وحده، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول له : يا محمد، إنك لا تكلف إلا نفسك وحدها، فاخرج﴿ وحرض المؤمنين ﴾إذ ليس عليك بالنسبة لهم إلا التحريض، وأمرهم دون تعنيف﴿ عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ﴾ وقد كان، فكف الله بأس الذين كفروا، وهم قريش الذين تواعدوا مع النبي على اللقاء، فقد غير أبو سفيان رأيه، وخشي عاقبة المعركة فقال لقومه : إن هذا عام مجدب، لن تقدروا فيه على لقاء محمد وأصحابه، فانتظروا عاما مخصبا، كما تعودتم لتلاقوا فيه محمدا ومن معه، ووقتها سيكون بأسكم شديدا، وتنكيلكم بمحمد وأصحابه شديدا، ألم يعلموا أن العزة لله جميعا﴿ والله أشد بأسا ﴾ من قريش﴿ أشد تنكيلا ﴾ من كل أعدائكم. و﴿ إن بطش ربك لشديد( ١٢ ) ﴾( البروج )فهو أعظم سلطانا، وأقدر على ما يريد.
﴿ من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مُّقيتا ﴾أصل الشفاعة والشفعة ونحوها، من الشفع وهو الزوج في العدد، ومنه الشفيع لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا، فالشفاعة إذن ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، للوصول إلى مصلحة ترغبانها، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفِّع، وإيصال المنفعة إلى المشفوع له، والشفاعة الحسنة هي ما تكون في البر والطاعة، والشفاعة السيئة هي ما تكون في المعاصي، فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر، ومن سعى في غير طاعة، فقد أثم واستوجب العقاب.
يقول الزمخشري في"حقائق التنزيل" : الشفاعة الحسنة هي التي روعي بها حق مسلم، ودُفع بها عنه شر، وابتُغى بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، وليست في حد من حدود الله ولا في حق من الحقوق، ولكل منها نصيب من الأجر، بقدر ما فيه من طاعة أو معصية.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الشفاعة لقضاء الحوائج، والتعاون على البر والتقوى، إذ يقول عليه الصلاة والسلام :"اشفعوا فلتأجروا، وليقض الله على لسان نبيه ما أحب"١.
﴿ وكان الله على كل شيء مقيتا ﴾ المقيت هو الحافظ المقتدر، الذي يعطي كل إنسان قُوته وقوَّته، فهو يجازي كل إنسان بقدر ما حفظ له من عمل، وهو يُقيت الجائع، ويعين من استعان به، فالرزق الذي هو القوت من عنده والعافية التي هي القوة بسلطانه وبأمره وكل شيء عنده بمقدار.
١ متفق عليه: رواه مسلم: البر والصلة والآداب- استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام(٢٦٢٧)، والبخاري بلفظ مقارب: الزكاة- التحريض على الصدقة والشفاعة فيها(١٤٣٢)عن أبي موسى الأشعري عن أبيه، وأبوه هو عبد الله بن قيس بن سلا بن حضار. رضي الله عنهما..
﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا ﴾التحية هي السلام، وأصل التحية الدعاء بالحياة، والتحيات لله هي السلام من الآفات، وإنما يقال"التحيات لله" بصيغة الجمع، ولم يقل"التحية" بصيغة الإفراد، لأنه كان في الأرض ملوك تؤدى لهم تحيات مختلفات، فيقال لبعضهم :"أبيت اللعن"، ويقال لبعضهم :"اسلم وانعم" فقيل لنا نحن المسلمين، قولوا :"التحيات لله" أي كل الألفاظ التي تدل على تحيات الملوك وتؤدى معانيها، وهي الله.
والعلاقة بين هذه الآية وما قبلها أن الله تعالى يقول، إذا خرجتم للجهاد، كما سبق الأمر، فحياكم إنسان بتحية الإسلام، فلا تقولوا لمن ألقى عليكم السلام لست مؤمنا، بل ردوا جواب السلام فإن الأحكام تجري عليهم، وقد أجمع الفقهاء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها، ورده فريضة، لقوله تعالى﴿ فحيوا بأحسن منها أو ردوها ﴾ أو قوله تعالى﴿ إن الله كان على كل شيء حسيبا ﴾، فقد قال المفسرون عن ذلك، إن هذه الصفة"الحسيب" حسنت هنا، لأن معنى الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص أو يوفَّى قدر ما يجيء به، والله سبحانه وتعالى يجازي الإنسان بقدر ما فعله، حتى في لفظ التحية والسلام.
روى النسائي عن عمران بن حصين قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فسلم فقال : السلام عليكم، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :"عشر" ثم جلس، ثم جاء آخر فسلم فقال : السلام عليكم ورحمة الله. فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال"عشرون". ثم جلس. وجاء آخر فقال "السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته" فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال :"ثلاثون"١.
وهذا الخبر يعطي تفسيرا بأن من قال لأخيه المسلم"السلام عليكم" كتب له عشر حسنات، فإن قال "السلام عليكم ورحمة الله" كتب له عشرون حسنة، فإن قال"السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته" كتبت له ثلاثون حسنة، وكذلك من رد التحية له مثل ذلك أجر.
والتحية وردها آداب يجب أن يتعلمها المسلم، ويتخذها منهجا وسلوكا، فمنها أن يسلم الراكب على الماشي والقائم على القاعد والقليل على الكثير، والصغير على الكبير، وفي المسألة مسائل فقهية متشعبة، على المسلم أن يتعرف عليها من مظانها، ولا يغفل عنها، لأن التحية وإفشاء السلام من الأسباب التي تصل القلوب بعضها ببعض، فتأتلف الأرواح وتتحاب النفوس، تصديقا لقوله عليه الصلاة والسلام"لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم"٢.
ثم عليكم أن تتذكروا في كل شئونكم أنه جل ذكره :﴿ الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا ﴾.
١ رواه الترمذي: الاستئذان والآداب- ما ذكر في فضل السلام(٢٦٨٩)، وأبو داود: الأدب- كيف رد السلام(٥١٩٥). وأحمد: أول مسند البصريين (١٩٤٤٦)، والدارمي: السلام- فضل التسليم ورده (٢٦٤٠). عن عمران بن حصين رضي الله عنه..
٢ رواه مسلم: الإيمان- بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون(٥٤)، والترمذي: الاستئذان والآداب- ما جاء في إفشاء السلام(٢٦٨٨)، وأبو داود: الأدب- في إفشاء السلام(٥١٩٣)، وابن ماجه: المقدمة- في الإيمان(٦٨). عن أبي هريرة رضي الله عنه..
﴿ الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا ﴾ وقد نزلت هذه الآية في شأن هؤلاء المكذبين الذين يشكون في البعث والحساب، فأقسم الله تعالى لهم بنفسه، والدليل على ذلك القسم هو وجود اللام المتصلة بكلمة ليجمعنكم، ثم نون التوكيد المشددة بعدها، يقول النحاة أن اللام واقعة في جواب قسم، والله أعلم، أن الله يقسم ليجمعنكم، فهو قسم، يلقيه إلينا رب العزة، بأنه سيجمع الناس وهم أموات تحت الأرض، فكل من يموت سيجمع إلى من سبقوه تحت التراب، وسيظل جمعهم إلى يوم القيامة ثم يبعثون.
وفي رأي آخر أن حرف الجر"إلى" صلة في الكلام، ومعناه ليجمعنكم يوم القيامة، وسميت القيامة قيامة، لأن الناس يقومون في هذا اليوم لله رب العالمين. قال جل شأنه :{ ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون( ٤ )ليوم عظيم( ٥ )يوم يقوم الناس لرب العالمين( ٦ )( المطففين ).
﴿ ومن أصدق من الله حديثا ﴾، استفهام تقريري، هل هناك من هو أصدق من الله ؟ فيكون الجواب تقريرا للحقيقة التي لا يشك فيها مؤمن، لا، لا أحد أصدق من الله، فهو سبحانه، يخاطبنا بما كان وما سيكون، وكل ما جاء من عنده صدق لا ريب فيه، فهو جل شأنه لا يجوز عليه الكذب، لأن الكذب إخبار عن الشيء بغير ما هو عليه، والكاذب لا يكذب إلا أنه في حاجة للكذب، لكي يستفيد منفعة أو يرفع مضرة والله سبحانه وتعالى حكيم غني لا يجوز عليه الاحتياج، فهو عالم بكل معلوم، منزه عن الكذب، كما هو منزه عن سائر النقائص والقبائح. سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
﴿ فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تَهْدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا( ٨٨ )ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا( ٨٩ ) إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حَصِرَت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلَّطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا( ٩٠ )ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما رُدُّوا إلى الفتنة أُركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويُلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا( ٩١ ) ﴾.
كان المنافقون في الحروب عنصر فتنة مستمرة، وكانوا في السلم مثيري النزاع والخصام، فهم في الحرب إن رأوا ضعفا استغلوه، وإن لم يجدوا ضعفا ظاهرا أثاروه، ولم يكن النفاق داخل المدينة فقط، بل كان يمتد كلما قوي المؤمنون في البلاد. ففي أول إقامة الدولة الإسلامية بالمدينة وانتصار المؤمنين في بدر، ظهر النفاق فيها خوفا من قوة المؤمنين، وأخذ ينفث سمومه في قوتهم ! وكلما عم سلطان الدولة الإسلامية واتسع، ظهر منافقون، فظهر في الأعراب نفاق كما قال تعالى :﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم( ٩٧ ) ﴾( التوبة ) وظهر نفاق بين مشركي مكة، فكان ناس إذا أرادوا تجارة، وأرادوا أن يأمنوا غارات المؤمنين في الطريق عليهم، أعلنوا أنهم يصدقون بما جاء به محمد، وناقلوه بين الركب وبين الناس، فكان المؤمنون يختلفون في شأنهم، فمنهم من يراهم مؤمنين لا يقاتلون ولا يغار عليهم، ومنهم من يراهم كفارا منافقين يريدون أن ينجوا بأموالهم فنزل قوله تعالى :﴿ فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ﴾
﴿ فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ﴾ إذا كان المنافقون على ما ترون، من أنهم ينطقون باللسان خشية القوة، وابتغاء الفتنة ولا يريدون إلا دفع الأذى عن أنفسهم، وإنزاله بكم، فما الذي يسوغ لكم أن تختلفوا في شأنهم فئتين أي طائفتين، إحداهما ترجو الخير فيهم، والثانية ترى الشر يستحكم في قلوبهم ويبدو في لحن أقوالهم ؟ وأنتم ترون أيها المختلفون ضلالهم، ووقوعهم في الفساد وأنهم لا يبدو من أعمالهم ما يدل على إيمانهم، بل هم يعملون بالكفر، وينطقون بالإسلام.
والإركاس معناه قلب الشيء على رأسه، ورد مقدمه إلى مؤخره. جاء في مفردات الراغب الأصفهاني :"الركس قلب الشيء على رأسه ورد أوله إلى أخره، يقال أركسته فركس وارتكس في أمره".
والمعنى على هذا أن الله سبحانه وتعالى أوقعهم في الضلال فقلب مداركهم، ورد الأول على الآخر في تفكيرهم، بحيث صاروا لا يستطيعون ترتيب المقدمات الفكرية ونتائجها، وذلك بما كسبوا من الإيغال في الشر بعد ابتغائه وطلبه فلما ساروا فيه خطوة امتد بهم السير خطوات حتى أوغلوا فيه، وأصبحوا لا يستطيعون الحكم في القول.
ومن هم أولئك المنافقون الذين أركسهم الله تعالى ذلك الإركاس ؟ قيل : هم منافقوا المدينة، أتباع عبد الله بن أبيّ، ومن معه. وقيل : قوم أقاموا بالمدينة مؤمنين، ثم خرجوا منها منحرفين في اعتقادهم وأظهروا أن جوها لم يطب لهم وقيل، كما روى عن ابن عباس : إنهم قوم آمنوا بمكة، وقالوا إن ظهر محمد صلى الله عليه وسلم فقد عرفنا، وإن ظهر قومنا فهو أحب إلينا.
وعندي أن المنافقين هنا تشمل من اتصفوا بذلك، وتخص الأعراب ومن على شاكلتهم من الذين كانوا يسلمون في قبائلهم، ويعلنون ذلك من غير أن يهاجروا على المدينة مناصرين للمؤمنين، ولم يكن من أعمالهم ما يدل على انتمائهم للدولة الإسلامية، وإعلان ولايتها عليهم. والحقيقة أن هؤلاء كانوا يتذرعون بكلمة الإسلام، لكيلا يحكم السيف الإسلامي فيهم. ولذلك ذكرت الآية الأمارة القاطعة الدالة على إيمانهم هي أن يهاجروا.
﴿ أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ﴾ أيها المؤمنون المختلفون أتريدون أن تحملوا على الإيمان من أضله الله، أي من كتب عليه الضلالة، بسبب أنه سار في طريقها، وانحرف عن جادة الحق وسبيل المؤمنين، فإن من يسير في طريق لا بد أن ينتهي إلى نهايته، ما دام لم يرجع ولم يعد. ومن يضلل الله، أي من يكتب عليه في لوحه المحفوظ، وقدره المحتوم، أن يكون ضالا، فلن يجد أحد سبيلا إلى هدايته ؛ لأن قَدَر الله تعالى لا يتغير وقضاءه لا يتبدل، وحكمه لا يتخلف فمن حاول هداية المنافقين الذين حكم عليهم بالضلال، فكأنما يحارب قدر الله سبحانه وتعالى.
وإن المؤمنين يحاولون هداية المنافقين، أو حكم لهم بالإيمان، بينما المنافقون يودون للمؤمنين عكس ذلك.
﴿ ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ﴾
كان المنافقون في الحروب عنصر فتنة مستمرة، وكانوا في السلم مثيري النزاع والخصام، فهم في الحرب إن رأوا ضعفا استغلوه، وإن لم يجدوا ضعفا ظاهرا أثاروه، ولم يكن النفاق داخل المدينة فقط، بل كان يمتد كلما قوي المؤمنون في البلاد. ففي أول إقامة الدولة الإسلامية بالمدينة وانتصار المؤمنين في بدر، ظهر النفاق فيها خوفا من قوة المؤمنين، وأخذ ينفث سمومه في قوتهم ! وكلما عم سلطان الدولة الإسلامية واتسع، ظهر منافقون، فظهر في الأعراب نفاق كما قال تعالى :﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم( ٩٧ ) ﴾( التوبة ) وظهر نفاق بين مشركي مكة، فكان ناس إذا أرادوا تجارة، وأرادوا أن يأمنوا غارات المؤمنين في الطريق عليهم، أعلنوا أنهم يصدقون بما جاء به محمد، وناقلوه بين الركب وبين الناس، فكان المؤمنون يختلفون في شأنهم، فمنهم من يراهم مؤمنين لا يقاتلون ولا يغار عليهم، ومنهم من يراهم كفارا منافقين يريدون أن ينجوا بأموالهم فنزل قوله تعالى :﴿ فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ﴾
وإن هؤلاء الذين تتمنون هدايتهم أو تحكمون بها عليهم، أو ترجونها لهم، يتمنون أن تكفروا كما كفروا، بحيث تكونون أنتم على سواء ؛ ومن تكون هذه حاله لا يعد مسلما، ولا يحكم عليه بأن نور الإسلام دخل قلبه، فهو لا يريد أن تجتمعوا معه على هدى، بل يريد أن تكونوا معه على ضلالة، فإذا كانوا يريدون الاتصال بكم اتصال مودة، فعلى أساس الكفر لا على أساس الإيمان، وإذا كونوا كذلك، فلا يصح أن تتخذوا منهم أنصارا، أو ترتبطوا معهم بمودة أو صلة، ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك :﴿ فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ﴾ الولي يطلق بمعنى المناصر، ويطلق بمعنى المحب الودود، والنهي منصب على الاثنين، فإنه لا يصح للمؤمنين أن يتخذوا أولياء من هؤلاء المنافقين، الذين يظهرون الإسلام وهم مقيمون في ديار الأعداء يناصرونهم، وقوتهم لهم على المسلمين فكيف يكونون مع هذه الحال نصراء أهل الإيمان ! ! وإذا كان لا يصح أن يتخذوا منهم نصراء، فإنه لا يصح أن يقال إنهم منتمون للدولة الإسلامية، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، ولا يجوز لهذا أن يضموا إليها.
وإنه لا يصح أن يربط بعض المؤمنين معهم مودة، لأنهم ببقائهم في ظل الكفر، وقوتهم له، يكونون في ضمن من يحادون الله ورسوله، والله تعالى يقول :﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم( ٢٢ ﴾( المجادلة ).
وإن أمر القلوب بيد الله سبحانه وتعالى، فلا يصح أن تحكموا عليهم بالإيمان حتى تظهر أماراته، وتبدو معالمه، وإن مظهره الحقيقي في هذا النوع من الناس هو أن ينضموا إلى جماعة المؤمنين بالهجرة إليهم، لتكون قوتهم للمؤمنين لا عليهم، ولذا قيد سبحانه وتعالى ترك ولايتهم بغاية، وهي الهجرة، فقال :﴿ حتى يهاجروا في سبيل الله ﴾ بأن يخرجوا في سبيل الله تعالى مجاهدين مع المؤمنين ومناصرين ومؤيدين لهم.
﴿ فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ﴾ أي فإن أعرضوا عن الهجرة، وهي واجبة، فلا تعتبروا إسلامهم، لأنهم لا يزاولون قوة عليكم، وخذوهم من نواصيهم بالأسر والترصد لمتاجرهم وأموالهم حتى لا يتخذوا من ذلك ذريعة لتقوية أقوامهم، واقتلوهم حيث وجدتموهم، لأنهم أعداء بمعاونتهم أعداء المؤمنين، وإذا كانوا يستطيعون الخروج بمتاجرتهم وغيرها، فإنهم يستطيعون الهجرة إليكم ليكونوا قوة لكم، والهجرة واجبة، وإذا كانوا معكم في حال قتال كمن ينتمون إليهم، فلا تقبلوهم في ولايتكم، ولا توادُّوهم ولا تتخذوا منهم نصراء، لأن النصير هو الذي يعاونك ويكون معك على أعدائك وليس هؤلاء منهم، فقوله تعالى :﴿ ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ﴾، يدل على النهي عن أمور ثلاثة : أولها- ألا يعتبروهم منهم بالولاية والانتماء، لأنهم لم يعملوا على الانضمام لجماعة المؤمنين. وثانيها- ألا يوادوهم لأنهم يحادونهم إذ يحادون الله ورسوله، وهو بهذا من حزب الشيطان، لا من حزب الله تعالى وثالثها- ألا يتخذوا منهم نصراء، لأنهم سيخادعون، ومن كانت هذه حالهم لا يؤتمنون، فنصرهم خذلان، والاستعانة بهم استعانة بغير أهل الإيمان.
وإن السياق يدل عل أن المنافقين الذين تتحدث عنهم الآية- وإن كان اللفظ عاما- هم من الذين يظهرون الإسلام في قبائلهم، ولا يخرجون إلى المسلمين ليكونوا معهم فإن زمان إنشاء الدولة الإسلامية يحتاج إلى التجمع، ليكون المؤمنون قوة واحدة، كما قال تعالى :﴿ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص( ٤ ) ﴾( الصف ).
والخلاصة أن أولئك المنافقين يعاملون معاملة الذين ينتمون إلى دولة أخرى، فإذا كانت دولتهم تقاتل المؤمنين قوتلوا وقتلوا، وإن كانت دولتهم تسالم المؤمنين بميثاق، فلا يقاتلون احتراما للعهد والميثاق، ولذا قال تعالى :﴿ إلا الذين يَصِلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾.
﴿ إلا الذين يَصِلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾
كان المنافقون في الحروب عنصر فتنة مستمرة، وكانوا في السلم مثيري النزاع والخصام، فهم في الحرب إن رأوا ضعفا استغلوه، وإن لم يجدوا ضعفا ظاهرا أثاروه، ولم يكن النفاق داخل المدينة فقط، بل كان يمتد كلما قوي المؤمنون في البلاد. ففي أول إقامة الدولة الإسلامية بالمدينة وانتصار المؤمنين في بدر، ظهر النفاق فيها خوفا من قوة المؤمنين، وأخذ ينفث سمومه في قوتهم ! وكلما عم سلطان الدولة الإسلامية واتسع، ظهر منافقون، فظهر في الأعراب نفاق كما قال تعالى :﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم( ٩٧ ) ﴾( التوبة ) وظهر نفاق بين مشركي مكة، فكان ناس إذا أرادوا تجارة، وأرادوا أن يأمنوا غارات المؤمنين في الطريق عليهم، أعلنوا أنهم يصدقون بما جاء به محمد، وناقلوه بين الركب وبين الناس، فكان المؤمنون يختلفون في شأنهم، فمنهم من يراهم مؤمنين لا يقاتلون ولا يغار عليهم، ومنهم من يراهم كفارا منافقين يريدون أن ينجوا بأموالهم فنزل قوله تعالى :﴿ فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ﴾
الاستثناء هنا منفصل بمعنى "لكن"، وهو من الأمر بالأخذ بالنواصي، والقتل حيثما وجدوا. والمعنى : لكن لا تأخذوا ولا تقتلوا أحدا من هؤلاء الذين يصلون بالانتماء أو الرعوية إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد موثق، لا يصح النكث فيه، ولا الخروج على أحكامه، أو التمرد على مقتضاه، فهؤلاء يعاملون كالدولة التي ينتمون ليها، والأقوام الذين يصلون أمورهم بهم، ولا يصح أن يقتلوا أو يؤسروا ؛ لأن قتلهم أو أسرهم نقض للعهد الذي وثق وأكد، والله تعالى يقول :﴿ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا( ٣٤ ) ﴾( الإسراء )، ويقول :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون( ٩١ ) ﴾( النحل ).
وإن قوله تعالى :﴿ يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾، يدخل في مضمونه طائفتان :
أولهما : طائفة تكون رعية لدولة بينكم وبينهم عهد وميثاق، فإنه لا يشترط لنجاتهم أن يخرجوا إليكم مهاجرين، فإنهم آمنون بمقتضى العهد والميثاق، فإن أعلنوا الإسلام، لا يستراب في أمرهم.
والثانية : من يتصلون بعهد أو ميثاق أو ولاء ممن كان بينكم وبينهم عهد، فإن لهم من يكونون رعية لمعاهديكم، وإن هذا الصنف يصح أن ينطبق على من لا يظهرون الإسلام ولكن يعلنون السلام.
وهناك صنف لا ينتمي لقوم ذوي عهد، ولكنه لا يقاتل قومه لعذر عنده، ويخرج إلى المؤمنين مخلصا لله الدين أو ملقيا بالسلام، وهم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم :
﴿ أو جاءوكم حَصِرَت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ﴾ هذا فريق آخر ممن يعلنون الإسلام في وسط أقوامهم أو لا يعلنونه ولا يقاتلون مع المؤمنين، وهؤلاء ينتمون إلى قوم يقاتلون المؤمنين، وهو في حال حرب، فهؤلاء يعلنون إسلامهم ويجيئون إلى المسلمين معلنين الإسلام، ولكنهم يكونون في ضيق وحرج، فلا يستطيعون قتال أقوامهم، خشية على ذرياتهم أو ذوي أرحامهم، أو أموالهم، ويريدون أن يتذرعوا بالامتناع عن قتال قومهم فإنه يقبل منهم الاعتزال. ومعنى ﴿ حصرت صدورهم ﴾ ضاقت. وقد قال الراغب :( الحصر التضييق. قال الله عز وجل :﴿ فخذوهم واحصروهم ﴾ أي ضيقوا عليهم، وقال تعالى :﴿ وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا( ٨ ) ﴾( الإسراء )" وقوله تعالى :﴿ أو جاءوكم حصرت صدورهم ﴾ أي ضاقت ).
ويظهر أن مادة ( حصر ) تكون من باب نصر ومن باب فرح، وإذا كانت من باب نصر تكون دالة على التضييق على الغير تضييقا حسيا، وإن كانت من باب فرح تكون لازمة ودالة على ضيق النفس، والمعنى على هذا أن هؤلاء ضاقت نفوسهم وصاروا في حرج لا يستطيعون قتال المسلمين، ولا يستطيعون قتال أقوامهم فهؤلاء مسالمون، لأن الله كفى المؤمنين أمرهم، ولأنهم لا يعدون منافقين، ولقد حرض الله سبحانه المؤمنين على مسالمتهم رغبة في السلام، فقال سبحانه :
﴿ ولو شاء الله لسلَّطهم عليكم فلقاتلوكم ﴾ أي أنه من رحمة الله بكم أن قلل أعداءكم، وأضعف شأن الذين يقاتلونكم، بأن يخرج من بين صفوفهم من يسالمونكم، وإن الله ناصركم في هذا بأمرين : بتقوية جمعكم، وإضعاف شأن عدوكم، ولو شاء سبحانه أن يكونوا جميعا عليكم ولا يخرج منهم من يسالمكم، وجعل أولئك الذين يمدون يد السلام مسلطين عليكم بالقتل والقتال، لكان ذلك، وليس في مصلحتكم، فاختاروا ما أمركم الله به، وهو مسألة أولئك الذين يسالمونكم، وقد خرجوا من بين أقوامهم.
ولقد أكد سبحانه هذا المعنى بقوله تعالى :
﴿ فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ﴾ أي فاقبلوا من هؤلاء المسالمة، إن اعتزلوا قتالكم ولم يكونوا مع أعدائكم عليكم، ولم يريدوا أيضا أن يكونوا معكم على أقوامهم، وألقوا إليكم السلام غير معاندين، ولا مخالفين، فاقبلوا ذلك منهم ولا تحاربوهم لأنهم لا يقاتلونكم ولا يؤلبون عليكم، ولا يعتدون، والله تعالى يقول :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين( ١٩٠ ) ﴾( البقرة )، وما داموا لا يقاتلون لا يحل قتالهم، وإلا كنا معتدين، والقتال في الإسلام شرع لدفع الاعتداء، فإذا كانوا كذلك فما جعل الله لكم في شرعه وأحكامه سبيلا لقتالهم.
وفي النص الكريم إشارتان لفظيتان : أولهما- قوله سبحانه :﴿ فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ﴾، إذ التعبير ب "عليهم" يومئ إلى أن قتالهم اعتداء عليهم، وما جعل الله لكم حق الاعتداء، فالمعنى : ما جعل الله سبحانه لكم سبيلا للإعتداء ب "عليهم". الثانية- التعبير بلفظ السلم بدل السلام للإشارة إلا معنى التسليم، لا مجرد الأمن والسلام، لأن السلم يفيد معنى التسليم، فهم ألقوا إليكم الأمن وتسليم القيادة لكم.
وهناك صنف آخر غير هؤلاء المسالمين، وهم قوم يخادعون، لا يكفون عن القتال، وقد قال سبحانه فيهم :﴿ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها ﴾.
﴿ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها ﴾
كان المنافقون في الحروب عنصر فتنة مستمرة، وكانوا في السلم مثيري النزاع والخصام، فهم في الحرب إن رأوا ضعفا استغلوه، وإن لم يجدوا ضعفا ظاهرا أثاروه، ولم يكن النفاق داخل المدينة فقط، بل كان يمتد كلما قوي المؤمنون في البلاد. ففي أول إقامة الدولة الإسلامية بالمدينة وانتصار المؤمنين في بدر، ظهر النفاق فيها خوفا من قوة المؤمنين، وأخذ ينفث سمومه في قوتهم ! وكلما عم سلطان الدولة الإسلامية واتسع، ظهر منافقون، فظهر في الأعراب نفاق كما قال تعالى :﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم( ٩٧ ) ﴾( التوبة ) وظهر نفاق بين مشركي مكة، فكان ناس إذا أرادوا تجارة، وأرادوا أن يأمنوا غارات المؤمنين في الطريق عليهم، أعلنوا أنهم يصدقون بما جاء به محمد، وناقلوه بين الركب وبين الناس، فكان المؤمنون يختلفون في شأنهم، فمنهم من يراهم مؤمنين لا يقاتلون ولا يغار عليهم، ومنهم من يراهم كفارا منافقين يريدون أن ينجوا بأموالهم فنزل قوله تعالى :﴿ فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ﴾
هذا صنف أخير يتجه إلى أن يأمن قومه، فلا يقاتلهم، ويأمن المؤمنين حتى لا يقتلوه، ولكنه لا يمدّ يد الأمان، ولا يسلم القياد، وهؤلاء إذا دعوا إلى القتال، ولم يعترضوا منفردين لأذى المؤمنين، استجابوا للقتال في صفوف المشركين، فهم يظهرون الأمان، أو يظهرون الإسلام، ليأمنوا جانب المؤمنين، فإن لاحت لهم فرصة الانضمام لأعداء الله قاتلوا معهم، وهذا مرمى قوله تعالى :﴿ كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها ﴾، أي كلما ردوا إلى قومهم مفتونين بعصبيتهم وكفرهم، قلبت نفوسهم أقبح قلب، فأركسوا في فتنة الكفر والعصبية، وهؤلاء أوجب الإسلام قتالهم إذا لم يعتزلوا أقوامهم ويكفوا أيديهم عن قتال المسلمين، ولذا قال سبحانه :
﴿ فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأُولاَئِكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ﴾، أي إن لم يعتزلوا قتالكم، ويمتنعوا عن حربكم، ويلقوا إليكم بالأمان مع تسليم أنفسهم منقادين، ويكفوا أيديهم عن القتال، فقد حل دمهم وزالت عصمتهم، فخذوهم بالنواصي أسرى، واقتلوهم حيث وجدتموهم ؛ فمعنى ﴿ ثقفتموهم ﴾ وجدتموهم. وعبر عن الامتناع عن القتال بقوله﴿ ويكفوا أيديهم ﴾، لأن اليد هي الأداة الأولى للقتال، وإن الله بهذا قد جعل للمسلمين سلطانا أي سيطرة تمكنهم من قتالهم، وهذا معنى قوله :﴿ وأولائكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ﴾ أي أولئك بأوصافهم من الغدر، وقتالهم للمؤمنين وفتنتهم، جعل الله لكم عليهم سلطانا مسوّغا لقتالهم، واضحا بينا لا شك فيه فقاتلوهم من غير استرابة ولا شك ولا تلكؤ. اللهم أعز الإسلام وانصرنا على القوم الكافرين.
﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما( ٩٢ ) ﴾.
كان الكلام في الآيات السابقة في المنافقين الذين يعملون على نقض بناء الدولة الإسلامية، ويعملون على إلقاء الريب في قلوب أهل الإيمان، وفي وجوب قتل الكافرين الذين ينقضون العهد والميثاق، والذين يظهرون الإيمان بين قبائلهم، ولا يعملون عملا للإسلام، فإنهم منافقون يريدون أن يتخذوا من مظهر الإيمان وقاية لهم، إن اشتدت الشديدة على أقوامهم، وإنه لا يحمي دم هؤلاء في القتال إلا إذا كانوا قد ألقوا السلام، واعتزلوا القتال مع أقوامهم أو كانوا يصلون إلى قوم قد ارتبط المسلمون معهم بميثاق عدم اعتداء. وإن التفرقة بين هذه العناصر قد يقع معها الخطأ، ولذا ذكر القرآن الكريم الخطأ في هذه الأحوال الثلاث : وهي قتل المؤمن الخطأ لمؤمن قائم مع لمؤمنين، وقتل الخطأ لمؤمن من قوم أعداء، وقتل الخطأ من قوم لهم ميثاق، حتى إذا وقع الخطأ كان الحكم بيّنا، ولذا قال تعالى :
﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ﴾ "ما كان" النفي هنا ليس لنفي الوقوع، أي نفي أن يقع قتل خطأ، وإلا ما وقع ذلك أبدا لكنه يقع، بل النفي بمعنى عدم الجواز والنهي عنه، مثل قوله تعالى :﴿ وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا( ٥٣ ) ﴾( الأحزاب ). ومثل قوله تعالى :﴿ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا( ٣٦ ) ﴾( الأحزاب )، والمعنى على ذلك ما ساغ ولا جاز ولا أبيح أن يقتل مؤمنا قط، فإن ذلك أمر محرم تحريما قاطعا، لكن إن كان الخطأ، فإن ذلك قد يكون معذرة يعتذر بها، لأن الله تعالى رفع عن أمة محمد إثم الخطأ، إذ قال عليه الصلاة والسلام :"رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"١، وليس على المؤمن إثم القتل إن قتل خطأ، وإن كان يجب الاحتراز من الخطأ. وإن التقصير لا يخلو من مؤاخذة، ولذلك قال الزيلعي من فقهاء الحنيفة :"وبهذا النوع من القتل( أي الخطأ ) لا يأثم إثم القتل، وإنما يأثم إثم ترك التحرز، والمبالغة في التثبت ؛ لأن الأفعال المباحة لا تجوز مباشرتها إلا بشرط ألا تؤذي أحدا، فإذا آذى أحدا فقد تحقق ترك التحرز".
والقتل الخطأ يتصور في ثلاث صور : أولها- أن يرمي هدفا، فيصيب إنسانا معصوم الدم، بأن تنحرف الرمية.
والثانية- أن يقصد هدفا معينا، على أنه حيوان مفترس مثلا، فيتبين أنه إنسان معصوم الدم. والثالثة- أن يقتل إنسانا على أنه من الأعداء، فيتبين أنه معصوم الدم، تحت هذه الصور صور كثيرة : منها أن يقتل من قال : لا إله إلا الله زاعما أنه قالها تحت حد السيف، وغير ذلك من أخطاء القتال.
وقد ذكر الزمخشري في سبب نزول هذه الآية أنه "روى أن عياش بن أبي ربيعة، وكان أخا أبى جهل لأمه، أسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة، وذلك قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأقسمت أمه ألا تأكل ولا تشرب، ولا يؤويها سقف حتى يرجع، فخرج أبو جهل ومعه الحارث بن زيد، فقال أبو جهل : أليس محمد يحثك على صلة الرحم، انصرف وبر أمك وأنت على دينك ! حتى نزل وذهب معهما، وقدما به على أمه، فلما أبعدا عن المدينة كتفاه، وجلده كل واحد مائة جلدة، فقال عياش للحارث : هذا أخي، فمن أنت يا حارث، لله علي إن وجدتك خاليا أن أقتلك، وقدما به على أمه، فحلفت لا يحل كتافه أو يرتد، ففعل، ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحارث وهاجر، فلقيه عياش بظهر قباء ولم يشعر بإسلامه، وأنحى عليه وقتله، ثم أخبر بإسلامه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قتلته، ولم أشعر بإسلامه، فنزلت الآية".
وسواء أصح هذا سببا للنزول أم لم يصح، فإن الآية عامة تعم كل قتل خطأ. والقتل الخطأ يوجب كفارة، ويوجب دية تسلم إلى أهله، أي أنه يجب تعويض أهل الإيمان إن أمكن، ويجب تعويض أسرة القتيل. وتعويض أهل الإيمان يكون بإعتاق رقبة مؤمنة، وتعويض أسرة القتيل. إن كانت غير منتمية لقوم عدو للمؤمنين يكون بالدية، وقد ذكرت أحوال ثلاثة للدية، تجب في حالين، ولا تجب في حال أخرى : أما الحالان اللتان تجب فيهما، فهما إذا كان القتل حدث على رجل مؤمن يعيش بين المؤمنين، والثانية إذا كان المقتول من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق عدم اعتداء، وقد ذكر سبحانه الحال الأولى في قوله تعالت كلماته :
﴿ ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا ﴾ التحرير جعله حرا طليقا لوجه الله تعالى، بعد أن كان عبدا رقيقا، والتعبير عن العتق بالتحرير، للإشارة إلى أن الحرية مقصد من مقاصد الشارع الإسلامي، وأن العقوبة ليس المقصود بها إيذاء القاتل، إنما المقصود بها نفع العبد، وكذلك كل عقوبة تكون بعتق رقبة لا يقصد بها الإيلام، إنما يقصد بها تحرير الرقاب، وقد أخطأ بعض الفقهاء فأشار على ملك من ملوك المسلمين قد اجتمع في رمضان بأن يصوم شهرين متتابعين، مع أن النص يقرر أن الصيام إنما هو بالنسبة لمن لا يملك رقابا، وكان خطؤه من ناحيتين : إحداهما- أنه أعمل الرأي في موضع النص، وذلك لا يجوز، والثانية أنه لم يفهم مقصود الشارع ابتداء، وهو نفع العبيد بالإعتاق.
وعبر عن نفس الحر بكلمة الرقبة، للإشارة إلى أن الرق غل معنوي في الرقاب وأن المؤمن الصادق لا يجوز له أن يغُلَّ رقاب العباد، إلا لضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، ولذلك عبر سبحانه وتعالى عن العتق بفك الرقبة في آية أخرى، فقال سبحانه وجلت كلماته :﴿ فلا اقتحم العقبة( ١١ )وما أدراك ما العقبة( ١٢ )فك رقبة( ١٣ ) ﴾( البلد ).
والدية التي قدرها النبي صلى الله عليه وسلم هي مائة من الإبل لمن يملك إبلا، وألف دينار من الذهب لمن لا يملك إبلا، وعشرة آلاف درهم لمن يملك فضة، وقيل اثنا عشر ألف درهم، وقال الشافعي : إن الدية في الأصل مائة من الإبل، ومن لا يجد مائة من الإبل تكون عليه قيمتها من الذهب أو الفضة، بالغة ما بلغت، قليلة كانت أو كبيرة.
وإن الدية تسلم على ورثة المقتول، وقد كان رأي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : لا تسلم الدية إلا إلى عصبته، فلا يسلم جزء منها لزوجته مع أنها وارثة، فيروى أنه قضى بدية المقتول، فجاءت امرأته تطلب ميراثها، فقال : لا أعلم لك شيئا إنما الدية للعصبة، فقام الضحاك بن سفيان الكلابي وقال :"كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل( أي دية ) زوجها أشيم" فورثها عمر بعد أن علم بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم في هذا، وما كان له أن يخالفه٢.
والدية عند الأكثرين تجب على عصبة القاتل، ليكون ذلك دليلا على تضافر الأسرة كلها، وإذا كان فقيرا وأسرته فقيرة، فإن دية المقتول تكون على بيت مال المسلمين، لأنه وارث من لا وارث له، فيجب عليه ما كان يجب على الوارث، ولأنه لا يطل دم في الإسلام ولأنه إذا كانت الأسرة الصغرى قد عجزت عن دفع الدية، فإنها تجب على أسرته الكبرى وهي الأمة. وهنا بحثان لفظيان :
أولهما : التعبير عن أداء الدية بقوله :﴿ مسلمة إلى أهله ﴾. فإن هذا التعبير يومئ إلى وجوب حسن الأداء، بألا يكلفوا أسرة المقتول شطط التقاضي والمطالبة، فيجمعوا عليها ألم الفقد، ومضاضة الشكوى والتظلم، وهذا مثل قوله تعالى :﴿ فمن عفي له من أخيه شي ء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان( ١٧٨ ) ﴾( البقرة ).
والبحث الثاني : قوله تعالى :﴿ إلا أن يصدقوا ﴾، أي إلا أن يتبرع أهل القتيل وفي التعبير بكلمة "يصدقوا" إشارة إلى أن ذلك مرغوب فيه محبب، وأنه صدقة لها ثوابها، إذا كان أولياء القاتل وعصبته يرهقون بأدائها، أو كان العطاء من بيت المال فيتركونها صدقة لجماعة المسلمين، وإن ذلك يكون إذا كانوا هم في ثروة لا يحتاجون معها إلى هذه الدية، وفي الجملة يكون لها كل أحكام الصدقة، ولا صدقة إلا عن ظهر غنى.
بقي أن نبين الحكمة في هذه العقوبة : لماذا كانت العقوبة أولا ؟ ولماذا كانت بهذا الشكل ؟ ! أما عن شرعية العقوبة، فحكمتها واضحة وهي تربية الناس على الاحتراز وصيان الأنفس، وحسبك مثلا في عصرنا أننا نرى استهانة سائقي السيارات بالأنفس لنقص العقوبة على جريمة القتل الخطأ، فكان التقصير في تحرزهم واضحا، ولأن من المقررات الشرعية ألا يذهب دم في الأرض الإسلامية هدرا، وقد قال في ذلك الزيلعي من فقهاء الحنفية : الضمان في الخطأ بضرورة صون الدم من الإهدار، ولولا ذلك لتخاطأ كثير من الناس، وأدى إلى التفاني، ولأن النفس محترمة، فلا تسقط بعذر التخاطؤ، فيجب المال صيانة لها من الإهدار.
وأما السبب في كون العقوبة على هذا النحو، فقد أشرنا من قبل إلى أنه قد اعتدى على الجماعة بتقصيره من التحرز، فوجب عليه أن يعوض الجماعة الإسلامية عما فقدت، واعتدى على الأسرة فثكلت عائلها أو وليها، فكان لابد من تعويضهما، فأما تعويض الجماعة فبإعتاق رقبة مؤمنة، لأن تحرير العبد كأنه إحياء له، إذ الحرية هي الحياة ولكنه أفقد الجماعة عنصرا عاملا فيها، فكان لابد من تعويضها بعنصر عامل لها، والعبد عمله لسيده، أما الحر فعمله لجماعته، واعتداؤه على الأسرة كان تعويضها عنه ذلك المال المدفوع.
هذه حال الاعتداء بالخطأ على المؤمن في دولة الإيمان. أما إذا كان المؤمن ينتمي إلى الأعداء فإن الدية لا تدفع. قال تعالى :
﴿ وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ﴾ أي أنه إذا كان ينتمي إلى الأعداء، فإن الدية لا تدفع. لأن أموال الأعداء وأرواحهم غير مصونة، ولأن إرسال الدية إلى قومه تقوية لهم على المؤمنين، فلا تعوض أسرة القتيل، ولكن تعوض الجماعة الإسلامية بالحرية التي تمنح لواحد منها تعويضا عما فقدت.
والحال الثالثة : إذا كان المقتول من قوم بينهم وبين المؤمنين عهد وميثاق، وفي هذا تدفع الدية إلى أهله، ولذا قال سبحانه :﴿ وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ﴾، والذين ميثاق فريقان : فريق يعيش بين المؤمنين، وفريق يعيش في دولة أخرى بينها وبين المسلمين عهد، فأما الفريق الأول فهم الذين لهم ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، وهذا أقوى عهد موثق ومؤكد، وبمقتضى حكم الإسلام لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ويسمون ذميين. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"من آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة، ومن خاصمته خصمته"٣، ولقد كان الراشدون رضي الله عنهم يعْنَوْن بأمرهم، ويقيمون العدالة فيهم. وأما الفريق الثاني فإنهم أقوام لهم دولة قائمة، وبينهم وبين المسلمين عهد موثق بعدم الاعتداء وإقامة السلم فيما بينهم وبين المسلمين، وقد يكون بينهم بين المسلمين حلف على التناصر إذا حصل اعتداء.
وهنا إشارة بيانية تؤكد حرص الشرع على دفع الدية لأهل المقتول ولو كانوا غير مسلمين، وهي تقديم الدية على الكفارة ؛ لأنها نفيت في حال القاتل الذي ينتمي إلى الأعداء فكان لابد من توكيدها حتى لا يت
١ رواه بهذا اللفظ الطبراني عن ثوبان رضي الله عنه، كما في الفتح الكبيرج٢، ص١٢١، برقم(٦٦١٩)، والجامع للسيوطي ج٤، ص٤٠١ برقم(١٢٥٦)..
٢ رواه الترمذي وصححه: الديات- في المرأة هل ترث من دية زوجها(١٤١٥)، وأبو داود: الفرائض(٢٩٢٧)، وابن ماجه: الديات(٢٦٤٢)، وأحمد: مسند المكيين- مسند الضحاك بن سفيان رضي الله عنه(١٥٣١٨)عن سعيد بن المسيب والضحاك بن سفيان الكلابي رضي الله عنهما..
٣ رواه الخطيب عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا كما في الفتح الكبير: ج٦، ص٤٨١برقم(٢٠٠٣٨).
.

﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما( ٩٣ ) ﴾.
في الآية السابقة بين لله -سبحانه وتعالى- حكم القتل الخطأ، وفصل القول فيه تفصيلا، فذكر الحكم إذا كان المقتول من قوم أعداء للمؤمنين، والحكم إذا كان من قوم بينهم المسلمين ميثاق، والحكم إذا كان المقتول من المؤمنين الذين ينتمون إلى الدولة الإسلامية. وفي هاتين الآيتين يبين الله سبحانه أمرين : أولهما- حكم قتل المؤمن متعمدا، وثانيهما- وجوب تجنب الخطأ عند الجهاد، فإن الجهاد والضرب في الأرض مظنة قتل غير المقاتل، أو غير المتعدي، وفي حال قتل غير المعتدي يكون القتل عمدا، ولكن على أساس وصف من الأوصاف المسوغة للقتال، فوجب الاحتراز منه. ولأن فيه نوعا من القصد والتعمد، جاء بعد حكم القتل المتعمد، الذي بينه سبحانه وتعالى بقوله :
﴿ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ﴾ تبين تلك الجملة السامية عظم الجرم في القتل المتعمد المقصود، سواء أكان بآلة من شأنها أن تقتل كالرصاصة أو السيف أو السكين، أم كان بآلة ليس من شأنها أن تقتل، ولكن قصد بها القتل، وكان الضرب في مقتل، فإن القتل في كلتا الحالين مقصود متعمد، يعلم الله تعمده وقصده. والتفرقة بين ما يكون بآلة القتل، وأخرى لا تقتل، هي تفرقة في الأحكام الدنيوية. والآية هنا تبين الحكم الأخروي، وهو الدخول في جهنم. أما الحكم الدنيوي، وهو القصاص الذي ثبت بآية القصاص، وقال فيه سبحانه :﴿ ولكم في القصاص حياة( ١٧٩ ) ﴾( البقرة )، فهو الذي فرق فيه بعض الفقهاء بين القتل الذي يكون بآلة من شأنها أن تقتل، والقتل بآلة لا تقتل، ومع ذلك لم يفرق في الحكم مالك إمام دار الهجرة بين الأمرين، مادام قد ثبت العدوان والقصد إلى القتل.
وإن الجزاء الأخروي صارم قاطع، فهو جهنم والمكث فيها على الدوام، إن كان قد استباح ذلك، ولم يؤمن بحرمته ولم يتب عن جريمته ؛ ولا نجد قاتلا يقتل غيره إلا وهو مستحل لدمه مستبيح له ! أفلا يستحق بهذا أن يخلد في النار ما لم يتب ويقدم رقبته، أو يعفو عنه أولياء المقتول ؟ والمعتزلة الذين يقولون : إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ويخلد في النار، يستدلون بهذه الآية. ونحن نقول : إن خلوده في النار ليس لمجرد الفعل، بل لاستباحة القتل وإنكاره التحريم. ولا يوجد قاتل عند ارتكابه تلك الجريمة التي تعد أكبر جريمة في الوجود، لا يستبيح فعله، فكانت العقوبة على الاستباحة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما يروى عنه :"لزوال السماوات والأرض أهون عند الله من قتل امرئ مسلم بغير حق"١.
﴿ وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ﴾ هاتان عقوبتان معنويتان، وثالثة مادية، أما المعنويتان فهما الطرد من رحمته الذي عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله"ولعنه"، وأي عقوبة أعظم من الطرد من رحمة الله تعالى، ونفحاته القدسية، ووادي رحمته المشرق المنير ؟ والعقوبة المعنوية الثانية هي غضب الله تعالى، وغضب الله من أشد عقابه، كما أن رضوانه أعظم ثوابه، وكيف لا يغضب رب العالمين من يهدم ما بناه سبحانه في خلق الإنسان الذي سواه وعدَّله في أحسن تقويم ؟ !.
وأما العقوبة المادية، فقد أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله :﴿ وأعد له عذابا عظيما ﴾، وهذه إشارة إلى عظم الجريمة، لأن العقوبة العظيمة لا تكون إلا لجرم عظيم، وأي جرم أعظم من هدم بناء الإنسان الذي سجد له الملائكة، ولعن من أجله إبليس وطرد من رحمة الله ؟ حتى لقد قال بعض العلماء : إن من قتل قتلا عمدا لا تقبل له توبة، ونحن نخالف في ذلك ونقول : تقبل التوبة بحقها، وهي أن يقدم رقبته جزاء جريمته، أو يعفو ولي الدم.
وأما العذاب العظيم، فهو ما قرره سبحانه وتعالى في الدنيا من قصاص، وفي الآخرة من نيران شديدة، وقد قال : أليس هذا تكرارا لقوله تعالى :﴿ فجزاؤه جهنم خالدا فيها ﴾ ونقول، لا تكرار ؛ لأن هذا الجزاء في مقابل جزاء من قتل خطأ وفي هذا الجزء الأخير بين سبحانه أن هذا الجزاء معد بالفعل يوم القيامة، فبين سبحانه وتعالى العقوبة وتنفيذها، وأنها لا هوادة فيها، ولا تسامح بالنسبة لمرتكبها.
وإن القتل الخطأ الذي بين القرآن الكريم أحكامه في الآيات السابقة، قد يكون سببه أن يقتل مُحرَّم الدم، على أساس أنه مباح الدم، كمن يلقى طائفة من الناس في بادية يحسبهم من الأعداء الذين يباح دمهم، لاعتدائهم على المسلمين، فيقتل منهم أحدا ؛ فيكون الخطأ : ولذا نبَّه سبحانه إلى توقّي المجازفة في القتل، فلا يسارع المؤمن إليه، لأن الأصل في الدماء أنها محرمة، ولا تباح إلا عند الاعتداء ؛ ولذا قال سبحانه بعد الآية السابقة :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا( ٩٤ ) ﴾.
١ رواه بهذا اللفظ الترمذي: الديات- ما جاء في تشديد قتل المؤمن(١٣٩٥) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه مرفوعا وموقوفا وقال: والموقوف أصح من المرفوع، كما رواه النسائي: تحريم الدم- تعظيم الدم(٣٩٨٧) مرفوعا..
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا( ٩٤ ) ﴾.
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أحكام القتل الخطأ، نبه سبحانه إلى توقي المجازفة في القتل فلا يسارع المؤمن إليه، لأن الأصل في الدماء أنها محرمة ولا تباح إلا عند الاعتداء. ولذا قال جل جلاله :
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ﴾ الضرب في الأرض معناه السير فيها، والضرب في سبيل الله معناه مجاهدا في سبيله تعالى، وكل جهاد في الإسلام لا يعتبر جهادا إلا إذا كان في سبيل الله تعالى، أي لإعلاء كلمة الحق والدين، ورد المعتدين. فسبيل الله هو سبيل الحق، وكل دعوة إلى الخير هي سبيل الله تعالى ومعنى "تبينوا" : تثبتوا، وهناك قراءة نصها :"فتثبتوا"١.
ومعنى النص الكريم : يا أيها الذين أذعنوا للحق وصدقوا به، وخرجوا مجاهدين في سبيل الله، إذا سرتم في جهادكم، فتعرَّفوا من يحاربكم ومن يعاديكم، ولا تضعوا السيف في موضع البرء والسقم، في المقاتل وغير المقاتل، في المحارب وغير المحارب، ولا تتعجلوا بالقتل عند الشك في أن من تقتلونه عدو أو ولي، أو عند احتمال ألا يكون عدوا ؛ فإن الأصل في الدماء التحريم، وكل شك يمنع القتل، إذ القتل إنما هو لدفع الاعتداء، فلا يقتل إنسان إلا عند تأكد الاعتداء منه، أو نيته عنده، ومن لم يثبت، فقد خالف أمر الله واعتدى.
وروي في سبب نزول هذه الآية روايات مختلفة، كلها يتلاقى عند معنى واحد، وهو أن المجاهدين الأطهار قتلوا رجلا نطق بالشهادتين :"لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، بعد أن استمكن المسلمون من رقبته، أو قال للمجاهدين : السلام عليكم، فقتلوه، وقد جاء في ( أحكام القرآن ) للقرطبي : في سنن ابن ماجة عن عمران بن حصين، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين إلى المشركين بعثا، فقاتلوهم قتالا شديدا، فمنحوهم أكتافهم، فحمل رجل على رجل من المشركين فلما غشيه قال : أشهد أن لا إله إلا الله، إني مسلم، فطعنه فقتله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، هلكت ! قال :"وما الذي صنعت، مرة أو مرتين" ؟ فأخبره بالذي صنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه... فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه"٢.
ويروى مثل ذلك بالنسبة لأسامة بن زيد، فقد قتل رجلا نطق بالشهادتين، فلامه النبي صلى الله عليه وسلم فقال أسامة : لقد قالها تحت حرِّ السيف ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"هَلا شققت عن قلبه"٣.
ولعل وقائع قد وقعت من هذا الصنف والقتال شديد، وقد حمى الوطيس، فجاء الأمر الكريم بالتثبت.
وليس النطق بالشهادتين فقط هو الذي يحقن الدم، بل إعلان السَّلام وحده كاف لمنع القتل، ولذا قال سبحانه :
﴿ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ﴾ السلام معناه الأمن، وقد أطلق على اللفظ الذي يدل عليه، وهو تحية الإسلام، "السلام عليكم". وأطلق على استسلام العبد لربه. و"ألقى السلام"، معناه قاله، أو قدمه. والنص الكريم جاء للنهي عن قتل من ألقى السلام وقدمه بالاستسلام، سواء أكان مؤمنا، أم غير مؤمن، وسواء أنطق بالشهادتين مع ذلك، أم لم ينطق. والنهي عن القتل بالنهي عن رد الكلام الذي قاله معلنا السلام، ورد الفعل الذي يدل على الاستسلام، فمعنى النص الكريم لا تردّوا إلقاء السلام وفعله الذي يدل عليه، قائلين : لست مؤمنا، أي لست مصدقا للشهادتين إن نطقت بها، أو لست من صفوف المؤمنين حتى يحرم على أنفسنا قتلك، فمعنى ﴿ لست مؤمنا ﴾ على هذا يشمل أمرين : أحدهما إنكار الإيمان إذا ادعاه، والثاني أن يقال له مع استسلامه، وإن لم يعلن إسلامه : نقتلك لأنك لست من قومنا، أو من صفوفنا !. وبذلك ينهى الإسلام عن القتل ما دام قد منع الاعتداء. وقد كان أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب ينهى عن قتل من أعلن الاستسلام ولو بالإشارة، فقد أرسل إلى قائد جيشه، الذي كان يقاتل في فارس ينهى عن أن يقتل أحد أشار بالاستسلام، ويحذر من يقتله بأنه سيقتله به، لأنه اعتدى، والإسلام ينهى عن الاعتداء، ولو في القتال، ولذا قال سبحانه :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين( ١٩٠ ) ﴾( البقرة ).
وإن الذين يقتلون من يطلب الأمان مستسلما، أو من يعلن الإسلام مسلما، يخرج قتالهم عن معنى الجهاد في سبيل الله تعالى إلى معنى آخر يجافيه، وهو أن يبتغوا عرض الدنيا بالمال يطلبونه، أو بإعلان قوتهم، وليس مقصد الإسلام من القتال، إنما مقصده إعلاء كلمة الله تعالى، وبيان كلمة الحق، ولذلك قال سبحانه :
﴿ تبتغون عرض لحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة ﴾ الابتغاء الطلب الشديد، والرغبة الملحة، وعرض الدنيا، جميع متاعها، وسمي متاع الدنيا عرضا ؛ لأنه مهما يكن زائل غير ثابت، فهو عارض لا يدوم ومنه قول علي -رضي الله عنه :"الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البَرُّ والفاجر"٤ ومنه ما روي في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :"ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس"٥وقد أخذ بعض العلماء الشعراء هذا المعنى وضمنه بيتين من الشعر فقال :
تقنّع بما يكفيك واستعمل الرضا فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي
فليس الغنى عن كثرة المال إنما يكون الغنى والفقر من قِبَل النفس
ومعنى النهي في النص السابق مع هذا النص الكريم : لا تنكروا السلام والأمن على من يلقيه إليكم، مبتغين متاع الدنيا ؛ لأنكم خرجتم بذلك عن الجهاد في سبيل الله تعالى إلى طلب المال والدنيا، وما لأجل ذلك كان القتال، بل قاتلوا في سبيل الله بالحق، واطلبوا الله بفعالكم، واطلبوا ما عنده سبحانه، فإنه إذا كان ذلك كانت المغانم الحلال، وإنها لكثيرة ولذا قال سبحانه بعد ذلك النهي :﴿ فعند الله مغانم كثيرة ﴾ المغانم جمع مغنم، وهو ما يصل إلى الإنسان من طريق حلال، ويطلق في القتال على ما يأخذه المحاربون من أعدائهم، غالبين لهم بهذا الأخذ، فهو يطلق على ما يؤخذ في أثناء القتال أو في أعقابه، قبل أن تنتهي الحرب، ويتم الصلح أو الغلب النهائي. وهذا وعد من الله تعالى بكثرة المغانم، ولكن وعد الله مشروط بالصدق في القتال، وطلب ما عنده سبحانه.
وقد أكد سبحانه وتعالى النهي عن قتل من أعلن الإسلام أو الاستسلام بقوله سبحانه :
﴿ كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا ﴾ بهذه الحال التي ترونها في المشركين الآن، من جحود بالحق وكفر به، كنتم من قبل، حتى هداكم الله تعالى، وإذا كنتم كذلك فتبينوا حال الذين تقاتلونهم، عسى أن يكونوا قد هدى الله بعضهم كما هداكم، وأن يكون قد من عليهم كما من عليكم، فلا تستكثروا على مشرك أن يؤمن، ولو كان ذلك في حومة الوغى، فنور الهداية مفتوح في كل مكان لا يغلق باب دونه، والله يهدي من يشاء بإذنه. وفوق ذلك، فإنه كان يتصور منكم من قبل في الوقت الذي كنتم فيه كافرين أن تعتدوا على المؤمنين، وتضطركم حال القتال، إلى أن تستسلموا طالبين الرحمة، فارحموا من وقع في مثل هذه الحال.
وقد كرر الأمر بالتبين، لأنه في الأول كان عاما يستدعي التثبت قبل القتال، وفي أثنائه وبعده، فلا يهاجمون إلا من يتأكدون منه الاعتداء، والأمر هنا يتضمن تبين حالهم في الماضي، وحال الكافرين في الحاضر، كما يتضمن التثبت عند الاستسلام، وعند إعلان الإسلام. فالتبين لمعرفة الحال قبل القتال وبعده وفي أثنائه يتضمن الموازنة، ويتضمن التبين عند القتال وبعده فقط فبينهما أمر مشترك، وكلاهما ينفرد بتبين خاص. وفوق ذلك، فإن التبين هنا اقترن بتذكير وإنذار إذا لم يكن، ولذا قال تعالى :
﴿ إن الله كان بما تعلمون خبيرا ﴾ أي أن الله تعالى متصف بالعلم الدقيق، الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، فالخبرة هي العلم الدقيق بالأشياء. وقد اقترن ذلك الوصف بأعمال المؤمنين المخاطبين بذلك الخطاب لبيان مراقبة الله تعالى الدائمة لأعمالهم، دقيقها وجليلها، ولأحوال نفوسهم ما ظهر منها وما بطن، وأنه لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض. وقد قدم سبحانه وتعالى لفظ "بما تعملون" على الوصف العام، ليراقبوا أنفسهم، فقد علموا أن الله تعالى يراقبهم وأنهم إذا لم يراقبوه في تصرفاتهم مع خلقه فهو تعالى يراقبهم. اللهم إنا نضرع إليك ألا تمكننا من ظلم أحد من عبادك، إنك على كل شيء قدير.
١ وبها قرأ حمزة والكسائي وخلف وقرأ الباقون﴿فتبينوا﴾. غاية الاختصار، ج٢، ص٤٦٦.
.

٢ سنن ابن ماجه: الفتن- الكف عمن قال لا إله إلا الله(٣٩٣٠)عن عمرا بن حصين رضي الله عنه..
٣ عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقال لا إله إلا الله وقتلته؟!"، قال قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح قال: "أفلا شققت عن قبله حتى تعلم أقالها أم لا!"، فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ. قال: فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البُطَين -يعني أسامة- قال: قال رجل: ألم يقل الله﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله﴾ فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة. (رواه مسلم: الإيمان- تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله(٩٦)، وبنحوه البخاري: الديات (٦٨٧٢)، كما رواه أبو داود: الجهاد- على ما يقاتل المشركون(٢٦٤٣)، وأحمد: مسند الأنصار- حديث أسامة بن زيد(٢١٢٩٥)..
٤ عن شداد بن أوس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيها الناس إنما الدنيا عرض حاضر، يأكل منا البر والفاجر، والآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك عادل، يحق فيها الحق ويبطل الباطل". رواه البيهقي ج٤، ص٤٦٥(٥٨٣٧)، كما رواه الطبراني في الكبير..
٥ متفق عليه؛ رواه مسلم: الزكاة- ليس الغنى عن كثرة العرض(١٠٥١)، والبخاري: الغنى غنى النفس(٦٤٤٦) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما( ٩٥ )درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما( ٩٦ ) ﴾.
في الآيات السابقة كانت الدعوة إلى الجهاد، وتخللت هذه الدعوة آيات في وجوب الحذر من المنافقين، وفي بعض العلاقات الدولية، وأحكام الخطأ إذا كان المقتول معصوم الدم، ثم جاء في السياق قتل المؤمن عمدا، وعظم الجرم فيه، وإنزال العقاب الشديد بمن يرتكب ذلك الجرم. وكان هذا بمثابة التمهيد لوجوب الاحتراس من قتل المؤمن إذا استعرت الحرب واشتد أوارها، فكان على المؤمنين إذا ضربوا في الأرض ألا يضعوا السيف في موضع البرء والسقم. وفي هذه الآيات الكريمات يبين سبحانه وجوب الخروج للجهاد إن وجدت دواعيه، وأن الأجر العظيم للذين يخرجون مجاهدين، وأنه لا يصح أن يقعد مؤمن عن الجهاد وهو قادر عليه، فقال تعالى :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ﴾
﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ﴾ الجهاد مصدر جاهد مجاهدة وجهادا، وهو بذل أقصى الجهد في مقابلة من يبذلون أقصى الجهد للاعتداء، فهو مبادلة لارتكاب المشاق، وهو في سبيل الله لا يكون إلا لنصرة الحق وتأييده والدفاع عنه، وأكثر ما يطلق في لغة القرآن والحديث وعرف أهل الإسلام، يكون على القتال في سيل الدين. والجهاد أعم من القتال، وأخص منه، فبينهما عموم وخصوص من وجه كما يقول المناطقة، فهما يجتمعان في القتال للدفاع عن الحق. والقتال قد يكون في البغي على الحق، ولا يكون الجهاد بمقتضى العرف الإسلامي إلا ردا للاعتداء. والجهاد لا يكون بالقتال وحده، بل يكون ببذل المال في تأييد الحق، وبالبيان في الدعوة إليه، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"جاهدوا المشركين بأنفسكم، وأموالكم وألسنتكم"١. ومعنى النص الكريم : لا يستوي الذين قعدوا عن الجهاد لإعلاء كلمة الحق، ولم يخرجوا مناصرين له بأنفسهم وأموالهم، مع الذين قعدوا عن ذلك، من غير ضرر ملازم لهم، كمرض مزمن أو عمى أو شلل أو عرج، أو الذين لا يجدون ما ينفقون منه في إعداد العدة، ولا يوجد من يقدم لهم السيف والزاد والراحلة. وقد بين الله سبحانه وتعالى أولى الضرر في آية أخرى، فقال :﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم( ٩١ )ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون( ٩٢ ) ﴾( التوبة ).
ونجد في هذا النص الكريم أن الإخلاص مع الاستعداد وعدم القدرة على التنفيذ، قد يغني عن الجهاد، أو على الأقل يسقط المؤاخذة، ولذا قال تعالى :﴿ وإذا نصحوا لله ورسوله ﴾ أي أخلصوا، وبذلوا في سبيل الله أقصى ما يستطيعون بذله.
ونجد في النص الكريم إشارة إلى أن الجهاد بالمال جهاد، وإلى أن القعود نوعان : أولهما : قعود مادي حسي، بمعنى ألا يخرج من الدار والعدو متأهب لمنازلة أهل الإسلام، أو غزوهم في عقر دارهم، وما غزى قوم في عقر دارهم، إلا ذلوا، كما قال فارس الإسلام علي -رضي الله عنه-، والثاني : قعود عن البذل والإنفاق في سبيل الحرب، وهذا قعود عن الجهاد بالمال، وهو لا يقل خطرا عن القعود والعدو قد أخذ الأهبة، ولذلك عدَّ القرآن الكريم البخل في هذه الحال مؤديا إلى التهلكة، ولذلك قال تعالى :﴿ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين( ١٩٥ ) ﴾( البقرة ).
ولا شك أن أكمل الجهاد ما كان بالمال والنفس، كما هو الشأن في جهاد كثير من الصحابة، كأبي بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من كبار الصحابة الذين كان لهم مال بذلوه، وكان لهم بلاء في ميدان القتال، فقاتلوا في سيل الله بأنفسهم.
والآية تشير إلى وجوب إعداد الشباب في الأمة للجهاد، بأن يتربوا منذ طفولتهم على أساليب الحرب والنزال، فإنه لا يسوغ استنفار طائفة إن حملت السلاح لا تستطيع الضرب، ولذلك وردت الآثار بتعليم الشباب الرماية، والدربة على القتال، ويعد ذلك ضروريا من ضروريات التعليم الديني. وإذا كان الإسلام قد منع العكوف في الصوامع للعبادة وحدها، فقد أمر الأمة كلها بالجهاد في سبيله، أو الاستعداد له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"رهبانية أمَّتي الجهاد في سبيل الله"٢.
وإذا كانت المساواة بين القاعد والمجاهد غير سائغة في حكم العقل والشرع، فالفضل في الدرجة للمجاهدين، ولذا قال سبحانه :
﴿ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى ﴾ وإذا كان التساوي بين المجاهدين والقاعدين من غير ضرر يمنعهم غير مستساغ، فإن الله تعالى فضل المجاهدين بالمال والنفس على القاعدين ذوي الضرر، وجعلهم في درجة أعلى من القاعدين لعذر، ٣ والمراد بالدرجة أن يكون لهم فضل أعظم، ومكانتهم عند الله من ذوي الأعذار ؛ وذلك لأن جهاد هؤلاء عملي إيجابي، وموقف ذوي الأضرار سلبي، هو يعرضون أنفسهم للتلف، وأولئك لم يتعرضوا له، ويقدمون النفيس من المال، وأولئك لم يقدموه، ومع ذلك فإن الله تعالى وعد كلا من الفريقين الحسنى، أي العاقبة الحسنة، حيث لا يكون ثمة عقاب يوم القيامة بل، يكون النعيم المقيم لهما معا. والله تعالى يثيب المرء بمقدار نيته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم، أولئك قوم حبسهم العذر"، وقد كان النبي يقيم عبد الله ابن أم مكتوم على المدينة، وهو أعمى، لكي ينتفع بكل القوى، وليكون لذوي الأعذار فضل العمل.
وإن تفضيل الدرجة على القاعدين ذوي الضرر لكي يسير القادر ولو نسبيا، فلا يقعد لضرر وهمي، أو عذر غير قهري، فكثير من الناس يتوهمون أعذارا، حيث لا عذر.
هذا فضل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين ذوي الضرر، وقد رحم الله الضعفاء، فجعل لهم الحسنى كالمجاهدين وإن كانوا دونهم فضلا، أما الذين قعدوا من غير عذر فقد بين سبحانه فضل المجاهدين عليهم بأنه درجات، فقال سبحانه :﴿ وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ﴾.
كان التفضيل الأول بالدرجة الواحدة، وذلك النص في تفضيل الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير ضرر. فالمجاهدون بأموالهم وأنفسهم مفضَّلون عليهم بأجر عظيم، وأنى يكون من قعد بين أهله آمنا في سربه، كمن ارتكب المشقة وترك الأهل والولد !.
ونجد النص الكريم لم يذكر الذين قعدوا بمذمة صريحة، وفي هذا إشارة إلى أن الغزو والخروج للجهاد فرض كفاية، وليس فرض عين، وذلك إذا لم يكن المسلمون في حاجة إلى كل القادرين. ومهما يكن، فالخارجون للجهاد لهم الفضل الأعظم. وقد بين سبحانه عظيم الأجر بأنه يرفع المجاهد درجات عند الله تعالى، فقال سبحانه مبينا ذلك :﴿ درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ﴾.
١ رواه أبو داود: الجهاد- كراهية ترك الغزو(٢٥٠٤) وأحمد: باقي مسند المكثرين(١١٨٣٧)، والدارمي: الجهاد- جهاد المشركين باللسان واليد، كما رواه النسائي: الجهاد- وجوب الجهاد (٣٠٩٦) ولفظه عند النسائي: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم" كلهم عن أنس ابن مالك رضي الله عنه..
٢ سبق تخريجه..
٣ رواه البخاري: المغازي- نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر(٤٤٢٣)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، كما رواه مسلم وغيره عن جابر رضي الله عنه بلفظ مقارب، ولفظ مسلم: الإمارة- ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر(١٩١١)عن جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غَزاة فقال: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض" وفي رواية: "إلا شَرِكوكم في الأجر"..
﴿ درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ﴾
في الآيات السابقة كانت الدعوة إلى الجهاد، وتخللت هذه الدعوة آيات في وجوب الحذر من المنافقين، وفي بعض العلاقات الدولية، وأحكام الخطأ إذا كان المقتول معصوم الدم، ثم جاء في السياق قتل المؤمن عمدا، وعظم الجرم فيه، وإنزال العقاب الشديد بمن يرتكب ذلك الجرم. وكان هذا بمثابة التمهيد لوجوب الاحتراس من قتل المؤمن إذا استعرت الحرب واشتد أوارها، فكان على المؤمنين إذا ضربوا في الأرض ألا يضعوا السيف في موضع البرء والسقم. وفي هذه الآيات الكريمات يبين سبحانه وجوب الخروج للجهاد إن وجدت دواعيه، وأن الأجر العظيم للذين يخرجون مجاهدين، وأنه لا يصح أن يقعد مؤمن عن الجهاد وهو قادر عليه، فقال تعالى :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ﴾
هذا بيان للأجر العظيم الذي يعلو به المجاهد بنفسه وماله عن القاعد كسلا أو تراخيا، أو لأنه سبقه غيره إلى الجهاد. وهذا الأجر مكون من عناصر ثلاثة :
أولها : أن الله تعالى يرفعه درجات، ويقربه إليه سبحانه منازل يوم القيامة، فيكون في مرتبة الصديقين والأنبياء والصالحين، إذ إن الشهداء الذين أخلصوا النية في جهادهم، والمجاهدين الذين تعرضوا لشرف الاستشهاد لهم المنازل العليا، والمقامات الكبرى. ونُكرت الدرجات لبيان أنها يحدها الحصر، ولا يعيِّنها المقدار، بل هي شرف عظيم لا يناله إلا المقربون الأبرار.
ثانيها : أن الله تعالى يغفر له ما تقدم من ذنبه، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وأي حسنات أعظم من تقديم النفس والنفيس.
ثالثها : الرحمة تنزل بالمجاهد، فإنه يكون مغمورا برحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة : ففي الدنيا براحة الضمير وأداء الواجب، والإحساس بأنه كان سببا للرحمة بالمؤمنين، إذ وقاهم شر العدو ومنعه من أن يتحكم فيهم، ودفع عنهم الفتنة في دينهم، وجعل الدين خالصا لوجهه الكريم، ومن الفساد في الأرض. وفي الآخرة بالثواب العظيم.
وقد ختم الله تعالى النص بأن الغفران والرحمة وصفان دائمان لذاته العلية، لا ينفصلان عنها، وفي ذلك دعوة لكل من يكسل عن الجهاد لأن يعمل، وللعاصي ليتوب، فإن باب المغفرة مفتوح قد فتحه الغفور، وباب الرحمة متسع قد وسعه الرحيم. اللهم اكتبنا في عبادك التائبين، واغفر لنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا( ٩٧ ) إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا( ٩٨ )فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا( ٩٩ ) ﴾.
في الآيات السابقة ذكر سبحانه خروج المؤمنين مجاهدين، وما يجب أن يكون عليه المجاهد من حذر، فلا يثق بخائن أو منافق ولا يضع سيفه على من يلقي إليه السلام، وذكر أن الخروج للجهاد واجب، وأن القعود لا يجوز إلا عند عدم الحاجة أو المعذرة. والقعود قسمان : قعود عن الجهاد، وقعود عن الهجرة. وإذا كان القعود الأول فيه ملامة إن لم يكن لمعذرة، فالقعود الثاني فيه ذلة، وفيه إثم الرضا بالذلة، ولذا قال تعالى :﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ﴾
﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ﴾ معنى توفاهم الملائكة : تتوفاهم فهو فعل ماض أريد به المستقبل لتأكد وقوعه، كقوله تعالى :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون( ١ ) ﴾( النحل ) والمعنى : أن الذين تتوفاهم الملائكة الذين نيط بهم قبض الأرواح، قد توفوا في حال ظلمهم لأنفسهم، بسبب رضاهم بالذل والهوان، باستمرار إقامتهم في أرض لم يستطيعوا إقامة دينهم فيها، أو لم ينضموا إلى أهل الإسلام ليكثر بهم المسلمون، ويعظم جهادهم. وقد روى البخاري أنها نزلت في ناس من المسلمين لم يهاجروا، فكانوا مع المشركين يكثر بهم سوادهم، وكانوا يخرجون معهم في القتال، فيصيبهم المسلمون بسهامهم أو سيوفهم.
ومهما يكن سبب النزول، فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، فإن كل مؤمن يعيش في أرض يستذل فيها، أو لا يستطيع إقامة حق دينه فيها، أو يعامل بغير الأحكام الإسلامية يكون من الواجب عليه أن يهاجر إلى الأرض التي يكثر فيها سواد المسلمين. وقد فهم هذا المعنى العام "الزمخشري"، فقد قال في ذلك :( وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب، لبعض الأسباب، والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله تعالى، وأدوم على العبادة، حقت عليه المهاجرة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم :"من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبرا من الأرض، استوجب الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم، ونبيه محمد" )١، وقد ذكر الزمخشري أنه فعل ذلك صلى الله عليه وسلم إذ جاور بيت الله الحرام، وقال جار الله الزمخشري داعيا ربه :( اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني، فاجعلها سببا في خاتمة الخير ودرك المرجو من فضلك، والمبتغى من رحمتك، وصل جواري لك بعكوفي عند بيتك بجوارك في دار كرامتك يا واسع المغفرة )٢.
هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالإقامة في دار لا تحكم بالإسلام ولا يكون فيها قوة لأهل الحق- تسألهم الملائكة يوم القيامة، فيقولون لهم :﴿ فيم كنتم ﴾، ويقول الزمخشري إن المعنى : في أي شيء كنتم من أمر دينكم ؟ والسؤال للتوبيخ، ومؤداه إنكم لم تكونوا مستطيعين إقامة شئون دينكم، فكيف ترضون بذلك، وعندي أن معنى النص :﴿ فيم كنتم ﴾ في أي حال كنتم ؟ أكنتم في عزة أم في ذلة ؟ وكيف ترضون لأنفسكم الهوان، ولدينكم الدنية ؟. والاستفهام للتوبيخ أيضا كما قرر الزمخشري.
وقد أجابوا عن ذلك بما حكاه الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله :﴿ قالوا كنا مستضعفين في الأرض ﴾، ومعنى مستضعفين أنهم أريد ضعفهم وإذلالهم وعدم تمكينهم من إقامة الحق، لأن السين والتاء تدلان على طلب الضعف لهم من غيرهم، فهم يعتذرون بأن أعداء الدين أو المسيطرين عليهم أرادوا بهم هذا الضعف، وألزموهم إياه، فلم يستطيعوا عنه حولا !. وهذا اعتذار غير سليم، لأنهم كانوا في ذات أنفسهم ضعفاء، إذ رضوا بالذل والهوان، ولذلك قالت لهم الملائكة :﴿ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ﴾ والاستفهام هنا إنكاري أيضا، ومعناه : لقد كانت أرض الله تعالى واسعة، فلماذا لم تهاجروا إلى تلك الأرض الواسعة، حيث العزة، حيث الجهاد، وحيث يكثر سواد المسلمين، ويعتز أهل الإيمان ويكون المؤمنون بعضهم لبعض، ويكونون في الجهاد كالبنيان المرصوص المتماسك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :"المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا"٣.
وإن هذا النص الكريم يدل على أن المؤمن محاسب إذا رضي بالذل والدعة والعيش الناعم في غير أرض الإسلام، وأنه خير له أن يعيش في ظل الإسلام، وفي خشن العيش مع العزة، من أن يعيش في نعيم مع الذلة، ولذا قال تعالى في عقاب هؤلاء المنقطعين عن الإسلام :
﴿ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ﴾ أي إن هؤلاء الذين رضوا بالذل وظلموا أنفسهم، أو رضوا بأن يكونوا في قوة أعداء الإسلام، ولم يكونوا مع المسلمين، مدَّعين أن الضعف هو الذي أقعدهم- إذا كانوا قد ارتضوا الإقامة في مكان الهوان في الدنيا، فإن مأواهم الذي يأوون إليه في الآخرة هو جهنم، وهي مصيرهم الذي يصيرون إليه، ونهايتهم التي ينتهون إليها، وما أسوأ جهنم مآلا ونهاية ومأوى لمن يسيرون في طريقها، فأولئك جمعوا على أنفسهم هوان الدنيا وعذاب الآخرة !.
وإن هذا النص يوجب على المؤمن أن يعيش عزيزا كريما، تكون قوته للمؤمنين وعليه أن يجاهد في ذلك وإن لم يفعل فقد جنى على نفسه مرتين : إحداهما بهوان الدنيا، والثانية بعذاب الآخرة.
١ أخرجه الثعلبي من طريق الحسن مرسلا، وقد ذكر ذلك الآلوسي ج٥، ص١٢٥..
٢ ذكره الزمخشري ج١ ص٥٥٦ من الكشاف..
٣ متفق عليه، رواه البخاري: الصلاة- تشبيك الأصابع(٤٨١)، ومسلم: البر والآداب- تراحم المؤمنين وتعاطفهم(٢٥٨٥). عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه..
﴿ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ﴾
في الآيات السابقة ذكر سبحانه خروج المؤمنين مجاهدين، وما يجب أن يكون عليه المجاهد من حذر، فلا يثق بخائن أو منافق ولا يضع سيفه على من يلقي إليه السلام، وذكر أن الخروج للجهاد واجب، وأن القعود لا يجوز إلا عند عدم الحاجة أو المعذرة. والقعود قسمان : قعود عن الجهاد، وقعود عن الهجرة. وإذا كان القعود الأول فيه ملامة إن لم يكن لمعذرة، فالقعود الثاني فيه ذلة، وفيه إثم الرضا بالذلة، ولذا قال تعالى :﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ﴾
هذا استثناء من المصير الذي سيئول إليه هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، وهؤلاء هم ضعفاء حقا، فقد استضعفهم الأعداء وأرهقوهم، ولم تكن عندهم قوة تمكنهم من الإفلات من بقائهم في أرضهم وخروجهم إلى أرض الإسلام.
وهؤلاء ثلاثة أصناف :
أولهم : ضعفاء الرجال من الشيوخ الفانين، والمرضى وذوي العاهات، ونحوهم، ومن هؤلاء من كان لا يرضى بالذلة ولو فنى بالطريق ! ويروى أنه لما نزلت هذه الآية بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسلمي مكة، فقال ضمرة بن جندب لبنيه : احملوني، فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي إلى الطريق، والله لا أبيت ليلة بمكة !. فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة، وكان شيخا كبيرا فمات في الطريق !.
والصنف الثاني : النساء اللائي لا يستطعن الخروج، إما لثقلهن بالأولاد، وإما لخشية أمن الطريق، وإما لعدم وجود زوج يصحبها، ولا ذي رحم محرم يكون معها في الطريق.
والصنف الأخير : الولدان، وقد قال بعض المفسرين : إنهم العبيد ونحوهم، وذلك القول ليس بشيء، والأصح أنهم الصبيان، ويقول الزمخشري : إنهم الذين تجاوزوا الحلم قريبا. ويصح أن يكون المراد هؤلاء والأولاد الذين يتبعون آباءهم، أو الذين ليس لهم آباء يتبعونهم، وهم بهذا الضعف غير مسئولين، واستثناؤهم لعدم تكليفهم أو لأنهم لا قوة لهم على تفسير الزمخشري ؛ إذ إن ضعف الصبا لا يزال بهم، إذا كانوا قد بلغوا الحلم، ولم يدخلوا في دور الرجولة.
وقد ذكر سبحانه الوصف الذي استوجب استثناءهم، فقال سبحانه :﴿ لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ﴾، والحيلة المراد بها التحول من حالهم التي هم عليها إلى غيرها أي لا يستطيعون تحولا ولا انتقالا لعجزهم المطلق بمرض أو زمانة أو شيخوخة، أو يستطيعون التحول، ولكن لا يهتدون إلى الطريق الموصل كالصبيان القريبي العهد بالبلوغ، بحيث لو خرجوا هلكوا.
﴿ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ﴾
في الآيات السابقة ذكر سبحانه خروج المؤمنين مجاهدين، وما يجب أن يكون عليه المجاهد من حذر، فلا يثق بخائن أو منافق ولا يضع سيفه على من يلقي إليه السلام، وذكر أن الخروج للجهاد واجب، وأن القعود لا يجوز إلا عند عدم الحاجة أو المعذرة. والقعود قسمان : قعود عن الجهاد، وقعود عن الهجرة. وإذا كان القعود الأول فيه ملامة إن لم يكن لمعذرة، فالقعود الثاني فيه ذلة، وفيه إثم الرضا بالذلة، ولذا قال تعالى :﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ﴾
إن هؤلاء الذين استضعفوا حقا وصدقا بسبب ضعفهم، عسى أن يعفو الله عنهم، أي يرجى أن يكونوا محل عفو الله تعالى، فلا يؤاخذهم برضاهم بالبقاء في أرض الذل، فالفاء هنا هي فاء السببية، أي أن السبب في أنهم محل عفو الله، ورجاء العفو لهم، هو ضعفهم. وهنا بحثان تشير إليهما الآية الكريمة :
أولها : أن الهجرة هي الأمر المفروض الذي لا مناص منه إلا عند العذر الشديد، وإن الأعذار يقدرها أصحابها. ومع وجودها يرجى لهم العفو، ويرجونه ويقول الزمخشري : إن هذا يدل على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى إن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني. وهذا كله معناه أن الأصل هو الهجرة.
ثانيهما : أن الأمور التي يرخص بها في مقابل واجب مفروض، لا تكون مباحة في ذاتها، بل تكون في مرتبة العفو ؛ لأن المباح يكون مطلوبا على وجه التخيير، وهذه لا طلب فيها، بل رخص بها في الترك، والأصل وجوب الهجرة.
وقد ختم سبحانه وتعالى الآية بأنه كثير العفو عن عباده في الرخص التي يرخص لهم بها، كثير المغفرة لمن تاب وأناب، والله سبحانه وتعالى رحيم بعباده.
﴿ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسَعَة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما( ١٠٠ )وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوات وإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا( ١٠١ ) ﴾.
في الآيات السابقة كان بيان حال الذين رضوا بالذل والهوان والضيق، وأنهم مؤاخذون لذلك، إلا إذا كانوا عاجزين عن الانتقال. وفي هذه الآيات يرغب سبحانه في الهجرة عند الضيق كما ألزم بها عند الذل، فقال تعالى :﴿ ومن يهاجر في سبيل الله في الأرض مراغما كثيرا وسعة ﴾
﴿ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ﴾ يقال : أرغمه، إذا أوقعه في الرغام، وهو تراب الأرض، ورغم أنفه إذا نزل إلى التراب، وذلك كناية عن الذل بعد الكبرياء. وأرغم أنفه، إذا أنزل به. وراغمه، إذا حاول كل واحد منهما أن يرغم الآخر. والمُراغَم مكان المراغمة، وقد أطلق على مواضع طلب المعيشة والطريق في الأرض، وذلك إذا كان يصل إليه بعد مشقة، أو جهد غير معتاد، وهذا هو الذي يقال في معنى النص الكريم. فالمعنى على هذا : ومن يهاجر ويترك دار إقامته في سبيل الله تعالى طالبا ما عنده يجد طرائق كثيرة في الحياة، وإن كان لا ينالها إلا ببعض المشقة، فإنها قنطرة للراحة، وكذلك ينال سعة في رزقه وحياته ودينه، فلا يضيَّق في دينه عليه، ولا يعيش في ذلة وهوان، أو مقترا عليه في الرزق.
والآية تحث على الهجرة إذا توافرت أسبابها، وتشير إلى أن المهاجر، إن ترك محل العيش الرتيب، فإنه سيجد في النهاية مذاهب مختلفة للرزق، وسعة في الحياة وعدم الضيق، فهو معوض بلا ريب.
وتكون الهجرة في سبيل الله تعالى : إذا كانت للفرار من الفتنة في الدين، أو لدفع الذل وطلب العزة أو للخروج من أرض ليست تحت ولاية الإسلام إلى أرض فيها ولاية الإسلام، أو من أرض فيها ظلم سائد واقع على الأبدان أو المال ولو كانت من ولاية الإسلام، أو كانت الهجرة لتكثير سواد المسلمين في إقليم قل فيه عددهم، وهي الانتقال من أرض إسلامية مزدحمة بالسكان قد اكتظت بأهلها إلى أرض إسلامية خالية من السكان، فإنها تكون مظنة أن يأخذها أعداء المسلمين، فتكون قوة لهم على المسلمين. ففي كل هذه الأحوال تكون الهجرة في سبيل الله تعالى :
﴿ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ﴾ المهاجر في سبيل الله تعالى ينتقل من حمى الناس إلى حمى الله تعالى، فهو مهاجر منتقل إلى جانب الله تعالى ورسوله، فإذا كان يترك بيته وأهله وعشيرته، وجيرانه الذين عاش بينهم وعاشرهم، فهو يتركهم إلى جانب أعظم، ورحاب أوسع، وهو جانب الله تعالى ورسوله ورحابهما. وإن المهاجر إلى الله تعالى في سبيل تحقيق مقصد من مقاصد دينه التي نوهنا عنها سابقا ينال إحدى الحسنيين : إما الظفر بالسعة والعزة والمال، وإما الظفر بالأجر العظيم، وذلك إذا أدركه الموت، وهو في الطريق إلى الله.
وهذا قد قال فيه سبحانه :﴿ فقد وقع أجره على الله ﴾ أي فقد حق له الأجر العظيم عند الله تعالى. وقد تفضل سبحانه فاعتبر ذلك الأجر حقا عليه- سبحانه، ولذا عبر ب"على" في قوله :﴿ على الله ﴾ووقع هنا معناه ثبت وتقرر، وكأنه صار وثيقة على الله تعالى وذلك كله تأكيد لتحقق الأجر بهذه الهجرة.
وإن ذلك الأجر غفران لما مضى من ذنبه، ورحمة به بالنعيم المقيم في الآخرة، ولذلك قال تعالى :﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾ أي أن الوصف الدائم الثابت لله تعالى في الأزل أنه كثير المغفرة، ومن شأنه الرحمة بعباده، فبمقتضى رحمته فتح باب الهجرة وحثَّ عليه، وبمقتضى رحمته مكَّن للمهاجر من السعة والعمل في الأرض، وبمقتضى رحمته اعتبر نية الهجرة إذا صاحبها العمل كافية للثواب والأجر العظيم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وبدِّلهم من بعد خوفهم أمنا، ومن بعد ضعفهم قوة واهدهم للعمل بكتابك وسنة نبيك إنك سميع الدعاء.
وبعد أن ذكر أن الهجرة فيها عزة، وأن المهاجر يجد سعة من الرزق، يذكر سبحانه ما سهله تعالى للمهاجر أو المسافر من عبادة تيسيرا له، وتشجيعا على السفر، فقال سبحانه :﴿ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ﴾.
﴿ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ﴾
في الآيات السابقة كان بيان حال الذين رضوا بالذل والهوان والضيق، وأنهم مؤاخذون لذلك، إلا إذا كانوا عاجزين عن الانتقال. وفي هذه الآيات يرغب سبحانه في الهجرة عند الضيق كما ألزم بها عند الذل، فقال تعالى :﴿ ومن يهاجر في سبيل الله في الأرض مراغما كثيرا وسعة ﴾
الضرب في الأرض هنا هو السفر، وأطلق الضرب في الأرض على السفر، لأن المسافر يضرب برجله وبراحلته وبمتوكئه على الأرض في حركة مستمرة جزءا من النهار، فكان التعبير عن الضرب في الأرض بالسفر في موضعه، وهو مجاز واضح في علاقته.
ونجد التعبير في هذا النص الكريم يختلف عن قوله تعالى :﴿ ومن يهاجر في سبيل الله ﴾ في الآية السابقة في أمرين : أحدهما : أنه في الآية السابقة عبر عن السفر بالهجرة : والهجرة تقتضي الانتقال على غير عودة، وعلى نية الإقامة في مكان آخر يتخذه موطنا ومستقرا ومقاما دائما له، وفي هذا النص عبر عن السفر بالضرب في الأرض، أي أنه سفر على نية العودة غالبا، ولا يريد به اتخاذ مكان آخر موطنا له.
والثاني : أن الآية تنص على الهجرة في سبيل الله تعالى، والخروج من أرض الذل إلى أرض العزة، حيث يمكن أن تكون بالهجرة نصرة للمسلمين، يعد في سبيل الله، أما في هذه الآية، فإن السفر عام يشمل ما يكون في سبيل إقامة الدين، وما يكون في طلب الرزق، وزيارة ذوي الأرحام، وغير ذلك مما يعد قربة أو أمرا مباحا.
والنص الكريم يبيح قصر الصلاة، ووردت السنة بأن الصلوات التي عدد ركعاتها أربع ركعات يقصر إلى اثنين، وهي صلاة الظهر والعصر والعشاء، والنص الكريم قد اقترن القصر فيه بشرط مخافة العدو أن يفتن المؤمنين في سفرهم، بأن يكون المؤمنون غير آمنين من أن يدهمهم عدو في سفرهم، فهم يقصرون الصلاة، حتى يكونوا في حال استعداد مستمر، ولا تشغلهم الصلاة عن الحذر منه. وقد قوي هذا بأن الآية الكريمة التي أعقبت هذه الآية كانت خاصة بصلاة الخوف التي تكون في الميدان، بمقتضى ظاهر النص يكون القصر عند الخوف من العدو، وأن القصر مع صلاة الخوف يكون عند لقاء العدو.
ومعنى الفتنة هنا هو إنزال الأذى بالمؤمنين، بأن يجعلهم في حال شدة، وينزل بهم كارثة بمداهمتهم وقتلهم أو الانقضاض عليهم، وهم ليسوا في حال استعداد للقتال.
وبهذا يكون قد ثبت بالنص القرآني قصر الصلاة، في حال خوف الفتنة من الذين كفروا، وصاروا في عداوة مستمرة للمؤمنين بسبب كفرهم، ولكن ثبت بالسنة القصر في الصلوات التي عدد ركعاتها أربع في حال سفر، ولو لم يكن السفر في موضع مخوف، وقد ثبت هذا بالسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتي أجمع الصحابة عليها١. ويصح أن نقول أن قوله تعالى :﴿ إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ﴾ لم يكن إلا في بيان القصر في حال خوف الفتنة من الذين كفروا، لأن السياق كله كان في الجهاد، ولكن يمنع ذلك الفرض أن النص جاء في مطلق سفر، لا لأجل الجهاد.
ومهما يكن فقد ثبت النص القرآني في القصر في حال خوف الانقضاض من العدو، وبالسنة القصر في عموم أحوال السفر، ولما كان ذلك هو موضع النص، ذيل النص الكريم بما يدل على وجوب الحذر دائما من الأعداء الكافرين، فقال :
﴿ إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ﴾ هذا النص لتأكيد الحذر من الكفار دائما، لأن عداوتهم مستمكنة في قلوبهم، وقد أكد سبحانه وتعالى هذه العداوة بمؤكدات أربعة : أولها- "إن" الدالة على التوكيد، مع وصف الذين كفروا بالكفر، وجعله شأنا لهم، ومن كان جمود الحقائق شأنه لا يؤمن على شيء. وثانيها- التعبير ب "كان" الدالة على الدوام والاستمرار. وثالثها- وصف الكافرين بالعداوة، لأن العدو يطلب لعدوه دائما الشر، ويترقب مواضع غفلته لينقض عليه، فلا تنتظر منه رحمة أو حلم، أو نسيان للحقد. ورابعها- وصف العداوة بأنها ظاهرة بينة لا خفاء فيها، فالمغرور من يأمن عواقبه.
وقد تكلم العلماء في السفر المسوغ لقصر الصلاة : ما مقداره ؟ وما حكم القصر ؟ أهو واجب أم سنة ؟ ونوع السفر الذي يجوز فيه القصر ؟.
أما بالنسبة لمسافة السفر التي يجوز فيها القصر، فالفقهاء اختلفوا فيها على أقوال ثلاثة :
أولها : قول أهل الظاهر أن القصر يكون في كل ما يسمى سفرا، سواء أكان قصيرا أم كان طويلا ؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدار محدود يمنع القصر فيما عداه، فبقيت كلمة السفر على إطلاقها، من غير تقييد بمدة معلومة ولا مسافة محدودة.
وثانيها : قول الحنفية، أن السفر الذي يسوِّغ القصر مسيرة ثلاثة أيام بلياليها، بالسير المعتاد وهو سير الإبل، مع أخذ الراحة الواجبة في السفر، فلا يسير المدة كلها، بل يسير في الزمن الذي يعتاد عليه في السفر، وذلك لأن عرف العرب أن الرجل كان لا يعتبر مسافرا إلا إذا تجاوز موطنه بسير نحو ثلاثة أيام.
وثالثها : قول أكثر الأئمة أنه يوم وليلة، وقيل يوم فقط ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي رحم محرم منها"٢، وروى الحديث مرة يوما وليلة٣، وروى ثلاثة أيام٤، ففيه الأوجه الثلاثة. والتوفيق أن كل رواية كانت إجابة لحال خاص، فسئل عليه الصلاة والسلام عن يوم، وعن يوم ليلة، وعن ثلاثة.
وبالنسبة لكون القصر واجبا أو مخيرا فيه، فالمذهب الشافعي أنه مخير فيه، وروى أنه سنة، ومن اختار القصر صلى قصرا بالنية، ومن اختار التمام صلى تماما بالنية، ويكون الفرض في حقه بعد أن ينوي التمام أربعا. وبقية الأئمة تقريبا على أن القصر واجب، وما يصلى فوق القصر يكون نافلة، وحجتهم ما تواتر عن الصحابة من أنهم يقصرون كلما كان سفر، وقدره يوم للإمام عثمان إذ لم يقصر عندما حج، وقال أصحاب هذا الرأي أن الفرض شرع اثنين، ثم بقي في السفر كذلك ثم زيد في الحضر، وحجة الرأي الأول قوله تعالى :﴿ فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ﴾، ونفي الإثم يقتضي التخيير، وقد أجاب عن ذلك الزمخشري بأن ذلك للتيسير والتسهيل، وفي الحق أن كلمة "لا جناح" استعملت في السعي بين الصفا والمروة، ومع ذلك كان السعي بينهما واجبا، فالله تعالى يقول :﴿ إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ( ١٥٨ ) ﴾ ( البقرة ).
وبالنسبة لنوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فقد أجمع الفقهاء على أن السفر للجهاد أو الحج أو العمرة أو صلة الرحم أو القيام بواجب، يجيز القصر أو يوجبه. والأكثرون على أن السفر للتجارة والأعمال المباحة يكون فيه القصر.
وروي عن مالك أنه قال : إن خرج للصيد لا لمعاشه، أو لمشاهدة بلد متنزها ومتلذذا، لم يقصر. وجمهور العلماء على أنه لا يقصر للصلاة من سافر في معصية، وروي عن أبي حنيفة والأوزاعي أنه يقصر ؛ لأنه يتحقق فيها معنى السفر وقد كان القصر في مطلق سفر، وروي مثل ذلك عن مالك - رضي الله عنه.
وفقنا الله تعالى لإقامة الصلاة عمود الدين، وفيها برد المتقين.
١ من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه: صلاة المسافرين وقصرها(٦٨٦)، عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: ﴿ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا﴾ فقد أمن الناس فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"..
٢ رواه مسلم : الحج- سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره(١٣٣٩) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
٣ من ذلك ما رواه البخاري: الجمعة- في كم يقصر الصلاة(١٠٨٨)..
٤ من ذلك ما رواه البخاري: الجمعة- في كم يقصر الصلاة(١٠٨٧)، ومسلم: الحج - سفر المرأة(١٣٣٨)..
﴿ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلوات فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا( ١٠٢ ) فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا( ١٠٣ ) ﴾.
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى وجوب الهجرة على المؤمن للجهاد في سبيل الله تعالى، ولطلب الرزق، إن ضاقت أرضه التي نشأ فيها، ثم ذكر سبحانه وتعالى ما سهل به على المسافر من قصر الصلاة، وفي هذا النص الكريم بين سبحانه حال الصلاة إذا كان المسافر في حال جهاد، وهو ما يسمى في عرف الفقهاء بصلاة الخوف، أي الصلاة التي تكون في حال الخوف من العدو، بأن يكونوا في حال حرب معه. فالمراد بالخوف هو الحذر من مباغتة العدو. ولذا قال سبحانه :﴿ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ﴾
﴿ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ﴾ هذا النص الكريم فيه بيان الصلاة حال القتال، بأن يجمع المؤمنون بين الصلاة التي بها تطهير القلوب من كل الأدناس والأرجاس وبين الاستعداد للقاء العدو، والحذر منه.
ومعنى النص السامي : إذا كنت أيها الرسول في المؤمنين فأردت إقامة الصلاة على وجهها في هذا المقام، فلتقم طائفة منهم معك، بأن تبتدئ بالصلاة معها، على أن يكون معها السلاح، وهي في حال الصلاة، حتى يكونوا على أهبة القتال دائما، وحمل السلاح في الصلاة لا يبطلها، ولا يؤثر في حال الخشوع، وخصوصا إذا كان حمل السلاح لإعلاء كلمة الله تعالى وخفض الباطل، فهو عبادة من أعظم العبادات، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم المؤمنين المجاهدين صفين، صفا يبتدئ بالصلاة معه، فإذا سجدوا للصلاة وقد ألقوا وجوههم على الأرض، لا يرون شيئا ولا يستحضرون إلا عظمة الله تعالى، فإن الصف الثاني يكون من وراء هؤلاء، يدفع عنهم أذى الكفار، والاعتداء على أهل الحق والإيمان، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ إذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ﴾، أي فليكن الصف الآخر، أو الطائفة الأخرى من ورائكم، حامية لظهوركم، مانعة نزول الأذى بكم، ومن بعد ذلك تجيء الطائفة الحارسة، وتكون من بعد ذلك في محل المصلية، وتذهب الأخرى حارسة، وهذا قوله تعالى :﴿ ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ﴾.
أي إذا صلت الطائفة الأولى، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه صلاته، جاءت الأخرى فصلى بها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمر بأن تكون معها أسلحتها، وشدد في الأمر بأن أمرها مع ذلك بأخذ الحذر والاحتراس، وقدم الأمر بأخذ الحذر على أخذ الأسلحة، لأن أخذ الأسلحة من الحذر، ولأن الحذر عند انتقال الصفوف واجب، خشية أن يباغتهم العدو، وهو يغيرون صفوفهم، لأن هذا يشبه التغيير في الخطط وقت القتال، وهو لا يخلو من خطورة يجب معها الحذر، ولأن الطائفة الأولى عند سجودها، عسى أن ينتبه العدو لحالها فيطمع، وخصوصا إذا رأى الصفوف تتغير، وتتحرك في داخل الجيش نفسه.
اتفق الفقهاء على أن صلاة الخوف تقتضي أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم بطائفة، ثم يصلي بالأخرى التي تكون أمام العدو ابتداءً، وتحل الأولى محلها، ولكن اختلفوا بعد ذلك في كيفية صلاة الخوف تبعا لما فهموا من اختلاف الروايات في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وها هي ذي الروايات ومن اختاروها :
الرواية الأولى : رواية عبد الله بن مسعود التي أخرجها أبو داود والدارقطني، وخلاصتها أن الصلاة في هذه الحال ركعتان إن كانت رباعية، ويقسم النبي المجاهدين إلى صفين : أحدهما يصلي به ركعة، ثم يقوم، حتى تجيء الطائفة الأخرى فيصلي بها الركعة الثانية، حيث تكون الأولى في مواجهة العدو، ثم يسلم، وتأتي الأولى فتتم صلاتها بغير قراءة، لأنها كما يعبر الحنيفة لاحقة، أي كأنها وراء الإمام حكما طول الصلاة، ولا قراءة وراء الإمام، فإذا أتمت جاءت الثانية فصلت بقراءة، لأنها تكون مسبوقة وإذ تكون كمن أدرك آخر صلاة الإمام وفاتته ركعة، فتكون القراءة واجبة. وبهذه الرواية أخذ أبو حنيفة وأصحابه.
الرواية الثانية : هي ما رواه الإمام مالك في موطئه، أن صلاة الخوف أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعة ولا يسلم، وتتم هي الصلاة وحدها، فإذا أتمتها جاءت الأخرى، فصلى الإمام معها الركعة الأخرى وسلم، وهم يتمون الركعة، وبذلك تقل الحركات عن الرواية الأولى. وبهذه الرواية أخذ الإمام مالك، وروي أن الإمام لا يسلم إلا بعد أن تنتهي الثانية من صلاتها، وبهذا أخذ الشافعي رضي الله عنه، واختاره أحمد، وإن كان يجوز غيره، كما سنبين موقفه من هذه الروايات.
الرواية الثالثة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بالطائفة ركعة، وبها تتم صلاتها، ثم قام حتى تجيء الثانية، فصلى بها الركعة الثانية، وسلم، وبها تتم صلاتها فتكون صلاة الخوف على هذه الرواية ركعة واحدة بالنسبة للمأموم وركعتين للإمام وبهذا أخذ بعض الفقهاء.
الرواية الرابعة : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بالأولى ولم يسلم، وذهبت وجاءت الثانية فصلى بها اثنتين أخريين، ثم سلم معها، وفي رواية أنه سلم بينهما، فسلم مع الأولى وسلم مع الثانية. وقد اختار بعض الفقهاء هذه الرواية الأخيرة.
ولقد قال الإمام أحمد بن حنبل، وهو عالم السنة الأول في عصره :"لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت، وهي كلها صحاح ثابتة، فعلى أي حديث صلى منها المصلي صلاة الخوف أجزأه، إن شاء الله".
وإن كل هذه الروايات تتفق مع النص الكريم، واختلاف الرواية الصحيحة يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بكل هذه الوجوه المختلفة لبيان أنها جائزة بكل وجه من هذه الوجوه.
وبعض العلماء قالوا : إن صلاة الخوف خاصة بما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مع المجاهدين، أي أنها خاصة بعصر النبي صلى الله عليه وسلم، وبشرط أن يكون هو قائد الجند، وحجتهم في ذلك أن الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذ يقول :"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة }، فالكيفية مقيدة بشرط، وهو إقامته فيهم، وليست كل التكليفات التي يوجه فيها الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، على أن يكون موجها لكل الأمة، مشروطا فيها هذا الشرط، فالتكليف مقيد بالشرط، وليس بمطلق، وليس أحد بعده يقوم في الفضل مقامه عليه الصلاة والسلام. وقال الجمهور : أمرنا بإتباعه، والتأسي به في كثير من الأحاديث وآيات القرآن الكريم. قال صلى الله عليه وسلم :"صلوا كما رأيتموني أصلي"٥، وإن كثيرا من المطالب التكليفية يكون الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم ثم لأمته، وإن الصحابة جميعا فهموا عموم الرخصة في صلاة الخوف، فعدوها إلى كل إمام في الجيش، وهو أعلم بمقاصد الإسلام، لأنهم تلقوا علمهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الإمام القائم بالجهاد هو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ولأن المعنى في صلاة الخوف لا يتحقق فقط مع النبي صلى الله عليه وسلم، بل يتحقق مع كل أمير جهاد، ولأن صلاة الخوف هي من نوع الحذر، والجمع بين المُضِّي في القتال، والمضي في الصلاة التي هي عماد الدين، والحذر مطلوب دائما، وقد بين الله سببها فقال :﴿ ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم ﴾.
هذا، ولا بد من التنبيه لأمرين : أحدهما- صلاة الغرب، فقد كانت الصلاة التي تكلم فيها الفقهاء هي الصلاة الثنائية بالأصالة، وهي الفجر، أو الثنائية بالقصر، وهي صلاة الظهر والعصر والعشاء. وأما المغرب فقد روي عن النبي فيها روايتان : إحداهما أنه صلى بالطائفة الأولى ثلاثا، وبالثانية مثلها، وبهذه الرواية أخذ الحسن البصري. والرواية الثانية أنه صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية واحدة، وهذا قول أبي حنيفة ومالك. وروي أن الشافعي قال : يصلي بالأولى واحدة وبالثانية اثنتين.
الأمر الثاني- أنه لا يلزم الاتجاه إلى القبلة إذا خيف أن يأخذ العدو المؤمنين على غرة، وذلك في حل الالتحام الشديد، وإذا خيف فوات الوقت يصلي متى أمكن له أن يصلي، وبذلك قال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي، وقال غيرهم : يصلون بالإيماء، ولا يتركون الوقت.
والسبب في شرعية صلاة الخوف هو الحذر، والخوف من المباغتة، ولذا كرر الله الأمر بأخذ الأسلحة والحذر، وبين ما يوده الكفار فقال :﴿ ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ﴾. في هذا النص الكريم إشارة إلى السبب في صلاة الخوف، وهو ترقب العدو لحال المسلمين عساهم يجدون منفذا ينفذون منه إلى صفوفهم، أو ثغرة يدخلون منها، أو غفلة ينتهزونها، فكان الحذر أن تسد عليهم كل المنافذ التي ينفذون منها لتحقيق مآربهم، فلا يصح للمسلمين أن يغفلوا بالعبادة عن الجهاد، ولا يتركوا العبادة.
ومعنى :﴿ ود الذين كفروا ﴾ تمنى الذين كفروا، وهم أعداؤكم الذين نصبوا راية العداوة لكم، أن تأخذكم الغفلة عن أسلحتكم التي بها شوكتكم وقوتكم، وعن أمتعتكم التي فيها زادكم وبها تستمرون على القتال من غير أن يصيبكم جوع أو عري. وأنهم يريدون هذه الغفلة ليميلوا بقوتهم وكلكلهم عليكم، فيكونوا ثقلاء الوطأة، ويضربونكم الضربة القاصمة الفاصلة، فيما يتوهمون ويزعمون، وهذا معنى قوله سبحانه :﴿ فيميلون عليكم ميلة واحدة ﴾، أي يثقلون الوطأة عليكم ويضربونكم الضربة المستأصلة في زعمهم ووهمهم ! !.
وفي هذه النصوص كلها نجد الأمر المتكرر بوجوب أخذ الأهبة دائما، وحمل السلاح باستمرار. ولكن قد يتعسر حمل السلاح وهنا يرخص في عدم حمله، مع أخذ الحذر، بحيث يكون في مكان قريب، كي يعمل عند أول صيحة، ولذا قال سبحانه :
﴿ ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ﴾ لا إثم عليكم في أن تضعوا أسلحتكم في أغمدتها، إذا كان في الميدان مطر شديد يعوق استعمالها ولقاء الأعداء، فإنها إن لم توضع تعرضت للصدأ، ووراء ذلك تلفها، والاحتياط لسلامتها في الميدان واجب، وكذلك من يكون به مرض يغمد سلاحه حتى يستطيع استعماله، فإن تركه من غير استعمال يفسده، فلا يصح عند وجوبه، وقوله تعالى :﴿ أو كنتم مرضى ﴾ الخطاب للجميع ويراد به البعض من وجه، لأنه يبعد أن يكون جميع الجيش مريضا، فالله تعالى يرخص للمريض في أن يدع القتال حتى يشفى، فليس على المريض حرج، وهو خطاب للجميع من جهة أخرى، إذ على الجماعة أن توفر للمريض راحته فتغنيه، عن حمل السلاح وهو مريض وتحمل هي عنه العبء.
ومع أنه لا إثم في وضع السلاح عند المطر المعوِّق الذي يعد أذى، ولا يعد غيثا، والترخيص للمريض في غمد سلاحه، فلابد من الحذر فيترقبون من العدو دائما انتهازه للفرصة، ومن ذلك أن يتقلدوا السيوف٦، ولو أنها في أغمدتها، ووضع الرقباء، وبث العيون على العدو ليعرفوا حاله، فعسى أن يحاول الهجوم من ثغرة أو طريق سهلة عليه، وإن ذلك لأن الله تعالى يريد أن تعلو كلمة الإيمان في الدنيا، وتنخفض كلمة الكفر، ولذا قال سبحانه :
﴿ إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ﴾أي إن الله أعد للجاحدين به وبالحق عذابا مذلا لهم في الدنيا والآخرة ففي الآخرة بالعذاب الشديد الذي لا نجاة منه، وفي الدنيا بالغلب عليهم، وإذهاب صولتهم ودولتهم وذلك يكون بأخذ الأهبة والحذر، والاعتماد على الله تعالى، وقد أكد سبحانه العذاب المهين الذي ينزل بهم في الآخرة بثلاثة مؤكدات : بحرف( إن )، وبأن الله تعالى هو الذي
٥ جزء من حديث سبق تخريجه من رواية البخاري وغيره عن مالك بن الحويرث..
٦ أو ما في معناها من عدة الحرب.
.

﴿ فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ﴾
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى وجوب الهجرة على المؤمن للجهاد في سبيل الله تعالى، ولطلب الرزق، إن ضاقت أرضه التي نشأ فيها، ثم ذكر سبحانه وتعالى ما سهل به على المسافر من قصر الصلاة، وفي هذا النص الكريم بين سبحانه حال الصلاة إذا كان المسافر في حال جهاد، وهو ما يسمى في عرف الفقهاء بصلاة الخوف، أي الصلاة التي تكون في حال الخوف من العدو، بأن يكونوا في حال حرب معه. فالمراد بالخوف هو الحذر من مباغتة العدو. ولذا قال سبحانه :﴿ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ﴾
أي إذا أديتم الصلاة على حال الخوف، فإن العبادة لم تنته، بل إن معناها قائم مطلوب منكم، وهو أن تذكروا الله تعالى في كل أحوالكم قائمين في الميدان أو غادين ورائحين صلى الله عليه وسلم أو قاعدين مستريحين، أو نائمين على جنوبكم، فإن ذكر الله تعالى هو العبادة المستمرة التي بها تطمئن القلوب، كما قال تعالى :﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب( ٢٨ ) ﴾( الرعد ).
وإن التعبير عن صلاة الخوف بقوله :﴿ فإذا قضيتم ﴾في مقابل قوله تعالى عند الاطمئنان :﴿ فأقيموا الصلاة ﴾فيه إشارة إلى أنها بدل عن الصلاة الكاملة تؤدي معناها، وإن لم تكن مثلها في الصورة الظاهرة.
﴿ فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ﴾أي إذا ذهب الخوف، وعادت القضب إلى أجفانها١، ورجعتم إلى مساكنكم، فأقيموا الصلاة أي أدوها كاملة، مستقبلين القبلة موصولة من غير فاصل بين أجزائها. والكمال هنا كمال الصورة، وإلا فالمعنى يتحقق في صلاة الخوف بمقدار لا يقل عن كماله في الإقامة، إذ إنها عبادة في عبادة، هي عبادة الصلاة في عبادة الجهاد، وهو أشق عبادة، ولا شاغل قد يشغل المصلي عن صلاته إلا هذه العبادة العالية، وفي الإقامة قد تشغله بعض أعراض الدنيا. وقد بين سبحانه مكان الصلاة في الإسلام فقال سبحانه :"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا }، أي الصلاة مكتوبة على المؤمنين مؤقتة بأوقاتها، وهذا تأكيد لفرضيتها، وقد أكدت الفرضية بأربعة مؤكدات : أولها"إن"التي للتوكيد. وثانيها"كانت"التي تدل على الدوام والاستمرار في الماضي والمستقبل، وثالثها التعبير عن فرضية الصلاة بأنها ( كتاب )فهو تعبير عن الوصف بالمصدر، وفيه فضل توكيد، ورابعها التعبير بقوله تعالى :﴿ على المؤمنين ﴾فإن ذلك يفيد الإلزام والحتمية. اللهم وفقنا لإقامة الصلاة، وإقامة الحق والعمل على إعلاء شأن الإسلام إنك سميع الدعاء.
١ أي السيوف إلى أغمادها. وسيف قاضب وقضيب قطاع(مقاييس اللغة)، وأجفان السيوف وجفونها أغمادها واحدها جفن(لسان العرب)..
﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما( ١٠٤ ) إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما( ١٠٥ ) واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما( ١٠٦ ) ﴾.
في الآيات السابقة كان بيان ما يتبعه المؤمنون من الصلاة عند الخوف، ولقاء العدو، ومن قبل ذلك ذكر الله سبحانه وتعالى ما ينبغي أن يتبعه المؤمنون المغلوبون على أمرهم في دولة غير إسلامية من الهجرة، فالآيات كلها في وجوب الجهاد، وما حول الجهاد، وذلك أكد سبحانه طلبه بقوله تعالى :﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم ﴾
﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم ﴾ قال بعض العلماء : إن ذلك الأمر المرشد بعد غزوة أحد، ورويت في ذلك روايات إن صحت لم تعين أن يكون هذا النص في موضعها، ولكن الذي يتفق مع السياق، إن هذا النص بعد صلاة الخوف يدل على وجوب الاستمرار في القتال من غير وهن ولا ضعف، وجوب الاستمرار في طلب مواطن الضعف في الأعداء، ليكون الغلب لكلمة الحق وكلمة الله سبحانه وتعالى، فالسياق على هذا يكون : إنكم إذا أديتم الصلاة فاتجهوا من بعدها، وقد تسلحتم بذكر الله، إلى القتال.
ومعنى النص الكريم : لا يصيبكم وهن، أي ضعف في همتكم وعزيمتكم، في ابتغاء العدو وطلبه، وتحري موضع ضعفه والنيل منه، ولا تقعد بكم آلام الحرب عن متابعته، واللحاق به، فإن تكونوا قد أصابتكم جراح فقد أصابته، ولذا قال سبحانه :
﴿ إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما ﴾ مرمى النص الكريم أنه لا يصح أن تكون الجراح، وويلات الحرب وآلامها مثبطة لكم عن الاستمرار في طلب المعتدين وملاقاتهم، لأنه إن أصابكم من الجراح والآلام ما أصابهم، فهم يجرحون ويألمون من غير رجاء في الآخرة، ولم يوعدوا بالنصر المؤزر الباقي في الدنيا، ولا بالنعيم في الآخرة فهم يألمون في غير أمل مرجو وأنتم إن ألمتم، فلرجاء النصر ولرجاء النعيم، فأنتم أحق بالصبر، وأولى بأن تطلبوهم ولا تهنوا وتضعفوا في طلبهم.
ويسوق الزمخشري النص الكريم مساقا فيه شبه لوم للمؤمنين، فيقول في تفسير قوله تعالى :﴿ إن تكونوا تألمون ﴾ :( أي ليس ما تكابدون من الألم بالجرح والقتل مختصا بكم، إنما هو أمر مشترك بينكم وبينهم، يصيبهم كما يصيبكم ثم إنهم يصبرون عليه، ويتشجعون فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم، لأنكم ترجون من الله ما لا يرجون من إظهار دينكم على سائر الأديان ومن الثواب العظيم في الآخرة ).
ونحن نرى أن النص فيه تحريض على الصبر، ولا لوم فيه ولا شبه لوم، فما كان عند المشركين صبر كصبر المؤمنين، حتى يوازنوا بهم ويحرضوا على مثل ما هم عليه.
وفي جعل رجاء المؤمنين من الله، في قوله تعالى :﴿ وترجون من الله ﴾، إشعار للمؤمنين بأنهم في جانب الله تعالى، وأن رجاءهم عنده وهو يجيب رجاء المؤمن ودعاءه، ويؤيده بنصره :﴿ وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم( ١٢٦ ) ﴾( آل عمران )، وليس للمشركين من يرجون إلا أن يكون أصناما لا تضر ولا تنفع !.
وإذا كان الرجاء من الله، فهو رجاء من العليم بكل شيء الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها وينصر من ينصره بحكمته ولذا قال سبحانه :﴿ وكان الله عليما حكيما ﴾ أي ثبت وتقرر أن العلم والحكمة من أسماء الله تعالى الحسنى، جلت قدرته، وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليما حكيما، فإنه يعلم جهاد المؤمنين للحق، واعتداد المشركين بالباطل، وبمقتضى حكمته، لا يستوي الصالح والمفسد، والمحق والمبطل، ولا يستوي عنده الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فالمؤمنون إذ يرجون ما عنده ويطلبون رضاه، يجدون العليم الحكيم :﴿ والله يؤيد بنصره من يشاء...( ١٣ ) ﴾ ( آل عمران )، ﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي...( ٢١ ) ﴾ ( المجادلة ).
وإن العليم الحكيم هو الذي أنزل القرآن مشتملا على شريعته، ليكون القسطاس المستقيم والحكم العادل، ولذا قال سبحانه :﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ﴾.
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ﴾
في الآيات السابقة كان بيان ما يتبعه المؤمنون من الصلاة عند الخوف، ولقاء العدو، ومن قبل ذلك ذكر الله سبحانه وتعالى ما ينبغي أن يتبعه المؤمنون المغلوبون على أمرهم في دولة غير إسلامية من الهجرة، فالآيات كلها في وجوب الجهاد، وما حول الجهاد، وذلك أكد سبحانه طلبه بقوله تعالى :﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم ﴾
يذكر العلماء في سبب نزول هذه الآية ما رواه الترمذي والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان، قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق، ثلاثة : بشر وبشير ومبشر، وكان بشير منافقا، وقد كان طعام وسلاح لعمى رفاعة، كان قد ابتاعه فسرق منه، فقال : يا بن أخي، قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا( أي غرفتنا ) وذهب بطعامنا وسلاحنا فتحسسنا وسألنا، فقيل لنا : إن بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نراهم إلا على بعض طعامكم.. ويسترسل قتادة في القصة، فيذكر أن بني أبيرق اتهموا رجلا له صلاح وإسلام، وهو لبيد بن سهل، فغضب وهدد بالسيف... فذهب قتادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال :﴿ سأنظر في ذلك ﴾، فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا يقال له أسيد بن عروة، فكلموه في ذلك فاجتمع بأناس فقالوا : يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا، أهل إسلام وصلاح، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت، ويقول قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :"عمدت إلى أهل بيت إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة" !. فرجعت فأخبرت عمي، فلم يلبث أن نزل القرآن :﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ﴾، وقد كشف أمر بشير فلحق بالمشركين مرتدا١.
وسواء أصح ذلك الخبر سببا للنزول أم لا يصح، فإن الآية لها صفة العموم، وتفسر بعمومها لا بخصوص سببها، ومعنى النص الكريم على ذلك : إن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن الكريم المكتوب المسجل ليحكم النبي صلى الله عليه وسلم بما توجبه نصوصه وبما يريه الله وينير قلبه لإدراك الحق.
وهنا ثلاث إشارات بيانية :
الأولى : أن الله تعالى عبر عن القرآن ب "الكتاب" للإشارة إلى أنه مكتوب مسجل مدون، باق إلى يوم القيامة.
الثانية : كلمة "بالحق"، والباء تدل على الملابسة والاتصال والمعية فهو مع الحق، وبالحق وناطق بالحق، ومشتمل عليه، ولا شيء في هذا الكتاب إلا ما هو حق، ولا يخالفه إلا ما هو باطل.
الثالثة : قوله تعالى ﴿ بما أراك الله ﴾، فإنها مقابلة لقوله تعالى :﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب ﴾، وهذه المقابلة تقتضي أن تكون كلمة ﴿ بما أراك الله ﴾ لها معنى خاص، وهو النظر بنور الله تعالى في الأقضية التي يقضى فيها، فالقاضي لكي يكون قضاؤه عدلا لابد من أمرين : أحدهما - قانون عادل هو الحق من كل نواحيه وهو هنا الكتاب الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، والثاني - أن يكون فحصه للقضية ببصيرة نيرة نافذة، وقلب مشرق مدرك، وهذا يكون بنور الله وهو للنبي ما عبر عنه بقوله تعالى :﴿ بما أراك الله ﴾.
ولكن نور الحق لا يكون إلا إذا نظر القاضي فيما يعرض عليه نظرة غير متحيزة ولا منحرفة وهذا هو ما نهى الله عن نبيه والنهي لعموم أمته ولذا قال تعالى :
﴿ ولا تكن للخائنين خصيما ﴾ تبادر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في القصة السابقة أن من فيه صلاح وإسلام يكون على الحق، فانحاز فكره ككل البشر، فالله سبحانه وتعالى نبهه، تعليما لأمته، ولكل قاض من بعده إلى أنه لا يجوز أن ينحاز فكره إلى أحد الخصمين، فعسى أن يكون هو الخائن وغيره هو البريء، ولا بد أن يسمع البينات ويجعلها هي الحاكمة. والخصيم بمعنى المخاصم، كالجليس بمعنى المجالس، والمعنى على هذا : ولا تكن أيها الرسول الأمين مخاصما لأجل الخائنين بأن تجعل فكرك ينحاز إليهم قبل سماع البينات الهادية المرشدة إلى الحق. وسمي هؤلاء خائنون لأنهم في علم الله كانوا كذلك، وهو يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخيانتهم، والله تعالى خير شاهد.
وهذا إرشاد لكل قاض أن ينظر إلى المتخاصمين نظرا غير متحيز، لكي يستمع إلى البينات منصفا مقدرا، ويجعل الأدلة توجهه إلى الحق، ولا يوجهها. وإن على كل قاض أن يستغفر الله دائما في أقضيته لأنه لا يدري : لعله أصاب الباطل والعصمة لله تعالى وحده ولأنبيائه ولذا قال سبحانه :﴿ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ﴾
١ رواه الترمذي: تفسير القرآن ومن سورة النساء(٣٠٣٦)عن قتادة بن النعمان..
﴿ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ﴾
في الآيات السابقة كان بيان ما يتبعه المؤمنون من الصلاة عند الخوف، ولقاء العدو، ومن قبل ذلك ذكر الله سبحانه وتعالى ما ينبغي أن يتبعه المؤمنون المغلوبون على أمرهم في دولة غير إسلامية من الهجرة، فالآيات كلها في وجوب الجهاد، وما حول الجهاد، وذلك أكد سبحانه طلبه بقوله تعالى :﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم ﴾
الأمر في ظاهره للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو في عمومه لكل أمته، ولكل قاض يفصل بين الناس، وطلب الاستغفار دائم يوجهه الله تعالى إلى النبي، وإلى كل مؤمن تقي، لأن الاستغفار إنابة، وعبادة، وهي مطلوبة. وإذا كانت القصة قد ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم تبادر إلى ذهنه براءة الخائن، فإن هذا ليس بذنب ولكنه يوجب الاستغفار من الرسول، فإن علو مقامه يجعل مثل هذه التي لا تعتبر ذنبا من الناس، موجبة للاستغفار على حد قول العلماء :( حسنات الأبرار سيئات المقربين ).
وفوق ذلك فإن طلب الاستغفار مع ما فيه من القنوت والطاعة، حث كل قاض يفصل بين الناس على الاستغفار في كل قضية وقد بين سبحانه أن هذا الاستغفار الضارع يقبله الله تعالى، لأنه سبحانه قد ثبت واستقر له أن المغفرة بأقصى درجاتها، والرحمة بأوسع معانيها صفتان له سبحانه، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ إن الله كان غفورا رحيما ﴾.
وقد أكد سبحانه اتصافه تعالى بهاتين الصفتين بأربعة مؤكدات : أولها ( إن ) التي تفيد التوكيد وثانيها ( كان ) التي تفيد الاستمرار، وثالثها صيغة المبالغة في غفور ورحيم، ورابعها الجملة الإسمية.
اللهم لا تجعلنا في جانب الخائنين والعصاة، واجعلنا مع الأبرار الأتقياء.
﴿ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما( ١٠٧ ) يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ( ١٠٨ ) ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا( ١٠٩ ) ﴾.
الكلام مستمر في نهي المؤمنين عن أن يدافعوا عن رجل يظهر غير ما يبطن، أو يرتكب أمرا، ويحمل غيره وزره، فهو يرتكب الشر مرتين ويتحمل إثمين : إثم الارتكاب وإثم رمي الأبرياء، والتدليس ولبس الحق بالباطل، وكان النهي موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبين وجوب الاحتراس على كل مؤمن، حتى لا يقع في الدفاع عن الآثمين الخاطئين، لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي ينزل عليه الوحي، إن اعتمد على نظره قد يلبس الأمر عليه، فالاحتراس عن هذا أولى بكل مؤمن وأجدر، وقد قال سبحانه :﴿ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ﴾
﴿ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ﴾ الجدال هنا الدفاع وإقامة الدليل لمصلحة الخائنين، وذلك للاسترسال في حسن الظن بالمظهر، وترك ما يختفي ولا يستبين، فإن ذلك إن جاز في السياسة لا يجوز في القضاء، وإن جاز في حقوق الله تعالى لا يجوز في حقوق العباد ليعطى كل ذي حق حقه، ولكيلا تذهب الأموال والأنفس والدماء هدرا، فلا بد لإظهارها من تكشف المستور، وإظهار المخبوء.
والجدال في أصل معناه اللغوي مشتق من الجدل بمعنى الفتل، أي تقوية الحجة، ويكون المجادل كمن يفتل الحبل ويقويه، وقيل إنه مأخوذ من الجدالة والجدالة هي الأرض، فكل واحد من الخصمين يكون كالمصارع يريد أن يلقي صاحبه على الأرض. وإطلاق الجدالة على الأرض منه قولهم : تركته مجدلا، أي مطروحا على الأرض.
والاختيان، الذي هو مصدر﴿ يختانون أنفسهم ﴾، يعرفه الأصفهاني في مفرداته بأنه :"تحرك شهوة الإنسان لتحري الخيانة } وتحرك الشهوة لتحري الخيانة قصد إليها وتعمد لها، وعمل على إحكامها، والخيانة والنفاق باب واحد موضعهما من النفس واحد.
ومعنى قوله تعالى :﴿ الذين يختانون أنفسهم ﴾ : الذين يقصدون خيانة أنفسهم ويتحرونها ويحكمون إخفاء المستور من جرائمهم. وأضيفت الخيانة للنفس، لأن الذين يصنعون ذلك إنما يحدثون في الأمة ذعرا عاما، يعود ضرره على الجماعة ويعود عليهم أنفسهم، إذ يعيشون في جماعة قد فسد أمرها، وارتابت في شئونها، وضل عن الناس معرفة الحق، وغاب عنهم لبه ! ! وكذلك لأن تلك الخيانة مغبتها على أنفسهم شديدة أمام الله تعالى، وسيحاسبهم عليها من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولأن هؤلاء الخائنين الذين يتحرون الخيانة إنما يحلون فطرهم السليمة عن الفطرة التي فطرهم الله عليها، فيصيب الفساد نفوسهم، وتنحل كل العُرا فيها، وبذلك تضطرب، وتكون في بلبال مستمر :
﴿ إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ﴾ إذا كان الخائنون الذين تحروا الخيانة وقصدوها، وانحرفوا بفطرهم عن أصلها، ينالون العذاب في الدنيا بالحكم عليهم، وإعراض أهل الفضل عن معاونتهم فإنهم لا ينالون حب الله تعالى، والمعنى الظاهر للنص :﴿ إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ﴾ هو أن الله تعالى العلي الحكيم، الذي لا ترجى محبة سواه، لا يحب من كانت الخيانة وصفا من أوصافه، وشأنا من شؤونه، وخلقا من أخلاقه، ومن صار الإثم عادة له، حتى صار يوصف بأنه خوان وأثيم، فكلمة خوان صيغة مبالغة معناها أن الخيانة صارت وصفا ملازما له، وكلمة أثيم صيغة مبالغة من إثم تفيد أن الإثم صار وصفا ملازما. وأن محبة الله تعالى شأن من شؤونه سبحانه تليق بذاته الكريمة، وهي تتضمن معنى الرضوان وتستلزم فيض رحمته ومنح غفرانه فمن فقد محبة الله تعالى فقد حرم من الرضوان، وحرم من رحمة الله تعالى التي تكون للتوابين، وحرم غفرانه لأنه لا يكون إلا لمن أحاطت به خطيئته، حتى لا ينتقل إلا من إثم إلى إثم.
وقد أكد سبحانه نفي محبته لهؤلاء الذين أركست نفوسهم في الخيانة، ودنس الإثم نفوسهم حتى أصبحوا لا يعيشون إلا في آثام، بالجملة الاسمية المصدرة بحرف "إن" الدال على التوكيد.
وهنا إشارة معنوية : وهي أنه تعالى وصف الذين حرموا محبته بأنهم خوانون أثيمون، وذلك له معناه لأن اختيان النفس، وتعودها الخيانة يجرها إلى آثام كثيرة، فمن خان يسرق ويكذب ويأكل أموال الناس بالباطل ولا يتحرج عن إثم فكأن الخيانة جاذبة معها كل الآثام.
﴿ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ﴾
الكلام مستمر في نهي المؤمنين عن أن يدافعوا عن رجل يظهر غير ما يبطن، أو يرتكب أمرا، ويحمل غيره وزره، فهو يرتكب الشر مرتين ويتحمل إثمين : إثم الارتكاب وإثم رمي الأبرياء، والتدليس ولبس الحق بالباطل، وكان النهي موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبين وجوب الاحتراس على كل مؤمن، حتى لا يقع في الدفاع عن الآثمين الخاطئين، لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي ينزل عليه الوحي، إن اعتمد على نظره قد يلبس الأمر عليه، فالاحتراس عن هذا أولى بكل مؤمن وأجدر، وقد قال سبحانه :﴿ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ﴾
إن أولئك الخوانين الأثيمين لا تنالهم محبة الله تعالى، ولا رحمة ولا مغفرته، ومن شأنهم أن يكونوا بعداء عن الناس غير ملتقين بهم، فهم دائما يستخفون من الناس ليدبروا ما يدبرون، ولأنهم في جفوة مستمرة ولا يحبون الناس ولا يألفونهم ولا يحبون لقاءهم وإذا لقوهم أظهروا غير ما يكتمون، وأبدوا غير ما يخفون. فالخائن لمجتمعه وأمته يتسم بسمة تجمع عيوبا ثلاثة : هذه السمة هي الاستخفاء، وهذه العيوب هي الجفوة التي تحمله على ألا يظهر، وكتمانه أمره حتى لا يكشف، وتدبيره السوء في استخفائه ! والباعث على ذلك كله الأنانية الظالمة والأثرة القاطعة.
وإنهم إذ يستخفون من الناس لا يشعرون برقابة الله على أعمالهم، لأن ذلك الشعور ينبعث من ضمير حي قوي موجه للنفس، والوجدان الديني القوي لا يكون في قلب جاف قاس، قد ترك الناس ولم يألفهم، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ ولا يستخفون من الله ﴾ فهو مطلع عليهم وإن كانوا لا يشعرون وعليم بأمرهم، وإن كانوا يستخفون من الناس ويبتعدون عنهم.
والاستخفاء المبالغة في طلب الخفاء والابتعاد وذلك ليتسنى لهم تدبير ما يريدون والله سبحانه معهم إذ يدبرون السوء، لذا قال سبحانه تعالت كلماته وجعلت قدرته :
﴿ وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ﴾ هؤلاء الذين يستخفون من الناس مجافين لهم ولا يشعرون برقابة الله تعالى عليهم، والله مطلع على أقوالهم وأعمالهم، اطلاع من يصاحبهم في غدوهم ورواحهم، وهو معهم عندما يدبرون الأعمال في خفية من الناس والأقوال التي لا يرضى الله عنها. فالتبييت تدبير الأمر في البيات، أي الليل، وأطلق على كل ما يدبر بعيدا عن الناس، ويقول الزمخشري في معنى النص الكريم :"يدبرون ويزورون وأصله أن يكون بالليل ما لا يرضى من القول... فإن قلت : كيف سمي التدبير قولا، وإنما هو معنى في النفس ؟ قلت : لما حدث بذلك نفسه سمي قولا على المجاز".
فالتبييت معناه التدبير في الخفاء مطلقا، سواء أكان تدبير قول يسترون به عملهم، ويزينون به مظهرهم، أم ترتيب عمل يخفونه، ويقومون به، فإن أعمال المنافقين جميعها تدبر بليل وتنفذ بليل حتى تظهر آثارها في الجماعة، ولكن الله سبحانه وتعالى ذكر القول فقط، فقال :"ما لا يرضى من القول"، فلماذا ذكر القول وحده ؟ لقد وجه الزمخشري سؤالا قريبا من هذا، وأجاب عنه ونحن نقول : إنه ذكر القول وحده مقترنا بعدم رضا الله تعالى لأن أقصى ما يتستر به المنافق قول مزخرف يضل، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عليم اللسان منافق القلب هو أخوف من يخافه على أمته١، فعناية المنافق بالقول الذي يستر به عمله هي الجزء الأكبر من تدبيره وإن عمل الليل سهل، ولكن إخفاؤه بزخرف القول صعب عند ظهور آثاره. وفوق ذلك فإن القول إذا كان لا رضى، فالعمل أبعد عن الرضا.
وقد عبر سبحانه عن فعلهم وقولهم بأنه لا يرضاه، للإشارة إلى مقته لهم وحسابهم عليه. وإذا كان الله تعالى عليما بما لا يرضى من القول علم من يصاحبهم عند التدبير والتبييت، فهو بعملهم عليم أيضا وهو أيضا لا يرضى عنه، ولذا قال سبحانه :
﴿ وكان الله بما يعملون محيطا ﴾ فإذا كان الله تعالى مصاحبهم في قولهم الذي لا يرضيه، فهو محيط دائم بكل عملهم إحاطة الدائرة بقطرها، لا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة منه. والتعبير عن علم الله تعالى لأعمالهم بالإحاطة، فيه إشارة إلى أمور ثلاثة : أولها - أن علمه كامل لا ينقصه شيء فهو علم إحاطة واستغراق. وثانيها - أن الله معاقب بقدر ما ارتكبوا. وثالثها - أن الله واضع أعمالهم في دائرة، فلا يمكن أن يصل إلى أهل الحق أذاهم، لأن الله محيط وبما يعملون :﴿ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة ﴾
١ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان". رواه أحمد: مسند العشرة - أول مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه (٢١٣، ١٤٤)..
﴿ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة ﴾
الكلام مستمر في نهي المؤمنين عن أن يدافعوا عن رجل يظهر غير ما يبطن، أو يرتكب أمرا، ويحمل غيره وزره، فهو يرتكب الشر مرتين ويتحمل إثمين : إثم الارتكاب وإثم رمي الأبرياء، والتدليس ولبس الحق بالباطل، وكان النهي موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبين وجوب الاحتراس على كل مؤمن، حتى لا يقع في الدفاع عن الآثمين الخاطئين، لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي ينزل عليه الوحي، إن اعتمد على نظره قد يلبس الأمر عليه، فالاحتراس عن هذا أولى بكل مؤمن وأجدر، وقد قال سبحانه :﴿ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ﴾
يستطيع أهل النفاق بحلو قولهم وقدرتهم على تزوير الكلام وتحسينه أن يجدوا لهم أنصارا من أهل الحق يخدعون بمظهرهم ولطف مداخلهم فيظنون بهم الخير ويندفعون للدفاع عنهم والله سبحانه وتعالى يبين أن هذا الدفاع إن أجدى في الدنيا لهم، فهو جداء يؤدي إلى إيغالهم في الشر والفجور، وإذا كان ينجيهم من عذاب الدنيا، فلن ينجيهم من عذاب الآخرة، إذ لا يكون العقاب إلا من علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والجدال عنهم في الدنيا أمام البشر، أما الجدال عنهم في الآخرة فهو أمام الله تعالى العليم الحكيم، والشهود في يوم القيامة عليهم كثيرة متعددة، فإنه تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وألسنتهم بما كانوا يفعلون.
وهنا أربع إشارات بيانية :
أولها - التنبيه إلى مجادلة المؤمنين عن المنافقين ووقوعها في الماضي، وتوقعها في القابل وذلك للإشارة إلى حسن ظن المؤمنين بالناس، وقد قرر سبحانه التنبيه إلى ذلك في قوله تعالى :﴿ ها أنتم هؤلاء ﴾ فتكررت هاء التنبيه، وذكر اسم الإشارة الذي هو تنبيه ثالث، وذلك التنبيه إلى الواقع والمتوقع للتنبيه إلى الاحتراس، ومراقبة أنفسهم عندما يفرطون في الثقة بمن ليس بها جديرا.
ثانيها - التعبير بالماضي في قوله تعالى ﴿ جادلتم ﴾ مع أن النهي منصب على المستقبل، لبيان تحقق وقوع المجادلة عن المنافقين مع توقع وقوعها، إذ النهي لا يكون إلا عن أمر محتمل الوقوع في المستقبل، والصيغة تتضمن اللوم على الواقع، والنهي عما يمكن أن يقع.
ثالثها - الإشارة إلى أن المجادة في الحياة الدنيا، إنما سببها الجهل بالقلوب وعدم تحري ما تنطوي عليه، وأن حالهم ستنجلي يوم القيامة، فإذا كانوا يخدعون أهل الدنيا فالله سبحانه كاشفهم وخادعهم يوم القيامة.
رابعها - أن الله سبحانه وتعالى نبه إلى أن المجادلة عنهم نوع من المحاماة عن الرذيلة، والدفاع عنها، ولذا قال سبحانه :
﴿ أم من يكون عليهم وكيلا ﴾ ومعنى النص الكريم : إذا كانوا يحامون عنهم، ويجادلون عنهم في الدنيا فسيلقون ربهم يوم القيامة غير راض عنهم ولا محب لهم، فلا يرحمون في ذلك اليوم، ولا يغفر لهم لأنهم لم يتوبوا واستغرقت نفوسهم الخطيئة، ولا منجاة لهم العذاب ولا مخاصم عنهم أمام الله ! ! اللهم ارحم أمتك من نفاق المنافقين واجعلنا من عبادك المخلصين.
﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما( ١١٠ ) ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما( ١١١ ) ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا( ١١٢ ) ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما( ١١٣ ) ﴾.
في الآيات السابقة ذكر سبحانه أحوال المنافقين والذين يختانون أنفسهم وأشار إلى الذين يرتكبون الشر، ويرمون به غيرهم وما يجب أن يكون عليه القاضي المنصف الذي يرد الحقوق إلى أصحابها وتكون عنده المقاسم الحقيقية للحق والباطل، وكل ذلك في الأحكام الدنيوية. وفي هذا النص يبين سبحانه مراتب العصاة أمام الله تعالى، فذكر ثلاث مراتب : المرتبة الأولى مرتبة التوابين، والثانية مرتبة الذين لا تتعدى آثامهم أنفسهم أو لا يرمون بها غيرهم والثالثة وهي التي تنال أشد الجزاء الأخروي بعد الخزي الدنيوي، هي التي ترتكب الشر وترمي به غيرها. وقد بين الله سبحانه المرتبة الأولى بقوله تعالى :﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾
﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾ السوء هو الأمر الذي يحدث غما وألما، سواء أكان لفاعله أم لغير فاعله، ولكن بمقابلته بقوله تعالى :
﴿ أو يظلم نفسه ﴾ لابد أن تفسر الكلمتان بمعنيين متغايرين، وقد تكلم في ذلك المفسرون وأحسن ما رأينا ما قاله الزمخشري من أن السوء هو ما يكون فيه أذى للغير، كالقذف والشتم والسب، ونحو ذلك وأما ما يكون فيه ظلم النفس فهو ما لا يكون فيه أذى مباشر للغير ابتداء. كالفاحشة وشرب الخمر وترك الصلاة والصوم والحج، وغير ذلك من المعاصي التي لا تتجاوز غير صاحبها مباشرة وابتداء وإن كانت في مآلها تتعدى إذا تفشت الأمة وكثرت فيها.
ولا بد أن نذكر بإجمال عبارات في بعض الإشارات البيانية القرآنية :
الأولى : عن التعبير بقوله تعالى ﴿ ومن يعمل سوءا ﴾ فإن هذا التعبير يشير إلى أن نفسه لم تركس في الشر، ولم يستغرقها، بل إنه عمل عارض، ولذا كان التعبير ﴿ يعمل ﴾، وهذا في مقابل قوله في الطبقة الثانية :﴿ يكتسب ﴾، فإن الكسب كما تبين يشير إلى تدنس النفس وارتكاسها في الشر، أما العمل ففي ظاهر الأمر لا يتجاوز الجوارح ولذا كانت التوبة قريبة وكان الاستغفار غير بعيد.
الثانية : أن التعبير عن المعاصي الشخصية التي لا تتعدى صاحبها ابتداء بظلم النفس، فيه معان واضحة، فهي تفيد أن كل ما نهى الله عنه فلمصلحة العبد، فإن تجاوز حدود ما نهى الله عنه فقد وقع في ضرر مؤكد. وفيه تنبيه إلى أن المعاصي سواء أكانت إيجابية كشرب الخمر أم سلبية كترك الصلاة والصوم، مغبة وقوعها تكون على العبد ابتداء، ثم تكون على غيره من بعد.
وفي الحق أن كل ما نهى الله عنه، وما أمر به فهو لمصلحة الجماعة ومخالفة أمر الله فيه ظلم للنفس وإساءة للمجتمع بيد أن بعضه يكون أثره مباشرا، إما على الغير كالقتل والاعتداء بكل أنواعه أو يكون أثره المباشر على شخص المرتكب، ثم يتعدى إلى المجتمع من وراء ذلك، حتى أن من ظلم النفس عده الله تعالى اعتداء على حقه تعالى، كالزنا وشرب الخمر، وكونه ظلما للنفس لا يمنع أنه اعتداء على حق الله تعالى وذلك للمآل والآثار، لا بالمباشرة.
الثالثة : أن التعبير ب "ثم" في قوله تعالى :﴿ ثم يستغفر الله ﴾ للإشارة إلى تفاوت ما بين المعصية والاستغفار فالتراخي الذي عليه كلمة "ثم" تفاوت معنوي وليس بتراخ زمني لأن من يعمل السوء أو يظلم نفسه من غير أن يحيط بالنفس، توبته قريبة، كما قال تعالى :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما( ١٧ ) ﴾( النساء ).
والاستغفار هو طلب المغفرة، وذلك يقتضي الإقلاع عن الذنب والندم على ما كان منه، والالتجاء إلى الله تعالى فالاستغفار هو التوبة النصوح، ومن مقتضيات هذه التوبة أن يرد الحقوق إلى أصحابها ويطلب العفو ممن أساء إليه، لأن حقوق العباد لا تتحقق فيها التوبة إلا إذا ردت إلى أصحابها أو كان العفو منهم.
وقوله تعالى :﴿ يجد الله غفورا رحيما ﴾، يفيد استجابة طلب الغفران إن تحققت شرائطه، ولم يصب النفس بدنس، فالمعنى إن استغفر وتاب وأناب استحق المغفرة لأنه يعلم وصف الله تعالى لذاته العلية بأنه المتصف بصفة الغفران والرحمة، وكان من رحمته أن يتقبل توبة التائب، ويعاقب العاصي المصر.
ثم ذكر سبحانه المرتبة الثانية في المعاصي بقوله :﴿ ومن يكسب فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ﴾.
﴿ ومن يكسب فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ﴾
في الآيات السابقة ذكر سبحانه أحوال المنافقين والذين يختانون أنفسهم وأشار إلى الذين يرتكبون الشر، ويرمون به غيرهم وما يجب أن يكون عليه القاضي المنصف الذي يرد الحقوق إلى أصحابها وتكون عنده المقاسم الحقيقية للحق والباطل، وكل ذلك في الأحكام الدنيوية. وفي هذا النص يبين سبحانه مراتب العصاة أمام الله تعالى، فذكر ثلاث مراتب : المرتبة الأولى مرتبة التوابين، والثانية مرتبة الذين لا تتعدى آثامهم أنفسهم أو لا يرمون بها غيرهم والثالثة وهي التي تنال أشد الجزاء الأخروي بعد الخزي الدنيوي، هي التي ترتكب الشر وترمي به غيرها. وقد بين الله سبحانه المرتبة الأولى بقوله تعالى :﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾
الكسب معناه طلب ما يرغبه الإنسان، ويطلق الكسب على ما يناله الإنسان من أمور الدنيا، وما تناله النفس من حظوظها أو ما تراه حظا لها، وقد ورد الكسب في القرآن بمعنى طلب الرزق وورد بمعنى فعل الخير، وورد بمعنى فعل الإثم. و لاحظنا في تعبيرات القرآن عن كسب الآثام أنها تقرن بما تدل على استمراء النفس للشر، وتأثرها به، فقد قال تعالى :﴿... أن تبسل نفس بما كسبت...( ٧٠ ) ﴾( الأنعام ) أي تمنع من الخير بسبب ما كسبته من ذنوب، وقال تعالى :﴿... أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا...( ٧٠ ) ﴾( الأنعام )، وقال تعالى :﴿... إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون( ١٢٠ ) ﴾( الأنعام )، وغير ذلك ولذلك يصح أن نفسر كسب الإثم بأن يتحراه وتتدرن به نفسه، حتى يصير كسبا رديئا لها، وذلك أن الشر إذا ارتكبه الإنسان خط في النفس خطا، فإذا تكرر ذلك كثرت الخطوط السوداء، حتى يربد القلب، وبذلك يكون قد كسب الإثم، وهو الذنب المبطئ عن الله تعالى.
ومن وصل الشر في نفسه إلى هذا الحد، فإن ذلك الذي اكتسبه لا يعود بالشر ابتداء إلا على نفسه، لأنه أفسد فطرتها، وحولها عن طريق الانتفاع بها إلى أركاسها في الشر، وخسارة الشرير في نفسه أكثر من خسارة الناس فيه، ولأنه يصير من الشذاب الذين تلفظهم الجماعات الإنسانية، ولأن عذاب الله يستقبله، ولذا قال سبحانه مهددا بأنه عالم بما يرتكب ولو أخفاه حكيم يضع لكل امرئ ما يستحق فلا يتساوى عنده المسيء مع المحسن وهو وحده المتصف بأعلى درجات العلم والحكمة.
ويلاحظ في الفرق بين التعبيرين في الآية السابقة وهذه الآية أمران :
أولهما : أنه عبر في الأولى عن مرتكب الشرب"يعمل" وقد بينا ما فهمناه من ذلك، وفي هذه الآية عبر ب"يكسب" للإشارة التي تدنس النفس بالشر، واسوداد القلب به، حتى اربد وأصبح لا نور فيه.
ثانيهما : أنه لم يعبر عن الشر الذي وقع في الأولى بالإثم، بل عبر بالسوء أو الظلم للنفس، وهنا عبر بالإثم المبطئ المبعد عن الله تعالى لأن الشخص في الحال السابقة قريب من الخير بالتوبة القريبة، أما هنا فحاله حال من تبطؤ توبته.
وقد قال سبحانه في المرتبة الكبرى من الشر :﴿ ومن يكسب خطيئة أو إثما ﴾.
﴿ ومن يكسب خطيئة أو إثما ﴾
في الآيات السابقة ذكر سبحانه أحوال المنافقين والذين يختانون أنفسهم وأشار إلى الذين يرتكبون الشر، ويرمون به غيرهم وما يجب أن يكون عليه القاضي المنصف الذي يرد الحقوق إلى أصحابها وتكون عنده المقاسم الحقيقية للحق والباطل، وكل ذلك في الأحكام الدنيوية. وفي هذا النص يبين سبحانه مراتب العصاة أمام الله تعالى، فذكر ثلاث مراتب : المرتبة الأولى مرتبة التوابين، والثانية مرتبة الذين لا تتعدى آثامهم أنفسهم أو لا يرمون بها غيرهم والثالثة وهي التي تنال أشد الجزاء الأخروي بعد الخزي الدنيوي، هي التي ترتكب الشر وترمي به غيرها. وقد بين الله سبحانه المرتبة الأولى بقوله تعالى :﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾
الخطأ هو العدول عن الجهة وقد قال في تفسيره الأصفهاني في مفرداته :( الخطأ العدول عن الجهة، وذلك أضرب : أحدها- أن يريد غير ما تحسن إرادته، وهو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان، يقال خطئ يخطأ خطئا، وخطأة، قال تعالى :﴿... إن قتلهم كان خطئا كبيرا( ٣١ ) ﴾( الإسراء ) وقال تعالى :﴿... وإن كنا لخاطئين( ٩١ ) ﴾( يوسف ). والثاني- أن يريد ما يحسن فعله، ولكن يقع منه خلاف ما يريد، فيقال : أخطأ، إخطاء فهو مخطئ، وهذا قد أصاب في الإرادة، وأخطأ في الفعل وهذا هو المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام :"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"١، وبقوله عليه الصلاة والسلام :"من اجتهد فأخطأ فله أجره"٢، وقوله تعالى :﴿... ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة( ٩٢ ) ﴾( النساء ) والثالث- أن يريد ما لا يحسن فعله، فيقع خلافه، فهذا يخطئ في الإرادة ومصيب في الفعل ).
ومنها يتبين أن الخطأ الكامل ما يكون انحرافا في الإرادة، بأن يريد ما لا تصح إرادته، ويأثم بهذه الإرادة، ومن ذلك كلمة "خطيئة"فإنها تستعمل في كثير من آي القرآن فيمن يرتكب الشر، منحرف النفس، حتى أنه يصدر عنه من غير تكلف، ولا معاناة، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته...( ٨١ )( البقرة ﴾ وقوله تعالى أيضا :﴿... ولا تزد الظالمين إلا ضلالا( ٢٤ )مما خطيئاتهم أغرقوا...( ٢٥ ) ﴾( نوح )، وكانت الخاطئة هي الذنب العظيم، ومن ذلك قوله تعالى :﴿... والمؤتفكات بالخاطئة( ٩ ) ﴾( الحاقة ).
وعلى ضوء هذه المعاني نقول : إن الخطيئة هنا في قوله تعالى :﴿ ومن يكسب خطيئة ﴾هي الذنب العظيم، الذي تمرست به النفس، حتى صار وصفا من أوصافها، يصدر عنها من غير قصد، بل هو انحراف النفس التي أحاطت بها ظلمات الشر، والإثم هو الذنب المبطئ عن الاتجاه إلى الله بالاستغفار.
وإن جريمة هؤلاء جريمتان : إحداهما ارتكاب الشر والإيغال فيه، والثانية أنهم يرمون البرآء به، ولذا قال تعالى :﴿ ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ﴾.
وإن هذه الجريمة تتضمن هي الأخرى في ثناياها جريمتين : إحداهما البهتان، وهو الكذب الذي لا يتصور عند أهل الخير وقوعه، والثانية إثم واضح، وهو إلقاء التبعة على الغير، إذ إنه كذب حير البرىء وأذهله.
وإن هؤلاء، مع هذه الذنوب التي يرتكبونها، منافقون يظهرون غير ما يبطنون، وهم شر الجماعة الذين يسعون بالفساد في الأرض، وأن السعاية التي يرتكبونها بنفاقهم توجب قطعهم عن الأمة، ولقد أوجب بعض الفقهاء عقابهم.
وإن هؤلاء يفسدون الحكام على شعوبهم، ويسعون في الأرض فسادا بجرمهم، وإن الله يحذر نبيه من أمثالهم، وهو قدوة حسنة لكل الحكام.
١ سبق تخريجه..
٢ عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"، (البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة أجر الحاكم إذا اجتهد(٧٣٥٢)، ومسلم: الأقضية -أجر الحاكم(١٧١٦)..
﴿ ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء ﴾
في الآيات السابقة ذكر سبحانه أحوال المنافقين والذين يختانون أنفسهم وأشار إلى الذين يرتكبون الشر، ويرمون به غيرهم وما يجب أن يكون عليه القاضي المنصف الذي يرد الحقوق إلى أصحابها وتكون عنده المقاسم الحقيقية للحق والباطل، وكل ذلك في الأحكام الدنيوية. وفي هذا النص يبين سبحانه مراتب العصاة أمام الله تعالى، فذكر ثلاث مراتب : المرتبة الأولى مرتبة التوابين، والثانية مرتبة الذين لا تتعدى آثامهم أنفسهم أو لا يرمون بها غيرهم والثالثة وهي التي تنال أشد الجزاء الأخروي بعد الخزي الدنيوي، هي التي ترتكب الشر وترمي به غيرها. وقد بين الله سبحانه المرتبة الأولى بقوله تعالى :﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ﴾
الضمير في قوله تعالى :﴿ لهمت طائفة منهم ﴾يعود على ما يفهم ضمنا من حال هؤلاء الذين أركست نفوسهم في الخطايا، حتى أصبحوا يقدمون عليها من غير قصد خاص إليها، كأن ذلك حال من أحوالهم، فهم منافقون يبتغون الفتنة في الذين آمنوا، وأول فتنة وأقوى فتنة هي التي تجيء في الحكام، فتبعد ما بينهم وبين الأخيار من الأمة، ويتقرب بها الأشرار الذين يرتكبون الشر، ويرمون به الأبرياء، ومعنى النص الكريم : إن أولئك المنافقين العصاة الجريئون على رمي الأبرياء وتضليل الحكام. ولولا أن الله تعالى من عليك بفضله العميم، ورحمته الواسعة، لهمت طائفة منهم أن يجعلوك في ضلال بالنسبة لمن تحكمهم وتهديهم، فهم لم يهموا بذلك، لأنهم يعلمون فضل الله تعالى عليه بالوحي الذي يبين له الحق، ورحمته الواسعة التي يمن بها عليه وعلى قومه، فلا يكون منهم ما يعنتهم، كما قال تعالى في وصف نبيه عليه الصلاة والسلام :﴿... عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم١٢٨ ﴾( التوبة ).
وإن هؤلاء إذا حاولوا هذه المحاولة أو لم يحاولوها، واستمروا في غيهم يعمهون، فإنهم باستمرارهم في هذه الغواية يسيرون إلى أقصى المدى في الشر، فيبعدون عن الهداية، ولذلك لا يضلون إلا أنفسهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لن يضل أبدا، وإنهم لا يضرونه بأي قدر من الضرر، ولا بأي نوع منه، لأن الله حافظه، وحافظ من اتبعوه إلى يوم القيامة. وقد بين الله حصانه نبيه إذ قال :
﴿ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ﴾ هداية كاملة بالرسالة، بينها الله سبحانه وتعالى بأن الكتاب أنزل عليه مبينا به الشريعة الحق التي لا يأتيها الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو يحكم بقانون القرآن وعلمه الرسالة وأنزل عليه الحكمة وهي الفهم الصحيح، وفقه الواقع والمسائل : وإن هذا التفسير له موضعه من الحق، فالله تعالى أنزل عليه الوحي بالسنة، فما كان ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
وإنه يعلم القرآن، وبالحكمة التي أنزلها على قلبه، قد أنار الله بصيرته فعلمه علما كثيرا لم يكن يعلمه، وكان فضله بهذه الرسالة وبهذا القرآن وبهذه الحكمة وبهذا العلم النوراني الذي علمه إياه عظيما لا حدود لعظمته.
وإن هؤلاء الذين يسعون في الأرض فسادا كانوا يحاولون أن يضلوا النبي، لولا كتاب الله الذي أنزل عليه، وحكمته التي أوحى بها إليه، وما علمه من علم، وأن أمثالهم في كل زمان، وهم أجرأ على الحكام إذ لا هداية من السماء تنزل على الحاكمين، فلا حواجز تحجزهم عن السعاية بالشر، فعلى الحكام أن يأخذوا حذرهم منهم، ولا يجعلوا منهم ألسنة تحكي حال غيرهم، بل عليهم أن يقطعوها، والله من ورائهم محيط.
﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ( ١١٤ ) ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا( ١١٥ ) ﴾.
في آخر الآيات السابقة أشار سبحانه إلى أن هناك طائفة تدبر التدابير للإخلال والإضرار، وأن الله تعالى مبطل مكرهم وتدبيرهم الشر، وفي هذا النص الكريم يشير إلى أن الشر لا يدبر إلا في خفاء ولا يكون في إعلان، وأن الناس يعلنون خيرهم ويخفون شرهم، والإسرار بمقتضى الطبيعة البشرية لا يكون إلا فيما يخشى إعلانه، ويتقى اطلاع الناس عليه، ولكن مع ذلك قد يكون من الخير الإسرار في بعض الأمور، ولذا قال تعالى :﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ﴾
﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ﴾ يقول الأصفهاني في مفرداته في بيان النجوى : إن أصل هذه المادة الانفصال عن الشيء، والنجوة والنجاة المكان المرتفع والنجوى عنده اسم مصدر للمناجاة، وهي المسارة، وهي عنده أن تخلو بإنسان وتخاطبه كأنك تسر إليه شيئا، ولا خير في كثير من هذه المناجاة، إلا أن تكون أمرا بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، فالأمر الأول من التناجي المحمود هو الأمر بالصدقة، والصدقة هي التبرع والتطوع بفعل الخير، من إنفاق مال، أو مساعدة ضعيف، أو إنظار مدين معسر أو ترك الدين والعفو عنه يقول تعالى :﴿ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم...( ٢٨٠ ) ﴾( البقرة ).
وقال عليه الصلاة والسلام :"ما تأكله العافية فهو صدقة"١. أي ما يقدمه الإنسان من قوة بدنية فهو صدقة، فمعونة الضعيف على حمل ما يحمل صدقة وبهذا التفسير العام لكلمة الصدقة نقول : كل ما يقدم من معونة إنسانية بالبدن أو المال عطاء أو تركا، وكل ما يتسامح فيه الإنسان : تأليفا لقلب محب يكون صدقة بل إن بعض العلماء جعلها تعم كل أبواب الخير، ومن ذلك قوله النبي صلى الله عليه وسلم :"كل معروف صدقة"٢.
والأمر الثاني من التناجي المحمود : الأمر بالمعروف في لغة القرآن الكريم معناها ما يقره العقل ولا يستنكره، ويقوي الروابط الاجتماعية، ويقيمها على دعائم من الفضيلة ورعاية الحقوق والواجبات، فالمعروف لفظ يعم كل أعمال البر، وخصوصا الاجتماعية منها : وإن المعروف مقابل المنكر. من حيث معناه ومن حيث حكمه. فالمنكر هو كل ما يضر الإنسان والمجتمع، وهو منهي عنه، والمعروف كل ما يصلح الإنسان والمجتمع، وهو مأمور به مطلوب. فالتناجي لتدبير خطة إصلاحية، ومبادئ اجتماعية وقيام بحق الله تعالى في إقامة مجتمع فاضل، هو من أفضل الفضائل، وإن المعروف يجب القيام به حيثما لاحت فرصته، وقد قال في ذلك الماوردي في كتابه القيم "أدب الدنيا والدين" :"ينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف أن يجعله حذار فواته، ويبادر خفية عجزه، وليعلم أنه من فرص زمانه وغنائم إمكانه".
والأمر الثالث الذي يصح التناجي فيه : أمر الإصلاح بين الناس، سواء كانوا جماعات وأمما، أم كانوا آحادا وأفرادا. والإصلاح بين الناس فريضة اجتماعية تجب على أولي العزم من الرجال، وهي ضريبة ذي الجاه والمنزلة، فإذا كان بين اثنين خصام وأزاله فقد قرب الله بين قلبين، وإن القضاء والفصل في الخصومات يورث في القلوب إحنا، بينما الصلح بينهم يبقي المودة. ولقد قال في ذلك الإمام عمر رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري "رد الخصوم حتى يصطلحوا فإن القضاء يورث بينهم الضغائن"، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :"من أصلح بين اثنين أعطاه الله تعالى بكل كلمة عتق رقبة"٣، وقال عليه الصلاة والسلام لأبي أيوب الأنصاري :"ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله ؟ تصلح بين أناس إذا تفاسدوا، وتقرب بينهم إذا تباعدوا"٤.
والإصلاح بين الجماعات المتناحرة أوفر خيرا من إصلاح الآحاد، والله تعالى يقول :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ( ٩ ) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ( ١٠ ) ﴾( الحجرات ).
فكرر سبحانه الأمر بالإصلاح قبل القتال وبعده وفي أثنائه.
وإن الذي أذهب النخوة من المسلمين قتال كبرائهم، وعدم وجود من يصلح ذات البين بينهم، حتى ترامى بعضهم في أحضان أعدائه وأعداء الله، وإثم ذلك على من لم يسع بالصلح، ورأب الكلم.
﴿ ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ﴾ العبادات في الإسلام ليست مقصورة على الصلاة والصوم والحج، بل إن كل عمل فيه خير إذا قصد به إرضاء الله سبحانه وتعالى يكون عبادة، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"٥، وإن محبة أي شيء لله تعالى عبادة، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله"٦.
ومن أجل هذا كان من يفعل الخير بالتناجي والتعاون على إصلاح الجماعة، بإفشاء البر والإصلاح بين الناس، وإقامة المعروف وإبعاد المنكر من يفعل ذلك طالبا مرضاة الله تعالى ولا يبغي سواه فإن الله تعالى سيؤتيه جزاءا عظيما بالغا أقصى درجات العظمة. وسوف هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل.
وعلى الناس من بعد أن يطلبوا مرضاة الله بقوة إيمان في كل ما يتجهون إليه من إصلاح شؤون الجماعة فلا بركة في عمل، مهما يكن صالحا في ذاته، إلا إذا طلب به إرضاء الله. فالقوانين والنظم التعاونية والاشتراكية إذا لم يقصد بها وجه الله لا بركة فيها. فعلينا أن نتجه إلى الله في كل ما نعمل :﴿ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ﴾.
١ هذا الحديث رواه أحمد: باقي مسند المكثرين مسند جابر بن عبد الله(١٤٢٢٦)، والدارمي: البيوع- من أحيا أرضا ميتة فهي له(٢٦٠٧). عن جابر رضي الله عنه.
وتأتي رواية مسلم: المساقاة(١٥٥٢)عن جابر بن عبد الله أيضا لتزيد الأمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة". قلت: فليس المقصود هنا بالعافية القوة البدنية كما سيأتي بعد. ولا عطر بعد عروس..

٢ رواه البخاري: الأدب- كل معروف صدقة(٦٠٢١)عن جابر رضي الله عنه، ومسلم: الزكاة- بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف(١٠٠٥) عن حذيفة رضي الله عنه..
٣ ذكره مع ما يليه القرطبي في التفسير ج٥، ص٣٨٢، عن أنس بن مالك. وذكر القرطبي أخبارا أخرى ثم قال: ذكر هذه الأخبار أبو مطيع مكحول بن المفضل النسفي في كتاب اللؤلئيات له، وجدته بخط المصنف في وريقة ولم ينبه على موضعها رضي الله عنه..
٤ المرجع السابق..
٥ متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
.

٦ سبق تخريج ما في معناها من حديث صحيح.
.

﴿ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ﴾
في آخر الآيات السابقة أشار سبحانه إلى أن هناك طائفة تدبر التدابير للإخلال والإضرار، وأن الله تعالى مبطل مكرهم وتدبيرهم الشر، وفي هذا النص الكريم يشير إلى أن الشر لا يدبر إلا في خفاء ولا يكون في إعلان، وأن الناس يعلنون خيرهم ويخفون شرهم، والإسرار بمقتضى الطبيعة البشرية لا يكون إلا فيما يخشى إعلانه، ويتقى اطلاع الناس عليه، ولكن مع ذلك قد يكون من الخير الإسرار في بعض الأمور، ولذا قال تعالى :﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ﴾
إن الكثير الذي يتناجى به الآثمون هو في أكثر أحواله يكون منشؤه أنهم لا يندمجون بإحساسهم مع المؤمنين، فهم في جانب إحساسهم وشعورهم، والرسول والمؤمنون في جانب آخر، وهم في الجانب الذي اختاروه يجعلون السلطان عليهم لجماعة أخرى، كأولئك المنافقين الذين كانوا يجعلون نصرهم في أمرهم لليهود أو للمشركين، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ﴾، والشقاق أو المشاقة، وهو أن يكون في شق والآخرون في شق، أي يكون في جانب بإحساسه وولائه، والرسول والمؤمنون في جانب آخر بإيمانهم وولائهم لله تعالى، وذلك كله بعد أن يتبين له الحق وقامت أدلة الهداية.
ومن يفعل ذلك فإنه يكون قد خرج من ولاية المؤمنين ونصرتهم إلى ولاية من يتولونه ونصرته، أي أنهم يكونون قد انضموا إلى أعداء الله تعالى !
وقد قال الإمام الطبري في تفسير هذا النص :"ومن يباين الرسول من بعد ما تبين له أنه رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ويتبع طريقا غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجا غير مناهجهم وذلك هو الكفر بالله، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجه. ﴿ نوله ما تولى ﴾ : يجعل ناصره ما استنصره، واستعان به"، ونرى من هذا أنه يجعل الشاقين كافرين، وذلك حق ولكننا نخصهم بالمنافقين من الكفار، لأنهم الذين كانوا مع إظهارهم الإسلام يكونون في شق، والمؤمنون والرسول معهم في جانب الحق، وقد ذكر سبحانه العقوبة المترتبة على ذلك فقال :
﴿ ونصله جهنم وساءت مصيرا ﴾ أصل الصلى إيقاد النار، وصلى بالنار بلى بها، وصلى النار دخل فيها، وأصلاه فيها أدخله فيها، فمعنى قوله تعالى :﴿ ونصله جهنم ﴾ أدخلناه جهنم يشوى فيها كما تشوى الشاة، وأنها باقية، وهو يخلد فيها لا يخرج منها يوم القيامة أبدا. كذا قال تعالى :﴿ وساءت مصيرا ﴾ أي أنها مصيره الدائم الباقي ولا مصير له سواه، لأنه كافر معاند للحق بعد أن تبينت له كل الأدلة المثبتة، وما أشد ذلك المصير سوءا وقبحا، وهو جزاء لما كانوا يعملون.
وقبل أن نختم الكلام في ذلك النص نقول : إن بعض علماء أصول الفقه قالوا إن هذه الآية دليل على أن الإجماع حجة وينسبون ذلك الاستدلال إلى الشافعي، ولم نجد فيما كتبه الإمام الجليل ما يدل على أنه استشهد بها في بيان حجية الإجماع، ولا نجد روح الآية ومعناها يدل على ذلك لأنها كانت في قوم منافقين كافرين، شاقوا الرسول والمؤمنين. وقد رد الغزالي في كتابه "المستصفى" القول بأنها دليل على حجية الإجماع وكان كلامه حقا، والله سبحانه وتعالى أعلم. اللهم لا تجعل ولايتنا لغيرك واجعل ولايتنا لك ولرسولك وللمؤمنين.
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ( ١١٦ ) إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ( ١١٧ ) لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ( ١١٨ ) ﴾.
كانت الآية السابقة على هذه النصوص مبينة مصير أولئك الذين يكونون في شق، والنبي وأصحابه في شق آخر، يوالون أعداء المسلمين، ويناصرونهم، ويتخذون النصرة منهم، لا يرجون خيرا إلا منهم ولا يقدمون الولاء لغيرهم وفي هذا النص الكريم يفتح الله تعالى باب التوبة والغفران لهم، حتى لا يسرفوا على أنفسهم ويقنطوا من رحمة الله تعالى وقد نهى سبحانه وتعالى عن ذلك فقال :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم( ٥٣ ) ﴾( الزمر ).
وفي نص الآية التي نتصدى للكلام في معناها، يبين سبحانه أن كل ذنب قابل للغفران عند التوبة إلا أن يكون مشركا مصرا على الشرك
﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى لا يغفر الشرك به، والمراد بالشرك أن يعبد مع الله تعالى غيره، فالشرك في ذاته غير قابل للغفران، لأنه إلغاء لمعنى الوحدانية التي هي سمة الإسلام وروح العبادة ومعناها. وإنه يدخل في الإشراك بالله إنكار رسالة الرسل، بعد قيام الأدلة القطعية لأن ذلك تحكيم للهوى، وإبطال للغاية من الوحدانية إذ هي طريق العبادة الصحيحة، كما قال تعالى :{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون( ٥٦ )( الذاريات ).
فإذا كانت العبادة الصحيحة هي ثمرة الخلق والتكوين والخضوع المطلق لسلطان الله تعالى، فإن العبادة في القول والعمل ومعرفة الكون لا تكون إلا برسالة الله تعالى وحده إلى الإنسان، فمن كفر بهذه الرسالة فقد ألغى معنى الوحدانية.
والله تعالى لا يغفر الشرك، وكان تعبيره سبحانه بقوله :﴿ إن الله لا يغفر ﴾ للإشارة إلى أنه لا يغفر ذات الشرك، ولكن يغفر للمشرك إذ خلعه وتاب عنه، ودخل فيما يدعو إليه الرسل، كما قال تعالى :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف( ٣٨ ) ﴾( الأنفال ).
ولذلك أضيف نفي الغفران إلى الشرك لا إلى من تلبس به، فإن الغفران يلحقه إذا خلعه.
وما دون الشرك وإنكار الرسالة من العاصي، يكون تحت غفران الله سبحانه وتعالى، ويتعلق بمشيئته، ومشيئته سبحانه قد أشار إلى بعض ما تتعلق به من أعمال العباد، ومنها التوبة، فإن التوبة النصوح تخلع المؤمن من ذل المعصية إلى عزة القبول، ومنها كثرة الحسنات وقلة السيئات، فإن الله تعالى يقول :﴿... إن الحسنات يذهبن السيئات...( ١١٤ ) ﴾( هود ). فمن رجحت كفة الحسنات في ميزانه يوم القيامة، قد وعدنا رب العالمين بأنه يغفر له، ومشيئة الله تعالى لا حدود لها، ولكن منها ما بينه.
وقد قالوا في سبب نزول هذه الآية : إنه جاء شيخ من العرب إلى النبي صلى الله عليه سلم، فقال : إني شيخ منهمك في الذنوب، إلا أني لم أشرك بالله منذ عرفته، وآمنت به، ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أوقع المعاصي جرأة على الله تعالى، ولا مكابرة له وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا، وإني لنادم مستغفر، فما ترى حالي عند الله ؟ فنزلت هذه الآية١.
وفيها ما يدل على أن الله يغفر للتائبين المستغفرين الخارجين من نطاق المعصية إلى سعة الفضيلة، وإن ذلك لا يمنع غفران الله تعالى لمن كانت له معاصي وطاعات، والمعاصي لم تغلب عليه ولم تفسد نفسه، بل استمر قلبه مضيئا بنور الإيمان والحق.
﴿ ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ﴾قد يسأل سائل : إذا كانت التوبة تجب ما قبلها، والإيمان يجب ما قبله، فإذا انخلع الشرك، وحلت محله عقيدة الوحدانية وغفر الله ما تقدم من الشرك، كما ورد النص الذي تلوناه، فلماذا يفرق بين الشرك وغيره من المعاصي ؟ والجواب عن ذلك أن الشرك إذا سكن النفس واستقر فيها، كان الخروج منه صعبا وعسيرا ولذا قال سبحانه :﴿ ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ﴾.
والضلال هو السير في غير الطريق الموصل، فالضال في بادية يسير في غير طريق النجاة، وكلما بعد عن الطريق المستقيم أوغل في الضلال، والمشرك الذي تدرنت نفسه بالشرك قد ضل عن طريق النجاة، وكلما استمر في سيره كان مستمرا في الضلال، فمن يشرك بالله غيره، فيدعي لأن له شريكا في الخلق والتكوين أو في الوجود مما يماثله ذاتا أو صفاتا، أو يدعي أنه يستحق العبادة معه، فقد سار في طريق الشر سيرا بعيدا، ومن ضل سيجد كلما سار أبوابا من الشر، فمن كان في بحبوحة الإيمان قريب الرجوع، وتكون له حسنات بجوار السيئات، فيكون باب المغفرة مفتوحا، أما من أشرك بالله فقد كان في معاص مستمرة وليس له من الحسنات ما يرجح كفة الميزان لأن الشرك يقتل الحسنات قتلا، فلا تقبل فيه طاعة.
والشرك هنا هو نقيض الوحدانية، وهناك شرك خفي، وهو أنه يرائي في عبادته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :"من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك"٢.
ولا نرى أن هذا النوع من الشرك داخل في موضوع الشرك الذي ينفى عنه الغفران، لأن هذا النوع يقتل ما في العبادة من خير، وقد يكون للمرائي خير آخر، كالبر بأسرته والعطف على الجيران. والتعاون الاجتماعي الخالص.
وقد بين سبحانه صورا من ضلال المشركين وهي :
١- عبادة من لا يتصور عبادته عاقل مدرك إدراكا خاليا من التأثر بالباطل.
٢- ومنها خضوعهم المطلق للشيطان.
٣- ومنها توهم التقرب بما لا يتصور عقلا أنه مقرب، كتقطيع آذان الإبل والبقر والغنم وتغيير خلق الله تعالى فيها، ولذلك قال تعالى :﴿ إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ﴾
١ أخرجه الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما في تفسير الآلوسي، وذكره القرطبي في التفسيرج٥، ص٣٨٥ عن الضحاك..
٢ رواه أحمد عن شداد بن أوس، وقد سبق تخريجه..
﴿ إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ﴾
كانت الآية السابقة على هذه النصوص مبينة مصير أولئك الذين يكونون في شق، والنبي وأصحابه في شق آخر، يوالون أعداء المسلمين، ويناصرونهم، ويتخذون النصرة منهم، لا يرجون خيرا إلا منهم ولا يقدمون الولاء لغيرهم وفي هذا النص الكريم يفتح الله تعالى باب التوبة والغفران لهم، حتى لا يسرفوا على أنفسهم ويقنطوا من رحمة الله تعالى وقد نهى سبحانه وتعالى عن ذلك فقال :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم( ٥٣ ) ﴾( الزمر ).
وفي نص الآية التي نتصدى للكلام في معناها، يبين سبحانه أن كل ذنب قابل للغفران عند التوبة إلا أن يكون مشركا مصرا على الشرك
"إن" هنا هي النافية، والدعاء هنا العبادة، والالتجاء لإنقاذه من الهلاك أو المرض أو الكوارث بشكل عام. والمعنى : لا يتجهون في عبادتهم وضراعتهم بعد الله سبحانه ذي الجلال والإكرام إلا إلى إناث قد استبدلوهن بعبادة الله. فهم قد تركوا عبادة القوي القادر القاهر الذي هو فوق كل شيء، إلى عبادة العاجز الذي لا يستطيع حماية نفسه ورفع الضر عنه ! فالعبارة تفيد بمرماها أنهم تركوا عبادة من يحميهم ويكلؤهم إلى من لا يستطيع حماية نفسه.
ولكن لماذا عبر عن الأوثان التي كانوا يعبدونها بالإناث ؟
قد ذكر العلماء لذلك ثلاثة تعليلات مختلفة أولها أن العرب كانت عندهم أوثان تتسمى بأسماء إناث، كاللات والعزى ومناة، وعن الحسن البصري أنه لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يسمونه أنثى بنو فلان، وثانيها أنهم كانوا يقولون عن أصنامهم بنات الله، تعالى الله عما يقولون. وثالثها ما قرره الأصفهاني من أن المراد جماداتهم التي كانوا يعبدونها، فقال :"لما كانت معبوداتهم من جملة الجمادات التي هي منفعلة لا فاعلة، سماها الله تعالى أنثى، وبكتهم بها ونبههم على جهلهم واعتقاداتهم فيها، مع أنها آلهة لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر، بل لا تفعل فعلا بوجه من الوجوه".
وخلاصة هذه التعليلات أن الله تعالى يبين ضلال الشرك لأن العابد فيه لا يعبد إلا ما هو كالإناث، يحتاج إلى من يحميه ولا يحمي أحد، ويترك عبادة الله تعالى القهار القادر على كل شيء، الذي لا يوجد ذو قوة في هذا الوجود إلا كان يستمد قوته منه سبحانه.
وإن الذي يدفعهم إلى ذلك هو وسوسة الشيطان الذي كان سلطانه عليهم كسلطان المعبود الذي يعبد، ولذلك يقول تعالى :
﴿ وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ﴾"المريد" على وزن فعيل من الفعل( مرد )، وهذا الفعل يطلق بعدة إطلاقات، منها أن ( مرد ) معناها مرن على الشر ومن ذلك قوله تعالى﴿ ومن أهل المدينة مردوا على النفاق( ١٠١ ) ﴾( التوبة )، ومنها أنه من يخرج على الطاعة ومن ذلك( مارد، ومتمرد ) ويطلق على من ظهر شره، وتجرد من الخير، ومن هذا( شجرة مرداء ) إذا تساقط ورقها وظهرت عيدانها. وإن الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس ويدفعها إلى الشر فيه كل هذه الأوصاف، فهو قد تعود الشر وهو قد عتا، وهو قد خرج على الطاعة لله تعالى، وهو قد تجرد من كل خير فيكون المعنى على هذا : إنهم يدعون أي يعبدون في الواقع شيطانا قد عتا، وتجرد من الخير وتعود على الشر، فلا يكون منه إلا شر، وإذا كان هؤلاء يلجأون إليه في دعائهم، وكأنهم يعبدونه، إذ يعبدون الأوثان التي زينها لهم، فهم في أبعد الضلال ويسلكون طرقا من الشر متعددة وقد ذكر سبحانه ما يفعله الشيطان بعقول هؤلاء فقال تعالى :﴿ لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ﴾.
﴿ لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ﴾
كانت الآية السابقة على هذه النصوص مبينة مصير أولئك الذين يكونون في شق، والنبي وأصحابه في شق آخر، يوالون أعداء المسلمين، ويناصرونهم، ويتخذون النصرة منهم، لا يرجون خيرا إلا منهم ولا يقدمون الولاء لغيرهم وفي هذا النص الكريم يفتح الله تعالى باب التوبة والغفران لهم، حتى لا يسرفوا على أنفسهم ويقنطوا من رحمة الله تعالى وقد نهى سبحانه وتعالى عن ذلك فقال :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم( ٥٣ ) ﴾( الزمر ).
وفي نص الآية التي نتصدى للكلام في معناها، يبين سبحانه أن كل ذنب قابل للغفران عند التوبة إلا أن يكون مشركا مصرا على الشرك
أي إن الله سبحانه وتعالى طرده من رحمته، وأخرجه من جنته، كما عتا وتمرد وخرج عن طاعته، فلم يسجد لآدم، وقد أمره الله تعالى بالسجود له فلما طرده الله من ظلال جناته بسبب عصيانه بالنسبة لآدم، وجعل عمله في هذا الوجود مصادمة الخير، وجذب ذرية آدم إلى الشر قال مؤكدا بلسان المقال والفعال : لأتخذن من عبادك الذين خلقتهم من ذرية آدم نصيبا مفروضا، أي مقدارا معينا قليلا كان أو كثيرا، أي أنه سيستهوي طائفة من عباد الله، ويسيطر على نفوسهم ويجعلهم في طاعته، بدل أن يكونوا في طاعة الله سبحانه وتعالى، ويقول الأستاذ الإمام محمد عبده : إن النصيب المفروض هو ما للشيطان في نفس كل واحد من الاستعداد للشر، الذي هو أحد النجدين في قوله تعالى :﴿ وهديناه النجدين( ١٠ ) ﴾( البلد )، وفي الحق أن هذا ليس من اتخاذ الشيطان إنما هو خلق الشخص والشيطان يأخذ من يأخذه من العباد من طريق السيطرة على جانب الشر.
اللهم جنبنا وسوسة الشيطان وتزيينه، واجعلنا معك، ومع القرآن ومع الرسول ومع المؤمنين.
{ ولأضلنهم ولأمنينهم ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر
خسرانا مبين( ١١٩ )يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا( ١٢٠ )أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا( ١٢١ )والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا( ١٢٢ ) }.
ذكر الله سبحانه في الآيات السابقة ما عاهد الشيطان عليه نفسه الشريرة، من أنه سيتخذ نصيبا مفروضا مقدرا من بني آدم عباد الله سبحانه، بين الله سبحانه إضلاله لهم، وطريق هذا الإضلال وهو أن يمنيهم بالأماني الكاذبة، فيهيموا في أحلام لا أصل لها، ويجعلهم بها في أوهام، فيقطعون آذان الأنعام من غير مبرر معقول ويغيرون خلق الله من غير مبرر ويحسبون ذلك عبادة يتقرب بها، ولكنهم بها يتخذون الشيطان وليا فيغيرهم ويخدعهم، ويكونون في ضلال ولذلك قال سبحانه وتعالى :﴿ ولأضلنهم ولأمنينهم ﴾
﴿ ولأضلنهم ولأمنينهم ﴾ يؤكد الشيطان كما ذكر الله أنه سيضل عباده، ويبعدهم عن الحق، ليسيروا في الباطل إلى أقصى مداه ويتجنبوا الحق في كل مسالكه، وإنه قد بين سبحانه طريق الشيطان في الإضلال كما ذكرها على لسانه فقال :﴿ ولأمنينهم ﴾ أي لأجعلنهم يتمنون الأماني. والمعنى أن الشيطان في إضلاله للعباد يخلق في صدورهم أماني يتمنونها ويطمعون في تحقيقها فتستولي على نفوسهم وينفذ إليهم من طريق المطامع، بأن يودع في أنفسهم أوهاما يظنونها تحققها، فكلما تمنوا ألقى الشيطان في أمنيتهم أوهاما معها، فيصيرون خاضعين له على الدوام، والمؤمن يصون نفسه من الأماني فلا يخضع للشيطان ابتداء. وقد قال تعالى في صور الأوهام التي يضعها الشيطان في نفوسهم، فيكون كالآمر لهم :
﴿ ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ﴾ والبتك معناه القطع، وقد اختص بقطع أعضاء الجسم أو الشعر، والمراد بالقطع هنا ما كانوا يفعلونه إذ كانوا يقطعون آذان الأنعام، أو يشقونها شقا واسعا، ويتركون الحمل عليها، ويفعلون ذلك كأنه أمر تكليفي مطلوب منهم تقربا للأوثان، وما كان ذلك الأمر إلا من الشيطان الذي زين لهم ذلك فاتبعوه، فهو كالآمر لهم الذي يجعل ما ليس بعبادة أصلا عبادة، وإنك ذلك تشويه لما خلق الله سبحانه وتعالى. يروى في ذلك أن أبا الأحوص من الصحابة أتى النبي صلى الله عليه وسلم :"هل لك من مال" قال : نعم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"فإذا أتاك الله مالا، فلير عليك أثره"١، ثم قال عليه الصلاة والسلام :"هل تنتج إبل قومك صحاحا آذانها، فتعمد إلى موسى فتشق آذانها، وتقول : هذه بحر( أي جمع بحيرة ) وتشق جلودها، وتقول : هذه صرم( جمع صريمة ) ؟ قال : أجل. قال :"كل ما آتاك الله حل، وموسى الله أحد من موساك، وساعد الله أشد ساعدك"٢.
﴿ ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ﴾ أي أنه يزين لهم الشر، فيغيرون خلق الله تعالى بتشويه الأجسام بالخصاء وفقء الأعين والوشم وتغيير الفطرة بتحويلها إلى أوهام.
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه :"إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم، فحرمت عليهم ما أحللت، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وأمرتهم أن يغيروا خلقي"٣. فتغيير الخلق يشمل التغيير المادي والمعنوي، وكان كل ذلك خضوعا لأوامر الشيطان. فكانوا بهذه أولياءه.
﴿ ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ﴾ ومن يوالي الشيطان فيطيعه مع أنه متمرد عن الحق، داع إلى الشر ويترك الحق وأمر الله فإنه بهذا يخسر خسرانا واضحا يخسر الحق فلا يتبعه، ويرتكب الشر ويترك المعقول إلى المرذول، ويمسخ فطرة الله تعالى، وتنحرف نفسه ويلتوي تفكيره، وتشوه إنسانيته وذلك خزي في الدنيا ووراءه عذاب في الآخرة وأي خسارة أعظم من هذه الخسارة وأوضح منها.
١ رواه: النسائي الزينة(٥٢٢٣) وأحمد: مسند الشاميين حديث أبي الأحوص عن أبيه(١٦٧٨٠)..
٢ تتمة الرواية السابقة كما في مسند أحمد: مسند المكيين حديث مالك بن نضلة عن أبيه(١٥٤٥٧)..
٣ جزء من حديث طويل رواه مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها الصفات التي يعرف بها في الدنيا(٢٨٦٥)..
﴿ يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ﴾
ذكر الله سبحانه في الآيات السابقة ما عاهد الشيطان عليه نفسه الشريرة، من أنه سيتخذ نصيبا مفروضا مقدرا من بني آدم عباد الله سبحانه، بين الله سبحانه إضلاله لهم، وطريق هذا الإضلال وهو أن يمنيهم بالأماني الكاذبة، فيهيموا في أحلام لا أصل لها، ويجعلهم بها في أوهام، فيقطعون آذان الأنعام من غير مبرر معقول ويغيرون خلق الله من غير مبرر ويحسبون ذلك عبادة يتقرب بها، ولكنهم بها يتخذون الشيطان وليا فيغيرهم ويخدعهم، ويكونون في ضلال ولذلك قال سبحانه وتعالى :﴿ ولأضلنهم ولأمنينهم ﴾
صور الله سبحانه وتعالى حال إغراء الشيطان بأنه عمل عملين، لا يكون فيهما أي نفع عاجل أو آجل، فهو أولا يسرف في وعدهم بمتع لا حد لها، بأن يصور لهم أن فيما يفعلون من شر متعا كثيرة، ونفعا كبيرا، وليس لذلك أي أثر. وثانيهما : أنه يجعل النفس تتمنى ما لا يعقل ويكون بعيد الوقوع. ومن وراء تلك الأماني تنفذ إلى النفس الأوهام فتسيطر عليها. وما كان ذلك الوعد وإثارة الأمنيات إلا الغرور والخيبة في ذاتها.
﴿ أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ﴾
ذكر الله سبحانه في الآيات السابقة ما عاهد الشيطان عليه نفسه الشريرة، من أنه سيتخذ نصيبا مفروضا مقدرا من بني آدم عباد الله سبحانه، بين الله سبحانه إضلاله لهم، وطريق هذا الإضلال وهو أن يمنيهم بالأماني الكاذبة، فيهيموا في أحلام لا أصل لها، ويجعلهم بها في أوهام، فيقطعون آذان الأنعام من غير مبرر معقول ويغيرون خلق الله من غير مبرر ويحسبون ذلك عبادة يتقرب بها، ولكنهم بها يتخذون الشيطان وليا فيغيرهم ويخدعهم، ويكونون في ضلال ولذلك قال سبحانه وتعالى :﴿ ولأضلنهم ولأمنينهم ﴾
أولئك الذين يعطون ولايتهم للشيطان ويخسرون فطرتهم السليمة ونفوسهم المستقيمة وعقولهم المدركة، تحت سلطان الأماني الكاذبة والأوهام الخادعة، لا يكون لهم مأوى يوم القيامة غير جهنم، ولا يجدون ملجأ دونها يلجئون إليه، فلا مفر منها ولا مهرب، وذلك جزاء إضرارهم لفطرتهم وانحرافهم عن الجادة، ويرميهم بغرور الشيطان، وإن ذلك يتبعه الأذى لبني الإنسان، وتركهم عبادة الديان، والإعراض عن الحق إذا جاءهم به رسل الله تعالى، وأنهم لا معدل لهم عنها ولا مهرب، وهذا معنى :﴿ ولا يجدون عنها محيصا ﴾ أي معدلا ومهربا من حاص يحيص عدل وهرب.
ولقد بين الله تعالى في مقابل ذلك جزاء المتقين. فإنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا( ١٢٢ ) ﴾.
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا( ١٢٢ ) ﴾.
ذكر الله سبحانه في الآيات السابقة ما عاهد الشيطان عليه نفسه الشريرة، من أنه سيتخذ نصيبا مفروضا مقدرا من بني آدم عباد الله سبحانه، بين الله سبحانه إضلاله لهم، وطريق هذا الإضلال وهو أن يمنيهم بالأماني الكاذبة، فيهيموا في أحلام لا أصل لها، ويجعلهم بها في أوهام، فيقطعون آذان الأنعام من غير مبرر معقول ويغيرون خلق الله من غير مبرر ويحسبون ذلك عبادة يتقرب بها، ولكنهم بها يتخذون الشيطان وليا فيغيرهم ويخدعهم، ويكونون في ضلال ولذلك قال سبحانه وتعالى :﴿ ولأضلنهم ولأمنينهم ﴾
إذا كان الشيطان يعد أولياءه بالأماني الكاذبة ويدفعهم إلى أوهام لا أصل لها، فالله تعالى قد وعد المؤمنين وعدا حقا، وإذا كان المشركون قد رأوا مآلهم جهنم لا يجدون عنها معدلا، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وأولئك يستحقون هذا، أولا بإيمانهم الصادق وانفكاكهم عن حبائل الشيطان وبعدهم عن غروره وخديعته، وثانيا بأعمالهم الطيبة الصالحة المبنية على أسباب معقولة لا على أهواء مرذولة، فهي تفيد أنفسهم ومجتمعهم، ويؤدون بها حق ربهم.
وإن ذالك الجزاء اتصف بأمور ثلاثة :
أولها : أنه نعيم مادي فهو جنات وحدائق فيها كل ما تشتهيه الأنفس.
وثانيها : أن فيها نعيما معنويا تلذ به الأعين، وتنشرح له الصدور، وهو أن الأنهار تجري من تحت قصور، فتريهم منظرا بهيجا يسر الناظرين إليه.
وثالثها : أنها خالدة لا تنقطع ولا تزول، ولا يعرض لها تغيير ولا تبديل. وهناك ما هو أغلى من كل هذا وهو رضوان الله تعالى.
وإذا كان الشيطان قد غر أولياءه فقد صدق الله تعالى أولياءه فقال :
﴿ وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ﴾ وعد الله تعالى وعدا، وحقه حقا فهو وعيد ثابت لا يقبل تغييرا ولا تبديلا، إذ هو وعد ثابت صادق لأنه وعد الله تعالى، ولا يوجد أصدق قولا من الله تعالى، فالاستفهام في قوله تعالى :﴿ ومن أصدق من الله قيلا ﴾، للنفي والمعنى لا يوجد في هذا من أصدق من الله قولا، فقيل معناها قول مؤكد لا ريب، وصدق وعد الله تعالى، لأنه من ذي الجلال والإكرام المهيمن على كل شيء، فلا يتصور أن يكون من قوله سبحانه غير الحق والصدق وفوق ذلك هو وحده القادر على تنفيذ ما وعد به.
وهذا في مقابل تغرير الشيطان بالأوهام والوعود الكاذبة لأنه عاجز عجزا مطلقا والله تعالى هو القادر قدرة مطلقة، اللهم اجعلنا ممن يصدق فيهم وعدك ولا يصدق فيهم وعيدك، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا( ١٢٣ )ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا( ١٢٤ ) ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا( ١٢٥ ) ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا( ١٢٦ ) ﴾.
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى أن الشيطان يلقي بالأماني الباطلة في نفوس الذين يوسوس لهم بالشر، فيجعلهم يتمنون الخير في غير موضعه ويقومون بأعمال يرجون بها نفعا ولا نفع فيها، فليس الخير عندهم بعمل صالح يقومون به، ولكنهم يتمنون المثوبة فيما لا مثوبة فيه، ويرجون الخير من غير أن يتخذوا أسبابه، وفي هذه الآيات يبين سبحانه وتعالى أن الأمور ليست بالتمني، ولكن بالعمل، ومن يعمل سوءا يجز به، ومن يعمل صالحا ينل جزاءه، فقال سبحانه :﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ﴾
﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ﴾ إن الله أوعد المفسدين بالشر، ووعد الصالحين بالثواب العظيم والنعيم والمقيم، ولكن الأماني تتحكم في النفوس فتتمنى ما لم تعمل له، وتسير وراء ما تتمنى من غير أن يربطوا بين العمل والجزاء، والسبب والمسبب فنبه سبحانه إلى ذلك.
الأماني جمع أمنية، وهي ما يتمناه الإنسان، ويرغب فيه، ويحبه ولو لم يتخذ له أسبابه والضمير١ في قوله تعالى :﴿ ليس بأمانيكم ﴾ يعود على ما وعد به من عذاب وثواب، والمعنى ليس ما ينزل بكم جزاء لما تعملون بالأماني تتمنونها، ولكن لمن الخطاب في قوله :﴿ ليس بأمانيكم ﴾ ؟ أهو للمشركين أم لعامة المسلمين ؟ في ذلك توجيهان : أحدهما أن الخطاب للمسلمين والمعنى على هذا : ليس الأمر بما تتمنون أنتم معشر المسلمين وأهل الكتاب إنما بما تعملون فمن يعمل عملا لسوء نفسه أو غيره يجز به في الدنيا والآخرة، ولا يجد له غير الله نصيرا ينصره، أو وليا يعاضده أو يواليه في شره بل الجميع يبرأ منه، ويزكي ذلك الوجه ما يروى عن قتادة لقد قال : ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم، نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فنزلت الآية ﴿ ليس بأمانيكم ﴾.
وقد يكون في هذا الوجه نظر لأنه يضع أهل الكتاب في موضع المؤمنين في الاحتجاج، مع أن كلام أهل الإيمان هو الحق الذي لا شك فيه، وفيه الإيمان بالكتب السابقة مع الكتاب الكريم.
والوجه الثاني أن يكون الخطاب لمشركي العرب، ويكون في الكلام التفات فبعد أنه كان يتكلم عنهم بضمير الغائب٢، التفت وخاطبهم بضمير الخطاب تنبيها لهم وبيانا للحق، وبيان أن العمل هو الذي يقدم صاحبه ويؤخره ويزكي هذا الوجه ما روي عن مجاهد شيخ مفسري التابعين فقد قال :"قالت العرب : لن نبعث ولن نعذب وقال اليهود والنصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، تلك أمانيهم"، فكانت هذه الآية ﴿ ليس بأمانيكم ﴾ ردا على هذه الأوهام.
وقد رجح ذلك الوجه ابن جرير الطبري، وقال في ترجيحه : وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد، لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله تعالى :﴿ ليس بأمانيكم ﴾ وإنما جرى ذكر أماني نصيب الشيطان المفروض، وذلك في قوله تعالى :﴿ ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ﴾.
وقوله تعالى :﴿ ليس بأمانيكم ﴾ فإلحاق معنى قوله تعالى :﴿ ليس بأمانيكم ﴾ بما جرى ذكره قبل، أحق وأولى من ادعاء تأويل لا دلالة عليه من التنزيل ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من أهل التأويل.
وإنما نختار ما اختاره ابن جرير لما ساقه من دليل.
وقوله تعالى :﴿ من يعمل سوءا يجز به ﴾ ما هو الجزاء ؟ أهو الدنيوي أم الأخروي ؟ قال بعض العلماء إنه الجزاء الدنيوي ويستدل على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه عطاء لأبي بكر : يا أبا بكر إنك تمرض، وإنك تحزن وإنك يصيبك أذى فذاك بذاك٣، وكان هذا تفسيرا للنص.
وقال آخرون : إن المراد الجزاء الأخروي، وهو مناسب للنص، وللآيات السابقة والجزاء القرآني دائما جزاء أخروي والحق هو القول الأخير أن الجزاء هو الأخروي والدنيوي إن كانت حكمة الله تعالى في جزاء دنيوي كالتشريد والذلة، والهزيمة في الحروب.
وقوله تعالى :﴿ ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ﴾ أي أن الشيطان الذي كان يوسوس لهم يختفي سلطانه ولا يكون له ولاء لهم، لا يوادهم ولا يحبهم، ولا يناصرهم كما قال تعالى عنه وعنهم يوم القيامة :﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم( ٢٢ ) ﴾( إبراهيم ).
هذا جزاء أهل الشر أما جزاء أهل الخير فقد ذكره سبحانه وتعالى بقوله :﴿ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ﴾.
١ المقصود بالضمير، أي المستتر وهو اسم ليس..
٢ أي فيما سبق من الآيات البينات قبل هذه الآية الكريمة..
٣ عن أبي بكر بن أبي زهير قال أبو بكر: يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ قال: "يرحمك الله يا أبا بكر ألست تمرض ألست تحزن ألست تصيبك اللأواء؟" قال: بلى. قال: "فإن ذاك بذاك". (رواه أحمد في مسند العشرة: مسند أبي بكر(٧٠)). وروى مسلم في صحيحه: البر والصلة والآداب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن(٢٥٧٤)..
﴿ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ﴾
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى أن الشيطان يلقي بالأماني الباطلة في نفوس الذين يوسوس لهم بالشر، فيجعلهم يتمنون الخير في غير موضعه ويقومون بأعمال يرجون بها نفعا ولا نفع فيها، فليس الخير عندهم بعمل صالح يقومون به، ولكنهم يتمنون المثوبة فيما لا مثوبة فيه، ويرجون الخير من غير أن يتخذوا أسبابه، وفي هذه الآيات يبين سبحانه وتعالى أن الأمور ليست بالتمني، ولكن بالعمل، ومن يعمل سوءا يجز به، ومن يعمل صالحا ينل جزاءه، فقال سبحانه :﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ﴾
وهنا يذكر سبحانه وتعالى جزاء الذين يعملون عملا صالحا فيعنيه ولا يتركه مجملا، فقد ذكر في الآية السابقة جزاء الشر به ولم يبينه، ولكنه ذكر أنه على قدر العمل من غير أن يبين صنف الجزاء. والعبرة في ذلك هو المساواة بين الجزاء والعمل، وأنه بهذا لا يظلم لأن الجزاء على قدر العمل فالجريمة والعقاب متساويان.
وهنا ملاحظتان، إحداهما أن الله تعالى يقول :﴿ ومن يعمل من الصالحات ﴾ أي أنه يعمل بعض الصالحات، وذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يعمل كل الصالحات بل يستطيع أن يعمل بعضها، لأن طاقته النفسية والبدنية لا تمكنه من عمل كل الخير، وكل يعمل على قدر طاقته من غير تقصير، والله تعالى يغفر القصور، وفي ذلك إشارة إلى أن الإنسان يطلب من العباد ما يطيق من غير شقة ولذلك لم يطالب النبي صلى الله عليه وسلم بأقصى الغاية من العبادة، بل قال :"سددوا وقاربوا"١.
والملاحظة الثانية : أنه ذكر الأنثى في قوله تعالى :
﴿ من ذكر وأنثى ﴾ و( من ) هنا بيانية، فهي بيان لمن في قوله تعالى :﴿ ومن يعمل ﴾ والأحكام الشرعية كلها تشمل النساء والرجال، إلا ما يقوم الدليل فيه على أن أحد الصنفين مختص بحكم لأنه يكون ملائما لطبيعته، وإن ذكر الإناث في الأحكام العامة فيه إشعار بكمال الإنسانية في المرأة، وأنها لها حقوقا، وعليها واجبات اقتضاها التكليف فما من عبادة إلا طولبت بها المرأة كما طولب بها الرجل، وإن كان للرجل اختصاص في بعض العبادات كالجهاد، وسبب ذلك الرجولة ذاتها، والإعفاء من واجب شاق لا يعد حرمانا، وفي الحق إن المرأة تقوم بواجبات شاقة تنفرد بها أيضا، كالحمل والولادة والقيام على شؤون الأولاد في المهد.
وقد اشترط لاستحقاق الأعمال الصالحة أن يكون من يعملها متصفا بالإيمان فإن الجزاء من الله تعالى ويجب أن يكون العمل قد قصد به وجهه وحده. فالثواب ليس على مجرد العمل، بل على النية فيه، وقصد الخير وذلك لا يكون إلا إذا قصد به وجه الله تعالى.
وقد أكد سبحانه وتعالى الجزاء بقوله :
﴿ ولا يظلمون نقيرا ﴾ أي لا ينقصون من عملهم الصالح شيئا، ولو كان شيئا صغيرا بقدر النقير، وهو العلامة التي تكون في ظهر النواة، فتظهر كثقب صغير وتسمى نقرة كأنها حصلت بمنقار طائر صغير، ويضرب العرب بها المثل في القلة.
وإن مثل هذا الجزاء لا يستحقه العبد إلا بفضل من الله تعالى بدليل أنه يقبل بعض الصالحات ويدخل الجنة عليها، ولا ينقص شيئا فهو يفيض بالثواب ولا ينقص من عمل الخير.
وقد تساءل الزمخشري لماذا ذكر عدم الظلم ولم يذكره في عمل السوء ؟ وأجاب عن ذلك بأن عدم الظلم ملاحظ هناك بذكره هنا. وفي الحق إن عدم الظلم ملاحظ هناك من النص ذاته، فقد ذكرنا أن الله سبحانه وتعالى قال :
﴿ من يعمل سوءا يجز به ﴾ وهذا فيه النص على أن الجزاء بقدر العمل، ومؤدى هذا ألا يظلم، وكان الجزاء عمل الغير أكثر منه من أن ينقصوا، أما في عمل الشر فالجزاء لا زيادة فيه، والإيمان الصادق الذي لا تسيطر عليه الأماني والأحلام هو الاتجاه إلى الله تعالى ولذا قال سبحانه :﴿ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ﴾.
١ جزء من حديث متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه..
﴿ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ﴾
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى أن الشيطان يلقي بالأماني الباطلة في نفوس الذين يوسوس لهم بالشر، فيجعلهم يتمنون الخير في غير موضعه ويقومون بأعمال يرجون بها نفعا ولا نفع فيها، فليس الخير عندهم بعمل صالح يقومون به، ولكنهم يتمنون المثوبة فيما لا مثوبة فيه، ويرجون الخير من غير أن يتخذوا أسبابه، وفي هذه الآيات يبين سبحانه وتعالى أن الأمور ليست بالتمني، ولكن بالعمل، ومن يعمل سوءا يجز به، ومن يعمل صالحا ينل جزاءه، فقال سبحانه :﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ﴾
والاستفهام هنا بمعنى النفي، فالمعنى لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن، والنفي هنا هو نفي الحسن، ولكن المراد هو الحق، والمعنى لا أحد يؤمن بحق إلا من أسلم وجهه لله. ولكن التعبير بأحسن يفيد بأن هذا هو الحق وهو الأمر الحسن في ذاته الذي لا تستحسن العقول السليمة سواه، وتستقبح غيره.
ومعنى﴿ أسلم وجهه لله ﴾ أخلص نفسه، وجعلها كلها لله تعالى، لا يحب إلا له، و يبغض إلا له، ولا يطلب جاه غيره، والتعبير :﴿ أسلم وجهه ﴾ معناه أسلم ذاته، فالوجه يعبر عنه بالذات، لأن به المواجهة ولأنه أوضح أجزاء الجسم. وإن هذا الدين الخالص لوجهه تعالى لا يستقيم بمجرد النية، بل لا بد أن يقترن مع ذلك بإحسان العمل وإتقانه ولذلك قال تعالى :﴿ وهو محسن ﴾ فالدين الحق الخالص يقتضي أمرين لا محالة : أحدهما : إخلاص القلب والنية لله تعالى، بحيث لا يكون عامرا إلا بذكر الله تعالى، والثاني : إتقان العمل الصالح وإجادته فلا عمل يكون صالحا من غير إيمان، ولا إخلاص يكون من غير إحسان العبادة والعمل الصالح.
وقد ذكر سبحانه أن الإخلاص والعمل هو دين النبيين أجمعين، ولذلك قال :﴿ واتبع ملة إبراهيم حنيفا ﴾ أي أن هذه الملة هي الدين المنهج، أي كان في إخلاصه وإتقانه للعمل متبعا منهاجا إبراهيم، وإبراهيم أبو الأنبياء، فمنهاجه هو منهاج كل الرسل وإتباع ملته إتباع لكل الرسل. وكان حنيفا أي مائلا إلى الحق متجها إليه دائما، منذ كان غلاما إلى أن بعثه الله تعالى نبيا مرسلا، وقد قال لأبيه وقومه كما حكى القرآن الكريم :﴿... إنني براء مما تعبدون( ٢٦ ) إلا الذي فطرني فإنه سيهدين( ٢٧ )وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون( ٢٨ ) ﴾ ( الزخرف ).
وفي الجملة من أخلص لله وأحسن، فهو متبع دين النبيين جميعا، وإن اتباع دين محمد هو اتباع الأديان السماوية كلها لأنه إيمان بكل الرسل.
وقد كرم الله سبحانه وتعالى إبراهيم لإخلاصه وتوجهه إلى الله تعالى بقلب سليم، وإحسانه في العمل، بأن جعل خليله، فقال تعالى :
﴿ واتخذ الله إبراهيم خليلا ﴾ أي اصطفاه من بين خلقه، فأعطاه ذلك الاسم الجليل وذلك الوصف الكريم. ومعنى الخليل الحبيب الذي يلجأ إلى حبيبه فهو من الخلة وهي المحبة، أو من الخلة بمعنى الحاجة١. والحقيقة أن إبراهيم عليه السلام كان فيه الأمران معا فهو من جانبه كان يحب لله، ويبغض لله ولا يطلب شيئا إلى لله. وكان مع ذلك لا يعتمد في حاجة إلا على الله سبحانه وتعالى وهو يقول في بيان حاجته إلى ربه :﴿ الذي خلقني فهو يهدين( ٧٨ ) والذي هو يطعمني ويسقين( ٧٩ ) وإذا مرضت فهو يشفين( ٨٠ )والذي يميتني ثم يحيين( ٨١ )والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين( ٨٢ )رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين( ٨٣ )واجعل لي لسانا صدق في الآخرين( ٨٤ ) ﴾( الشعراء ) }.
هذا ما كان من جانب إبراهيم. أما ما كان من جانب الله، فإنه قد أفاض عليه بنعمه ظاهرها وباطنها، وجعل من ذريته النبيين وحماه من أعدائه وقربه إليه وصار من عباده المخلصين ثم منحه وضعا لم يمنحه غيره، وهو أنه خليله.
١ الأولى خلة (بالضم)، والثانية وهي الحاجة والفقر بالفتح.
.

﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا ﴾
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى أن الشيطان يلقي بالأماني الباطلة في نفوس الذين يوسوس لهم بالشر، فيجعلهم يتمنون الخير في غير موضعه ويقومون بأعمال يرجون بها نفعا ولا نفع فيها، فليس الخير عندهم بعمل صالح يقومون به، ولكنهم يتمنون المثوبة فيما لا مثوبة فيه، ويرجون الخير من غير أن يتخذوا أسبابه، وفي هذه الآيات يبين سبحانه وتعالى أن الأمور ليست بالتمني، ولكن بالعمل، ومن يعمل سوءا يجز به، ومن يعمل صالحا ينل جزاءه، فقال سبحانه :﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ﴾
وبعد أن أشار سبحانه إلى أن الله تعالى منفذ عقابه وثوابه، وإلى أن الدين الحق هو إخلاص الذات، والقلب والنفس لله تعالى، بين سبحانه وتعالى أن ما في السماوات والأرض كله لله. فمن أخلص لله تعالى، فقد أخلص للقوي القادر القاهر الذي لا يخرج عن سلطانه شيء في الملكوت. وإن هذا لدليل على أنه وحده المستحق للعبادة وإسلام الوجه والطاعة له سبحانه وتعالى.
وإنه سبحانه يحيط بكل شيء في هذا الوجود إحاطة قدرة وتصرف، فهو وحده المتصرف في السماوات والأرض وما بينهما وإحاطة علم فهو يعلم كل ما في الكون وما في النفوس فلا يخفى عليه شيء في السماوات ولا في الأرض إنه وحده الخالق والمكون والمصرف والسميع البصير. اللهم املأ قلوبنا بذكرك فبذكرك تطمئن القلوب.
﴿ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما( ١٢٧ ) ﴾.
تعرضت سورة النساء لأحكام الأسرة في أولها، وبينت أحكام المواريث، والعلاقات المحرمة للزواج ثم أشار سبحانه إلى حق الرجل وحق المرأة في الأسرة، وتعرضت من بعد ذلك للعلاقات الاجتماعية بين الناس، وبينت أن أساسها إقامة العدالة وتنفيذ أحكام الله تعالى ثم ذكرت أدواء الجماعات، وأساسها الاعتداء من الخارج بالحروب ومن الداخل بالنفاق وما يتبعه من فساد خلقي وانحلال نفسي وتعرضت من بعد ذلك لسبب الاعتداء والشرك والنفاق وهو تحكم الشيطان في النفوس.
ومن بعد ذلك عاد إلى بيان العلاقة بين الزوجين وفقه علاجها، وعلاقة آحاد الأسرة والطب لأدواء الضعف بينهم. وفي خلط أحكام الأسرة والعلاقات فيها، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية العامة إشارة إلى قيام المجتمع على الأسرة وأن صلاحها صلاح له، وأنه من الأخلاق الاجتماعية الفاسدة تجيء آفات الأسرة، ومن قوة العلاقات الأسرية تجيء قوة المجتمع المتماسكة، فرعاية ضعفاء الأسرة توجد قوة للأمة تشترك في حماية زمارها، ومن إهمالها تكون عناصر مقوضة لبنائها والآيات التي نتكلم في معانيها مبينة علاج الضعفاء والعناية بهم، فقد قال تعالى :
﴿ ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء ﴾ الاستفتاء معناه طلب الفتيا أو الفتوى، ومعنى الفتوى حل ما يشكل من الأمور، وإن العرب قد وقعوا في إشكال بالنسبة للمرأة فقد كانوا في الجاهلية لا يفرضون لها حقوقا لا تأخذ من ميراث ولا يكون لها أي حق قبل زوجها، بل كان عليها تبعات، من غير أن تلاحظ من جانبها واجبات فجاء الإسلام وأعطاها في مقابل واجباتها حقوقا، فقال تعالى :﴿... ولهن مثل الذي عليهن( ٢٢٨ ) ﴾( البقرة ).
فكانوا في كل تصرفهم بالنسبة للمرأة تعتريهم حيرة أينفذون دينهم وحكمهم الجاهلي أم أن للإسلام في كل أمر من هذه الأمور حكما تجب رعايته ويجب إتباعه فكثرت الأسئلة وتعددت موضوعاتها فمنهم من يسأل عن الميراث ومنهم من يسأل عن الصداق. ومنهم من سأل عن المعاملة وجاءت الروايات فرادى ببعض الأسئلة وكلها ينتهي إلى مجموعها وهو حيرتهم في أمر المرأة وقد أجاب سبحانه هذا الاستفتاء بقوله تعالى :
﴿ قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ﴾ أي يفتيكم الله تعالى مبينا أمرهن وما يجب لهن، وقوله تعالى :﴿ وما يتلى عليكم ﴾ قال كثير من المفسرين إن "ما" هنا في موضع الرفع بالعطف على لفظ الجلالة والمعنى يفتيكم الله ويعلمكم أحكام النساء وحقوقهن كما يعلمكم ما يتلى عليكم في كتاب الله من أحكام اليتامى من النساء اللاتي كتب لهن في كتاب الله من ميراث وحقت رعايتهن والقسط معهن عند الزواج، وإلا فليتزوج من غيرهن.
وقد قرر سبحانه وتعالى هنا وجوب العدل مع اليتيمة عند الرغبة في الزواج، وصرح بما أشار إليه قوله :﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ﴾ على ما فهمه بعض المفسرين من أن المراد إن خفتم ألا تقسطوا في النساء اليتامى فتزوجوهن من غير أن تعطوهن حقهن من ميراث أو صداق، وقد قال سبحانه في ذلك :﴿ وترغبون أن تنكحوهن ﴾ والمعنى لا تؤتونهن ما كتب الله لهن من حقوق، وترغبون أن تنكحوهن.
وهناك نجد قوله تعالى :﴿ أن تنكحوهن ﴾ مصدرا١ قد دخل عليه حرف جر محذوف، وهو إما( في )، وإما ( عن ) وعلى أن المحذوف : لا تعطونهن ما كتب الله لهن من حقوق وترغبون في نكاحهن لأنفسكم، فلا تعطوهن ميراثا ولا صداقا وعلى أن المحذوف "عن" يكون المعنى لا تعطونهن ميراثهم وتمنعونهن من النكاح، وترغبون عنه لكي يبقى المال تحت أيديكم.
ويظهر أن الذين كانوا يقدمون على شأن يتامى النساء فريقان، فريق يأكل مالها ولا يعطيها صداقها، ويرغب في نكاحها لجمالها، وفريق يستبد بمالها، ويرغب عن زواجها من نفسه أو من غيره حرصا على مالها، والآية تشمل الفريقين وتندد بالطائفتين ولقد روي أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه ولي اليتيمة، فإن كانت حسنة غنية قال عمر : زوجها غيرك والتمس لها من هو خير منك، وإن كانت بها دمامة ولا مال لها، قال له : تزوجها فأنت أحق بها، وقد قال علي بن أبي طالب لولي يتيمة : تزوجها إن كنت خيرا لها، فإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير.
ولم تكن رعاية الله تعالى في أحكامه خاصة بيتامى النساء، بل إنها تعم المستضعفين وسائر اليتامى، ولذا قال سبحانه :﴿ والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط ﴾ وصيتان بنوع واحد من الضعفاء في الأسر وهم اليتامى بيد أن إحداهما مؤداها إعطاؤهم حقهم من المال. والثانية القيام على رعايتهم وحفظهم من الضياع وواضح أن الثانية عامة تشمل اليتيم الذي ترك له أبوه مالا أو نال مالا من أية ناحية من النواحي، والأولى تكون لذوي المال.
وبالنسبة لهذه الوصية القرآنية الإلهية نقول : إن العرب كان من عاداتهم ألا يرث إلا من يستطيع حمل السلاح ويغزو ويغنم ويستنصر به، ولذلك ما كانوا يورثون النساء ولا الصغار الضعاف، لأنهم لا يقومون بذلك : والله سبحانه وتعالى وزع الميراث توزيعا عادلا لم يفرق بين قوي وضعيف بل كانت رعايته للضعيف أشد، ولذلك أعطى الذرية أكثر مما أعطى الأبوين، لأن الذرية الضعاف أحوج إلى المال، وهو لهم ألزم، ولذلك قال تعالى في وصيته :﴿ والمستضعفين من الولدان ﴾ أي الذين هم في حال يستضعفهم غيرهم ولا يعطيهم حقوقهم وهم ضعفاء في ذات أنفسهم أي أنه لا بد أن يعطوا ميراثهم كاملا غير منقوص، وعبر عن هؤلاء بقوله سبحانه :﴿ من الولدان ﴾ ولم يعبر عنهم بيتامى مع أنهم يتامى، للإشارة إلى ما يربطهم بالمتوفي، وهو كونهم أولاده وهذا قدر يشتركون فيه مع الكبار، فالسبب في الميراث هو الولاء، وهم جميعا يشتركون فيه، وإذا اشتركوا في السبب وجب أن يشتركوا في المسبب وهو الميراث، ولا فرق في ذلك بين كبير وصغير.
والوصية الأخرى، وهي القيام على شؤون اليتيم برعايته وكفالته، وإصلاح حاله، وتعهده بالعطف والمحبة والإكرام وقد تكرر في القرآن الكريم الأمر برعاية اليتيم، وتكرر في قول النبي صلى الله عليه وسلم الأمر برعايته والتوصية به، ففي القرآن الكريم نجد كثيرا من ذلك مثل قوله تعالى :﴿ فأما اليتيم فلا تقهر( ٩ ) ﴾( الضحى ).
وفي السنة مثل قوله صلى الله عليه وسلم "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا..." وضم أصبعيه٢ الكريمتين عليه الصلاة والسلام وقوله عليه الصلاة والسلام :"خير بيت من بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم، وشر بيت من بيوت المسلمين بيت يقهر فيه يتيم"٣. ونجد النص الكريم يقول :﴿ وأن تقوموا لليتامى بالقسط ﴾.
وهذا التعبير فيه ثلاث إشارات بيانية :
أولاها : التعبير بالقيام، فإن مؤداه أن ينهض الولي على القاصر بعناية واهتمام لرعاية حاله، وكون الخطاب للجميع لا لخصوص الأوصياء يدل على الوجوب على الأمة بشأن يتاماها، أو رعايتهم فرض كفاية فهو على الأمة مجتمعة.
ثانيها : التعبير باللام في قوله تعالى "لليتامى" أي أن يكون القيام والنهوض لمصلحة اليتامى الحقيقية، من حيث التربية والتهذيب والمحبة من غير تدليل مضعف لقوة النفس والعزيمة والإرادة القوية.
ثالثها : أن يكون ملاحظا في ذلك القسط والعدل، بألا ينقص من ماله شيء، ولا يترك هملا إذا لم يكن له مال، فإذا كانت العدالة المالية توجب ألا ينقص من ماله، فالعدالة الاجتماعية توجب أن تسد خلته وضعفه.
وكانت عناية الإسلام باليتامى لأنهم قوة للأمة إن صلحوا، وقوة مدمرة في الأمة إن لم يصلحوا، إذ أنهم لو قهروا ينشأون وبينهم وبين الناس عداوات مستمرة، ونفور يدفعهم إلى أن يكونوا مدمرين في الجماعة وعنصر تخريب، فإن أكثر الخارجين على الجماعة تبتدئ عقدهم النفسية في طفولتهم بالجفوة معهم، وحرمانهم من المودة والرحمة. ﴿ وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ﴾.
أي خير تفعلونه ويكون نافعا لجماعتكم، مصلحا بينكم فإن الله سبحانه وتعالى يكون عليما به علما دقيقا، لا تخفى عنه فيه خافية، وفي ذكر هذا النص الكريم بعد الوصايا السابقة إشارة إلى أن هذه الوصايا تنفيذها خير محض، ونفعها لا شك فيه ولا ريب، نفعه لمن يفعله لأن عاقبته حسنى له، وخير للجماعة لأنه يقدم للمجتمع عناصر قوية بانية وخير للضعفاء في أنفسهم، وهو خير عند الله يحتسب به الجزاء الأوفى عنده.
وإن فعل الخير يعلمه من يستطيع الجزاء علما محيطا دقيقا، فإذا علمه جازى به خير الجزاء، وقد أكد سبحانه علمه الذي يرتب عليه خير الجزاء بثلاثة مؤكدات : أولها- التعبير بإن، وثانيها- نسبة العلم إلى الله جل جلاله، فهو علم يليق بذاته، وبقدرته وإرادته، وثالثها- صيغة المبالغة بوصفه ب "عليم" ثم بلفظ الكينونة وهو كان، فإنه يقتضي استمرار العلم ودوامه، فعلى الذين يقومون على شؤون اليتامى أن يعلموا أنهم في رقابة مستمرة من الله تعالى ذي الجلال والإكرام ويعلمون أنه مجاز على مقدار ما يعلم.
١ أي مصدرا مؤولا وهو المنسبك من (أن) و (الفعل المضارع).
.

٢ رواه البخاري: الأدب- فضل من يعول يتيما(٦٠٠٥)، والترمذي كتاب البر والصلة ما جاء في رحمة اليتيم وكفالته(١٩١٨)، وأبو داود: الأدب- فيمن ضم اليتيم(٥١٥٠)، وأحمد: باقي مسند الأنصار(٢٢٣١٣) عن سهل بن سعد رضي الله عنه..
٣ سبق تخريجه..
﴿ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا( ١٢٨ ) ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما( ١٢٩ ) وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما( ١٣٠ ) ﴾.
وبعد هذه الوصايا في إعطاء الضعفاء من اليتامى حقوقهم والإنصاف لهم ذكر سبحانه وصاياه في علاج ما يكون بين الزوجين، فقال :
﴿ وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا ﴾ الخوف توقع الإنسان مكروها يقع به، وقد فسر الطبري النشوز بقوله :"يعني استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها أثرة عليها وارتفاعا بها عنها، وإما لكراهة منه بعض أشياء بها أو لدمامتها وإما سنها وكبرها، أو غير ذلك من أمورها، والإعراض ألا يؤنسها، وأن يصرف عنها وجهه، وقد قال بعض العلماء : إن الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز تباعد والإعراض انصراف الوجه وعدم الأنس بها مع القرب منها".
وإن المرأة إذا لاحظت ذلك من زوجها لا تقابل النشوز بمثله ولا الإعراض بالصد، فإن ذلك يوسع الهوة بينهما ويفك الأسرة، وينتهي الأمر إلى شقاق لا لقاء بعده، وإن العلاج في هذه الحالة نفسي يختلف باختلاف قوة النفرة، فإذا كانت لم تستحكم ويمكن أن يتوليا علاجها كان عليهما دينا أن يوليا العلاج وإذا كان مع النفور خصام كان لا بد من تدخل الغير، لإصلاح ذات البين، وإذا استحكمت النفرة ولا سبيل للإصلاح فالافتراق فهذه ثلاثة أنواع. وقد ذكر سبحانه وتعالى علاج المرتبة الأولى فقال :
﴿ فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح ﴾ ففي هذه المرتبة يكون الواجب الديني على المرأة والرجل أن يعملا بأنفسهما على إصلاح ما بينهما فتتطامن المرأة للعاصفة ويقرب الرجل امرأته إليه، ويترك شماسه١ وإعراضه ويتطامن لأهله، ويعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم :"خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"٢، وإن التطامن من الرجل لزوجه لتكون العشرة على مودة ورحمة هو عين العزة فالكريم لا يذل أهله والذليل هو الذي يهين أهله، وقد لوحظ في التعبير أمور ثلاثة.
أولها : أنه عبر عن طلب الصلح بقوله تعالى :﴿ فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما ﴾ وذلك ترفق في الإيجاب، فعبر عنه بنفي الإثم لكيلا يتوهم أحدهما أن في التساهل عن بعض حقه إثما. والصلح يقتضي أن يتسامح أحد الفريقين في جزء من حقه، لينال خيرا أكثر مما تسامح فيه، فإذا تركت المرأة بعض حقها لتدوم العشرة بالمعروف فذلك لا إثم فيه. بل فيه الخير.
ثانيها : أنه أكد الصلح بقوله "صلحا" للإشارة إلى أن الصلح في هذا المقام لا يكون صلحا ظاهرا، بل يكون نفسيا بحيث تتلاقى القلوب وتصفو النفوس، ويحل الوئام محل الخصام، فليس الصلح في هذه الحال إنهاء لمشكلة فقط، بل هو تلاقي القلوب على المودة والرحمة.
ثالثها : أن الله تعالى أكد الصلح بقوله تعالى أولا "والصلح خير" أي أنه في ذاته خير يعم الطرفين من تسامح يناله من الخير بمقدار ما تسامح أو بأضعاف ما تسامح، فهو قد أعطى ليأخذ وتساهل لتلزم ولتدوم نعمة الزوجية.
وأكد سبحانه الصلح بدعوة الزوجين ألا يشح أحدهما بالعطاء لرفيقه، ولذا قال تعالى :﴿ وأحضرت الأنفس الشح ﴾ والشح هو البخل، وهو هنا التشاح النفسي بأن يلتزم كل واحد من الزوجين موقفه متمسكا بحقوقه الشكلية، ومعنى قوله تعالى :﴿ وأحضرت الأنفس الشح ﴾ أن الشح جعل حاضرا لا يغيب عنها ولا تنفك عنه كأنها مطبوعة عليه، وعلى المتصالحين اللذين يريدان التصافي أن يلاحظا هذا ويعالجاه فهو الداء، وإذا عرف سهل الدواء، وما دام الصلح كاملا يجب اجتثاث الشح الحاضر، ليكون الصفاء الدائم.
وأكد سبحانه وتعالى طلب الصلح ثالثا بقوله تعالى :﴿ وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾ في هذا النص الكريم علاج لشح النفس إذا حضر، ولوقوف كل في الجانب الذي يحفظ به حقوقه، ولا يتحرك فإن العلاج لهذه الحال هو الإحسان، فليكن محسنا بدل أن يكون ملحفا، فإذا كان الإحسان ذهب التشاح، والعلاقات في الأسرة لا تبنى على الظاهر، بل تبنى على القلوب، والقلوب لا يطهرها إلا تقوى الله في المعاملة، إذ إن المعاملة الطيبة، والإحسان وزيادة العطف وتقوى الله هي البلسم الشافي من الشح النفسي الذي يعتري ما يكون بين الزوجين.
وإن الله تعالى قد وعد بالثواب العظيم لمن يحسن ويلاحظ تقوى الله تعالى في المعاملة من الزوجين، لأن الله تعالى يعلم علما دقيقا لا يغادر شيئا، وهو علم مستمر دائم يليق بجلاله سبحانه، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ فإن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾ وإذا كان عليما علما دقيقا بما يعملون، فإنه هو الذي يجازي بمقتضى علمه، فإذا تسامح أحد الزوجين فإنه مثاب في الآخرة، فإذا كان قد تسامح في بعض حقه الدنيوي فإنه سيضاعف له الجزاء في الآخرة.
وإنه في الحياة الزوجية تحقيق العدالة الكاملة غير ممكن، ولذا وجب التسامح فقال تعالى :﴿ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ﴾.
١ الشماس: العداوة الظاهرة والعناد. (لسان العرب- شمس)..
٢ سبق تخريجه..
﴿ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ﴾ إن الله سبحانه وتعالى نفى استطاعة العدالة بين النساء نفيا مؤكدا، لأن حرف ( لن ) لتأكيد النفي، فالعدالة بمعنى تنفيذ كل الحقوق المقررة والواجبات النفسية أمر غير ممكن مهما يكن حرص الإنسان على العدالة.
وقد فرض العلماء أن هذه العدالة غير الممكنة لا تكون إلا إذا كان الرجل ذا زوجين فأكثر، وذلك ظاهر لأن العدالة النفسية بالمساواة في الإقبال القلبي والمحبة، أمر غير ممكن لأن الناس بحكم الخلقة لا يملكون نزعات نفوسهم وميول قلوبهم، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين زوجاته في كل ما هو ظاهر كالمبيت والكسوة والنفقة وكل ما يتعلق بصورة الحياة الزوجية، ولكنه وهو أكمل البشر لم يستطع العدالة النفسية، ولذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم :"اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك"١.
وقد ادعى بعض الكتاب في أول هذا القرن العشرين الميلادي وتبعه غيره، أنه بضم آية ﴿... فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة...( ٣ ) ﴾( النساء ) إلى هذه الآية التي نتكلم في معناها يكون منع تعدد الزوجات، وما هكذا تفهم النصوص في القوانين فضلا عن نصوص القرآن فإن البداهة تتجه إلى التوفيق والتوفيق يبدو بادئ النظر، وهو أن هذه الآية موضوعها نفسي والآية في صدر السورة موضوعها العدالة الظاهرة، وقد وضح المعنى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رويناه، وهو عجزه عليه الصلاة والسلام عن العدالة النفسية، وعلى فرض أن التوفيق غير ممكن إن سايرنا تلك المدارك المحدودة، فإن المتأخر ينسخ المتقدم، والمتأخر هو هذه الآية التي نتكلم في معناها، وهي تطالب بالعدالة المطلقة، بل طالبت بالممكن فقال تعالى :﴿ فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا ﴾.
المعلقة هي التي تهمل نفسيا ومعنويا وحبا ومودة، فلا هي ذات زوج تنال الحقوق الزوجية أو بعضها، ولا هي خالية الأزواج، ترجو أن يوفقها الله تعالى وهذا تشبيه بالشيء المعلق بشيء من الأشياء لأنه لا يكون قد استقر على الأرض ولا ما علق عليه تحمله، أو يستطيع تحمله.
وإنه لأجل الوصول إلى هذا الحل الذي لا يكون فيه شطط يجب التدخل لإصلاح ذات البين، ولذا قال الله تعالى :﴿ وإن تصلحوا وتتقوا ﴾ وهذه هي المرتبة الثانية من الشقاق التي يتعذر فيها على الزوجين أن يقوما بعلاجها، ولذا يستمد العلاج بين المتصلين بهما وهو المنصوص عليه في قوله تعالى :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما...( ٣٥ ) ﴾( النساء )، وعند التدخل للإصلاح يجب أن تكون تقوى الله هي التي تحكم الحكمين ولذا قرن الإصلاح بالتقوى، فإن كان إصلاح القلوب مع تقواها، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر ما عساه يكون من تجاوز للحد قبل ذلك، ولذا ختم سبحانه وتعالى هذا الجزء من العلاج بقوله :﴿ فإن الله كان غفورا رحيما ﴾ أي أن غفرانه البالغ ورحمته الواسعة المستمرة المؤكدة يفيضان على المصلحين المتقين، فإن لم يجد هذا كانت المرتبة الأخيرة وهي الفراق، ولذا قال سبحانه :﴿ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ﴾.
١ رواه أبو داود: النكاح في القسم بين النساء(٢١٣٤)عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها..
﴿ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ﴾
أي إنه إذ لم يستطيعا إصلاح ما بينهما، ولم يصلح غيرهما ذلك الإصلاح لم يبق إلا أن يتفرقا وهذا ما تقتضيه الفطرة، ولذلك أسند التفرق إليهما معا، لا إلى أحدهما، لأن التفرق بالطلاق نتيجة تفرق القلوب وإنه إذا كانت هذه الحال أغنى الله كل واحد عن الآخر من سعة الرحمة التي يرحم بها عاده، ﴿ وكان الله واسعا حكيما ﴾ وكان الله تعالى ولا يزال واسع الرحمة فكلمة "واسعا" على تقدير مضاف، وهو الرحمة وكان لا يزال حكيما يشرع بعباده بمقتضى حكمته ما هو أصلح لهم، ولو كانت النفوس تنزعج له أو تبغضه، وإن المرأة الفاضلة الكريمة إذا أعرض زوجها أو استعلى عليها ولم يمكن إصلاح ستجد من المجتمع من يقدر فضلها، ويبدلها من الناشز عدلا من الرجل، اللهم أصلح أمورنا، وابسط المودة بيننا إنك سميع الدعاء.
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا( ١٣١ ) ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا( ١٣٢ ) إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا( ١٣٣ ) من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا( ١٣٤ ) ﴾.
في الآيات السابقة ذكر سبحانه وتعالى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين، وما يجب من علاج لأدواء النفوس فيها ووجوب العدالة الممكنة بها، وما يجب عند تعذر العدالة الحقيقية وأنه إذا تعصى الداء، وتعذر العلاج كان الفراق آخر الدواء، وفي هذه الحال يكون كلاهما في سعة من رحمة الله الواسعة، وفي هذه الآيات يشير سبحانه إلى سعة ملكه وأن كل شيء في ملكه وتحت سلطانه، فهو الذي يغني كلا، وهو القادر على كل شيء وأنه بعد بيان عظم قدرته وسلطانه يبين وجوب العدالة بين الناس في علاقتهم بعضهم ببعض، كما يقول سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله... ( ١٣٥ ) ﴾( النساء )، وقد توسطت هذه الآيات الدالة على عظم سلطان الله تعالى بين الأمر بالعدل في داخل الأسرة، وهي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وبين الأمر بالعدالة في المجتمع الأكبر، وكان ذلك التوسط لتربية المهابة من الله في قلب المؤمن، فيتجه إلى العدل الذي هو ميزان العلاقات الإنسانية كلها.
وقد جاء في تفسير الطبري وجه آخر للمناسبة قال فيه ما نصه :" وإنما ذكر جل ثناؤه ذلك بعقب قوله :﴿ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ﴾ تنبيها منه لخلقه على موضع الرهبة عند فراق أحدهم زوجه، ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوحشة بفراق سكنه وزوجه، وتذكيرا منه أنه هو الذي له الأشياء كلها، وأن من كان له ملك جميع الأشياء فغير متعذرا عليه أن يغنيه وكل ذي فاقة وحاجة ويؤنس كل ذي وحشة "
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ أي لله وحده ما في السماوات والأرض من مطر ينزل وأرض تنتج وشمس تمد الكون بالدفء والحرارة والضوء وقمر منير ونجوم تزين السماء الدنيا، وهو سبحانه وتعالى يملك ذلك كله ملك اختصاص وسلطان وقدرة وإنشاء، فهو الذي أبدعه على غير مثال سابق، وهو رب الدين في السماء والأرض، وهو الذي يوزع الأرزاق بمقتضى حكمته، وهو القاهر فوق عباده، يقيم العدل ويغني كلا من سعته بما يشاء، وأنه لم يترك الناس هملا، بل أنزل عليهم الكتب السماوية تدعو إلى التفكير في ملكه، وخلقه وتتجه إلى عبادته سبحانه وتعالى وحده وتقواه وحده، ولذا قال :
﴿ ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ﴾ الخطاب في هذا النص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والكتاب المراد به جنس الكتاب، لا واحده، أي الذين أوتوا علم النبوة من قبلكم برسل أرسلوا إليهم، وكتب سجلت أوامر الله تعالى ونواهيه، وخطاب من الوحي الإلهي نزل إليهم، وقد دعاهم سبحانه وتعالى كما دعاكم إلى أن تتقوا الله تعالى في كل أعمالكم بحيث تتربى مهابته في قلوبكم، فتذكرونه في كل تصرفاتكم فإن وسوسة نفوسكم بظلم ذكرتموه فامتنعتم، وإن همت بفساد ذكرتموه فاعتصمتم، وإن أصابكم جزع ذكرتموه فاطمأننتم وإن أصابكم فاقة ذكرتموه فصبرتم وإن أصابتكم بأساء ذكرتموه فارتضيتم وإن أصابتكم نعماء ذكرتموه فشكرتم، فالأمر بالتقوى أمر جامع لكل معاني الإيمان والتوحيد.
ولذا أكد سبحانه الأمر بالتقوى بأربعة مؤكدات :
أولها : التأكيد باللام وقد، ف( قد ) وحدها مؤكدة واللام تتضمن معنى القسم فهي مؤكد آخر، وهذا ما تضمنه قوله تعالى "ولقد" في صدر الكلام.
ثانيها : التعبير بقوله جل جلاله "وصينا". فإن التوصية تكون طلبا مشددا لا يقتصر على زمان الأمر، بل يتعاقب الطلب بتعاقب الأزمان والدهور، ولا يقتصر على زمان دون زمان، وهذا يفيد أن الأمر بالتقوى قانون محكم، لا يعتريه فسخ ولا تغيير مهما تختلف العصور، لأنه لب الأديان.
ثالثها : ذكر كتب النبيين السابقين مع خطاب أمة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك الذكر يفيد أن التقوى شريعة السماء.
رابعها : التعبير ب "أن" في قوله تعالى جلت قدرته ﴿ أن اتقوا الله ﴾ فإنها هي "أن" المفسرة، أي أنه سبحانه وتعالى يفسر وصيته الخالدة الباقية بأنها شيء واحد وهو الأمر بالتقوى، ومن المقرر في علم البيان العربي أن الإبهام ثم البيان يؤكد المعنى في النفس أفضل تأكيد، وقد قال الزمخشري إن لفظ "أن" يحتمل أن تكون أن فيه مصدرية، والمعنى : وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى. والتعبير بالمصدر المؤول المنسبك من "أن" وما يليها فيه تأكيد لمعنى المصدرية، إذ فيه تصوير واضح للفعل والقيام به، وإن قوله تعالى و﴿ إياكم ﴾ هو من قبيل عطف الضمير على الاسم الظاهر، فيكون في موضع النصب ولذلك انفصل الضمير.
وقد أكد سبحانه وتعالى وصيته الخالدة ببيان نتيجة مخالفتها وأنها لمنفعة العبادة فقال سبحانه :
﴿ وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ وإن الأمر بالتقوى فيه خيركم إذ فيه سلامة اعتقادكم واطمئنان قلوبكم، وصلاح جموعكم، ومنع الفساد في الأرض، وإن جحدتم أوامر الله تعالى ولم تعبدوه وحده وتخشوه حق الخشية فستفسد أموركم أنتم، ولن يضر الله منكم شيء لأنه مالككم، ومالك كل ما في السماوات والأرض، وهو بهذا الملك الظاهر والسلطان القاهر، يستغني عن تقواكم وهو المستحق للحمد الدائم، والمحمود في ذاته وشرائعه وأوامره ونواهيه وفي إنشائه وإبداعه فلا يضيره كفر الكافر، ولا ينقص من سلطانه فجور الفاجر، لأن الجميع في قبضة يده وتحت سلطانه.
ولقد قال ابن جرير الطبري في معنى هذه الآية الكريمة :"وإن تجحدوا وصيته إياكم فتخالفوها فإن لله ما في السماوات وما في الأرض. يقول فإنكم لا تضرون بخلافكم وصيته غير أنفسكم، ولا تعدون في كفركم هذا أن تكونوا أمثال اليهود والنصارى في نزول عقوبته بكم، وحلول غضبه عليكم، كما حل بهم إذ بدلوا عهده، ونقضوا ميثاقه فغير بهم ما كانوا فيه من خفض العيش وأمن السرب، وجعل منهم القردة والخنازير وذلك أن له ملك جميع ما حوته السماوات والأرض، لا يمتنع عليه شيء أراد تجميعه.. من إعزاز من أراد إعزازه، وإذلال من أراد إذلاله".
ويرى من هذا التخريج أنه يرى أن الخطاب باحتمال الكفر موجه إلى الأمة المحمدية، ويكون قوله تعالى :﴿ وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات ﴾ كلام مستأنف يبين نتائج مخالفة الأمر بالتقوى المؤكد والذي جاءت به شرائع السماء كلها وهذا هو الظاهر.
وقد قرر بعض العلماء أنه يجوز أن يكون في ضمن الوصية المؤكدة ويكون المعنى : ووصينا أولي الكتاب وإياكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم : إن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض، وإننا نرى أن الأول أظهر وقد سار عليه ابن جرير ووضح المعنى على أساسه وقد أكد سبحانه عظيم سلطانه وحاجتهم إليه وغناه جل ثناؤه عنهم، فقال تعالت كلماته :﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ﴾.
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ﴾
في الآيات السابقة ذكر سبحانه وتعالى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين، وما يجب من علاج لأدواء النفوس فيها ووجوب العدالة الممكنة بها، وما يجب عند تعذر العدالة الحقيقية وأنه إذا تعصى الداء، وتعذر العلاج كان الفراق آخر الدواء، وفي هذه الحال يكون كلاهما في سعة من رحمة الله الواسعة، وفي هذه الآيات يشير سبحانه إلى سعة ملكه وأن كل شيء في ملكه وتحت سلطانه، فهو الذي يغني كلا، وهو القادر على كل شيء وأنه بعد بيان عظم قدرته وسلطانه يبين وجوب العدالة بين الناس في علاقتهم بعضهم ببعض، كما يقول سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله... ( ١٣٥ ) ﴾( النساء )، وقد توسطت هذه الآيات الدالة على عظم سلطان الله تعالى بين الأمر بالعدل في داخل الأسرة، وهي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وبين الأمر بالعدالة في المجتمع الأكبر، وكان ذلك التوسط لتربية المهابة من الله في قلب المؤمن، فيتجه إلى العدل الذي هو ميزان العلاقات الإنسانية كلها.
وقد جاء في تفسير الطبري وجه آخر للمناسبة قال فيه ما نصه :" وإنما ذكر جل ثناؤه ذلك بعقب قوله :﴿ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ﴾ تنبيها منه لخلقه على موضع الرهبة عند فراق أحدهم زوجه، ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوحشة بفراق سكنه وزوجه، وتذكيرا منه أنه هو الذي له الأشياء كلها، وأن من كان له ملك جميع الأشياء فغير متعذرا عليه أن يغنيه وكل ذي فاقة وحاجة ويؤنس كل ذي وحشة "
الوكيل هو من يتولى الأمر ويحفظه ويرعاه، والمعنى : كفى أن يكون الله تعالى حافظا للإنسان يتولاه، ويكلؤه ويقيه، فإذا كان الله تعالى غنيا عن عباده فعباده فقراء إليه، كما قال سبحانه :﴿... والله الغني وأنتم الفقراء...( ٣٨ ) ﴾( محمد )، فعلى المؤمن أن يتق الله تعالى، وأن يعلم أنه مالك أمره، وهو الذي يتوكل عليه، وأن الله سبحانه يحب المتوكلين لأنهم يحسون بقدرته وعظم سلطانه، فكل متوكل عليه سبحانه يحس بعظم سلطان ربه، وضآلة سلطانه وقدره وذلك إيمان صادق، إذا قام بما يستطيع وما تمكنه قدرته المحدودة، ويترك بعد ذلك الأمر لربه، وهنا أمر يجب أن نشير إليه، وهو تكرار قوله تعالى :
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ فقد ذكر ذلك القول السامي ثلاث مرات، فلماذا كان ذلك التكرار ؟ إنه بلا شك بهذا التكرار يتأكد المعنى الذي يشتمل عليه القول، ولكن هذا التوكيد للمعنى جاء في كل مرة مبينا معنى خاصا، فالذكر الأول لتربية الإحساس بعدله، وعظم سلطانه وسعة رحمته، وأنه تسع رحمته كل الناس، فينصف المظلوم، ويبسط الرزق لذي الفاقة، فلا يضيق أحد الزوجين بالفراق بل الله سبحانه يكلؤه، ويسعه برحمته، وذكر ذلك القول في المرة الثانية لبيان استغنائه عن خلقه، وأن تقواهم لمصلحة أنفسهم ولخيرهم وليس له بها حاجة بل هو الغنى المحمود دائما. وذكر هذا الكلام في المرة الثالثة لبيان حاجة الناس إليه، وأنهم فقراء إليه في مقابل غناه عنهم تعالى الله علوا كبيرا.
وبعد هذا بين سبحانه قدرته القاهرة، وأنه هو الذي أنشأ الناس وطالبهم بالعبادة وأن من أنشأ يستطيع الإفناء ويستطيع التبديل والتغيير في خلقه فيستبدل بالناس ناسا، وبالأقوام أقواما ولذلك قال سبحانه :﴿ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ﴾.
﴿ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ﴾
في الآيات السابقة ذكر سبحانه وتعالى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين، وما يجب من علاج لأدواء النفوس فيها ووجوب العدالة الممكنة بها، وما يجب عند تعذر العدالة الحقيقية وأنه إذا تعصى الداء، وتعذر العلاج كان الفراق آخر الدواء، وفي هذه الحال يكون كلاهما في سعة من رحمة الله الواسعة، وفي هذه الآيات يشير سبحانه إلى سعة ملكه وأن كل شيء في ملكه وتحت سلطانه، فهو الذي يغني كلا، وهو القادر على كل شيء وأنه بعد بيان عظم قدرته وسلطانه يبين وجوب العدالة بين الناس في علاقتهم بعضهم ببعض، كما يقول سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله... ( ١٣٥ ) ﴾( النساء )، وقد توسطت هذه الآيات الدالة على عظم سلطان الله تعالى بين الأمر بالعدل في داخل الأسرة، وهي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وبين الأمر بالعدالة في المجتمع الأكبر، وكان ذلك التوسط لتربية المهابة من الله في قلب المؤمن، فيتجه إلى العدل الذي هو ميزان العلاقات الإنسانية كلها.
وقد جاء في تفسير الطبري وجه آخر للمناسبة قال فيه ما نصه :" وإنما ذكر جل ثناؤه ذلك بعقب قوله :﴿ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ﴾ تنبيها منه لخلقه على موضع الرهبة عند فراق أحدهم زوجه، ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوحشة بفراق سكنه وزوجه، وتذكيرا منه أنه هو الذي له الأشياء كلها، وأن من كان له ملك جميع الأشياء فغير متعذرا عليه أن يغنيه وكل ذي فاقة وحاجة ويؤنس كل ذي وحشة "
والمعنى الجملي للنص السامي : إن يشأ الله تعالى أيها الناس إفناءكم ويأت بآخرين فإنه سبحانه وتعالى يفعل، لأنه على ذلك قادر قدرة مطلقة لا يحدها حد، وهي العاملة الشاملة لكل شيء، وهنا نجد جواب الشرط قد حذف ودل عليه قوله تعالى :﴿ وكان الله على ذلك قديرا ﴾ وحذفه مع ما يدل عليه يجعل الذهن يتجه إلى تعرف مدى عظمته وقدرته، وحذف مفعول المشيئة في قوله :﴿ إن يشأ ﴾ قد دل عليه جواب الشرط في قوله :﴿ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين ﴾.
ومن هم الناس الذين خوطبوا بذلك الخطاب ؟ يحتمل هذا وجهين : أحدهما : أن يكون الخطاب للناس في أمة محمد، ومن كانوا قبلهم، ويكون الكلام تابعا لمقول القول المقدر عند من قدره في قوله تعالى :﴿ وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات ﴾ويكون أيضا قوله تعالى :﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ﴾ له هذه التبعية. ويكون الكلام كله في خطاب السابقين واللاحقين. وقد قلنا إن ذلك غير الظاهر.
والوجه الثاني : أن يكون الخطاب في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو بهذا يشمل المؤمنين والمشركين. ويكون للمشركين بشكل خاص. وإن اختلاف التوجيه على هذا النحو يترتب عليه الاختلاف في جواب الشرط، وهو من الذين يذهبهم الله تعالى ويأتي بآخرين وله القدرة التامة على تنفيذ ما يقول تعالى ؟ فعلى الوجه الأول يكون المعنى : إن يشأ سبحانه أن يذهب بهذا العالم الإنساني ويأتي بعالم آخر يعبده ويؤمن به فإنه الفاعل المختار المريد، ويكون القصد بيان قدرة الله تعالى الشاملة وإثبات أن كفر الكافر ليس بعيدا عن تقديره، وإيمان المؤمن كذلك، فهو الذي خلق الإنسان صالحا لأن يسلك طريق الشر وطريق الخير وأن ذلك بإرادته ولو أراد غيره لكان ما أراد لأنه هو الذي يقول للشيء كن فيكون وهو الذي خلق الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ويكون ذلك كقوله تعالى :﴿ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد( ١٦ ) ﴾( فاطر ).
وعلى التوجيه الثاني وهو أن يكون الخطاب للمشركين الكافرين بالرسالة المحمدية والمسلمين الذين يكونون على طرف الإسلام يكون المعنى إن استمررتم على الشرك أو كان منكم الكفر بعد الإيمان فإن الله تعالى بمقتضى سننه في الفطرة الإنسانية يفنيكم بإذهاب قوتكم وسيطرة الفساد عليكم، ويجيء من بعدكم من ينصر الحق، ويكون النص كقوله تعالى :﴿ وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم( ٣٨ ) ﴾( محمد ) وكقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه( ٥٤ ﴾( المائدة : ٥٤ ) وقد ذيل الله سبحانه النص الكريم ببيان قدرته الكاملة على ذلك التغيير، فقال تعالى :
﴿ وكان الله على ذلك قديرا ﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى قدير على ذلك التغيير والتبديل الذي تستغربونه وتستبعدونه وقد قدم الجار والمجرور وهو قوله ﴿ على ذلك ﴾ لموضع الاهتمام وهو التغيير والتبديل الذي يستبعدونه لفرط إحساس المشركين بقوتهم وغرورهم بدولتهم واستضعافهم لشأن المؤمنين الصادقين.
﴿ من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ﴾
في الآيات السابقة ذكر سبحانه وتعالى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين، وما يجب من علاج لأدواء النفوس فيها ووجوب العدالة الممكنة بها، وما يجب عند تعذر العدالة الحقيقية وأنه إذا تعصى الداء، وتعذر العلاج كان الفراق آخر الدواء، وفي هذه الحال يكون كلاهما في سعة من رحمة الله الواسعة، وفي هذه الآيات يشير سبحانه إلى سعة ملكه وأن كل شيء في ملكه وتحت سلطانه، فهو الذي يغني كلا، وهو القادر على كل شيء وأنه بعد بيان عظم قدرته وسلطانه يبين وجوب العدالة بين الناس في علاقتهم بعضهم ببعض، كما يقول سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله... ( ١٣٥ ) ﴾( النساء )، وقد توسطت هذه الآيات الدالة على عظم سلطان الله تعالى بين الأمر بالعدل في داخل الأسرة، وهي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وبين الأمر بالعدالة في المجتمع الأكبر، وكان ذلك التوسط لتربية المهابة من الله في قلب المؤمن، فيتجه إلى العدل الذي هو ميزان العلاقات الإنسانية كلها.
وقد جاء في تفسير الطبري وجه آخر للمناسبة قال فيه ما نصه :" وإنما ذكر جل ثناؤه ذلك بعقب قوله :﴿ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ﴾ تنبيها منه لخلقه على موضع الرهبة عند فراق أحدهم زوجه، ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوحشة بفراق سكنه وزوجه، وتذكيرا منه أنه هو الذي له الأشياء كلها، وأن من كان له ملك جميع الأشياء فغير متعذرا عليه أن يغنيه وكل ذي فاقة وحاجة ويؤنس كل ذي وحشة "
الثواب ما يعود على الإنسان من أي عمل يعمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ثم أطلق الثواب في القرآن على الجزاء وذلك في مقابل العقاب الذي هو جزاء الشر، والمراد هنا على هذا الأساس نعيم الدنيا، والنتائج الطيبة لأعمال الدنيا. ومعنى النص السامي من يكون من شأنه وطوية نفسه أن يطلب نعيم الدنيا وما فيها من خير فإن الله تعالى يعطيه ما يطلب إن اتجه إلى طلبها عن طريق الحق والدين، فإن الله تعالى ذا السلطان الكامل في الدنيا والآخرة، هو وحده عنده نعيمهما معا، فمن أراد الدنيا عن طريق الخير والحق، فإنه سينال ذلك بتوفيق الله تعالى وتمكينه.
وهذا الكلام يطوي في ثناياه معاني ثلاثة :
أولها : أن الاستجابة لما يطلبه الله سبحانه وتعالى تؤدي إلى خير الدنيا من عزة ورفعة وقوة وسلطان في الأرض، وتعاون على إصلاحها ومنع فسادها وتواصل وتراحم من غير تقاطع ولا تدابر.
ثانيها : أن من يطلب الدنيا من غير طلب الآخرة ولا يستجيب لداعي الله، يكون قد طلب الأخس وترك الأخطر منهما، ولا يكون طالبا لها على وجه الحق، ويكون محاسبا على كل ما نال من مغانم في هذه، ولذا قال تعالى :﴿ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها...( ١٤٥ ) ﴾( آل عمران : ١٤٥ ).
ثالثها : أن النص الكريم يفيد قدرة الله تعالى وكمال سلطانه، وعدله في الثواب والعقاب، وأنه يعلم الخير ويجزي عليه والشر ويعاقب صاحبه { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره( ٧ ) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ( ٨ )( الزلزلة )، ولذا ختم سبحانه الآية بقوله :
﴿ وكان الله سميع بصيرا ﴾ أي أن الله سبحانه وتعالى عالم علما دائما أزليا علم ما يسمع ما يجهر به ويسر، ومن يطلع على حركات النفوس وخلجات القلوب، وما يجيش في الصدور وعالم علم من يبصر أدق الأعمال وأخفاها من خير أو شر، وإنه مجازي كل إنسان على مقتضى هذا العلم الذي لا تخفى عليه خافية.
﴿ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار( ٢٠١ ) ﴾( البقرة ).
﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا( ١٣٥ ) ﴾.
في الآيات السابقة أمر الله بالعدل، ولو كان في مصلحة الكافرين وأمر بالعدل بين الأزواج وإنه أساس قيام الأسرة وإن كان العدل في الأسرة أمرا شاقا لأنه يتصل بالنفوس لا بالأمور المادية، إذ العدل في الحقوق الظاهرة يكون سهلا ليس صعبا، أما المساواة في الأمور النفسية فمن الأمور التي تشق على النفوس. ثم بين سبحانه وتعالى سلطانه الكامل، ورقابته على الأعمال ما ظهر منها وما بطن، وتستوي في ذلك أعمال الجوارح، وأعمال القلوب وخلجات النفوس وفي هذه الآية يبين أن العدل خاصة أهل الإيمان وقد أمر الله به المؤمنين لأنه مقتضى الإيمان وهذا العدل يعم العدو والولي على السواء ولذلك قال سبحانه :
﴿ يا أيها الذين آمنا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ﴾ النداء "يأيها" للتنبيه، وقد اختير اللفظ الدال على النداء للبعيد لتعظيم التنبيه إلى الأمر الخطير الذي يدعوهم إليه وهو العدالة التي بها ميزان السماء والأرض، والتي هي دعامة الإسلام الأولى، وسمته ومظهره، ومعنى "قوامين" أن تقوموا على القسط وهو العدل وترعوه حق رعايته، فقوام صيغة مبالغة من قام بالأمر، وقام عليه وتعهده، وهو أبلغ من كونوا عدولا، لأن القوام بالعدل تكون فيه خصال ثلاث :
أولاها : أن يعدل في ذاته نفسه، فلا يظلم أحدا.
والثانية : أن تكون العدالة شأنا ملازما له لا يفترق عنه لتكون كالسجية من سجاياه والملكة من الملكات.
وثالثها : أن يرعى العدل في غيره، فلا يعدل فقط في القضية التي تعرض عليه ليقضي فيها، بل يعمل على منع الظلم حيث كان، وأيا كان فليس قواما بالقسط من يرى مظلوما يظلم، أو ضعيفا يهضم ولا يمنع الاستمرار في ظلمه ولو لم يكون قاضيا يحكم بين الناس، وهذا تطبيق لقول النبي صلى الله عليه وسلم :"لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم"١.
وقد أمر الله تعالى بالعدل بهذه الصيغة فقال :"كونوا قوامين بالقسط } فلم يقل تعالت كلماته "اعدلوا" أو"قوموا بالقسط" بل قال سبحانه :﴿ كونوا ﴾ وهذا التعبير يقتضي أمرين :
أحدهما : أن يروضوا أنفسهم على العدالة ويربوها ويعلموها لشباب هذه الأمة، ويفطموا النفوس عن شهواتها فإنه لا يذهب بالعدل إلا الشهوة فليربوا أنفسهم على السيطرة عليها، وجعلها أمة ذلولا لتكون النفس عادلة دائما.
وثانيهما : أن ينصبوا أنفسهم لنشر لواء العدل فلا يتركوا ظالما يرتع، ولا مظلوما يخضع سواء أكان الظالم فردا أو جماعة أم كان أمة فأمة العدل يجب أن تكون قوامة بالعدل.
وإن القوامة على العدل توجب عدالة الإنسان في نفسه، وأهله وولده وصحبه وكل من يتصل به وتوجب منع الظلم أنى يكون وتوجب العدل في الولاية والقضاء والصلح بين الناس.
وهناك أمر هو سبيل الحق، وطريق معرفته وهو الشهادة إذ هي السبيل للعدل في القضاء والولاية والصلح وهي سبيل إحقاق الحق ولذلك قال الله سبحانه وتعالى :﴿ شهداء لله ﴾.
ومعنى الشهادة لله تعالى، أن يقول الحق طلبا لرضا الحق جل جلاله، لا يلتفت إلى رضا المخلوق أيا كان ذلك المخلوق فإن تحرى رضا المخلوق قد يذهب بالحق ويضعف سلطانه وإن الشاهد إذا لاحظ جانب الله في شهادته قال الحق من غير تلعثم ولا اضطراب، وأفاض الله تعالى عليه نورا، فلا يضل في شهادته، ولا يخطئ ناحية من نواحي الحق.
وقد فهم بعض المفسرين أن قوله تعالى :﴿ شهداء لله ﴾ حال من الذين آمنوا والمعنى على هذا كونوا قائمين بالحق حال كونكم شهداء به لله تعالى، وعلى هذا التفسير تكون القوامة على الحق مقصورة على الشهادة غير عامة.
وقد ضعفه أكثر المفسرين وجمهورهم على أن قوله تعالى "شهداء لله" خبر بعد خبر أي أن هناك أمرين طلبهما المولى جل شأنه :
أولهما : القوامة بالقسط، وهذا عام للشهادة وغيره.
وثانيهما : أنه خص الشهادة بالذكر لأنها السبيل للحق، والشهادة لأجل رضا الله تعالى هي السبيل لكل عادل وكل حق.
والشهادة لله تعالى توجب ألا يحابى قريب لقرابته، ولا يحابى غني لغناه، ولذا قال تعالى :
﴿ ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ﴾ والمعنى اجعلوا الشهادة لله تعالى فلا تنطقوا إلا بالحق ولو أدى ذلك إلى أن تكون العاقبة ألما ينزل بالوالدين، والأقربين فالمحاباة على حساب الغير ظلم، وصلة الرحم لا تبرر الظلم وليس من الإحسان إلى الوالدين أن تقرهما الظلم وترضى لهما أن يأكلا الحقوق كما أنه لا يصح أن تكون الرحمة بالأقارب الأقربين طريقا للظلم، فإن هذه لا تكون رحمة حقيقية، ولكنها شفقة جنونية فالأولى حملهم على الحق، وذلك بأداء الشهادة لله، وبالحق.
وقد يسأل سائل : ما معنى الشهادة على النفس، وقد أجاب عن ذلك المفسرون بأن الشهادة على النفس هي الإقرار عليها بما ارتكبت، وقد قال الزمخشري أن يشهد بما يؤدي إلى وبالها، بأن يشهد على سلطان ظالم فيؤذيه، وقد قال في ذلك رضي الله عنه :"ويجوز أن يكون المعنى وإن كانت الشهادة وبالا على أنفسكم أو على آبائكم وأقاربكم وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره".
وإنه بهذا الذي قرره جار الله الزمخشري ننتهي إلى أن الشهادة على الوالدين والأقربين تكون بإلزامهم بحقوق عليهم مباشرة، وتكون بالنسبة للأنفس بالإقرار بإلزامها وتكون بالشهادة في الأمور التي ربما تؤدي إلى الإضرار بهم كشهادتهم في أمر عام قد يؤدي إلى حرمانهم من المزايا التي يطلبونها كمن يشهد بمجرى ماء لشخص تؤدي إلى حرمانهم من بعض ما يبغون، وقد تكون بالشهادة على أصحاب السطوة الذين يؤذون من يشهد عليهم... وهكذا.
وإنه قد قال قتادة في معنى هذه الآية :"أقم الشهادة يا ابن آدم، ولو على نفسك أو الدين أو الأقربين أو على ذي قرابتك وأشراف قومك، وإنما الشهادة لله وليست للناس وإن الله تعالى رضي بالعدل لنفسه، والإقساط والعدل ميزان الله في الأرض، به يرد الله من الشديد على الضعيف ومن الكاذب على الصادق ومن المبطل على المحق... وبالعدل يصلح الناس".
وقد يكون سبب الانحراف في العدل أو الشهادة أن تكون الخصومة بين غني وفقير فقال سبحانه :
﴿ إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ﴾ أي لا يصح أن يكون اختلاف المتخاصمين أو المتعاملين، أو المشتركين غنى وفقرا في اجتناب العدالة، فلا يمنع الغني حقا لغناه، ولا يعطى أحد غير حقه لفقره، كما لا يصح أن يحابى الغني حقا أو يعفى من العقاب لجاه ماله، ويعاقب الفقير بعقوبة أشد لفقره، فالفقر والغنى بأمر الله تعالى، ولذا قال :﴿ فالله أولى بهما ﴾ أي فالله سبحانه وتعالى هو الأولى والأجدر بحساب الغني والفقير، وهو الذي رتب الحقوق والواجبات وقسم الأموال بحكمته ونظمها بإرادته وهو الأعلم بمصالح العباد، وهو الذي يتولى النظر لكليهما بعين رحمته، وبفيض هدايته روى ابن جرير عن السدي أنه قال : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم، إذ اختصم إليه رجلان غني وفقير وكان ضلعه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير :﴿ إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ﴾.
وإن الذي يستفاد من هذه الرواية مع أصل النص الكريم أن الغنى أو الفقر لا يصح أن يكونا سببا في التفاوت في الحكم، لأن الله هو الذي نظم الكون بما فيه ومن فيه، فهو الذي أراد للفقير الفقر مع الأسباب وأراد للغني الغنى مع الأسباب الظاهرة لدينا، والمصلحة الإنسانية هو سبحانه وحده قدرها، فهو أولى بأن يكون الغني له لأنه هو الذي منحه، وأن يكون الفقير له لأنه هو الذي منعه، فابتلى الأول بالمال، وابتلى الثاني بالحرمان.
هذا حكم الله وقد رأينا ناسا يحاربون الغني، ورأينا مع الأسف قضاة يمنعون بعض الحقوق ويمنحون باسم الغنى والفقر، فهذا "محمد" خير البشر عندما علم الله الذي يعلم السر وأخفى أنه يضلع مع الفقير بقلبه ذكره بأن الله أولى بالغني والفقير، وأنه مقسم الأرزاق فكيف يسوغ لأحد من البشر أن يظلم غنيا لماله ؟ ! ! أو يحابيه لذلك.
وقال الزمخشري :"فإن قلت لم ثنى الضمير في ﴿ أولى بهما ﴾ وكان حقه أن يوحد، لأن قوله : إن يكن غنيا أو فقيرا في معنى إن يكن أحد هذين قلت : قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله : إن يكن غنيا أو فقيرا إلى المذكور، فلذلك ثني ولم يفرد، وهو جنس الغني وجنس الفقير، كأنه قيل : فالله أولى بجنسي الغني والفقير، أي بالأغنياء والفقراء" وفي هذا التخريج الذي ذكره الزمخشري إشارة إلى أن الغنى والفقر أمران ثابتان في هذا الوجوب، لا يمكن أن تخلو منهما الجماعة الإنسانية، لأن القدر متفاوتة والأعمال مختلفة، ونتائج الأعمال كثمرات الزرع والشجر تختلف باختلاف ما يزرع وما يغرس، وإن اتحدت الأعمال فقدر الله تعالى يسير الوجود، هذان زارعان يزرعان في قطع من الأرض متجاورات يبذران بذرا واحدا، وتسقى أراضيهما من ماء واحد، ومع هذا فذلك يأتي بزرع طيب والآخر يأتي برديء أو هذا يبيع بسعر جيد وذاك يتأخر شهرا أو يتقدم شهرا فيبيع بسعر دون الأول، فمن ظن أنه يستطيع إزالة ما بين الغنى والفقر فإنه يظن أنه يستطيع مغالبة القدر.
وإن الميل في الشهادة أو في الحكم عن الحق سببه هو اتباع للهوى ولذا نهى الله تعالى عن إتباع الهوى فقال :
﴿ فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ﴾ "الفاء" هنا هي التي تسمى فاء الإفصاح، لأنها تفصح عن شرط المقدر، كأنه يقول إن اتجهتم إلى الحق تطلبونه، ﴿ فلا تتبعوا الهوى ﴾ بل اتبعوا داعي العقل وحكم الشرع، والهوى هو الخضوع للشهوات، وعدم الخضوع لحكم العقل وما يوجبه الشرع ومن اتباع الهوى الخضوع للنزاعات الوقتية والظاهر وعدم البحث عن ذات الحقائق فمن الخضوع للهوى أن تمنع الغني حقدا لمجرد أنه غني، وتحابي الفقير لمجرد أنه فقير فهذا من قبيل الخضوع لمجرد الإحساس من غير تفكير وبحث عن الحقائق فإن الغني لا يحل ظلمه والفقير لا يقر على ظلم.
ومعنى النص الكريم :﴿ فلا تتبعوا الهوى ﴾ وتجنبوه لكي تعدلوا، وتتجهوا إلى الحق من غير تعويق من العواطف أو الأحاسيس التي تلقى وهما لا حقيقة فقوله تعالى :﴿ أن تعدلوا ﴾ في مقام بيان الغاية لعدم اتباع الهوى، فهو تعليل للنهي، ولا حاجة فيه إلى تقدير، ومؤدى الكلام على ذلك نهيتم عن اتباع الهوى لتعدلوا.
والكثيرون من المخرجين على تقدير محذوف والمعنى على ذلك لا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق إن اتبعتم الهوى، فإن الهوى من القاضي أو الشاهد يذهب بالحق ويضيعه، وإن هذا التخريج فيه تقديران :
أولهما : كلمة مخافة.
وثانيهما : تقدير أن تعدلوا عن الحق.
والأظهر، والأكثر اتفاقا مع السياق والنسق البياني هو التخريج الأول، وما لا يحتاج إلى تقدير أولى مما يحتاج إلى تقدير.
﴿ وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾قراءة الجمهور في هذا النص الكريم بواوين "وإن تلووا" وقرأ حمزة وبعض الكوفيين بواو واحدة، "وإن تلوا أو تعرضوا"٢.
ومعنى النص على القراءة الأولى وإن تلووا في الحكم أو في الشهادة بأن تحك
١ سبق تخريجه.
.

٢ قرأها بواو واحدة حمزة وابن عامر، وقرأ الباقون بواوين. (غاية الاختصار(٧٨٨) جزء٢، ص٤٦٧)..
﴿ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا( ١٣٦ ) إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا( ١٣٧ ) ﴾.
في الآيات السابقة كان الأمر بالعدالة في خاصة الأسرة، وانتهى الكلام إلى الأمر العام بالعدالة مع العدو ومع الولي، ومع الغني ومع الفقير، ومع الأقربين من ذوي القرابة ومع الغرباء، وبذلك أثبت الكتاب الكريم أن العدالة خاصة الإسلام، ولازمة من لوازمه، ولا تتحقق معاني الإسلام إلا مع العدالة، وإنها قرينة الإيمان لا تفترق عنه ولا تنفصل ولذلك قرن الأمر بالعدالة بالأمر بأركان الإيمان كلها، فقال سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ﴾
﴿ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ﴾ هذه الآية تدل على وحدة الرسالة النبوية إلى الخليقة إذ إن لبها هو الإيمان بالله ورسله وملائكته والكتب التي أنزلت على رسله وأن المتأخرين يجب عليهم أن يؤمنوا بما جاء به السابقون لهم، لأن الرسالة الإلهية سلسلة متصلة الحلقات، كل حلقة منها تالية لسابقتها، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم :"إن صرح النبوة واحد"١، الرسالة المحمدية آخر جزء لذلك الصرح الشامخ، وبها تمامه وكماله.
ومعنى النص السامي : يا أيها الذين أذعنوا للحق وطلبوه، وصدقوا به اجعلوا إيمانكم مستقرا وثابتا بالله جل جلاله، وبرسوله الذي جاء بشيرا ونذيرا وبالكتاب الذي نزله منجما مقسطا، وهو القرآن وبالكتاب الذي أنزل من قبل. والمراد جنس الكتب السابقة، لا واحد منها.
ونرى أن النص الكريم فيه أجزاء الإيمان التي يلازم بعضها بعضا، ولا ينفصل واحد منها عن باقيها، فهي كل لا يقبل التجزئة، ولا يمكن أن يتحقق معناه إلا باتصاله بعضه ببعض.
وأول عناصر الإيمان هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى. وذلك باعتقاد أنه واحد أحد فرد صمد، فوق كل شيء وليس فوقه شيء، ليس كمثله شيء، منفرد وحده بالألوهية، فهو الواحد في ذاته وصفاته وهو الواحد في خلقه وتدبيره، فهو خالق كل شيء وهو القادر على كل شيء وهو القاهر فوق عباده وهو الواحد في استحقاقه للعبادة، فلا يعبد بحق سواه.
هذه إشارات إلى معنى الإيمان بالله الرحمن الرحيم ذي الجلال والإكرام. وإن الإيمان بالله تعالى على ذلك النحو يقتضي الإيمان بأن رحمته توجب ألا يترك الناس هملا يضلون، ولا يهتدون ولا يقومون بحق الطاعة، بل لا بد من بشير ونذير ومن يكون رحمة للعلمين، فلا بد من الرسل يرسلهم، وكان حقا على الذين يدركون رسولا أن يؤمنوا به، فكان حقا على الذين أدركوا محمدا أن يؤمنوا به، ويكون المراد من رسوله هنا محمدا صلى الله عليه سلم، وذلك واضح من الإفراد ومن تكرار كلمة الرسول مقترنة بالكتاب الذي ينزل تنزيلا.
والكتاب الذي نزل على رسوله هو القرآن الكريم، وقد ذكر التعبير عن نزوله ب ﴿ نزل ﴾ للإشارة إلى نزوله منجما، وأنه لم ينزل جملة واحدة، وأنه كان لا يزال ينزل وقت هذا الخطاب القدسي، ومعنى الإيمان بالكتاب الإيمان بأنه حق، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه من عند الله العلي الحكيم، وأنه كلامه سبحانه وتعالى. وأن كل ما فيه من أخبار صادق، وما فيه من أحكام واجبة الطاعة، وأنه حجة الله الخالدة، وأنه حبل الله تعالى الممدود إلى يوم القيامة، وأنه محفوظ بحفظه، لا يعتريه تغيير ولا تبديل لأن الله تعالى قد وعد بحفظه، وهو صادق وأنه ما حاربه جبار إلا قصم الله تعالى ظهره.
والكتاب الذي أنزل من قبل هو كتب النبيين السابقين التي أنزلها الله تعالى عليهم، ومعنى الإيمان بها التصديق برسالات الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى وذكر فيها كتبهم، وذكر بجوارها أنها أنزلت لأنها قد مضت وانقطع نزولها.
وعبر عنها بالفرد دون الجمع للإشارة إلى تصديق معناها الجامع لها، وهو أنها رسالات الله تعالى إلى أهل الأرض، وهو معنى لا يتغير، بل يشير إلى الوحدة.
وقد يقول قائل ما معنى أمر أهل الإيمان بالإيمان، ألا يكون في هذا تحصيل حاصل، وأمر بما هو كائن ؟ لقد أجاب المفسرون عن ذلك بأن المراد بالأمر في قوله "آمنوا" اثبتوا على إيمانكم واستمروا عليه، ولا تتحولوا عنه، فالأمر أمر بالثبات والدوام.
ويصح أن نقول مع ما قاله المفسرون إن الحال التي عليها المؤمنون حال إذعان وتسليم وتصديق، والأمر بالإيمان مع هذه الحال التي هم عليها واستنارت قلوبهم بها بيان لأجزاء الإيمان، وأركانه وأصوله ومعانيه المتلازمة، فلا يفرقون بين أجزائه، ولا يفرقون بين أحد من رسله سبحانه، وفي هذا الأمر بيان اتصال المسلمين بالديانات السابقة وبيان أن الإسلام لا يهدم الأديان قبله. ولكنه يتممها. وأنه الخطوة الأخيرة في الوحي الإلهي، وأن من يكفر به وقد أدركه يكفر بغيره، وإن ادعى اعتناقه ومن يصدقه من غير إيمان بالكتب السابقة لا يكون صادقا.
وننبه هنا إلى أمر لفظي، قد أشرنا إليه وهو أن الله تعالى عبر عن القرآن بقوله "نزل" وعن غيره ب "أنزل" لأن القرآن قد نزل منجما٢، وكان لا يزال ينزل وغيره قد تم نزوله، وفي ذلك إشارة إلى طريقة نزول القرآن وأنه أمر أراده الله تعالى لمصلحة العباد، وتسهيل هدايتهم به، وتسهيل حفظ النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه له، ولأنس النبي صلى الله عليه وسلم باستمرار الوحي ينزل عليه.
وبعد أن بين سبحانه حقيقة الإيمان ذكر ما يؤدي إليه الكفر فقال سبحانه وتعالى :
﴿ ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ﴾ أي من يجحد بالله، فلا يؤمن بوحدانيته ولا بقدرته المبدعة الخالقة ولا بحق الإذعان له، والعبودية له سبحانه وحده، ومن ينكر الملائكة والكتب المنزلة والرسل المرسلة واليوم الآخر، الذي ينتهي إليه أمر العباد من يجحد ذلك الجحود فقد حاد عن السبيل، وانحرف عن الجادة، وبعد في التيه بعدا كبيرا، لا يمكن معه أن يعود إلى الطريق المستقيم، لأنه أوغل في الشر إيغالا شديدا، وهنا نجد عناصر خمسة يجب الإيمان بها، وهو الإيمان بالله جل جلاله، والإيمان بالملائكة وهم عباده المطهرون الغائبون عنا حسنا، القريبون منا ومنهم من ينزل بوحي الله تعالى على رسله، ومن ينزل بالكتب ولذلك قرن بالكفر بهم الكفر بالكتب التي ينزلها تعالى على خلقه مسجلة أحكامه وشرائعه وأوامره ونواهيه، واقترن الكفر بالرسل بالكفر بالكتب، لأن الرسل هم الذين يبلغونها ويبينونها ويدعون إليها، فالكتاب ينطق بالحق ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنه يتبع الكفر بكل ما سبق الكفر باليوم الآخر، والكفر باليوم الآخر هو طريق الضلال البعيد، الذي لا يستطيع التائه الضال إذا سار فيه أن يعود إلى الحق، إذ كلما أصر على الكفر باليوم الآخر ضل في فهم معنى الحياة، وبذلك ينزل إلى مرتبة الحيوان الذي لا يعرف أنه موجود لغاية، وأن له نهاية هي ابتداء لحياة أفضل وأبقى، ومن ظن ألا حياة إلا هذه الحياة الفانية فهو يلهو ويلعب ويعيث ويفسد، ولا ينتقل من ضلال إلا إلى ضلال، لا يهتدي بهدى، ولا يسترشد بإرشاد.
وإن قوة الإيمان وعظمة الإذعان تكون في الإيمان بالغيب، لأن المؤمن يخرج من أسر الحس إلى انطلاق الروحانية فيعلو فيها مدارج، ويسلك سبلا فجاجا.
وإن قوة الإيمان يقين ثابت مستمر، فلا هداية لمن يكون مزعزع العقيدة، مضطرب النفس يعرض له عارض فيرى نور الإيمان ثم تعرض ظلمة فينطمس، ويستمر حائرا بائرا، ولذا قال سبحانه في أصحاب هذه الحال :﴿ إن الذين أمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا ﴾.
١ في معناه ما رواه البخاري: المناقب خاتم النبيين(٣٥٣٥)، ومسلم الفضائل ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين(٢٢٨٦) وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"..
٢ أي مفرقا بحسب الحوادث..
﴿ إن الذين أمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا ﴾
في الآيات السابقة كان الأمر بالعدالة في خاصة الأسرة، وانتهى الكلام إلى الأمر العام بالعدالة مع العدو ومع الولي، ومع الغني ومع الفقير، ومع الأقربين من ذوي القرابة ومع الغرباء، وبذلك أثبت الكتاب الكريم أن العدالة خاصة الإسلام، ولازمة من لوازمه، ولا تتحقق معاني الإسلام إلا مع العدالة، وإنها قرينة الإيمان لا تفترق عنه ولا تنفصل ولذلك قرن الأمر بالعدالة بالأمر بأركان الإيمان كلها، فقال سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ﴾
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري : إن هذه الآية واردة في أهل الكتاب، فقال في ذلك :"عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة ثم أقر من أقر منهم بعيسى والإنجيل، ثم كذب به بخلافه إياه، ثم كذب بمحمد صلى الله عليه سلم، فازداد بتكذيبه كفرا على كفره.
ومؤدى هذا الكلام أن هؤلاء هم أهل الكتاب الذي آمنوا بالتوراة ثم عبدوا العجل وحرفوا التوراة، ثم آمنوا بالإنجيل ثم حرفوه وكفروا بعيسى وبالله، إذ جعلوا المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا".
ونرى أن نص القرآن يفيد أن الذين يخبر عنهم سبحانه طائفة واحدة آمنت ثم كفرت ثم آمنت ثم كفرت، ثم ازدادت كفرا... وما قاله ابن جرير يؤدي إلى أن يكون الكلام في طائفتين : إحداهما اليهود والأخرى النصارى، ولذلك نرى ترجيح قول الذين قالوا إن هذا النص في مرضى القلوب والمنافقين الذين اضطربت عقائدهم، فهم يؤمنوا أول النهار ويكفرون آخره، فيعتريهم قبس الإيمان فيهتدون حينا فيؤمنون ثم تعتريهم ظلمة نفوسهم فيكفرون ثم لا يزالون يترددون حتى تنطفئ قبسات النور من قلوبهم، وبذلك يزدادون كفرا، وذلك وصف دقيق للمترددين الحائرين يبتدؤون بحيرة مضطربة بين النور والظلمة، ثم يوغلون في الظلام إيغالا.
وإن أولئك الذين يترددون ذلك التردد، ثم ينتهون إلى تلك النهاية الموغلة في الكفر لا تنالهم المغفرة ولذا قال سبحانه :
﴿ لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ﴾ هذا نفي مؤكد للغفران والهداية معا، فالله لا يغفر لهم، ولا يهديهم سبيلا مستقيما، بل هم في حيرة مستمرة واللام في قوله "ليغفر"، "وليهديهم" هي اللام التي يسميها النحويون لام الجحود أي النفي المؤكد، وهي تكون بعد الفعل المشتق من الكون ككان ويكون ولتقريب معناها نضرب مثلا من عبارات الناس، فيقول بعض الناس : لم أكن لأكرمك أي لم أوجد لأكرمك، أي ليس من شأني وحالي المستمرة استمرار وجودي أن أكرمك، ويكون معنى النص السامي على هذا ذكر ما يؤدى إليه الكفر.
وبعد أن بين سبحانه حقيقة الإيمان لم يكن من حكمته وعلمه وكمال تدبيره أن يغفر لهؤلاء، ولا أن يهديهم السبيل والسبب في ذلك أنه لا تتصور منهم التوبة والرجوع إلى الحق، والإنابة إلى الله، حتى تكون منهم التوبة النصوح التي تجب ما قبلها من الذنوب، إذ أن التوبة تكون لمن يقع في الذنب عن جهالة، ثم يتوب قبل أن يوغل في الشر ويفقد معه كل عناصر، وكذلك لا يهديهم سبيلا، لأن الهداية تكون لمن لم يظلم قلبه، ولمن أراد الهداية وهؤلاء لا يريدونها.
فنفي الغفران ونفي الهداية بسبب أنهم أركسوا في الشر، وأحاطت بهم خطيئاتهم، ولقد قال في ذلك الزمخشري رضي الله عنه :"والمعنى أن الذين تكرر منهم الارتداد، وعهد منهم ازدياد الكفر، والإصرار عليه يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف، من إيمان صحيح ثابت، يرضاه الله لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب ضربت بالكفر ومرنت على الردة حيث كان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه، حيث يبدو لهم فيه كرة بعد أخرى".
اللهم هبنا إيمانا ثابتا وقلوبا مخلصة نقية من أخلاط الريب إنك سميع الدعاء.
﴿ بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما( ١٣٨ )الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا( ١٣٩ ) وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا( ١٤٠ ) الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا( ١٤١ ) ﴾.
كانت الآيات السابقة، في بيان الإيمان الحق الصادق، وأنه يشمل الإيمان بالرسل وكتبهم والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكتبه، وكل ذلك في ظل الإيمان بالله تعالى باعث الرسل ومنزل الكتب من عنده، وخالق كل شيء ومبدع الكون، ثم كانت الآية التي وليت ذلك في ذكر حال هؤلاء المترددين الحائرين الذين لا يستقرون على حال، وهم قسمان : قسم ضعيف الإيمان مضطرب الاعتقاد، وهؤلاء قد يؤمنون ثم يرتدون لغير غاية. والقسم الثاني يعلن الإيمان ويبطن الكفر، ويتردد مظهره بين الإيمان والكفر، إذ إنه مهما يطو اعتقاده في نفسه لابد أن يظهر على لسانه كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ ولتعرفنهم في لحن القول( ٣٠ ) ﴾( محمد ).
وهذه الآيات في شأن المنافقين ﴿ بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ﴾.
المنافقون هم الذين خلصوا للنفاق، وأصبح الإيمان لا موضع له في قلوبهم وهم المنافقون في الاعتقاد بالرسالة المحمدية، وذلك لأن النفاق قسمان : نفاق خالص وهؤلاء كفار في ذات الرسالة المحمدية، وهؤلاء كفار كما قال تعالى في الآيات اللاحقة. والقسم الثاني نفاق ليس خالصا، وهو لا يتصل بالعقيدة بل يتصل بالأخلاق، وهو الذي جاء ذكره في الحديث " آية المنافق أربع : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان، وإذا خاصم فجر " ١، وبعض الروايات ليس فيها الخصلة الرابعة٢، وهذا النوع هو الكثير الشائع في عصرنا
والتعبير بقوله :﴿ بشر المنافقين ﴾ فيه نوع مجاز، لأن البشارة لا تكون غالبا إلا في الخبر السار، ويقول في ذلك الأصفهاني في مفرداته :"وبشرته أخبرته بسار بسط بشرة وجهه، وذلك أن النفس إذا سرت انتشر الدم فيها انتشار الماء في الشجر.. ويقال للخبر السار البشارة والبشرى قال تعالى :﴿ لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة( ٦٤ ) ﴾( يونس )".
وقالوا إن التعبير بالبشرى في هذا المقام وهو إنذار المنافقين بالعذاب الأليم فيه نوع تهكم بهم، لأن المنافق فيه طمع وهو يريد النفع الدنيوي، أو المادي فيقال لهم ما تنتظرونه من أمر مبشركم ويرضي مطامعكم هو عذاب شديد. مؤلم أشد الإيلام، فهو ثمرة نفاقكم، فما غرستم من غرس هو شر محض، فلا ينتج إلا شرا.
﴿ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾
كانت الآيات السابقة، في بيان الإيمان الحق الصادق، وأنه يشمل الإيمان بالرسل وكتبهم والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكتبه، وكل ذلك في ظل الإيمان بالله تعالى باعث الرسل ومنزل الكتب من عنده، وخالق كل شيء ومبدع الكون، ثم كانت الآية التي وليت ذلك في ذكر حال هؤلاء المترددين الحائرين الذين لا يستقرون على حال، وهم قسمان : قسم ضعيف الإيمان مضطرب الاعتقاد، وهؤلاء قد يؤمنون ثم يرتدون لغير غاية. والقسم الثاني يعلن الإيمان ويبطن الكفر، ويتردد مظهره بين الإيمان والكفر، إذ إنه مهما يطو اعتقاده في نفسه لابد أن يظهر على لسانه كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ ولتعرفنهم في لحن القول( ٣٠ ) ﴾( محمد ).
وهذه الآيات في شأن المنافقين ﴿ بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ﴾.
المنافقون هم الذين خلصوا للنفاق، وأصبح الإيمان لا موضع له في قلوبهم وهم المنافقون في الاعتقاد بالرسالة المحمدية، وذلك لأن النفاق قسمان : نفاق خالص وهؤلاء كفار في ذات الرسالة المحمدية، وهؤلاء كفار كما قال تعالى في الآيات اللاحقة. والقسم الثاني نفاق ليس خالصا، وهو لا يتصل بالعقيدة بل يتصل بالأخلاق، وهو الذي جاء ذكره في الحديث " آية المنافق أربع : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان، وإذا خاصم فجر " ١، وبعض الروايات ليس فيها الخصلة الرابعة٢، وهذا النوع هو الكثير الشائع في عصرنا
هذه بعض أحوال المنافقين، وموقع ﴿ الذين يتخذون ﴾ إما أنها بدل أو عطف بيان المنافقين المذكورين في الأولى وإما أنها في موضع النصب على الاختصاص، ويكون المعنى على هذا : أخص الذين يتخذون...
وعندي أن البدل أولى، لأن تلك الأحوال تعمهم ولا تخص فريقا منهم دون فريق.
وما معنى اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين نقول إن الذي يقرب معنى الآية الكريمة أن نقول إنهم يلتمسون النصرة والعزة والكرامة من الكافرين، ويجعلون انتمائهم إليهم لا إلى الدولة الإسلامية، ويتخذون هذا الولاء ضد المؤمنين، أي أنهم يجعلون الولاء في الأمر الذي يكون فيه خلاف بينهم وبين المؤمنين وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ من دون المؤمنين ﴾.
أي مخالفين ومعاندين ومباعدين ولاء المسلمين، ومتجهين إلى ولاء الكافرين، ومؤدى هذا أنهم يتركون ولاء المؤمنين، للوصف اللازم لهم وهو الإيمان ويتخذون ولاء الكافرين للوصف المميز لهم وهو الكفر، وهم بهذا يحاربون الله ورسوله، والله تعالى يقول :﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله( ٢٢ ) ﴾( المجادلة ).
وإن الذين تكون أوصافهم هكذا هم كافرون.
والولاء قسمان : ولاء نصرة وانتماء، وهذا منهي عنه من المؤمنين إلا بالضرورة، وولاء مودة ومحبة وهذا غير منهي عنه بالنسبة لغير المسلمين إلا إذا كانوا قد حاربوا الله ورسوله وخرجوا محاربين له منابذين.
وقد استنكر سبحانه وتعالى أن يكون لهؤلاء المنافقين ما يبرر هذا الولاء، ولذا قال سبحانه وتعالى :
﴿ أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ﴾ إن هؤلاء المنافقين تضل أفهامهم، ويطمس على مداركهم ويفسد تفكيرهم لأنهم مردوا على الابتعاد عن الحقائق والحكم على الزمان بحالهم الوقتية، ولا تنفذ عقولهم إلى ما وراء ظاهر الأمور فهم يطلبون العزة من غيره.
والاستفهام هنا لإنكار الواقع، أي للتوبيخ على أمر وقع منهم وهو أنهم يطلبون العزة ويريدونها إرادة شديدة راغبين فيها من الكافرين الذين لا يملكون أن يعزوا غيرهم لأنهم يعاندون الله تعالى، ولا عزة لمن يجحد ويعاند الله العزيز الحكيم. وقد أكد الله تعالى ذلك المعنى بقوله تعالت كلماته :
﴿ فإن العزة لله جميعا ﴾ أي أنه لا عزة إلا ما يكون من عند الله تعالى، ولمن يطيع أوامره، وينتهي عن نواهيه، وقد أكد الله تعالى أن العزة له وحده بعدة مؤكدات منها التوكيد ب "إن" ومنها ذكر لفظ الجلالة ومنها ذكر بكلمة ﴿ جميعا ﴾.
إن العزة لله وحده، فليس بعزيز من يعانده، إذ ليست العزة غطرسة وكبرياء ولكنها معنى نفسي يسكن في القلب فيحس باستعلاء على مظاهر الحياة، واستجابة لمعانيها وأولئك الذين يريدون العزة من غيرهم يبنونها على أوهام، وعلى مطامع مادية، وليست هذه العزة إن كان استعلاء يبنى على أمر مادي، أو جاه خارجي، أو مطمع دنيوي إنما هو وهم سرعان ما يزول وتذل النفوس التي لا تتمسك بالحق، فالحق فيه العزة وهو الذي يكون من عند الله، فلا عزة إلا من الله، والذل حيث لا يريد وجه الله.
وإن أولئك المنافقين لفرط كفرهم وإيغالهم في البعد عن الله يشاركون الذين يثيرون السخرية عند تلاوة القرآن ولذا قال سبحانه :﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا ﴾.
﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا ﴾.
تمهيد
قبل ان نتجه إلى التفسير التحليلي لآيات هذه السورة، لا بد من تمهيد موجز يعطي القارئ صورة لما اشتملت عليه.
لقد اتفق الرواة على ان هذه السورة مدنية، أي نزلت بعد الهجرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وان ما اشتملت عليه يدل على انها نزلت بعد ان كان للإسلام دولة تنظم علاقاتها بغيرها، وبعد ان من الله تعالى على الذين استضعفوا في الأرض وجعلهم أئمة يهدون بأمر الله تعالى فيها.
وقد روى ان ابن عباس –رضي الله عنهما – قال :"ثماني آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت. أولهن :﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم٢٦ ﴾ [ النساء ] والثانية :﴿ والله يريد ان يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات ان تميلوا ميلا عظيما٢٧ ﴾ [ النساء ] والثالثة :﴿ يريد الله ان يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا٢٨ ﴾ [ النساء ] والرابعة :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما٤٠ ﴾[ النساء ] والخامسة :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما٣١ ﴾[ النساء ] والسادسة :﴿ إن الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء بالله فقد ضل ضلالا بعيدا١١٦ ﴾[ النساء ] والسابعة :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو انهم إذ ظلموا انفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما٦٤ ﴾[ النساء ] والثامنة :﴿ ومن يعمل سوءا او يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما١١٠ ﴾[ النساء ].
وإن صحت هذه الرواية عن ابن عباس١
فإنها تدل على انه اتجه إلى عدل الله ورحمته بعباده، وفتحه باب التوبة والمغفرة. وإلا فإن القران كله بكل سورة وآياته خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.
وسورة النساء هي سورة الإنسانية، ففيها عين القرآن الكريم العلاقات الإنسانية التي تربط الناس بعضهم ببعض، وما ينبغي ان تنهجه المجتمعات الفاضلة في جعل العلاقة الإنسانية الأصيلة تسير في مجراها الطبيعي الذي رسمه رب العالمين بمقتضى الفطرة، وفيها ما حده الله – تعالى – لعلاج الانحراف الذي ينحرف به ذوو الأهواء من الآحاد والجماعات.
ابتدأت السورة الكريمة ببيان الارتباط الإنساني الجامع الذي تلتقي عنده البشرية جميعها، فقال – سبحانه - :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها... ١ ﴾ [ النساء ] وإذا كان الناس جميعا ينتهون إلى أصل واحد فإنه لا بد من التساوي، ولا بد من التراحم لهذه الرحم الواصلة، ثم عن اول مظاهر التراحم هو الأخذ بيد الضعفاء، وأوضح الضعفاء مظهرا أولئك اليتامى الذين لا عائل يعولهم، وإن اليتيم المقهور هو الذي يتولد فيه الانحراف، ومن الانحراف تكون العداوة، ويكون الشر المستطير، ولذلك ابتدأت السورة بعد إثبات الوحدة الجامعة بعلاج اليتم لتكون الجماعات في طريق المودة.
واليتيم لا يحتاج فقط إلى الغذاء والكساء بل يحتاج إلى المودة والإصلاح في نفسه وماله :﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا٩ ﴾[ النساء ].
وفي سبيل بيان حقوق اليتامى يبين- سبحانه – نظام التوزيع المالي للأسرة عندما يموت واحد منها، فيبين الميراث وانه حد لله تعالى للحقوق المالية لمن يخلفون المتوفى في ماله، وان الانحراف عنه عصيان لله تعالى.
وبعد ذلك اخذ يبين الله سبحانه وتعالى تكوين الأسرة الإسلامية، وأساس التكوين هو العلاقة بين الرجل والمرأة، او بتعبير القرآن السامي العلاقة بين النفس وزوجها، فنفى ان تكون العلاقة بينهما كالعلاقة بين أنثى الحيوان والذكر، بل العلاقة بينهما أسمى وأعلا، ولذلك أشار إلى عقوبة من ينزل إلى مرتبة الحيوان فقال :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت او يجعل الله لهن سبيلا١٥ ﴾[ النساء ].
وبين ان باب التوبة مفتوح لمن يقع في هذه الخطيئة الحيوانية، ثم اخذ يرسم -سبحانه وتعالى – الطريق السليم للعلاقة بين الرجل والمرأة، وهو الزواج، وحرم ما كان عليه اهل الجاهلية من وراثة النساء وسمى ذلك مقتا، ثم اخذ يبين سبحانه شرائط العقد الصحيح، والنساء اللائي يحرمن في الزواج، ثم نفى سبحانه ان يكون اتخاذ الأخدان سبيلا من سبل تكوين الأسرة ومن اتخاذ الأخدان ما يسمى بالمتعة وهو اتخاذ المراة لمد محدود في نظير اجر معلوم.
وبعد ان بين سبحانه العماد الذي تقوم عليه الأسرة، وهو الزوجان، اخذ يبين علاقة الإنسان بغيره من الناحية المالية فقال سبحانه وتعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا ان تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما٢٩ ﴾[ النساء ].
ولقد كانت العلاقة بين الرجل والمرأة موضع نظر الماضين كما هي الآن موضع النظر والقول/ فوضع الله سبحانه وتعالى الحدود التي تبين حقوق كليهما، فبين الله سبحانه وتعالى ان لكل منهما نصيبه من الكسب، ﴿... للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله عن الله كان بكل شيء عليما٣٢ ﴾ [ النساء ]. وبين مع ذلك ان للرجال فضل الرياسة والقوامة، وان ذلك يظهر فيما للرجل على امرأته من ولاية التأديب، وقد ذكر سبحانه ضروب التأديب التي يملكها الرجل على زوجه، وكلها من غير قسوة ولا شذوذ ولا طغيان، ثم بين سبحانه العلاج إذا أصابت الأسرة آفة الشقاق، فقال سبحانه وتعالى :﴿ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها عن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما عن الله كان عليما خبيرا٣٥ ﴾[ النساء ].
وبعد ان بين سبحانه ما هو قوام الأسرة وعمادها – وقد أشار إلى العلاقات المالية بين الناس، وان أساسها التراضي – أخذ سبحانه وتعالى يبين لنا العلاقة بين العبد وربه، والعلاقة بين العبد والناس بغير التجارة، فأما العلاقة بين العبد وربه فهي العبادة لله وحده، لا يشرك به أحدا، وأما العلاقة بينه وبين الناس فهي الإحسان، وأول من يجب له الإحسان الوالدان، ثم الإحسان إلى ذوي القربى واليتامى أيان كانوا ؛ لأنهم عن أهملوا تربت بينهم وبين المجتمع روح العداوة، ثم الإحسان إلى الجار والمجاور، والجار القريب لك، ومن تصاحبه في طريق او عمل، والإحسان إلى ابن السبيل والضعفاء جميعا، والتضامن والتواضع، ولذا قال تعالى :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا٣٢ ﴾ [ النساء ].
وبين سبحانه التلازم بين الاختيال والفخر والبخل، وبين عاقبة كليهما، وذكر ان من المختالين البخلاء من ينفقون اموالهم رئاء الناس، وان هذه العيوب النفسية هي من وسوسة الشيطان، وبين سبحانه وتعالى عقاب هؤلاء في الدنيا والآخرة وكيف يحضرون يوم القيامة :﴿ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول أو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا٤٢ ﴾[ النساء ].
وقد بين سبحانه وتعالى الأساس الذي تقوم عليه العلاقة الإنسانية، وهو الضمير، والضمير لا يتربى إلا بالصلاة، ولذلك أخذ يشير إلى احكامها، مشيرا إلى تحريم ام الخبائث وهي الخمر، فقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا …٤٣ ﴾[ النساء ].
ثم بين سبحانه حال أولئك الذين ماتت ضمائرهم مع ما اوتوه من علم لكتاب، وهم اليهود، فقد اتخذوا منه ذريعة للسلطان والسيطرة، وبذلك عملوا على إضلال غيرهم، وإفساد عقائد من كانوا يجاورونهم، وبين في هذا محاولتهم إيذاء النبي والتهكم عليه في دعوته، وفي أثناء بيان رسالته، وربط سبحانه ان الباعث على هذا الضلال والتضليل هو إرادتهم الملك والحسد، ولذا قال سبحانه :{ أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناي غلا نقيرا٥٣ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما٥٤[ النساء ] وبين سبحانه من بعد ذلك عاقبة الذين يكفرون بآياته سواء أكانوا ممن أوتوا الكتاب من قبل أم كانوا من المشركين. وقابل هذه العاقبة بما أفاضه الله- تعالى – من نعيم أخروي على المؤمنين.
وقد بين سبحانه وتعالى من بعد ذلك أساس الحكم الإسلامي، فذكر أنه العدل والأمانة، وان أمثل طريق لتحري العدل والأمانة هو إطاعة الله ورسوله، وان الحاكم عليه ان يرد كل تنازع إلى حكم الكتاب والسنة، وان التحاكم إلى غير كتاب الله تعالى وسنة رسوله تحاكم إلى الطاغوت، وان المنافق هو الذي يرتضي حكم الطاغوت بدل حكم الله تعالى :﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا٦١ ﴾[ النساء ] وقد بين أن أمارة الإيمان هو تحكيم الكتاب والسنة﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما٦٥ ﴾[ النساء ].
وإن الحق يجب ان ينصر، وإن المؤمن لا يصح أن يستسلم للاعتداء، وإن كان العدل وأداء الأمانة وإطاعة الله ورسوله أساس الحكم الإسلامي، فإن العدل مع المخالفين هو أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وإن القتال إذا كان العدل يستوجبه يكون أمرا لازما، فإذا اعتدي على الإسلام وأهله وجب القتال، ووجب أخذ الأهبة، وكان الحذر من الأعداء بقتالهم :﴿ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل او يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما٧٤ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا٧٥ ﴾[ النساء ].
وإن الخروج للقتال هو العلاقة المميزة بين أقوياء الإيمان وضعفاء الإيمان ومنهم المنافقون، فهؤلاء وأولئك يقولون :﴿... لولا أخرتنا إلى اجل قريب... ٧٧ ﴾[ النساء ].
وشأن الضعاف أن يزيلوا عن أنفسهم مظنة التقصير، وينسبوا ما يصيبهم من سيئة لغيرهم، وينكروا فضل ذوي الفضل :﴿... وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا٧٨ ﴾ [ النساء ].
وإن أولئك يخالفون الرسول، فالله أكد لهم أن من يطع الرسول فقد أطاع الله، وان ذلك كله من هجرهم لأوامر القرآن، وعدم تدبرهم لإعجازه ومراميه، وان عليهم أن يردوا ما يستغلق عليهم فهمه إلى سنة الرسول وإلى العلماء منهم.
وإن أولئك المنافقين معوقون، ولذا أمر الله نبيه بألا يلتفت إليهم :﴿ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ٨٤ ﴾[ النساء ].
وقد بين سبحانه ان المعاملة بالمثل هي أساس الإسلام، وان الجزاء مجانس للعمل دائما، والله سبحانه وتعالى سيجمع الناس جميعا يوم القيامة.
وقد ذكر سبحانه وتعالى ما ينبغي ان يعامل به المنافقون الذين هم كالداء الوبيل في جسم الأمة، فبين الله سبحانه وتعالى ان يعاملوا باحتراس ولا
١ رواها ابن جرير الطبري في تفسيره، وروى الحاكم بإسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه عن ابن عباس انه قال: سلوني عن سورة النساء؛ فإني قرأت القرآن وأنا صغير..

إن المنافقين يوالون الكفار ويجعلون الولاية لهم، و يجلسون معهم مستهزئين ساخرين معاندين الله تعالى مع أنه سبحانه وتعالى نزل في كتابه المحكم أنكم إذا سمعتم أيها المخاطبون بالحقائق الإسلامية الذين يتحدثون ساخرين بالقرآن، فلا تقعدوا بل اتركوا مجلسهم وأعرضوا عنهم حتى يخوضوا أي يتكلموا في حديث غيره، والذي نزل في القرآن ونهى عن الجلوس مع الذين يستهزئون بما جاء به هو في سورة الأنعام المكية، التي نزلت قبل سورة النساء المدنية، وهو قوله تعالى :﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره( ٦٨ ) ﴾( الأنعام ).
والخطاب في قوله تعالى :"عليكم"لعامة الذين يتلون القرآن الكريم من مؤمنين صادقين ومنافقين ومؤدى الكلام أنه من المنهي عنه أن يجلس المسلم مع مثير السخرية على آي القرآن، والمشركون يفعلون ذلك، ومع ذلك لا يكتفي المنافقون بهذا بل إنهم يولونهم أمورهم ويجعلون عزتهم منهم، ويكون ضمير الغيبة عائدا على الكافرين.
وبعض العلماء قال إن الخطاب للمنافقين وهو لا يخرج عن المعنى السابق.
وأرى أن الخطاب كله للمؤمنين، وفيه تحذير للمؤمنين من أن يجالسوا المنافقين إذا استهزءوا بآيات الله تعالى، وسخروا من الأحكام الإسلامية لأن سماع الشر شر، ولأن سماع الاستهانة بالقرآن قد تؤدي إلى الاستهانة من السامع، فأول الشر سماع الشر، وإن أولئك المنافقين يبدو في مجالسهم كلمات الكفر وكلمات الاستهزاء.
وعلى ذلك يكون ضمير الخطاب لمؤمنين وضمير الغيبة للمنافقين الكافرين.
وقد بين سبحانه أن القعود مع الأشرار وسماع كلمات الكفر والاستهزاء يجعل المؤمن كالكافر والمنافق، ولذا قال سبحانه :
﴿ إنكم إذا مثلهم ﴾أي إنكم أيها المؤمنون إن استمعتم إلى الكفار والمنافقين وهو يعلنون الكفر بآيات الله تعالى وجحودها تكونون مثلهم في الاستهانة بكتاب الله تعالى ورسالة الرسول الأمين، والاستهانة بالأحكام الإسلامية، وقد رأينا ذلك عيانا فإن أولئك الذين يجالسون الفرنجة ويقرؤون ما يكتبون عن الإسلام، ويثيرون السخرية على أحكامه تسري إليهم العدوى، ولقد سمعنا بعض هؤلاء ممن يتسمى باسم إسلامي، وهو من أسرة إسلامية، يتهكم على قوله تعالى :﴿ للذكر مثل حظ الأنثيين...( ١١ ) ﴾( النساء )فلعنه الله تعالى، ولعنة الله على كل من لا يؤمن بسلامة هذه القضية، ولعنه الله على كل من ينكر ميراث القرآن أو يهون من شأنه.
وإن الآية يستفاد منها فوائد : أولها : أن الاستهزاء بالحقائق القرآنية لا يقدم عليه مؤمن. وثانيها : أن الاستماع إلى الكفر بها والاستهزاء يجعل السامع كالمتكلم، لأن السكوت لا يخلو من رضا ولو كان جزئيا، ثالثها أن الشر يسري من القائل إلى السامع كما يسري السم في الجسد، وكما يجري الشيطان في النفس.
وقد أكد سبحانه النهي عن مجالسة المنافقين بقوله تعالت كلماته :
﴿ إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ﴾أي أنه إذا كان المنافقون يطلبون العزة من الكافرين، ويطلبون الولاء والنصرة منهم ويحاولون بذلك أن يجتمعوا على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله سبحانه وتعالى جامعهم في الذل والهوان، لا في العزة والاستمكان، إنه جامعهم في جهنم جميعا بلا استثناء قط، لأنهم تحدوا الله ورسوله ولأنهم جحدوا بآيات الله تعالى وسخروا منها، ولأن كلمة الكفر تجمعهم وتفرقهم في النوع لا في الأصل. فإن الكفار قسمان : قسم أعلن الكفر والمناوأة وأولئك أقوياء الكفار، وقسم كفر وغش وخدع، فادعى الإسلام وكلاهما في جهنم وإن كان المنافق في الدرك الأسفل منها.
﴿ الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم ﴾
كانت الآيات السابقة، في بيان الإيمان الحق الصادق، وأنه يشمل الإيمان بالرسل وكتبهم والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكتبه، وكل ذلك في ظل الإيمان بالله تعالى باعث الرسل ومنزل الكتب من عنده، وخالق كل شيء ومبدع الكون، ثم كانت الآية التي وليت ذلك في ذكر حال هؤلاء المترددين الحائرين الذين لا يستقرون على حال، وهم قسمان : قسم ضعيف الإيمان مضطرب الاعتقاد، وهؤلاء قد يؤمنون ثم يرتدون لغير غاية. والقسم الثاني يعلن الإيمان ويبطن الكفر، ويتردد مظهره بين الإيمان والكفر، إذ إنه مهما يطو اعتقاده في نفسه لابد أن يظهر على لسانه كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ ولتعرفنهم في لحن القول( ٣٠ ) ﴾( محمد ).
وهذه الآيات في شأن المنافقين ﴿ بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ﴾.
المنافقون هم الذين خلصوا للنفاق، وأصبح الإيمان لا موضع له في قلوبهم وهم المنافقون في الاعتقاد بالرسالة المحمدية، وذلك لأن النفاق قسمان : نفاق خالص وهؤلاء كفار في ذات الرسالة المحمدية، وهؤلاء كفار كما قال تعالى في الآيات اللاحقة. والقسم الثاني نفاق ليس خالصا، وهو لا يتصل بالعقيدة بل يتصل بالأخلاق، وهو الذي جاء ذكره في الحديث " آية المنافق أربع : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان، وإذا خاصم فجر " ١، وبعض الروايات ليس فيها الخصلة الرابعة٢، وهذا النوع هو الكثير الشائع في عصرنا
التربص الانتظار، فيقال تربص بمعنى انتظر ويقال تربص به إذا انتظره مراقبا له، ففي قوله :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء( ٢٢٨ ) ﴾( البقرة )يراد التربص مع مراقبة النفس، وملاحظة حال الحيض وغيرها.
وهؤلاء المنافقون عند اشتداد الشديدة وقيام الحرب ينتظرون مراقبين المؤمنين وغيرهم، فإن كان النصر الفاتح الفاصل بين قوة الشرك وقوة أهل الإيمان بنصر الله تعالى وتأييده قالوا : نحن معكم لنا حظ في الغنيمة ولا بد أن يسهم لنا سهم فيها وإن كان للكافرين نصيب من النصر قالوا : ألم نحطكم بحمايتنا ورعايتنا ونمنع المؤمنين من أن ينتصروا عليكم، أي إن انتصاركم كان بفضل حياطتنا ورعايتنا، فهم لطمعهم مترددون بين الفريقين كالشاة العاثرة بين غنمين، يذهبون إلى حيث المطمع العاجل، إذا احتدم القتال بين الفريقين أما إذا كان السلم فقلوبهم وولاؤهم للكافرين دائما لأنهم منهم.
وفي النص القرآني بعض بحوث لفظية تقرب معنى النص الكريم :
أولها : أنه سبحانه وتعالى عبر عن النصر في جانب المؤمنين بأنه فتح لأن الفتح فصل بين الحق والباطل، ولأنه من وراء نصر المؤمنين فتح الطريق لكي يدرك الناس الإسلام ويدخل فيه من أراد، ولأن النصر للمؤمنين دائم، و قد عبر سبحانه عن الفتح أنه يجيء من الله و في ذلك معنى الدوام، لأن الذي يجيء به هو الله القائم على كل شيء فهو باق ما بقيت الأسباب التي تتخذ للنصر.
ثانيها أن الاستفهام في قوله تعالى :﴿ ألم نكن معكم ﴾معناه أننا كنا معكم مؤكدين ذلك الاستفهام وهو الذي يسمي الاستفهام التقريري وهو في أصله للنفي، وهو داخل على النفي وهو : لم نكن معكم فهو نفي لهذه القضية، ونفي النفي إثبات، ومثل ذلك قوله :﴿ ألم نستحوذ عليكم ﴾.
ثالثها : أنه عبر عن انتصار الكافرين في الموقعة بقوله :﴿ وإن كان للكافرين نصيب ﴾فلم يقل أن انتصارهم فتح، ولكنه قدر من النصر قل أو كثر، ولا يمكن أن يكون فتحا لأنه لا ينصر الباطل نصرا دائما ولا يكون لكافرين نصيب من النصر، إلا في غفلة من المسلمين كما في أحد، ويدوم بمقدار الغفلة فإن كانت اليقظة كان فتح الله للمؤمنين.
رابعها : أن كلمة استحوذ معناها أحطنا بحاذيكم أي جانبيكم وهذا كناية عن الإحاطة بهم للحماية والمنع.
﴿ فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ﴾وإذا كانت تلك حال المنافقين في الدنيا وحال الكافرين فيها، فإن مآلهم إلى الله تعالى يوم القيامة وهو الذي سيحكم بالحق وحده، ولا يستوي الذين يؤمنون والذين يكفرون، ومهما يكن من استنصار المنافقين بالكافرين، وتمالأ الفريقين على المؤمنين فالله سبحانه ولي المؤمنين سيقطع ما بين الفريقين، وسيكون المؤمنون في النعيم وأولياء الشيطان في الجحيم.
وإنه في الدنيا والآخرة لن يجعل الله تعالى للكافرين بوصف أنهم كافرون سبيلا أي سبيل للسيطرة على المؤمنين بوصف أنهم مؤمنون، وإذا كنا نرى غلبة من أهل الكفر على الذين يتسمون باسم الإسلام الآن، فلأنهم تخلوا عن أوامر الله تعالى للمؤمنين، وخذلوا الحق، فما كانت الغلبة من كافر على مؤمن بل كانت من كافر على مسلم تخلى عن واجب الإيمان، اللهم ارفع كلمة الحق والإيمان ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا إنك أنت سميع الدعاء.
﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلوات قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا( ١٤٢ )مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا( ١٤٣ )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا( ١٤٤ ) ﴾
الكلام في المنافقين وقد ذكر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة علاقتهم بالمؤمنين فذكر أنهم يتربصون بهم الدوائر، ويريدون أن ينالوا من الغنائم من غير أن يعملوا، وقلوبهم مع الكافرين.
وقد ذكر سبحانه وتعالى وصفا لأهل النفاق وهو أنهم يظنون أن أعمالهم مستورة، وأن الناس عنهم غافلون بل إنه ليصل بهم فرط غرورهم إلى أن يظنوا أن الله تعالى لا يعلم ما يسرون وما يعلنون، ويعاملوا الناس على أساس هذه الخديعة، ولذا قال سبحانه فيهم :﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ﴾
﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ﴾الخدع أو الخداع أن يحاول المخادع حمل الغير على تغيير اعتقاده فيه، بحيث يعتقد فيه الخير، وليس أهلا لهذا الاعتقاد، فيوهمه أن أمره على ما يحب، وهو على ما يكره، أو يظهر من الأفعال ما يخفي أمره، ويستر حقيقته بغية تضليل من يعامله وقوله تعالى :﴿ يخادعون الله ﴾صيغة تدل على مفاعلة من الجانبين، والخداع دائما في ذاته مفاعلة من الجانبين : خادع ومخدوع فهو معاملة آثمة إذا لم يكون فيه خير وخداع أهل الخير شر دائما.
وهنا نجد النص فيه عمل أهل النفاق، وهو أنهم يخادعون الله، وعمل الله تعالت قدرته عليهم، وهو أنه خادعهم، وقد تكلم العلماء في معنى مخادعتهم لله تعالى، وكلامهم ينتهي إلى تخريجين.
أحدهما أن معنى مخادعتهم لله تعالى أنهم يعاملون الله تعالى كأنهم يخادعونه إذ يظنون أنه يخفى عليه أمرهم فيعلنون غير ما يبطنون، ويظنون أن الله تعالى لا يعلم ما في قلوبهم وخفايا نفوسهم، وذلك لأن المخادع يتوهم أن من يخادعه لا يعلم أمره، فهؤلاء لفرط جحودهم، و كفرهم بالله و جهلهم لذاته وصفاته يتوهمون أن أمورهم خافية عليه، وأنهم معه كأمرهم مع الناس، إذ يخفون ما لا يبدون.
والثاني أن معنى مخادعتهم لله أنهم يخادعون النبي والمؤمنين إذ هم أولياء الله تعالى ومن يخادعهم كأنما يخادع الله سبحانه وتعالى، وقد وضح هذا التخريج الراغب الأصفهاني، فقال :"الخداع إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه، قال تعالى :﴿ يخادعون الله ﴾أي يخادعون رسوله وأولياءه، ونسب ذلك إلى الله تعالى من حيث إن معاملة الرسول كمعاملته، ولذلك قال الله تعالى :﴿ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله( ١٠ ) ﴾( الفتح )".
وجعل ذلك خداعا له تفظيعا وتنبيها على عظم الرسول وعظم أوليائه وقول أهل اللغة إن هذا على حذف مضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، فيجب أن يعلم أن المقصود بمثله في الحذف لا يحصل لو أتى بالمضاف المحذوف لما ذكرنا من التنبيه على أمرين : أحدهما فظاعة فعلهم فيما تحروه من الخديعة، وأنهم بمخادعتهم إياه يخادعون الله، والثاني التنبيه على عظم المقصود بالخداع، وأن معاملته كمعاملة الله تعالى.
ومرمى هذا الكلام هو بيان منزلة الرسول وأولياء الله، وأن خداعهم خداع لله وهو أمر فظيع، وأن الأصل هو أن الكلام على حذف مضاف وهو الرسول والمؤمنون، وكأن نسق الكلام، يخادعون رسول الله، فحذفت كلمة الرسول، وأقيم المضاف إليه وهو الله تعالى مقام المضاف تفظيعا لعملهم، وإعلاء لقدر الرسول والمؤمنين.
وفي الحق إن التخريجين يمكن الجمع بينهما، فهم يعاملون الله تعالى معاملة من يظنون أنهم يخادعون لعدم إيمانهم بالله، وهم يخادعون أولياءه ومن هذا الطريق أيضا يخادعون الله تعالى.
ومعنى خدع الله تعالى لهم أنهم مقابل ذلك الخداع الذي يصنعونه يجزون بجزائه وهو ثمرة له، فمعنى خدع الله تعالى مجازاتهم على نفاقهم، ومحاولتهم خداع الرسول ومن معه.
ويصح أن يقال إن معنى خدع الله تعالى أن يرد عليهم كيدهم في الدنيا، فيأتيهم سوء العاقبة في الدنيا من حيث كانوا يظنون أنهم واصلون إلى مقاصدهم، إذ يحسبون بنفاقهم أنهم واصلون إلى غاياتهم فيأتيهم الله تعالى من حيث لا يحتسبوا ويظنون أنهم مجهولون، والله تعالى كاشفهم.
وهنا إشارة بيانية دقيقة، وهي أنه سبحانه وتعالى عبر عن خداعهم بصيغة تدل على المشاركة والمغالبة، وأنهم قد ينجحون وربما لا ينجحون، أما خداع الله تعالى لهم، فلم يعبر عنه بصيغة المشاركة بل عبر سبحانه بقوله :﴿ وهو خادعهم ﴾للدلالة على الغلب، وأن الله تعالى لا محالة كاشف أمرهم ومزيل مغبة خداعهم ومحاسبهم لا محالة على ما يرتكبون.
﴿ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ﴾هذه حال من أحوال المنافقين تدل على مقدار نفاقهم وتظهره، وهي أيضا من قبيل الخداع لله ولرسوله، وللمؤمنين وذلك في الصلاة، ففي المظهر الحسي لها يقومون كسالى متثاقلين، لا نشاط يحركهم و لا إيمان يبعثهم، و هذا مظهر يريدون به إظهار الإيمان، و هو يكشف عن خبيئة أنفسهم ولذلك جعل النبي هذا النوع من الصلاة شيمة النفاق فقد قال صلى الله عليه وسلم ذاما الذي صلى على هذا النحو :"تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، يجلس أحدهم بقرب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام( فنقر أربعا )لا يذكر الله فيها إلا قليلا }١.
والحقيقة النفسية في هذه الصلاة أنهم يتوهمون بها أنهم يخدعون غيرهم، إذ إنهم يصلون هذه الصلاة ليراءوا بها، والرياء أن يقوم الشخص بالعمل الجميل في مظهره لا لإتباع أمر الله والقيام بحق الغير عليه ونفع الناس به، بل ليخدع به الناس ويظهر بالخير ابتغاء رضاء الناس. والرياء نوع من الشرك، فقد قال صلى الله عليه وسلم :"من صلى يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك"٢.
وإن هذا النوع من الخداع مكشوف كما رأيت، فهم لا يقصدون وجه الله بصلاتهم، ولكن يقصدون ستر نفاقهم وتغطية أمرهم، ولذلك قال الله تعالى فيهم :
﴿ ولا يذكرون الله إلا قليلا ﴾ أي أنهم لا يجرى ذكر الله تعالى في قلوبهم إلا ذكرا قليلا، أو إلا وقتا قليلا لا يلبث أن يطفئه النفاق وإذا قامت في قلوبهم شعلة من الإيمان بالله لا تلبث أن تخبو لغلبة أهوائهم، وذلك لأن هؤلاء المنافقين يعرفون الله تعالى، ويدركون معاني الإيمان، ولكن غلبت عليهم شِقْوتهم فكفروا به إذ عرفوه، ومن كانت هذه حاله يعتريه أحيانا تذكر لله تعالى وعظمته، ولكنه تذكر لا يكون معه إيمان مثمر، ولا تصديق مذعن فلا خير فيه ولا ثواب عليه ولا يمدحون بذلك القدر من الذكر، الذي لا يجدي. وقوله تعالى :
﴿ ولا يذكرون الله إلا قليلا ﴾ هو حال لهم ذكرها يفيد أنهم قد طمس على قلوبهم حتى إذا جاءهم بريق من نور أطفأوه، ولا يبقونه، وهؤلاء المنافقون أمرهم عجب هم أحيانا يدعون أنهم من دولة أهل الإيمان وفي ولايتهم إن وجدوا للمؤمنين غلبا، وينتمون إلى دولة الكفر إن كان للكفر نصيب من نصر أو غلب أهل الحقد على أهل الإيمان ولذا قال سبحانه :﴿ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ﴾.
١ رواه مسلم بلفظ مقارب بلفظ المفرد(تلك صلاة المنافق)بغير تكرار، ما رواه الترمذي والنسائي ورواه أبو داود وأحمد ومالك بنحو من الرواية المذكورة في التفسير. أما ما رواه مسلم: المساجد ومواضع الصلاة استحباب التبكير للعصر(٦٢٢)عن العلاء بن عبد الرحمن أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر وداره بجنب المسجد، فلما دخلنا عليه قال: أصليتم العصر؟ فقلنا له: إنما انصرفنا الساعة من الظهر، قال: فصلوا العصر، فقمنا فصلينا فلما انصرفنا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا"..
٢ سبق تخريجه من رواية أحمد عن شداد بن أوس..
﴿ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ﴾
الكلام في المنافقين وقد ذكر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة علاقتهم بالمؤمنين فذكر أنهم يتربصون بهم الدوائر، ويريدون أن ينالوا من الغنائم من غير أن يعملوا، وقلوبهم مع الكافرين.
وقد ذكر سبحانه وتعالى وصفا لأهل النفاق وهو أنهم يظنون أن أعمالهم مستورة، وأن الناس عنهم غافلون بل إنه ليصل بهم فرط غرورهم إلى أن يظنوا أن الله تعالى لا يعلم ما يسرون وما يعلنون، ويعاملوا الناس على أساس هذه الخديعة، ولذا قال سبحانه فيهم :﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ﴾
الذبذبة الاضطراب ومن ذلك قول النابغة في مدح النعمان :
ألم تر أن الله أعطاك سورة **ترى كل ملك دونها يتذبذب
أي يضطرب ولا يصل إليها، كذلك هؤلاء المنافقون في اضطراب دائم مستمر، ويترددون : أيخرجون من الكفر إلى الإيمان، أم يبقون على ما هم عليه من كفران، ثم أهم يجعلون أنفسهم مع محمد وأوليائه أم مع الذين يحاربونه من أعدائه وقد أشرنا من قبل إلى ما رواه مسلم من قول النبي صلى الله عليه وسلم :"مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه أخرى"١.
وهنا أمر لفظي، وهو قوله تعالى :﴿ بين ذلك ﴾ الإشارة في الظاهر إلى المذكور آنفا، في طي الكلام وهو الكفر والإيمان، أو الاستنصار بأهل الإيمان والاستنصار بأعدائهم فهم مترددون بين هذين الأمرين وهما المذكوران في مضمون الكلام، فالإشارة إلى المذكور، وهو يتضمن أمرين متعارضين هما الالتجاء لأهل الإيمان أو البقاء مع أهل الشيطان. والتعبير بكلمة ( بين ) الدال على المكان الذي يكون بين أمرين مؤداه أنهم يكونون في مكان متوسط بين الأمرين، وهذا التوسط معنوي، من حيث إنهم يدركون الحق ويعرفونه، ولكن لا يدخلون في وسط أهله، ولا يعرفون الله تعالى حق معرفته.
ويصح أن تكون الإشارة إلى الولاء، فهم مترددون فيه، فإما أن يستنصروا بالمؤمنين ويوالوهم وإما أن يستنصروا بالمشركين، فهم في هذا الاستنصار مترددون حائرون، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وإنه لا سبيل إلى هداية هؤلاء الحائرين، ولذا قال سبحانه :
﴿ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ﴾ لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى الهداية لكل الذين يدعوهم، حتى الذين ينافقون منهم، فبين الله تعالى أن ذلك غير ممكن إلا أن يريد الله، لقد كان النبي صلى الله عليه سلم يستغفر للمنافقين فبين الله تعالى أن الله لا يغفر لهم فقال تعالى :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم( ٨٠ ) ﴾( التوبة ).
وبهذا الحكم الثابت لن تكون لهم هداية لم يردها الله تعالى.
ومعنى النص : ومن يكتب الله تعالى عليه الضلال في سجله المحفوظ يتردى في مهاوي الرذيلة حتى يركس فيها ويتكاثف الشر في قلبه، ويزيد بالخطايا فلن ينفتح باب الهداية له، ولن يشرق عليه نور الإيمان، وبذلك لن تجد سبيلا لهدايته، وإن ما يكتبه الله تعالى إنما هو علمه المكنون الذي لا يتخلف أبدا، وهو لا يمنع إرادة الشر من مرتكبه، وإرادة الخير من فاعله، ونسبة الإضلال إلى الله تعالى هي من قبيل المجاز من حيث إنه تركه في غيه ولم يسد عليه طريق الشر، لأنه استمرأ الرذيلة، وسار في طريق الضلال إلى النهاية، فكان ضلاله بعيدا والله تعالى يهدي من أراد لنفسه الخير وسلك سبيل الرشاد فإن الله تعالى يوصله إلى طريق النجاة.
وإن السبب في ظلال المنافقين الذي لا هداية معه هو اتخاذهم الكافرين أولياء، ولذا قال سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾.
١ سبق تخريجه..
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ﴾.
الكلام في المنافقين وقد ذكر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة علاقتهم بالمؤمنين فذكر أنهم يتربصون بهم الدوائر، ويريدون أن ينالوا من الغنائم من غير أن يعملوا، وقلوبهم مع الكافرين.
وقد ذكر سبحانه وتعالى وصفا لأهل النفاق وهو أنهم يظنون أن أعمالهم مستورة، وأن الناس عنهم غافلون بل إنه ليصل بهم فرط غرورهم إلى أن يظنوا أن الله تعالى لا يعلم ما يسرون وما يعلنون، ويعاملوا الناس على أساس هذه الخديعة، ولذا قال سبحانه فيهم :﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ﴾
النداء للمؤمنين بالبعيد ليكون التنبيه قويا، ونادى بالموصول للإشارة إلى أن الإيمان يقتضي ألا يكون ولاء المؤمن لغير المؤمنين، ومعنى النص : يا أيها الذين آمنوا وحسن إيمانهم بالله، لا تتخذوا الكافرين بالله الذين لم يخلصوا له نصراء لكم تدخلون في ولايتهم وتكونون تابعين لهم وتتركون المؤمنين فإن ذلك لا يتفق مع الإيمان فالمراد بالولاية هنا النصرة والانتماء إلى جماعة الكافرين، وإن الولاء يطلق بمعنى المحبة، وبهذا المعنى جاء النهي عنه، وهو التبعية والنصرة وإن هذا الأخير منهي عنه بالاتفاق، ولا يجوز من المؤمنين إلا اتقاء الأذى إن تيقن الإيذاء، أما المحبة فغير منهي عنها إلا أن يكون الكافر قد انتقل إلى المحادة والعداوة ولا يقتصر على مجرد الكفر، ولذلك قال تعالى :﴿ لا تجدوا قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم( ٢٢ ) ﴾( المجادلة ).
وقوله تعالى :﴿ دون المؤمنين ﴾ يشير إلى أنهم يتركون المؤمنين لينظموا إلى ولاية الكافرين، وذلك لا يسوغ من مسلم ولذلك قال تعالى :﴿ أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ﴾.
الاستفهام للإنكار والتوبيخ إن وقع هذا منهم، وهو يتضمن التهديد لهم بتسليط مقت الله عليهم إن فعلوا فهو استفهام يتضمن إنكارا للوقوع، أي لا يقع منهم ولا يصح أن يقع ويتضمن التحذير والإنذار، والمعنى إنكم إن فعلتم ذلك فقد جعلتم لله حجة في عقابكم، وتسليط ذنوبكم عليكم وتخليه عن نصركم فإن نصر الله لا يكون إلا لمن يطلب النصرة من الله وحده، ولن ينصر الله من يستنصر بغير الله كما قال تعالى :﴿ إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم( ٧ ) ﴾( محمد ).
وإذا كان الاستنصار بغير المؤمنين يترتب عليه هذا فهل تريدون أيها المؤمنون أن تجعلوا لله تعالى سبيلا بينا واضحا يخذلكم بسببه بعد النصرة، ويعاقبكم عليه بعد الإيمان، ويذهب شوكتكم ؟ لا يسوغ ذلك منكم، فاحذروه، اللهم اجعل ولاءنا لك، ولا تجعل نصرتنا من غيرك.
﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا( ١٤٥ ) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ( ١٤٦ ) ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما( ١٤٧ ) ﴾.
الحديث في أقوال المنافقين، وشؤونهم وعاقبة أمرهم لا يزال مستمرا، وهذا النص القرآني يبين مآل المنافقين يوم القيامة، فهم في خزي دائم في الدنيا، وعذاب شديد مقيم في الآخرة، وجزاؤهم هو أشد جزاء، لأن كفرهم أشد كفر لأنه كفر بالله، وكذب على رسول الله، وافتراء على المؤمنين، واستغلال لإخلاص المخلصين، ومن المشركين من يصدق في القول كما رأينا من أبي سفيان عندما سأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله، وليس من المنافقين من يصدق في قول، أو يخلص في عمل أيا كان ولذا قال تعالى :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾
﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ جاء في مفردات الراغب الأصفهاني ما نصه : الدرك كالدرج لكن الدرج يقال اعتبارا للصعود والدرك اعتبارا بالحدور، ولهذا قيل درجات الجنة ودركات النار ولتصور الحدور في النار سميت هاوية وقال تعال :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ والدرك أقصى بر البحر وسميت مراتب النزول دركات لأنها متداركة متتابعة.
وإن جهنم طبقات بعضها أسفل من بعض، وإن أسفلها أقساها عذابا، لأنها تتكاثف عليها ما فوقها من طبقات، ولأن أعمق النيران أشدها توهجا وأكثر لهيبا.
والمعنى : إن المنافقين الذين مردوا على النفاق واستمرءوه، صار وصفا لهم يمالئون الكافرين، ويخذلون المؤمنين ينالهم عذاب يوم القيامة على أشده، وأشده هو أعماق جهنم، وهي الهاوية التي تهوي بهم أعمالهم فيها، وإن هذا النص الكريم يفيد أن جهنم طبقات ومنازل، وأن العقاب فيها مرتب على طبقاتهم، وهي كلها عذاب أليم، وقد وصفها القرآن الكريم بأوصاف كلها تنبئ عن الشدة في العذاب، فذكرت باسم "جهنم"، وهو ينبئ عن التردي في النار، ووصفت بأنها "لظى"، وبأنها "الحطمة" ثم "السعير"، ثم "سقر" ثم "الجحيم" ثم "الهاوية"، وقال بعض العلماء إنها مرتبة في مقدار شدتها بهذا الترتيب، والله أعلم بما يكون يوم القيامة.
ولماذا كان المنافقون في الدرك الأسفل في الهاوية من العذاب ؟ قد أجاب عن ذلك العلماء بأن المنافق أوغل في فساد النفس من أي مشرك كافر، وقد جعل الله تعالى لآل فرعون الذين مالئوه وعاونوه في طغيانه أشد العذاب، فقال سبحانه :﴿ أدخلوا آل فرعون اشد العذاب( ٤٦ ) ﴾( غافر ).
وأولئك في كفرهم ونفاقهم أكثر إيذاء من أي كافر سواهم، ذلك أنهم جمعوا بين الكفر، والفسق والتضليل والتغرير والكذب وتعرف أسرار المؤمنين وكشفها، وإظهار عورات المسلمين في الحروب، وإفساد الجماعة بإشاعة قول السوء بين المؤمنين، واستغلال ضعف الضعفاء منهم، وتوهين أمر المؤمنين بسبب ذلك الاستقلال، كل هذه الجرائم متتابعة تدل على أن نفوسهم قد فسدت، وقلوبهم قد شغرت١ من كل خير، والكافر الجاحد أقرب إلى الهداية من هؤلاء، فكان عقابهم أشد، لأن جرائمهم أشد.
ولكن من هو المنافق الذي يستحق أشد العقاب، ويكون في أعمق النيران يوم القيامة ؟ نقول في الجواب عن ذلك إنه المنافق الخالص الذي لم يكن فيه خصلة أو أكثر من خصلة فقط، ولكن هو الذي كفر بالله وبالرسالة المحمدية، وأغلق باب الإيمان في قلبه، ولم يكتف بذلك بل أظهر الإسلام ليفسد بين المسلمين ويتعرف أسرارهم.
ذلك أن النفاق درجات هذا أعلاها، وهو أشد الكفر ودونه بعد ذلك مراتب تكون بين المسلمين ولا تخرج المسلم عن إسلامه، وإن كانت تجعل إيمانه ضعيفا، ومن ذلك ممالأة الحكام، والسكوت عن كلمة الحق مع النطق بالباطل ملقا، وخداعا. وقيل لابن عمر رضي الله عنهما :"ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه، فقال رضي الله عنه :( كنا نعده من النفاق ).
ولقد جاء في الحديث النبوي الشريف ما يفيد أن المنافقين فريقان، فريق خلص للنفاق وهذا منكوس القلب والنفس والفكر، وقسم فيه خصلة من النفاق، وهذا يتنازعه الخير والشر، ولنضيء القرطاس بنور الرسالة، فقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام أحمد :"القلوب أربعة قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخاص، عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه"٢.
وإننا لهذا نقول إن النفاق في داخل الإسلام مراتب، وأعلاها أولئك الذين يتملقون الحكام، وينحدرون إلى درجة وضعهم في مقام النبيين ومنهم من يذهب به فرط نفاقه، فيفضل بعض عملهم على عمل النبيين، وهؤلاء نتردد في الحكم بأنهم مسلمون، وقريب منهم الذين يتأولون النصوص من غير حجة في التأويل ويعبثون بظواهرها القاطعة لهوى الحكام.
هذا عقاب المنافقين في إيمانهم في الآخرة، ولهم عقاب في الدنيا والآخرة، ذكره سبحانه بقوله تعالى :
﴿ ولن تجد لهم نصيرا ﴾ نفى الله تعالى عنهم نفيا مؤكدا، أن يكون لهم نصراء، وجعل الخطاب موجها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ذاق آثار نفاقهم وذاق المؤمنون معه مرارة ذلك النفاق، لأن في ذلك تثبيتا للمؤمنين، حتى لا يتزلزل أحد منهم بعمل المنافقين الذي مردوا عليه، ولم يتراجعوا عنه، ولأنهم أرادوا بالنفاق الاستنصار بغير دولة الحق، لتفوز دولة الباطل على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الله تعالى لنبيه أنه لن يجدهم منصورين عليه أبدا لأنهم لا ناصر لهم.
وإن هؤلاء لن يكون لهم نصيرا يوم القيامة، لأنه لله وحده، ولن يجدوا نصيرا يخلص في النصرة لهم في الدنيا، لأن النفاق يسلب الثقة عنهم، فلا ينصرهم أحد ممن يستنصرون بهم، بل إنهم يستخدمون شرهم ولا يعطونهم خيرا، وما وجدنا منافقا في الماضي أو الحاضر يخون قومه، وينال نصرة صحيحة ممن ينافق لأجلهم، فتلك سنة الله تعالى في المنافقين :﴿ ولن تجد لهم نصيرا ﴾.
إن الله سبحانه وتعالى ذكر المنافقين بما يدل على أنهم أركسوا في الشر، وطغى على قلوبهم وأغلق باب الهداية عليهم، حتى أن رجوع المشرك عن شركه أقرب من رجوع المنافق عن نفاقه، فغلاف القلوب قد ينكشف لكنه سبحانه مقلب القلوب، فقد تكون من المنافق توبة، ولذلك فتح الله سبحانه وتعالى بابها بقوله سبحانه في هذا الاستثناء :﴿ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله ﴾.
١ أي خلت..
٢ أجرد: ليس فيه غش ولا خداع. أغلف: عليه غشاء من سماع الحق وقبوله، مصفح: ذو وجهين اجتمع فيه نفاق وإيمان. والحديث رواه أحمد: باقي مسند المكثرين مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه(١٠٧٤٥)..
﴿ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله ﴾
الحديث في أقوال المنافقين، وشؤونهم وعاقبة أمرهم لا يزال مستمرا، وهذا النص القرآني يبين مآل المنافقين يوم القيامة، فهم في خزي دائم في الدنيا، وعذاب شديد مقيم في الآخرة، وجزاؤهم هو أشد جزاء، لأن كفرهم أشد كفر لأنه كفر بالله، وكذب على رسول الله، وافتراء على المؤمنين، واستغلال لإخلاص المخلصين، ومن المشركين من يصدق في القول كما رأينا من أبي سفيان عندما سأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله، وليس من المنافقين من يصدق في قول، أو يخلص في عمل أيا كان ولذا قال تعالى :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾
الاستثناء هنا منقطع، لأن الذي يتوب التوبة النصوح لا يمكن أن يعد في صفوف المنافقين الذين يستحقون الدرك الأسفل من النار، ولذا نقول إن المعنى هو : لكن الذين تابوا من النفاق وخرجوا من صفوفه يكونون مع المؤمنين، وإن أولئك الذين يخرجون من أوكار النفاق قد ذكر الله تعالى لهم أوصافا أربعة هي التي تخرجهم من زمرة المنافقين إلى جماعة المؤمنين.
أول هذه الأوصاف : التوبة، وهي التوبة النصوح وأركانها ثلاثة أولها إدراك لقبح العمل ثم الندم على ما كان منه ثم الإقلاع وأن يعزم على ألا يعود إليه من بعد أبدا، فإذا تحققت هذه الأركان فإن الله يفتح قلب العبد لنور الهدى ويأخذ بيده إلى سلوك طريق الحق المستقيم.
والوصف الثاني : أن يكون التطهير القلبي له مطهر عملي ليقوى، وذلك بالإصلاح بأن يتجهوا في ذات أنفسهم إلى الأعمال الصالحة التي هي مظهر الإذعان والتوبة، فكل ما يكون في النفس من درن النفاق يطهرها منها بالاستمرار على العمل الصالح ويدوم عليه، فليست التوبة كلاما باللسان ولكنها طهارة للوجدان، ومع إصلاح النفس وتقوية عزيمتها يتجه إلى الإصلاح في الأرض وعدم الإفساد فيها، فلا يفسد بين الناس ولا يغري بالعداوة بينهم، ولا يخذل أهل الحق، وينصر أهل الباطل، فالإصلاح المطلوب يتضمن عناصر ثلاثة، تطهير النفس من أدناس النفاق كلها، فيخرجها منها كما يخرج الذهب الخالص مما اختلط به، والعنصر الثاني العمل الصالح يقوم به لذات نفسه وللناس، والثالث أن يكون بين الناس عنصر إصلاح وتوفيق، لا عنصر إغراء وتوهين للجماعة.
والوصف الثالث : الذي يلتحق به أهل الإيمان الاعتصام بالله، والاعتصام به سبحانه هو التمسك بأوامره ونواهيه، والالتجاء إلى كتابه وسنة رسوله، وهذا هو المذكور في قوله تعالى :﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا( ١٠٣ ) ﴾( آل عمران ).
والاعتصام بالله يقتضي ألا يجد المؤمن ملجأ إلا في جماعة المؤمنين، فلا يستنصر بغيرهم، ولا يجعل ولاءه لمن دونهم، فذلك شر بلايا النفاق.
الوصف الرابع : الإخلاص في دين الله، بأن يجعل كل قلبه لله تعالى، ولا يجعل في قلبه مكانا لغير الله تعالى، وأن يجعلوا طلبهم الدين لأجل الله تعالى لا لدنيا يصيبونها ولا لهدف غير الإيمان يستهدفونه، فيطلبون الحق لوجهه، وينفذون كل أوامر الدين لله، ويتحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم :"لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله"١.
إذا تحققت هذه الأحوال دخلوا في الجماعة المؤمنة، ولذا قال سبحانه :
﴿ فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ﴾ أي فأولئك الذين اتصفوا بهذه الأوصاف بسببها يخرجون من صفوف المنافقين إلى صفوف المؤمنين، فالإشارة في قوله تعالى ﴿ فأولئك ﴾ للسابقين وهم قد عرفوا بأوصافهم فكانت الإشارة إليهم موصوفين بها، وكانت هذه الأوصاف هي السبب في ارتفاعهم من دركة النفاق السفلى إلى درجة أهل الإيمان العليا، وذكر الله سبحانه وتعالى هذه المعية للمؤمنين لشرف الصحبة مع الأخيار الأبرار، بعد طلبهم النصرة من الأشرار الكفار، فهذا دليل إلى الرفعة في الصحبة بعد الانخفاض فيها، كما ارتفعوا عند الله، والإشارة بالبعيد للدلالة على رفعة منزلتهم بالتوبة، وفي كل ذلك تحريض عليها وترغيب فيها فإن الله تعالى يحب توبة عبده، وهو الغفور الرحيم العزيز الكريم.
وإنهم إذا كانوا مع المؤمنين فإن لهم جزاؤهم وقد وعد الله المؤمنين جزاء عظيما ولذا قال سبحانه :
﴿ وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ﴾ والأجر هو الجزاء، وهنا إشارتان بيانيتان :
إحداهما : أن التعبير ب ﴿ سوف ﴾ لم يكن استعماله في القرآن، وهو أحكم الكلام للدلالة على مجرد التسويف الزماني، بل هي لتأكيد الوقوع في الأمر المستقبل، وكأن المعنى أنه من المؤكد أنه سينزل المؤمنون بمقام الرضا والجنات في قابل أمرهم كما ظفروا بالرضا والنصر، والتأييد في عاجلهم.
ثانيهما : تنكير الأجر إذ قال "أجرا عظيما" فنكر الأجر ووصفه بالعظم، والتنكير هنا للتعظيم فكأنه قد أكد عظم هذا الأجر مرتين مر بما تضمنه معنى التنكير، ومرة أخرى بالتصريح بوصف العظم، وإن جزاء الله لعظيم أي عظم. ولقد ذكر الله تعالى أنه سبحانه يحب توبة عبده وجزاءه، ولا يرضى لعباده الكفر وعقابه ولذا قال سبحانه :﴿ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ﴾.
١ سبق تخريج ما في معناه من حديث..
﴿ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ﴾
الحديث في أقوال المنافقين، وشؤونهم وعاقبة أمرهم لا يزال مستمرا، وهذا النص القرآني يبين مآل المنافقين يوم القيامة، فهم في خزي دائم في الدنيا، وعذاب شديد مقيم في الآخرة، وجزاؤهم هو أشد جزاء، لأن كفرهم أشد كفر لأنه كفر بالله، وكذب على رسول الله، وافتراء على المؤمنين، واستغلال لإخلاص المخلصين، ومن المشركين من يصدق في القول كما رأينا من أبي سفيان عندما سأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله، وليس من المنافقين من يصدق في قول، أو يخلص في عمل أيا كان ولذا قال تعالى :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾
الاستفهام هنا للنفي، والمعنى ما الذي يفعله الله تعالى راضيا به محبا له بعذابكم وآلامكم إن شكرتم نعمته، وأديتم حقها حق الأداء فآمنتم به، ومن الإيمان به تصديق رسله وإجابتهم وإطاعتهم ؟ أي أنه سبحانه لا يفعل بكم شيئا من العذاب ولا الإيلام في الآخرة إن كان منكم الشكر والإيمان بل إنه سبحانه وتعالى مجازيكم شاكرا لكم توبتكم بعد الكفر وطاعتكم بعد العصيان ولذا قال سبحانه :
﴿ وكان الله شاكرا عليما ﴾ أي أنه من صفات الله تعالى، وشأنه الدائم أنه مثيب الطائع، عليم بموضع طاعته، وما تخفي الصدور، فالآية ذيلت بما يدل على الثواب والنعيم لأهل الإيمان ومن ينضم إليهم من التائبين، وفي الآية الكريمة ثلاث إشارات بيانية :
الأولى : التعبير بالاستفهام للإشارة إلى أن الله تعالى رتب الجزاء على العمل، وأنه يجب عل عباده أن يعرفوا ذلك ويدركوه وأنه ليس من المعقول مع حكمته تعالى، وكريم وعده ألا يعطي عاملا عملا طيبا جزاء عمله.
الثانية : تقديم الشكر على الإيمان في قوله تعالى :﴿ إن شكرتم وآمنتم ﴾. ذلك أن الرجل الذي يتجه إلى الخير تكون نفسه مدركة للنعم التي أنعم الله بها على عباده، شاكرا لأنعمه قادرا لها حق قدرها فيكون ذلك سبيل لطلب الحقيقة فيكون الإيمان، فالشكر يؤدي إلى الإيمان والإيمان يؤدي إلى أعظم الشكر.
الثالثة : أن الله تعالت عظمته سمى ثواب الطائعين شكرا منه، وذلك إجلال للطاعة وتشريف للمطيع ومنة وفضل منه سبحانه فوق منته وفضله، وأن هذا تعليم لنا لنشكر للمحسن فضل الله اللهم اهدنا إلى أن نشكر لك في ضرائنا وسرائنا، إنك نعم المولى ونعم النصير.
﴿ لا يحب الله الجهرة بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما( ١٤٨ ) إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا( ١٤٩ ) ﴾.
في الآيات السابقة كشف الله سبحانه وتعالى عن أوصاف المنافقين، وبين ظواهر أحوالهم ومجموع أمورهم وما يرتكبون من سيئات واضحة معلمة، وما يخفون في صدورهم من أحقاد مكنونة، وبين مآل أمرهم إن استمروا في غيهم يعمهون، وبين سبحانه وتعالى أن باب التوبة مفتوح، وأن الله تعالى لا يغلق باب الرحمة بالتوبة على أحد من عباده ولو كانوا منافقين فإن الله تعالى يحب التوابين، والتوبة عنده سبحانه تجب ما قبلها من سيئات مهما تكن.
وفي هذا النص الكريم بين أن الجهر بالسوء من القول لا يكون إلا في أحوال تقتضي ذلك، وقد وجد مقتضاه في أهل النفاق فليحترز المؤمن من الاسترسال في الجهر بالسوء إلا عند أشد الحاجة إليه، ولذا قال سبحانه :﴿ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ﴾.
﴿لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم﴾
السوء ما يسوء الناس من أقوال وأفعال، سواء كانت الإساءة عامة أو خاصة، وسواء أكانت الإساءة إلى الإنسان أم إلى الفضيلة، فكل ما يمس المجتمع ويترتب عليه شر وأذى، فهو من السوء والمحبة شأن من شؤون الله تعالى، لا تتشابه مع محبتنا ولا ما يجري بيننا من حب وبغض، لأن ذات الله تعالى منفردة بصفاته، لا تشابه ذات المخلوقين في شيء: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير(١١){(الشورى).
والمحبة أكثر من الرضا، والرضا أكثر من الإرادة، فهذه كلها صفات للذات العلية مرتبة في القوة، فالإرادة تتعلق بالخلق والتكوين، فما أراده الله تعالى يقع، وما لا يريده لا يمكن أن يقع فلا يمكن أن يقع من أفعال الإنسان ما لا يريده رب العالمين، ولا يمكن أن يفعل الإنسان شيئا لا يريده العليم الخبير الذي لا تخفى عليه الأنفس، وما تكن الصدور.
أما الرضا فمعناه بالنسبة للذات العلية أن يكون العمل أو القول محل قبوله سبحانه وتعالى والمجازاة عليه، ولذلك يتصور أن يفعل العباد ما يغضبون الله به سبحانه وتعالى، وقد جاء في القرآن الكريم عبارات سامية صريحة بأن الله تعالى يغضب على عباده لأفعال فعلوها، وأن الله تعالى لا يرضى عن بعض أفعال عباده، فلا يرضى من عباده الكفر، والرضا لا يكون إلا لأعمال المتقين وهو أعلى أنواع الثواب الذي يثيب الله تعالى به عباده، ولذلك قال سبحانه بعد ذكر نعيم الجنة: ﴿... ورضوان من الله أكبر...(٧٢)﴾(التوبة).
والمحبة مرتبة فوق الرضا، أو هي أبلغ الرضا، وقد وعد الله تعالى أهل الإيمان الحق الصادق بأنهم ينالون محبته وهي أقصى درجات الرضا.
ومع أن المحبة من الناحية الإيجابية أقصى درجات الرضا، هي من الناحية السلبية تكون في مرتبة الغضب، فمعنى ﴿لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم﴾ أن الله تعالى يبغض الجهر بالكلام الذي هو سوء في ذاته، ويسيء الناس ويؤذي الفضيلة، فإن ذلك إعلان سيء الأعمال وقبيح الأقوال.
والجهر معناه النطق في إعلان لا خفاء فيه، ونشر هذا الكلام بين الناس، وإذاعته بين ربوعهم.
والمعنى الإجمالي للنص السامي أن الله تعالى يبغض الجهر بالأمر السيئ أو الأفعال السيئة وكل إعلان للمنافق والفاجر من الجهر بالأمر المسيء هو من قبيل الجهر بالسوء من القول ف "من" هنا بيانية وهي بيان لنوع السوء بأنه من القول، وذلك يشمل كل إعلان للأعمال القبيحة، والترامي بها فيشمل القذف والسباب وإعلان المعاصي والجرائم وتفصيل القول فيها من غير حاجة إلى بيانها، ولا إقامة حق في إعلانها، فإن ذلك كله من سوء القول وفاحشه.
وإن الإسلام في سبيل تكوين رأي عام مهذب نهى عن إعلان الآثام والمفاسد الشخصية، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس من ارتكب شيئا من هذه القاذورات، فاستتر فهو ستر الله، ومن أبدى صفحته أقمنا عليه الحد"١ ويقول صلى الله عليه سلم: " إن من أبعد الناس عن الله منازل يوم القيامة المجاهرين، قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: ذلك الذي يعمل عملا بالليل قد ستره الله عليه، فيصبح يقول: فعلت كذا وكذا يكشف ستر الله"٢.
وإن الجهر بالسوء يسهله، فتزداد الجرائم ويسهل ارتكابها لمن هو على استعداد لها، وكثيرا ما نرى الشبان يرتكبون جريمة معينة قد أخذوها من قصة أذيعت، أو نشرت أو تردد ذكرها فإن ذكر الشر يستهوي الشباب، خصوصا إذا قدم في عرض منسق يحبب الاستماع إليه، فإنه يسري في النفوس سريان الطعام المسموم في الأجسام.
وفوق ذلك فإن كثرة ذكر السوء والفجور يزيل استنكاره في النفس، ويذهب بروعة الحق، وإن ذكر السوء لأهل السوء يثير عدوانهم ويجعلهم يتبجحون في ارتكابه، ويباعد بينهم وبين الاستجابة لداعي الهدى، ذلك أن الناس إذا استتروا في شرهم، وظنوا أن الناس لا يعلمونه كان كتمانه مسهلا لقتله في نفوسهم فإن أعلن وفقدوا حياءهم استمرءوا الشر وأعلنوه، وكل إعلان منهم تغليق لباب الهداية في قلوبهم بيد أن الشر أحيانا يجب إعلانه لدفعه، إذ كان ثمة فريسة لهذا الشر، وتعد بالظلم فإنه يجب دفعه ولذلك ذكر سبحانه بعد أن قرر القاعدة العامة، وهي أنه لا يحب الجهر بالسوء استثناء حال الظلم فقال:
﴿إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما﴾ الاستثناء هنا عند بعض العلماء استثناء منقطع، ف "إلا" هنا معناها لكن والمعنى: لكن من ظلم له أن يجهر بالسوء لدفع ظلمه، وحدود الجهر هو مقدار دفع الظلم فإن أمكن دفعه بغير الجهر لا يجهر، وإن لم يمكن دفعه إلا بالجهر جهر حتى يصل إلى حقه.
وقال بعض العلماء إن الاستثناء متصل، وتأويل الكلام أن الله تعالى لا يحب الجهر بالسوء إلا جهر من ظلم فإنه ليس بخارج عن محبة الله تعالى لأن دفع الظلم واجب ولازم، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن بقلوب بعضكم بعضا، ثم تدعون فلا يستجاب لكم".
فدفع الظلم واجب وإذا كان الجهر سبيله فهو واجب لأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب، ولكن ما مدى الاستثناء الذي يسوغ الله سبحانه وتعالى به للمظلوم أن يجهر بالسوء، وأن يعلنه؟ نقول بالإجمال إن مداه هو منع الظالم من الاستمرار في ظلمه وحمله على الانتهاء عن غيه، وإن ذلك يشمل الأحوال الآتية:
الأولى: أن يجهر الخصم بما ارتكب خصمه من مآثم في حقه أمام القاضي، فإن الجهر في هذه الحال لا يبغضه الله تعالى لأنه إقامة حق، ودفع باطل ولقد قال تعالى: ﴿ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل(٤١)﴾(الشورى).
ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته"٣، والمراد أن يغلظ له في القول، ولا يقول القاضي قولا لينا إذا ثبت مطله في أداء الدين".
الثانية: إذا كان الحاكم ظالما، فإنه يجب توجيه اللوم الشديد إليه بالنقد من غير إسفاف، ولكن لا يقول الناقد إلا حقا، ويستر نقده، حتى يرعوي هذا من غيه وذلك إذا لم تجد فيه الموعظة الحسنة، فإن كانت مجدية لا يصح الاتجاه إلى الجهر بمظالمه. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل المجاهدين رجل قال كلمة حق أمام سلطان جائر فقتله"٤، وإن ذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن نقد الفساد هو من قبيل الإنكار بالقول وهو المرتبة الثانية من الإنكار، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لن يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"٥.
الثالثة: الدعوة على الظالم، فإن هذه الدعوة يصح أن تكون جهرا، ومن ذلك دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على العرب الذين ناوءوه، فقد قال عليه الصلاة والسلام في دعائه: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف"٦. وخص عليه الصلاة والسلام أسماء بالدعاء عليهم وقد أثر عن السلف الصالح الدعاء على من ظلمهم وكان يوصي الحسن البصري المظلوم بأن يقول في ظالمه: "اللهم أعني عليه اللهم استخرج حقي منه، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي".
الرابعة: أن يذكر المظلوم الظالم الذي ظلمه بالسوء في مجالسه من غير كذب ولا بهتان، وقد روي عن بعض السلف أنهم ترخصوا في ذلك، وأجازوا لمن شتم أن يرد الشتم بمثله ولكن إن افترى عليه لا يفتري لأن الكذب حرام لا يسوغه شيء، فلا تجوز المعاملة بالمثل فيه، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه، ويجهر له بالسوء من القول، ولقد روي أن علي بن أبي طالب قال: (ادفعوا الحجر من حيث جاء، فإنه لا يدفع الشر إلا شر مثله).
هذه أحوال تسوغ النطق بالسوء دفعا لظلم أهل السوء، وكذلك الجدل في الحق، لا مانع من ذكر ما انغمس فيه أهل الباطل ولا يعد هذا جهرا بالسوء، بل هو كشف للسوء، وإن الأحوال التي يكون فيها دفع الظلم لا تعد على التحقيق جهرا بالسوء لمجرد الجهر، بل هي كشف للظالم، وإنهاء للظلم، ولذلك رجح بعض العلماء أن يكون الاستثناء منقطعا.
ومهما يكن من أمر الجهر بالسوء، فإن الله تعالى عليم بالبواعث، سميع لما يجهر به الجاهر، وما يحدث به نفسه، ولذلك ذيل سبحانه وتعالى النص بقوله تعالت كلماته: ﴿وكان الله سميعا عليما﴾ أي أنه تعالى متصف بوصف السامع الكامل، والعلم المحيط الشامل، فهو سميع لما يجهر به الإنسان وما تحدثه به نفسه، وما هو مطوي من خلجات وجدانه وعليم بالبواعث التي تبعثه على المنطق، ومجازيه بقوله وعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهو عليم بكل أعمال الجوارح، وما يرتكبه العباد من خير وشر علما محيطا يليق بذاته العلية.
في الآيات السابقة كشف الله سبحانه وتعالى عن أوصاف المنافقين، وبين ظواهر أحوالهم ومجموع أمورهم وما يرتكبون من سيئات واضحة معلمة، وما يخفون في صدورهم من أحقاد مكنونة، وبين مآل أمرهم إن استمروا في غيهم يعمهون، وبين سبحانه وتعالى أن باب التوبة مفتوح، وأن الله تعالى لا يغلق باب الرحمة بالتوبة على أحد من عباده ولو كانوا منافقين فإن الله تعالى يحب التوابين، والتوبة عنده سبحانه تجب ما قبلها من سيئات مهما تكن.
وفي هذا النص الكريم بين أن الجهر بالسوء من القول لا يكون إلا في أحوال تقتضي ذلك، وقد وجد مقتضاه في أهل النفاق فليحترز المؤمن من الاسترسال في الجهر بالسوء إلا عند أشد الحاجة إليه، ولذا قال سبحانه :﴿ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ﴾.
﴿إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء﴾ بعد أن ذكر سبحانه وتعالى ما لا يحبه من الجهر بالسوء وأشار إلى الترخيص بالنطق به لدفع الظلم أو للقضاء على منكر من الأفعال أو زور من الأقوال، بين سبحانه وتعالى ما يحبه من الخير الإيجابي والخير السلبي ويكون بالعفو، فمعنى قوله تعالى ﴿إن تبدوا خيرا﴾ أن الله سبحانه وتعالى يحب الخير في كل صوره، والخير هو عمل البر والنفع الإنساني العام فإن عملتوه فإنكم تعملون ما يحبه الله، فإن تبدوه وتظهروه وتعلنوه، أو تخفوه وتكتموه فهو مقبول مجزي عليه في كلتا حاليه، فإن أظهرتموه للدعوة إليه، فإلى الخير تدعون وإن أخفيتموه اتقاء لله ومنعا للرياء، سترا على ما تعطون فنعما تفعلونه.
هذا فعل الخير الإيجابي وفعل الخير السلبي هو العفو عن الإساءة، والصفح الجميل عن الناس فإن ذلك مما يحبه تعالى. لقد روى أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما نقص مال من صدقة، وما زاد عبد بعفو إلا عزا ومن تواضع لله رفعه الله"٧ وقال تعالى: ﴿خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين(١٩٩)﴾(الأعراف).
وقوله تعالى: ﴿فإن الله كان عفوا قديرا﴾ موقعها من المعنى أنها تعليل لكلام مطوي تدل عليه إذ المؤدى: وما تفعلوا من خير وتبدوه أو تخفوه أو تعفوا عمن يسيء إليكم فإنكم تقربون إلى الله تعالى، ويحبكم الله لأنه سبحانه عفو دائما وقدير على أخذ المسيء بإساءته فتخلقوا بصفات الله تعالى، وله سبحانه المثل الأعلى.
وهنا ملاحظات ثلاث:
الأولى: أن الآية الكريمة تفيد أن إبداء الخير محبوب، فهل يدخل في هذا الرياء؟ ونقول في ذلك إن الفعل النافع إذ قصد به الرياء لا يكون خيرا، بل يكون شركا، فلا يدخل تحت عنوان إبداء الخير، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يراءي فقد أشرك"٨ فهذا فعل خارج عن نطاق الخير فلا يلتفت إليه إذ يدخل في عمومه.
الثانية: أن العفو عن الأمر السيئ إنما يكون في حال ما إذا كانت الإساءة تمس شخص من يعفو، وهو بهذا بذل حقا خالصا له، أما إذا كان الأمر السيئ يتعلق بنظام في الإسلام، فلا يصح أن يترك بل لا بد أن يقاوم، ولا يقال لتاركه إنه عفا، بل يقال عنه إنه قصر وترك الواجب.
الثالثة: أن الإسلام دعا إلى الصفح الجميل، فقال الله لنبيه: "... فاصفح الصفح الجميل(٨٥)}(الحجر) وهو الصفح من غير من. ولله تعالى ولرسوله المن والفضل.
والآية جمعت مكارم الأخلاق، وقد قال في معناها فخر الدين الرازي: "اعلم أن معاقد الخير على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق، وخلق مع الخلق، والذي يتعلق بالخلق محصور في قسمين: إيصال نفع إليهم، ودفع ضرر عنهم، فقوله تعالى: ﴿إن تبدوا خيرا أو تخفوه﴾ إشارة إلى إيصال النفع إليهم، وقوله تعالى: ﴿أو تعفوا عن سوء﴾ إشارة إلى دفع الضرر عنهم، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير، وأعمال البر". ١هـ.
اللهم اهدنا لنفع الناس، وجنبنا ضرهم، واعف عنا فيما كان ما واغفر لنا وارحمنا إنك غفور رحيم.
٧ عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله". رواه مسلم/ البر والصلة استحباب العفو والتواضع (٢٥٨٨)، والترمذي: البر والصلة (٢٠٢٩)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (٨٧٨٢)، ومالك: الجامع (١٨٨٥)، والدارمي: الزكاة (١٦٧٦) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
٨ سبق تخريجه..
ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال المنافقين وما كانوا يصنعون مع المؤمنين وذكر سبحانه وتعالى ما تكنه نفوسهم وما هم عليه من تردد وتذبذب، ومع ذلك فتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة لهم إن أرادوا أن يسلكوا المنهاج القويم المستقيم. ثم ذكر سبحانه وتعالى أن الجهر بالسوء إلا ممن ظلم لا يجوز، وأن إبداء الخير خير، وإخفاءه خير وأن الله تعالى مجاز به، وجاءت هاتان الآيتان بين ذكر المنافقين، ثم ذكر الكافرين من أهل الكتاب، وكثيرين من المنافقين منهم لبيان أن الجهر بالسوء لغير مصلحة لا يجوز، فإعلان سوء المنافقين كان ممن يظلمون ويتعدى إليهم شرهم، وفي هذه الآيات يبين الله تعالى حال بعض الكافرين وأسباب كفرهم ومآلهم وأحوال أهل الإيمان ونتائج إيمانهم فيقول سبحانه :﴿ إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون... ﴾
﴿ إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون ﴾ الكفر هو الجحود بالحق، والإيمان هو الإذعان له، والسير على مقتضاه، ومن يؤمن بحقيقتين متلازمتين لا تنفصل إحداهما عن الأخرى، لا بد أن يكون إيمانه بالحقيقيتين معا، فمن كفر بإحداهما لا يعد مؤمنا بهما لأنه لا يمكن فصل الواحدة عن الثانية، إذ اللازم يقتضي أن يوجدا معا، أو ينتفيا معا. ومن المقررات أن الإيمان بالرسالة الإلهية والإيمان بالله حقيقتان متلازمتان، فلا يمكن أن يتحقق الإيمان بالله من غير الإيمان برسله، ولا يمكن أن يتحقق الإيمان بالرسالة الإلهية إلا على وجه الكمال بأن يذعن لكل رسالة تجيء من الله تعالى.
فمن آمن ببعض النبيين وكفر ببعض آخر قامت الأدلة على نبوته لا يعد مؤمنا برسالة الله تعالى، ولا يعد مؤمنا بالله تعالى إذ إنه فصل الجزء الذي لا يتحقق إلا في كل، وفصل الإيمان برسالة الله عن الله تعالى.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية صفتين لهم، ونتيجتين باطلتين : أما الوصفان فهما الكفر بالله ورسله، ومحاولتهم أن يفرقوا بين الله ورسله.
والكفر بالله تعالى هو هنا جحود رسالته الإلهية التي يبعثها بها إلى خلقه لأن جحود رسالة الرسل أو بعضهم مع قيام الدليل عليها جحود بالله الذي بعث بهذه الرسالة، لأن إنكار الرسالة الإلهية لنبي من الأنبياء عصيان لله وجحود به، وكفر بأصل الرسالات ومرسلها، إذ إن الإيمان بالله تعالى يستلزم الإيمان بأنه لم يخلق الناس سدى، والإيمان بعقابه وثوابه وحسابه والإيمان بأنه يرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فمن أنكر رسالة رسول من الرسل فقد كفر بالله وكفر برسله، لأن الكفر برسول ينسحب عليه بقية الرسل، إذ إن ما ثبت من تكذيب لرسول، فقد كذب الباقين، فمن كفر بموسى فقد كفر بمحمد وإبراهيم وعيسى وغيرهم من الرسل.
والوصف الثاني إرادتهم أن يفرقوا بين الله والرسل، بأن يعلنوا إيمانهم بالله خالق السماوات والأرض، والإنكار لبعض الرسل، فإن ذلك تفريق بين الله ورسله، إذ إن علاقة الرسل بخالق السماوات والأرض واحدة، ومن كفر ببعض الرسل فإنه يفرق بين الله وأولئك الرسل الذين كفر بهم، فاليهود يفرقون بين الله وسله، لأنهم لا يؤمنون بعيسى ابن مريم، ومحمد بن عبد الله وهم بذلك يفرقون، وقد فسر بعضهم إرادتهم التفرقة بين الله ورسله أنهم يؤمنون بالله تعالى، وينكرون الرسالة الإلهية وهو تفسير يحتمله النص، ولكنه بعيد لأن السياق يأباه.
وأما النتيجتان الباطلتان فهما قولهم نؤمن ببعض ونكفر ببعض، واتخاذهم بذلك سبيلا بين الإنكار المطلق، والإيمان الكامل وإن ذلك القول متلازم مع الكفر بالله وبرسله إذ إن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان، والتصديق بالرسالة الإلهية حق التصديق يستلزم، كما نوهنا الإيمان بكل الرسل، لأنهم جميعا أتوا بغاية واحدة، وهي إصلاح الخليقة في ناحية رسالة كل رسول، وحثها على الجادة المستقيمة والإنذار والتبشير، ولا يصح لهذا أن يقال نؤمن ببعض الرسل ونكفر بعض لأن الكفر بالبعض كفر بالكل، إذ هو جحود للغاية من الرسالة، وجحود بذات الرسالة.
وأما إرادتهم اتخاذ سبيل أي طريق وسط بين الإيمان الكامل بكل الرسل، والكفر الكامل بكل الرسل، فمؤداه أن يكونوا في حال بين الإيمان والكفر. ولا شك أن هذه الحال ليست إيمانا بالله ورسله وليس بعد الإيمان إلا الكفر. فهم داخلون في سلك الكافرين، سواء أكانوا مؤمنين بالبعض أم كافرين بالكل، ولذلك حكم الله تعالى بهذا الحكم الحاسم الفاصل ما بين الكفر والإيمان بقوله تعالى :﴿ أولئك هم الكافرون حقا ﴾.
﴿ أولئك هم الكافرون حقا ﴾
ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال المنافقين وما كانوا يصنعون مع المؤمنين وذكر سبحانه وتعالى ما تكنه نفوسهم وما هم عليه من تردد وتذبذب، ومع ذلك فتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة لهم إن أرادوا أن يسلكوا المنهاج القويم المستقيم. ثم ذكر سبحانه وتعالى أن الجهر بالسوء إلا ممن ظلم لا يجوز، وأن إبداء الخير خير، وإخفاءه خير وأن الله تعالى مجاز به، وجاءت هاتان الآيتان بين ذكر المنافقين، ثم ذكر الكافرين من أهل الكتاب، وكثيرين من المنافقين منهم لبيان أن الجهر بالسوء لغير مصلحة لا يجوز، فإعلان سوء المنافقين كان ممن يظلمون ويتعدى إليهم شرهم، وفي هذه الآيات يبين الله تعالى حال بعض الكافرين وأسباب كفرهم ومآلهم وأحوال أهل الإيمان ونتائج إيمانهم فيقول سبحانه :﴿ إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون... ﴾
التعبير بالإشارة للإفادة إلى أن هؤلاء الذين قالوا ذلك القول، وجحدوا ذلك الجحود بسبب هذه الأقوال وتلك الأحوال كافرون كفرا لا مجال للشك فيه، وقد أكد سبحانه وتعالى الحكم عليهم بالكفر بثلاثة مؤثرات :
أولها : الإتيان بكلمة "هم" الدالة على تأكيد الحكم وقصرهم على الكفر وإثبات أنهم لا يخرجون عن دائرة الكفار يسارعون فيها ولا ينتقلون منها.
ثانيها : تعريف الطرفين وهم أولئك الجاحدون بالإشارة والحكم بأنهم الكافرون أكد القول، وأفاد من قبيل المبالغة في تأكيد الوصف بالكفر كأن الكفر مقصور عليهم لا يخرج عنهم، وهم بذلك أوغل في الكفر من الذين لا يؤمنون بكتاب ولا رسول ولا رسالة، إذ هم يسلمون بالأصل ويعرفونه ويكفرون مع ذلك به، ولا يطبقونه.
ثالثها : التعبير بكلمة ﴿ حقا ﴾، أي أن كفرهم ثابت قد ثبت وحق حقا، وقد قال الزمخشري في تخريج هذه الكلمة "أي هم الكاملون في الكفر، وحقا تأكيد لمضمون الجملة كقولك هو عبد الله حقا أي حق ذلك حقا وهو كونهم كافرين، أو صفة لمصدر الكافرين أي هم الذين كفروا كفرا حقا ثابتا يقينا لا شك فيه".
ولماذا كان ذلك التوكيد ؟ والجواب عن ذلك أن التوكيد يكون حيث مظنة التردد في عقول الذين قالوا ذلك القول، فقد حسبوا بقولهم وإرادتهم أنهم يرضونه بذلك فبين الله سبحانه أنه لا وسط بين الإيمان الكامل والكفر في شيء، وخصوصا أن جحود هؤلاء ببعض الرسل انبعث من حقد دفين، وتفريقهم بين الأجناس حتى في مقام الرسالة، وقد قال تعالى :﴿... الله أعلم حيث يجعل رسالته( ١٢٤ ) ﴾( الأنعام ).
وإنهم بهذا الكفر يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، إذ إنها كانت في اليهود وأشباههم الذين رفضوا محمدا، لأنه عربي وليس بعبري وحيث كان التردد في عقل وجب تأكيد الحق، ليزول التردد، ويتبع التابع عن بينة ويقين، وقد ذكر الله تعالى عقاب هؤلاء، وأمثالهم فقال :﴿ وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ﴾.
والمعنى هيأنا للكافرين الذين يندرجون في جمعهم عذابا مهينا يذيقهم الهوان والذل، كفاء استكبارهم في الدنيا، واعتزازهم بالباطل فيها، ويصح أن يقال إن كلمة ( الكافرين ) لا تعم كل الكفار، ولكنها تخص الذين ذكروا في الآيات السابقة، لأن اللفظ إذا أعيد معرفا كان المراد به المذكور أولا، ويكون تخصيصهم بالذكر لبيان نتيجة ما ارتكبوا وما فرقوا به بين رسله سبحانه.
وهنا بحث لفظي في لفظ "أعتدنا"، وهو تعبير قرآني اختص القرآن به، لأن اعتد من العتاد، والتخريج اللفظي هيأنا لهم عتادا هو عذاب جهنم. وقد قال في ذلك الأصفهاني في مفرداته :"العتاد ادخار الشيء قبل الحاجة إليه كالإعداد. وقوله تعالى :﴿ وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ﴾ قيل هو أفعلنا. وقيل أصله من أعددنا فأبدل من إحدى الدالين تاء".
وخلاصة المعنى أن هؤلاء الكافرين ادخر لهم عذابا مذلا جزاء استكبارهم.
هذا شأن الذين كفروا بالله ورسله، وفرقوا بينهم وما يدخر لهم، ويقابلهم المؤمنون حقا وصدقا وقال فيهم سبحانه :﴿ والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم ﴾.
ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال المنافقين وما كانوا يصنعون مع المؤمنين وذكر سبحانه وتعالى ما تكنه نفوسهم وما هم عليه من تردد وتذبذب، ومع ذلك فتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة لهم إن أرادوا أن يسلكوا المنهاج القويم المستقيم. ثم ذكر سبحانه وتعالى أن الجهر بالسوء إلا ممن ظلم لا يجوز، وأن إبداء الخير خير، وإخفاءه خير وأن الله تعالى مجاز به، وجاءت هاتان الآيتان بين ذكر المنافقين، ثم ذكر الكافرين من أهل الكتاب، وكثيرين من المنافقين منهم لبيان أن الجهر بالسوء لغير مصلحة لا يجوز، فإعلان سوء المنافقين كان ممن يظلمون ويتعدى إليهم شرهم، وفي هذه الآيات يبين الله تعالى حال بعض الكافرين وأسباب كفرهم ومآلهم وأحوال أهل الإيمان ونتائج إيمانهم فيقول سبحانه :﴿ إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون... ﴾
وصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين حقا وصدقا بوصفين : الوصف الأول الإيمان بالله تعالى ورسله أجمعين، لا فرق بين رسول ورسول، إذ الجميع يؤدون رسالات ربهم ويبلغونها، والثاني أنهم لم يفرقوا في الإيمان بين رسول ورسول بل إن الجميع في موضع من نفوسهم، والإيمان من قلوبهم. ذلك أنه حق على المؤمن أن يؤمن بكل رسول أرسله الله تعالى، كما قال تعالى :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون( ١٣٦ ) ﴾( البقرة ).
فإذا كان محمد خاتم النبيين فرسالته متممة للرسالات، وهو آخر لبنة في صرح النبوة الإلهية.
وإذا كان المؤمنون حقا وصدقا هم الذين يذعنون لما أمر الله، ويصدقون برسالاته ويستجيبون لدعوة رسول الله وهم يناقضون الذين فرقوا بين رسله، فجزاؤهم لذلك مختلف، ولذا قال سبحانه في هذا الجزاء :
﴿ أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما ﴾ الإشارة هنا إلى الذين آمنوا الموصوفين بالصفات السابقة وتكرار ذكرهم بالإشارة للتوكيد بأن الإذعان الكامل من غير استعلاء وجحود وحقد وعدم التفرقة بين الأنبياء وهو وحده الذي جعل لهم ذلك الجزاء، والأجر هنا هو الجزاء، وهي رحمة الله تعالى عليهم إذ جعل ذلك الثواب المقيم، والنعيم الدائم، جزاء العمل وهو أكبر من العمل، بل إن الأعمال ذاتها قد يكون فيها هفوات تستوجب الحساب ويتبعه العقاب، ولكن الله تعالى قرر في كتابه الكريم :﴿... إن الحسنات يذهبن السيئات( ١١٤ ) ﴾( هود ).
ولذلك ذيلت الآية بقوله تعالى :﴿ وكان الله غفور رحيما ﴾ للدلالة على أن ذلك الثواب هو من فضل الله وسعة رحمته، وإن ذلك لأنه متصف بالغفران الدائم والرحمة الدائمة.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى الجزاء والثواب بالتعبير بسوف الدالة على تأكيد الفعل في الزمن المستقبل. اللهم اغفر لنا وارحمنا فأنت خير الراحمين.
﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ( ١٥٣ ) ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا( ١٥٤ ) ﴾.
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أحوال بعض أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض النبيين وكفروا ببعض، واعتبروا بهذا كافرين بالله تعالى، لأن من كفر برسول، فقد كفر بالرسالة الإلهية، ومن كفر برسالة الله تعالى فقد كفر به، ثم بين سبحانه وتعالى حقيقة الإيمان واصفا الذين آمنوا بالله ورسوله، ولم يفرقوا بين أحد من رسله موازنا بذلك بين الإيمان والكفر في الحقيقة وفي النتيجة، وأن الكافرين أعد الله لهم عذابا أليما، وأن المؤمنين لهم أجرهم نعيم مقيم، وغفران ورحمة ورضوان من الله أكبر، وفي الآيات التالية يبين الله تعالى لجاجة اليهود في كفرهم وإعنات الرسول المبعوث لهم، ولغيرهم وهو خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هذه اللجاجة ما قاله الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله :﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ﴾
﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ﴾ أهل الكتاب هنا هم اليهود، بدليل ما جاء في السياق بعد ذلك من آيات، وكقوله تعالى :﴿ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم( ١٥٧ ) ﴾( النساء ). وإن هؤلاء اليهود متعنتون لا يسألون النبي دليلا لكون الدليل الذي قدمه، وهو القرآن الكريم غير ملزم ولكن يتعنتون فيطلبون إعناتا ولجاجة في العناد والكفر، وقد طلبوا دليلا قريبا وهو أن ينزل عليهم كتابا من السماء.
وقد اختلف أهل التأويل من السلف الصالح، فقال بعضهم إنهم سألوا أن ينزل على النبي كتاب شامل مكتوب كما نزلت التوراة مكتوبة جملة واحدة، وقال آخرون إنهم طلبوا أن ينزل كتاب خالص في قرطاس يدعوهم إلى الإيمان بمحمد ليكون حجة الله تعالى عليهم، وقال آخرون من السلف إنهم طلبوا أن ينزل ذلك الكتاب الداعي إلى الاستجابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض كبرائهم.
والحق كما قال ابن جرير الطبري إنهم طلبوا كل هذا، فقد طلبوا أن ينزل القرآن مكتوبا جملة واحدة كالتوراة وذلك ليشككوا في حقيقته، وفريق آخر منهم طلب أن ينزل من السماء كتاب خاص يقرؤونه داعيا لهم بالإذعان، وفريق ثالث طلب كتابا ينزل على بعضهم فالمطالب الثلاثة وجدت، ولو أجيبوا إلى ما طلبوا ما ضمنا إيمانهم، ولأن التعنت لا يقلعه شيء، وقد قام الدليل القاطع المثبت، وهو القرآن المعجز، ولقد قال تعالى في سورة الأنعام :﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا سحر مبين ( ٧ ) وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون( ٨ ) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون( ٩ ) ﴾( الأنعام ).
فالمتعنت لا يقنعه دليل مطلقا، وإن ماضي هؤلاء الكافرين ينبئ عن حاضرهم، ولذا قال تعالى :﴿ فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ﴾ إن الذين سألوا موسى من بني إسرائيل هم الذين التقى بهم، وأخرجهم من استبعاد فرعون إلى حيث الحرية والعزة.
وسياق النص القرآني يفيد أنه منسوب إلى اليهود والذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف ينسب إلى الخلق ما قاله السلف ؟ والجواب عن ذلك أنه سبحانه ينسب القول إلى جنسهم، لا إلى آحادهم، ولا إلى طوائف منهم وإذا نسب القول إلى الجنس جاز أن يخاطب به الحاضرون وخصوصا أن التشابه في الجمود والتعنت قائم بين السلف والخلف، فهم يحملون مثل ما وقع من أسلافهم، وإن كان الأول أشد إعناتا، لأنه أكبر ولما أفاض الله به عليهم من نعم على يد موسى عليه السلام، ولكن دأبهم الجمود، فحاضرهم كماضي أسلافهم، لا يهمهم قوة الدليل، وإنما يهمهم إعنات الرسول، واتخاذ فعلات للإنكار بعد أن ثبتت على يد موسى عليه السلام البينات الحسية وتكاثرت، حتى وصلت إلى تسع آيات بينات، ومع ذلك طلبوا طلبا غريبا، فلم يطلبوا أن يجيئهم كتاب كما طلبوا منك، بل طلبوا أن يروا الله سبحانه وتعالى جهرة، أي بالعين وأن يكون أمامهم معينا، ويطلب إليهم أن يصدقوا موسى، وهو سؤال لا تتصور إجابته في الدنيا، فالله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يرى في الدنيا، وقد روي في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل هل رأى ربه ؟ فقال "إنه نور فأنى أراه"١ وقد عاقبهم الله سبحانه وتعالى على ذلك عقابا شديدا، ذكره بقوله سبحانه :
﴿ فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ﴾ الصاعقة فسرها بعض العلماء بأنها النار التي تنزل، وهي التي يقرر علماء الكون أنها تنشأ من احتكاك سحابة موجبة بأخرى سالبة، فيتكون من احتكاكهما ذلك اللهب، وأنها أصابت هؤلاء فبهتوا لها، فغشيهم من الذهول ما غشيهم حتى صاروا كالموتى من عظم الإغماء الذي أصابهم، وذلك لا يعارض قوله تعالى في أول سورة البقرة ﴿ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وأنتم تنظرون( ٥٥ ) ﴾( البقرة ).
وقال بعضهم : الصاعقة ما يصيب الإنسان من حال يترتب عليها موته أو إغماؤه إلى درجة الموت، ومن ذلك قوله تعالى :﴿... فصعق من في السماوات ومن في الأرض( ٦٨ ) ﴾( الزمر ).
وقد قال الراغب الأصفهاني في مفرداته :"إن الصاعقة على ثلاثة أوجه : أولها الموت كقوله تعالى ﴿ فصعق من في السماوات ومن في الأرض( ٦٨ ) ﴾( الزمر ).
وقوله تعالى :﴿ فأخذتكم الصاعقة ﴾.
والثاني : العذاب كقوله تعالى :﴿ أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود( ١٣ ) ﴾( فصلت ).
والثالث : أن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجو ثم يكون منه نار، وينتهي بأن الصاعقة هي في الأصل بهذا المعنى ثم تكون منه الآثار فهو سبب الموت، أو يكون إنذارا".
ولذلك نرجح التوجيه الأول الذي ذكرناه وهو تفسيرها بالنار التي تجلجل بصوت رهيب مفزع قد يترتب عليه الموت، وهو في ذاته عذاب شديد، وقد يسأل سائل : إن الصاعقة لها سبب طبيعي، وهو احتكاك سالب بموجب، فكيف يكون عقابا أو إنذارا، أو معجزة ؟ ونقول إن الأسباب الطبيعية لا تمنع الإرادة الإلهية، فالله سبحانه وتعالى سير الأكوان، وهي تحت قدرته وإرادته، فهو الذي يسير السحاب، والرياح فإذا أراد جلت قدرته إنزال عذاب أو إنذار قوم أرسل الرياح المسخرات بأمره، فكانت منها الصاعقة أو الرعد أو المطر الغزير الذي يكون غيثا ولا يكون غيثا، وقد صرح الله سبحانه وتعالى بأنه ينزل بالأقوام من الآفات بمقدار جرمهم وذلك لا يمنع تحقق الأسباب الطبيعية فمسير الكون هو خالقه، ومسبب الأسباب وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، وقد قال تعالى في أهل مصر عندما أيدوا فرعون في طغيانه :﴿ وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين( ١٣٢ ) فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ( ١٣٣ ) ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ( ١٣٤ ) فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون( ١٣٥ ) ﴾( الأعراف ).
ومع هذه البينات اتخذ السابقون من بني إسرائيل العجل معبودا، ولذا قال تعالى :
﴿ ثم تخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك ﴾ هذا النص الكريم فيه بيان إمعانهم في الكفر والجحود، فهم بعد ما جاءتهم البينات أي الحجج المبينة للحق، المثبتة له الدامغة، وبعد أن أنقذهم الله سبحانه وتعالى من جبروت فرعون وطغيانه واستعباده لهم، وبعد أن رأوا من الآيات ما رأوا، اتخذوا شكل العجل الذي صور من ذهب معبودا لهم، وإطلاق العجل على هذا التمثال الجامد لهم، من قبيل إطلاق اسم الشيء على شبهه في الصورة والهيكل، فهو ليس عجلا حقيقة ولكنه صورة، وإن اتخاذ العجل بقية من بقايا الوثنية التي كانت تستولي على قلوبهم، ففي مصر كانت عبادة البقر، وفي مصر كانت عبادة نوع من الأوثان فاستمكنت الوثنية من قلوبهم حتى نسوا عقولهم وتفكيرهم، وما آتاهم الله تعالى من عزة، وما قام عليهم من برهان، ولذلك ذكر الله تعالى عنهم أنهم قالوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فقد قال تعالى :﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون( ١٣٨ ) ﴾( الأعراف ).
ولقد نبهوا إلى ضلالهم في عبادة هيكل العجل، فتنبهوا وتابوا وأقلعوا عن عبادته، فعفا الله تعالى عنهم، لأن التوبة تجب ما قبلها والإيمان بعد الكفر يذهب بآثار الكفر :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف( ٣٨ ) ﴾( الأنفال ).
ولقد كان ذلك التمرد المتوالي مع ما آتى الله نبيه موسى من حجج باهرة قاهرة ولذا قال سبحانه :
﴿ وآتينا موسى سلطانا مبينا ﴾ السلطان هو القدرة وهو السلطة وقد أعطى الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام القوة التي تدفع الباطل، وتزيل رواءه المضلل فأعطاه المعجزات الباهرات البينة الواضحة، التي تبين الحق، وأعطاه القوة التي غلب بها فرعون طاغية الدنيا في عصره، ولهذا ألقاه في اليم وخرج ببني إسرائيل وأعطاه القوة التي أخضع أولئك المتمردين من بني إسرائيل على الحق، الذين تعودوا العصيان وأعطاه القوة، فأنزل عليه التوراة وهي وحدها سلطان مبين لأنها بيان الحق، والحق في ذاته قوة والتوراة هي ميثاق الله تعالى وفوق ذلك أخذ الله تعالى ميثاقا بمقتضى الفطرة، وميثاقا على الطاعة كما في التوراة وقد قال تعالى :﴿ ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ﴾.
١ عن أبي ذر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل رأيت ربك؟" قال: "نور فأنى أراه"(رواه مسلم: الإيمان نور فأنى أراه(١٧٨)، والترمذي: تفسير القرآن ومن سورة النجم(٣٢٨٢)، وأحمد: مسند الأنصار حديث أبي ذر رضي الله عنه(٢٠٨٨٤)..
﴿ ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ﴾ هؤلاء اليهود في ماضيهم، لا يتجهون إلى الحق اتجاه المؤمن المذعن، ولكن يحملون عليه حمل الملجأ، فلا تنتظروا أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ورسالته أنهم يستجيبون له، لأن ذلك لم يكن من طبعهم فهم في ماضيهم لم ينفذوا التوراة ولم يذعنوا ويأخذوا على أنفسهم ميثاقا بتنفيذ أحكامها إلا بعد أن هددوا تهديدا حسيا بأن العذاب واقع بهم لا محالة حسا ونظرا، فقد رفع الله تعالى فوقهم الطور، ليقدموا عهدا بالطاعة. فمعنى قوله تعالى :
﴿ ورفعنا فوقهم الطور ﴾ أي بسبب الميثاق الذي يحملون عليه حملا، وهو ميثاقهم الذي كان يجب تقديمه طوعا واختيارا فالميثاق أخذ بعد الرفع، وإلى هذا يومئ قوله تعالى في آية أخرى :﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون( ١٧١ ) ﴾( الأعراف ).
فالميثاق هو أحكام التوراة، وحملهم على الخضوع المطلق لله تعالى، وطاعته فيما يأمرهم به من غير تمرد ولا عصيان، وقد صرح سبحانه بأنه أمرهم بما فيه خضوع تعبدي، لكن يتعودوا الطاعة، فذكر سبحانه وتعالى أمرين هما :
﴿ وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت ﴾ ادخلوا باب المدينة مطأطئي رؤوسكم بهيئة الساجدين أمارة الخضوع حسا، وهو دليل على الخضوع معنى بالإذعان لأوامر الله تعالى، وفي الآية تصريح بالطاعة المطلقة الذي يتضمنه الأمر بالدخول سجدا مطأطئي الرؤوس فقد قال تعالى في سورة البقرة :﴿ وإذا قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة...( ٥٨ ) ﴾( البقرة ).
ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا، وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة أي خاضعين قد ذهب عنا الكبرياء.
والمدينة أو القرية قيل هي بيت المقدس وقيل غيرها وقد أبهمها الله، ولم يوجد من السنة الصحيحة ما يبينها، فلنترك أمرها، ولا ينقص ذلك الهدف من سياق هذه القصة، وهي أنهم أمروا بالطاعة المطلقة.
والأمر الثاني الذي أمروا ذكره الله تعالى بقوله ﴿ وقلنا لهم لا تعدوا في السبت ﴾ أي لا تتجاوزوا الحدود التي أمركم بالتزامها يوم السبت، وهي ألا تصطادوا الحيتان في ذلك اليوم، وتكرر قوله تعالى ﴿ وقلنا ﴾ لبيان تأكيد الأمر ونسبته إليه سبحانه وتعالى : وقد اختبرهم سبحانه وتعالى اختبارا، فقد كانت الحيتان تأتيهم يوم السبت واضحا، وتختفي في غيره، كما قال تعالى :﴿ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون( ١٦٣ ) ﴾( الأعراف ).
﴿ وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ﴾ أخذ الله سبحانه وتعالى عهدا موثقا كامل التوثيق شديدا في قوته وفي موضوعه وأضاف سبحانه وتعالى الأخذ إلى ذاته العلية تقوية له، وتأكيدا فإن ذا الجلال والإكرام العليم الخبير هو الذي أخذه، وهو الذي يتولى أمرهم إن نكثوا في أيمانهم وأنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وغلظ الميثاق كما أشرنا في قوة توثيقه، فقد أخذه بعد أن رفع الجبل عليهم كأنه ظلة، وأمرهم بالطاعة المطلقة، وشدته في موضوعه، فقد كلفهم تكليفات شديدة، لإفراطهم في الفساد، فكان السبيل لفطم نفوسهم عن الشهوات وتربيتها، على الضبط والعمل الصالح أن ينص على تحريم أمور كثيرة ذلك أن النفس التقية تمتنع من ذاتها كثيرا من غير أوامر أو تكليف. أما النفوس المنحرفة فتحتاج إلى النص على تحريم الكثير مما يفعلونه من غير أن ينالهم تهذيب شخصي من الضمير والوجدان وقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون( ١٤٦ ) ﴾( الأنعام ).
اللهم ارحمنا وقنا شر الشهوات وطغيانها، إنك بكل شيء عليم.
﴿ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا( ١٥٥ ) وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما( ١٥٦ ) ﴾.
كانت الآيات السابقة في بيان غلظ قلوب اليهود، وعنادهم وامتناعهم عن قبول الحق، وأن حاضر اليهود في عصر النبي صلى الله عليه كماضيهم مع موسى عليه السلام يتعنتون في طلب الدليل، ولا يهتدون إلى الحق إذا قامت عليهم البينات، حتى إنهم ليطلبون من موسى عليه السلام أن يريهم الله جهرة عيانا، وقد أنزل بهم من الشدائد ما يدفعهم إلى الخضوع فنزلت بهم الصاعقة وارتفع الجبل عليهم، وقد خضعوا ولا يكادون، وأخذ عليهم الميثاق ولكنهم لم يلبثوا أن نقضوه وفي هذا النص الكريم يبين سبحانه وتعالى ما ارتكبوا من مظالم، وعواقب ذلك عليهم، ولذا قال تعالى :﴿ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق ﴾
﴿ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق ﴾ ذكر الله تعالى في هذه الآيات الظلم الذي وقع منهم، فذكر مظالم كثيرة لهم، فهم نقضوا الميثاق وكفروا بالحجج والبينات وقتلوا الأنبياء، ونسبوا سبب الكفر إلى غيرهم، وكذبوا على مريم البتول، وادعوا أنهم قتلوا المسيح، وصدوا عن سبيل الله، وأكلوا الربا وقد نهوا عنه... إلى آخر ما كفروا به.
هؤلاء هم بنو إسرائيل دائما ينقضون المواثيق والعهود، ولا يراعون إلا ولا ذمة، ويكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء ويظلمون أنفسهم، فيشدد الله عليهم الأحكام، فيحرم عليهم الطيبات التي كانت مباحة لهم، وقد حقت عليهم اللعنة بخطيئاتهم التي اكتسبوها، وقولهم ﴿ قلوبنا غلف ﴾ أي هي أوعية للعلوم مملوءة مغلفة فلسنا في حاجة إلى علم غير الذي عندنا، ولن نقبل شيئا مما تدعونا إليه يا محمد ورغم العلم الذي وعيناه واستوعبناه فإن قلوبنا غلف، عليها أغطية تجعلنا لا نفقه ما تقول، فأرح نفسك، وأرحنا معك فلن نستمع إليك ولن يصل إلى قلوبنا شيء مما تدعو إليه.
﴿ بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾والحق أن الله سبحانه وتعالى لما رأى أنهم لا يهتدون ولا يعطون التفاتا للدعوة ويدرءون حجة الرسل، ويدفعون براهينهم بباطل من عندهم جزاهم على كفرهم هذا بأن طبع على قلوبهم وختم عليها، فهم لذلك لا يهتدون سبيلا، ولا يؤمنون إلا قليلا.
﴿ وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ﴾
كانت الآيات السابقة في بيان غلظ قلوب اليهود، وعنادهم وامتناعهم عن قبول الحق، وأن حاضر اليهود في عصر النبي صلى الله عليه كماضيهم مع موسى عليه السلام يتعنتون في طلب الدليل، ولا يهتدون إلى الحق إذا قامت عليهم البينات، حتى إنهم ليطلبون من موسى عليه السلام أن يريهم الله جهرة عيانا، وقد أنزل بهم من الشدائد ما يدفعهم إلى الخضوع فنزلت بهم الصاعقة وارتفع الجبل عليهم، وقد خضعوا ولا يكادون، وأخذ عليهم الميثاق ولكنهم لم يلبثوا أن نقضوه وفي هذا النص الكريم يبين سبحانه وتعالى ما ارتكبوا من مظالم، وعواقب ذلك عليهم، ولذا قال تعالى :﴿ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق ﴾
لقد كفروا بالمسيح من قبل، وأتوا ببهتان عظيم فاتهموا مريم العذراء البتول بأن لها علاقة بيوسف النجار، ويوسف هذا كان أحد الصالحين من بني إسرائيل وقد خطب مريم ورغب في أن يتزوجها، وعندما ولدت المسيح عليه السلام صدقها ووثق ببراءتها وطهرها وبقي معها يرعاها هب وابنها، ولكن اليهود كفروا ورموا مريم ويوسف ببهتان عظيم، ونحن المسلمين نؤمن بطهارة مريم ونؤمن بعيسى نبيا ورسولا فويل بعد ذلك للمكذبين.
﴿ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقينا ( ١٥٧ ) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ( ١٥٨ ) وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا( ١٥٩ ) ﴾.
﴿ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم ﴾ هذه إحدى جرائمهم الكبرى، ولكن هل قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم يعد جريمة، والجواب عن ذلك أن ما يدل عليه بطريق التضمن هو الجريمة، والقول ذاته جريمة وذلك لأن القول يدل على أنهم أرادوا قتله، واتخذوا كل السبل لذلك، فدسوا عليه عند الرومان، وكذبوا عليه وافتروا، وحاولوا أن يسلموه ليصلب، وسلموه في زعمهم ولكن الله سبحانه وتعالى أنقذه بإلقاء الشبه على أحد الذين دبروا القتل وكل هذه جرائم، ومن المقرر فقها وقانونا أن من شرع ارتكاب جريمة واتخذ كل الأسباب وفعل فعلها، ولكن لم تتم بأمر ليس في إرادته يعد مجرما، وظالما يستحق العقاب فكان القول مبنيا على إجرام، ثم القول ذاته إجرام، لأنه تهجم بالكذب على مقام الرسول المبعوث لهم، ثم هم قالوا هذا القول، وقد قامت البينات على صدق رسالته وعلى أنه لم يمت، وقوله ﴿ رسول الله ﴾ أهي من مقول اليهود أم هي من وصف الله تعالى لمن قالوا فيه ؟ يجوز الأمران، وعلى الأول يكون كلامهم فيه نوع من السخرية بالرسالة والرسول كأنهم يقولون إن الله تعالى لم يحمه منهم، وعلى الثاني يكون المعنى أنهم قالوا فيه ما قالوا، وأرادوا به ما أرادوا، وقد قامت الأدلة على أنه رسول الله، وسينزل بهم العقاب على ما فعلوا وأرادوا وقالوا :﴿ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم( ١٥٧ ) ﴾
﴿ وما قتلوه ﴾ فما ذهبت روحه عليه السلام بقتل أنزلوه ﴿ وما صلبوه ﴾ وما كان صلب لأنه لم يكن قتل ولكن شبه الأمر عليهم فظنوا المقتول المصلوب هو المسيح، وما كان هو بل كان المصلوب المقتول غيره فخيل إليهم أنه قتل وصلب، وما كان كذلك. وقد يسأل السائل : لماذا ذكر نفي الصلب بعد نفي القتل مع أن نفي القتل يقتضي ألا يكون صلب، لأن الصلب لا يكون إلا لمقتول ؟ والجواب عن ذلك أن هذا تأكيد في النفي ولأن النصارى واليهود يدعون أنه صلب، فلابد من النص على نفي الصلب ليكون ردا على هذه الدعوى، ولو اقتصر على نفي القتل ما كان التصريح برد الدعوى، ورد الدعاوى لا يكتفي فيه ما تضمن عن التصريح، ولو نفي الصلب فقط ما اقتضى نفي القتل، فكان النسق البليغ مقتضيا نفيهما معا.
وقد نسب القتل المنفي إليهم مع أن التاريخ والأناجيل تثبت أن القتل المنفي والصلب كان من حاكم الرومان، ولكن بتحريض اليهود، وذلك لأنهم هم الذين ألحوا في طلب القتل حتى إن الروماني يلقي عليهم تبعة قتله، والمحرض قاتل والشاهد الكاذب قاتل، وكل متسبب يعد قاتلا وهؤلاء قاموا بكل ذلك، فقد دبروا شهادات الزور وحرضوا وتسببوا فكانوا بهذا قاتلين كفعل الجبناء، ولكن الله تعالى أنقذه منهم ومن الرومان معا.
والتشبيه لهم بأن خلق الله تعالى شبهه على أحد الذين خانوه، ودبروا القتل، وقد جاء ذلك في إنجيل برنابا الذي عثر عليه في خزانة أحد البابوات في آخر القرن الخامس عشر، فقد جاء في هذا الإنجيل الذي لا يوجد ما يدل على أنه ليس في قوة أناجيلهم :( إن يهوذا الأسخريوطي الذي كان عينا على السيد المسيح عليه السلام قد ألقى الله تعالى عليه، شكل السيد المسيح فقبض عليه على أنه هو، فقد قال برنابا في هذا :( الحق أقول : إن صوت يهوذا ووجهه وشخصه بلغت من الشبه بيسوع أن اعتقد تلاميذه والمؤمنون به كافة أنه يسوع، كذلك خرج بعضهم من تعاليم يسوع معتقدين أن يسوع كان نبيا كاذبا، وإنما الآيات التي فعلها بصناعة السحر، لأن يسوع قال إنه لا يموت إلى وشك انقضاء العالم، لأنه سيؤخذ في ذلك الوقت من العالم )، ثم يبين أن يسوع رفع إلى السماء ولما علم أن بعض المتبعين ضلوا طلب إلى الله تعالى أن ينزله إلى الأرض فنزل بعد ثلاثة أيام ويقول برنابا :( ووبخ كثيرين ممن اعتقدوا أنه مات وقام قائلا : أتحسبونني أنا ؟ والله كافر بالله، لأن الله وهبني أن أعيش حتى قبيل انقضاء العالم، كما قد قلت لكم. الحق أقول لكم أني لم أمت بل يهوذا الخائن، احذروا لأن الشيطان سيحاول جهده أن يخدعكم ولكن كونوا شهودي في كل إسرائيل وفي العالم كله، لكل الأشياء التي رأيتموها وسمعتموها )١.
ومن هذا يتبين معنى أنه خيل لهم أنهم قتلوه، وما قتلوه وأنهم قد اعتراهم الشك من بعد ذلك في أمره، ولذا قال تعالى :
﴿ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ﴾ ولقد اختلف اليهود والمسيحيون في شأن السيد المسيح، فمنهم من أنكر أنه نبي ومنهم من زعم أن فيه عنصرا إلهيا مع العنصر الإنساني ومنهم من زعم أنه ابن الله تعالى وأن النبوة ليست نبوة ألوهية، إنما هي نبوة ثقة ومحبة ورحمة، ومنهم من قال إن الذي ولدته مريم هو العنصر الإنساني، وفاض عليه من بعد العنصر الإلهي، ومنهم من قال إن مريم ولدت العنصرين، ومنهم من قال إن كلام عيسى وإرادته هي من العنصر الإنساني ومنهم من قال إن الإرادة وليدة العنصرين.
وهكذا كان الاختلاف، وكل كون طائفة وحزبا، كما قال تعالى :﴿ ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ﴾ إلى أن قال تعالى :﴿ فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم( ٣٧ ) ﴾( مريم ).
ولا يزالون يختلفون حول حقيقة المسيح وصلبه ومع أن اليهود هم الذين سعوا بلا ريب لقتله، ولكن ردهم الله تعالى على أعقابهم خاسرين، وأبطل الله مكرهم وكيدهم، مع هذا تجد الآن المجمع المسكوني المسيحي قام باقتراح قسيس ألماني يدرس تبرئة اليهود من دم المسيح، وأيد ذلك الزعم كبير أساقفة إنجلترا وهم بذلك يضربون بنصوص أناجيلهم عرض الحائط، وإن هذا مصداق لقوله تعالى :﴿ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ﴾ فهم في ريب دائم، ولا يؤمنون بشيء مما يقولون ويزعمون وما هم يتبعون إلا الظن، فيظنون ويتوهمون ثم يحكمون بالظن والوهم.
﴿ وما قتلوه يقينا( ١٥٧ ) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ﴾ أكد الله سبحانه وتعالى نفي قتل السيد المسيح الذي حاوله اليهود، فقال تعالت كلماته :﴿ وما قتلوه يقينا ﴾.
وهنا تأويلان لكلمة ﴿ يقينا ﴾ التأويل الأول أنها وصف لمحذوف، والمعنى وما قتلوه قتلا قد استيقنوا به وتأكدوه، وهذا فيه ترشيح للاختلاف والشك الذي اعتراهم، التأويل الثاني : أنها تأكيد للنفي والمعنى وما قتلوه حقا وصدقا، فاليقين منصب على النفي، أي أن نفي كونه قتل أمر مستقين مؤكد، وليس ظنا كظنكم، ولا وهما كوهمكم.
١ كتاب محاضرات في النصرانية للإمام أبو زهرة..
وقوله تعالى ﴿ بل رفعه الله إليه ﴾
﴿ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم ﴾ هذه إحدى جرائمهم الكبرى، ولكن هل قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم يعد جريمة، والجواب عن ذلك أن ما يدل عليه بطريق التضمن هو الجريمة، والقول ذاته جريمة وذلك لأن القول يدل على أنهم أرادوا قتله، واتخذوا كل السبل لذلك، فدسوا عليه عند الرومان، وكذبوا عليه وافتروا، وحاولوا أن يسلموه ليصلب، وسلموه في زعمهم ولكن الله سبحانه وتعالى أنقذه بإلقاء الشبه على أحد الذين دبروا القتل وكل هذه جرائم، ومن المقرر فقها وقانونا أن من شرع ارتكاب جريمة واتخذ كل الأسباب وفعل فعلها، ولكن لم تتم بأمر ليس في إرادته يعد مجرما، وظالما يستحق العقاب فكان القول مبنيا على إجرام، ثم القول ذاته إجرام، لأنه تهجم بالكذب على مقام الرسول المبعوث لهم، ثم هم قالوا هذا القول، وقد قامت البينات على صدق رسالته وعلى أنه لم يمت، وقوله ﴿ رسول الله ﴾ أهي من مقول اليهود أم هي من وصف الله تعالى لمن قالوا فيه ؟ يجوز الأمران، وعلى الأول يكون كلامهم فيه نوع من السخرية بالرسالة والرسول كأنهم يقولون إن الله تعالى لم يحمه منهم، وعلى الثاني يكون المعنى أنهم قالوا فيه ما قالوا، وأرادوا به ما أرادوا، وقد قامت الأدلة على أنه رسول الله، وسينزل بهم العقاب على ما فعلوا وأرادوا وقالوا :﴿ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم( ١٥٧ ) ﴾
إضراب بياني فيه رد لزعمهم القتل، والمعنى بل إنه لم يقتل، وأن الله رفعه إليه، وظاهر القول أن الرفع كان بجسده وروحه، لا بروحه فقط وبهذا جاء التفسير المأثور وعليه أكثر المفسرين، وأيدته السنة، وإن كانت أخبار أحاد، وقد فسر بعض العلماء الرفع بأنه رفع الروح، وأخذوا ذلك من قوله تعالى :﴿ إني متوفيك ورافعك إلي ( ٥٥ ) ﴾ ( آل عمران ).
فبمقتضى النسق الظاهر يكون الرفع عقب الوفاة، وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى :﴿ وكان الله عزيزا حكيما ﴾.
وفيه وصف الله تعالى الدائم بأنه العزيز الرفيع الجناب الذي لا يلجأ إليه أحد إلا أعزه، وأعلى قدره وحماه كما فعل مع ابن مريم وغيره من أنبيائه عليهم السلام، وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها.
﴿ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ﴾
﴿ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم ﴾ هذه إحدى جرائمهم الكبرى، ولكن هل قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم يعد جريمة، والجواب عن ذلك أن ما يدل عليه بطريق التضمن هو الجريمة، والقول ذاته جريمة وذلك لأن القول يدل على أنهم أرادوا قتله، واتخذوا كل السبل لذلك، فدسوا عليه عند الرومان، وكذبوا عليه وافتروا، وحاولوا أن يسلموه ليصلب، وسلموه في زعمهم ولكن الله سبحانه وتعالى أنقذه بإلقاء الشبه على أحد الذين دبروا القتل وكل هذه جرائم، ومن المقرر فقها وقانونا أن من شرع ارتكاب جريمة واتخذ كل الأسباب وفعل فعلها، ولكن لم تتم بأمر ليس في إرادته يعد مجرما، وظالما يستحق العقاب فكان القول مبنيا على إجرام، ثم القول ذاته إجرام، لأنه تهجم بالكذب على مقام الرسول المبعوث لهم، ثم هم قالوا هذا القول، وقد قامت البينات على صدق رسالته وعلى أنه لم يمت، وقوله ﴿ رسول الله ﴾ أهي من مقول اليهود أم هي من وصف الله تعالى لمن قالوا فيه ؟ يجوز الأمران، وعلى الأول يكون كلامهم فيه نوع من السخرية بالرسالة والرسول كأنهم يقولون إن الله تعالى لم يحمه منهم، وعلى الثاني يكون المعنى أنهم قالوا فيه ما قالوا، وأرادوا به ما أرادوا، وقد قامت الأدلة على أنه رسول الله، وسينزل بهم العقاب على ما فعلوا وأرادوا وقالوا :﴿ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم( ١٥٧ ) ﴾
"إن" هنا النافية، والمعنى ما من أحد من أهل الكتاب اليهود أو النصارى، أو بعبارة أدق الذين يسمون أنفسهم نصارى أو مسيحيين إلا ليؤمن به حق الإيمان، ويخضعون حق الخضوع قبل موته عليه السلام، فالضمير في موته يعود إلى المسيح عليه السلام وهذا يسير على أن عيسى سيعود ويحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهناك تخريج آخر، وهو أن الضمير في ( موته ) يعود إلى أحد المطوية في الكلام ومقدرة، والمعنى ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن بعيسى عند موت أي كتابي لأنه عند حشرجة الموت يتنبه الشخص لما أنكر وجحد فيؤمن كما كانت حال فرعون إذ قال عندما أدركه الغرق : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، وإن عيسى عليه السلام سيكون شهيدا بالحق يوم الحق يشهد على اليهود بما كفروا به، ويشهد على الذين يقولون إنهم نصارى وأنهم كفروا به فادعوا أنه إله أو ابن الله، وأن كلامهم في هذا باطل، وأنه عبد الله ورسوله.
وهنا نريد أن نشير إلى موقف الإسلام ومن يقولون أنهم نصارى من المسيح عليه السلام : هم يقولون أنه قتل وصلب ليطهر الخليقة من ذنب أبيهم آدم، وأن الله اختار ابنه ليكون فداء، وأما الإسلام فإنه يقول أن الله نجاه ورفعه إلى المنازل العليا.
ولا نريد أن نقول إنهم يرمون الله تعالى بالجهل إذ سكت أزمانا طويلة حتى بدا له أن يجعل ابنه فداء، ولا نريد أن نقول إن العنصر الإلهي كيف حل في مريم البتول، ولا نريد أن نقول إن الله عفا عن آدم، وإن لم يعف فإن العقاب يكون عليه ولا يكون على غيره، لا نريد أن نقول إن هذا كله مخالف لكل معقول ولكن نقول كيف يتصور أن يكون الفداء للخليقة بإنزال ابنه إلى الأرض ليقتله بعض ذرية آدم الذي عصى ؟ إن المعقول أن يكونوا قد أضافوا إلى قولهم جريمة أخرى هي قتل ابن الله بل إنها جريمة أشد وأنكى، وإذ قيل لهم ذلك القول قالوا إن الدين له منطق غير منطق العقل. ولكن عيسى ابن مريم الحق فيه ما قاله القرآن ولكنهم يمترون. ﴿ قل هو الله أحد ( ١ ) الله الصمد ( ٢ ) لم يلد ولم يولد ( ٣ ) ولم يكن له كفؤا أحد ( ٤ ) ﴾( الإخلاص ).
﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا( ١٦٠ ) وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما( ١٦١ ) لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما( ١٦٢ ) ﴾.
في قلوبهم قسوة، وفي نفوسهم جفوة، وعقولهم غلف لا تنفتح للحق، ولا تذعن له، ظهرت آياته وقامت بيناته، أتتهم آيات الحق والمعجزات فكذبوا بها وطلبوا غيرها وقالوا أرنا الله جهرة، ورأوا الجبل يعلو عليهم فقبلوا ميثاق الإيمان، ثم نقضوه وقتلوا بعض الأنبياء لغلظ قلوبهم وانطماسها، وغفلتها عن الحق، ورموا مريم البتول ببهتان وكذب، ومحاولتهم قتل عيسى ابن مريم رسول الله، وافتخارهم لقتله وما قتلوه، فهذه مظالم تتلوها مظالم، ولا بد من تربية نفوسهم على الحق، وتهذيبها لتذعن له، والنفس الشرهة الشرسة لا يهذبها إلا الحرمان أبدا، عسى أن تنقشع عنها غياهب المادة فترى، ولذا قال سبحانه :
﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ﴾ الظلم هنا خاص بالكفر الذي ذكرته الآيات سابقا كفروا بمواثيق الله، ولم يذعنوا للحق، إذعانا ظاهرا إلا بعد تهديد غليظ، ثم نقضوا ما عاهدوا الله تعالى عليه وقتلوا الأنبياء وكذبوا على الأبرياء.
فالظلم إذن هو هذا الكفر الذي أوغلوا فيه إيغالا. ولا شك أن ما جاء بعد ذلك ظلم بين، فالصد عن سبيل الله ظلم، وأخذهم الربا ظلم، وأكلهم أموال الناس بالباطل ظلم، وكل واحدة من هذه الجرائم التي أركسوها فيها ظلم وذنب، ولذلك صح أن تذكر كل واحد منها منفردة، وإن كانت تدخل في عموم كلمة ظلم. ولكن عند اجتماعها مع هذه الجرائم تخصص كل كلمة بما ذكر أولا أنهم ارتكبوه ودل على غلظ أكبادهم وقسوة قلوبهم، وكفرهم الصريح وهو أشد أنواع الظلم، وإن الشرك لظلم عظيم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى العقوبة بقوله تعالى :
﴿ حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ﴾ هذا هو حكم الله تعالى الذي قرره تهذيبا وتأديبا لهم، وفطما لنفوسهم عن الشهوات ولقلوبهم التي استغرقتها المادة، والنفوس إذا فطمت تتهذب، وقد تذهب قسوتها. حرم الله سبحانه وتعالى أمورا كانت حلالا لهم، وهي بتكوينها من الطيبات التي أحلها الله تعالى، وليست من الخبائث التي يحرمها الله تعالى، فهي في أصل تكوينها طيبات من شأنها الحل، ولكن حرم بعضها عليهم تهذيبا وتربية لكي تذهب عن قلوبهم بعض القسوة، وبعض الأنانية التي استولت عليها، والتنكير في قوله تعالى :"طيبات" فيه إشارة إلى أنه لم تحرم كل الطيبات بل بعض منها وقد بينه سبحانه وتعالى بقوله تعالى :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون( ١٤٦ ) ﴾( الأنعام ).
وإنه يلاحظ أن هذه المحرمات من الطيبات من شأن الإكثار منها أن يوجد شحما في الجسم واسترخاء، وحيث كان الجسم كذلك تضعف الهمة، وحيث ضعفت الهمة كانت محبة المادة، والكسب الرخيص وطلب من غير الله، وقد كانوا كذلك، وقد كانوا لا همة لهم إلا في الكسب الرخيص ولا همة لهم في دفع اعتداء، فقد كانوا يقولون لموسى :﴿ فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون( ٢٤ ) ﴾( المائدة )، وهمتهم الكبرى في الإيذاء لخمول قلوبهم بقدر خمول أجسامهم.
وكان في فطمهم عن الشحوم، وما يزيد البدن ترهلا، تهذيبا لنفوسهم وتقوية لأبدانهم وفتح باب الهمة العليا لهم.
ومن المظالم التي ارتكبوها صدهم أنفسهم عن طريق الحق، وصدهم غيرهم ومنع غير اليهود من أن يدخلوا في ديانة موسى، ولذا قال سبحانه :﴿ وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ﴾ أي صدا كثيرا في ذاته أو صدا لناس كثيرين.
وقد ذكر سبحانه وتعالى بقية الأسباب التي أوجبت ذلك التحريم فقال :﴿ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ﴾
﴿ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ﴾
كان الظلم الأول موضعه القلب والاعتقاد، وما ينبعث من أفعال شاذة فيها اعتداء على رسل الله تعالى وأنبيائه، فالاعتداء فيها كان على جنب الله تعالى والفساد كان في القلوب، وفي الأعمال التي تتعلق بها. أما الظلم هنا فهو واقع على العباد.
ذلك أن ضعف همتهم في الكسب، وعدم الاتجاه إلى العمل المثمر المنتج جعلهم يتجهون إلى الكسب الفاسد غير المنتج وذلك بالربا، وأكل مال الناس بالباطل فأما الربا وهو الزيادة في نظير الزيادة في الأجل فهو كسب الخبيث وغير منطقي لأنه كسب بالنقد، والنقد لا يلد النقد كما قال أرسطو، وهو كسب بالانتظار فالزمن هو العامل فيه، والكسب بالانتظار عمل الكسالى الجبناء، لأنه يجيئهم من غير عمل ومن غير تعرض للخسارة وهو في الغالب نوع من البطالة، ويؤدي إلى القمار والمراهنات ولذلك تقترن هذه الآفات الاجتماعية بالتعامل بالربا، وتكون في أكثر أحوالها ممن يتعاملون بها، حيث لا مخاطرة كالتي تكون في التجارة أو الزراعة، ويندر أن تجد يهوديا في أي بلد من البلاد يشتغل بالزراعة، ولكنهم يتخذون لأنفسهم صفة الوسطاء التي لا تحتاج إلى همة، ولا تحتاج إلى شجاعة.
وحيث كانت المعاملات اليهودية كان معها أكل أموال الناس بغير الحق الذي فيه أخذ وعطاء ونفع وانتفاع، بل تكون معاملاتهم قائمة على الاحتكار والرشوة كيفما كانت تسميتها وكيفما كانت صفتها والمخادعات والاحتيال والنصب الماهر المستور وغير ذلك من التعامل الذي لا شرف فيه.
وقد بين سبحانه وتعالى عقابهم بقوله :
﴿ وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ﴾ أي بسبب هذه المظالم في الدنيا لا يكتفى بحرمانهم الجزئي فيها، بل لا بد للكافرين من عقاب شديد مؤلم في الآخرة، وقد ذكر وصف الإيلام في العذاب، للإشارة إلى أنهم إن كانوا يتمتعون في الدنيا كما تتمتع الأنعام، ويرتعون كما ترتع، فذلك إلى أمد قصير.
إن أولئك الماديين الذين فسدت ضمائرهم وضعفت عقائدهم وأصبحوا لا يؤمنون إلا بالدنيا، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نلهو ونلعب وما نحن بمبعوثين.. يكون منهم دائما الاستهانة بحقوق غيرهم وينشرون اللهو والعبث والمجون، وتكون الدنيا متعتهم وتكون هذه المتعة غايتهم، ومطلبهم فلا يذكرون أن وراء هذه المتعة آلاما ووراءها عذاب أليم، فليذكروا ذلك وإن ربك لبالمرصاد.
وليسوا جميعا على هذا النحو، ولذلك قال في العقاب للكافرين منهم، فكل طائفة فيهم الخير والشر، واليهود مع ما كانوا عليه في الماضي كان منهم المؤمنون وإن كانوا قليلا، ولذا قال سبحانه :
﴿ لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك ﴾.
﴿ لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك ﴾. الراسخون في العلم هم الذين أدركوا حقائقه وصدقوها، وأذعنوا لها وثبتت في قلوبهم ثباتا لا يكون معه ريب يزعزعه أو شبهة تفسده أو هوى يعبث به، وقد قال الراغب في مفرداته في معنى الرسوخ :"رسوخ الشيء ثباته ثباتا متمكنا، ورسخ الغدير نضب ماؤه ورسخ تحت الأرض والراسخ في العلم المتحقق فيه الذي لا يعرضه شبهة، فالراسخون في العلم هم الموصوفون بقوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا( ١٥ ) ﴾( الحجرات )، وكذلك قوله تعالى :﴿ لكن الراسخون في العلم منهم ﴾.
وإن الله سبحانه وتعالى الحكم العدل تكون أحكامه على مقتضى عدله، فهؤلاء اليهود وإن كثر جحودهم فيهم العلماء المحققون الراسخون، وإن كانوا مختفين في لجة من جحود اليهود هؤلاء الراسخون في العلم الديني والعلم برسالته وسائر رسائل النبيين هم والمؤمنون سواء، فهم يعتقدون كل ما يعتقده المؤمنون من صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق سائر الرسالات الإلهية.
وهؤلاء قد ضموا إلى صفوف المؤمنين، بل إنهم صاروا منهم وإنما ذكروا كأنهم صنف قائم باعتبار أنهم من اليهود ولم يكونوا كالمنحرفين البارزين وهؤلاء اليهود لم يكفروا بموسى كما لم يكفر سائر المؤمنين بموسى، ولذلك قال سبحانه وتعالى :﴿ يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ﴾ أي أنهم يؤمنون بالرسالة المحمدية وكتابها ورسالات الرسل السابقة وكتبها، فأولئك الراسخون في العلم من بني إسرائيل هم والمؤمنون لم يخرجوا على موسى، بل آمنوا به أوثق إيمان لأنهم آمنوا بالرسالات كلها.
وقد يقول قائل : إن الله تعالى ذم اليهود عموما ثم خص الراسخين بالثناء فلم كان التعميم ثم التخصيص ؟ والجواب عن ذلك أن أولئك الراسخين لم يكونوا هم الظاهرين منهم، بل كان الشر هو الطافح على سطحهم، فكان من أجل وصفهم عموما بالشر لأن الجماعة توصف بالشر إذا اختفى الخير فيها، ثم كان الظاهر هو الشر وكان من إنصاف الله تعالى أن ذكر أولئك العلماء المغمورين في وسط جماعة الأشرار وبين حقيقتهم وانضمامهم إلى جماعة المؤمنين.
هذه حقيقة المؤمنين ومن معهم من الراسخين في العلم من أهل الكتاب ثم بين من بعد أعمالهم وإيمانهم بالغيب فقال :
﴿ والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ﴾ ذكر في هذا النص الكريم أعظم أعمال الخير التي يقوم بها المؤمن الصادق في إيمانه، وهي قسمان : عبادة هي تطهير النفس وتهذيبها وهي الصلاة فإن إقامة الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهذب الضمير، والصلاة عمود الدين، ولب اليقين، وتهذيب الوجدان، وتجعل المؤمن يألف ويؤلف، وتصرفه إلى الخير ولذلك ذكرت على سبيل التخصيص ونصبت حيث الظاهر، لتقدير فعل يدل على الاختصاص، والمعنى أخص الصلاة بالذكر لأنها ذكر الله تعالى الأكبر وبذكر الله تطمئن القلوب وتصفو النفوس وتهذب الضمائر.
والقسم الثاني : عبادة هي معونة اجتماعية للمؤمنين، فهي عطاء بنية العبادة وهي تومئ إلى التعاون بين المؤمنين بحيث يعين القوي الضعيف، والغني الفقير، وكل امرئ في حاجة أخيه وعونه كما قال عليه الصلاة والسلام :"الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه"١، وكل امرئ مهما يكن يحتاج إلى غيره في ناحية ويمد الغير بالحاجة من ناحية أخرى.
وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك لب اليقين، ونور الإيمان وما يكون الرسوخ في العلم والعقيدة، فقال سبحانه :
﴿ والمؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ فالإيمان بالله عز وجل، وإدراك معنى صفاته، والإذعان له، واعتقاد أنه فوق كل الوجود وما فيه وأنه القاهر فوق عباده، ذلك الإيمان بضعف كل شيء، وأنه لا قادر حق القدرة سواه هو الذي يتربى به القلب فيؤمن، والجوارح فتذعن والنفوس فتصفو.
والإيمان باليوم الآخر هو إيمان بالغيب وهو أخص عناصر الإيمان وهو الذي يجعل المؤمن يعرف حقيقة الدنيا ويصبر على سرائها وضرائها ولا تذهب نفسه حسرات عند الحرمان ولا يطغى ويغتر عندما يعطيه ويعلم أنه مجزي بالصبر، محاسب على ما أنعم الله تعالى به عليه.
وقد بين سبحانه من بعد ذلك جزاء هؤلاء المؤمنين فقال تعالت كلماته :
﴿ أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ﴾أي أولئك الذين نالوا هذه الخصال كلها، فآمنوا بكل الأنبياء وتهذبت ضمائرهم بالصلاة، وتعاونوا فيما بينهم بالزكاة، وآمنوا بالله تعالى حق الإيمان وصدقوا البعث والنشور، وصبروا في السراء والضراء هؤلاء المتصفون بتلك الصفات يستحقون بسببها جزاء عظيما.
وقد أكد ذلك الجزاء بثلاثة مؤكدات :
أولها- السين في قوله﴿ سنؤتيكم ﴾ لأنها لتأكيد الوقوع في المستقبل.
وثانيها- إسناد العطاء إلى الله تعالى القادر على كل شيء وهو لا يخلف الميعاد.
ثالثها- تنكير الأجر، ووصفه بالعظمة فهو أجر عظيم لا يجري في خيال البشر ويعلمه خالق البشر.
اللهم اجعلنا ممن تغفر لهم فينالون رضاك يا رب العالمين.
١ جزء من حديث رواه مسلم: الذكر والدعاء- فضل الاجتماع على تلاوة القرآن(٢٦٩٩)عن أبي هريرة رضي الله عنه والترمذي: الحدود ما جاء في الستر على المسلم(١٤٢٥)، وأبو داود الأدب في المعونة للمسلم(٤٩٤٦)، وابن ماجه: المقدمة- فضل العلم(٢٢٥)، وأحمد: باقي مسند المكثرين(٧٣٧٩)، وابن ماجه: القراءات- ما جاء في نزول القرآن على سبعة أحرف(٢٩٤٥)..
﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا( ١٦٣ )ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما( ١٦٤ )رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما( ١٦٥ )لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا( ١٦٦ ) ﴾.
الآيات السابقة بينت أحوال القلوب إذا أظلمت والنفوس إذا انحرفت وعصت أمر ربها، وجعل حال بني إسرائيل في ماضيهم وحاضرهم مثلا واضحا بينا، فقد مالت قلوبهم عن الحق بعد أن جاءتهم البينات، وما من آية أتتهم لتزيدهم إيمانا إلا ازدادوا بها كفرانا، وما تركوا جريمة إلا ارتكبوها باسم أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، ومع ذلك الزعم يقتلون أنبياء الله ويعصون الآخرين من رسله، وهم يعاملون محمدا صلى الله عليه وسلم بما عاملوا به من سبقه من الأنبياء، غدروا بعد أن عاهدهم ووفى لهم، وحاولوا قتله غدرا، واشتركوا مع أعدائه لقهره ولكن الله تعالى منعه منهم ومكنه من رقابهم.
وبعد أن ذكر سبحانه ما يدل على شدة جحودهم، أشار سبحانه إلى أنه لا يلتفت إليهم، وأنه ليس بدعا من الرسل بل هو كمال السلسلة من النبوة التي اختارها الله تعالى من البشر، لتكون حجة الله تعالى إلى يوم القيامة : فقال عز من قائل :﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ﴾.
هذا النص مربوط في المعنى بقوله تعالى :﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك... ( ١٥٣ ) ﴾( النساء ).
وقد قالوا غير ذلك في آية أخرى فأنكروا الرسالة الإلهية جملة من بعد موسى، وقالوا :﴿... ما أنزل الله على بشر من شيء... ( ٩١ ) ﴾( الأنعام ) مبالغة في إنكار رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الآيات وما إليها بيان بوحي الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه مثل بقية الرسل، فما كان بدعا من الرسل بل هو في تلقي رسالة الله كسائر الرسل، ولذا قال تعالى :
﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ﴾
﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ﴾ والوحي في الأصل الإعلام الخفي، والإشارة والإيماء والإلهام وغير ذلك من المعاني التي تدل على أنه إعلام خاص، لا يكون بطريق الإعلام الظاهر، وقد قال تعالى :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا( ٥١ ) ﴾( الشورى ) فالوحي على هذا نوع من خطاب الله تعالى لرسله ويقابله الكلام من وراء حجاب، وإرسال ملك من الملائكة بالخطاب.
والوحي هنا يعم الأنواع الثلاث من كلام الله تعالى لرسله، كما يدل السياق على ذلك.
والكلام سيق لبيان المشابهة والمشاكلة بين وحي الله تعالى لنبيه الكريم الذي هو آخر لبنة في صرح النبوة والرسائل الإلهية وبين الوحي للرسل السابقين وقد أكد سبحانه وتعالى المشابهة بنسبة الإيحاء إليه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته و ب "إن" المؤكدة، فقال :﴿ إنا أوحينا إليك ﴾.
وقد ابتدأ سبحانه وتعالى بذكر نوح عليه السلام لأنه الأب الثاني للخليقة، ولأنه أول نبي معروف في القرآن بعد أبي البشر، ولأن في ذكره معنى التهديد للذين يجحدون ويحاربون الرسالة الإلهية :﴿ وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا( ٢٦ ) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا( ٢٧ ) ﴾( نوح ).
فذكره تذكير بتهديده، واستجابة الله تعالى لدعائه، وقد ذكر سبحانه وتعالى نبيين من بعده في الزمان الطويل الذي كان بينه وبين إبراهيم أبي الأنبياء من بعده، ثم قال سبحانه وتعالى من بعد :
﴿ وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان ﴾ وقد ذكر سبحانه وتعالى كلمة "وأوحينا" لتأكيد الإيحاء وللإشارة إلى وجود فترة زمنية طويلة بين نوح عليه السلام وإبراهيم فإن التكرار في الذكر إيحاء إلى التباعد في الزمن ولأن هنا مفارقة بين الأنبياء الذين جاءوا بعد نوح، والمذكورين لأن أولئك جميعا من ذرية إبراهيم وإن تفاوتت مراتبهم واختلفت أماكنهم.
وإن القارئ يلاحظ أمرين :
أولهما أن كل نبي من هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في هذا النص الكريم يختص بصفة، فإبراهيم أبو الأنبياء وإسماعيل أبو العرب، وإسحاق أبو أنبياء بني إسرائيل ومثله يعقوب، وقد اختص بالصبر على فراق ولده، وحبيبه والأسباط وهم أولاد يعقوب عليه السلام جمع سبط وهو ولد الولد مثل للغيرة البشرية تعتري الشباب في فورته وحدته، ثم يثوب إلى رشده بعد أن يكتمل عقله، وتكتمل نفسه وقد أوحى الله تعالى إليهم، وبلغوا مرتبة الأصفياء المهديين، ولعل الوحي إليهم كان من قبيل الإلهام لأنه لم يكن لهم رسالات بشرائع خاصة، وعيسى عليه السلام كان روحانيا في حياته كلها، ولد من غير أب، وعاش طول حياته يدعو إلى الروح، والخروج من سلطان المادة فله بين الأنبياء خواصه، وهو من البشر الذين خلقهم الله تعالى آية للعالمين، وأيوب عليه السلام له صفة الصبر على المرض الأليم وقد قال تعالى فيه :﴿ وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين( ٨٣ ) فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعبدين( ٨٤ ) ﴾( الأنبياء ). ويونس عليه السلام إذ تخلى عنه الصبر فهذبه ربه في الدنيا، ثم صار من المخلصين وقد قال سبحانه :﴿ وإن يونس لمن المرسلين( ١٣٩ )إذ أبق إلى الفلك المشحون( ١٤٠ ) فساهم فكان من المدحضين( ١٤١ ) فالتقمه الحوت وهو مليم( ١٤٢ ) فلولا أنه كان من المسبحين( ١٤٣ ) للبث في بطنه إلى يوم يبعثون( ١٤٤ ) فنبذناه بالعراء وهو سقيم( ١٤٥ ) ﴾ ( الصافات ).
وقد ختم سبحانه ذلك الفريق من النبيين بذكر داود فقال تعالى :﴿ وآتينا داوود زبورا ﴾ أي كما أعطينا داود كتابا خاصا هو الزبور والقراءة المشهورة بفتح الزاي، وقراءة حمزة بضمها أي "زبورا"١، وعلى الأول يكون معنى زبورا بمعنى الزبور أي المكتوب وعلى الضم يكون جمعا لزبر بكسر الزاي والزبر هو الشيء المكتوب وعلى أي القراءتين فالمعنى أعطيناه كتابا مكتوبا يقرأ ويرتل.
ويظهر أن كتاب الزبور لم يكن فيه بيان للأحكام لأن التوراة كانت شرائعها في النظام المتبع، بل هو حكم ومواعظ، وقد قال فيه القرطبي :"الزبور كتاب داود، وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام وإنما هي حكم ومواعظ".
ولقد أعطى الله سبحانه وتعالى داود صفتين تبدوان بين الناس متعارضتين إحداهما أنه كان رجل حرب وجلاد، ورجل حكم وفصل بين الناس. والثانية أنه كان طيب النفس متواضعا متطامنا، فكان لا يأكل إلا من عمل يده ولذلك كان مثلا للنبوة التي تحكم وترشد وتتواضع وتقود الجيوش وهو الذي كان تحت يده كل خزائن ملكه، ويعف عن أن يمد يده إليه، ويأكل من عمل يده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان حاله :"إن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده"٢ فهو النبي الملك القائد الذي أدخل نفسه في زمرة العمال إذ كان لا يأكل إلا من عمل يده.
١ قرأها بالضم حمزة وخلف وقرأ الباقون بالفتح. غاية الاختصار برقم(٧٩٥)..
٢ رواه البخاري: البيوع كسب الرجل وعمله بيده(٢٠٧٣)، وأحمد: باقي مسند المكثرين(٢٧٣٧٧)عن أبي هريرة رضي الله عنه..
﴿ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ﴾
الآيات السابقة بينت أحوال القلوب إذا أظلمت والنفوس إذا انحرفت وعصت أمر ربها، وجعل حال بني إسرائيل في ماضيهم وحاضرهم مثلا واضحا بينا، فقد مالت قلوبهم عن الحق بعد أن جاءتهم البينات، وما من آية أتتهم لتزيدهم إيمانا إلا ازدادوا بها كفرانا، وما تركوا جريمة إلا ارتكبوها باسم أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، ومع ذلك الزعم يقتلون أنبياء الله ويعصون الآخرين من رسله، وهم يعاملون محمدا صلى الله عليه وسلم بما عاملوا به من سبقه من الأنبياء، غدروا بعد أن عاهدهم ووفى لهم، وحاولوا قتله غدرا، واشتركوا مع أعدائه لقهره ولكن الله تعالى منعه منهم ومكنه من رقابهم.
وبعد أن ذكر سبحانه ما يدل على شدة جحودهم، أشار سبحانه إلى أنه لا يلتفت إليهم، وأنه ليس بدعا من الرسل بل هو كمال السلسلة من النبوة التي اختارها الله تعالى من البشر، لتكون حجة الله تعالى إلى يوم القيامة : فقال عز من قائل :﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ﴾.
هذا النص مربوط في المعنى بقوله تعالى :﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك... ( ١٥٣ ) ﴾( النساء ).
وقد قالوا غير ذلك في آية أخرى فأنكروا الرسالة الإلهية جملة من بعد موسى، وقالوا :﴿... ما أنزل الله على بشر من شيء... ( ٩١ ) ﴾( الأنعام ) مبالغة في إنكار رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الآيات وما إليها بيان بوحي الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه مثل بقية الرسل، فما كان بدعا من الرسل بل هو في تلقي رسالة الله كسائر الرسل، ولذا قال تعالى :
﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ﴾
هذا بيان إجمالي يقرر أن الله تعالى أرسل رسلا كثيرة، قد قص بعضهم على النبي صلى الله عليه وسلم والآخر لم يقصه، والقص تتبع الأثر يقال قصصت أثره ثم أطلق على الأخبار المتتابعة، ونرى هنا أن ( قص ) متعدية، مفعولها المذكور من أخبارهم والمعنى على هذا في النص تتبعنا آثارهم وأخبارهم التي يكون في ذكرها عبرة لأولي الألباب، وليكون ضرب الأمثال للنبي صلى الله عليه وسلم في صبرهم، وإيذاء أقوامهم لهم، وإن الرسل الذين قصهم الله تعالى على نبيه من قبل كان في السور المكية، فإنها مملوءة بأخبارهم وفيه ذكرى النبوات الأولى السابقة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. وإن أكثر هؤلاء الذين قص الله تعالى أخبارهم ممن كانوا في البلاد العربية أو يجاورونها أو كانت له صلة بالنبي صلى الله عليه وسلم في نسب، أو كان الذين يدعون إتباعهم يجادلون النبي صلى الله عليه ونسلم ويمارون في دعوته.
وليست النبوة مقصورة في هؤلاء، إنما هناك نبوات ورسالات أخرى كانت في الأمم البعيدة مثل الصين والهند وغيرها من الأراضي التي سكنها أقوام كثيرون، وليس لنا إلا أن نفرض أن رسلا بعثوا إلى هؤلاء الأقوام، لأن الله تعالى يقول :﴿ أيحسب الإنسان أن يترك سدى ( ٣٦ ) ﴾( القيامة ) ولا شك أن تركهم من غير نبي مبعوث ترك لهم سدى، وذلك ما نفى الله تعالى في استنكار أن يقع وقد قال تعالى :﴿ وإن من أمة لا خلا فيها نذير ( ٢٤ ) ﴾( فاطر ).
ولذلك قال تعالى في هذا النص الكريم الذي نتكلم في معناه ﴿ ورسلا قد قصصناهم عليك ﴾ ونصبت "رسلا" على الاشتغال أي نصبت بفعل قد تضمن معناه الفعل الذي ولى المنصوب، والمعنى قصصنا رسلا من قبل :﴿ ورسلا قد قصصناهم عليك ﴾ ويكون الابتداء بذكر الرسل والاهتمام بهم لأنهم المقصودون، وأخبارهم وقصصهم جاء تبعا لهم وختم الله النص بقوله تعالى :﴿ وكلم الله موسى تكليما ﴾ هذا تخصيص لموسى عليه السلام بالذكر، ولم يذكر في ضمن من ذكوا من السابقين وذلك لأنه هو الذي نزلت عليه التوراة التي كانت شريعة لمن جاء بعده، ولأن اليهود الذي جحدوا بآيات الله كانوا يدعون الأخذ بشريعته ولأنه نزل به اختبار شديد بسبب بني إسرائيل الذين كانوا محل رسالته، وأخيرا لأنه اختص من بين المذكورين بأن الله تعالى كلمه، وقد جاء الصريح بأنه كلمه في هذا النص، وفي غيره ومن ذلك قوله تعالى في أول سورة طه :﴿ فلما أتاها نودي يا موسى( ١١ ) إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى( ١٢ ) وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى( ١٣ ) ﴾( طه ).
وإن هذا يدل على أن الله تعالى متصف بصفة الكلام، والمعتزلة من الفرق الإسلامية ينكرون نسبة صفة الكلام لله تعالى، ويذهب فرط غلو بعضهم إلى أن يفسروا قوله تعالى ﴿ وكلم الله موسى تكليما ﴾ بأن كلم من الكلم لا من الكلام أي أن الله تعالى اختبر موسى عليه السلام اختبارات شديدة كانت كالكلام والجروح، وتلك مغالاة في تفسير القرآن الكريم بالمذهبية، وقد أنكره الزمخشري وهو منهم وسماه من بدع التفاسير. والحق أن كلم من الكلام وقد أكد تكليم الله تعالى لموسى بالمصدر والظاهر من الكلام إذ أكد، كان غير قابل للمجاز ولا للتأويل وأنه يجب تفسير القرآن بظواهره وخصوصا الظواهر المؤكدة ولا تطغى الآراء المذهبية على المعاني القرآنية، فالقرآن منبع الحق ونور المتقين.
﴿ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ﴾
الآيات السابقة بينت أحوال القلوب إذا أظلمت والنفوس إذا انحرفت وعصت أمر ربها، وجعل حال بني إسرائيل في ماضيهم وحاضرهم مثلا واضحا بينا، فقد مالت قلوبهم عن الحق بعد أن جاءتهم البينات، وما من آية أتتهم لتزيدهم إيمانا إلا ازدادوا بها كفرانا، وما تركوا جريمة إلا ارتكبوها باسم أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، ومع ذلك الزعم يقتلون أنبياء الله ويعصون الآخرين من رسله، وهم يعاملون محمدا صلى الله عليه وسلم بما عاملوا به من سبقه من الأنبياء، غدروا بعد أن عاهدهم ووفى لهم، وحاولوا قتله غدرا، واشتركوا مع أعدائه لقهره ولكن الله تعالى منعه منهم ومكنه من رقابهم.
وبعد أن ذكر سبحانه ما يدل على شدة جحودهم، أشار سبحانه إلى أنه لا يلتفت إليهم، وأنه ليس بدعا من الرسل بل هو كمال السلسلة من النبوة التي اختارها الله تعالى من البشر، لتكون حجة الله تعالى إلى يوم القيامة : فقال عز من قائل :﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ﴾.
هذا النص مربوط في المعنى بقوله تعالى :﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك... ( ١٥٣ ) ﴾( النساء ).
وقد قالوا غير ذلك في آية أخرى فأنكروا الرسالة الإلهية جملة من بعد موسى، وقالوا :﴿... ما أنزل الله على بشر من شيء... ( ٩١ ) ﴾( الأنعام ) مبالغة في إنكار رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الآيات وما إليها بيان بوحي الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه مثل بقية الرسل، فما كان بدعا من الرسل بل هو في تلقي رسالة الله كسائر الرسل، ولذا قال تعالى :
﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ﴾
في هذا النص الكريم بيان لعمل الرسل، والحكمة من بعثهم، وقد أرسل هؤلاء مبينين الحق داعين إليه، يبشرون الطائعين بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وينذرون العاصين بسوء العقبى، وإن واتاهم نفع في الدنيا فالعذاب الأليم يستقبلهم في الآخرة.
وكان بعث الرسل لكي يكون الذين يعصون على علم بما يستقبلهم والذين يطيعون على بينة بأوامر ربهم ويكون الذين يعذبون ليس لهم عذر من جهل، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾. أي لكي يسقط كل اعتذار للعصاة في عصيانهم بعد البيان الحكيم والإرشاد المبين فمن ضل فعن بينة، والله سبحانه برحمته وفضله ومنه يسمي ذلك حجة عليه. ﴿ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون( ٢٣ ) ﴾( الأنبياء ).
وقد قال المعتزلة : إن لله دائما الحجة على خلقه بالعقل الذي أودعه خالقهم، وهو هاد مرشد ولكن إرسال الرسل رحمة من الله تعالى، ولذا قال الزمخشري في تفسير النص : الرسل منبهون من الغفلة وباعثون على النظر كما يرى علماء أهل العدل والتوحيد( أي المعتزلة ) مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين، وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة لئلا يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له.
والحق أن الناس لا يهتدون في جملتهم إلى الشرائع الصحيحة، بل هم بعدها مراتب منهم من يهتدون بمجرد بيان الحق، ومنهم من لا يقنعون إلا بالبرهان الملزم ومنهم من لا يطيعون إلا بالتهديد ومنهم عصاة جائرون بائرون.
وقد ختم سبحانه الآية بقوله ﴿ وكان الله عزيزا حكيما ﴾ أي أنه القادر الغالب على كل شيء وهو الحكيم الذي يدبر الأمر بحكمته وعزته.
{ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى
بالله شهيدا }
الآيات السابقة بينت أحوال القلوب إذا أظلمت والنفوس إذا انحرفت وعصت أمر ربها، وجعل حال بني إسرائيل في ماضيهم وحاضرهم مثلا واضحا بينا، فقد مالت قلوبهم عن الحق بعد أن جاءتهم البينات، وما من آية أتتهم لتزيدهم إيمانا إلا ازدادوا بها كفرانا، وما تركوا جريمة إلا ارتكبوها باسم أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، ومع ذلك الزعم يقتلون أنبياء الله ويعصون الآخرين من رسله، وهم يعاملون محمدا صلى الله عليه وسلم بما عاملوا به من سبقه من الأنبياء، غدروا بعد أن عاهدهم ووفى لهم، وحاولوا قتله غدرا، واشتركوا مع أعدائه لقهره ولكن الله تعالى منعه منهم ومكنه من رقابهم.
وبعد أن ذكر سبحانه ما يدل على شدة جحودهم، أشار سبحانه إلى أنه لا يلتفت إليهم، وأنه ليس بدعا من الرسل بل هو كمال السلسلة من النبوة التي اختارها الله تعالى من البشر، لتكون حجة الله تعالى إلى يوم القيامة : فقال عز من قائل :﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ﴾.
هذا النص مربوط في المعنى بقوله تعالى :﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك... ( ١٥٣ ) ﴾( النساء ).
وقد قالوا غير ذلك في آية أخرى فأنكروا الرسالة الإلهية جملة من بعد موسى، وقالوا :﴿... ما أنزل الله على بشر من شيء... ( ٩١ ) ﴾( الأنعام ) مبالغة في إنكار رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الآيات وما إليها بيان بوحي الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه مثل بقية الرسل، فما كان بدعا من الرسل بل هو في تلقي رسالة الله كسائر الرسل، ولذا قال تعالى :
﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ﴾
جحد أهل الكتاب وكفروا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا إليه أن يأتي بشهادة من عند الله، وعينوا الشهادة بأن تكون كتابا كما قال تعالى :﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء...( ١٥٣ ) ﴾( النساء ) فرد سبحانه وتعالى عليهم بقوله تعالى :﴿ لكن الله يشهد بما أنزل إليك ﴾ فالاستدراك هنا عن مستدرك من كلامهم وجحودهم، فالمعنى إذا كانوا لا يقرون بالحق ويذعنون له، فالله تعالى شاهد بالحق وأي بينة أجل من بيان الله تعالى تلزم المنكرين أنى يكونون، والشهادة هي قول الحق المبني على اليقين القاطع، وشهادة الله أقوى وثيقة في هذا الوجود، وكانت شهادته بالإعجاز في القرآن المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد أنزله الله تعالى بعلمه وإرادته وحكمته فهو حجة النبي صلى الله عليه وسلم وشهادة الله تعالى بالصدق. وشهادة الملائكة تبع لشهادة الله تعالى، وشهادتهم تكون يوم القيامة، يوم الحساب والعقاب، فشهادة الله تعالى للنبي وعليهم، وشهادة الملائكة عليهم يوم الحساب والعقاب.
وقد ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله :﴿ وكفى بالله شهيدا ﴾ أي أنه لا عبرة بإنكار المنكرين بعد شهادة الله تعالى، ففيها عزة الحق وخفض الباطل، ولم تذكر هنا شهادة الملائكة لأنها تبع لشهادة الله تعالى، وفي ذكر المتبوع غناء عن التابع، والله سبحانه وتعالى على كل شيء شهيد.
﴿ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا( ١٦٧ ) إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا( ١٦٨ ) إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا( ١٦٩ ) ﴾.
في الآيات السابقة كان الكلام في أحوال اليهود، وسائر الكافرين وبين سبحانه كيف كانت تأتيهم المعجزات القاهرة والبينات الباهرة ومع ذلك يستمرون في إنكارهم ويلجون في عنادهم ويطلبون آيات أخرى، والمآل الكفران، حتى إن بعضهم في الماضي ليسألون موسى أن يريهم الله جهرة، وبعضهم في عصر نزول آية يطلب آية أخرى والنبي يتحداهم بالقرآن أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله ولو مفتراة، وهو يجادلهم بالتي هي أحسن. وقد بين سبحانه أنه تعالى أرسل الرسل ليقيم الحجة، ويختار من عباده للرسالة من يشاء، وإنكارهم لا يجديهم ولا يهديهم، ولا ينجيهم بل إن العقاب يوم القيامة يترقبهم وإنهم بقدر لجاجتهم في الإنكار يبتعدون عن طريق الهداية، وأوغلوا في طريق الغواية حتى يصلوا في طريق جهنم إلى نهايته، وأنهم لخالدون فيها، وقد قال سبحانه وتعالى :﴿ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا ﴾
﴿ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا ﴾ "صد" يستعمل متعديا، ومصدره "الصد"، وقد تستعمل كلمة "صد" لازما، ويكون مصدرها الصدود، وقد جاء في مفردات الأصفهاني معنى الصد :"الصد والصدود قد يكونان انصرافا عن الشيء وامتناعا نحو ﴿ يصدون عنك صدودا ( ٦١ ) ﴾( النساء )، وقد يكون صدا ومنعا نحو :﴿ وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل( ٢٤ ) ﴾( النمل ) ونحو :﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله( ١ ) ﴾( محمد ) وكما قال تعالى :﴿ ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك( ٨٧ ) ﴾( القصص )".
والصد هنا في هذا النص الكريم بمعنى التعدي، فمعنى النص السامي، إن الذين جحدوا بالحق إذ جاءهم ولا يكتفون بانصرافهم عن الإذعان والإيمان بل يصدون غيرهم ويمنعونهم من الحق بإثارة الشبهات وإيقاد الفتن بين المؤمنين، يوغلون في الضلال، ويسيرون في طريقه سيرا بعيدا.
ويتضمن ذلك المعنى أمورا :
أولها : أن الكفر بطبيعته انصراف عن الحق وصدود عن طريقه، ولذلك فسرنا كلمة ﴿ وصدوا عن سبيل الله ﴾ بمعنى منع غيرهم من سلوك الأقوم والهادي إلى الحق الذي لا ريب فيه، وإن الذي يصد غيره قد ابتدأ بصد نفسه فالمضل لغيره هو ذات نفسه ضال، فإن الإضلال من ثمرات الضلال، ولا يضل الناس إلا ضال، وقد ضل مرتين إحداهما بإنكاره للحق، والثانية بمحاولته إضلال غيره.
وثانيها : أن الضلال البعد عن الطريق المستقيم فمن ضل فقد بعد عن الحق، ومن أضل غيره فقد بعد عن الحق بمقدار أوسع، وهكذا كلما سار في التضليل وفتنة المهتدين وإيذائهم وإثارة الشبهات بينهم فهو يسير موغلا في البعد عن الطريق المستقيم، وهذا معنى قوله قد ضلوا ضلالا بعيدا.
ثالثها : أن قوله تعالى ﴿ قد ضلوا ضلالا بعيدا ﴾ فيه استعارة تمثيلية لأن فيه شبيه حال الذين يمعنون في الغي والفساد وإنكار الحقائق عندما يلحفون في الإنكار، وإثارة الشبه بحال الذين يسيرون في بيداء وقد ضلوا الطريق وساروا على غير هدى فكلما ساروا بعدوا عن الجادة وكان سيرهم ضلالا بعيدا لا يهتدون من بعد إذ لا يجدون من يهديهم إلى سواء الصراط.
الأمر الرابع : أن النفس البشرية قد هداها الله تعالى النجدين طريق الحق، وطريق الباطل وألهمها فجورها وتقواها فإذا اتجهت إلى الخير سارت فيه، وكلما كثرت خيراتها زاد فضلها، وإذا انحرفت عن الطريق السوي أو سارت فيه فإذا نبهت من قريب عادت إلى الفطرة والحق وأمامها الأمارات والعلامات المبينة المرشدة، وإذا لم تنتبه من قريب سارت في الشر وبمقدار سيرها تأخذ أمارات الحق تختفي أمامها، حتى تنطمس فلا ترى، ولذلك لا يكون ثمة أمل في العودة إلى الجادة لأنه قد اختفت في النفس أمارات الحق، وانطفأ نوره ولذا قال سبحانه :﴿ إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا ﴾.
﴿ إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا ﴾
في الآيات السابقة كان الكلام في أحوال اليهود، وسائر الكافرين وبين سبحانه كيف كانت تأتيهم المعجزات القاهرة والبينات الباهرة ومع ذلك يستمرون في إنكارهم ويلجون في عنادهم ويطلبون آيات أخرى، والمآل الكفران، حتى إن بعضهم في الماضي ليسألون موسى أن يريهم الله جهرة، وبعضهم في عصر نزول آية يطلب آية أخرى والنبي يتحداهم بالقرآن أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله ولو مفتراة، وهو يجادلهم بالتي هي أحسن. وقد بين سبحانه أنه تعالى أرسل الرسل ليقيم الحجة، ويختار من عباده للرسالة من يشاء، وإنكارهم لا يجديهم ولا يهديهم، ولا ينجيهم بل إن العقاب يوم القيامة يترقبهم وإنهم بقدر لجاجتهم في الإنكار يبتعدون عن طريق الهداية، وأوغلوا في طريق الغواية حتى يصلوا في طريق جهنم إلى نهايته، وأنهم لخالدون فيها، وقد قال سبحانه وتعالى :﴿ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا ﴾
الظلم هنا ظلم النفس وظلم الغير، وأولئك الذين كفروا ولجوا في كفرهم واسترسلوا في جحودهم قد ظلموا أنفسهم بأن أبعدوها عن طريق الهداية وطمسوا نور الحق فيها وارتكبوا من المآثم ما تردوا به في مهاوي الرذيلة. وظلموا غيرهم بأن أثاروا الشبهات ليضلوهم، وأوقعوا بهم الأذى ليفتنوهم والوصفان لطائفة واحدة من الناس، فهم اتصفوا بالجحود المطلق، والظلم وهي الطائفة الموصوفة بالأوصاف السابقة فالأوصاف الأولى كانت الكفر، والصد عن طريق الحق والأوصاف الثانية هي الكفر والظلم، فالكفر مشترك والاختلاف في الصد والظلم وهما متلاقيان لأن الإعراض عن الحق ظلم للنفس ومنع الغير من الحق ظلم له، كما أن الأذى والفتنة في الدين ظلم لا ريب فيه، لأنه تضييق على حري الاعتقاد، وإكراه في الدين ولا ظلم أبلغ من سلب الحرية الدينية، وإرهاق المؤمن في إيمانه.
وإن الذين يوغلون في الجحود والظلم لا ترجى لهم توبة، وإذا كانت توبتهم لا ترتجى فالغفران لهم لا يرجى لأن الغفران نتيجة التوبة من الجاحدين الظالمين، وما كانت التوبة للذين يعملون السيئات وتستغرق نفوسهم، ولا يتجهون إلى الله قط، ولذلك قال تعالى :﴿ لم يكن الله ليغفر لهم ﴾ اللام في قوله تعالى :﴿ ليغفر لهم ﴾ هي التي تسمى في اصطلاح النحويين لام الجحود، أي لام النفي المطلق، أي النفي الذي يكون ناشئا عن طبيعة موضوعة، وعلى ذلك يكون المعنى لم يكن من حكمة الله تعالى، وتدبيره الحكيم أن يغفر لهم، لأن حالهم تنفي الغفران إذ تنفي سببه، وهو الإقلاع عن الكفر والظلم والندم على ما وقع منهم، وإذا كان ذلك لا يتحقق فالنفي المؤكد، والجحود المطلق لاستحقاق المغفرة مؤكد، إذ لا يقابل جحودهم بالله إلا جحود الغفران لهم، وإن الهداية إلى الحق تبتدئ بالاتجاه السليم إلى طلبه والسير في طريقه المستقيم وأولئك الذين أوغلوا في الشر وساروا في طريقه أو غابوا في صحرائه وبعدوا عن الجادة لا يمكن أن يهديهم الله تعالى إلى الطريق المستقيم، لأنهم بعدوا عنه بعدا شديدا، ولا يمكن أن يسمعوا نداء الحق، لأنه لا يصل إليهم صوته، وقد اختفت من قلوبهم أماراته، فهداية الله تعالى إنما تكون لمن لم يبعد عن طريق الخير ولا تكون إلا إذا اتجهت النفوس إلى طلبه، ولم تحط بها الخطايا ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال( ١١ ) ﴾( الرعد ).
والآية الكريمة تتضمن بيان حقائق :
الأولى : أن الظلم وإرهاق النفس بالإكراه أشد الموبقات التي توبق أعمال العبيد، وترهقهم وإن ظلم العباد لا يغفره الله تعالى إلا إذا عفا الذين وقع الظلم عليهم، ولذلك ذكر امتناع الغفران مقرونا بالظلم ومسببا له وثمرة مترتبة عليه.
والثانية : أن هداية الله تعالى تكون للنفس الصالحة لقبولها، فهي استجابة من الله تعالى لمن يطلبها ولا يطلبها من أركس في الشر إركاسا، فمن طلب الهداية نالها ومن تنكب سبيلها سلب الله تعالى عنه هدايته.
الثالثة : أن التوبة أساس الغفران والتوبة ندم على الذنب وإقلاع عنه، واعتزام على عدم العودة.
﴿ إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا ﴾
في الآيات السابقة كان الكلام في أحوال اليهود، وسائر الكافرين وبين سبحانه كيف كانت تأتيهم المعجزات القاهرة والبينات الباهرة ومع ذلك يستمرون في إنكارهم ويلجون في عنادهم ويطلبون آيات أخرى، والمآل الكفران، حتى إن بعضهم في الماضي ليسألون موسى أن يريهم الله جهرة، وبعضهم في عصر نزول آية يطلب آية أخرى والنبي يتحداهم بالقرآن أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله ولو مفتراة، وهو يجادلهم بالتي هي أحسن. وقد بين سبحانه أنه تعالى أرسل الرسل ليقيم الحجة، ويختار من عباده للرسالة من يشاء، وإنكارهم لا يجديهم ولا يهديهم، ولا ينجيهم بل إن العقاب يوم القيامة يترقبهم وإنهم بقدر لجاجتهم في الإنكار يبتعدون عن طريق الهداية، وأوغلوا في طريق الغواية حتى يصلوا في طريق جهنم إلى نهايته، وأنهم لخالدون فيها، وقد قال سبحانه وتعالى :﴿ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا ﴾
الاستثناء هنا من ختام الآية السابقة أي أن الله تعالى لا يوصلهم إلى طريق إلا طريق جهنم، ويكون معنى الهداية التوصيل وليس التوصيل إلى جهنم فيه نوع من الهداية، بل هو التردي في الهاوية وكان التعبير عن الهداية من قبيل المشاكلة اللفظية وفيه نوع من التهكم في مثل قوله تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ( ٢٤ ) ﴾( الانشقاق ).
وفي الكلام تنبيه إلى أن أعمالهم تنتهي بهم لا محالة إلى جهنم وعذابها الشديد فإذا كانوا ممن يظنون أنفسهم في سعادة في الدنيا فسيجدون الألم الشديد، ﴿ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون( ٣ ) ﴾( الحجر ).
وقد ذكر الله سبحانه أنهم خالدون في جهنم أبدا، فأكد سبحانه العذاب بأنه عذاب خالد دائم، فوصفهم بأنهم خالدون على وجه التأبيد، وقد وصفهم بالخلود الدائم في العذاب ولم يصف العذاب للإشارة إلى أنهم متلبسون به ولتصوير الآلام التي تنزل بهم، وأنهم لا خلاص لهم منها، بل هي ملازمة لهم ملازمة الوصف للموصوف.
وقد قال الأصفهاني في معنى الخلود : الخلود هو تبري الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، وكل ما يتباطأ التغيير والفساد فيه تصفه العرب بالخلود ويقال خلد يخلد خلودا قال تعالى :﴿ لعلكم تخلدون ( ١٢٩ ) ﴾( الشعراء ).
والخلد إسم للجزء الذي يتبقى من الإنسان على حالته وأصل المخلد الذي يبقى مدة طويلة والخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي عليها من غير اعتراض الفساد عليها، قال تعالى :﴿ وكان ذلك على الله يسيرا ﴾.
والأبد قال فيه الراغب :"مدة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ وأبد يأبد بقي أبدا، ويعبر به عما يبقى مدة طويلة". وإن تفسير الخلود على ما ذكره الراغب يقتضي بقاء الناس يوم القيامة بأبدانهم من غير أن يعتريها فساد ولا فناء ولا تحلل أجزاء، فأهل الجنة يبقون بقاء تمتع ونعيم وأهل النار تبقى أجسامهم في شقاء وعذاب أليم، لا تبليها النار ولا يفنيها العذاب، ولا يذهب بالحساسية فيها توالي الاكتواء، ﴿ كلما نضجت جلودها بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما ( ٥٦ ) ﴾( النساء ). والأبدية معناها الدوام، كما دل على ذلك مجموع النصوص القرآنية، وإن تأكيد الخلود بالأبدية يدل على بقاء العذاب والنعيم.
ذيل الله سبحانه وتعالى الآيات بهذا ليبين لهم أن الله تعالى غالب على كل شيء وأن عذابهم أمر يسير عليه، لإبطال زعمهم في أنهم لا يقدر عليهم أحد، ذلك أن كل طاغية من طغاة الدنيا سبب طغيانه واسترساله في شره ظنه أن لن يقدر عليه أحد، مع أن الله تعالى هو القاهر فوق عباده، اللهم أبعد عن خلقك طغيان الطاغين، وغرور المغترين وارزق المؤمنين الأمن والاطمئنان.
﴿ يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما( ١٧٠ ) يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا( ١٧١ ) ﴾.
كان كل الكلام السابق في شأن الذين لجوا في الإنكار من اليهود حتى لقد سألوا أن يأتي لهم النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب من السماء يقرءونه، وكان حاضرهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كماضيهم، وفي هذه الآيات بيان منزلة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يخاطب الناس جميعا برسالته، ويدعوهم إلى شريعته وإشارة إلى طائفة أخرى من أهل الكتاب غالوا في تقدير رسولهم وهم النصارى، فإذا كان اليهود قد لجوا في الإنكار والجحود بالنسبة لرسولهم الذي أنقدهم من فرعون وطغيانه الذي كان يذبح أبناءه ويستحي نساءهم. فالنصارى قد غالوا في تقدير رسولهم حتى جعلوه إلها، وجعلوا الآلهة ثلاثة استرسالا في المغالاة في تقدير المسيح عيسى عليه السلام، وهو بريء مما يقولون
﴿ يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم ﴾ الخطاب للناس أجمعين : أهل الشرك وأهل الكتاب والعرب والعجم، والأبيض والأسود والقريب الداني، والبعيد القاصي، فهي رسالة عامة لا تختص بالجنس، ولا لون ولا إقليم فإذا كان موسى يخاطب بني إسرائيل، فمحمد صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس أجمعين.
وذكر الرسول معرفا بالألف واللام لمعنى كمال الرسالة فيه، فهي للتعيين بالكمال المطلق أي أنه رسول الأجيال اللاحقة ولا رسالة من بعده فالتعريف هنا للكمال المطلق في الرسالة، وكان كمالها في عمومها وفي كمال الشريعة التي جاءت بها وصلاحيتها لكل الأزمان والأقطار والأمصار ورسالتها فوق ذلك فيها الأحكام الخالدة من كل الرسالات السابقة فمن آمن به فقد آمن بالرسالات كلها، ومن كفر برسول من السابقين فقد كفر برسالته فرسالته هي جماع الرسائل، وهي أوسطها وأشملها وأمثلها.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى فضل رسالته وكمالها وعمومها بثلاثة أمور :
أولها : في قوله تعالى ﴿ قد جاءكم ﴾ أي بعث هذا الرسول الأمين الكامل في معنى الرسالة وأدائها. قد جاءكم أيها الناس جميعا، فهي رسالة جاءت لصالحكم جميعا، أي لصالح البشرية كلها، لا لجزء من أجزائها.
ثانيها : التعبير بقوله تعالى ﴿ بالحق ﴾ أي مقرونة بالحق مصاحبة له متلبسة به، فهي حق ثابت مستقر موافق لفطرة البشر أجمعين لا يأتيه باطل قط. وما كان حقا ملائما لفطرة البشر لا بد أن يكون عاما، شاملا لا يختص بمكان ولا بزمان ولا بعصر من الصور.
ثالثها : قوله تعالى ﴿ من ربكم ﴾ أي أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم جاءت من ربكم الذي خلقكم وقام على أموركم الذي يعلم ما فيه نفعكم، وما فيه خيركم ولا يرضى لعباده إلا النفع لعمومهم.
ولذلك كان الإيمان بهذه الرسالة والإذعان لها أمرا واجبا لمصلحة الناس أجمعين، فقال سبحانه :
﴿ فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات و الأرض ﴾ الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، وتقدير الكلام : إذا كان ذلك الرسول هو الكامل في رسالته التي جاءت بالحق تلازمه ويلازمها، وفيها مصلحة لكم لأنها من عند ربكم، فآمنوا خيرا لكم، أي فأذعنوا للحق وصدقوه واعملوا به خيرا لكم. وهنا أمران لفظيان فيهما توضيح المعنى وكشف لبعض أسرار البلاغة القرآنية.
أولهما : في قوله "فآمنوا" فلم يقل آمنوا به، بل أطلق الإيمان للإشارة إلى أن الإخلاص وحده وهو الإذعان للحق، وعدم التمرد عليه لسبق الإلحاد، والإنكار هو الذي يفتح القلوب للحق، وتصديق ما أنزله الله تعالى على رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.
ثانيهما : قوله تعالى :﴿ خيرا لكم ﴾ ونصبت كلمة "خيرا" وصفا لمحذوف تقديره آمنوا إيمانا هو خير لكم أو مفعولا لمحذوف وتقديره آمنوا قاصدين خيرا لكم، ويصح أن تكون خبرا لكان المحذوفة في فعل شرط وجوابه، والمعنى إن تؤمنوا يكن خيرا لكم، وذلك مثل ( كل امرئ مجزى بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر ).
ومهما يكن فإن النص الكريم يبين أن الإيمان فيه الخير المطلق، لأنه الحق ولأنه من عند رب العالمين.
هذا فضل الإيمان وما فيه من خير وأما الكفر فإنه الضرر كله للعباد، ولا يرضى سبحانه وتعالى الكفر لأنه لا يرضى ما يضرهم وأما هو سبحانه فإنه لا يضره شيء من كفرهم لأنه المالك لكل شيء مالك لكل السماوات من أفلاك ونجوم ومدارات، وما تحوي من كائنات، وما في الأرض مما هو على ظاهرها وما في باطنها، فهو المالك والسلطان القاهر، فلا يضيره كفر العباد، وإن كل لا يرضاه ويرضى إيمانهم وإن كان لا ينفعه، وهذا تقريب لمعنى قوله تعالى :
﴿ وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات و الأرض وكان الله عليما حكيما ﴾ هذا ختام النص الكريم فيه وصف الله الدائم بالعلم المحيط الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وبالحكمة وحسن التدبير والإبداع في ملكوت السماوات والأرض، إذ يسير الكون بنظام محكم التقدير والتدبير وبنواميس وأسرار كونية لا يعلمها إلا العليم الخبير الذي خلق كل شيء فقدره وأحسن تقديره، وأنه كان من مقتضى علمه ألا يخفي ضلال الضالين، ولا هداية المهتدين، وكان من مقتضى حكمته، أن يجزي بالكفر عذابا وبالإيمان نعيما وأن يجعل من عباده الشكور المهتدي ومنهم من ضل وغوى.
﴿ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ﴾
كان كل الكلام السابق في شأن الذين لجوا في الإنكار من اليهود حتى لقد سألوا أن يأتي لهم النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب من السماء يقرءونه، وكان حاضرهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كماضيهم، وفي هذه الآيات بيان منزلة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يخاطب الناس جميعا برسالته، ويدعوهم إلى شريعته وإشارة إلى طائفة أخرى من أهل الكتاب غالوا في تقدير رسولهم وهم النصارى، فإذا كان اليهود قد لجوا في الإنكار والجحود بالنسبة لرسولهم الذي أنقدهم من فرعون وطغيانه الذي كان يذبح أبناءه ويستحي نساءهم. فالنصارى قد غالوا في تقدير رسولهم حتى جعلوه إلها، وجعلوا الآلهة ثلاثة استرسالا في المغالاة في تقدير المسيح عيسى عليه السلام، وهو بريء مما يقولون
نهى في هذا النص الكريم عن الغلو في الدين، والغلو هو تجاوز الحد سلبا أو إيجابا، وقد تجاوز اليهود الحد في شأن عيسى عليه السلام، فأنكروا رسالته لعنة الله عليهم، واتهموا أمه البتول، وغالى فيه النصارى حتى أخرجوه من مرتبة البشرية مع أن البشرية واضحة فيه، وفي ولادته وفي حياته وفي كونه لحما ودما يحيا ويموت ويأكل ويشرب كما يأكل سائر البشر، وإذا كان الغلو في شأن عيسى وقع من اليهود ومن النصارى فإنه يصح أن يكون الخطاب موجها إلى الفريقين باعتبار أن الغلو وقع مستمرا، فيكون النهي عن الاستمرار ولكن سياق القول يدل على أن أهل الكتاب المخاطبين في هذه الآية هم النصارى لأنه سبحانه وتعالى يقول :﴿ إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا ﴾ إلى آخره، فالسياق في خطاب النصارى ومغالاة اليهود بشأن عيسى قد سبق بيانها آنفا.
ولقد أردف الله سبحانه النهي عن المغالاة بتجاوز الحق، وبالأمر بالحق فقال تعالى :﴿ ولا تقولوا على الله إلا الحق ﴾.
أي لا تقولوا يا معشر النصارى على الله إلا الحق الثابت القائم على الدليل المقنع، لا على الوهم البعيد، وفي هذا النص السامي إشارات إلى معان فإن أقوالهم التي قالوها غير الحق هي افتراء وكذب على الله تعالى وكذلك عدى القول فقال على الله، لأن القول يتضمن معنى الافتراء وفوق ذلك إنها لا تعتمد على الحق الثابت، وتناقض الدليل الواضح، والبرهان القاطع قائم في أن عيسى ولد، والإله لا يولد، وعيسى كان يأكل ويشرب والإله ليس كذلك وقد زعموا أنهم قتلوه والإله لا يقتل، وزعموا أنه قتل افتداء للخليقة عن عصيان آدم لله تعالى، وليس من المعقول في أي منطق أن يفتدي الله الخليقة عن عصيان أبيها بتمكينهم من قتل ابنه في زعمهم، فإن ذلك القتل جريمة أشد وأشنع، وإذا كانت الأولى تحتاج إلى فداء، فالثانية لا يغني عنها فداء، ولكن هكذا سوغ الوهم لهم.
وإذا كان ما قلوا باطلا، لا يمت إلى الحق بسبب، فالحق هو ما قرره الله تعالى في قوله تعالت كلماته :
﴿ إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ﴾ صدر الكلام بأداة القصر، وهي "إنما" ومعنى القول ليس المسيح عيسى ابن مريم إلا رسول الله أرسله لهداية الحق، وهو قد نشأ بكلمته ونفخ بروح منه في مريم فكان من بعد بشرا سويا، وهو في إيجاده آية قدرة الله تعالى على الخلق من غير تقيد بالأسباب التي تجري بين الناس، فهو سبحانه خالق الأسباب والمسببات بديع السماوات والأرض وليس له ولد :﴿ لم يلد ولم يولد( ٣ ) ولم يكن له كفوا أحد ( ٤ ) ﴾( الإخلاص ).
ولا بد أن تعرض بقليل من البيان لثلاث عبارات : الأولى التعبير ب ﴿ المسيح عيسى ابن مريم ﴾ والثانية ﴿ وكلمته ألقاها إلى مريم ﴾ والثالثة ﴿ وروح منه ﴾ فقد تعلقت الأوهام بالعبارتين الأخريين، فوجب بيانهما مع أن الأولى إزالة لأوهامهم.
أما العبارة الأولى وهي ﴿ المسيح عيسى ابن مريم ﴾ فإن الله تعالى قد ذكر أنه المسيح وأنه عيسى وأنه ابن مريم فأما الأول فهو الإسم الذي يذكر به في القرآن وذكر بجواره عيسى للإشارة إلى أنه شخص ككل الشخوص فيه إشارة إلى بشريته والتصريح بالبشرية في قوله تعالى "ابن مريم" فهو مولود خرج من رحم أنثى كما يخرج الأولاد من أمهاتهم وإذا كان لم يخرج من صلب أب، فإنه قد خرج من رحم أم، وحسبنا ذلك دليلا على البشرية المطلقة، وفي ذكر الأم من غير ذكر أب دليل على أنه لا ينتسب إلى أب قط، فليس ابن يوسف النجار وليس ابن الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا.
والعبارة الثانية وهي ﴿ كلمته إلى مريم ﴾ فإن الكلمة هنا قد تكون مجملة ولكنها ذكرت في آيات مبينة ذكرت في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، فقد قال تعالى في شأن خلق عيسى عليه السلام :﴿ واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت من أهلها مكانا شرقيا( ١٦ ) فاتخذت من دونهم حجاجا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا( ١٧ ) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا( ١٨ ) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا( ١٩ ) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا( ٢٠ ) قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا( ٢١ ) ﴾( مريم ) }.
هذا ما جاء في سورة مريم وقد جاء في سورة آل عمران :﴿ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون( ٤٧ ) ﴾( آل عمران ).
وقال في شأن خلق عيسى من غير أب :﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون( ٥٩ ) ﴾( آل عمران ).
وبهذا يتبين أن الله سبحانه وتعالى خلقه بكلمة منه، وهو "كن"، كما خلق آدم وكان عيسى بهذا كلمة الله لأنه خلقه بها، فقد خلق من غير بذر يبذر في رحم أمه، فما كان تكوينه نماء لبذر وجد، وللأسباب التي تجري بين الناس بل كان السبب هو إرادة الله وحده وكلمته "كن" وبذلك سمي كلمة الله. وتعلق النصارى بأن كون عيسى كلمة الله دليل على ألوهيته، وما كانت الكلمة من الله إلها يعبد، فضلا عن أنه سمي بذلك لأنه فعلا نشأ بكلمة لا بمني الرجل يمنى، بل كلمته التكوين ألقاها ( أي أوصلها ) إلى مريم فكان التكوين لعيسى.
والعبارات الثالثة ﴿ وروح ﴾ وهذه أيضا من العبارات التي تعلقت بها أوهامهم إذ قد فتحوا باب الوهم فيها حتى غشي عقولهم فحجبها فظنوا أن هذه الكلمة تدل على معنى الألوهية في عيسى.
وإن تتبع هذا اللفظ في القرآن يدل على أنه يراد به أحيانا الروح التي ينشئها الله تعالى في الأبدان وينفخ فيها وتكون بمعنى الملك جبريل عليه السلام، وتكون بمعنى رحمة وليس في ذلك ما يدل على الربوبية أو الألوهية فيمن تقال فيه أو يسمى باسمه، وقد قيل المعنيان الأولان في شأن عيسى وشأن أمه، فقد قال في شأن أمه مريم البتول :﴿ فنفخنا فيها من روحنا ( ٩١ )( الأنبياء ) وهو جبريل عليه السلام، وقد ذكرنا من قبل قوله تعالى :{... فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا( ١٧ ) ﴾( مريم ).
وعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى :﴿ وروح منه ﴾ أي أنه سبحانه أنشأه بروح مرسل منه، وهو جبريل الأمين، وقد يقال أنه نشأ بروح منه سبحانه، أي أنه أفاض بروحه في جسمه كما أفاض بها على كل إنسان، ولقد قال تعالى :﴿ الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين( ٧ ) ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين( ٨ ) ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ( ٩ ) ﴾( السجدة ) والأول أولى.
وعلى ذلك يكون معنى قوله ﴿ وروح منه ﴾ أي أنه نشأ بنفخ الله تعالى الروح فيه من غير توسيط سلالة بشرية، ونطفة تتشكل إنسانا وذلك بالملك الذي أرسله وهو جبريل وقد تمثل لها بشرا سويا.
ولكن قد يسأل سائل لماذا سماه الله تعالى روحا، ونقول في الإجابة عن ذلك أن عيسى سمي روحا باعتباره نشأ من الروح مباشرة ولأنه غلبت عليه الروحانية وإن كان بشرا كسائر البشر يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق، ولهذا المعنى سمي روحا( ومن ) هنا للابتلاء أي أن الروح مرسل من عند الله تعالى ونافخ بإذنه.
وبهذا الكلام يزول الوهم الذي سلطه الله على عقول الذين غالوا في المسيح عليه السلام غلوا بعيدا فنحلوه ما ليس له، وما ليس من شأنه، وجعلوه إلها وابن إله ومنهم من جعل أمه مريم إلها، إلى آخر ما توهموا.
ولقد لج الوهم ببعضهم فظن أن في القرآن الكريم ما يدل على ما توهموا، فقد قالوا إن في القرآن ما يدل على أن عيسى عليه السلام مؤيد بروح القدس، فقد قال سبحانه :{ وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس( ٨٧ )( البقرة ).
ونقول في إزالة هذا الوهم إن روح القدس في القرآن عدة مرات في مقام التأييد لعيسى هو جبريل عليه السلام، وقد ذكر بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال تعالى :﴿ قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين( ١٠٢ ) ﴾( النحل ).
وإذن لا لبس ولا التباس، ويجب أن تفسر بذلك روح القدس التي جاءت في الأناجيل بالنسبة لعيسى، فقد جاء في إنجيل متى :"ولما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وجدت حبلى من الروح القدس" وبالتفسير المعقول المتفق مع نص القرآن الكريم يكون الحبل بنفخ من روح القدس جبريل، وقد جاء في الإنجيل ما يدل على أن روح القدس هو جبريل عليه السلام :"وهذا الرجل كان بارا تقيا ينتظر نفسه إسرائيل والروح القدس"، وجاء في الإصحاح الثاني من إنجيل متى آية٢٦( وكان قد أوحي إليه بالروح القدس ).
وإذا كان الحق في عيسى عليه السلام أنه رسول الله وأنه تعالى خلقه من غير طريق الأسباب المعتادة إذ خلقه بكلمة وأنه روح جاءت من قبل الله إذ نفخ جبريل الروح في مريم فكان منها الحبل، وأنه غلبته روحانية، إذا كان كذلك فيجب الإيمان بالحق، وإزالة الأوهام وكذا قال سبحانه :
﴿ فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم ﴾ أي إذا كانت تلك حقيقة المسيح وليس بابن إله، فآمنوا بالله وحده لا شريك له في العبادة ولا في السلطان وليس معه ثان ولا ثالث وليس بوالد ولا ولد، وآمنوا بالرسالة الإلهية وآمنوا بالرسل الذين سبقوا عيسى والرسول الذي جاء من بعده، ولا تكفروا بأحد منهم ولا تغالوا فتقولوا ثلاثة ولذا قال سبحانه :﴿ ولا تقولوا ثلاثة ﴾.
وعبر سبحانه وتعالى بقوله :﴿ ولا تقولوا ثلاثة ﴾ بدل قوله "ولا تؤمن بثلاثة أو لا تصدقوا بثلاثة أو لا تزعموا ثلاثة"، لأن أمر الثلاثة قول يقولونه فإن سألتهم عن معناه قالوا مرة الأب والابن وروح القدس أي أنهم ثلاثة متفرقون، ومرة يقولون ثلاثة أقانيم، والذات واحدة، فإن أردت تفسيرا لمعنى الثالث، قالوا كلاما لا يمكن أن تقبله العقول المستقيمة.
وإن الدارس لتاريخ النصرانية من غير تحيز لهذه الأوهام أو متحيز عليها يرى أنها في ابتدائها ديانة توحيد خالص، وأنه ما كانت ألوهية المسيح عندهم رائجة، ولا يعتنقها الأكثرون، بل كان الأكثرون على أن الله إله واحد ليس له ولد ولا والد، واستمر الحال كذلك إلى أن أراد قسطنطين أن يدخل في المسيحية، وقد كان وثنيا، ولكنه أراد أن يدخلها بعد أن يحرفها، فعقد مجمع ( نيقية ) سنة٣٢٥ ميلادية، وقد ادعى أن انعقاده للرد على أريوس الذي أنكر ألوهية المسيح، فكان المجتمعون أكثر من تسعمائة، وقد كانت الكثرة منكرة ألوهية المسيح، والذين قالوا ألوهية المسيح ٣١٨ فاكتفى بهم وأعلنوا الألوهية، وعلى رأسهم أسقف الإسكندرية، ودخل قسطنطين في المسيحية من بعد قرارهم، وقد استنكر أكثر المسيحيين ما قرره مجمع نيقية، ولذلك انعقد فوره مجمع ( صور ) ورفض دعوى ألوهية المسيح بالإجماع، ولكن استخدمت القوة والإرهاب لتشتيت المجتمعين وأخذت القوة تعلن الألوهية، وتخفي الوحدانية.
ولم يكن في ذلك الوقت أحد يقول إن روح القدس إله، حتى دعا أسقف الإسكندرية إلى عقد المجتمع القسطنطيني الأول سنة٣٨١، فقرر ألوهية روح القدس.
وبذلك قالوا ثلاثة وبتوالي العصور، وإخفات صوت المخالفين، وتقرير التثليث وتثبيته سيطرت الأوهام، واستقر الأمر على ثلاثة.
وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن أن يقولوا ثلاثة، وأكد سبحانه وتعالى النهي بقوله :﴿ انتهوا خيرا لكم ﴾ وفي التعبير ب "انتهوا" د
﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا( ١٧٢ ) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا( ١٧٣ ) ﴾.
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة مغالاة النصارى في تقدير السيد المسيح -عليه السلام-، وأنهم رفعوه إلى مرتبة الألوهية، وقالوا بألسنتهم إن الله ثالث ثلاثة من غير أن يحددوا معنى الألوهية في الاثنين اللذين زادوهما في أقوالهم ومن غير أن يميزوا علاقة الثلاثة بعضهم ببعض، إلا أن يقولوا المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، ودفعهم إلى ما يقولون أن عيسى ولد من غير أب، وأنه كان إنسانا روحانيا، فزعموا أنه ليس كغيره من رسل الله تعالى، واستنكفوا أن تكون علاقته بالله تعالى ( الخالق لكل شيء ) كعلاقة سائر العباد من حيث إنه مخلوق لرب العالمين، وفي هذه الآية يبين سبحانه أن علاقة المسيح -عليه السلام- بربه علاقة عبد بخالقه، وأنه لن يترفع عن هذه العلاقة، ولذا قال سبحانه :
﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ﴾ ومعنى النص الكريم : لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولن ينزل من مرتبته أن يكون من عبيد الله تعالى، فإن ذلك وضع للأمور في مواضعها، إذ هو مخلوق لله تعالى. روى أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لم تعيب صاحبنا ؟ فقال عليه السلام : ومن صاحبكم ؟ قالوا : عيسى ( عليه السلام ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وأي شيء أقول ؟ قالوا : تقول إنه عبد الله ورسوله. فقال لأمير القوم :"إنه ليس بعار أن يكون عبدا لله، قالوا : بلى"١.
وهنا بحثان لفظيان نريد أن نلم بهما بعض الإلمام.
أولهما : التعبير ب "لن" فإن هذا التعبير النافي فيه تأكيد للنفي وفيه بيان استمراره وفيه فوق ذلك إشارة إلى أن المنفي هو الأمر الذي لا يتصور العقل غيره، فلا يتصور العقل أن يترفع المسيح عن أن يكون عبدا لله، لأنه هو الذي خلقه، وهو الذي سواه، وهو الذي جعل له كل الصفات التي امتاز بها على غيره من الناس في عهده، إن الكمال للإنسان في أن يحس بعبوديته لله تعالى وحده، فذلك ليس عارا كما ذكر الرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن شكر المنعم هو كمال الإنسان والمنعم بنعمة الوجود ومجري النعم هو الله سبحانه وتعالى، فالعبودية له سبحانه شكر وهي كمال الصلة بين الله تعالى وخلقه.
وثانيهما : أصل معنى يستنكف أنها في مغزاها لن يأنف أو يترفع ولكن في أصل اللغة لها أصول ثلاثة.
أولها - أنها مشتقة من التنزيه فالفعل الثلاثي لها ( نكف )، دخله السين والتاء فيقال نكفت من الشيء واستنكفت منه، وأنكفته أي نزهته عما يستنكف منه، وروي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن معنى سبحان الله فقال - عليه السلام -"إنكاف الله عن كل سوء"٢ بمعنى تنزيهه عن كل سوء، ويكون معنى "لن يستنكف" : لن يتنزه عن أن يكون عبدا لله، فالعبودية ليس للبشر أن يتنزهوا عنها، بل عليهم أن يخضعوا لها.
ثانيها - أنها مأخوذة من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك عن خدك سترا لمظهر البكاء، ومنه الحديث :"ما ينكف العرق عن جبينه"٣ أي ما ينقطع، ومنه الحديث :"جاء بجيش لا ينكف آخره"٤. ومعنى ( لن يستنكف ) أي لن ينقطع أن يكون المسيح عبدا لله، وقد اختار ذلك الزجاج وارتضاه الزمخشري في الكشاف.
ثالثها : أنها مأخوذة من النكف وهو العيب ويكون المعنى "لن يعاب المسيح أن يكون عبدا لله" وكلها معان متلاقية.
وعطف سبحانه على المسيح - عليه السلام - الملائكة فقال :﴿ ولا الملائكة المقربون ﴾ أي لا يستنكف المسيح عن أن يكون عبدا لله، ولا يستنكف أيضا الملائكة المقربون إليه سبحانه كجبريل وإسرافيل وميكائيل، وحملة العرش فإن هؤلاء على روحانياتهم الكاملة، ومع أن الله تعالى خلقهم من غير أب ولا أم لا يترفعون، أن يكونوا عبيدا لله تعالى ؛ لأن الله تعالى خلقهم وهم المدركون لجلاله وكماله :﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون( ٦ ) ﴾( التحريم ).
ولقد أخذ الزمخشري من هذا النص أن الملائكة المقربين أعلى درجة من الأنبياء وقال في ذلك : ولا من هو أعلى قدرا وأعظم خطرا وهم الكروبيون الذين حول العرش كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في طبقتهم، فإن قلت من أين دل قوله تعالى ﴿ ولا الملائكة المقربون ﴾ على أن المعنى ولا من فوقه، قلت من حيث إن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وذلك أن الكلام سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية فوجب أن يقال لهم لن يترفع المسيح عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة، كأنه قيل لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية فكيف بالمسيح ! ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل :
وما مثله ممن يجاود حاتم** ولا البحر ذو الأمواج يلتج ذاخره
ولا شبهة في أن مقصده بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود، ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله تعالى :﴿ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى ( ١٢٠ ) ﴾( البقرة ) حتى يعترف بالفرق المبين.
وينتهي من هذا إلى أن الملائكة المقربين أفضل من عيسى عليه السلام، وعيسى من أولي العزم من الرسل فالملائكة أفضل من النبيين.
وقد خالفه في ذلك كثير من العلماء، وردوا عليه بردود لا تسقط مقدمة الدليل وهو كون النص يفيد الترقي من المفضول إلى الأفضل، فالمسيح مفضول، والملائكة المقربون أفضل، ولكنها تبطل النتيجة في ذاتها وهي كون الملائكة أفضل، ذلك لأن الحديث في الملائكة المقربين، فكيف تكون النتيجة أوسع وتعم الملائكة أجمعين، المقربين ومن دونهم ؟.
وعندي أن الترقي قائم، ولكن في المعنى الذي سيق له الكلام ذلك أن النصارى غلوا غلوا كبيرا في المسيح لأنه ولد من غير أب، ولأنه جرت على يديه معجزات كثيرة، ولأنه روحاني المعاني فبين الله سبحانه وتعالى أنه مع كل هذا لن يستنكف أن يكون عبدا لله، ولا يستنكف من هو أعلى منه في هذه المعاني وهم الملائكة الذين خلقوا من غير أب ولا أم، وأجرى على أيديهم ما هو أشد وأعظم من المعجزات، ومنهم من كان الروح الذي نفخ في مريم، وهم أرواح طاهرة مطهرة، فكان الترقي في هذه المعاني، وهم فيها يفضلون عيسى وغيره، وبذلك تكون الآيات بعيدة عن الأفضلية المطلقة، فلا تدل على أفضلية الملائكة على الرسل في المنزلة عند الله تعالى ورضوانه، وتكون الآية بعيدة عن موطن الخلاف، والترقي دائما يكون في المعاني التي سيق لها الكلام دون غيرها، وليس المتأخر أعلى في ذاته من المتقدم وأفضل ولكنه أعلى في الفعل الذي كان فيه كقول القائل لا تضرب حرا ولا عبدا فالتدرج هنا في النهي عن الضرب لأنه إذا كان ضرب العبد غير جائز فإن ضرب الحر من باب أولى غير جائز.
١ ذكره هكذا بلفظ "روى" : الزمخشري والنسفي والرازي والآلوسي والبيضاوي سببا لنزول الآية الكريمة..
٢ النهاية في غريب الحديث (نكف)..
٣ السابق..
٤ السابق..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧٢:﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا( ١٧٢ ) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا( ١٧٣ ) ﴾.
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة مغالاة النصارى في تقدير السيد المسيح -عليه السلام-، وأنهم رفعوه إلى مرتبة الألوهية، وقالوا بألسنتهم إن الله ثالث ثلاثة من غير أن يحددوا معنى الألوهية في الاثنين اللذين زادوهما في أقوالهم ومن غير أن يميزوا علاقة الثلاثة بعضهم ببعض، إلا أن يقولوا المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، ودفعهم إلى ما يقولون أن عيسى ولد من غير أب، وأنه كان إنسانا روحانيا، فزعموا أنه ليس كغيره من رسل الله تعالى، واستنكفوا أن تكون علاقته بالله تعالى ( الخالق لكل شيء ) كعلاقة سائر العباد من حيث إنه مخلوق لرب العالمين، وفي هذه الآية يبين سبحانه أن علاقة المسيح -عليه السلام- بربه علاقة عبد بخالقه، وأنه لن يترفع عن هذه العلاقة، ولذا قال سبحانه :
﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ﴾ ومعنى النص الكريم : لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولن ينزل من مرتبته أن يكون من عبيد الله تعالى، فإن ذلك وضع للأمور في مواضعها، إذ هو مخلوق لله تعالى. روى أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لم تعيب صاحبنا ؟ فقال عليه السلام : ومن صاحبكم ؟ قالوا : عيسى ( عليه السلام ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وأي شيء أقول ؟ قالوا : تقول إنه عبد الله ورسوله. فقال لأمير القوم :"إنه ليس بعار أن يكون عبدا لله، قالوا : بلى"١.
وهنا بحثان لفظيان نريد أن نلم بهما بعض الإلمام.
أولهما : التعبير ب "لن" فإن هذا التعبير النافي فيه تأكيد للنفي وفيه بيان استمراره وفيه فوق ذلك إشارة إلى أن المنفي هو الأمر الذي لا يتصور العقل غيره، فلا يتصور العقل أن يترفع المسيح عن أن يكون عبدا لله، لأنه هو الذي خلقه، وهو الذي سواه، وهو الذي جعل له كل الصفات التي امتاز بها على غيره من الناس في عهده، إن الكمال للإنسان في أن يحس بعبوديته لله تعالى وحده، فذلك ليس عارا كما ذكر الرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن شكر المنعم هو كمال الإنسان والمنعم بنعمة الوجود ومجري النعم هو الله سبحانه وتعالى، فالعبودية له سبحانه شكر وهي كمال الصلة بين الله تعالى وخلقه.
وثانيهما : أصل معنى يستنكف أنها في مغزاها لن يأنف أو يترفع ولكن في أصل اللغة لها أصول ثلاثة.
أولها - أنها مشتقة من التنزيه فالفعل الثلاثي لها ( نكف )، دخله السين والتاء فيقال نكفت من الشيء واستنكفت منه، وأنكفته أي نزهته عما يستنكف منه، وروي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن معنى سبحان الله فقال - عليه السلام -"إنكاف الله عن كل سوء"٢ بمعنى تنزيهه عن كل سوء، ويكون معنى "لن يستنكف" : لن يتنزه عن أن يكون عبدا لله، فالعبودية ليس للبشر أن يتنزهوا عنها، بل عليهم أن يخضعوا لها.
ثانيها - أنها مأخوذة من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك عن خدك سترا لمظهر البكاء، ومنه الحديث :"ما ينكف العرق عن جبينه"٣ أي ما ينقطع، ومنه الحديث :"جاء بجيش لا ينكف آخره"٤. ومعنى ( لن يستنكف ) أي لن ينقطع أن يكون المسيح عبدا لله، وقد اختار ذلك الزجاج وارتضاه الزمخشري في الكشاف.
ثالثها : أنها مأخوذة من النكف وهو العيب ويكون المعنى "لن يعاب المسيح أن يكون عبدا لله" وكلها معان متلاقية.
وعطف سبحانه على المسيح - عليه السلام - الملائكة فقال :﴿ ولا الملائكة المقربون ﴾ أي لا يستنكف المسيح عن أن يكون عبدا لله، ولا يستنكف أيضا الملائكة المقربون إليه سبحانه كجبريل وإسرافيل وميكائيل، وحملة العرش فإن هؤلاء على روحانياتهم الكاملة، ومع أن الله تعالى خلقهم من غير أب ولا أم لا يترفعون، أن يكونوا عبيدا لله تعالى ؛ لأن الله تعالى خلقهم وهم المدركون لجلاله وكماله :﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون( ٦ ) ﴾( التحريم ).
ولقد أخذ الزمخشري من هذا النص أن الملائكة المقربين أعلى درجة من الأنبياء وقال في ذلك : ولا من هو أعلى قدرا وأعظم خطرا وهم الكروبيون الذين حول العرش كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في طبقتهم، فإن قلت من أين دل قوله تعالى ﴿ ولا الملائكة المقربون ﴾ على أن المعنى ولا من فوقه، قلت من حيث إن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وذلك أن الكلام سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية فوجب أن يقال لهم لن يترفع المسيح عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة، كأنه قيل لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية فكيف بالمسيح ! ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل :
وما مثله ممن يجاود حاتم** ولا البحر ذو الأمواج يلتج ذاخره
ولا شبهة في أن مقصده بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود، ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله تعالى :﴿ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى ( ١٢٠ ) ﴾( البقرة ) حتى يعترف بالفرق المبين.
وينتهي من هذا إلى أن الملائكة المقربين أفضل من عيسى عليه السلام، وعيسى من أولي العزم من الرسل فالملائكة أفضل من النبيين.
وقد خالفه في ذلك كثير من العلماء، وردوا عليه بردود لا تسقط مقدمة الدليل وهو كون النص يفيد الترقي من المفضول إلى الأفضل، فالمسيح مفضول، والملائكة المقربون أفضل، ولكنها تبطل النتيجة في ذاتها وهي كون الملائكة أفضل، ذلك لأن الحديث في الملائكة المقربين، فكيف تكون النتيجة أوسع وتعم الملائكة أجمعين، المقربين ومن دونهم ؟.
وعندي أن الترقي قائم، ولكن في المعنى الذي سيق له الكلام ذلك أن النصارى غلوا غلوا كبيرا في المسيح لأنه ولد من غير أب، ولأنه جرت على يديه معجزات كثيرة، ولأنه روحاني المعاني فبين الله سبحانه وتعالى أنه مع كل هذا لن يستنكف أن يكون عبدا لله، ولا يستنكف من هو أعلى منه في هذه المعاني وهم الملائكة الذين خلقوا من غير أب ولا أم، وأجرى على أيديهم ما هو أشد وأعظم من المعجزات، ومنهم من كان الروح الذي نفخ في مريم، وهم أرواح طاهرة مطهرة، فكان الترقي في هذه المعاني، وهم فيها يفضلون عيسى وغيره، وبذلك تكون الآيات بعيدة عن الأفضلية المطلقة، فلا تدل على أفضلية الملائكة على الرسل في المنزلة عند الله تعالى ورضوانه، وتكون الآية بعيدة عن موطن الخلاف، والترقي دائما يكون في المعاني التي سيق لها الكلام دون غيرها، وليس المتأخر أعلى في ذاته من المتقدم وأفضل ولكنه أعلى في الفعل الذي كان فيه كقول القائل لا تضرب حرا ولا عبدا فالتدرج هنا في النهي عن الضرب لأنه إذا كان ضرب العبد غير جائز فإن ضرب الحر من باب أولى غير جائز.
١ ذكره هكذا بلفظ "روى" : الزمخشري والنسفي والرازي والآلوسي والبيضاوي سببا لنزول الآية الكريمة..
٢ النهاية في غريب الحديث (نكف)..
٣ السابق..
٤ السابق..

﴿ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا( ١٧٤ ) فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيا( ١٧٥ ) ﴾.
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة جحود المشركين وأهل الكتاب للرسالة المحمدية وبين بطلان قولهم، والإفك فيما يزعمون من تدين وأن المسيح عليه السلام كان موضع المغالاة فاليهود غالوا في إنكار رسالته وزعموا أنهم قتلوه وما قتلوه وما صلبوه، وما مكنهم الله تعالى من أن يقتلوه، كما قتلوا نبيين من قبله، وغالى فيهم النصارى فادعوا له الألوهية بعد أن بين سبحانه وتعالى ذلك أخذ يبين المنهاج المستقيم والدين الحق الذي لا يأتيه الباطل، وليس فيه غلو في أمر من الأمور بل فيه النور والحجة والبرهان ولذا قال تعالى :﴿ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ﴾
﴿ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ﴾ الخطاب عام لأهل العقول من الناس أجمعين كافرهم وملحدهم ومشركهم ويهودهم ونصاراهم والمؤمنين بالله ورسله، وما أنزل على رسوله الأمين محمد صلى الله عليه وسلم.
والبرهان الذي جاء رب العالمين الناس به هو النبي صلى الله عليه وسلم وقيل إنه القرآن، وقيل إنه القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الزمخشري الأقوال الثلاثة على أنها محتملة، ويصح أن يكون آخرها أجمعها وهو أولى بالاعتبار لهذا، وتوجيه القول على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو البرهان، أن شخصه الكريم من يوم مولده إلى أن قبضه الله تعالى إليه برهان صدق الرسالة التي كان يدعو إليها، ويهدي الناس بها، ذلك أنه نشأ يتيما من أبيه وأمه ومع ذلك لم يتدل إلى ما يتدلى إليه اليتامى فلم يقع منه ما يتهافت فيه الذين حرموا عطف الأب وحنان الأم، ولم يتجه إلى ما يتجه إليه الغلمان في حياته الأولى بل كان الجد يغلبه، حتى لقد قال فيه جده وهو لم يبلغ الثامنة من عمره :( إن ولدي هذا سيكون له شأن }، لما رآه من مخايل الذكاء والجد، والعزوف صغيرا عن المعابث، ولما بلغ سن الشباب بدا فيه الكمال وظهر واضحا في كل حياته، فلم يكذب قط، ولم يخن قط، ولم يقع منه ما يقع من الشباب من مجون، ولم يشرب خمرا أبدا مع شيوعها في الجاهلية، والتفاخر بها، ولم يلعب الميسر مع الانغمار فيه، ولم يرتكب ما يخل بالمروءة ولم يسجد لصنم بل تاجر، ولم يكن إلا أمينا في تجارته كما كان أمينا في عامة شؤونه، حتى لقد لقب العرب بلقب الأمين، فكان إذا ذكر هذا اللفظ لا يطلق إلا إليه كما يحمل الكل، ويحمي الضعيف ويعين على نوائب الدهر، كما وصفته زوجه أم المؤمنين خديجة، ولما بعثه الله تعالى رحمة للعالمين كان أوضح ما يوصف به الخلق العظيم، والعطف الكريم، والجزم في الدعوة إلى الحق من غير وناء، ولا كسل، إذا سالم كان الوفي في عهده، وإذا حارب كان العدل في حربه، وإذا خاصم كان الشريف في خصومته وإذا تكلم كان العف في قوله، وإذا عامل كان السمح في معاملته، وإذا خطب كان كلامه فصل الخطاب، أوتي جوامع الكلم، كلامه حكم وعمله سلم، وشرعه صلاح للناس في الدنيا والآخرة.
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم له ذلك السمو فشخصه برهان الصدق، ودليل الحق وكثيرا ما كان يراه الرائي فيسمع قوله، فيحكم بصدقه من غير أن يطلب دليلا من غير شخصه الكريم، رآه أعرابي فاسترعاه منظر الكريم، فقال : من أنت ؟ قال الرسول الكريم : أنا محمد. فقال الأعرابي الذي يتكلم بما يسمع :"أنت الذي تقول فيك قريش أنك كذاب، لا ليس هذا الوجه وجه كذاب"١. ثم آمن به بعد أن علم ما يدعو إليه.
هذا تخريج قول الذين قالوا إن البرهان هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهم كثيرون من التابعين.
وأما قول الذين قالوا إن البرهان هو القرآن الكريم فهو واضح لأن القرآن هو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على صدق رسالته، ولكن الذي يقتضي توضيحه هو قوله تعالى بعد ذلك :
﴿ وأنزلنا إليكم نورا مبينا ﴾ فإنه واضح أن المراد منها القرآن، لأنه المنزل من رب العالمين، وهو النور الواضح الهادي إلى الرشاد ويجاب عن ذلك بأن القرآن الكريم فيه المزايا الثلاث فهو الحجة القائمة والمعجزة الدائمة، وهو تنزيل من رب العالمين وهو نور يهدي للتي هي أقوم، وإن النور المبين في القرآن ما اشتمل عليه من أحكام شرعية خالدة تنير السبيل وتوضحه لمن يسلك سبيل المؤمنين فهي نافعة في الدين مبينة الحق، ومن اتبع أحكام القرآن هدى ومن خالفها هوى.
وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى :﴿ وأنزلنا إليكم نورا مبينا ﴾. أنزلنا إليكم مواعظ وقصصا وأحكاما شرعية هي كالنور في هدايته وإرشاده وبيانه للأشياء فهي مبينة للطريق المستقيم، والنهج القويم والحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
ولا يتغير المعنى إذا قلنا إن البرهان هو النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه حينئذ يفسر قوله تعالى :﴿ وأنزلنا إليكم نورا مبينا ﴾ بأنه القرآن، والمعنى والمؤدى فيهما، لا يختلف.
وهنا مباحث لفظية لا بد من الإشارة إليها بعبارات موجزة موضحة.
أولها : التعبير بقوله تعالى :﴿ من ربكم ﴾. في قوله تعالى :﴿ قد جاءكم برهان ﴾ فيه تقوية لمعنى البرهان، لأن ذلك الذليل إذا كان قد جاء من عند علام الغيوب الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما، لابد أن يكون برهانا صادقا مقنعا لطالب الحق، مفحما لأهل الباطل الجاحدين، وقد زكى معنى التأكيد التعبير بقد وبالمجيء في قوله تعالى :﴿ قد جاءكم ﴾ أي أنه أتاكم كالأمر المحسوس المؤكد الذي يرى ويحس فهو قائم بين أيديكم وحجة عليكم.
ثانيها : إسناد الإنزال إلى الذات العلية ذات الجلال والإكرام في قوله تعالى :﴿ وأنزلنا إليكم ﴾ فأسند إليه تعالى للإشارة إلى أنه تعالى المرجع وكما أن المآب إليه.
ثالثها : وصف الشرائع والقصص والمواعظ التي نزل بها القرآن بأنها نور مبين واضح، أي أنه لا يخفى إلا على من أنفت حواسه، وفسدت مشاعره، وأصيب بعمى البصيرة وكان عليه غشاوة لا يرى معها النور الواضح المبين.
وإن الناس الذين خوطبوا بذلك الخطاب الإلهي قسمان فريق آمن واهتدى وانتفع بالنور الذي جاء الرسول به، وفريق ضل وغوى ولم ينتفع بالنور الذي حمل مصباحه المزهر محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بين سبحانه وتعالى الفريق الذي اهتدى فقال تعالت كلماته :﴿ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه ﴾.
١ نقل الآلوسي هذه الرواية عن الفتوحات المكية باب (١٧٢، ٢٧٧). روي نحو هذا عن عبد الله بن سلام في مصنف ابن أبي شيبة، ومسند الشهاب للقضاعي..
﴿ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه ﴾
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة جحود المشركين وأهل الكتاب للرسالة المحمدية وبين بطلان قولهم، والإفك فيما يزعمون من تدين وأن المسيح عليه السلام كان موضع المغالاة فاليهود غالوا في إنكار رسالته وزعموا أنهم قتلوه وما قتلوه وما صلبوه، وما مكنهم الله تعالى من أن يقتلوه، كما قتلوا نبيين من قبله، وغالى فيهم النصارى فادعوا له الألوهية بعد أن بين سبحانه وتعالى ذلك أخذ يبين المنهاج المستقيم والدين الحق الذي لا يأتيه الباطل، وليس فيه غلو في أمر من الأمور بل فيه النور والحجة والبرهان ولذا قال تعالى :﴿ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ﴾
ذكر الله سبحانه وتعالى وصفين للذين اهتدوا وزادهم هدى. أول هذين الوصفين أنهم آمنوا بالله تعالى، وثاني هذين الوصفين أنهم اعتصموا به، فلا يلجئون إلا إليه ولنتكلم في كل من هذين الوصفين ومقامهما من إتباع الحق، والاهتداء بهديه.
أما الإيمان بالله فمعناه الإيمان بعظمته وجلاله، والإحساس بأنه فوق كل شيء، وهو القاهر فوق عباده والإذعان له، والمحبة لذاته الكريمة واجبة، على الإنسان وأن يذكره دائما كأنه يراه، كما في الحديث، "اعبد الله كأنك تراه، فإن لك تكن تراه فإنه يراك"١، والإيمان بالله تعالى يقتضي اعتقاد الوحدانية وأنه لا منشئ للكون سواه، ولا يعبد بحق غيره ويقتضي أن يحب الوجود لأن الله تعالى خالق الوجود ويقتضي ألا يحب شيئا إلا ابتغاء مرضاة الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله"٢ فالإيمان بالله تعالى يقتضي الإخلاص المطلق لذاته العلية، وإذا وجد ذلك الإخلاص اتجه اتجاها مستقيما، وإذا اتجه ذلك الاتجاه أشرق عليه بنور الحكمة وطلب الحق لذات الحق، وتجرد من تدرن النفس بالهوى، والشهوة وبذلك يكون للحق ولا يكون منه إلا الحق، لأنه أخلص للحق جل جلاله.
وأما الاعتصام بالله تعالى فإن معناه ألا يجد لنفسه عاصما من الناس، إلا هو ولا ملجأ يلجأ إليه إلا هو، ولا معاد له إلا رب العالمين، وبهذا يعلوا عن طاعة المستكبرين ويتجافى عن الخضوع لذوي السلطان إلا بالحق، فلا يذل ولا يخضع ولا يجبن ولا ينافق ولا يكذب ولا يكون فيه إلا السلوك الفاضل، ولا يكون إلا المجتمع الفاضل المؤمن بالله، وبالحق لا يخشى في الله لوم لائم، ولا يدهن في كلامه ولا أفعاله ولا يخاف إلا الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد الذي يخضع لكل شيء، تبارك وتعالى بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء فقال تعالت كلماته :
﴿ فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما ﴾ هذا جزاء الذين آمنوا بالله واعتصموا به، وهو جزاء مكون من ثلاثة أجزاء : رحمة وفضل، وهداية إلى الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمت.
ولكن ما هي الرحمة وما هو الفضل وما هي الهداية، ثم أهذا الجزاء في الدنيا أم هو في الآخرة ؟ أم هو فيهما معا ؟ لم يبين النص الكريم مكان ذلك الجزاء المؤكد، وعندي أن هذا الجزاء في الدنيا والآخرة.
وعلى هذا يكون معنى الرحمة في الدنيا أن يكونوا في سعادة واطمئنان وهدوء بال، لأنهم فوضوا أمورهم للعلي الأعلى الذي ليس كمثله شيء وهو العلي الحكيم وركنوا أنفسهم إلى الملجأ الأعصم والركن الأمكن فاطمأنوا بالله تعالى وبذكره، وبامتلاء قلوبهم به، كما قال تعالى :﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ( ٢٨ ) ﴾( الرعد )، ولا شك أن شقاء الناس في الدنيا سببه انحرافهم عن الجادة وانشغالهم بأمور توجد بلبالا مستمرا، واضطرابا دائما، من خصومات وأحقاد وحسد ولجاجات، ومن شأن المؤمن أن يعلو عن سفساف هذه الأمور، فيكون في راحة واطمئنان بال، وكل آفة بالجسم تهون بجوار الاطمئنان بالله، وكل نعيم مادي دنيوي يذهب به القلق وعدم الاطمئنان.
هذه رحمة الدنيا أما رحمة الآخرة فهي النعيم المقيم وجنات عدن خالدين فيها أبدا.
هذه الرحمة بنوعيها ومعانيها أما الفضل فأصل معناه الزيادة وهو يطلق على الزيادة في الإحسان والزيادة في العطاء والزيادة في المنزلة.
والفضل في الدنيا هو علو المنزلة والسلطان العادل والتمكين لهم إذا كانوا على جادة الإيمان لم يجانبوها كما قال تعالت كلماته :﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ( ٥ ) ﴾( القصص ).
يؤمنون بالله تعالى ويعتصمون به، وينصرونه وينصرهم ويمكن لهم في الأرض ويمن عليهم بالعزة، وإذا وجدت الذين يحملون شعار أهل الإيمان في ذلة ومغلوبين على أمرهم بعد أن قامت دولة الحق، فاعلم أن ذلك لأنهم جانبوا طريق الإيمان وضعف إيمانهم بالله والأخذ بأوامره.﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ( ٢٨ ) ﴾( الرعد ).
هذا هو الفضل في الدنيا وأما الفضل في الآخرة فهو رضوان الله تعالى والرفعة في الدرجات والقرب منه سبحانه وذلك هو الفضل العظيم.
والجزء الثالث هو الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو في الدنيا السبيل إلى الآخرة وذلك لأن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان يضيء في القلب فيعرفه السبيل القويم الذي يوصل إليه تعالى فمن آمن بالله فقد اهتدى إليه ومن اعتصم به وبأوامره واجتنب نواهيه فقد سلك طريقه، ومن سلك طريق الحق في الدنيا، كان في الآخرة أهدى، ومن ضل طريق الحق في الدنيا وغوى فهو في الآخرة في الهاوية.
وفي الآية بعض مباحث لفظية تؤدي إلى توضيح معاني النص الكريم.
أولها : أن السين في قوله تعالى :﴿ فسيدخلهم في رحمة منه ﴾ للتأكيد والسين وسوف في القرآن يدلان على توكيد الوقوع في المستقبل.
ثانيها : الضمير في قوله تعالى :﴿ ويهديهم إليه ﴾ يعود على لفظ الجلالة، ذلك أن الهداية إلى الله تعالى هي ثمرة الإيمان به، وطريق النجاة وبها يهتدي المؤمنون إلى أقوام سبيل، وصراط الله تعالى طريقه الذي يوصل إلى الغاية.
ثالثها : إعراب "صراطا مستقيما" لقد قال بعض العلماء إنها مفعول ثان ليهدي، وآخرون قالوا إنها مفعول لفعل محذوف، وتقدير الكلام هكذا ﴿ ويهديهم إليه ﴾ ويعرفهم طريقا يوصل إلى أعلى الغايات، وكان قوله تعالى ﴿ ويهديهم إليه صراطا مستقيما ﴾ اشتمل على جزءين ساميين : أولهما الهداية إلى الله وهو نعمة في ذاته لأنه معرفة الله تعالى حق معرفته.
وثانيهما : معرفة الطريق المستقيم الذي يوصل إلى الحق، وتلك نعمة أخرى تفضل بها مانح النعم ومجريها رب العالمين.
١ سبق تخريجه..
٢ سبق تخريج ما في معناه..
﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن اُمرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم( ١٧٦ ) ﴾.
ابتدأت سورة النساء ببيان أحكام للأسرة، وختمت كما بدأت ببيان أحكام للأسرة، بدئت ببيان أحكام الزواج، وإباحة تعدد الزوجات في الحدود التي رسمها الله تعالى لعباده ثم فصل القول في المواريث ثم فصل القول فيمن يصح الزواج منهن، ثم كان من بعد ذلك الكلام في علاقات آحاد الأمة ثم في علاقات الناس بعضهم على بعض، وكأنما كان الانتقال من الأسرة التي هي النواة الأولى للبناء الاجتماعي إلى المجتمع الصغير في حقوق الجوار وما يتصل به، ثم إلى المجتمع الكبير في الأمة وعلاج الآفات الاجتماعية فيه، وعلى رأسها النفاق والمنافقون.
ثم انتقلت إلى علاج العلاقات الإنسانية العامة، وضرورة الحرب إن اعتدت الرذيلة على الفضيلة لأن فضيلة الإسلام إيجابية عاملة لا سلبية خاملة، وتكلمت عن فساد الأمم والجماعات، وسببه التعصب للباطل، وسيطرة الأوهام والغلو في الأحكام مبينة قصة الذين اجترءوا على الحق وأصله وأهله من اليهود، والذين غلوا غلوا خرج بهم عن كل معقول ومقبول، وهم النصارى الذين غلوا في دينهم ورفعوا المسيح إلى مرتبة الألوهية وزعمهم أنه ابن الله.
﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾. وكان ختام السورة ببعض أحكام الميراث تذكيرا بأمرين :
أولهما : أن الأسرة هي الخلية الأولى التي يتربى فيها النزع الاجتماعي بكل ضروبه وكل شعبه وأنه لا يوجد مجتمع صالح إلا بأسر صالحة، وفساد الأسرة فيه فساد المجتمع.
ثانيهما : أن أحكام الأسرة مستمدة من الله تعالى من غير توسط أحد كبيرا كان أو صغيرا، وأن مخالفة أحكام الله تعالى ضلال ليس بعده ضلال، ولذا ختمت السورة بأن بيان الله تعالى لمنع الضلال، كما سنتلو من الآية الكريمة إن شاء الله تعالى.
﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ رويت روايات كثيرة في الاستفتاء الذي وقع من الصحابة رضي الله عنهم ويظهر أن السؤال في ميراث الإخوة والأخوات قد كثر ولذلك تعددت الروايات وتعدد أشخاص المستفتين. وأوضح الروايات ما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة وأحمد عن جابر بن عبد الله قال :"دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ ثم صب علي، فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة فنزلت آية الفرائض"١ وقد فصل القول النسائي والبيهقي في سننهما فقد ذكرا عن جابر قال اشتكيت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علي فقلت : يا رسول الله أوصي لإخواتي بالثلث ؟ قال :"أحسن". قلت : بالشطر ؟ قال : أحسن. ثم خرج ودخل علي فقال :"لا أراك تموت في مرضك هذا، إن الله أنزل وبين ما لأخواتك، وهو الثلثان"٢، فكان جابر يقول :"نزلت هذه الآية :﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ في". وتسمى هذه الآية آية الصيف لأنها نزلت في الصيف وسماها النبي صلى الله عليه وسلم آية الصيف ولقد قال عمر رضي الله عنه :"إني والله لا أدع شيئا أهم إلى من أمر الكلالة، وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بأصبعه في جنبي أو في صدري ثم قال :"يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء"٣.
والاستفتاء طلب الفتيا، أو الإفتاء والإفتاء الإجابة السريعة التي تكون جديدة بالنسبة للسائل الطالب لها، وأصل الفتيا من الفتاء والفتى والفتاة الطري الشباب المقبل على الجديد فيها، وأطلق على العبد فتى، وعلى الأمة فتاة لسرعة استجابتها لحاجة مولاها.
والكلالة كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني وغيره من المعاجم وكتب التفسير والفقه إسم لما عدا الولد والوالد من الورثة.. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال :"من مات وليس له ولد ولا والد"٤ فجعلها عليه الصلاة والسلام إسما للمتوفي الذي يرثه غير ولده ووالده، وهي تطلق بهذا المعنى وتطلق على الوارث غير الوالد والولد، وقد ورد إسم الكلالة في الميراث مرتين في سورة النساء أولاهما في آيات المواريث وهي قوله تعالى :﴿ وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة و له أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ﴾ "النساء".
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكلالة هنالك بأولاد الأم، وانعقد الإجماع على ذلك، وأما الكلالة هنا ففسرت بأولاد الأب الأشقاء أو لأب أي العصبات وانعقد الإجماع على أن الميراث يكون للأشقاء، فإن لم يكن أشقاء فإنه يكون للإخوة لأب، على ذلك انعقد إجماع المسلمين ترجيحا لقوة قرابة الأبوين على الأب الواحد.
وقد بين الله ميراث الكلالة من العصبة بقوله تعالى :
﴿ إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ﴾ الأخت هنا هي الأخت الشقيقة أو الأخت لأب، فإنها ترث النصف إذا لم يكن للمتوفى ولد والولد يشمل الذكر والأنثى فالأخت الشقيقة أو لأب لا تأخذ النصف إذا كان ثمة ولد ذكر أو أنثى، وكذلك الأخت لأب، وإن كانوا عند عدم وجود الولد الذكر أو الأنثى إخوة ذكورا وإناثا، فإن الميراث يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كانت عدة من الأخوات الشقيقات أو لأب إذا لم يكن أشقاء فإنهم يأخذن الثلثين، لقوله تعالى :
﴿ فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ﴾ قد أشرنا إلى تقسيم الميراث إذا كان مع الأخوات الشقيقات أو لأب إذا لم يكن أشقاء أخ شقيق أو لأب، وأما إذا تعددت الأخوات من غير أخ يكن عصبة ويقاسمهن للذكر مثل حظ الأنثيين فإنهن يأخذن الثلثين لا يزدن عليه مهما يكن عددهن.
وقد يقال إن النص الكريم جاء في حال ما إذا كانتا اثنتين ولم يبين حال الأكثر من ثنتين ونقول أن ذلك فهم من دلالة النص أو قياس الأولى في ميراث البنتين فإنه جاء النص في ميراث البنتين في قوله تعالى :﴿ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ﴾ ( النساء ).
فذكر في هذا النص السامي أنهن إن كن فوق اثنتين يأخذن الثلثين، وهن أقرب إلى المتوفى من الأخوات فبالأولى الأخوات إذ كن أكثر من اثنين لا يأخذن أكثر من الثلثين لأنهم لسن أقوى قرابة من البنات فحذف من هنا ما بان بالمفهوم من الآيات الأولى وكذلك حذف من الآية الأولى ما يفهم بدلالة النص من هذه الآية، فإن آية البنات قد نص فيها على ميراث الأكثر من ثلثين ولم ينص فيها على ميراث الثنين، وذلك لأنه إذا كان الأخوات اثنتين أخذن الثلثين فبالأولى البنات لأنهن أقرب من الأخوات نزلت في آية الأخوات ما يفهم من آية البنات، وترك من آية البنات ما يفهم من آية الأخوات وذلك من الإعجاز.
وقد بين النص القرآني حال ميراث الإخوة والأخوات الشقيقات أو لأب إذا لم يكن لهن ولد ذكرا كان أو أنثى، ولم يبين حال ما إذا كان ثمة ولد، فبقي على الأصل وهو لا يستحق شيئا في حال ما إذا كان الولد ذكرا، لأنه لم يرد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم يورث الإخوة أو الأخوات عند وجود الولد الذكر، وفوق ذلك فإن الولد الذكر يكون عصبة بنفسه، وهو أقرب رجل ذكر، فيكون مقدما على غيره بمقتضى النص النبوي، أما إذا كان الولد أنثى فقد ورد الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ورث البنتين الثلثين وأعطى الأخ الباقي٥، وروى ابن مسعود أنه أفتى في مسألة كان فيها بنت وبنت ابن، وأخت فأعطى البنت النصف وبنت الابن السدس تكملة للثلثين وأعطى الأخت الباقي تعصيبا، وذكر أن ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو موسى الأشعري قد رد على البنت وبنت الابن، فلما ذكر ابن مسعود له عدل عن رأيه، وقال : لا تسألوني وهذا الحبر بينكم"٦ وروي ابن عباس رضي الله عنهما يرى أن تعطى البنت وبنت الابن نصيبهما ثم يرد الباقي عليهما بنسبة نصيبهما.
والشيعة لا يورثون الإخوة والأخوات مطلقا عند وجود الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا، لعموم النص القرآني الذي يثبت أن ميراث الإخوة والأخوات هو بمقتضى الكلالة والكلالة تقضي ألا يكون هناك والد ولا ولد فإذا كان هناك ولد كانت الحال كما لو كان هنا والد، والإخوة والأخوات لا يرثون عند وجود الوالد، فكذلك لا يرثون مطلقا عند جود الولد. ولم يصح عندهم حديث ابن مسعود، وإذا فرض وكان رواته ثقات فإنهم لا يعارضون النص القرآني الذي اشترط ألا يكون ولد، واشترط ثانيا أن يكون ميراث الإخوة والأخوات ميراث كلالة، ولا يرثون إذا كان ثمة ولد.
ويفترق الشيعة الإثنى عشرية عن جمهور الفقهاء بالنسبة لميراث الإخوة والأخوات في أصلين يتفرع عنهما الكثير من المسائل الأصل الأول أن البنت حيث وجدت ولو منفردة عن الابن استحقت الميراث كله إن لم يكن زوج ولا أم ولا أب كما ينفرد الابن بذلك، ولا تستحق الأخوات والأخوة شيئا وكذلك لا يستحق بنات الابن شيئا سيرا على قاعدتهم من أن البنت كالإبن تستحق الميراث كله إذا انفردت، تأخذ النصف فرضا، والباقي ردا وتحجب أولاد الأب فروض فإنها تأخذ الباقي ردا.
الأصل الثاني أن الأخت الشقيقة إذا استحقت النصف فإن الأخت لأب والأخ لأب لا يستحقان معا شيئا. بل تأخذ النصف فرضا، والباقي ردا وتحجب أولاد الأب والجمهور على أن الأخت الشقيقة تأخذ النصف فرضا، والأخت لأب تأخذ السدس تكملة للثلثين إذا لم يكن أخ شقيق أو لأب وإذا كانت أخت شقيقة أو أخوات وليس معهن أخ شقيق وكان هناك أخ لأب، فإن الباقي يكون للأخ لأب هو وأخته التي لأب للذكر مثل حظ الأنثيين وإذا كان أخ شقيق يحجب الأخوة والأخوات لأب.
هذا ما اقتضى التفسير أن نذكره، وهناك فروع كثيرة تركناها لكتب الفقه في السنة والشيعة.
﴿ يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ﴾ هذا النص الكريم يبين أن الله سبحانه وتعالى هو الذي تولى شرح بيان أحكام الميراث، وحسب الميراث فضلا أن يكون تأكيده وتوثيقه ببيان الله تعالى.
وقد ذكر النص الكريم لماذا تولى القرآن الكريم بيانه فقال سبحانه "أن تضلوا" أي خشية أن تذهبوا إلى طرق ضالة بأمور ثلاثة إما بإهمال الميراث جملة بألا تعطوا أحدا من الورثة شيئا، كما حاول أن يفعل الشيوعيون فأضعفوا الأسرة وأضعفوا النشاط الإنساني والإقبال الاختياري على العمل وتركوا ذرية ضعافا لا يجدون ما يقيم أودهم، وإذا كانت الدولة ترعاهم في بعض الأحيان فعلى نقص بين واضح.
وإما يجعل الحرية للمورث يوصي بماله لمن يشاء من غير قيد وفي ذلك ضلال أي ضلال إذ يترك ورثته ضياعا ويعطي المال غيرهم.
وإما بحرمان من يشاء وإعطاء من يشاء، وفي ذلك إثارة للبغضاء والعداوة بينهم.
وقد قرر العلماء في كل بقاع العالم أن أعدل نظام للميراث هو نظام القرآن الكريم، ولكن وجد من بيننا من يحاربه، بل وجد من يزعمون أنهم مفسرون للقرآن من يدعي نسخه، وصدق رسول الله تعالى إذ يقول :"إن الفرائض أول علم ينسى"٧ وقد ذيل الله تعالى الآية بقوله ﴿ والله بكل شيء عليم ﴾ وفي هذا إشارة إلى أن شرعه أحكم شرع، لأنه شرع من يعلم كل شيء، من يعلم الماضي والقابل والعدل على أت
١ متفق عليه رواه البخاري: المرضى وضوء العائد للمريض (٥٦٧٦) وأطرافه سبعة كلها بلفظ مقارب، ومسلم: الفرائض (١٦١٦) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
.

٢ رواه أبو داود: الفرائض من كان له ولد وليس له أخوات (٢٨٨٧)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (١٣٨٨٦).
.

٣ جزء من حديث رواه مسلم: المساجد ومواضع الصلاة..
٤ عن أبي بكر رضي الله عنه قال: "من مات وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة "فضج منه علي رضي الله عنه ثم رجع إلى قوله: (عبد بن حميد). جامع الأحاديث (ج١٢، ص١٩٢). وفي كنز العمال (ج١، ص٣٠٢) من مسند أبي بكر الصديق: إذا مات الرجل وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة.
.

٥ روى الترمذي الفرائض (٢٠٩٢)، وأبو داود: (٢٨٩١)، وابن ماجه: (٢٧٢٠) والدارقطني عن جابر بن عبد الله أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله إن سعدا هلك وترك بنتين وأخاه، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد، وإنما تنكح النساء على أموالهن، فلم يحبها في مجلسها ذلك. ثم جاءته فقالت: يا رسول الله ابنتا سعد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادع لي أخاه" فجاء فقال (له): "ادفع إلى ابنتيه الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي". وفي رواية الترمذي وغيره: فنزلت آية المواريث. قال: هذا حديث صحيح..
٦ سبق تخريجه..
٧ سبق تخريجه..
Icon