سورة النساء سورة مدنية وتسمى سورة النساء الكبرى تمييزا لها عن سورة النساء الصغرى، وهي سورة الطلاق.
وقد عنيت سورة النساء ببيان أحكام النساء واليتامى، والأموال والمواريث والقتال، وتحدثت عن أهل الكتاب وعن المنافقين وعن فضل الهجرة ووزر المتأخرين عنها، وحثت على التضامن والتكافل والتراحم، وبينت حكم المحرمات من النساء. كما حثت على التوبة ودعت إليها كوسيلة للتطهر، ودليل إلى تكامل الشخصية، واستعادة الثقة بالنفس والشعور بالأمن والاطمئنان.
وعدد آيات سورة النساء ( ١٨٦ ) آية وعدد كلماتها ( ٣٧٤٥ ) كلمة.
الوصية بالنساء واليتامى
بينت سورة النساء ان الزواج شركة تعاونية أساسها المودة والرحمة والوفاء والألفة. وسوت السورة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات ثم بينت أن للرجال درجة على النساء وهي درجة الإشراف والرعاية بحكم القدرة الطبيعية التي يمتاز بها الرجل على المرأة وبحكم الكد والعمل في تحصيل المال الذي ينفقه على الزوجة والأسرة، وليست هذه الدرجة للرجل درجة الاستعباد أو التسخير وإنما هي زيادة في المسئولية الاجتماعية.
وقد حث القرآن الزوجة على طاعة زوجها فيما يجب فيه الطاعة والاحتفاظ بالأسرار المنزلية والزوجية التي لا ينبغي أن يطلع عليها احد غير الزوجين كما أمر الرجل أن يقوم بحق الأسرة وأن ينفق عليها، وأن يفي بالتزامه ونحوها وجعل نفقة الرجل على أولاده ورعايته لهم نوعا من الكفاح والجهاد السلمي يثاب المؤمن على فعله ويعاتب على تركه.
اليتامى :
أمرت السورة بعد ذلك برعاية اليتامى والمحافظة على أموالهم وإكرام اليتيم لصغره وعجزه عن القيام بمصالحه. وحذرت السورة من إتلاف أموال اليتامى أو تبديدها وحثت على القيام بحقوقهم واختبارهم في المعاملات قبيل سن البلوغ حتى يكون اليتيم متمرنا على أنواع المعاملات والبيع والشراء عندما يتسلم أمواله.
وقد توعدت السورة أكل مال اليتيم بالنار والسعير، والعذاب الشديد، وقد مهدت لهذه الأحكام في آياتها الأولى فطلبت تقوى الله وصلة الرحم، وأشعرت انهم جميعا خلقوا من نفس واحدة، أي أن اليتيم وإن كان من غير أسرتكم فهو رحمكم وأخوكم فقوموا له بحق الأخوة وحق الرحم، واعلموا ان الله الذي خلقكم من نفس واحدة وربط بينكم بهذه الرحم الإنسانية العامة رقيب عليكم يحصي عليكم أعمالكم، ويحيط بما في نفوسكم ويعلم ما تضمرون من خير أو شر فيحاسبكم عليه. وبعد هذا التمهيد الذي من شأنه أن يملأ القلوب رحمة، يأمرهم الله بحفظ أموال اليتامى حتى يتسلموها كاملة غير منقوصة، ويحذرهم من الاحتيال على أكلها عن طريق المبادلة أو المخالطة قال تعالى :
﴿ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا ﴾ ( النساء ٢ ).
أي لا تخلطوا مال اليتيم بمالكم ليكون ذلك وسيلة تستولون بها على مال اليتيم تحت ستار الإصلاح بالبيع أو الشراء باسم أنه منفعة لليتيم، أو بالخلط والشركة باسم أنه أفضل لليتيم.
وقد تحرج أتقياء المسلمين من مخالطة اليتيم فأباح الله مخالطة اليتامى ما دام القصد حسنا والنية صادقة في نفع اليتيم، والله سبحانه مطلع على السرائر ومحاسب عليها.
وكفى بالله حسيبا ( النساء ٦ ).
***
المال والميراث
عنيت سورة النساء وغيرها بشأن المال، وقد أمرت السورة بالمحافظة على المال واستثماره، ونهت عن الإسراف والتبذير وأمرت بالتوسط في النفقة والاعتدال فيها، ذلك لأن المال عصب الحياة ولأن كل ما تتوقف عليه الحياة في أصلها وكمالها وسعادتها وعزها من علم وصحة وقوة واتساع عمران لا سبيل للحصول عليه إلا بالمال. وقد نظر القرآن إلى الأموال هذه النظرة الواقعية فحذر من تركها في أيدي السفهاء الذين لا يحافظون عليها ولا يحسنون التصرف فيها، كما أمر بتحصيلها من طرق فيها الخير للناس، فيها النشاط والحركة وفيها عمارة الكون أمر بتحصيلها عن طريق التجارة، وعن طريق الصناعة والزراعة، وسمى طلبها ابتغاء من فضل الله، كما وصفها نفسها بأنها زينة الحياة الدنيا ومتاعها وبلغ من عناية القرآن بالأموال أنه طلب السعي في تحصيلها بمجرد الفراغ من أداء العبادة المفروضة. قال تعالى :
{ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله. ( الجمعة ١٠ ).
تحدثت سورة النساء عن المواريث ونصيب كل وارث فأمرت أن نبدأ أولا بتنفيذ وصية الميت وتسديد ديونه، ثم وضعت المبادئ الأساسية للميراث ونستخلص منها ما يأتي :
أولا : أن مبنى التوريث في الإسلام أمران : نسبي وهو القرابة وسببي وهو الزوجية.
ثانيا : أنه متى اجتمع في المستحقين ذكور وإناث أخذ الذكر ضعف الأنثى.
ويجدر بنا هنا أن نشير إلى ان بعض خصوم الإسلام قد اتخذوا التفاوت بين نصيبي الذكر والأنثى مطعنا على الإسلام وقالوا : إن هذا من فروع هضم الإسلام حق المرأة وهي إنسان كالرجل وفاتهم أن الذكر تتعدد مطالبه وتكثر تبعاته في الحياة فهو ينفق على نفسه وعلى زوجة وعلى أبنائه. ومن أصول الشريعة أنه يدفع المهر لمن يريد أن يتزوجها أما الأنثى فإنها لا تدفع زوجها بنفقتها في مأكلها ومشربها ومسكنها وخدمها، وذلك فوق تبعاته العائلية التي لا يلحق الأنثى مثلها.
وبينما نرى بعض التشريعات الوضعية تقتضي بحرمان الأنثى بتاتا أو حصر الميراث في أكبر الأبناء وحده كما أن الحال في بعض البلاد إلى وقت قريب، نجد تشريعا آخر يقضي بمساواتها بالذكر.
ونقارن ذلك بالإسلام فنجد أن منهجه في التوريث وسط لا إفراط ولا تفريط فهو لم يحرم الأنثى من الميراث بل أعطاها نصيبا مناسبا لظروفها في الحياة وأعطى أخاها نصيبا مناسبا لتبعاته في الحياة، وهذا هو شأن الإسلام في أحكامه وشرائعه فهو يعتمد على الحكمة والعدل لأنه تشريع الحكيم العليم.
***
تعدد الزوجات
تحدثت سورة النساء عن تعدد الزوجات فأباحته بشرط العدل بينهن فإذا خاف الإنسان من عدم العدل فعليه الاقتصار على زوجة واحدة، فإن ذلك أدعى إلى صفاء الحياة ويسرها وتحقيق الهدف من الزواج وهو المودة والرحمة.
ويرى الإمام محمد عبده أن تعدد الزوجات أمر مضيق فيه التضييق فكأن الله سبحانه قد نهى عن التعدد.
قال تعالى :{ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا. ( النساء ٣ ).
أي إن خفتم ألا تعدلوا في نكاح اليتيمات اللاتي تحت وصايتكم كأن يكون الدافع لكم على الزواج بهن هو الطمع في مالهن، لا الحب والرغبة في معاشرتهن، أو كأن تكون فوارق السن بينكم وبينهن كبيرة او كان تهضموهن حقوقهن في مهر أمثالهن... إن خفتم إلا تعدلوا في اليتيمات فاطلبوا الزواج من سواهن من النساء.
وبمناسبة الحديث عن الزواج امتد السياق إلى بيان حدود المباح من الزوجات فإذا هو مثنى وثلاث ورباع ولكن بشرط العدل بينهن، العدل في المعاملة وفي الحقوق الظاهرة أما العدل في الشعور الباطن فلا قبل به لإنسان ولا تكليف به لإنسان، ما اتقى في إظهاره في المعاملة وتأثيره على الحقوق المتعادلة فإن وجد في نفسه ضعفا عن ذلك العدل وخاف ألا يقدر على تحقيقه، فالحلال واحدة فقط ومن سواها محظور.
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة.
والنص الشرطي يحتم هذا المعنى هنا ويعلله بأن ذلك التحديد بواحدة في هذه الحالة أقرب إلى اجتناب الظلم والجور.
ذلك أدنى ألا تعودوا. أي لا تجوروا وتظلموا.
والظلم حرام فالوسيلة إليه حرام واجتناب الظلم واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فإذا كان العدل يتم بترك التعدد، فالاقتصار على الزوجة الواحدة واجب.
وفي ختام الآية وصية جديدة بالاقتصار على الزوجة الواحدة لانه ادعى إلى العدل والاستقرار والبعد عن الظلم وكثرة العيال.
***
شبهة تفتضح وحجة تتضح
تكلم الأوروبيون بكثير من الكلام المعسول فمثلا ( كانتي ) يقول : " إن شرف الإنسان أسمى من أن يمتهن أو يجعل أداة متعة ".
وفي الواقع هم الذين جعلوا الأخدان أداة متعة فقط ومنعوهن حقوق الزوجية من النفقة او الميراث أو إلصاق الولد بينما الإسلام يحرم اتخاذ الأخدان والخليلات يقول تعالى :
محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان. ( النساء ٢٥ ).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
" إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات فإذا تزوجتم فلا تطلقوا ".
نشأ عن كثرة الأخدان وانتشارهن في أوروبا انتشار الأمراض السرية الفظيعة وقلة النسل لأن النسل إما ان يخنق أو تجهض الحامل او يمنع الحمل وهل غفل الأوروبيون عن المصير السيئ الذي ينتظرهم إذا استمر الحال فالكبير يموت والنشء يقتل ؟ فصدرت قوانين تقول مثلا : أبناء الزواج الحر إذا اعترف بهم أبوهم ألحقناهم به فتأخذ الأولاد كل حقوق الأبناء فهم تفادوا اسم الزوجة فقط والأبناء منها يتمتعون بكل الحقوق.
وقد ذكر لنا أستاذنا المرحوم محمد عبد الله دراز أنه شاهد أثر الحروب في ألمانيا ورأى النساء يطالبن هناك بتعدد الزوجات لتجد المرأة التي مات زوجها في الحرب من يكفلها وينفق عليها وعلى ما ينجب منها وذكر لنا ان جمعية تألفت في ألمانيا تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية في الزواج والطلاق.
ومع ذلك فالإسلام لم يحرض على تعدد الزوجات بل قال :
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا.
وإذا استلهمنا روح النص ومراميه وجدنا أن التعدد رخصة وهي رخصة ضرورية لحياة الجماعة في حالات كثيرة وهي صمام أمن في هذه الحالات ووقاية ليس في وسع البشرية الاستغناء عنها ولم تجد البشرية حتى اليوم حلا أفضل منها سواء في حالة إخلال التوازن بين عدد الذكور وعدد الإنات عقب الحروب والأوبئة التي تجعل عدد الإناث في الامة أحيانا ثلاثة أمثال عدد الذكور أو حالات مرض الزوجة أو عقمها ورغبة الزوج في الإبقاء عليها أو حاجتها هي إليه أو في الحالات التي توجد في الرجل طاقة حيوية فائضة لا تستجيب لها الزوجة أو لا تجد كفايتها في زوجة واحدة... وكلها حالات فطرية وواقعية لا سبيل إلى تجاهلها وكل حل فيها غير تعدد الزوجات يفضي إلى عواقب أوخم خلقيا واجتماعيا. ضرورة تواجه ضرورة ومع هذا فهي مقيدة في الإسلام باستطاعة العدل والبعد عن الظلم والجور وهو أقصى ما يمكن من الاحتياط.
***
التضامن الاجتماعي
حثت سورة النساء على صدق العقيدة والإخلاص لله في العبادة كما حثت على الإحسان إلى الوالدين وصلة الرحم وإكرام اليتامى والمساكين والإحسان إلى الجار ورحمة الفقير، والمحتاج ومساعدة الخدم والضعفاء، وحذرت من البخل والكبر والرياء، ونهت عن الكفر والجحود ومعصية الله والرسول. وذلك في جملة آيات تبدأ بقوله تعالى :
{ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت إيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا. ( النساء ٣٦ ).
وهذه الآية وما بعدها دعوة عملية إلى " الضمان الاجتماعي " وتحذير من البخل والشح وبيان أن المال مال الله وأن الغنى مستخلف عن الله في إرادته وتثميره وإنفاقه في نواحي الخير والبر وقد فرض الله حقوق
ﰡ
بسم اله الرحمن الرحيم
﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ﴾
المفردات :
بث : نشر وفرق ومنه وزرابي مبثوثة. ( الغاشية ١٦ ).
الأرحام : جمع رحم وهو في الأصل مكان تكون الجنين في بطن أمه ثم أطلق على القرابة.
رقيبا : الرقيب الحفيظ المطلع على الأعمال.
المعنى الإجمالي :
يا أيها الناس اتقوا الله ربكم الذي خلقكم وأوجدكم من نفس واحدة، وأنشأ من هذه النفس زوجها ومنهما نشر في الوجود رجالا كثيرا ونساء فأنتم جميعا تنتهون إلى تلك النفس الواحدة، واتقوا الله الذي تستعينون به في كل ما تحتاجون، ويسأل باسمه بعضكم بعضا فيما تتبادلون من أمور، ه واتقوا الأرحام فلا تقطعوها قريبها وبعيدها إن الله دائم الرقابة على أنفسكم لا تخفى عليه خافية من أموركم٢.
في أعقاب الآية :
١- الناس جميعا من أصل واحد، تجمعهم رحم عامة تربط بين البشر جميعا، قال تعالى : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا... ( الحجرات ١٣ ).
٢- ينتهي نسب الناس إلى آدم، وآدم من تراب فقد خلق الله آدم من تراب، ثم خلق حواء من ضلع آدم ليسكن إليها وتكون له سكنا وأمنا. قال تعالى :{ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة. ( الروم ٢١ ).
وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها، فاستمتع بها وفيها عوج واستوصوا بالنساء خيرا ٣
والحديث يكرر الوصية بالنساء، ويوصي بالصبر والاحتمال والمداراة، لأن المرأة مجموعة من العواطف فقد شاء الله ان تكون عاطفة المرأة أكثر من عاطفة الرجل، لتتحمل المرأة آلام الحمل والولادة والرضاع والكفالة، وأن يكون جانبا العقل في الرجل أكثر، ليتحمل البحث في سبيل الرزق ورعاية الأسرة وبالعقل والعاطفة تتم رعاية الأسرة وتلبي حاجة الرجل إلى المرأة وحاجة المرأة إلى الرجل.
٣- جمهور المحدثين والفقهاء على أن الناس جميعا تناسلت من نفس آدم عليه السلام وليس هناك سوى آدم واحد، وقد خلقت حواء من آدم وخلق الناس من آدم وحواء.
٤- قال الفخر الرازي في تفسير : وخلق منها زوجها. والمراد من هذا الزوج هو حواء، وفي كون حواء مخلوقة من آدم قولان :
الأول : وهو الذي عليه الأكثرون أنه لما خلق الله تعالى آدم ألقى عليه النوم ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه، فلما استيقظ رآها ومال إليها وألفها، لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه واحتجوا عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها ".
والقول الثاني : وهو اختيار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد من قوله تعالى : وخلق منها زوجها. أي من جنسها وهو كقوله تعالى : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا. ( النحل ٧٢ ).
وقوله : إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم. ( آل عمران ١٦٤ ).
وقوله : لقد جاءكم رسول من أنفسكم.. ( التوبة ١٢٨ ).
قال القاضي : والقول الأول أقوى لكي يصح قوله : خلقكم من نفس واحدة. إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة٤.
٥- قال صاحب الكشاف : ومعنى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام. أراد بالتقوى تقوى خاصة، وهي أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله فقيل : اتقوا ربكم الذي وصل بينكم حيث جعلكم صنوان مفرغة من أرومة واحدة فيها يجب على بعضكم لبعض، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة٥.
٦- من سألك بالله شيئا فأعطه ما دمت تجد سبيلا للعطاء، وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن جبان عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه به فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه " ٦.
والحديث في معنى واتقوا الله الذي تساءلون به. أي يسأل بعضكم بعضا فيقول أسألك بالله كذا.
٧- حثت الآية على صلة الرحم والإحسان إلى الأقارب وقد تكررت هذه الوصية في القرآن والسنة، قال تعالى :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت إيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ﴾. ( النساء ٣٦ ).
ورى البخاري عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من سره أن يبسط له في رزقه، وان ينسأ له في أجله فليصل رحمه " ٧.
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله " ٨.
وأخرج البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها ".
وهذه الأحاديث تلتقي مع الآية في تأكيد الوصية بالأرحام قال تعالى :﴿ واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ﴾ أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها، فمن وصل رحمه وصله الله، ومن قطع رحمه قطعه الله.
قال تعالى :﴿ فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ﴾. ( محمد ٢٢.
فصلة الرحم سبب البركة وهدوء النفس واستقامة الذرية وصلاحها، وأما قاطع الرحم فهو مطرود من رحمة الله.
ارحم عباد الله يرحمك الذي | عم البرية فضله ونواله |
فالراحمون لهم نصيب وافر | من رحمة الرحمن جل جلاله |
المفردات :
وآتوا : المراد بإتيانها ان يحافظوا عليها ولا يتعرضوا لها بسوء، حتى يسلموها لليتامى عند البلوغ والرشد كاملة، إلا ما صرفت في ضروريات اليتامى وحاجتهم.
اليتامى : جمع يتيم، وهو من مات أبوه، واليتامى جمع ذكرا أو أنثى، اما الأيتام فجمع للذكران فقط وخصه الشرع بالصغير دون البلوغ.
ولا تتبدلوا : يقال تبدل الشيء واستبدل به اخذ الأول بدل الثاني فالباء داخلة على المتروك.
الخبيث : الحرام.
بالطيب : بالحلال.
حوبا كبيرا : إثما عظيما.
التفسير :
٢- ﴿ وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا ﴾.
المعنى الإجمالي :
وملكوا اليتامى ما يستحقون من مال واحفظوه لهم ولا تعطوهم الردئ وتحرموهم الجيد، ولا تأخذوا أموالهم وتضيفوها إلى أموالكم إن ذلك كان إثما كبيرا.
من تفسير الآية للأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز :
وآتوا اليتامى أموالهم...
أمرنا الله بتوصيل مال اليتيم إليه بعد بلوغه، وبعد ان أمرنا بإعطاء اليتامى أموالهم أكد هذا الامر تأكيد العليم الخبير بطبائع النفوس الإنسانية وجميع حيلها، ولو كان القرآن من عند محمد لوجب أن يكون إنسانا عالميا يحيط بكل ما في الأرض والسماء، ويغوص إلى خفايا النفوس، ويصل إلى أدق طبائع البشر، وما خفي واستتر من غرائزهم، وهو الأمي الذي لم يتل من قبله الكتاب ولا خطه بيمينه. ففي هذا التحليل القادم دليل على ان القرآن من عند الله وإليك هذا التحليل والتنويع.
قد يتحايل الإنسان على أ كل مال اليتيم بأربع حيل :
١- الأولى الاستبدال : بأن يأخذ قطعة أرض من مال اليتيم ويعطيه بدلها، زاعما ان ذلك له أصلح وهو في الواقع قد أخذ لنفسه الأحسن، وهنا يبدو جمال التسمية في قوله تعالى :﴿ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ﴾ فجعل الكثير الحسن من مال اليتيم خبيثا لأنه حرام، وحق الغير، وأخذه ظلم فكان خبيثا لا تألفه نفس المؤمن الطاهر، وجعل القليل من ماله الحلال طيبا طاهرا، لأنه حقه الحلال، أي ولا تأخذ الكثير الخبيث، الذي يؤول إلى النار من مال اليتيم، بدل القليل الطيب الحلال من مالك.
٢- الحيلة الثانية ان يقول الوصي : إني لا أريد أن أشعره بالوحدة والانقطاع فلن اترك ماله على حدة، بل سأضمه إلي ليجد في أبا رحيما، وفي أبنائي إخوة، وفي رعايتي لماله شركة ومواساة. ثم يأخذ من مال اليتيم بذلك ما لا حق له فيه أما إذا أردت ضمه إليك مواساة وتعويضا عن أهله، وكنت صادق النية في ذلك، فالله هو الله يتولى جزاءك. قال تعالى :﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ﴾ ( البقرة ٢٢٠ ).
٣- الحيلة الثالثة : ان يتزوج اليتيمة ذات المال. للاستيلاء على مالها بحجة انها تحت رعايته فقال تعالى :﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ﴾. أي إن خفتم الجور على اليتيمة فتزوجوا من الآخرين بعدا عن الظلم.
٤- والحيلة الرابعة : هي الإسراف والتبذير في مال اليتيم قبل أن يكبر حقدا عليه أن يسترد ماله البلوغ فيصير غنيا والوصي فقير فقال سبحانه :﴿ فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ﴾.
وهذا هيكل تقريبي أو صورة واضحة عن اليتيم وكل ما يمكن من صور التحايل على أكل ماله نهى عنها القرآن وحذرنا منها.
وأحب أن تسيروا في طريق التفسير بهذا المنوال التربوي والمنهاج العلمي، والنظر إلى الفكرة وإلى ما يقصده القرآن كجسم كامل لا يصح بتر أجزائه، بل تتأملوا تفصيلها وتنسيقها٩.
المفردات :
ألا تقسطوا : أي ألا تعدلوا من اقسط أي عدل وأما قسط فمعناه ظلم وجار قال تعالى : وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا. ( الجن ١٥ ).
في اليتامى : المراد اليتيمات.
فانكحوا : تزوجوا.
ما طاب لكم : ما حل : أو مالت إليه أنفسكم.
مثنى وثلاث ورباع : أي اثنين اثنين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا.
ألا تعولوا : ألا تجوروا وتظلموا.
التفسير :
٣- ﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ﴾.
المعنى الإجمالي :
وإن أحسستم من أنفسكم الخوف من أكل مال الزوجة اليتيمة، فعليكم ألا تتزوجوا بها، فإن الله جعل لكم مندوحة عن اليتامى، بما أباحه لكم من التزويج بغيرهن واحدة أو اثنين أو ثلاثا أو أربعا، إذا وثقتم بالقدرة على العدل، ولكن إن خفتم ألا تعدلوا بين الزوجين أو الزوجات فعليكم أن تلزموا واحدة فقط، أو استمتعوا بما ملكت أيديكم من الإماء، وإن زواج الواحدة أقرب إلى العدل، وأبعد عن الظلم والجور.
سبب نزول الآية روى البخاري وغيره : " عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أنه سألها عن هذه الآية فقالت : يا بن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في حاله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا ان ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن " الحديث رواه البخاري في كتاب التفسير.
آراء في تفسير الآية :
١- روى الطبري عن ابن عباس وعكرمة : أن قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل، فإذا صار معدما مال على يتيمه الذي هو في حجره فأنفقه أو تزوج به، فنهوا عن التزويج فوق الأربع.
٢- وقال آخرون معنى الآية : فكما خفتم في اليتامى أن تجوروا عليهم فكذلك فتخوفوا في النساء أن تزنوا بهن، ولكن انكحوا ما طاب منهن مثنى وثلاث ورباع، إذا اطمأننتم إلى تحقيق العدل بينهن وإلا فاقتصروا على الواحدة.
٣- وقال آخرون : وإن خفتم ألا تعدلوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء، فلا تنكحوا منهن إلا مالا تخافون أن تجوروا فيه منهن من واحدة إلى الأربع. وقد أجاز السيد رشيد رضا أن تكون الآراء السابقة كلها مقصودة للآية فقال : " وقد يصح ان يقال إنه يجوز أن يراد بالآية مجموع تلك المعاني، من قبيل رأي الشافعية الذين يجيزون استعمال اللفظ المشترك في كل ما يحتمله الكلام من معانيه واستعمال اللفظ في حقيقته ومجا زه معا " ١٠.
ويقول الأستاذ الدكتور محمد بلتاجي :
".. ومن هنا معنى الآية يتضمن أمرا إلى أولياء الفتيات اليتامى بالإقساط فيهن عند إرادة التزوج بهن، ثم هو في نفس الوقت أمر إلى هؤلاء الأولياء بألا يسرفوا على أنفسهم بكثرة الزوجات، فيحملهم ذلك على التعدي على أموال اليتامى، الذين هم في رعايتهم وتحت وصايتهم وقد كان هذا وما سبقه موجودا عند نزول القرآن الكريم ثم هو أيضا أمر إلى المسلمين باتقاء الله تعالى في النساء، وتجنب الزنا بهن لأن الله تعالى أباح التزوج منهن فلم يعد بالمسلم حاجة مقبولة إلى الزنا، ثم هو في الوقت نفسه أمر المسلمين بوجوب اتقاء الله في العدل في النساء عند إرادة التزوج منهن والخشية من ظلمهن في ذلك. كما يخاف كل منهم ان يظلم اليتيم إذا كان تحت رعايته، ثم إن الآية بعد كل هذا تشمل على إباحة تعدد الزوجات بشرط العدل " ١١.
مذاهب في تفسير الآية
١- قال بعض أئمة الشيعة والظاهرية : يجوز جمع تسع نساء حيث اعتبروا كلمات ( مثنى وثلاث ورباع ) معدولة عن اثنين وثلاث وأربع وجمعوا هذه الأرقام ٢+٣+٤=٩ وهو كلام مرفوض مخالف لما يفيده النص العربي البليغ فإن الطفل هو الذي إذا أراد يقول تسعة قال ٢+٣+٤=٩ أما القرآن فهو أبلغ أسلوب.
والعمل متواتر من العهد النبوي والخلفاء الراشدين بعدم جواز جمع أكثر من أربع في عصمة رجل في وقت واحد، وهذا العمل مؤيد بالكتاب والسنة والإجماع وهو الحق الذي يجب الالتزام به والوقوف عنده١٢.
حكمة التعدد
الإسلام دين الوسط وهو شريعة الله العليم الخبير، وقد كان العرب في بيئة ذاع فيها التفاخر بالأنساب، والاعتزاز بكثرة الأبناء، وإهمال شأن المرأة وهضم حقوقها، فلم يقفوا في تعدد الزوجات عند حد.
" وقد سلك الإسلام طريقا وسطا هو إباحة التعدد إلى حد محدود١٣ لما في هذا من منافع لا بنبغي لمشرع ان يغض الطرف عنها، ومنها :
١- أن طبيعة الرجل الجنسية قد تقوى فلا يقنع بامرأة واحدة فإذا سددنا عليه باب التعدد فتح لنفسه باب الزنا والمخالة الداعرة فتنتهك الأعراض وتضيع الأنساب، وذلك شر عظيم، وفي فتح باب التعدد تمهيد لكثرة النسل الذي تعتز به الأمة، وإن دينا يحرم الزنا ويعاقب عليه أقسى العقوبات، جدير به أن يفتح باب التعدد، إشباعا للغريزة ودفعا للشر، ورغبة في كثرة النسل الحلال.
٢- وقد تكون المرأة عقيما لا تلد، أو تصاب بما يمنعها من مزاولة الحياة الجنسية، ويرى الزوج من الوفاء لها ألا يتخلى عنها في محنتها، وألا يمنعها عطفه وانسه ورعايته، أفليس من الحكمة أن نمكنه من هذا الوفاء، بإباحة التزوج عليها حتى لا نلجئه إلى سلوك طريق آخر ؟.
٣- ولما كان الرجال أكثر من النساء تعرضا لأسباب الفناء كان عددهم أقل من عددهن وخاصة أعقاب الحروب فإذا لم نبح للرجل أن يعول بالزواج أكثر من واحدة كانت النساء عرضة للفاقة، وللاتجار بالأعراض، والعمل للتخلص من النسل فتقل الأيدي العاملة.
وليس بعجيب أن يكون عدد النساء في العالم أكثر من عدد الرجال، وأن يباح للرجل أن يتزوج أكثر من امرأة، ضمانا لبقاء النوع فقد جرت عادة الخالق سبحانه أن يخلق من بذور النبات وبويضات الحيوان ملايين البذور والبويضات ضمانا لبقاء أنواعها، ويكون استئثار المرأة بالرجل حينئذ أثرة ممقوتة ضارة بالجماعة١٤.
فهم خاطئ
ذهب بعض الناس إلى منع تعدد الزوجات مدعيا أن آيتين في سورة النساء ترشدان إلى ذلك.
الآية الأولى تقول : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ( النساء ٣ ).
والآية الثانية تقول : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة. ( النساء ١٢٩ ).
بل إنهم عند الاستشهاد بالآية ١٢٩ من سورة النساء هذه استشهدوا بالجزء الأول منها وهو ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم. وقالوا : إن التعدد ممنوع في القرآن لأن الآية رقم ٣ من سورة النساء اشترطت العدل لإباحة التعدد.
والآية رقم ١٢٩ بينت أن العدل غير مستطاع حتى لمن حرص على تحقيقه بين النساء.
قال الأستاذ أحمد شاكر :( وزاد الأمر وطم حتى سمعنا أن حكومة من الحكومات التي تنتسب للإسلام وضعت في بلادها قانونا منعت فيه تعدد الزوجات جملة بل صرحت تلك الحكومة بأن تعدد الزوجات عندهم صار حراما ولم يعرف رجال تلك الحكومة أنهم بهذا اللفظ الجرىء صاروا مرتدين خارجين من دين الإسلام بل إن احد الرجال الذين ابتلى الأزهر بانتسابهم إلى علمائه، تجرأ مرة وكتب بالقول الصريح إن الإسلام يحرم تعدد الزوجات جرأة على الله وافتراء على دينه١٥.
مناقشة :
العلاقات الزوجية متداخلة، منها ما هو مادي، ومنها ما هو معنوي، فالمحبة والهوى القلبي أمور معنوية لا يتحكم فيه الإنسان وهي المشار إليها بقول النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " ١٦
أما الأمور المادية مثل الأكل والنفقة والكسوة والمسكن وأشباهها فيمكن العدل فيها بين النساء. وهي التي عناها القرآن، حين أرشد الرجال إلى العدل فيها، وبين أن العدل في ميل القلب أمر غير مستطاع لأن القلوب متقلبة، وما يسمى القلب قلبا إلا لأنه يتقلب، ولان قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. فإذا اتبع الإنسان هوى قلبه، مال إلى الزوجة التي يحبها وأعطاها حظوظا مادية زائدة وترك الأخرى تستمع بمثل هذه الحظوظ المادية. ولذلك وجه القرآن المسلم بأن يعدل في قسمته بين النساء في المسكن والمأكل والملبس، وأمر بالتسوية بينهما، ونهى عن محاباة المحبوبة، وهجر ضرتها حتى تصير كالمرأة المعلقة وهي التي هجرها زوجها وتركها بدون طلاق فلا هي مطلقة تنتظر الأزواج، ولا هي متزوجة زوجا يقر عينها، ويحسن عشرتها، ويوفي لها حقها، ويعدل بينها وبين ضرتها أو ضرائرها، في الامور المادية التي يمكن العدل فيها.
وقد روى الإمام احمد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كانت له امرأتان فمال إلى احدهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط " ١٧.
والمراد بالميل هنا الظلم في القسمة بين الزوجين، وتفضل إحداهما على الأخرى في النفقة والمسكن والملبس، وهي التي عناها القرآن بقوله :﴿ فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالملعقة ﴾. ( النساء ١٢٩ ).
وفي ختام الآية فتح القرآن الباب أمام الأزواج ليحاولوا العدل ولينصفوا الزوجة الأخرى ويحسنوا إليها مراعاة لأمر الله واتقاء عقابه وحسابه، فقال سبحانه :﴿ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ﴾ ( النساء : ١٢٩ ).
قال الطبري شيخ المفسرين : وإن تصلحوا أعمالكم أيها الناس فتعدلوا في قسمتكم بين أزواجكم، وما فرض الله لهن عليكم من النفقة والعشرة بالمعروف فإن الله كان غفورا رحيما يستر عليكم ما قد يكون سلف منكم في ذلك رحيما بكم يقبل توتكم فيه.
رشيد رضا والتعدد :
يقول الأستاذ رشيد رضا في موضوع : الإصلاح الإسلامي في تعدد الزوجات ما يأتي :
قال تعالى :﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعدلوا ﴾ ( النساء ٣ ).
العول : الجور، أي ذلك الاقتصار على امرأة واحدة أو ملك اليمين أقرب الوسائل لعدم وقوعكم في الجور والظلم المانع من تعدد الزوجات لمن خاف الوقوع فيه.
والآية تدل على تحريم التعدد على من يخاف على نفسه ظلم زوجة محاباة لأخرى، وتفضيلا لها عليها وعلى تحريمه بالأولى إذا كان عازما على هذا الظلم بان كان يريد أن يضارها لكرهه لها، ثم قال في الآية ١٢٩ من سورة النساء أيضا ﴿ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ﴾. فإذا قرنت هذه القضية بقضية ﴿ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ﴾. أنتجتا وجوب الاقتصار على امرأة واحدة ولكنه قال بعدها :﴿ فلا تميلوا كل الميل فتدورها كالملعقة ﴾.
فعلم به ان غير المستطاع هو العدل في الحب وأثره من ميل النفس، فيجب ضبط النفس في أثره، وما يترتب عليه من المعاملة المستطاعة، في النفقة والمبيت وغيرها، وهو العدل المشروط في الأولى.
وهناك ثلاث مسائل قطعية :
الأولى : أن الإسلام لم يوجب تعدد الزوجات، ولم يندب إليه، وإنما ذكره بما يدل على أنه يسلم فاعله من الظلم المحرم، وحكمة هذا وفائدته أن يتروى فيه
المفردات :
وآتوا : الإتيان الإعطاء والمناولة أو الالتزام.
صدقاتهن : جمع صدقة بضم الدال، وهو المهر.
نحلة : أي عطية من غير عوض من نحله ينحله نحلة.
هنيئا : أي سائغا من هنأه الطعام يهنئه أي ساغ له.
مريئا : أي سائغا : الهنئ ما يلذ للأكل : والمرئ ما سهل هضمه وحسنت عاقبته، والمراد أنه لا تبعة ولا عقاب عليه، أي حلالا طيبا.
التفسير :
٤- ﴿ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ﴾.
هناك حقوق للمرأة على زوجها، وحقوق للرجل على زوجته، فمن حقوق المرأة، المهر وهو الصداق، والنفقة والعشرة بالمعروف.
ومن حقوق الزوج الطاعة أو القوامة، والأمانة او المحافظة على المال والعرض وحسن العشرة أيضا.
والآية تأمر الأزواج بإعطاء النساء مهورهن عن طيب خاطر، فإذا طابت نفس المرأة وتنازلت لزوجها عن شيء من صداقها فلا مانع من أخذه والانتفاع به.
وعلاقة الآية بالحديث عن اليتامى أنها، استطراد في بيان حق المرأة، وسواء أكانت يتيمة أو غير يتيمة، واحدة أو أكثر فيجب أن تأخذ حقها في الصداق.
والصداق دليل المصادقة، وتحمل المسئولية وآية المودة وتوثيق عرى الصلة بين الزوجين كي تدوم الألفة وتعظم المحبة.
والصداق ليس شراء للمرأة، فمعنى قول الإنسان لفتاة هل ترضين أن تكوني زوجتي ؟ أي هل ترضين أن نكون شركة أكون أنا مديرها والمسئول عنها ؟ فتقول له جدا أو مزاحا ؟ أو هل أنت صادق في عرضك ؟.
فالصداق دليل مادي على تحمل المسئولية.
ثم اتبع القرآن ذلك بقوله : " نحلة " أي عطية عن طيب نفس وصدق رغبة بدون مقابل أو عوض.
وأهل اللغة يقولون إن النحل بدون مقابل :
وبعض الفقهاء يقولون : إن الصداق ثمن البضع، ونقول لهم : لو أني اشتريته يا فقهاء لكنت أستطيع بيعه لأخر، ثم إن الله سمى المهر صداقا وجعله نحلة أي هبة وهدية بدون عوض.
لكن القرآن يقول :﴿ فما استمعتم به منهن فآتهن أجورهن ﴾. ( النساء ٢٤ ).
بعد أن سماه القرآن صداقا ونحلة جعله فريضة فرضها الله، وألزمنا بها كما يلزم الإنسان أجر العامل.
فالزوجة قد استمتعت بزوجها كما استمتع هو بها، لكن لما كانت المسألة ليست جزاء الاستمتاع المادي، بل هي حق فرضه الله للمرأة، لأنها قبلت أن تنتقل من بيت أسرتها إلى بيت زوجها، وقبلت أن يكون لزوجها القوامة عليها، وقبلت أن يكون لزوجها الرئاسة والطاعة، لهذا فرض الله لها النفقة والصداق وجعل ذلك فريضة لازمة، كما يلزم الإنسان أن يعطي الأجر لمن عمل له عملا، قال تعالى :﴿ الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ﴾. ( النساء ٣٤ ).
﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ﴾.
والضمير يعود على المهر أي إذا طابت نفوسهن ورضيت عن طيب خاطر ورغبة صادقة أن تتنازل إحداهن لزوجها عن شيء من صداقها، قد أباح الله له أخذه والانتفاع به. وأحل له التصرف فيه حلالا طيبا.
ومن دقائق اللغة، أن القرآن قال :﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ﴾ ولم يقل عقلا لأن الرجل قد يحتال على المرأة حتى تهب له شيئا من الصداق، أو يلوح لها بالزواج فتترضاه بشيء من الصداق وتتنازل له بحكم عقلها، ولكنه تنازل ظاهري.
يقول الحكيم الترمذي : أي أن عقلها يوازي الأمور، ويفضل التضحية بالمال لترضية زوجها، فهي شكلية لا حقيقة.
ولذلكم فإن القرآن قال :﴿ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ﴾ ٢٠.
وقال الزمخشري في الكشاف في تفسير الآية :
وفي الآية دليل على ضيق المسالك في ذلك، ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس : فإن طبن ولم يقل فإن وهبن أو سمحن إعلاما بأن المراعي هو تجافي نفسها عن الموهوب عن طيب خاطر.
والمعنى : فإن وهبن لكم شيئا من الصداق، وتجافت عنه نفوسهن طيبات، لا لحياء عرض لهن منكم أو من غيركم، ولا لاضطرارهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم، وسوء معاشرتكم، فكلوه هنيئا مريئا.
الخطاب في الآية :
الخطاب في الآية للزواج، لأن الضمائر في الآية السابقة لهم، وبعض المفسرين يرى أن الخطاب في هذه الآية للأولياء، فقد كان الولي في الجاهلية يزوج ابنته وأخته، ويأخد الصداق لنفسه، فأنزل الله الآية لمنع ذلك ولا مانع من ان يجعل الخطاب عاما للمسلمين، فيشمل الأزواج والاولياء، فالزوج مطالب بإعطاء المرأة صداقها، والولي مطالب بدفعه لها بعد تسلمه من الزوج، وللزوجة كامل الحق في التصرف في المهر بعد ذلك.
من الأحكام التي تؤخذ من الآية :
١- لابد في النكاح من صداق يعطى للمرأة قال القرطبي : هو مجمع عليه ولا خلاف فيه.
٢- الصداق ملك المرأة ومن حقها أن تتصرف فيه بما شاءت.
٣- يجوز للمرأة أن تعطي زوجها برضاها واختيارها مهرها أو جزء سواء أكان مقبوضا معينا، أم كان في الذمة ويشمل الإبراء الهبة.
ويرى بعض العلماء أن من حقها الرجوع فيما أعطت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى قضاته : إن النساء يعطين رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها.
المفردات :
السفهاء : جمع سفيه والمراد من السفهاء هنا : ضعفاء العقول والأفكار الذين لا يحسنون التصرف.
قياما : ما تقوم به أموركم وتصلح شئونكم.
التفسير :
﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا قولا معروفا ﴾.
المعنى العام :
ولا تعطوا ضعاف العقول ممن لا يحسنون التصرف في أموالهم التي هي أمولكم، فإن مال اليتيم وضعيف العقل مالكم، ويعنيكم أمره وإصلاحه حتى لا يضيع المال فقد جعله الله قوام الحياة وأعطوهم من ثمراتها النصيب الذي يحتاجون إليه في العام، وأكسوهم وعاملوهم بالحسنى، وقولوا لهم قولا يرضيهم ولا يؤذيهم ولا يذلهم.
في أعقاب الآية :
١- اختلف المفسرون في تعيين المخاطبين بقوله تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم.
قال بعضهم المراد بذلك الأوصياء على اليتامى والمراد من السفهاء اليتامى غير العقلاء.
وقال بعضهم الخطاب في الآية الكريمة للآباء والمراد من السفهاء الأولاد الذين يفسدهم المال ويشجعهم على سوء الفعال.
والواقع أن السفهاء تشمل جميع السفهاء من صبي ويتيم وزوجة صغيرة..
فالمسألة ليست خاصة بل الآية دستور عام ينادي بجميع الناس حاكمين ومحكومين، وأوصياء وآباء.
والمراد بالسفهاء كل من لا يحسن المحافظة على ماله لصغره، أو لضعف عقله، لسوء تصرفاته سواء أكان من اليتامى أم من غيرهم.
٢- يقول الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز :
كأنه يقول المال وإن كان ملكا لزيد وعبيد إلا أنه حق للدولة فالجماعة مسئولة عن إضاعة هذه الأموال أيها الرجل المضارب لا تدفع مالك إلى مبدد مبذر.
فالمجموع موزع على المجموع والغرض منه الوحدة والتكافل٢١.
٣- عنى الإسلام بالمحافظة على المال وتثميره وحث القرآن على العمل واكتساب الرزق وبين أن المال قوام الحياة فقال :﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ﴾.
هي من أعجب الأوامر التي تأتي في دستور روحي، وفيها أعظم وصية لتثمير المال ومراعاة قيمته لأنه مقوم الحياة.
وليس ذلك بغريب عن روح القرآن فأطول آية منه جمعت بين الكتابة والشهادة، والصادر والوارد في قوله سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا ﴾ ( البقرة : ٢٨٢ ).
٤- قال القرآن :﴿ وارزقوهم فيها ﴾.
أي اجعلوا الأموال مكانا لرزقهم وكسوتهم وذلك بالاتجار فيها، واستثمارها فتكون نفقتهم من غلتها وربحها لا من أصل المال وهذا هو سر التعبير فيها ولم يقل : منها.
روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا من ولى يتيما له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة " ٢٢.
٥- القول المعروف يرفع الروح المعنوية للسفيه ويخلق عنده الأمل في أن يسترد ماله وصحته وإنسانيته.
والمعروف كلمة الحق عامة تشمل كل ما عرف حسنه وكل ما يناسب حال السفيه من كلمة حانية أو عطف ومودة، أو بشاشة ورحمة أو زرع الأمل والثقة في المستقبل مثل أن يقول المال مالك وما أنت إلا حارس أحفظه لك من الضياع وعند الكبر أو الرشد أو التدبر للأمر - أرده إليك وتصبح أنت كامل التصرف مطلق الحرية ونحو ذلك من العبارات التي تزيل اليأس والقنوط وتغرس الأمل والرجاء.
٦- تفيد الآية وجوب العناية بالأموال وتثميرها وتيسيرها إفادة الناس بها، يقول الأستاذ الشيخ محمود شلتوت :( فليس لأحد أن يقول مالي مالي هو مالي وحدي لا ينتفع به سواي فالمال مال الجميع والمال مال الله ينتفع به الجميع عن الطريق الذي شرعه الله في سد الحاجات ودفع الملمات، وهو ملك لصاحبه يتصرف فيه، لا كما يشاء ويهوى بل كما رسم الله، وبين في كتابه حتى إذا ما أخل بذلك فأسرف وبذر أو ضن وقتر حجر عليه أو اخذ منه قهرا عنه ما يرى الحاكم أخذه من مثله )٢٣.
٧- من الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة، وجوب الحجر على السفهاء وجوب إقامة الوصي والولي والكفيل على الأيتام والصغار ومن حكمهم، ممن لا يحسنون التصرف٢٤
المفردات :
وابتلوا : الابتلاء الاختبار والتجربة.
بلغوا النكاح : أي بلغوا سن النكاح، أو بلغوا الحلم وهو حد التكليف وقدر بخمسة عشر عاما.
آنستم : أبصرتم وتبنيتم.
رشدا : حسن تصرف في الأموال.
إسرافا : الإسراف مجاوزة الحد المعتاد في التصرف.
بدارا : البدار : المسارعة في الشيء.
أي لا تأكلوا أموالهم مسرفين ومبادرين كبرهم، أي مسرعين في تبذيرها قبل أن يكبروا فيتسلموها منكم.
فليستعفف : العفة : ترك ما لا ينبغي من الشهوات والمراد فليتنزه عن الأكل من مال اليتيم.
التفسير :
٦- ﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم.. الآية ﴾
أي عليكم أيها الأولياء والأوصياء أن تختبروا اليتامى وذلك بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط الأمور وحسن التصرف في الأموال، وبتمرينهم على ما يليق بأحوالهم حتى لا يجيء وقت بلوغهم إلا وقد صار في قدرتهم أن يصرفوا أمورهم تصريفا حسنا فإن تبينتم منهم رشدا بعد البلوغ، وهداية إلى حسن التصرف وحفظ الأموال فادفعوا إليهم أموالهم من غير تأخير عن حد البلوغ.
ولا تأكلوها مسرفين في الأكل ومبادرين بالأخذ خشية أن يكبروا فينتزعوها من أيديكم.
ومن كان من الأوصياء على اليتامى غنيا فليتعفف عن الأكل من أموالهم، وليبالغ في إعفاف نفسه وإبعادها عن أخذ شيء من مال اليتيم ومن كان فقيرا فليأخذ من مال اليتيم بقدر حاجته من سد الجوع وستر العورة لا يزيد عن ذلك.
فإذا سلمتموهم أموالهم فليكن ذلك أمام شهود، إثباتا للحق وحماية لأنفسكم، وتأكيدا لحفظ مال اليتيم.
والله من ورائكم هو المحاسب والمراقب وكفى به حسيبا ومراقبا.
في رحاب الآية :
١- عنى القرآن بتربية اليتيم وكفالته ورعايته وتكوين شخصيته. لأنه فرد من أفراد الأمة والأمة مجموعة أفراد. وقد أمر في الآية السابقة بالقول المعروف معه والتوجيه السديد وفي هذه الآية حث على التدريب العملي بالاختبار كأن تسأله أنا اشتريت هذا الثوب كم يساوي ؟ فإذا توسم الوصي فيه خيرا أعطاه قليلا من المال ليتصرف فيه حتى إذا بلغ الحلم وآنس فيه الرشد دفع إليه المال، وقد علق دفع المال على شرطين، البلوغ والرشد وهو صغير لا يدفع إليه حتى يكبر، والكبر وحده لا يكفي بل لابد من الكبر مع الرشاد، والرشد عند كثير من المفسرين يكون في المال والدين والخلق.
يقول الأستاذ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق :
﴿ وابتلوا اليتامى ﴾. يأمر باختبارهم وتدريبهم على التصرف، والقيام على بعض الشئون لينظر أيحسنون أم يسيئون ؟ فإذا أحسنوا وسعت لهم دائرة الاختبار، وإذا أساءوا أرشدوا وعلموا، تأمر الآية باختبارهم على هذا النحو. حتى يصلوا إلى درجة الرشد، وتعرف قدرتهم على ضبط الأموال وحسن التصرف، فتسلم أموالهم إليهم ليباشروا شئونها بأنفسهم ويدخلوا بها في معترك الحياة٢٥.
﴿ حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ﴾ الفاء في قوله : فادفعوا، واقعة من جواب الشرط فإن آنستم. والشرط وجوابه واقع جواب إذا.
***
٢- سن البلوغ :
ظاهر الآية يدل أن أموال اليتامى لا تدفع إليهم إلا إذا بلغوا راشدين.
والبلوغ إما بالاحتلام للذكور، وبالحيض للإناث، وإما بالسن وهو عند الشافعي والحنابلة ١٥ سنة، وعند المالكية ١٧ سنة.
وفرق الحنفية بين الذكور والإناث فجعلوه للذكور ١٨ عاما وللإناث ١٧ عاما وكل ذلك بالحساب القمري.
فإذا بلغ غير رشيد فلا يسلم له ماله عند جمهور الفقهاء.
وقال أبو حنيفة : يسلم له إذا بلغ ٢٥ سنة وإن يثبت رشده، لأنه يصلح أن يكون جدا، وهو يستحيي أن يحجر على مثله.
***
٣- أجرة الوصي :
اختلف العلماء حول قوله سبحانه :
﴿ ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ﴾.
١- منهم من قال إن هذه الآية مع شدتها منسوخة بقوله تعالى :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ﴾ ( النساء ١٠ ).
٢- ومنهم من يرى أن الآية غير منسوخة ولكنها أرشدت الغني إلى العفة عن مال اليتيم، وأن يقصد بعمله ورعايته وجه الله.
وأباحت للفقير أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من مال اليتيم قرضا، ثم إذا أيسر قضاه، وإن مات ولم يقدر على القضاء بأن كان معسرا فلا شيء عليه٢٦.
وعن عمر : يأخذ الوصي الفقير ما يسد جوعه ويواري سوأته، إذا استغنى رد ما أخذ.
وعن عمر : ألا أني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت استقرضت، فإذا أيسرت قضيت.
٣- الوصي له حالتان :
أن يكون وليا فعليا، يتصرف في مال اليتيم ويرعى شئونه، محاسبا أو وكيلا أو راعيا فبقدر ما يؤجر به نفسه يأخذ من مال اليتيم.
أو أنه ما دام سلم نفسه لليتيم يرعى أمره فليأخذ ما يكفيه وما ينفق به على نفسه.
كالقاضي في مال الدولة فإنه يأخذ المال والمرتب وإن كان غنيا ورد هذا لقول بأن هناك فرقا بين المقامين.
فالقاضي يأكل من مال الدولة وهو مال عام، والوصي هنا يأكل من مال خاص.
والرأي الأخير أمثل الآراء فالوصي إن شغل بمال اليتيم ورعايته فله الأكل بالمعروف زائدا على أجرته إن كان فقيرا وله الأجر فقط إن كان غنيا.
يقول الإمام فخر الدين الرازي :
اختلف العلماء في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم أم لا ؟.
فمنهم من يرى أن للوصي أن يأخذ من مال اليتيم بقدر أجر عمله... لأن الوصي لما تكلف بإصلاح مهمات الصبي، وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها، فإنه يضرب له في تلك الصدقات بسهم وكذا هنا...
٤- الإشهاد عند تسليم المال لليتيم :
أمر الله بالإشهاد عند تسليم أموال اليتامى إليهم، كما أمر بالإشهاد عند كتابة الدين فقال :﴿ واستشهدوا شهيدين من رجالكم ﴾. ( البقرة ٢٨٢ ).
والإشهاد يكون في الأمور الهامة، وفي الأمور المالية بالذات منعا للخصومات والمنازعات، وإبراء لذمة الأوصياء، ولكي يكون اليتامى على بينة من أمرهم.
وقد ذهب الشافعية والمالكية والحنابلة إلى أن الإشهاد واجب عند تسليم اليتيم ماله، لقوله تعالى :﴿ فأشهدوا عليهم ﴾. وهو أمر وظاهر الأمر أنه للوجوب، وليس معنى الوجوب هنا أن الوصي يأثم إذا لم يشهد، بل معناه أن الإشهاد لابد منه من براءة ذمته بأن يدفع لليتيم ماله أمام رجلين أو رجل وامرأتين حتى إذا دفع المال ولم يشهد ثم طالبه اليتيم فحينئذ يكون القول ما قاله اليتيم بعد أن يقسم على أن الوصي لم يدفع إليه ماله.
ويرى الإمام أبو حنيفة أن الأمر في قوله تعالى :﴿ فأشهدوا عليهم ﴾. للندب وأن الوصي إذا ادعى ذلك يصدق ويكتفي في تصديقه بيمينه لأنه أمين لم تعرف خيانته إذ لو عرفت خيانته لعزل.
٥- ختام الآية :
قال سبحانه :
﴿ فإذا دفعتم إليهم أمولهم فاشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا ﴾.
يعني أنكم قد تبرؤون أمام القضاء ولكن الله دقيق في حسابه لا تخفى عليه خافية فراقبوا الله قبل رقابة القضاء.
٧- ﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو أكثر نصيبا مفروضا ﴾
سبب النزول :
جاء في تفسير ابن كثير : قال سعيد بن جبير وقتادة : كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا، فأنزل الله : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون.. الآية.
أي الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم بما يدلي به إلى الميت من زوجية أو قرابة.
ورى ابن مردويه عن جابر قال : أتت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن لي ابنتين قد مات أبوهما وليس لهما شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية.
***
٧- ﴿ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ﴾.
والمعنى :
للذكور نصيب مما تركه الوالدان والأقربون، أي ما تركه آباؤهم وأمهاتهم وأقاربهم كالإخوة والأخوات، والأعمام والعمات.
وللإناث نصيب مما تركه آبائهن وأمهاتهن وأقاربهن.
والمقصود من الآية إثبات حق النساء في الميراث سواء أكانوا صغارا أم كبارا وإثبات حق الذكور في الميراث كبارا كانوا أم صغارا.
وبهذا بطل ما كان عليه أهل الجاهلية من توريث البالغين من الرجال فقط، حيث جعل للجميع حظا ونصيبا في الإرث.
وكان يكفي أن يقال : لكل واحد نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، ولكنه تعالى شاء أن يفصل فيجعل للرجال نصيبا وللنساء نصيبا مما تركه الوالدان والأقربون إذانا بأصالة النساء في استحقاق الميراث، ومنعا من صرف هذا المجمل إلى الرجال وحدهم، على ما كانت عليه عادة الجاهلية، ومبالغة في إبطال هذه العادة الظالمة.
﴿ مما قل منه أو أكثر ﴾. سواء كانت التركة كثيرة أم قليلة عقارا أو منقولا فلا يحق لبعض الورثة أن يستأثر ببعض الميراث دون الآخرين.
وتقديم القليل على الكثير في الآية للتنبيه على وجوب دخوله في الميراث بين المستحقين لأنه مظنة التهاون فيه.
﴿ نصيبا مفروضا ﴾. نصيبا مقطوعا فرضه الله بشرعه العادل وكتابه المبين، فلا سبيل إلى التهاون فيه، بل لابد من إعطائه لمن يستحقه كاملا غير منقوص.
المفردات :
أولوا القربى : أصحاب القرابة غير الوارثين.
فارزقوهم منه : فأعطوهم من المال الموروث.
التفسير :
٨- ﴿ وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين ﴾. ممن لا نصيب لهم في الميراث واليتامى الذين فقدوا العائل والنصير، والمساكين الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم وصاروا في حاجة إلى العون والمساعدة.
﴿ فارزقوهم منه ﴾. أي فأعطوهم من الميراث الذي تقتسمونه، شيئا يعينهم على سد حاجتهم، وتفريج ضائقتهم.
﴿ وقولوا لهم قولا معروفا ﴾. أي قولا لينا جميلا مثل : وددنا لو أعطيناكم أكثر من هذا ومن القول المعروف دعاؤكم لهم بالبركة وعدم منكم عليهم.
وليس المراد من حضور ذوي القربى واليتامى والمساكين. أن يكونوا شاهدين للقسمة، جالسين مع الورثة لأن قسمة الأموال لا تكون عادة عند حضور هؤلاء الضعفاء، وإنما المراد من حضورهم العلم بهم من جانب الذين يقتسمون التركة والدراية بأحوالهم، وأنهم في حاجة إلى العون والمساعدة.
ويتعلق بهذه الآية ما يأتي :
١- يرى بعض العلماء أنه للوجوب، لأنه هو المستفاد من ظاهر الأمر، ويرى كثير من العلماء أن هذا الأمر بالإعطاء للندب لا للوجوب، وأنه هذا الندب إنما يحصل إذا كان الورثة كبارا، وأما إذا كانوا صغارا فليس على أوليائهم إلا قول المعروف.
وقد رجح القرطبي كون الأمر للندب لا للوجوب، ( وجمهور فقهاء الأمصار على أن هذا الإعطاء على سبيل الاستحباب ) ٢٧.
٢- هل هذه الآية منسوخة أم محكمة ؟
من العلماء من قال : إن هذه الآية قد نسخت بآية المواريث التي بعدها، وهي قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم...
فجعل الله لكل إنسان نصيبه مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو أكثر، وهذا مذهب جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة٢٨.
ومن العلماء من ذهب إلى أن هذه الآية محكمة وليست بمنسوخة، وفي البخاري عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : هي محكمة وليست بمنسوخة٢٩.
وفي تفسير القرطبي عن ابن عباس قال : إن ناسا يزعمون أن هذه الآية قد نسخت لا والله ما نسخت ولكنها مما تهاون به الناس٣٠.
وعن الحسن كانوا يعطون التابوت والأواني، ورث الثياب، والمتاع الذي يستحيي من قسمته.
وعن يحيى بن يعمر٣١ ثلاث آيات محكمات تركهن الناس٣٢ هذه الآية وآية الاستئذان :﴿ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت إيمانكم والذين لم يبلغوا منكم الحلم ثلاث مرات... ﴾ ( النور ٥٨ ).
وقوله تعالى :﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم.. ﴾ ( الحجرات ١٣ ).
ومن المفسرين من رجح أن هذه الآية لا تعارض بينها وبين آية المواريث، لان هذه الآية إنما تأمر بما يؤدي إلى التعاطف والتراحم بين الناس، وهذا أمر لا ينسخ، بل هو ثابت في كل زمان ومكان.
ثم إن هذه الآية الأمر فيها على سبيل الندب والاستحباب، لا على سبيل الفرض والإيجاب٣٣.
المفردات :
وليخش الخشية : الخوف والحذر.
قولا سديدا : عدلا وصوابا.
خلاصة معنى هذه الآية : عاملوا اليتامى بمثل ما تحبون أن يعامل به أولادكم من بعدكم.
والآية وصية إلى الأولياء برعاية اليتامى رعاية أبويه مخلصة، فيها الحنان، والعطف والمحافظة على مال اليتيم، وقد لمس القرآن شغاف القلوب، قلوب الآباء المرهفة الحساسية، بتصور ذريتهم الضعاف مكسوري الجناح، لا راحم ولا عاصم كي يعطفهم هذا على اليتامى، الذين وكلت إليهم أقدارهم، بعد ان فقدوا الآباء، فربما تعرض أبناؤهم غدا لمثل هذا الموقف، فليعاملوا اليتامى بمثل ما يرغبون أن تعامل به أبناؤهم من بعدهم.
﴿ فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ﴾. فليتقوا الله في كل شأن من شئونهم، وفي أموال اليتامى فلا يعتدوا عليهم، وليقولوا لليتيم ما يقوله الوالد لولده، من القول الجميل، والهادي له إلى حسن الآداب، ومحاسن الأفعال.
والسديد : المصيب العدل الموافق للشرع.
يقول الأستاذ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور :
وفي الآية الكريمة ما يبعث الناس كلهم على ان يغضبوا للحق، وأن يأخذوا على أيدي أولياء السوء، وأن يحرسوا أموال اليتامى، ويبلغوا حقوق الضعفاء إليهم، لأنهم إن أضاعوا ذلك يوشك أن يلحق أبناءهم وأموالهم مثل ذلك وان يأكل قويهم ضعيفهم، فإن اعتياد السوء ينسي الناس شناعته، ويكسب النفوس ضراوة على عمله٣٤.
المفردات :
يأكلون في بطونهم نارا : أي يأكلون ما يؤدي بهم إلى النار ليعاقبوا فيها على ما أكلوه.
وسيصلون سعيرا : أي وسيدخلون نارا هائلة، من صلى النار بكسر اللام أي قاسى حرها : والسعير النار الموقدة، من سعرت النار أوقدتها.
التفسير :
تحدثت السورة عن اليتيم، وحذرت من أكل ماله بالباطل، وكشفت الحيل والألاعيب التي يلجأ إليها الأوصياء : نجد ذلك في الآية الثانية والثالثة، والسادسة، والثامنة والتاسعة من سورة النساء.
وفي هذه الآية العاشرة تأكيد لما سبق، وتحذير من أكل مال اليتيم ظلما وعدوانا، وساقت ذلك في صورة حسية مفرغة، صورة النار في البطون، وصورة السعير في النهاية...
" إن هذا المال - مال اليتيم - لهو نار وإنهم ليأكلون هذه النار. وإن مسيرهم لإلى السعير، فهي النار إذن تشوي البطون والجلود، هي النار إذن من باطن وظاهر... هي النار مجسمة في هذا المشهد تكاد تحسها البطون وتكاد تراها الأبصار " ٣٥.
" وقد أكد الله الوعيد في أكل مال اليتيم، رحمة من الله تعالى باليتامى لأنهم لكمال ضعفهم وعجزهم استحقوا من الله مزيد العناية والكرامة، وما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته، وكثرة عفوه وفضله، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى، بلغت عناية الله لهم إلى الغاية القصوى " ٣٦.
وفي أسباب النزول للواحدي، وتفسير القرطبي والكواشي، أن هذه الآية نزلت في رجل من غطفان يقال له : مرثد بن زيد، ولي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله، فأنزل الله تعالى فيه :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ﴾. أي بغير حق ﴿ إنما يأكلون في بطونهم نارا ﴾. أي المال الحرام الذي يفضي بهم إلى النار :
﴿ وسيصلون سعيرا ﴾ : أي سيدخلون النار المسعرة يقاسون ويشتوون بحريقها.
قال تعالى :﴿ فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلها إلا الأشقى ﴾ ( الليل ١٤-١٥ ) تقول : صليت اللحم إذا شويته، فإن أردت أنك أحرقته قلت أصليته٣٧.
وللمفسرين في تفسير قوله تعالى :﴿ إنما يأكلون في بطونهم نارا ﴾. اتجاهان :
أولهما : أن الآية على ظاهرها، وأن الآكلين لمال اليتامى ظلما سيأكلون النار يوم القيامة.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا. قيل يا رسول الله من هم ؟ قال : ألم تر أن الله قال :﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا.. ﴾٣٨.
وثانيها : أن الكلام على المجاز لا على الحقيقة، وان المراد إنما يأكلون في بطونهم المال الحرام الذي يفضي بهم إلى النار.
وقد اخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم أنه لما نزلت هذه الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه وشرابه، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم.. الآية ﴾. ( البقرة ٢٢٠ ). فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم٣٩.
قال الفخر الرازي : ومن الجهال من قال : صارت هذه الآية منسوخة بتلك وهو بعيد، لأن هذه الآية في المنع من الظلم وهذا لا يصير منسوخا بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى إن كانت على سبيل الظلم فهي من أعظم أبواب الإثم كما في هذه الآية، وإن كانت على سبيل التربية والإحسان فهي من أعظم أبواب البر، كما في قوله تعالى : وإن تخالطوهم فإخوانكم... ٤٠. ( البقرة ٢٢٠ ).
دعوى باطلة :
يدعي بعض المغرضين أن القرآن لم يهتم بالصغار... وهذه دعوى باطلة، فقد عنى القرآن باليتيم وحث على إكرامه ورعايته ليكون عضوا صالحا في المجتمع وكانت التربية تتم بالقدوة والأسوة، وفي سورة لقمان وصايا حكيم لابنه، وفي آيات كثيرة نجد وصية للآباء برعاية أبنائهم وحسن توجيههم، ووقايتهم من النار، وأمرهم بالصلاة، وكذلك في السنة المطهرة.
وقد ادعى بعض المغرضين أن التشريع الإسلامي مأخوذ عن التشريع الروماني، وهذه دعوى باطلة لما يأتي :
١- التشريع الروماني مأخوذ عن الألواح الاثنى عشر والتشريع الروماني في سوريا وما جاورها نظر إلى العرف السائد فدونه، وكان يرجع إليه كقانون وأحيانا يقضي القضاء بمقتضى العرف بدون قانون. فكيف يؤخذ من تدوين عرف لشريعة نزلت كاملة شاملة.
٢- علماء الغرب أنفسهم يعترفون بانفراد القرآن الكريم بالحديث عن اليتيم، وإفاضة القول في الوصية به، فالقانون الروماني يهدف إلى أن يأخذ الوصي نصيب الأسد بينما القانون الإسلامي على النقيض من ذلك كله، توصية باليتيم، وتحذير من أكل ماله بشتى الطرق، ولم يجعل للوصي الحق في أخذ شيء من المال إلا إذا كان فقيرا فليأكل بالمعروف.
من هدى السنة :
١- في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات، قيل : يا رسول الله، وما هن ؟ قال الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " ٤١.
٢- روى البخاري وغيره عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أنا وكافل اليتيم في الجنة كهذا ". وقال بأصبعيه السبابة والوسطى، وأشار وفرج بين أصبعيه السبابة والوسطى٤٢.
وكان سلوك النبي الكريم قدوة حسنة في رعاية اليتامى وكفالتهم ليكونوا لبنة صالحة لا يحقدون على المجتمع، ولا يضمرون الشر لمن ظلم ونجد الوصية باليتيم في القرآن المكي والمدني.
فمن القرآن المكي قوله تعالى :{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا. ( الإسراء ٣٤ ).
وقال تعالى :﴿ ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث ﴾. ( الضحى ٢-١١ ).
ومن القرآن المدني ما ورد في الآيات العشر الأولى من سورة النساء وفيها وصايا متكررة باليتيم.
ومن القرآن المدني قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم ﴾ ( البقرة ٢٢٠ ).
المعنى العام لآية ١١ :
يأمركم الله في شان توريث أولادكم وأبويكم إذا متم بما يحقق العدل والإصلاح، وذلك بأن يكون للذكر مثل نصيب الأنثيين إذا كان الأولاد ذكورا وإناثا، فإن كان جميع الأولاد إناثا يزيد عددهن على اثنين فلهن الثلثان من التركة، ويفهم من مضمون الآية أن الثنتين نصيبهما كنصيب الأكثر من اثنتين، وإن ترك بنتا واحدة فلها نصف ما ترك، وإن ترك أبا وأما فلكل واحد منهما السدس، وإن كان له ولد معهما، وله ذكر أو أنثى ﴿ فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه ﴾. فقط فلأمة الثلث وبالباقي للأب، فإن كان له إخوة فلأمه السدس والباقي للأب، ولا شيء للأخوة، تعطي هذه الأنصبة لمستحقيها، بعد أداء ما يكون عليه من دين وتنفيذ ما وصى به، هذا حكم الله فإنه عدل ورحمة، وأنتم لا تدرون الأقرب لكم نفعا من الآباء والأبناء، والخير فيما أمره الله، فهو العليم بمصالحكم الحكيم فيما فرض لكم.
نظام المواريث الذي بينه القرآن الكريم أعدل نظام للتوريث عرف في القوانين، وقد اعترف بذلك علماء القانون في أوربا، وهو دليل على ان القرآن من عند الله، لم يكن مثله ولا قريب منه معروف عند الفرس ولا عند الرومان، ولا في أي شريعة أخرى قبله.
قد اتبع النظم العادلة الآتية :
١- أنه جعل التوريث بتنظيم الشارع لا بإرادة المالك، من غير أن يهمل هذه الإرادة فقد جعل له الوصية بالمعروف في الثلث، ليترك الإنسان تقصيرا دينيا فاته، مثل أداء الزكاة، وإعانة الفقراء والمحتاجين من الأقارب الذين لا يستحقون ميراثا.
٢- في توزيع الميراث يعطي الأقرب فالأقرب من غير تفرقة بين صغير وكبير، ولذلك كان الأولاد أكثر حظا من غيرهم في الميراث، لأنهم امتداد لشخص المالك، ولأنهم في الغالب ضعاف، ومع ذلك لم يستأثروا بالميراث، بل تشاركهم الأم والجدة، والأب والجد وإن كانوا يأخذون نصيبا أقل من الأولاد.
٣- أنه يلاحظ في التوريث مقدار الحاجة، فالأولاد مقبلون على الحياة فلذلك كان نصيبهم أكبر، والآباء مدبرون عنها ولذلك نصيبهم أقل.
٤- اتجه الشارع في الميراث إلى توزيع التركة دون تجميعها، فلم يجعلها للولد البكر، ولم يجعلها للأولاد دون البنات، ولا للأولاد دون الآباء، ولم يحرم من ليسوا من عود النسب كالإخوة والأعمام وأبناء الأعمام وإن بعدوا، فالميراث يمتد إلى ما يقارب القبيلة ولكن الأقرب فالأقرب.
٥- لم يحرم المرأة من الميراث كما كان يجري عند العرب، بل جعل لها حقا معلوما يتناسب مع واجباتها، فالمرأة إذا كانت بنتا فهي في كفالة أبيها، وإذا كانت زوجة فهي في كفالة زوجها، وعلى زوجها النفقة عليها وعلى أولاده منها، فكان من العدالة أن يكون الغنم بالغرم، وان يكون ميراث البنت على مقدار النصف تقريبا من نصيب الابن، وهذا من عدالة الإسلام فهو لم يحرم المرأة ولم يسو بينها وبين الرجل، بل أعطاها النصف، وجعل لأخيها ضعف نصيبها لأن أخاها سيتزوج ويفتح بيتا وينفق على زوجته وأولاده، وأما هي فدورها ونصيبها في أنها يجب لها المهر والنفقة والكسوة والسكنى، وكل تكاليف الحياة لها ولأولادها فريضة على زوجها قال تعالى :﴿ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فليفق مما آتاه الله.. ﴾ ( الطلاق ٧ ).
المستحق للتركة :
تحدثت هاتان الآيتان ١١-١٢ من سورة النساء عن الميراث ونصيب كل وارث، كما تحدثت الآية الأخيرة من سورة النساء عن ميراث الكلالة٤٤ فإذا انضم إلى هذه الآيات الثلاث، الأحاديث الواردة في الميراث أدركنا نصيب المستحقين للتركة، وأصحاب الفروض وهم : الزوج والزوجة والبنات، وبنات الابن، والأب والجد الصحيح والأم، والجدة الصحيحة، والأخوات الشقيقات والأخوات لأب، والجد مع الإخوة وأولاد الأم.
ومن المستحقين للتركة، العصبة النسبية وهم كل من يأخذ ما بقي من التركة بعد إلحاق الفرائض بأهلها ويجوز جميع التركة عند الانفراد.
ومنهم العاصب بنفسه، وهو كل ذكر لم يدخل في نسبته إلى الميت أنثى، ولا يحتاج في عصوبيته إلى غيره، وهو منحصر في جهات أربع :
١- جهة البنوة، كالابن وابن الابن وإن نزل.
٢- جهة الأبوة كالأب والجد وإن علا.
٣- جهة الأخوة كالأخ الشقيق وابنه، والأخ لأب وابنه.
٤- جهة العمومة كعم الميت الشقيق، وابنه وعمه لأب وابنه.
***
أصحاب الفروض :
أصحاب الفروض كل من له سهم مقدر في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو بالإجماع وهم اثنا عشر : الزوجان واثنان من الفروع : البنت وبنت الابن.
وأربع من الأصول : الأب والجد والأم والجدة.
وأربعة من الحواشي وهم : الأخت الشقيقة أو لأب أو لأم والأخ لأم.
وهذا بيان لنصيب كل وارث من هؤلاء.
١- الزوج :
للزوج حالان :
١- أن يأخذ النصف وذلك عند عدم الفرع الوارث للزوجة مذكرا أو مؤنثا من هذا الزوج أو من غيره كالابن وابن البيت وبنت الابن.
٢- أن يأخذ الربع عند وجود الفرع الوارث مذكرا أو مؤنثا٤٥.
٢- الزوجة :
للزوجة حالتان :
١- أن تأخذ الربع، وذلك عند عدم الفرع الوارث للزوج مذكرا أم مؤنثا، من هذه الزوجة أم من غيرها
٢- أن تأخذ الثمن عند وجود الفرع الوارث مذكرا أم مؤنثا٤٦.
٣- البنات :
٤- للبنات ثلاث حالات :
١- أن يرثن بالتعصيب إذا كان معهن أخ مذكر واحد أو أكثر فتقسم بينهم التركة أو ما تبقى منها للذكر مثل حظ الأنثيين.
٢- أن تأخذ الواحدة النصف إذا لم يكن معها أخ ولا أخت.
٣- أن تأخذ الثنتان فأكثر الثلثين إذا لم يكن معهن أخ لهن٤٧.
٤- بنات الابن :
لبنات الابن ست حالات، الثلاث التي للبنات عند عدم البنات والأبناء ويزاد عليها ما يأتي :
١- أن تحجب بالبنتين إلا إذا كان بحذائها أو انزل منها غلام فإنه يعصبها وتأخذ معه ما بقي.
٢- أن تحجب بكل غلام أعلى منها درجة، فبنت الابن تحجب بالابن... وبنت ابن الابن تحجب بابن الابن وهكذا.
٥- الأب٤٨ :
للأب ثلاث حالات :
١- أن يأخذ السدس بالفرض فقط، وذلك عند وجود الفرع الوارث المذكر وإن نزل وحده أم مع غيره.
٢- أن يأخذ السدس بالفرض ثم يأخذ بالتعصيب ما يبقي من أصحاب الفروض، وذلك عند وجود الفرع الوارث المؤنث دون المذكر.
٣- أن يرث بالتعصيب فقط، وذلك إذا انعدم الفرع الوارث مذكرا أم مؤنثا والأب لا يحجب من الميراث بحال.
٢- الجد الصحيح :
هو كل أصل مذكر لا تدخل في نسبته إلى الميت أنثى كأبي الأب، وأبي أب الأب، فإن دخل في نسبته إلى الميت أنثى كأبي الأم وأبي أم الأب، فهو الجد الفاسد وهو من ذوي الأرحام.
والجد الصحيح كالأب عند عدم الأب.
٦- الأم٤٩ :
للام ثلاث حالات :
١- أن تأخذ سدس التركة إذا كان للميت فرع وارث مذكرا أو مؤنث، أو كان له أكثر من واحد من الأخوة أو الأخوات من أي نوع.
٢- أن تأخذ ثلث التركة إذ لم يكن للميت فرع وارث، ولا أكثر من واحد من نفس الأخوة أو الأخوات، لا من فروعهم.
٣- أن تأخذ ثلث الباقي بعد نصيب أحد الزوجين، إذا كان معها الأب واحد الزوجين، وليس معها فرع وارث، ولا جمع من الأخوة والأخوات.
٧- الجدة الصحيحة :
هي كل أصل مؤنث لا يدخل في نسبته على الميت جد فاسد، فإن دخل في نسبته إلى الميت جد فاسد، كأم أبي الأم فهي الجدة الفاسدة وهي من ذوي الأرحام وتأخذ الجدة السدس، وتحجب بالأم سواء أكانت الجدة أبوية أم أمية تحجب الأبوية بالأب.
٨- الأخوات الشقيقات :
٩- للأخوات الشقيقات خمس حالات :
١- أن تأخذ الواحدة النصف إذا انفردت.
٢- أن تأخذ الثنتان فأكثر الثلثين عند عدم الأخ الشقيق.
٣- أن يرثن بالتعصيب بالغير، إذا كان مع الواحدة أو الأكثر أخ شقيق أو أكثر فتقسم بينهم التركة أو ما بقي منها للذكر مثل حظ الأنثيين.
٤- أن يرثن بالتعصيب مع الغير، وذلك إذا كان مع الواحدة أو الأكثر بنت ابن أو أكثر، فلهن ما يبقى بعد أصحاب الفروض.
٥- أن يحجبن بالفرع الوارث المذكر وهو الابن وإن نزل.
١٠- الأخوات لأب :
هي كالأخوات الشقيقات عند فقدهن بإجماع العلماء قياسا على بنات الأبناء مع بنات الصلب.
فللأخوات لأب الأحوال الخمسة التي للشقيقات والأخ لأب معهن كالأخ الشقيق مع الشقيقات.
١١- أولاد الأم٥٠ :
لأولاد لأم ثلاث حالات :
١- أن يأخذ الواحد السدس إذا انفرد مذكرا كان أن مؤنثا.
٢- أن يأخذ الاثنان فأكثر الثلث : يقسم بينهم بالتساوي سواء أكانوا ذكورا فقط ام إناثا أم ذكورا وإناثا.
٣- الحجب بالفرع الوارث مذكرا أم مؤنثا وبالأصل الوارث المذكر أبا أو جدا، ولا يحجبون بالأم وإن كانوا يدلون بها.
***
مبادئ في التوريث :
نستطيع ان نستخلص من آيات المواريث المبادئ الآتية :
١- مبنى التوريث في الإسلام أمران : نسبي وهو القرابة، وسببي وهو الزوجية.
٢- متى اجتمع من المستحقين ذكور وإناث، أخذ الذكر ضعف الأنثى، إلا في الإخوة الأم، فإنهم يستوون في النصيب، لأنهم يدلون إلى الميت بالأم. وهم سواء في الانتساب إليها.
٣- الأبناء والزوجان والأبوان لا يسقطون في أصل الاستحقاق، وإن كان يؤثر عليهم وجود غيرهم في كمية المستحق.
٤- لا إرث للأخوة والأخوات مع وجود الأبوين، وإن كانوا يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، لأن وجود عدد من الإخوة يثقل كاهل الأب. فاستحق زيادة في الميراث لرعايتهم وكفالتهم.
٥- يجب تقديم حقوق الميت على تقسيم التركة قال تعالى : من بعد وصية يوصي بها أو دين. وقد تكررت في الآيتين ١١و ١٢ من سورة النساء أربع مرات لتنبيه الأذهان إلى وجوب العناية بأمرين قبل تقسيم التركة.
الأول : أداء الديون التي على الميت.
الثاني : تنفيذ وصيته في حدود ثلث ماله.
٦- لا ينبغي للإنسان ان يسئ إلى ورثته حين مشارفته الموت، بالوصية لمن ليس محتاجا إليها، أو الإقرار بما ليس ثابتا عليه، وورثته في حاجة إليه، يرشد إلى هذا قوله تعالى :{ غير مضار وصية من الله. وقوله : وصية من الله. أي يوصيكم الله أن تنفذوا أحكامه وان تبعدوا عن الإضرار بالورثة أو حرمان البنات، او تفضيل بعض الأولاد على بعض، أو منع بعض العصبة من أخذ حقوقهم، تحت ستار البيع، أو تحت ستار الوصية أو الاعتراف بالديون.
وجدير المؤمن ألا يختم حياته بوزر عظيم يفرط بسببه في تنفيذه الأحكام التي فرضها الله، فالله عليم حكيم فيما شرع ؟، وعلينا أن ننفذ أحكامه وأن نخضع لأوامره، ففي ذلك عز الدنيا وشرف الآخرة.
للزوج نصف ما تركت الزوجة إن لم يكن لها ولد منه أو من غيره، فإن كان لها ولد فلزوجها الربع، من بعد وصية توصي بها او دين، وللزوجة واحدة او متعددة الربع مما ترك الزوج إن لم يكن له منها أو من غيرها ولد، فإن كان له ولد فللزوجة الثمن من بعد وصية يوصي بها أو دين، وولد الابن كالولد فيما تقدم.
وإن كان الميت رجلا أو امرأة ولا ولد له ولا والد، وترك أخا لأم أو أختا لأم، فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث يستوي في ذلك ذكرهم وأنثاهم بمقتضى الشركة، من بعد أداء الديون التي عليه، وتنفيذ الوصية التي لا تضر الورثة، وهي التي لا تتجاوز ثلث الباقي بعد الدين، فالزموا أيها المؤمنون ما وصاكم به الله فإنه عليم بمن جار أو عدل منكم، حليم لا يعاجل الجائر بالعقوبة٤٣.
نظام المواريث الذي بينه القرآن الكريم أعدل نظام للتوريث عرف في القوانين، وقد اعترف بذلك علماء القانون في أوربا، وهو دليل على ان القرآن من عند الله، لم يكن مثله ولا قريب منه معروف عند الفرس ولا عند الرومان، ولا في أي شريعة أخرى قبله.
قد اتبع النظم العادلة الآتية :
١- أنه جعل التوريث بتنظيم الشارع لا بإرادة المالك، من غير أن يهمل هذه الإرادة فقد جعل له الوصية بالمعروف في الثلث، ليترك الإنسان تقصيرا دينيا فاته، مثل أداء الزكاة، وإعانة الفقراء والمحتاجين من الأقارب الذين لا يستحقون ميراثا.
٢- في توزيع الميراث يعطي الأقرب فالأقرب من غير تفرقة بين صغير وكبير، ولذلك كان الأولاد أكثر حظا من غيرهم في الميراث، لأنهم امتداد لشخص المالك، ولأنهم في الغالب ضعاف، ومع ذلك لم يستأثروا بالميراث، بل تشاركهم الأم والجدة، والأب والجد وإن كانوا يأخذون نصيبا أقل من الأولاد.
٣- أنه يلاحظ في التوريث مقدار الحاجة، فالأولاد مقبلون على الحياة فلذلك كان نصيبهم أكبر، والآباء مدبرون عنها ولذلك نصيبهم أقل.
٤- اتجه الشارع في الميراث إلى توزيع التركة دون تجميعها، فلم يجعلها للولد البكر، ولم يجعلها للأولاد دون البنات، ولا للأولاد دون الآباء، ولم يحرم من ليسوا من عود النسب كالإخوة والأعمام وأبناء الأعمام وإن بعدوا، فالميراث يمتد إلى ما يقارب القبيلة ولكن الأقرب فالأقرب.
٥- لم يحرم المرأة من الميراث كما كان يجري عند العرب، بل جعل لها حقا معلوما يتناسب مع واجباتها، فالمرأة إذا كانت بنتا فهي في كفالة أبيها، وإذا كانت زوجة فهي في كفالة زوجها، وعلى زوجها النفقة عليها وعلى أولاده منها، فكان من العدالة أن يكون الغنم بالغرم، وان يكون ميراث البنت على مقدار النصف تقريبا من نصيب الابن، وهذا من عدالة الإسلام فهو لم يحرم المرأة ولم يسو بينها وبين الرجل، بل أعطاها النصف، وجعل لأخيها ضعف نصيبها لأن أخاها سيتزوج ويفتح بيتا وينفق على زوجته وأولاده، وأما هي فدورها ونصيبها في أنها يجب لها المهر والنفقة والكسوة والسكنى، وكل تكاليف الحياة لها ولأولادها فريضة على زوجها قال تعالى :﴿ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فليفق مما آتاه الله.. ﴾ ( الطلاق ٧ ).
المستحق للتركة :
تحدثت هاتان الآيتان ١١-١٢ من سورة النساء عن الميراث ونصيب كل وارث، كما تحدثت الآية الأخيرة من سورة النساء عن ميراث الكلالة٤٤ فإذا انضم إلى هذه الآيات الثلاث، الأحاديث الواردة في الميراث أدركنا نصيب المستحقين للتركة، وأصحاب الفروض وهم : الزوج والزوجة والبنات، وبنات الابن، والأب والجد الصحيح والأم، والجدة الصحيحة، والأخوات الشقيقات والأخوات لأب، والجد مع الإخوة وأولاد الأم.
ومن المستحقين للتركة، العصبة النسبية وهم كل من يأخذ ما بقي من التركة بعد إلحاق الفرائض بأهلها ويجوز جميع التركة عند الانفراد.
ومنهم العاصب بنفسه، وهو كل ذكر لم يدخل في نسبته إلى الميت أنثى، ولا يحتاج في عصوبيته إلى غيره، وهو منحصر في جهات أربع :
١- جهة البنوة، كالابن وابن الابن وإن نزل.
٢- جهة الأبوة كالأب والجد وإن علا.
٣- جهة الأخوة كالأخ الشقيق وابنه، والأخ لأب وابنه.
٤- جهة العمومة كعم الميت الشقيق، وابنه وعمه لأب وابنه.
***
أصحاب الفروض :
أصحاب الفروض كل من له سهم مقدر في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو بالإجماع وهم اثنا عشر : الزوجان واثنان من الفروع : البنت وبنت الابن.
وأربع من الأصول : الأب والجد والأم والجدة.
وأربعة من الحواشي وهم : الأخت الشقيقة أو لأب أو لأم والأخ لأم.
وهذا بيان لنصيب كل وارث من هؤلاء.
١- الزوج :
للزوج حالان :
١- أن يأخذ النصف وذلك عند عدم الفرع الوارث للزوجة مذكرا أو مؤنثا من هذا الزوج أو من غيره كالابن وابن البيت وبنت الابن.
٢- أن يأخذ الربع عند وجود الفرع الوارث مذكرا أو مؤنثا٤٥.
٢- الزوجة :
للزوجة حالتان :
١- أن تأخذ الربع، وذلك عند عدم الفرع الوارث للزوج مذكرا أم مؤنثا، من هذه الزوجة أم من غيرها
٢- أن تأخذ الثمن عند وجود الفرع الوارث مذكرا أم مؤنثا٤٦.
٣- البنات :
٤- للبنات ثلاث حالات :
١- أن يرثن بالتعصيب إذا كان معهن أخ مذكر واحد أو أكثر فتقسم بينهم التركة أو ما تبقى منها للذكر مثل حظ الأنثيين.
٢- أن تأخذ الواحدة النصف إذا لم يكن معها أخ ولا أخت.
٣- أن تأخذ الثنتان فأكثر الثلثين إذا لم يكن معهن أخ لهن٤٧.
٤- بنات الابن :
لبنات الابن ست حالات، الثلاث التي للبنات عند عدم البنات والأبناء ويزاد عليها ما يأتي :
١- أن تحجب بالبنتين إلا إذا كان بحذائها أو انزل منها غلام فإنه يعصبها وتأخذ معه ما بقي.
٢- أن تحجب بكل غلام أعلى منها درجة، فبنت الابن تحجب بالابن... وبنت ابن الابن تحجب بابن الابن وهكذا.
٥- الأب٤٨ :
للأب ثلاث حالات :
١- أن يأخذ السدس بالفرض فقط، وذلك عند وجود الفرع الوارث المذكر وإن نزل وحده أم مع غيره.
٢- أن يأخذ السدس بالفرض ثم يأخذ بالتعصيب ما يبقي من أصحاب الفروض، وذلك عند وجود الفرع الوارث المؤنث دون المذكر.
٣- أن يرث بالتعصيب فقط، وذلك إذا انعدم الفرع الوارث مذكرا أم مؤنثا والأب لا يحجب من الميراث بحال.
٢- الجد الصحيح :
هو كل أصل مذكر لا تدخل في نسبته إلى الميت أنثى كأبي الأب، وأبي أب الأب، فإن دخل في نسبته إلى الميت أنثى كأبي الأم وأبي أم الأب، فهو الجد الفاسد وهو من ذوي الأرحام.
والجد الصحيح كالأب عند عدم الأب.
٦- الأم٤٩ :
للام ثلاث حالات :
١- أن تأخذ سدس التركة إذا كان للميت فرع وارث مذكرا أو مؤنث، أو كان له أكثر من واحد من الأخوة أو الأخوات من أي نوع.
٢- أن تأخذ ثلث التركة إذ لم يكن للميت فرع وارث، ولا أكثر من واحد من نفس الأخوة أو الأخوات، لا من فروعهم.
٣- أن تأخذ ثلث الباقي بعد نصيب أحد الزوجين، إذا كان معها الأب واحد الزوجين، وليس معها فرع وارث، ولا جمع من الأخوة والأخوات.
٧- الجدة الصحيحة :
هي كل أصل مؤنث لا يدخل في نسبته على الميت جد فاسد، فإن دخل في نسبته إلى الميت جد فاسد، كأم أبي الأم فهي الجدة الفاسدة وهي من ذوي الأرحام وتأخذ الجدة السدس، وتحجب بالأم سواء أكانت الجدة أبوية أم أمية تحجب الأبوية بالأب.
٨- الأخوات الشقيقات :
٩- للأخوات الشقيقات خمس حالات :
١- أن تأخذ الواحدة النصف إذا انفردت.
٢- أن تأخذ الثنتان فأكثر الثلثين عند عدم الأخ الشقيق.
٣- أن يرثن بالتعصيب بالغير، إذا كان مع الواحدة أو الأكثر أخ شقيق أو أكثر فتقسم بينهم التركة أو ما بقي منها للذكر مثل حظ الأنثيين.
٤- أن يرثن بالتعصيب مع الغير، وذلك إذا كان مع الواحدة أو الأكثر بنت ابن أو أكثر، فلهن ما يبقى بعد أصحاب الفروض.
٥- أن يحجبن بالفرع الوارث المذكر وهو الابن وإن نزل.
١٠- الأخوات لأب :
هي كالأخوات الشقيقات عند فقدهن بإجماع العلماء قياسا على بنات الأبناء مع بنات الصلب.
فللأخوات لأب الأحوال الخمسة التي للشقيقات والأخ لأب معهن كالأخ الشقيق مع الشقيقات.
١١- أولاد الأم٥٠ :
لأولاد لأم ثلاث حالات :
١- أن يأخذ الواحد السدس إذا انفرد مذكرا كان أن مؤنثا.
٢- أن يأخذ الاثنان فأكثر الثلث : يقسم بينهم بالتساوي سواء أكانوا ذكورا فقط ام إناثا أم ذكورا وإناثا.
٣- الحجب بالفرع الوارث مذكرا أم مؤنثا وبالأصل الوارث المذكر أبا أو جدا، ولا يحجبون بالأم وإن كانوا يدلون بها.
***
مبادئ في التوريث :
نستطيع ان نستخلص من آيات المواريث المبادئ الآتية :
١- مبنى التوريث في الإسلام أمران : نسبي وهو القرابة، وسببي وهو الزوجية.
٢- متى اجتمع من المستحقين ذكور وإناث، أخذ الذكر ضعف الأنثى، إلا في الإخوة الأم، فإنهم يستوون في النصيب، لأنهم يدلون إلى الميت بالأم. وهم سواء في الانتساب إليها.
٣- الأبناء والزوجان والأبوان لا يسقطون في أصل الاستحقاق، وإن كان يؤثر عليهم وجود غيرهم في كمية المستحق.
٤- لا إرث للأخوة والأخوات مع وجود الأبوين، وإن كانوا يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، لأن وجود عدد من الإخوة يثقل كاهل الأب. فاستحق زيادة في الميراث لرعايتهم وكفالتهم.
٥- يجب تقديم حقوق الميت على تقسيم التركة قال تعالى : من بعد وصية يوصي بها أو دين. وقد تكررت في الآيتين ١١و ١٢ من سورة النساء أربع مرات لتنبيه الأذهان إلى وجوب العناية بأمرين قبل تقسيم التركة.
الأول : أداء الديون التي على الميت.
الثاني : تنفيذ وصيته في حدود ثلث ماله.
٦- لا ينبغي للإنسان ان يسئ إلى ورثته حين مشارفته الموت، بالوصية لمن ليس محتاجا إليها، أو الإقرار بما ليس ثابتا عليه، وورثته في حاجة إليه، يرشد إلى هذا قوله تعالى :{ غير مضار وصية من الله. وقوله : وصية من الله. أي يوصيكم الله أن تنفذوا أحكامه وان تبعدوا عن الإضرار بالورثة أو حرمان البنات، او تفضيل بعض الأولاد على بعض، أو منع بعض العصبة من أخذ حقوقهم، تحت ستار البيع، أو تحت ستار الوصية أو الاعتراف بالديون.
وجدير المؤمن ألا يختم حياته بوزر عظيم يفرط بسببه في تنفيذه الأحكام التي فرضها الله، فالله عليم حكيم فيما شرع ؟، وعلينا أن ننفذ أحكامه وأن نخضع لأوامره، ففي ذلك عز الدنيا وشرف الآخرة.
المفردات :
حدود الله : شرائعه وأحكامه، وقد أطلق عليها الحدود لشبهها بالحدود والحواجز، حيث إن المكلف لا يجوز أن يتعداها إلى غيرها.
التفسير :
١٣- تلك حدود الله.. الآية.
المعنى العام :
هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه، هي حدود له فلا تعتدوها.
ومن يطع الله ورسوله. فلم يزد بعض الورثة، ولم ينقص بعضهم بحيلة ووسيلة، بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته.
﴿ يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين ﴾. لا يخرجون منها ولا يموتون فيها قال تعالى : لا يمسهم فيها نصيب وما هم منها بمخرجين. ( الحجر ٤٨ ).
وذلك الفوز العظيم. وهذا الجزاء هو الفوز الحقيقي البالغ العظمة، فقد حصل صاحبه على أسمى المطالب ونجا، من كل المكاره، ولا فوز يدنو من ذلك الفوز.
ومن خالف أمر الله، وبدل في حدود المواريث وغير، فقد استهان بما فرض الله، وجعل نفسه مشرعا ومقننا، ولم يرتض بحكم الله.
قال ابن كثير :
أي لكونه غير ما حكم الله به، وضاد الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم.
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى وحاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخله النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة " ٥١ قال ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم.
﴿ تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم. ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ﴾.
المفردات :
الفاحشة : معناها لغة : الفعلة الشديدة القبح والمراد منها هنا الزنى لأنه أقبح الفواحش.
فأمسكوهن : احبسوهن.
سبيلا : السبيل : الطريق الموصل، سواء أكان سهلا أم صعبا.
التفسير :
١٥- ﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ﴾.
المعنى العام :
واللاتي يأتين الزنا من النساء إن شهد عليهن أربعة من الرجال العاقلين، يمسكن في البيوت محافظة عليهن، ودفعا للفساد والشر حتى يأتيهن الموت، أو يفتح الله لهن طريقا للحياة المستقيمة بالزواج والتوبة.
التدرج في التشريع :
بدأ القرآن الكريم بدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلما استقر الإيمان في القلوب تحدث القرآن المكي عن الزنا وضرره، ومدح عباد الرحمن ببعدهم عنه، وفي سورة الفرقان المكية يقول سبحانه :
{ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما. ( الفرقان ٦٨ ).
وفي سورة الإسراء، وهي من أواخر ما نزل بمكة، إذ نزلت قبل الهجرة بسنة وشهرين، يقول :﴿ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ﴾. ( الإسراء ٣٢ ).
والآية تنهى المؤمنين عن الاقتراب من الزنا وتأمرهم بالبعد عن مقدماته، كالقبلة واللمسة والخلوة بالأجنبية، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وتبين أن الزنا فاحشة وذنب كبير، يترتب عليه فساد الأنساب وهتك الأعراض واختلاط الذرية، وانتشار الأمراض المؤذية الفتاكة وساء سبيلا. أي ساء مآل الزنا وعاقبته في الدنيا والآخرة.
وفي العهد المدني حرم الله الزنا بتدرج مناسب، ففي العام الثاني من الهجرة نزلت الآيتان ١٥-١٦ من سورة النساء وفيهما نجد الزنا جريمة اجتماعية، ويترك عقاب الزناة للأسرة التي تتكفل بحبس الزانيات وإيذاء ومعاقبة الرجال الزناة، وفي العام السادس من الهجرة أنزل الله سورة النور قال سبحانه :{ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين. ( النور ٢ ).
من مختصر بن كثير :
كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة حبست في بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت ولهذا قال :﴿ واللاتي يأتين الفاحشة ﴾. يعني الزنا. ﴿ من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ﴾. فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك.
قال ابن عباس رضي الله عنه كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم، وهو أمر متفق عليه.
روى مسلم وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خذوا عني خذوا عني وقد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " ٥٢.
وقد ذهب الجمهور إلى أن الثيب الزاني إنما يرجم فقط من غير جلد، قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية واليهوديين ولم يجلدهم قبل ذلك فدل على أن الجلد ليس بحتم بل هو منسوخ على قولهم والله أعلم٥٣ وعند أبي حنيفة التغريب في حق البكر منسوخ٥٤ وأكثر أهل العلم على ثبوته٥٥.
المعنى العام :
والرجل والمرأة اللذان يزنيان وهما غير متزوجين، فلهما عقوبة محددة، إذا ثبت الزنا بشهادة شهود أربعة عدول.
قال ابن عباس : عقوبتها الشتم والتعيير والضرب بالنعال او باليد أي مطلق الإيذاء المناسب لهما.
فإن تابا بعد العقوبة فلا تذكروهما بما ارتكبا، ولا تعيروهما به، إن الله يقبل برحمته توبة التائبين.
التعليق على الآية :
اختلف العلماء في المراد بقوله : واللذان.
أ. فمنهم من قال : المراد بهما الرجل والمرأة البكران اللذان لم يحصنا.
ب. ومنهم من قال : المراد بهما الرجل والمرأة لا فرق بين بكر وثيب، والمختار عند كثير من العلماء هو الرأي الأول.
قالوا : وقد نسخ حكم هذه الآية بآية النور، حيث جعل حكم الزانيين اللذين لم يحصنا جلد مائة.
ومن العلماء من قال إن هذه الآية منسوخة بسورة النور، فإن العقوبة ذكرت هنا مجملة غير واضحة المقدار لأنها مجرد الإيذاء وذكرت مفصلة بينة المقدار في سورة النور، أي أن ما ذكر هنا من قبيل المجمل، وما ذكر في سورة النور من قبيل المفصل، وأنه لا نسخ بين الآيتين.
رأي أبي مسلم الأصفهاني :
لأبي مسلم الأصفهاني رأي آخر في تفسير هاتين الآيتين فهو يرى أن المراد بالآية ١٥ من سورة النساء. ﴿ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ﴾ إلى آخر الآية النساء السحاقات اللاتي يستمتع بعضهن ببعض، وحدهن الحبس.
والمراد بالآية ١٦ :﴿ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما... ﴾ اللائطون من الرجال وحدهم الإيذاء وأما حكم الزناة فسيأتي في سورة النور.
وقد رد عليه الألوسي، وزيف قوله لأنه لم يقل به أحد٥٦.
ومن العلماء من رجح أن هذا الحكم المذكور في الآيتين منسوخ بعضه بالكتاب في سورة النور، وبعضه بالسنة في حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم٥٧.
ورجح أبو الأعلى المودودي في تفسير سورة النور أنه لا نسخ في الآيات وأنها تمثل مرحلة معينة من باب التدرج في التشريع.
فالزنا في مكة لم يكن عليه عقوبة، بل بين الله أنه فاحشة ونهى عن الاقتراب منه، ولم يشرع أي عقوبة عليه.
وفي العام الثاني من الهجرة، بين ان الزنا مخالفة اجتماعية، والأسرة هي المسئولة عن علاج هذه الحالة بالحبس أو الإيذاء. كما نجده في الآية ١٥-١٦ من سورة النساء.
فلما استقر الإسلام واشتدت دولته وحكومته، جعل الله عقوبة الزاني الجلد وجعل الزنا جريمة جنائية تتولى عقوبتها شرطة الدولة وحكومتها. وكان ذلك في العام السادس من الهجرة. والله أعلم.
المفردات :
السوء : القبح والمراد المعاصي مطلقا.
بجهالة : الجهالة : الجهل والسفه وارتكاب ما لا يليق بالعقلاء وليس المراد عدم العلم فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة وقال الزجاج الجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية.
التفسير :
﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهلة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ﴾.
المعنى العام :
إنما قبول التوبة كائن أو مستقر على الله تعالى لعباده الذين يعملون السيئات في حال الحماقة والطيش وعدم التبصر ثم يبادرون بالتوبة قبل حضور الموت، فهؤلاء يقبل الله توبتهم، وهو عليم لا يخفى عليه صدق التوبة حكيم لا يخطئ في تقدير.
التوبة في القرآن والسنة :
فتح الله باب التوبة على مصراعيه ودعا عباده إلى التوبة وتعهد بقبولها من التائبين وذلك أن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
ولم يجعل الله وسطاء بينه وبين عباده فقد خلقهم ورزقهم وهو اعلم بهم وفي القرآن الكريم آيات عديدة تحث على التوبة وتدعو إليها، وتبين فضل الله العظيم في قبولها.
قال تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ﴾ ( الزمر ٥٣ ).
وقال سبحانه :{ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكورا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. ( آل عمران ١٣٥ ).
وقال عز شأنه :﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو اعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ﴾. ( النجم ٣٢ ).
وفي الحديث الصحيح : " ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فينادي : أي عبادي هل من داع فأستجيب له ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ حتى يطلع الفجر... ".
وروى الأمام أحمد في مسنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله عز وجل : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تضلون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم.. " ٥٨
***
التوبة من قريب :
قال تعالى :
{ إنما التوبة على الله للذين يعلمون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب٥٩.
ومعنى ثم يتوبون في زمن قريب من وقت عمل السوء ولا يسترسلون في الشر استرسالا ويستثمرونه ويتعودون عليه دون مبالاة.
ولا شك انه متى جدد الإنسان توبته الصادقة في أعقاب ارتكابه للمعصية، كان أرجى لقبولها عند الله تعالى وهذا ما يفيده ظاهر الآية.
ومنهم من فسر قوله : من قريب. ما قبل حضور الموت وإلى هذا المعنى ذهب صاحب الكشاف فقال : " من قريب أي من زمان قريب والزمان القريب : ما قبل حضرة الموت، ألا ترى إلى قوله : " حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن.
.. " فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة فبقي ما وراء ذلك في حكم القريب.
وجاء في تفسير ابن كثير ما يفيد أن التوبة من قريب أي قبل الموت، ونقل من الآثار والأحاديث النبوية الشريفة ما يؤيد ذلك. فقال عن ابن عباس : ثم يتوبون من قريب قال : ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت.
وقال الضحاك : ما كان دون الموت فهو قريب.
وقال قتادة والسدى : ما دام في صحته.
وقال الحسن البصري : ثم يتوبون من قريب. ما لم يغرغر٦٠.
روى الإمام أحمد عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " ٦١.
المعنى العام :
وليست التوبة مقبولة عند الله بالنسبة للذين يعملون السيئات ويقترفون المعاصي ويستمرون على ذلك، بدون ان يستيقظ ضميرهم أو يشعرون بالندم إلى ان ينزل بهم الموت فيقول أحدهم : إني لأعلن التوبة الآن.
كما لا تقبل التوبة من الذين يموتون على الكفر وقد أعد الله للفريقين عذابا أليما.
***
في رحاب الآية :
نفت الآية قبول التوبة من فرقين :
١- الذين يرتكبون السيئات صغيرها وكبيرهما ويستمرون على ذلك بدون توب أو ندم حتى إذا حضرهم الموت ورأوا هوله قال قائلهم : إني تبت الآن.
٢- الذين يموتون وهم على غير دين الإسلام.
وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم لدعوة الناس إلى التوبة في الحياة الدنيا وعلى العمل الصالح والإنسان يملك الوقت والصحة والحياة والقدرة على العمل.
قال تعالى :{ وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خيبر بما تعملون. ( المنافقون ١٠-١١ ).
وحين أدرك الغرق فرعون أعلن توبته مضطرا عندما رأى شبح الموت، وهي توبة غير حقيقية لأن الإنسان لا يملك بديلا لها.
قال تعالى :{ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين، آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين، فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلقك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون. ( يونس ٩٠-٩٢ ).
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل ؟ فقال : أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى تخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح٦٢. الحلقوم قلت : لفلان كذا ولفلان كذا. وقد صار المال إلى فلان٦٣.
المفردات :
كرها : مكرهين بدون رضاهن.
ولا تعضلوهن : العضل : المنع الحبس والتضييق.
بفاحشة : كل ما فحش قبحه قولا أو فعلا والمراد بها هنا : نحو الزنا والنشوز.
مبينة : واضحة ظاهرة.
التفسير :
١٩- ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة.. ﴾
فيما تقدم من آيات أبطل الله سبحانه عادات كانت للجاهلية، في شأن اليتامى وأموالهم. وميراث النساء. واستطرد الحديث إلى وجوب الحفاظ على عفتهن وتأديبهن، إن ارتكبن الفاحشة استكمالا لعناصر إصلاح الأسرة.
وفي هذه الآية ينهى عن عادات جاهلية أخرى، تتعلق بالنساء في أنفسهن وأموالهن.
سبب النزول :
روى البخاري عن ابن عباس قال : " كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته : إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يتزوجوها. فهم أحق بها من أهلها " فنزلت هذه الآية٦٤.
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم ان ترثوا النساء.
أي : لا يحل لكم أيها المؤمنون أن ترثوا من أقاربكم زوجاتهم بعد وفاتهم، كما تورث الأموال والعقارات. وتقولوا : نرثهن كما نرث أموالهم.
كرها. كارهات لذلك بأن تتزوجوهن أو تزوجوهن من غيركم، بدون رضاهن أو تمنعوهن من الزواج. كأنما تتصرفون في أموال ورثتموها، فإن ما كان من أفعال الجاهلية المنكرة لا يليق بكم أيها المؤمنون.
ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن. أي ولا تضيعوا أيها الأزواج على زوجاتكم اللاتي كرهتموهن لدمامة أو سآمة وملل، وتحسبوهن لديكم، مع سوء العشرة، ليفتدين أنفسهن منكم ببعض صداقكم لهن فتأخذوه منهن بدون رضاهن.
إلا أن يأتين بفاحشة مبينة : أي إلا ان يرتكبن فعلة واضحة القبح، ظاهرة الشناعة تجعلها وحدها المسئولة عن هدم الحياة الزوجية : كالزنا أو النشوز. يكون من العدل أن يأخذ الزوج المظلوم بعض ما أداه لها صداقا ليخالعها عليه، إذ هي التي هدمت بيته بظلمها وعدوانها.
وعاشرهن بالمعروف. أي بما عرف في الشرع حسنه، من الإنفاق قدر طاقتكم من غير إسراف ومن القسم بالعدل والقول اللين وانبساطة الوجه، لتعيشوا سعداء.
فإن كرهتموهن. وسئتم عشرتهن لدمامتهن، أو سوء في خلقهن لا يمكن احتماله، فلا تفارقوهن بمجرد كراهة النفس، وذهاب الحب واصبروا على معاشرتهن ﴿ فعسى ان تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾. فلعلكم تكرهون شيئا بحكم النفس والهوى ويجعل الله تعالى فيه خيرا كثيرا : دنيويا كان أو أخرويا، وأنتم لا تعلمون ذلك الخير ولا تدركونه، بسبب كراهتكم إليهن وعاشروهن بالمعروف، لتروا ثمرة ذلك، فإن المعروف يستعقب الخير دائما.
المفردات :
قنطارا : هو مائة رطل كما في القاموس والعرف والمراد منه الشيء الكثير.
بهتانا : البهتان الكذب الذي يواجه به المكذوب عليه فيحيره، والمراد به هنا الظلم الذي يتحير من ارتكابه.
التفسير :
٢٠- ﴿ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج.. الآية ﴾
كان الرجل في الجاهلية إذا أراد التزوج بامرأة أخرى بهت التي تحته أي رماها بالفاحشة التي هي منها بريئة حتى يلجئها إلى ان تطلب طلاقها منه في نظير أن تفتدي نفسها بصداقها أو ببعضه٦٥. فنهوا عن ذلك.
ومعنى الآية :
إذا رغبتم تزوج امرأة ترغبون فيها لتقوم مكان زوجة سابقة رغبتهم في طلاقها وفراقها، وكنتم أعطيتم هذه الزوجة التي ترغبون في فراقها مهرا كبيرا ومالا فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا، أتأخذونه على وجه البطلان والإثم المبين.
تعليق :
تحث الآية على الفراق بالمعروف، وهي تستكمل عدة تشريعات سماوية أنزلها الله بشأن المرأة.
فقد احل الله لها الميراث، وجعل لها نصيبا مفروضا واحل لها الصداق وجعله حقا ثابتا وأمر بحسن معاملتها وعشرتها بالمعروف، ونهى عن المسارعة إلى الطلاق، ووعد الصابر على زوجته بالخير وحسن العوض وهنا يتوج هذه الوصايا بتأكيد أن المهر حق ثابت للمرأة لا يجوز لرجل أن يسترده إذا كره زوجته أو رغب في فراقها بل ينبغي أن يفارق بالمعروف ولا يأخذ من الصداق قليلا ولا كثيرا فقد عاشرها عشرة الأزواج، واستحل منها ما أحله بين الزوجين فكيف يبيح لنفسه أن يأخذ مالا بالبهتان والإثم ؟
قال صاحب الكشاف : والبهتان أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو بريء منه، لأنه يبهت عند ذلك أي يتحير.
المفردات
أفضى بعضكم إلى بعض : الإفضاء إلى الشيء : الوصول إليه بالملامسة والمراد به هنا الاتصال الجنسي أو ما يكون بين الزوجين في خلوة.
ميثاقا غليظا : عهدا وثيقا قويا.
والمعنى : بأي وجه من الوجوه تستحلون يا معشر الرجال أن تأخذوا شيئا من الصداق الذي أعطيتموه لنسائكم عند مفارقتهن، والحال أنكم قد اختلط بعضكم ببعض، وصار كل واحد منكم لباسا لصاحبه وأخذن عهدا وثيقا مؤكدا لا يحل لكم ان تنقضوه او تخالفوه.
وفي الحديث الشريف : " استوصوا بالنساء خيرا، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله " ٦٦.
التعبير بكلمة أفضي :
قال الفخر الرازي وأصل أفضى من الفضاء الذي هو السعة يقال فضا يفضو فضوا وفضاء إذا اتسع والمراد بالإفضاء هنا الوصول والمخالطة لأن الوصول إلى الشيء قطع للفضاء الذي بين المتواصلين.
وجاء في ظلال القرآن ما يأتي :
ويدع أفضى بلا مفعول يدع اللفظ مطلقا يشع كل معانيه ويلتقي كل من ظلاله، ولا يقف عند حدود الجسد، بل يشمل العواطف والمشاعر والوجدانات والتصورات والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب، يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار... وفي كل اختلاجة حب إفضاء وفي كل نظرة ود إفضاء وفي كل لمسة جسم إفضاء وفي كل اشتراك في ألم وأمل إفضاء، وفي كل تفكير في حاضر أو مستقبل إفضاء وفي كل التقاء في طفل إفضاء٦٧.
كل هذه المعاني تجعل الرجل يخجل ان يسترد بعض ما دفع لزوجته وهو يستعرض في خياله ووجدانه ذلك الحشد من صور الماضي في لحظة الفراق الرهيب.
ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتي :
١- أن الرجل إذا فارق امرأته فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا ما دام الفراق بسببه ومن جانبه، كما أنه لا ينبغي أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها إذا كان الفراق بسببها ومن جانبها.
٢- اتفق العلماء على أن المهر يستقر بالوطء واختلفوا في استقراره بالخلوة المجردة قال الحنيفية : إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة دخل بها أو لم يدخل بها، وقال مالك إذا طال مكثه معها السنة ونحوها واتفقا ان لا مسيس وطلبت المهر كله كان لها٦٨.
٣- جواز الإصداق بالمال الكثير، لأن الله قال : وآتيتم إحداهن قنطارا. والقنطار المال الكثير.
روى ان عمر رضي الله عنه قال على المنبر : لا تغالوا في المهور، فقامت إليه امرأة فقالت : يا بن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع وقرأت هذه الآية فقال عمر : كل الناس أفقه من عمر ورجع عن النهي في المغالاة٦٩
ومن العلماء من بين أن الذي رجع عنه عمر هو إلزام الناس بعدم المغالاة.
والآية المذكورة وإن كانت تفيد جواز الإصداق بالمال الجزيل، إلا ان الأفضل عدم المغالاة في ذلك، مع مراعاة أحوال الناس من حيث الغنى والفقر وغيرهما.
وقد ورد ما يفيد الندب إلى التيسير في المهور، فقد اخرج أبو داود والحاكم من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير الصداق أيسره " ٧٠.
وروى الإمام احمد في مسنده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة " ٧١
المفردات :
سلف : مضى وتقدم.
فاحشة : فعلة شديدة القبح.
مقتا : بغضا شديدا.
وساء سبيلا : وقبح طريقا.
التفسير :
﴿ ولا تنكحوا ما نكح آ باؤكم من النساء إلا قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ﴾.
روى ابن أبي حاتم عن عدى بن ثابت عن رجل من الأنصار قال : لما توفى زيد أبو قيس يعني ابن الأسلت - وكان من صالحي الأنصار، خطب ابنه قيس امرأته فقالت : إنما أعدك ولدا وأنت من صالحي قومك ولكني أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أبا قيس توفي فقال : " خيرا " ثم قالت : إن ابنه قيسا خطبني وهو من صالحي قومه، وإنما كنت أعده ولدا فما ترى ؟ فقال لها : " ارجعي بيتك فأنزل الله تعالى قوله٧٢. ﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ﴾.
وذكر الواحدي وغيره أنها نزلت في الأسود بن خلف كما ذكورا انها نزلت في صفوان بن أمية وامرأة أبيه فاختة بنت الأسود.
ويجمع بين هذه الروايات بتعدد الأسباب والمنزل واحد. قال القرطبي كان في العرب قبائل قد اعتادت أن يخلف ابن الرجل على امرأة أبيه وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة وكانت في قريش مباحة مع التراضي.. إلخ.
قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين وهكذا قال عطاء وقتادة٧٣.
المعنى :
لا تتزوجوا من تزوج آباؤكم من النساء لانه من أفعال الجاهلية القبيحة لكن ما قد مضى وسبق من هذا الزواج فإنه معفو عنه فمن كان متزوجا من امرأة كانت زوجة لأبيه من النسب أو من الرضاع فإنها تصير حراما عليه من وقت نزول هذه الآية ويجب عليه أن يفارقها فإنها أصبحت محرمة عليه.
إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا.
الفاحشة أقبح المعاصي، والمقت أشد البغض وكانوا يسمونه نكاح المقت لأنه أمر ممقوت بغيض.
وساء سبيلا. أي وبئس طريقا لمن سلكه من الناس فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال.
والحكمة من تحريم نكاح زوجة الأب ما يأتي :
١- أن امرأة الأب من منزلة الأم.
٢- إلا يخلف الابن أباه فيصبح أبوه في خياله ندا له، وكثيرا ما يكره الزوج زوج امرأته الأول فطرة وطبعا.
٣- ألا تكون هناك شبهة الإرث لزوجة الأب.
لهذا حرم الله نكاح زوجة الأب.
لهذا حرم الله نكاح زوجة الأب أشد التحريم، وشنع على فعله وجعله كالزنا أو أشد.
قال تعالى :{ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا. ( الإسراء ٣٢ ). وزاد هنا كلمة ومقتا. أي غضبا من الله على فاعله فقال سبحانه : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا.
المفردات :
وربابيكم : جمع ربيبة وهي بنت امرأة الرجل من غيره.
في حجوركم : الحجر : الحصن. والمراد في كفالتكم وتحت رعايتكم.
وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم : زوجات أبنائكم وسمت الزوجة حليلة لحلها للزوج.
المعنى الإجمالي :
حرم الله عليكم أن تتزوجوا أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ، وبنات الأخت والمحرمات لغير نسب : أمهات الرضاعة والأخوات من الرضاعة، وأمهات الزوجات وبنات الزوجات من غير الأزواج إذا دخل بهن، وزوجات الصلب والجمع بين الأختين وما سلف في الجاهلية فإنه معفو عنه، إن الله غفور لما سلف قبل هذا التحريم، رحيم بكم فيما شرع لكم.
حكمة التحريم
يحاول العلماء التماس الحكمة من تحريم نكاح الأقارب عن طريق الاجتهاد واستنباط حكمة التحريم للأمور الآتية :
١- يقال : إن الزواج من الأقربين في الدم يضوي الذرية ويضعها مع امتداد الزمن لأن مواضع الضعف الوراثية قد تتركز وتتأصل في الذرية.
٢- العلاقة بين الإنسان وبعض هذه الطبقات المحرمات علاقة قوية مؤكدة لأنها علاقة القرابة القريبة التي تكون بين الإنسان وأمهاته وأخواته أو عماته أو خالاته فبين الإنسان وبينهن علاقة رعاية وعطف واحترام وتوقير فلا يصح أن تتعرض هذه العلاقة القوية إلى بعض هزات الزواج فإن الزواج أحيانا يصاب بالفشل أو الضعف أو الطلاق أو النزاع، وهي أمور ينبغي أن تحفظ هذه القرابة القريبة من التعرض لها.
٣- الفطرة الإنسانية السليمة تأبى ان يتصل ذو القرابة القريبة من حال الرجال أو النساء اتصال شهوة ومتعة جنسية وترى ذلك أشبه بتمتع الإنسان بنفسه لما بينه وبين أقاربه الأقربين من قوة الارتباط وكثرة الاختلاط ولهذا كان أكثر المحرمات في الإسلام محرما في الجاهلية٧٤.
٤- قد يلحق القرابة القريبة ما يماثلها في قوة الاتصال واستحقاق الاحترام والترفع عن المطامع الجنسية كقرابة الرضاع فإن اشتراك المرضع مع الأم في بناء بنية الرضيع واطلاعها منه على مثل ما اطلعت جعلها أما بعد الأم وبنتها أختا بعد الأخت وأمها جدة بعد الجدة وهكذا ولا شك في أن التمتع بهؤلاء كالتمتع بنظائرهن من القريبات الصلبيات تمجه الفطرة السليمة.
المحرمات من النساء
اشتملت هذه الآية وحدها على تحريم ثلاثة عشر نوعا من المحرمات بيانها كالآتي :
سبع يحرم نكاحهن من النسب أي القرابة وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت.
وست أخريات يحرم نكاحهن من الرضاعة والمصاهرة وهن : الأمهات من الرضاعة، والأخوات من الرضاعة وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين.
ويتضح لنا أن المحرمات بالنسب أربعة أصناف :
١- الأصل وإن علا والمراد به الأم وأمها وإن علت وأم الأب والجد كذلك قال تعالى حرمت عليكم أمهاتكم.
٢- الفرع وإن نزل والمراد به البنت وما تناسل منها وبنت الابن وإن نزل وما تناسل منها وبناتكم
٣- فرع الأبوين وإن نزل وهو الأخوات مطلقا وبناتهن وبنات أبنائهن وإن نزلن وبنات الأخوة وبنات أبنائهم كذلك : وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت.
٤- أول بطن فقط من فروع الجد والجدة والمراد به العمات والخالات قال تعالى :﴿ ط وعماتكم وخالاتكم ﴾.
أما بنات العمات والخالات وبنات الأعمام والأخوال وفروعهن فمحللات لعدم ذكرهن في المحرمات ودخولهن بذلك في قوله تعالى :﴿ وأحل لكم ما وراء ذلكم ﴾ ولقوله تعالى :﴿ يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك ﴾ ( الأحزاب ٥٠ ).
المحرمات بالمصاهرة
يحرم بالمصاهرة أربعة أصناف :
١- زوجة الأصل والمراد بها زوجة الأب والجد وإن علا قال تعالى :( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء }.
٢- زوجة الفرع والمراد بها زوجة الابن وابن الابن أو البنت وإن نزل قال تعالى :﴿ وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ﴾.
٣- أصول الزوجة وهي أمها وأم أمها أو أبيها وإن علت وتحرم بمجرد العقد الصحيح لإطلاق النص في قوله تعالى :﴿ وأمهات نسائكم ﴾.
٤- فروع الزوجة وهي بنتها وبنت بنتها أو ابنها وإن نزلت والآية دالة على حرمة الربيبة أما من عداها من فروع الزوجة فحرمت بالإجماع ولا خفاء في دلالة الآية على اشتراط الدخول على الزوجة لتحريم بنتها قال تعالى :{ وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم.
وفي كتب الفقه نجد هذه القاعدة : العقد على البنات يحرم الأمهات والدخول بالأمهات يحرم البنات.
المحرمات بالرضاع
يحرم بالرضاع أربعة أنواع التي تحرم بالنسب وهي :
١- الأصل الرضاعي وإن علا وهو الأم التي أرضعت وأمها نسبا أو رضاعا وإن علت وأم الأب والجد الرضاعيين.
٢- الفرع الرضاعي وإن نزل وهو البنت التي رضعت لبنا در من امرأتك لولدك الصلبي وبنتها وإن نزلت وابنها كذلك.
٣- فرع الأبوين الرضاعيين وهو الأخوات من الرضاع شقيقات أو لأب أو لأم وبناتهن إن نزلن، وبنات الإخوة من الرضاع كذلك.
٤- أول بطن من فروع الجد والجدة الرضاعيين وهو العمات والخالات.
روى الإمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " ٧٥.
مقدار الرضاع المحرم
الرضاع المحرم : يكون بوصول لبن المرأة إلى الجوف مصا من الثدي أو شربا من نحو إناء أو مطبوخا. ورضعة واحدة تكفي في التحريم عند أكثر العلماء.
ولا تحريم عند الشافعي إلا بخمس رضعات متفرقات لحديث ثبت عنده بذلك وقد رواه مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحرم المصة والمصتان " ٧٦ وفي رواية عنها أنه قال : " لا تحرم الرضعة والرضعتان، والمصة والمصتان " ٧٧ ثم ليعلم انه لابد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور. واعتبر أبو حنيفة في إثبات حكم الرضاع ستة أشهر بعد الحولين واعتبر مالك بعد الحولين شهرا او نحوه.
الجمع بين الأختين
يحرم الرجل أن يجمع بين أختين في النكاح فلا يتزوج الرجل امرأة ثم يضم إليها أختها بطريق الزواج، وهذا بإجماع العلماء قال تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما.
قال ابن كثير والمعنى : وحرم الله عليكم الجمع بين الأختين معا في التزويج إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عنه وغفرنا له غفرانا فدل أنه لا مثنوية فيما يستقبل لأنه استثنى ما سلف.. وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديما وحديثا على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح ومن أسلم وتحته أختان خيّر فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة فقد روى الإمام أحمد عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال : أسلمت وعندي امرأتان أختان فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق إحداهما٧٨.
وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطئ كما لا يحل في النكاح. وقد أجمع المسلون على أن معنى قوله : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم. إلى آخر الآية النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء٧٩.
الجمع بين المرأة وعمتها
كما يحرم الجمع بين الأختين في عصمة رجل واحد، كذلك يحرم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها أو ابنة أختها لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقد جاء في صحيح مسلم وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها " ٨٠.
وفي رواية للطبراني أنه قال : " فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ".
والسر في تحريم هذا النوع من النكاح أنه يؤدي إلى تقطيع الأرحام إذ من شأن الضرائر أن يكون بينهن من المنافسة والكيد وتبادل الأذى ما هو مشاهد ومعلوم فكان من رحمة الله بعباده أن حرم عليهم هذه الأنواع من الأنكحة صيانة للأسرة من التمزق والصراع وحماية لها من الضعف والوهن وسموا بها عن مواطن الريبة والغيرة والفساد وأن عفا سبحانه عما حدث من هذه الأنكحة الفاسدة في الجاهلية لأنه كان وما زال غفارا للذنوب ستارا للعيوب رحيما لعباده ومن رحمته بهم أنه لا يعذبهم من غير نذير ولا يؤاخذهم على ما اكتسبوا إلى بعد بيان واضح
إن هذا التشريع الإلهي صمام الأمان لحماية الأسرة والنهوض بالمرأة والرجل على السواء وفي هذا التشريع ما يدل حقا على أنه من عند الله الحكيم العليم فأنى لمحمد الأمي بمثل هذا التشريع المتكامل في شئون اليتامى وفي شئون الميراث وفي شئون الأسرة وفي شئون المحرمات وفي سائر أحكام العبادات والمعاملات، إلا أن يكون من عند الله.
﴿ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثرا ﴾. ( النساء ٨٢ ).
لقد حرم الله في آية تالية ﴿ والمحصنات من النساء ﴾ أي حرم ذوات الأزواج من النساء في الآية ٢٤.
وعقب الله على تشريع هذه الأحكام بقوله سبحانه :{ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم، والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما، يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا. ( النساء ٢٦-٢٨ ).
***
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
الحمد لله حمدا كثيرا وطيبا طاهرا مباركا فيه كما يرضى ربنا ويحب وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
***
تم بحمد الله تفسير الجزء الرابع فجر السبت ١٢ يناير سنة ١٩٨٣ ويليه تفسير الجزء الخامس إن شاء الله.
والله ولي التوفيق
***
المفردات :
المحصنات : واحدتهن : محصنة ( بفتح الصاد ) يقال : حصنت المرأة ( بضم الصاد ) حصنا وحصانة : إذا كانت عفيفة فهي حاصن وحصان ( بفتح الصاد ) ويقال : أحصنت المرأة : إذا تزوجت لأنها تكون في حصن الرجل وحمايته، وأحصنها أهلها : زوجوها.
ما ملكت أيمانكم : أي : بالسبي في حروب دينية، وأزواجهن كفار في دار الحرب ؛ فينفسخ عند ذلك نكاحهن، ويحل الاستمتاع بهن بعد وضع الحامل حملها وحيض غيرها ثم طهرها.
الإحصان : العفة.
المسافح : الزاني.
الاستمتاع بالشيء : هو التمتع به.
الأجور : واحدها : أجر : وهو في الأصل الجزاء الذي يعطى في مقابلة شيء ما من عمل أو منفعة، والمراد به هنا : المهر.
فريضة : أي : حصة مفروضة محددة مقدرة.
لا جناح : أي : لا حرج ولا تضييق.
تمهيد :
هاتان الآيتان من تتمة ما قبلهما من المعنى فقد ذكر في أولاهما بقية ما يحرم من النساء وحل سوى من تقدم، ووجوب إعطاء المهور، وذكر في الآية الثانية حكم نكاح الإماء وحكم حدهن عند ارتكاب الفاحشة، لكن من قسموا القرآن الثلاثين جزءا جعلوها أول الجزء الخامس، مراعاة للفظ دون المعنى إذ لوراعوه لجعلوا أول الخامس : بأيها الذين آمنوا لا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل.
٢٤ - وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ... أي : حرم الله عليكم نكاح المحصنات أي : المتزوجات و المحصنات. معطوف على قوله تعالى : حرمت عليكم أمهاتكم. و المعنى : وكما حرم الله عليكم نكاح أمهاتكم و بناتكم... الخ. فقد حرم عليكم أيضا نكاح ذوات الأزواج من النساء عامة، حرائر وغير حرائر إلا ما سبيتم وما ملكتم منهن في حرب بينكم و بين الكفار، فإن نكاحهن السابق ينفسخ بالسبي فيصرن حلالا لكم بعد استبراء أرحامهن.
وقد كان الإسلام مضطرا إلى هذه المعاملة ؛ لأنها معاملة بالمثل، و الإسلام لم يفرض السبي ولم يحرمه وقد جاء الإسلام والرق كنهر يجري فحاول الإسلام توسيع المصب وتضييق المنبع ؛ حتى يجف نهر الرق. وقد حرم الرق الآن ؛ وروح الإسلام تبارك هذا التحريم.
كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ. أي : كتب عليكم تحريم هذه الأنواع كتابا مؤكدا، فألزموا ما كتب الله عليكم في تحريم ما حرم، ولكم فيما عدا هؤلاء المؤمنات المحرمات، أن تطلبوا النساء اللاتي أحلهن الله لكم عن طريق ما تقدمونه لهن من أموالكم كمهور لهن وبذلك تكونون قد أحصنتم أنفسكم ومنعتموها عن السفاح والفجور والزنى.
فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً. أي : وأي امرأة من النساء اللواتي أحللن لكم تزوجتموها فأعطوها الأجر و هو المهر بعد أن تفرضوه و تتفقوا عليه عند العقد، فريضة فرضها الله عليكم.
وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ. ولا حرج عليكم فيما تم بينكم عن التراض من تنازل زوجة عن بعض مهرها، أو زيادة زوج فيه.
إن الله كان ولم يزل مطلعا على شئون العباد مدبرا لهم في أحكام ما يصلح به أمرهم.
هاتان الآيتان من تتمة ما قبلهما من المعنى فقد ذكر في أولاهما بقية ما يحرم من النساء وحل سوى من تقدم، ووجوب إعطاء المهور، وذكر في الآية الثانية حكم نكاح الإماء وحكم حدهن عند ارتكاب الفاحشة، لكن من قسموا القرآن الثلاثين جزءا جعلوها أول الجزء الخامس، مراعاة للفظ دون المعنى إذ لوراعوه لجعلوا أول الخامس : بأيها الذين آمنوا لا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل.
المفردات :
الاستطاعة : كون الشيء في طوعك لا يتعاصى عليك، و الطول الغني و الفضل من مال أو قدرة على تحصيل الرغائب.
المحصنات : هنا : الحرائر.
الفتيات : الإماء.
محصنات : أي عفيفات.
مسافحات : مستأجرات للبغاء.
الأخدان : واحدهم : خدن و هو الصاحب و يطلق على الذكر و الأنثى، وهو أن يكون للمرأة خدن يزني بها سرا فلا تبذل نفسها لكل أحد.
الفاحشة : الفعلة القبيحة وهي : الزنى.
العذاب : هو الحد الذي قدره الشارع وهو مائة جلدة، فنصفها خمسون ولا رجم عليهن ؛ لأنه لا ينتصف.
العنت : الجهد والمشقة.
التفسير :
٢٥- وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ... أي : و من لم يجد منكم- أيها الأحرار المؤمنون- سعة من المال تمكنه من القيام بتكاليف الزواج من إحدى الحرائر المؤمنات ؛ فلينكح أمة من الإماء المؤمنات ؛ لخفة تكاليف الزواج منها، ويتخذ منها زوجة دون غضاضة في ذلك الزواج، فقد يكون في قوة إيمان الأمة ما يعوضه خيرا مما فاته من نكاح الحرة، والله وحده هو الذي يعلم حقيقة إيمانكم، الذي هو أساس التفاضل بينكم عنده سبحانه وتعالى، فأنتم جميعا أمام الله سواء ؛ أكرمكم عند الله اتقاكم.
فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ. أي : فإذا رغب أحدكم أن يتزوج إحدى الإماء المسلمات، فليكن نكاحه إياها بإذن وليها ومالكها، وليؤد لها مهرها، من غير إضرار أو نقص بل المهر المتعارف لأمثالهن، مع حسن التعامل وتوفية الحق واختاروهن عفيفات، فلا تختاروا زانية معلنة ولا خليلة، فإن أتين الزنى بعد زواجهن ؛ فعقوبتهن نصف عقوبة الحرة، وإباحة نكاح المملوكات عند عدم القدرة جائز لمن خاف منكم المشقة المفضية إلى الزنى، وصبركم عن نكاح المملوكات مع العفة خير لكم. والله كثير المغفرة عظيم الرحمة.
﴿ يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
التمهيد :
بعد ان ذكر أحكام النكاح فيما سلف على طريق البيان و الإسهاب، ذكر هنا : عللها وأحكامها كما هو دأب القرآن الكريم أن يعقب ذكر الأحكام التي يشرعها للعباد ببيان العلل و الأسباب ؛ ليكون في ذلك طمأنينة للقلوب، و سكون للنفوس ؛ لتعلم مغبة ما هي مقدمة عليه من الأعمال، و عاقبة ما كفلت به من الأفعال، حتى تقبل عليها وهي مثلجة الصدور عالمة بأن لها فيها سعادة في دنياها و أخرها، ولا تكون في عماية من أمرها ؛ فتتيه في أودية الضلالة، وتسير قدما لا إلى غاية.
٢٦- يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. يريد الله بما شرع لكم من الأحكام أن يبين لكم ما فيه مصالحكم و منافعكم و أن يهديكم مناهج من تقدمكم من الأنبياء و الصالحين ؛ لتقتفوا آثارهم و تسيروا سيرتهم، ويتوب عليهم من الإثم و المحارم و اتباع الشهوات و المعاصى، ويريد الله أن يرجع بكم إلى طريق طاعته و الله مطلع على شؤونكم مدبر في أحكامه لما يصلح أمركم.
بعد ان ذكر أحكام النكاح فيما سلف على طريق البيان و الإسهاب، ذكر هنا : عللها وأحكامها كما هو دأب القرآن الكريم أن يعقب ذكر الأحكام التي يشرعها للعباد ببيان العلل و الأسباب ؛ ليكون في ذلك طمأنينة للقلوب، و سكون للنفوس ؛ لتعلم مغبة ما هي مقدمة عليه من الأعمال، و عاقبة ما كفلت به من الأفعال، حتى تقبل عليها وهي مثلجة الصدور عالمة بأن لها فيها سعادة في دنياها و أخرها، ولا تكون في عماية من أمرها ؛ فتتيه في أودية الضلالة، وتسير قدما لا إلى غاية.
٢٧- ﴿ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا ﴾. والله سبحانه يريد أن يتوب عليكم فيفتح لكم باب التوبة و الأمل، و يريد اتباع الشياطين من اليهود، والنصارى، و الزناة أن تميلوا عن الحق، وتنحرفوا إلى الضلالة انحرافا عظيما ؛ حتى تكونوا مثلهم و هذا شأن المنحرفين دائما يريدون أن يكون الناس على طريقتهم ؛ حتى يسلموا من ذمهم ولومهم.
بعد ان ذكر أحكام النكاح فيما سلف على طريق البيان و الإسهاب، ذكر هنا : عللها وأحكامها كما هو دأب القرآن الكريم أن يعقب ذكر الأحكام التي يشرعها للعباد ببيان العلل و الأسباب ؛ ليكون في ذلك طمأنينة للقلوب، و سكون للنفوس ؛ لتعلم مغبة ما هي مقدمة عليه من الأعمال، و عاقبة ما كفلت به من الأفعال، حتى تقبل عليها وهي مثلجة الصدور عالمة بأن لها فيها سعادة في دنياها و أخرها، ولا تكون في عماية من أمرها ؛ فتتيه في أودية الضلالة، وتسير قدما لا إلى غاية.
٢٨- ﴿ يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ﴾. يريد الله أن ييسر عليكم بتشريع ما فيه سهولة لكم وتخفيف عليكم، وقد خلق الإنسان ضعيفا أمام غرائزه وميوله، فيناسبه من التكاليف ما فيه يسر و سعة، لضعفه في نفسه، وضعف عزمه وهمته.
تمهيد :
بعد أن ذكر فيما سلف كيفية معاملة اليتامى وإيتاء أموالهم إليهم عند الرشد وعدم دفع الأموال على السفهاء، ثم بين وجوب دفع المهور للنساء وأنكر عليهم أخذها بوجه من الوجوه، ثم ذكر وجوب إعطاء شيء من أموال اليتامى إلى أقاربهم إذا حضروا القسمة، ذكر هنا قاعدة عامة للتعامل في الأموال ؛ تطهيرا للأنفس في جمع المال المحبوب لها فقال :
٢٩- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ. يأيها الذين آمنوا لا يأخذ بعضكم مال بعض بغير الحق أي : بأنواع المكاسب غير المشروعة كأنواع الربا، و القمار، و السرقة، والغصب، والرشوة، واليمين الكاذبة، وشهادة الزور، ونحو ذلك مما حرمه الله.
وبين وسيلة من وسائل الكسب الحلال، وهي التجارة القائمة عن تراض يتعامل الناس قفيها معا، ويقيمونها بينهم كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصلها الفقهاء في كتبهم، ويلحق بالتجارة كل أسباب التملك التي أباحها الشارع كالهبة، والصدقة، والإرث.
وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ. أي : بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل،
إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا. فيما أمركم به ونهاكم عنه.
روى الأمام أحمد وأبو داود : أن عمرو بن العاص كان أميرا على الجيش في سرية ذات السلاسل فأصبح جنبا في ليلة باردة شديدة البرد ؛ فتيمم وصلى بأصحابه ثم أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله، احتلمت في ليلة باردة وأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ؛ فذكرت قول الله عز وجل : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما. فتيممت ثم صليت ؛ وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا ١.
وفي الصحيحين :''من قتل نفسه بشيء عذب به إلى يوم القيامة ''٢.
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :'' من تردى من جبل فقتل نفسه ؛ فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه ؛ فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة ؛ فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا'' ٣.
رواه أبو داود في الطهارة(٣٣٤) وأحمد في مسنده (١٧٣٥٦) عن عمرو بن العاص، قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟! فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: ﴿ولا تقتلوا أنفسكم﴾ إن الله كان بكم رحيما فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا!.
.
٢ ) من قتل نفسه بشيء عذب به:
رواه البخاري في الجنائز (١٣٦٤) في الأدب (٦٠٧٤، ٦١٠٥) في الإيمان والنذور (٦٦٥٣) مسلم في الإيمان(١١٠) وأبو داود في الإيمان والنذور (٣٢٥٧) والترمذي في الطب (٢٦٣٦) والنسائي في الإيمان والنذور (٣٧٧٠) والدرامي في الديات (٢٣٦١) وأحمد في مسنده (١٥٩٥٠، ١٥٩٥٦) من حديث ثابت بن الضحاك وكان من أصحاب الشجرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حلف على ملة غير الإسلام فهو كما قال وليس على ابن آدم نذر فيما لا يملك ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة ومن لعن مؤمنا فهو كقتله ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله.
.
٣ من تردى من جبل فقتل نفسه:
رواه البخاري في الطب (٥٧٧٨) ومسلم في الإيمان (١٠٩) والترمذي في الطب (٢٠٤٤، ٢٠٤٣) والنسائي في الجنائز (١٩٦٥) وابن ماجة في الطب (٣٤٦٠)(٩٩٦٤، ٩٨٣٩، ٧٣٣٩) والدرامي في الديات (٢٣٦٢)من حديث أبي هريرة مرفوعا: من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أ بدا ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا.
.
فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا. فسوف ندخله نارا يحترق فيها وكان ذلك على الله هينا ميسورا.
المفردات :
الاجتناب : ترك الشيء جانبا، والكبائر واحدتها كبيرة وهي المعصية العظيمة، والسيئات : واحدتها : سيئة وهي الفعلة التي تسوء صاحبها عاجلا أو آجلا، والمراد بها هنا : الصغيرة.
نكفر : نغفر ونمح.
مدخلا كريما : أي : مكانا كريما وهو الجنة.
تمهيد :
بعد أن نهى سبحانه عن أكل أموال الناس بالباطل، وعن قتل النفس، وهما أكبر الذنوب المتعلقة بحقوق العباد، وتوعد فاعل ذلك بأشد العقوبات، نهى عن جميع الكبائر التي يعظم ضررها، وتؤذن بضعف إيمان مرتكبها، ووعد من تركها بالمدخل الكريم.
التفسير :
٣١- إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ. أي : إن تتركوا جانبا كبائر ما ينهاكم الله عنه ارتكابه من الذنوب والآثام ؛ نمح عنكم صغائرها فلا نؤاخذكم بها.
وقد اختلف في عدد الكبائر فقيل : هي سبع ؛ لما رود في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :''اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات'' ١. وفي رواية لهما عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :'' ألا أنبئكم بأكبر الكبائر'' قلنا : بلى يا رسول الله، قال : الإشراك بالله، وعقوق الوالدين- وكان متكئا فجلس وقال- ألا وقول الزور و شهادة الزور فما زال يكررها ؛ حتى قلنا : ليته سكت'' ٢.
وفيهما أيضا من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :''إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قالوا : وكيف يلعن الرجل والديه ؟ ! قال : يسب أبا الرجل ؛ فيسب أباه، ويسب أمه ؛ فيسب أمه'' ٣.
و الأحاديت الصحيحة مختلفة في عددها، ومجمعوها يزبد على سبع ؛ ومن ثم قال ابن عباس لما قال له رجل : الكبائر سبع. قال : هي إلى سبعين أقرب. إذ لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، ومراده : أن كل ذنب يرتكب لعارض يعرض على النفس من استشاطة غضب أو ثورة شهوة، وصاحبه متمكن من دينه، يخاف الله ولا يستحل محارمه، فهو من السيئات التي يكفرها الله تعالى، إذ لولا ذلك العارض القاهر للنفس ؛ لم يكن ليجترحه تهاونا بالدين، إذ هو بعد اجتراحه يندم ويتألم ويتوب ويرجع إلى الله تعالى، ويعزم على عدم العودة إلى اقتراف مثله ؛ فهو إذ ذاك أهل لأن يتوب الله عليه، ويكفر عنه.
وكل ذنب يرتكبه الإنسان مع التهاون بالأمر وعدم المبالاة ينظر الله إليه، ورؤيته إياه حيث نهاه، فهو مهما كان صغيرا في صورته، أو في ضرره، يعد كبيرا من حيث الإصرار والاستهتار، فتطفيف الكيل والميزان ولو حبة لمن اعتاده، والهمز واللمز ( عيب الناس والطعن في أعراضهم )- لمن تعوده- كل ذلك كبيرة ولا شك.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر في كل مقام ما تمس إليه الحاجة، ولم يرد الحصر والتحديد.
وقال بعض العلماء : الكبيرة كل ذنب رتب عليه الشارع حدا أو صرح فيه بوعيد.
وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا. أي : وندخلكم مكانا لكم فيه الكرامة عند ربكم وهي الجنات التي تجري من تحتها الأنهار والعرب تقول : أرض مكريمة، وأرض مكرمة، أي : طيبة جيدة النبات، قال تعالى : فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. ( الشعراء : ٥٧-٥٨ ).
رواه البخاري في الوصايا ح ٢٧٦٧ ومسلم في الإيمان ٨٩، والنسائي في الوصايا ح ٣٦٧١، وأبو داود في الوصايا ح ٢٨٧٤ من حديث أبي هريرة.
.
٢ ألا أنبأكم بأكبر الكبائر:
رواه البخاري في الشهادات ح ٢٤٦٠، وفي الأدب ح ٥٥١٩، ٥٥٢٠، ومسلم في الإيمان ح ١٢٦، ١٢٨، وأحمد ح ١١٨٨٦، ١٩٤٩١، ١٩٤٩٩.
.
٣ إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه:
رواه البخاري في الأدب (٥٩٧٣) وأبو داود في الأدب (٥١٤١) وأحمد في مسنده (٦٩٩٠) من حديث عبد الله بن عمرو.
.
المفردات :
التمني : تشهى حصول الزمر المرغوب فيه، وحديث النفس بما يكون وما لا يكون.
من فضله : أي : إحسانه ونعمه المتكاثرة.
تمهيد :
بعد أن نهى سبحانه عن أكل الأموال بالباطل، وعن القتل، وتوعد فاعلهما بالويل والثبور، وهما من أفعال الجوارح ؛ ليصير الظاهر طاهرا من المعاصي الوخيمة العاقبة- نهى عن التمني، وهو التعرض لها بالقلب حسدا ؛ لتطهر أعمالهم الباطنة فيكون الباطل موافقا للظاهر، ولأن التمني قد يجر إلى الأكل، والأكل قد يقود إلى القتل، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
التفسير :
٣٢- وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ. أي : إن الله كلف كلا من الرجال والنساء أعمالا فما كان خاصا بالرجال لهم نصيب من أجره لا يشاركهم فيه النساء، وما كان خاصا بالنساء لهن نصيب من اجرة لا يشاركهن فيه الرجال وليس لأحدهما أن يتمنى ما هو مختص بالآخر وقد أراد الله أن يختص النساء بأعمال البيوت، والرجال بالأعمال الشاقة التي في خارجها ؛ ليتقن كل منهما عمله، ويقوم بما يجب عليه مع الإخلاص.
وعلى كل منهما أن يسأل ربه الإعانة والقوة على ما نيط به من عمل، ولا يجوز أن يتمنى ما نيط بالآخر، ويدخل في هذا النهي تمني كل ما هو من الأمور الخلقية كالعقل والجمال ؛ إذ لا فائدة في تمنيها لمن لم يعطها، ولا يدخل فيه ما يقع تحت قدرة الإنسان من الأمور الكسبية ؛ إذ يحمد من الناس أن ينظر بعضهم إلى ما نال الآخرون ويتمنوا لأنفسهم مثله أو خيرا منه بالسعي والجد.
والخلاصة : أنه تعالى طلب إلينا أن نوجه الأنظار إلى ما يقع تحت كسبنا، ولا نوجهها إلى ما ليس في استطاعتنا، فإنما الفضل بالأعمال الكسبية، فلا تتمنوا شيئا بغير كسبكم وعملكم.
فعلى المسلم أن يعتمد على مواهبه وقواه في كل مطالبه، بالجد والاجتهاد مع رجاء فضل الله فيما لا يصل إليه كسبه إما للجهل به وإما للعجز عنه فالزارع يجتهد في زراعته ويتبع السنن والأسباب التي سنها الله لعمله، ويسأل الله أن يمنع الآفات والجوائح عنه ويرفع أثمان غلاته إلى نحو أولئك مما هو بيد الله.
روى عكرمة : أن النساء سألن الجهاد فقلن : وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال ؛ فنزلت : وسئلوا الله من فضله. أي : لا تتمنوا نصيب غيركم، ولا تحسدوا من فضل الله عليكم واسألوا الله من إحسانه وإنعامه ؛ فإن خزائنه مملوءة لا تنفذ، روى أنه صلى الله عليه وسلم قال :'' سلوا الله من فضله ؛ فالله يحب أن يسأل وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج''.
إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا. وبذا فضل بعض الناس على بعض بحسب مراتب استعدادهم، وتفاوت اجتهادهم في معترك الحياة، ولا يزال العاملون يستزيدونه ولا يزال ينزل عليهم من جوده وكرمه ما يفضلون به القاعدين الكسالى حتى بلغ التفاوت بين الناس في الفضل حدا بعيدا، وكاد التفاوت بين الشعوب أن يكون أبعد من التفاوت بين بعض الحيوان وبعض الإنسان.
المفردات :
الموالي : من يحق لهم الاستيلاء على التركة، مما ترك. أي : وارثين مما ترك، والذين عقدت أيمانكم. هم الأزواج، فإن كلا من الزوجين له حق الإرث بالعقد، والمتعارف عند الناس في العقد أن يكون بالمصافحة باليدين، قاله أبو مسلم الأصفهاني.
تمهيد :
بعد ان نهى سبحانه عن أكل أموال الناس بالباطل، وهن تمني أحد ما فضل الله به غيره عليه من المال ؛ حتى لا يسوقه التمني إلى التعدي، وهو وإن كان نهيا عاما فالسياق يعين المراد منه، وهو المال ؛ لأن أكثر التمني يتعلق به ثم ذكر القاعدة العامة في حيازة الثروة وهي الكسب ؛ انتقل إلى نوع آخر تأتي به الحيازة وهو الإرث.
التفسير :
٣٣- وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ. أي : إن لكل من الرجال الذين لهم نصيب مما اكتسبوا، ومن النساء اللواتي لهن نصيب مما اكتسبن، موالى لهم حق الولاية على ما يتركون من كسبهم.
ثم بين هؤلاء الموالي فقال :
الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ. أي : إن هؤلاء الموالي هم جميع الورثة من الأصول، والفروع، والحواشي، والأزواج.
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ. أي : فأعطوا هؤلاء الموالي نصيبهم المقدر لهم ولا تنقصوهم منه شيئا.
إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا. أي : إن الله رقيب شاهد على تصرفاتكم في التركة، وغيرها فلا يطمعن من بيده المال أن يأكل من نصيب أحد الورثة شيئا، سواء ذكرا أو أنثى، كبيرا أم صغيرا. وجاءت هذه الآية لمنع الوارثين في بعض.
﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا، وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴾.
الايتان ( ٣٤-٣٥ ).
المفردات :
يقال : هذا قيم المرأة وقوامها ؛ إذا كان يقوم بأمرها ويهتم بحفظها وما به الفضل قسمان :
فطري : وهو قوة مزاج الرجل وكماله في الخلقة، ويتبع ذلك قوة العمل وصحة النظر في مبادئ الأمور وغاياتها، وكسبي : وهو قدرته على الكسب والتصرف في الأمور، ومن ثم كلف الرجال بالإنفاق على النساء والقيام برياسة المنزل.
القنوت : السكون و الطاعة لله و للأزواج.
الحافظات للغيب : أي اللاتى يحفظن ما يغيب عن الناس، و لا يقال إلا في الخلوة بالمرأة.
تخافون : أى : تظنون.
نشزت الأرض : ارتفعت عما حواليها، ويراد بها هنا : معصية الزوج و الترفع عليه.
البغى : الظلم وتجاوز الحد.
تمهيد :
لما نهى سبحانه كلا من الرجل و النساء عن تمنى ما فضل الله به بعضهم على بعض، وأرشدهم إلى الاعتماد في أمرهم الرزق على كسبهم وأمرهم أن يؤتوا الوارثين أنصبهم، وفي هذه الأنصبة يستبين تفضيل الرجال على النساء- ذكر هنا أسباب التفضيل.
٣٤- الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. الرجال لهم حق الصيانة والرعاية للنساء، والقيام بشئونهن ؛ بما أعطاهم الله من صفات تهيئهم للقيام بهذا الحق، فقد خص الله الرجال بأمور منها :
الإمامة، والولاية، والميراث، والشهادة، والجهاد، والجمعة، والجماعات، وولاية الزوج على زوجته ولاية رعاية ومودة ورحمة لا ولاية غلظة ورهبة، كما أن ولاية الزوج على زوجته، تهيئ للزوجة الاستقرار في البيت ورعاية شئون الأسرة.
والرجل أقدر- بطبيعته- على السعي والكدح في سبيل تحصيل رزقه، ورزق أسرته ؛ ليهيئ لها حياة سعيدة هانئة.
النساء قسمان :
قسم يفهم ويقدر قوامة الرجل على المرأة، فيلتزم بما امر الله وهن الصالحات، فالصالحات مطيعات لله ولأزواجهن، حافظات لكل ما يغيب عن أزواجهن بسبب أمر الله بهذا الحفظ وتوفيقه لهم في القيام بواجبهن، وهن يحفظن على الأزواج أموالهم وأعراضهم في جميع الحالات.
أما القسم الثاني من النساء :
فهو قسم مكابر يرغب في التعالي والخروج عن طاعة الزوج وقد شرع الإسلام العلاج لهذا النوع من النساء على النحو الآتي :
١- الوعظ والإرشاد، والتوجيه، والتذكير بما أمر الله ورسوله من طاعة الزوج، والتزام أمره، والتحذير من شماتة الأعداء وتصدع شمل الأسرة.
٢- الهجر والإعراض في المضجع ويتحقق ذلك بهجرها في الفراش مع الإعراض والصد.
٣- الضرب اليسير غير المبرح وهو ما كان بنحو سواك أو عصا صغيرة. وهو أمر معنوي أكثر منه حسي وهو خاص ببعض النساء ومن لا تستقيم بالوعظ ولا بالهجر، ويجب ألا يكون الضرب قاسيا ولا شديدا. وبعض الناس لا يتقبل عقوبة الضرب. ونحن نشاهد هذه العقوبة في الجيش وفي غيره ! وليست هذه العقوبة لجميع الناس، بل لفئة جاحدة لا تريد أن تخضع لقانون الله ولا أن تلتزم بشئون الأسرة.
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا. أي : فإن أطعنكم بواحدة من هذه الخصال التأديبية ؛ فلا تبغوا ولا تتجاوزوا ذلك إلى غيرها، فابدءوا بما بدأ الله من الوعظ، فإن لم يفد فبالهجر، فإن لم يفد فبالضرب الخفيف غير مبرح ولا مهين، عند التمرد، فإذا لم يغن فليلجأ إلى التحكيم، ومتى استقام لكم الظاهر فلا تبحثوا عن السرائر.
إن الله فوقكم وينتقم منكم إذا آذيتموهن أو بغيتم عليهن ونلمح أن في نهاية الآية تهديدا ووعيدا لكل من يتكبر على زوجته، أو ينتهز الفرصة لإذلالها والعدوان عليها، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإذا دفعتك قوتك إلى ظلم غيرك ؛ فتذكر قدرة الله عليك وفي الحديث القدسي :'' يا عبادي ؛ إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما ؛ فلا تظالموا''.
ويقول الشاعر :
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا | الظلم شيمته يفضي إلى الندم |
تنام عيناك والمظلوم منتبه | يدعو عليك وعين الله لم تنم |
لما نهى سبحانه كلا من الرجل و النساء عن تمنى ما فضل الله به بعضهم على بعض، وأرشدهم إلى الاعتماد في أمرهم الرزق على كسبهم وأمرهم أن يؤتوا الوارثين أنصبهم، وفي هذه الأنصبة يستبين تفضيل الرجال على النساء- ذكر هنا أسباب التفضيل.
المفردات :
الشقاق : الخلاف الذي يجعل كلا من المختلفين في شق : أي : جانب، وخوفه توقع حصوله بظهور أسبابه.
الحكم : من له حق و الفصل بين الخصمين، وبعث الحكمين : إرسالهما إلى الزوجين ؛ لينظرا في شكوى كل منهما ويعترفا ما يرجى أن يصلح بينهما.
٣٥- وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها...
المعنى :
و إن علمتهم أن بين الزوجين شقاقا قد استفحل خطره ؛ فوجهوا إليهما حكما من أهل الزوج، وحكما من أهل الزوجة ؛ لينظرا فيما بينهما من نزاع وشقاق فإذا خلصت نية الحكمين، وقصدا بصدق إلى التوفيق بين الزوجين ؛ وفقهما الله تعالى إلى إزالة أسباب الخلاف والشقاق.
وينبغي أن نختار الحكمين من أهل الخبرة والحكمة والصلاح والمعرفة بشئون الصلح ؛ لنحفظ البيوت والأسر من التصدع والأطفال من التشرد. فالإسلام حريص على دعم الأسرة وقيامها على المودة والرحمة والألفة كما أن الإسلام أمر بالصبر والصفح، وحسن الخلق والعشرة بالمعروف بين الزوجين.
عبادة الله : الخضوع له، والاستشعار بتعظيمه في السر والعلن بالقلب والجوارح، والإخلاص له بالاعتراف بوحدانيته ؛ إذ لا يقبل عملا بدونها.
الإحسان إلى الوالدين : قصد البر بهما بالقيام بخدمتهما، والسعي في تحصيل مطالبهما، والإنفاق عليهما بقدر الاستطاعة، وعدم الخشونة في الكلام معهما.
ذي القربى : صاحب القرابة من أخ، وعم، وخال، وأولاد هؤلاء.
الجار ذي القربى : هو الجار القريب الجوار.
الجار الجنب : هو البعيد القرابة.
الصاحب الجنب : الرفيق في السفر، أو المنقطع إليك، الراجي نفعك ورفدك.
ابن السبيل : هو المسافر أو الضيف.
ما ملكت أيمانكم : عبيدكم وإماؤكم.
المختال : ذو الخيلاء والكبر.
الفخور : الذي يعدد محاسنه ؛ تعاظما وتكبرا.
تمهيد :
كان الكلام من أول السورة في وصايا ونصائح، كابتلاء اليتامى قبل تسليمهم أموالهم، والنهي عن إيتاء الأموال للسفهاء، وعن قتل النفس، والإرشاد إلى كيفية معاملة النساء، وطرق تأديبهن تارة بالموعظة الحسنة وأخرى بالقسوة والشدة، مع مراقبة الله عز وجل في كل ذلك.
فناسب بعدئذ التذكير بحسن معاملة الخالق بالإخلاص له في الطاعة، وحسن معاملة الطوائف المختلفة من الناس، وعدم الضن عليهم في أوقات الشدة بالمال، مع قصد التقريب إلى الله لقصد الفخر والخيلاء.
التفسير :
٣٦- وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين. ِ هذه الآية تأمر بمكارم الأخلاق وهي سبيل من سبل التكافل والتراحم بين المسلمين.
وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا. أي : وحدوا الله وأخلصوا له العبادة، ولا تشركوا به صنما أو غيره ؛ فهو سبحانه صاحب الفضل والنعمة، وهو الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور. كما أمر الله سبحانه بالاحسان إلى الوالدين ورعايتهما خصوصا في مرحلة الكبر والشيخوخة.
كما أمر بصلة الرحم، والإحسان إلى الأقارب، والتجاوز عن هفواتهم، كما أمر برعاية اليتيم والإحسان إليه ؛ لأنه فقد أباه فيجب أن يرعاه المجتمع ويحنو عليه، وكما أمر برعاية المسكين المحتاج بأن نيسر له العمل والنصح ويشمل ذلك إنشاء الملاجئ، والمستشفيات، ودور الحضانة، ودروس تقوية التلاميذ، وإنشاء صندوق لرعاية المحتاجين. والجار ذي القربى والجار الجنب. أي : أحسنوا إلى الجار الذي قرب مكانا أو دينا أو نسبا، وإلى الجار البعيد مكانا أو دينا أو نسبا.
جاء في تفسير ابن كثير :
قال ابن عباس : والجار ذي القربى. يعني : الذي بينك وبينه قرابة، والجار الجنب. الذي ليس بينك وبينه قرابة.
وروى ابن جرير أن الجار ذي القربى. يعني : الجار المسلم، الجار الجنب. يعني : اليهودي والنصراني، وقال مجاهد : الجار الجنب. الرفيق في السفر.
وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار منها ما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :''مازال جبريل يوصيني بالجار ؛ حتى ظننت أنه سيورثه'' ١.
والصاحب بالجنب. عن على وابن مسعود قالا : هي المرأة، وقال ابن عباس ومجاهد : هو الرفيق في السفر، وقال الطبري والزمخشري : والصاحب بالجنب. '' هو الذي صحبك إما رفيقا في سفر، أو جار ملاصقا، أو شريكا في تعلم علم، أو قاعدا إلى جنبك في مجلس أو غير ذلك، ممن له أدنى صحبة التأمت بينك و بينه فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه''. وابن السبيل. أي : المسافر الغريب الذي انقطع عن بلده وأهله، وما ملكت أيمانكم. أي : المماليك من العبيد والإماء، إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا. أي : متكبرا في نفسه يأنف عن أقاربه وجيرانه فخورا على الناس يرى أنه خير منهم.
قال ابن جرير عن أبي رجاء الهروى : لا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالا فخورا، ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا ثم تلا : وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا. ( مريم : ٣٢ )
رواه البخاري في الأدب (٦٠١٤) ومسلم في البر و الصلة (٢٦٢٤) وأبو داود في الأدب(٥١٥١) والترمذي في البر والصلة (١٩٤٢) وابن ماجه في الأدب (٣٦٧٣) وأحمد في مسنده (٢٥٤٨٢، ٢٥٠١٢، ٢٤٤٢١، ٢٤٠٧٩، ٢٣٧٣٩) من حديث عائشة. ورواه البخاري في الأدب (٦٠١٥) ومسلم في البر والصلة (٢٦٢٥) من حديث ابن عمر. ورواه أبو داود في الأدب (٥١٥٢) والترمذي في البر والصلة (١٩٤٣) و أحمد في مسنده (٦٤٦٠) من حديث عبد الله بن عمرو. وقال الترميدي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وقد روى هذا الحديث عن مجاهد عن عائشة وأبي هريرة عن النبي صلى اله عليه وسلم أيضا. ورواه أحمد في مسنده (٥٥٥٢) من حديث عبد الله بن مسعود. ورواه أحمد في مسنده أيضا (١٠٢٩٧، ٩٤٥٣، ٧٩٨٥، ٧٤٧٠) من حديث أبي هريرة. ورواه أحمد في مسنده (٢٢٥٨٣، ١٩٨٣٧) عن رجل من الأنصار.
.
كان الكلام من أول السورة في وصايا ونصائح، كابتلاء اليتامى قبل تسليمهم أموالهم، والنهي عن إيتاء الأموال للسفهاء، وعن قتل النفس، والإرشاد إلى كيفية معاملة النساء، وطرق تأديبهن تارة بالموعظة الحسنة وأخرى بالقسوة والشدة، مع مراقبة الله عز وجل في كل ذلك.
فناسب بعدئذ التذكير بحسن معاملة الخالق بالإخلاص له في الطاعة، وحسن معاملة الطوائف المختلفة من الناس، وعدم الضن عليهم في أوقات الشدة بالمال، مع قصد التقريب إلى الله لقصد الفخر والخيلاء.
المفردات :
أعتدنا : هيأنا وأعددنا.
المهين : ذو الإهانة والذلة.
٣٧-الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ... وضحت الآية المختال الفخور وهو المتكبر الذي لا يشكر الله على نعمه.
ومعنى الآية :
الذين يبخلون بأموالهم ؛ فلا ينفقونها في وجوه البر والإحسان ولا يكتفون بهذا بل يأمرون غيرهم بالبخل ويحرصون عليه، ويخفون ما انعم الله به عليهم ؛ حتى لا يطمع الناس في أموالهم وإحسانهم.
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا. أي : وأعددنا للكافرين عذابا مخزيا مذلا لكبريائهم وسماهم الله كفارا ؛ للإيذان بأن هذه الأخلاق أخلاق وأعمال لا تصدر إلا من الكفور لا من الشكور
كان الكلام من أول السورة في وصايا ونصائح، كابتلاء اليتامى قبل تسليمهم أموالهم، والنهي عن إيتاء الأموال للسفهاء، وعن قتل النفس، والإرشاد إلى كيفية معاملة النساء، وطرق تأديبهن تارة بالموعظة الحسنة وأخرى بالقسوة والشدة، مع مراقبة الله عز وجل في كل ذلك.
فناسب بعدئذ التذكير بحسن معاملة الخالق بالإخلاص له في الطاعة، وحسن معاملة الطوائف المختلفة من الناس، وعدم الضن عليهم في أوقات الشدة بالمال، مع قصد التقريب إلى الله لقصد الفخر والخيلاء.
المفردات :
رئاء الناس : أي : للمراءاة والفخر بما فعل.
القرين : الصاحب والخليل. وماذا عليهم. أي ضرر يحيق بهم لو آمنوا وأنفقوا ؟
٣٨- وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ. أي : ولا يحب الله –كذلك- الذين ينفقون أموالهم للرياء وللسمعة، لا شكرا لله على نعمه، ولا اعترافا بما أوجب الله عليهم من حق في أموالهم. ولا يصدقون بوقوع اليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب ؛ لأنهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ؛ لتحروا مرضاة الله، ولما رأوا أحدا أبدا.
وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا. أي : ومن يكن الشيطان له صاحبا فبئس هذا الصاحب صاحبا ؛ لأنه يضله ويقوده إلى الهلاك.
والآية تشير إلى أن البخيل والمتكبر ما حملهم على ما فعلوا إلا وسوسة الشيطان وهو بئس الصاحب والخليل.
كان الكلام من أول السورة في وصايا ونصائح، كابتلاء اليتامى قبل تسليمهم أموالهم، والنهي عن إيتاء الأموال للسفهاء، وعن قتل النفس، والإرشاد إلى كيفية معاملة النساء، وطرق تأديبهن تارة بالموعظة الحسنة وأخرى بالقسوة والشدة، مع مراقبة الله عز وجل في كل ذلك.
فناسب بعدئذ التذكير بحسن معاملة الخالق بالإخلاص له في الطاعة، وحسن معاملة الطوائف المختلفة من الناس، وعدم الضن عليهم في أوقات الشدة بالمال، مع قصد التقريب إلى الله لقصد الفخر والخيلاء.
٣٩- وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيمًا. الاستفهام هنا للتعجب والإنكار. أي : وما الذي كان يصيبهم لو آمنوا بالله إيمانا صحيحا يظهر أثره في العمل، وفي هذا الأسلوب إثارة تعجيب الناس من حالهم، إذ هم لو أخلصوا ؛ لما فاتتهم منفعة الدنيا ولفازوا مع ذلك بسعادة العقبى ؛ فكثيرا ما يفوت المرائي ما يرمي إليه من التقريب إلى الناس وامتلاك قلوبهم، ويظفر بذلك المخلص الذي لم يكن من همه أن أحدا يعرف ما عمل فيكون الأول قد رجع بخفى حنين في حين أن الثاني فاز بسعادة الدارين.
كَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيمًا. فينبغي للمؤمن أن يكتفى بعلم الله في إنفاقه ولا يبالي بعلم الناس، فهو سبحانه الذي لا ينسى عمل العاملين ولا يظلمهم من أجرهم شيئا.
المثقال : أصله المقدار الذي له ثقل مهما قل، ثم أطلق على المعيار المخصوص للذهب وغيره.
الذرة : أصغر ما يدرك من الأجسام ومن ثم قالوا : إنها النملة، أو رأسها، أو الخردلة، أو الهباء( ما يظهر في نور الشمس الداخل من الكوة ).
ولذلك روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أدخل يده في التراب ثم نفخ فيه فقال : كل واحدة من هؤلاء ذرة !
الظلم : النقص كما قال تعالى : كلتا الجنتين ءاتت أكلها ولم تظلم منه شيئا. ومن لدنه : من عنده.
تمهيد :
بعد أن بين عز اسمه صفات المتكبرين وسوء أحوالهم، وتوعدهم على ذلك بأشد أنواع الوعيد، زاد الأمر توكيدا وتشديدا فذكر أنه لا يظلم أحدا من العاملين بوصاياه لا قليلا ولا كثيرا، بل يوفيه حقه بالقسطاس المستقيم، وفي هذا أعظم الترغيب لفاعلي البر و الإحسان وحفز لهممهم على العمل، وفي معنى الآية قوله : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره.
التفسير :
٤٠-ِ إ نَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. أي : إنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله والجزاء عليه شيئا ما وإن صغر كذرة الهباء ؛ بل يوفيه أجره، كما لا يعاقبه بغير استحقاق للعقوبة، إذ إن الثواب والعقاب تابعان لتأثير الأعمال في النفس بتزكيتها أو تدسيتها ؛ فالعمل يرفعها إلى أعلى عليين أو يهبط بها إلى أسفل سافلين، ولذلك درجات ومثاقيل مقدرة في نفسها لا يحيط بدقائقها إلا من أحاط بكل شيء علما.
والخلاصة : إن الظلم لا يقع من الله تعالى ؛ لأنه من النقص الذي يتنزه عنه وهو ذو الكمال المطلق والفضل العظيم، وقد خلق للناس مشاعر يدركون بها ما لا يدركه الحس، وشرع لهم من أحكام الدين وآدابه ما لا تستقبل عقولهم بالوصول إلى مثله في هدايتهم وحفظ مصالحهم، وهي تسوق إلى الخير وتصرف عن الشر وأيدها بالوعد والوعيد، فمن وقع بعد ذلك فيما يضره ويؤذيه كان هو الظالم لنفسه ؛ لأن الله لا يظلم أحدا.
وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا. أي : إنه تعالى مع كونه لا ينقص أحدا من أجر عمله مثقال ذرة يزيد للمحسن في حسناته، فالسيئات جزاؤها بقدرها، والحسنات يضاعف الله جزاءها عشرة أضعاف أو أضعافا كثيرة كما قال في آية أخرى : مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ. ( الأنعام : ١٦٠ ). وقال : مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً. ( البقرة : ٢٤٥ ).
وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا. أي : إنه تعالى لواسع فضله لا يكتفي بجزاء المحسنين على إحسانهم فحسب، بل يزيدهم من فضله ويعطيهم من لدنه عطاء كبيرا، وسمى هذا العطاء أجرا ولا مقابل له من الأعمال ؛ لأنه لما كان تابعا للأجر على العمل سمى باسمه لمجاورته له. وفي ذلك إيماء إلى أنه لا يكون لغير المحسنين، إذ هو علاوة على أجور أعمالهم، فلا مطمع للمسيئين فيه.
بعد أن بين عز اسمه صفات المتكبرين وسوء أحوالهم، وتوعدهم على ذلك بأشد أنواع الوعيد، زاد الأمر توكيدا وتشديدا فذكر أنه لا يظلم أحدا من العاملين بوصاياه لا قليلا ولا كثيرا، بل يوفيه حقه بالقسطاس المستقيم، وفي هذا أعظم الترغيب لفاعلي البر و الإحسان وحفز لهممهم على العمل، وفي معنى الآية قوله : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره.
٤١- فكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا. أي : إذا كان الله لا يضيع من عمل العاملين مثقال ذرة، فكيف يكون الناس إذا جمعهم الله وجاء بالشهداء عليهم وهو أنبياؤهم ؟ ! فما من أمة إلا لها بشير ونذير.
وهذه الشهادة عبارة عن عرض أعمال الأمم على أنبيائهم ( لا فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين ) ومقابلة عقائدهم، وأخلاقهم، وأعمالهم بعقائد الأنبياء، وأعمالهم، وأخلاقهم، فمن شهد لهم بينهم بأنهم على ما جاء به وما أمر الناس بالعمل به ؛ فهم ناجون، ومن تبرأ منهم أنبياؤهم لمخالفة أعمالهم وعقائدهم لما جاءوا به ؛ فأولئك هم الخاسرون وإن ادعوا إتباعهم والانتماء إليهم.
وقوله : وجئنا بك على هؤلاء شهيدا. يراد به شهادة محمد صلى الله عليه وسلم- خاتم المرسلين – على أمته كما قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا. أي : إن هذه الأمة بحسن سيرتها ؛ تكون شهيدة على الأمم السالفة وحجة عليها في انحرافها عن هدى المرسلين، والرسول صلى الله عليه وسلم بسيرته وأخلاقه الغالية وسننه المرضية ؛ يكون حجة على من تركها وتساهل في إتباعها وعلى من تغالى فيها، وابتدع البدع المحدثة من بعده.
روى البخاري، والترمذي، والنسائي وغيرهم من حديث ابن مسعود أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :''اقرأ على. قلت : يا رسول الله أقرأ عليك، وعليك أنزل ؟ ! قال : نعم أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد... الخ، فقال :'' حسبك الآن'' فإذا عيناه تذرفان ! '' ١.
فانظر كيف اعتبر بهذه الشهادة الشهيد الأعظم صلى الله عليه وسلم فبكى لتذكر هذا اليوم، وهل نعتبر كما اعتبر ونستعد لهول ذلك اليوم ؛ بإتباع سنته ونجتهد في اجتناب البدع والتقاليد التي لم تكن في عهده ؛ وبذا نكون أمة وسطا لا تفريط عندها في الدين ولا إفراط، لا في الشئون الجسيمة ولا في الشئون الروحية، أو نظل في غوايتنا، تقليدا للآباء ؛ لنكون كما قال الكافرون : إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقتَدُونَ. ( الزخرف : ٢٢ ).
رواه البخاري في التفسير (٤٥٨٢) وفي فضائل القرآن (٥٠٥٥، ٥٠٥٠) ومسلم في صلاة المسافرين (٨٠٠) والترمذي في التفسير (٣٠٢٤) وأبو داود في العلم (٣٦٦٨) وابن ماجه في الزهد (٤١٩٤) وأحمد في مسنده (٤١٠٧، ٣٥٩٥، ٣٥٤١) من حديث عبد الله بن مسعود.
.
بعد أن بين عز اسمه صفات المتكبرين وسوء أحوالهم، وتوعدهم على ذلك بأشد أنواع الوعيد، زاد الأمر توكيدا وتشديدا فذكر أنه لا يظلم أحدا من العاملين بوصاياه لا قليلا ولا كثيرا، بل يوفيه حقه بالقسطاس المستقيم، وفي هذا أعظم الترغيب لفاعلي البر و الإحسان وحفز لهممهم على العمل، وفي معنى الآية قوله : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره.
المفردات :
الحديث : الكلام.
٤٢- يوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ. أي : إذا جاء ذلك اليوم الذي نأتي فيه بشهيد على كل أمة، يتمنى الذين كفروا وعصوا الرسول فلم يتبعوا ما جاء، أن يصيروا ترابا تسوى بهم الأرض ؛ فيكونوا وإياها سواء كما قال تعالى : في سورة النبأ :... ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا. ( النبأ : ٤٠ )
وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا. أي : أنهم يودون لو يكونون ترابا فتسوى بهم الأرض و لا يكونون قد كتموا الله وكذبوا أمامه على أنفسهم بإنكار شركهم وضلالهم كما قال تعالى : وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ، ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ. ( الأنعام : ٢٢-٢٣ ) أي : فهم حينئذ يكذبون وينكرون شركهم إما اعتقادا منهم أن ما كانوا عليه ليس بشرك، وإما هو استشفاع وتوصل، وإما مكابرة وظنا أن ذلك يجديهم ويدفع عنهم العذاب، فيشهد عليهم الأنبياء المرسلون أنهم لم يكونوا متبعين لهم فيما أحدثوا من شركهم، بل كانوا مبتدعين ذلك من عند أنفسهم، فقد قاسوا ربهم على ملوكهم الظالمين وأمرائهم المستبدين الذين يتركون عقاب بعض المسيئين بشفاعة المقربين، فإذا شهدوا عليهم تمنوا لو كانوا قد سويت بهم الأرض وما افتروا ذلك الكذب.
الغائط : المنخفض من الأرض كالوادي، وأهل البادية والقرى الصغيرة يقصدونه عند قضاء الحاجة ؛ للستر والاستخفاء عن الناس.
ملامسة النساء : الإفضاء إليهن.
تيمموا : اقصدوا.
الصعيد : وجه الأرض.
الطيب : الطاهر.
العفو : ذو العفو، والعفو عن الذنب : محوه وجعله كأن لم يكن.
الغفور : ذو المغفرة.
المغفرة : ستر الذنوب بعدم الحساب عليها.
تمهيد :
بعد أن وصف سبحانه الوقوف بين يديه يوم العرض والأهوال التي تؤدي إلى تمني الكافر :
العدم فيقول : يا ليتني كنت ترابا ! والتي تجعله لا يستطيع أن يكتم الله حديثا، وذكر أنه لا ينجو في ذلك اليوم إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان به والطاعة لرسوله، وصف في هذه الآية الوقوف بين يديه في مقام الأنس، وحضرة القدس، المنجى من هول الوقوف في ذلك اليوم، وطلب فيه استكمال القوى العقلية وتوجيهها إلى جانب العلى الأعلى بألا تكون مشغولة بذكرى غير طاهرة من الأنجاس والأخباث، لتكون على أتم العدة للوقوف في ذلك الموقف الرهيب، مستشعرة تلك العظمة والجلال والكبرياء.
٤٣- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ.
يأيها الذين آمنوا، لا يحل لكم أن تؤدوا الصلاة و انتم في حالة السك ؛ ر حتى تكونوا بحيث تعلمون ما تقولونه قبل أدائها، ولا في حالة الجنابة ؛ حتى تغتسلوا ولا تقربوا مواضع الصلاة ( وهو المسجد ) حال كونكم جنبا إلا في حال عبوركم من جانب إلى جانب.
روى ابن جرير : أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد فأنزل الله تعالى : وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ.
وإن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا. أي : وإن كنتم مرضى ويضركم الماء، أو مسافرين، وفي الأسفار يصعب وجود ما يكفي من الماء عادة فقد أباح الله لكم التيمم وهو ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين وكذلك إذا جاء أحدكم من المكان العد لقضاء الحاجة أو جامعتم النساء فلم تجدوا ماء تتطهرون به لفقده ؛ فاقصدوا ترابا طيبا كذلك، فاضربوا به أيديكم، وامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ؛ إن الله من شأنه العفو العظيم والمغفرة.
وتفيد الآية ما يأتي :
١- يسر الإسلام وسماحته، وتيسير الله على عباده قال تعالى : مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( المائدة : ٦ ).
٢- من الواجب على المسلم عندما يتهيأ للصلاة أن يتجنب كل ما يتعارض مع الخشوع ؛ لأن الصلاة مناجاة وذكرلله، قال تعالى : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي. ( طه : ١٤ ).
٣- استدلوا بهذه الآية على أن المسلم منهي عن الصلاة حال النعاس أو ما يشبهه.
٤- التيمم مباح للمسلم عند فقده الماء، أو عند وجود الماء ولكن هناك عارض يمنعه من استعماله كمرض أو نحوه
ألم تر : اي : ألم تنظر ؟
نصيبا : حظا.
السبيل : الطريق القويم.
تمهيد :
بعد أن ذكر الله سبحانه في السابق الآيات كثيرا من الأحكام الشرعية، ووعد فاعلها بجزيل الثواب، وأوعد تاركها بشديد العقاب، انتقل هنا إلى ذكر حال بعض الأمم الذين تركوا أحكام دينهم، وحرفوا كتابهم، واشتروا الضلالة بالهدى ؛ لينبه الذين خوطبوا بالأحكام المتقدمة إلى أن الله مهيمن عليهم كما هيمن على من قبلهم، فإذا هم قصروا ؛ أخذهم بالعقاب الذي رتبه على ترك أحكام دينه في الدنيا و الآخرة، والمؤمنون بالله حقا بعد أن سمعوا الوعد والوعيد المتقدمين لا بد أن يأخذوا بهذه الأحكام على الوجه الموصل إلى إصلاح الأنفس، وذلك هو الأثر المطلوب منها، ولن يكون إلا إذا أخذت بصورها ومعا نيها، لا بأخذها بصورها الظاهرة حسب.
وقد اكتفى بعض الأمم من الذين ببعض رسومه الظاهرة فقط كبعض اليهود الذين كانوا يكتفون ببعض القرابين و أحكام الدين الظاهرة، وهذا لا يكفى في إتباع الدين و القيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراده الله.
فأرشدنا سبحنه إلى أن عمل الرسوم الظاهرة في الدين كالغسل، والتيمم لا يغنى عنهم شيئا إذا لم يطهروا القلوب ؛ حتى ينالوا مرضاته ويكونوا أهلا لكرامته، ولا يكون حالهم كحال بعض من سبقهم من الأمم.
٤٤_ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيل.
ألم ينته إلى علمك حال هؤلاء الأحبار من اليهود الذين أعطوا حضا ومقدار من علم التوراة ؟ !
إن كنت لم تعلم أحوالهم أو لم تنظر إليهم فهناك خبرهم وتلك هي حقيقتهم، إنهم يشترون الضلالة وهي البقاء على اليهودية، بعد وضوح الآيات لهم الدالة على صحة دين الإسلام، وهم لا يكتفون بتلبسهم بالضلال الذي أشربته نفوسهم، بل يريدون منكم يا معشر المسلمين أن تتركوا دين الإسلام الذي هو السبيل الحق، وأن تتبعوهم في ضلالهم وكفرهم
بعد أن ذكر الله سبحانه في السابق الآيات كثيرا من الأحكام الشرعية، ووعد فاعلها بجزيل الثواب، وأوعد تاركها بشديد العقاب، انتقل هنا إلى ذكر حال بعض الأمم الذين تركوا أحكام دينهم، وحرفوا كتابهم، واشتروا الضلالة بالهدى ؛ لينبه الذين خوطبوا بالأحكام المتقدمة إلى أن الله مهيمن عليهم كما هيمن على من قبلهم، فإذا هم قصروا ؛ أخذهم بالعقاب الذي رتبه على ترك أحكام دينه في الدنيا و الآخرة، والمؤمنون بالله حقا بعد أن سمعوا الوعد والوعيد المتقدمين لا بد أن يأخذوا بهذه الأحكام على الوجه الموصل إلى إصلاح الأنفس، وذلك هو الأثر المطلوب منها، ولن يكون إلا إذا أخذت بصورها ومعا نيها، لا بأخذها بصورها الظاهرة حسب.
وقد اكتفى بعض الأمم من الذين ببعض رسومه الظاهرة فقط كبعض اليهود الذين كانوا يكتفون ببعض القرابين و أحكام الدين الظاهرة، وهذا لا يكفى في إتباع الدين و القيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراده الله.
فأرشدنا سبحنه إلى أن عمل الرسوم الظاهرة في الدين كالغسل، والتيمم لا يغنى عنهم شيئا إذا لم يطهروا القلوب ؛ حتى ينالوا مرضاته ويكونوا أهلا لكرامته، ولا يكون حالهم كحال بعض من سبقهم من الأمم.
َ المفردات :
وليا : أي : يتولى شؤنكم.
نصيرا : معينا يدفع شرهم عنكم.
التفسير :
٤٥_وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا
الله أعلم بأعدائكم أيها المؤمنون، وقد أخبركم بأحوالهم وبما يبيتون لكم من شرور ؛ فاحذروهم، ولا تلتفوا إلى أقوالهم، وأعدوا العدة لتأديبهم ؛ دفاعا عن دينكم وعقيدتكم، وكفى بالله وليا يتولى أموركم ويصلح بالكم وكفى بالله نصيرا يدفع عنكم مكرهم، وشرهم فلا تطلبوا ولاية غير ولايته وتكفيكم نصرته ؛ فلا تستعينوا بسواه. وعليكم بإتباع السنن التي وضعها الله في هذه الحياة، و منها عدم الاستعانة بالأعداء الذين لا يعملون إلا لمصلحتهم الخاصة.
بعد أن ذكر الله سبحانه في السابق الآيات كثيرا من الأحكام الشرعية، ووعد فاعلها بجزيل الثواب، وأوعد تاركها بشديد العقاب، انتقل هنا إلى ذكر حال بعض الأمم الذين تركوا أحكام دينهم، وحرفوا كتابهم، واشتروا الضلالة بالهدى ؛ لينبه الذين خوطبوا بالأحكام المتقدمة إلى أن الله مهيمن عليهم كما هيمن على من قبلهم، فإذا هم قصروا ؛ أخذهم بالعقاب الذي رتبه على ترك أحكام دينه في الدنيا و الآخرة، والمؤمنون بالله حقا بعد أن سمعوا الوعد والوعيد المتقدمين لا بد أن يأخذوا بهذه الأحكام على الوجه الموصل إلى إصلاح الأنفس، وذلك هو الأثر المطلوب منها، ولن يكون إلا إذا أخذت بصورها ومعا نيها، لا بأخذها بصورها الظاهرة حسب.
وقد اكتفى بعض الأمم من الذين ببعض رسومه الظاهرة فقط كبعض اليهود الذين كانوا يكتفون ببعض القرابين و أحكام الدين الظاهرة، وهذا لا يكفى في إتباع الدين و القيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراده الله.
فأرشدنا سبحنه إلى أن عمل الرسوم الظاهرة في الدين كالغسل، والتيمم لا يغنى عنهم شيئا إذا لم يطهروا القلوب ؛ حتى ينالوا مرضاته ويكونوا أهلا لكرامته، ولا يكون حالهم كحال بعض من سبقهم من الأمم.
المفردات :
من الذين هادوا : هم اليهود.
غير مسمع : يحتمل أن يكون المعنى غير مسمع : مكروها، و أن يكون غير مقبول منك ولا مجاب إلى ما تدعو إليه.
وراعنا : إما بمعنى : ارقبنا وانظرنا ؛ نكلمك، و إما بمعنى : كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها، وهي :( راعينا )
ليا بألسنتهم أي : فتلا بها و تحريفا.
طعنا في الدين : قدحا فيه.
أقوم : أعدل وأسد.
إلا قليلا : أي : إلا قليلا من الإيمان لا يعبأ به.
التفسير :
٤٦_ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ.
من اليهود فريق يميلون الكلام عن معناه، ويفسرونه بغير مراد الله تعالى كذبا منهم وفتراء وتضليلا وإنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : سمعنا وعصينا. أي : سمعنا قولك، وعصينا أمرك وروى عن مجاهد أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم :( سمعنا قولك و لكن لا نطيعك ). وكذالك كانوا يقولون له : اسمع غير مسمع.
أي : اسمع كلامنا لا أسمعك الله، في الموضع الذي يقول فيه المتأدبون للمخاطبين : اسمع غير مسمع.
أي : لا سمعت مكروها. فاللفظ يسوقونه ومرادهم منه الدعاء عليه ويوهمون أن مرادهم الدعاء له.
ويقولون : راعنا. وهي كلمت تحتمل الخير على معنى :( انظرنا وتهمل علينا نكلمك ) وتحتمل الشر على معنى :( راعينا ) أي : اشملنا بالرعونة والحمق، أو جعله راعيا من رعاة الغنم.
ومن تحريفهم قولهم :( السام عليكم ) أي : الموت عليكم، ليا بألسنتهم وطعنا في الدين. أي : صرفا للكلام عن ظاهره إلى إدارة الشتم والسب، وقدحا في الدين بالاستهزاء والسخرية.
وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ. أي : لو أنهم استقاموا وقالوا : سمعنا و أطعنا. بدل قولهم : سمعنا وعصينا وقالوا : اسمع دون أن يقولوا : غير مسمع، وقالوا : انظرنا بدل راعنا لكان خيرا لهم ما قالوه، وأعدل منه سبيلا ولكن الله طردهم من رحمته ؛ بإعراضهم فلا تجد منهم من يستجيبون لداعى الإيمان إلا عددا قليلا.
الكتاب : التوراة.
الطمس : إزالة الأثر بمحوه أو إخفائه كما تطمس آثار الدار وأعلام الطرق إما بأن تنقل حجارتها، وإما بأن تسفوها الرياح، ومنه الطمس على الأموال في قوله : ربنا أطمس على أموالهم. ( يونس : ٨٨ ) اي : ازلها و اهلكها، و الطمس على الاعين في قوله : ولو نشاء لطمسنا على اعينهم. ( يس : ٦٦ ) إما إزالة نورها، وإما محو حدقتها.
الوجه : تارة يراد به الوجه المعروف وتارة وجه النفس وهو ما تتوجه إليه من المقاصد كما قال تعالى : أسلمت وجهي لله. ( آل العمران : ٢٠ )، وقال : ومن يسلم وجهه إلى الله ( لقمان : ٢٢ )، وقال : فأقم وجهك للذين حنيفا. ( الروم ٣٠ ).
الأدبار : واحدها : دبر، وهو الخلف والقفا.
الإرتداد : هو الرجوع إلى الوراء، إما في الحسيات وإما في المعاني، ومن الأول : الارتداد والفرار في القتال ومن الثاني : قوله : إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ. ( محمد : ٢٥ ).
نلعنهم : نهلكهم. كما لعنا أصحاب السبت، أي : كما أهلكنا أصحاب السبت، وقيل : مسخهم الله وجعلهم قردة وخنازير كما أخرجه ابن جرير عن الحسن.
تمهيد :
بعد أن نعى أهل الكتاب في الآية السالفة اشتراءهم الظلالة بالهدى بتحريفهم بعض الكتاب وإضاعة بعضه الآخر، ألزمهم هنا بالعمل بما عرفوا وحفظوا بأن يأمنوا بالقرآن ؛ ذلك أن إيمانهم بالتوراة يستدعى الإيمان بما يصقدها وحذرهم من مخالفة ذلك، وتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور.
التفسير
٤٧ _ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم. أي : يأيها اليهود و النصارى آمنوا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معكم، من تقرير التوحيد و الأبتعاد عن الشرك وما يقوى ذلك الإيمان من ترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتلك هي أصول الدين وأركانه والمقصد الأسمى من إرسال جميع الرسل، ولا خلاف بينهم في ذلك، وإنما الخلاف في التفاصيل، وطرق حمل الناس عليها وهدايتهم بها، وترقيتهم في معارج الفلاح بحسب السنن التي وضعها الله في ارتقاء البشر، بتعاقب الأجيال، واختلاف الأزمان.
من قبل أن طمس وجوها فنردها على أدبارها. أي : آمنوا قبل أن يحل بكم العقاب من طمس الوجوه، والرد على الأدبار : أي : من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم بها من كيد الإسلام، ونردها خاسرة إلى الوراء بإظهار الإسلام ونصره عليكم، وقد كان لهم عند نزول الآية شيء من المكانة و القوة و العلم و المعرفة.
و جعل بعضكم الرد على الأدبار حسيا فقال : نردهم على أدبارهم بالجلاء إلى فلسطين و الشام، وهي التي جاءوا منها.
وخلاصة المعنى : آمنوا قبل أن نعمى عليكم السبيل بما نبصر المؤمنين بشؤونكم ونغريهم بكم، فتردوا على أدباركم بأن سعيكم إلى غير الخير لكم.
أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت. أي : آمنوا قبل أن تقعوا في الخيبة و الخذلان وذهاب العزة، باستيلاء المؤمنين عليكم وإجلائكم عن دياركم كما حدث لطائفة منكم، أو بالهلاك كما وقع بقتل طائفة أخرى وهلاكها.
ثم هددهم وتوعدهم فقال :
وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً. المراد من الأمر : الأمر التكويني المعبر عنه بقوله عز من قائل : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. ( يس : ٨٢ )، إنما أمره بإيقاع شيء ما نافذ لا محالة، و من هذا ما أوعدتم به قال ابن عباس : يريد لا راد لحكمه و لا ناقض لأمره، فلا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله، كما تقول في الشيء الذي لا شك في حصوله : هذا الأمر مفعول و إن لم يفعل بعد.
و الخلاصة إنه يقول لهم : أنتم تعلمون أن وعيد الله للأمم السالفة قد وقع ولا محالة ؛ فاحترسوا وكونوا على حذر من وعيده لكم.
يقال : افترى فلان الكذب ؛ إذا اعتمله واختلقه، وأصله من الفرى، بمعنى : القطع،
تمهيد :
بعد أن هدد سبحانه اليهود على الكفر، وتوعدهم عليه بأشد الوعيد كطمس الوجوه و الرد على الأدبار، ثم بين أن ذلك الوعيد واقع لا محاله بقوله : وكان أمرا الله مفعولا.
ذكر هنا أن هذا الوعيد وشديد التهديد إنما هو لجريمة الكفر، فأما سائر الذنوب سواه فالله قد يغفرها ويتجوز عن زلاتها.
أخرج ابن المنذر عن أبى مجلز قال : لما نزل قوله تعالى : قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم. ( الزمر : ٥٣ ) قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنذر فتلاها على الناس، فقام إليه رجل فقال : والشرك بالله، فسكت، ثم قام إليه فقال : يا رسول الله والشرك بالله تعالى فكست مرتين أو ثلاثا فنزلة هذه الآية.
٤٨ _ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء.
بعد أن عدد مثالب اليهود، بين أنهم إذا دخلوا في الإسلام واتبعوا طريق الإيمان، غفر الله لهم كما يغفر سبحانه لكل مؤمن.
والمعنى : إن الله لا يغفر لكافر مات على كفره، ويغفر ما دون الكفر من الذنوب والمعاصي لمن يشاء أن يغفر له إذا مات من غيرة توبة، فمن مات من المسلمين بدون توبه من الذنوب التي اقترفها فأمره مفوض إلى الله إن شاء عفا عنه و أدخله الجنة، وإن شاء عذبه وأدخله الجنة.
ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما. أي : ومن يجعل لغير الله شركة مع الله قيوم السموات و الأرض - سواء أكانت الشركة بالإيجاد أم بالتحليل و التحريم _ فقد اخترع ذنبا عظيم الضرر تستصغر في جنب عظمته جميع الذنوب و الآثام فهو جديد بألا يغفر، وما دونه قد يمحى بالغفران.
بعد أن هدد سبحانه اليهود على الكفر، وتوعدهم عليه بأشد الوعيد كطمس الوجوه و الرد على الأدبار، ثم بين أن ذلك الوعيد واقع لا محاله بقوله : وكان أمرا الله مفعولا.
ذكر هنا أن هذا الوعيد وشديد التهديد إنما هو لجريمة الكفر، فأما سائر الذنوب سواه فالله قد يغفرها ويتجوز عن زلاتها.
أخرج ابن المنذر عن أبى مجلز قال : لما نزل قوله تعالى : قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم. ( الزمر : ٥٣ ) قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنذر فتلاها على الناس، فقام إليه رجل فقال : والشرك بالله، فسكت، ثم قام إليه فقال : يا رسول الله والشرك بالله تعالى فكست مرتين أو ثلاثا فنزلة هذه الآية.
وتزكية النفس : مدحها، قال تعالى : فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى. ( محمد : ٣٢ ) والظلم : النقص، والفتيل : ما يكون في شق نواة التمر مثل : الخيط، وبه يضرب المثل في الشيء الحقيركما يضرب بمثقال الذرة،
٣٩_ألم ترإِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً.
ألم ينته علمك يا محمد إلى هؤلاء الذين يثنون على أنفسهم ويمدحونها بما ليس فيهم مدعين أنهم على الحق، و الله وحده هو الذي يعلم الخبيث من الطيب فيزكى من يشاء، ولا يظلم أي إنسان قدره مهما كان ضئيلا.
رورى ابن جرير عن الحسن أن الآية نزلت في اليهود و النصارى حيث قالوا : نحن أبناء الله و أحباؤه.
جاء في تفسير المراغي... وفي الاية موضعان من العبرة :
١ _أن الله يجزي عامل الخير بعمله ولو مشركا ؛ لأن لعمله أثرا في نفسه يكون مناط الجزاء. فيخفف عذابه عن عذاب غيره كما ورد في الحديث : إن بعض المشركين، يخفف عنهم العذاب بعمل لهم، فحاتم الطائى بكرمه، و أبو طالب بكفالته النبي صلى الله عليه وسلم ونصره إياه، وأبو لهب لعتقه جاريته ثوبية حين بشرته بمولد النبي صلى الله عليه وسلم.
٢ _ أن يحذر المسلمين الغرور بدينهم كما كان أهل الكتاب في عصر التنزيل وما قبله، وأن يبتعدوا عن تزكية أنفسهم بالقول واحتقار من عداهم من المشركين، و أن يعلموا أن الله لا يحابى في نظم الخليفة أحدا لا مسلم و لا يهوديا و لا نصرانيا ١.
.
بعد أن هدد سبحانه اليهود على الكفر، وتوعدهم عليه بأشد الوعيد كطمس الوجوه و الرد على الأدبار، ثم بين أن ذلك الوعيد واقع لا محاله بقوله : وكان أمرا الله مفعولا.
ذكر هنا أن هذا الوعيد وشديد التهديد إنما هو لجريمة الكفر، فأما سائر الذنوب سواه فالله قد يغفرها ويتجوز عن زلاتها.
أخرج ابن المنذر عن أبى مجلز قال : لما نزل قوله تعالى : قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم. ( الزمر : ٥٣ ) قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنذر فتلاها على الناس، فقام إليه رجل فقال : والشرك بالله، فسكت، ثم قام إليه فقال : يا رسول الله والشرك بالله تعالى فكست مرتين أو ثلاثا فنزلة هذه الآية.
قال الراغب : الاثم و الآثام : اسم للأفعال المبطئة عن الثواب : أي : من الخيرات التي يثاب المرء عليها وقد يطلق الإثم على ما كان ضارا.
٥٠ _ انظر كيف يفترون على الله الكذب و كفى به إثما مبينا.
أي : انظر كيف يكذبون على الله بتزكية أنفسهم وزعمهم أن الله يعاملهم خاصة بهم، لا كما يعامل سائر عباده وكفى بالكذب على الله ذنبا واضحا يكشف عن خبيث طويتهم.
المفردات :
بالجبت : الجبت : كل ما عبد من دون الله، ويطلق أيضا على الكاهن، و الساحر، والسحر.
الطاغوت : الطاغوت في الأصل، كثير الطغيان، وطلق على كل رأس في الضلال يصرف عن طريق الخير، ويغرى بالشر.
التفسير :
٥١ _ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ... الآية.
روى ابن جرير حاتم، عن عكرمة : أن حيى بن أخطب، وكعب بن الأرشيف اليهودين، خرجا إلى مكة في جماعة من اليهود ؛ ليحالفوا قريشا على محاربة رسول الله صلى الله عليه و سلم، وينقضوا العهد الذي كان بينهم و بينه ؛ فقال لهم كفار قريش : أنتم أهل كتاب، و أنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا، فلا نأمن مكرمكم ؛ فاسجدوا لآلهتنا، حتى نطمئن إليكم.. ففعلوا.
فهذا إيمانهم بالجبب والطاغوت ؛ لأنهم سجدوا للأصنام، و أطاعوا إبليس فيما فعلوا و قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب، وتعلم، ونحن أميون لا نعلم. فأينا أهدى سبيلا : نحن أم محمد ؟ فقال : ماذا يقول محمد ؟ قال : يأمر بعبادة الله وحده، وينهى عن الشرك. قال : وما دينكم ؟ قالوا : نحن ولاة البيت : نسقي الحاج، و نقرى الضيف ونفك العانى. وذكروا أفعالهم. فقال : أنتم أهدى سبيلا ؛ فنزلت.
وروى _من غير وجه _نحو ذلك.
وهذه الآية : تعجيب من حال أخرى من أحوال أهل الكتاب، وتوبيخ لهم على ارتكابهم جريمة من أشنع الجرائم، وهي سجودهم للأصنام، وشهادتهم بأن عبدة الطاغوت أحسن دينا من أهل الإسلام. على الرغم من أنهم أهل كتاب. وأعر من غيرهم بالدين الصحيح.
و المعنى : ألم ينته علمك يا محمد _ أو كل من يستحق أن خاطب _ إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، ورزقوا حظا منه، و إلى حالتهم العجيبة الداعية إلى الدهشة و العجب، و هي أنهم _ مع كونهم أهل كتاب _ يؤمنون بالأصنام و يطيعون الشيطان، و يقولون في شأن الذين آمنوا للذين كفروا _ من أجل مخالفتهم _ هؤلاء الكفار الجاهليون : أهدى سبيلا، و أقوم طريقا من الذين آمنوا بمحمد ؟ !
فبين بذلك مناط التعجيب من حالهم.
يا للعجب من قوم : أهل كتاب، و إتباع رسل، يقولون عن المؤمنين بمحمد : إن الكفار _ من مشركي مكة _ أهدى منهم سبيلا ! وإنما وصفهم الله بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، ولم يصفهم بأنهم أوتوا الكتاب ؛ لأن حالهم تتنافى مع الكتاب كله حيث يؤمنون ببعضه، و يكفرون ببعضه.
بعد أن ذكر الله أحوالهم المثيرة للدهشة و العجب، عقب ذلك بتقريعهم، وبيان العقاب المستحق لهم، فقال : أولئك الذين لعنهم الله... الآية
و المعنى أولئك الموصوفون بالصفات السابقة، المرتكبون لهذه الجرائم البشعة، هم الذين حكم الله عليهم بالطرد من رحمة ؛ بسبب كفرهم وعصيانهم ومن يلعنه الله ويبعده من رحمته ؛ فلن تجد له نصيرا ينصره من عذاب الله الذي ينزل به.
نقيرا : النقير في الأصل : هو النقرة التي تكون في ظهر النواة. ويضرب به المثل في القلة و الضالة، فالمراد به : أقل القليل.
٥٣_ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا. أي : ليس لهم من الملك، حتى يكون لهم الحق في الإعطاء و المنع، و الحكم بالهداية و غيرها ؛ فقد زال ملكم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، بمئات السنين و لو بقى لهم من الأمر شيء، لما أعطوا أحدا أقل قليل من الخير.
يحسدون الناس : الحسد : تمنى زوال نعمة الغير.
الحكمة : العلم النافع، أو النبوة.
التفسير :
ثم بين الله تعالى سر هذا العناد و التمادي في الضلال، فذكر أنه يرجع إلى حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم و أمته، و سيطرة الحقد على نفوسهم، فوبخهم على ذلك بقوله :
٥٤ _ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ. أي : أنهم ليس لهم دليل يستندون إليه، وسبب يتمسكون به في تكذيبهم. بل هم يحسدون الناس، وهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، على ما آتاهم الله من فضله، و أنعم به عليهم حيث : أعطاهم النبوة، و الكتاب، و الحكمة.
ولا غرابة في هذا، ففضل الله واسع، وقد آتى الله آل إبراهيم _أي : إبراهيم و من معه- الكتاب، والحكمة، والنبوة، وآتاهم الله مع ذلك ملكا عظيما واسعا.
ومن ذلك ما أعطاه الله تعالى يوسف عليه السلام، من السلطان في مصر.
وما أعطاه الله تعالى داود وسليمان عليهما السلام، من النبوة و الملك العظم فلا غرابة- بعد هذا- أن يؤتي الله محمد صلى الله عليه وسلم- وهو من أولاد إبراهيم- مثلما أعطى إخوانه الأنبياء.
صدعنه : انصرف عنه، وأعرض.
سعيرا : نارا مسعرة يعذبون فيها.
التفسير :
٥٥- فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا.
في هذه الآية بيان لموقف أهل الكتاب من شريعة إبراهيم عليه السلام، والتصديق برسالته. أي : فمن أهل الكتاب، من آمن بإبراهيم وما أنزل عليه، ومنهم من كفر به وصد عنه. وقد أعطى الله الكفار الجزاء المناسب لهم، وهو أنهم يصلون سعيرا : أي : يقاسون نارا مسعرة ملتهبة، وكفى بجهنم سعيرا. ولا حاجة بعدها إلى ما هو أشد منها، إذ ليس هناك ما هو أقوى منها حرارة وأكثر اضطراما وأشد تعذيبا.
المفردات :
نصليهم نارا : نذيقهم حرها، ونشويهم بها.
نضجت جلودهم : احترقت وذابت.
التفسير :
٥٦- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا... الآية. بعد أن عدد الله جرائم أهل الكتاب، وأحوالهم المقتضية للتعجيب، وعددهم عليها بالسعير، اتبع ذلك بيان جزاء الكفار على وجه العموم : الشاملين لأهل الكتاب، وغيرهم فقال : إن الذين كفروا بآياتنا... والمعنى : إن الذين جحدوا آياتنا الدالة على ألوهيتنا، والمنزلة على أنبيائنا- عليهم الصلاة والسلام- وفي مقدمتها القرآن الكريم : الذي هو آخر الكتب وأوفاها، وأوضحها دلالة.
سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا. أي : سوف ندخلهم نارا هائلة يوم القيامة.
كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ. أي : كلما احترقت جلودهم، وتعطلت عن الإحساس بالألم.
بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا. أي : جلودا جديدة أخرى ؛ ليستمر عذابهم، ويدوم لهم بها، وذوقهم لها ؛ لأنهم كانوا مصرين على الكفر إلى ما لا يتناهى.
فحكم الله تعالى عليهم بالعذاب الشديد الذي لا يتناهى : جزاءا وفاقا. ( النبأ : ٢٦ ).
وأكد الله هذا الوعيد بقوله : إن الله كان عزيزا حكيما. أي : هو- في ذاته- قوي : لا يعجزه شيء، ولا يستعصي عليه أمر، حكيم في أفعاله ومن حكمته : تعذيب العاصي على قدر ذنبه.
ظلا ظليلا : ظلا ورافا مستديما : لا يصاحبه حر ولا برد.
٥٧- وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ.
بعد ان ذكر الله عذاب الكفار، أتبعه بيان ثواب المؤمنين، جريا على عادة القرآن الكريم، في إتباع الترهيب بالترغيب ؛ وقرن الوعد بالوعيد، إظهارا للفرق بين الحالين، وتقريرا للعدل بين الفريقين. فقال :
والذين آمنوا بالله ورسله إيمانا صحيحا.
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أي : عملوا الأعمال النافعة لهم. وللناس جميعا، في الدنيا والآخرة.
سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَار. ُأي : سندخلهم يوم القيامة جنات عالية تجري من تحت أشجارها وقصورها، وتفيض الخيرات في كل أنحائها. لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ. ( الحجر : ٤٨ ).
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا. فلا يعتريهم خوف من زواله.
لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ. أي : ويتنعمون فيها بزوجات طاهرات من الأدناس الحسية والمعنوية.
وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً. أي : وسيدخلهم الله- الكريم القادر- ظلا ظليلا، لا يعتريه ضيق الحر، ولا مس البرد. ولهم فيها الثواب العظيم، والنعيم المقيم.
وشتان بين هذا وبين ما يقاسه الكفار. مما بينته الآية السابقة.
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ، وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُور. ُ ( فاطر : ١٩-٢١ ).
أن تؤدوا الأمانات : جمع أمانة، وهي ما يؤتمن عليه الإنسان : لله أو للناس وأداؤها : ردها وحملها إلى أصحابها.
التفسير :
٥٨- إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا... الآية.
الخطاب في هذه الآية عام لجميع المكلفين كما أن الأمانات تعم جميع الحقوق المتعلقة بالذمم سواء كانت حقوق الله أو العباد.
والمعنى : إن الله تعالى يأمركم أيها المؤمنون أن تؤدوا ما ائتمنتم عليه من الحقوق سواء أكانت هذه الحقوق لله تعالى أم للعباد وسواء أكانت فعلية أم قولية أم اعتقادية.
ومعنى أدائها إلى أهلها : توصيلها إلى أصحابها كما هي من غير بخس أو تطفيف أو تحريف أو غير ذلك مما يتنافى مع أدائها بالطريقة التي ترضي الله تعالى.
وقد ذكر المفسرون أن الأمانة على أنواع :
١- أمانة العبد مع ربه، وتشمل قيامه بحقوق الله عز وجل على عباده من الصلاة، والزكاة، والصيام، والكفارات، والنذور.
٢- أمانة الهبد مع الناس، ومن ذلك : رد الودائع إلى أربابها، وعدم الغش، وحفظ السر.
ويدخل في ذلك عدل الأمراء مع الرعية ؛ لأن الحكم أمانة ( فيجب على الولاة تأدية ما لديهم من الأمانات ورد الظلامات وتحري العدل في أحكامهم ) ١.
٣- أمانة الإنسان مع نفسه بأن يختار لنفسه ما هو الأصلح والأنفع له في الدين والدنيا.
وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ. أي : كما أمركم الله تعالى أيها المؤمنون بأداء الأمانات إلى أهلها فإنه يأمركم- أيضا- إذا حكمتم بين الناس أن تجعلوا حكمكم قائما على الحق والعدل ؛ فإن الله تعالى ما أقام ملكه إلا عليهما، ولأن الأحكام إذا صاحبها الجور والظلم أدت إلى شقاء الأفراد والجماعات.
قال تعالى : إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ( النحل : ٩٠ ).
وقال تعالى : يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ. ( ص : ٢٦ ).
إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ. أي : نعم الشيء الذي يعظكم الله به أداء الأمانات، و الحكم بالعدل بين الناس ؛ إذ لا يعظكم إلا بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم في الدارين وأن الله دائما سميع لما يقال، بصير بما يفعل، فيعلم من أدى الأمانة ومن خان، ومن حكم بالعدل أو جار ؛ فيجازي كلا بعمله.
.
وأولي الأمر منكم : أصحاب الحل والعقد. من الرؤساء والعلماء.
تنازعتم : اختلفتم.
فردوه إلى الله والرسول. أي : ارجعوا في معرفته إلى كتاب الله، وسنة رسوله.
تأويلا : مآلا ومرجعا وعاقبة، أو أحسن تأويلا من تأويلكم.
التفسير :
٥٩- يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْر منكمِ...
أي : أطيعوا الله واعملوا بكتابه، وأطيعوا الرسول ؛ لأنه موضح للكتاب ومبين له وهو القدوة العملية قال تعالى : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. ( الأحزاب : ٢١ ).
وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ. من الولاة والرؤساء والعلماء وغيرهم.
جاء في تفسير المراغي :
وهذه الآية مبينة لأصول الدين في الحكومة الإسلامية وهي :
١- الأصل الأول : القرآن الكريم والعمل به ؛ طاعة الله تعالى.
٢- الأصل الثاني : سنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل به ؛ طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
٣- الأصل الثالث : إجماع أولي الأمر وهم أهل الحل والعقد الذين تثق بهم الأمة من العلماء والرؤساء في الجيش والمصالح العامة كالتجار، والصناع، والزراع، ورؤساء العمال، ومديري الصحف، ورؤساء تحريرها، ورجال الأحزاب ممن تثق بهم الأمة.
٤- الأصل الرابع : عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد و الاحكام العامة في الكتاب والسنة، وهذه سبيلها الاجتهاد والرد إلى الله والرسول وذلك هو القياس.
فهذه الأربعة الأصول هي مصادر الشريعة، ولا بد من وجود جماعة يقومون بعرض المسائل المتنازع فيها على الكتاب والسنة والاجتهاد وتحري الصواب والحكم بما يرونه موافقا لروح الكتاب والسنة.
ويجب على الحكام الحكم بما يقرونه.
وبذلك تكون الدولة الإسلامية مؤلفة من جماعتين :
الأولى : الجماعة المبينة للأحكام الذين يسمون الآن :( الهيئة التشريعية ).
الثانية : جماعة الحاكمين والمنفذين وهو الذين يسمون :( الهيئة التنفيذية ).
فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُول. ِ أي : إن اختلفتم في شيء لم يرد فيه نص صريح في كتاب الله ولا في سنة رسوله ؛ فأرجعوه إلى هذين الأصلين وليكن حكمكم فيه بالقياس على ما يشبهه من الأمور وبذلك فتح القرآن للمسلمين باب الفهم والبحث والاجتهاد.
وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا حين أرسله قاضيا : ما تصنع إن عرض لك قضاء ؟
قال للرسول : أقضي بكتاب الله.
قال الرسول : فإن لم تجد ؟
قال معاذ : أقضي بسنة رسول الله.
قال الرسول : فإن لم تجد ؟
قال معاذ : أجتهد رأيي ولا آلو.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضى الله ورسوله ١.
إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ. أي : ردوا الشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة. ذلك خيرا وأحسن تأويلا. أي : الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله خير لكم وأصلح وأحسن عاقبة ومآلا.
رواه أبو داود في الأقضية (٣٥٩٢) والترمذي في الأحكام (١٣٧٢) والدرامي في المقدمة (١٦٨) وأحمد في مسنده (٢١٥٩٥، ٢١٥٥٦، ٢١٥٠٢) عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله، قال: أجتهد رأيي ولا ألو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله. قال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل. وقال الزيلعي في نصب الراية: وأخرجاه أيضا عن أناس من أصحاب معاذ: أن رسول الله، مرسلا، قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بمتصل، انتهى. وقال البخاري في "تاريخه الكبير" الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي عن أصحاب معاذ، عن معاذ، روى عنه أبو عون، ولا يصح، ولا يعرف إلا بهذا، مرسل، انتهى. وفيه كتاب، ورواه النسائي في آداب القضاء (٥٣٩٩) والدرامي في المقدمة (١٦٧) عن شريح أنه كتب إلى عمر يسأله فكتب إليه أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى به الصالحون فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقض به الصالحون فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولا أرى التأخير إلا خيرا لك والسلام عليكم.
.
الطاغوت : الطاغوت في الأصل : كثير الطغيان، ويطلق على كل رأس في الضلال، يصرف عن الخير، ويغري بالشر.
التفسير :
٦٠- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ...
روى عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه تخاصم يهودي ومنافق، ودعا اليهودي المنافق إلى التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودعاه المنافق إلى التحاكم إلى كعب بن الأشرف... فنزلت الآية.
والمعنى : ألم ينته علمك يا محمد، إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بالقرآن وبالكتب التي أنزلت على من قبلك من الرسل ؟ !
إن من شأن هؤلاء لعجيب ؛ لأنهم- مع زعمهم الإيمان بذلك- يريدون أن يتخذوا من كاهن اليهود- رأس الضلال- حاكما في قضاياهم. وقد أمرهم الله أن يكفروا بمن يدعوهم إلى الشر ويبعدهم عن الخير ويريد الشيطان أن يوقعهم في ضلال بعيد، لا خلاص لهم منه بإتباعهم دعاة الشر.
يصدون : يعرضون.
٦١- وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا. أي : ومن عجيب أمر هؤلاء المنافقين : أنهم إذا دعوا إلى التحاكم إلى كتاب الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، أصروا على الكفر، وأعرضوا عما تدعوهم إليه إعراضا شديدا.
أي : فيا عجبا... كيف يكون حال هؤلاء المنافقين- وقت نزول المصائب بهم –بسبب ذنوبهم ! ثم جاءوك ملنجئين إليك في ذلك، يعتذرون عن قبائح أعمالهم، ويحلفون بالله ما أردنا بذهابنا إلى غيرك وتحاكمنا إلى من عداك إلا الإحسان والتوفيق. أي : المداراة والمصانعة. لا اعتقاد منا صحة تلك الحكومة. كما أخبر الله عنها بقوله : فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ. ( المائدة : ٥٢ ).
وعظهم : خوفهم.
وقل لهم في أنفسهم : أي : واعظا لهم- بينك وبينهم- ليكون أدعى للقبول، أو في شأن أنفسهم : كاشفا عن خبثها.
قولا بليغا : مؤثرا واصلا إلى حقيقة المراد.
التفسير :
٦٣- أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا.
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ. أي : أولئك هم المنافقون الموغلون في الكفر والنفاق، الذين لا يخفى على الله أمرهم، ويعلم ما انطوت عليه صدورهم من الشر والفساد، وسيجزيهم على ذلك.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ. أي : أعرض عن قبول معذرتهم وازجرهم عما في قلوبهم من الكيد والنفاق.
وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا. أي انصحهم- فيما بينك وبينهم بعيدا عن الناس- ليكون ذلك أدعى إلى قبولهم- بكلام بليغ رادع لهم. أو قل لهم. في شأن أنفسهم وما انطوت عليه من الخبث القبائح : قولا مؤثرا يردهم عن غيهم، ويعود بهم إلى رشدهم.
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ.
في هذا بيان لما كان يجب عليهم أن يفعلوه حين ظلموا أنفسهم. أي : ولو أنهم حين ظلموا أنفسهم- بترك طاعة الله تعالى- بادروا بالمجيء إليك معتذرين عن جرائمهم، مبالغين في التضرع إلى الله، والتوبة إليه من ذنوبهم، حتى تقوم شفيعا لهم إلى ربك، طالبا منه المغفرة لهم.
لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا. أي : لو أنهم فعلوا ذلك ؛ لوجدوا أبواب التوبة مفتحة لهم، ورحمته تعالى محيطة بهم.
وفي هذه الآية، إرشاد لسائر العصاة والمذنبين، إذا وقع منهم ذنب أو خطيئة أن يبادروا بالتوبة والندم ؛ كي يفوزوا بغفران الله لهم.
فلا وربك : اللام لتأكيد القسم.
شجر بينهم : اختلط عليهم من الأمور.
حرجا : ضيقا.
٦٥- فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ... الآية
روى البخاري بمسنده، قال : خاصم الزبير رجلا في شرج ١ من الحرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :''اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك'' فقال الأنصاري : يا رسول الله، لأن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال :'' اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك ٢.
فاستوفى النبي صلى الله عليه وسلم، للزبير حقه كاملا في الحكم، حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما صلى الله عليه وسلم بأمر لهما فيه سعة... قال الزبير : فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك.
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ... الآية
لقد أقسم الله- سبحانه- بذاته وهو الذي تولى تربيتك أيها الرسول، وأنعم عليك بنعمة النبوة، وأدبك بأدب القرآن، أقسم : أن هؤلاء الذين أعرضوا عن التحاكم اليك فيما اختلط عليهم، لا يدخلون في عداد المؤمنين الصادقين ؛ حتى تتحقق فيهم صفات ثلاث :
أولاها : أن يهرعوا إليك- أيها الرسول- لتحكم بينهم فيما اختلط عليهم.
ثانيها : أن ترضى نفوسهم- وتستمر راضية دون حرج أو ضيق- بحكمك وقضائك.
ثالثها : أن يسلموا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما كاملا، ويذعنوا له إذعانا صادقا، ويقوموا على تنفيذه بنفوس راضية.
.
٢ اسق يا زبير:
رواه البخاري في المساقاة أيضا (٢٣٦٢، ٢٣٦١) وفي الصلح (٢٧٠٨) وفي التفسير (٤٥٨٥) من حديث عروة قال خاصم الزبير رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا زبيراسق ثم أرسل فقال الأنصاري: إنه ابن عمتك، فقال عليه السلام: اسق يا زبير ثم يبلغ الماء الجدر ثم أمسك فقال الزبير: فأحسب هذه الآية نزلت في ذلك ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم﴾.
رواه البخاري في المساقاة (٢٣٦٠) ومسلم في الفضائل (٢٣٧٥) وأبو داود في الأقضية (٣٦٣٧) والترمذي في الأحكام (١٣٦٣) وفي التفسير (٣٠٢٧) والنسائي في آداب القضاة (٥٤٠٤) وابن ماجه في المقدمة(١٥) وفي الأحكام (٢٤٨٠) وأحمد في مسنده (١٥٦٨٤) عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه حدثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل... الحديث. ورواه أحمد في مسنده(١٤٢٢) من حديث الزبير ابن العوام.
.
كتبنا : قدرنا.
ما يوعظون به : ما يؤمرون به من طاعة الله.
تثبيتا : تحقيقا لإيمانكم.
التفسير :
٦٦- وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ... أي : لو فرضنا على هؤلاء المنافقين ما فرضنا على من قبلهم من المشقات، وشددنا التكليف عليهم فأمرناهم بقتل النفس، والخروج من الأوطان كما فرض ذلك على بني إسرائيل ؛ ما استجاب ولا انقاد إلا نفر قليل منهم وهم المخلصون من المؤمنين.
وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا. أي : ولو أنهم فعلوا ما أمروا به، وتركوا ما نهوا عنه، لكان ذلك خيرا لهم في مصالحهم، وأشد تثبيتا لهم في إيمانهم ؛ إذ الأعمال هي التي تطبع الأخلاق والفضائل في نفس العامل، فالصلاة والزكاة والصدقة والعفة كلها تثبت الإيمان وتنمي الشخصية.
وإذا أقاموا بحق التكليف الإلهي الذي يكون في وسعهم ؛ لأعطاهم الله على ذلك الثواب العظيم، والتوفيق والهدى الذي يوصلهم إلى جنة النعيم.
ولهديناهم إلى طريق العمل الصالح على الوجه المرضى الموصل إلى الفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين.
أنعم الله عليهم : تفضل الله عليهم بنعمه.
رفيقا : مرافقا ومؤنسا.
التفسير :
٦٩- وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ.
ومن يعمل بما أمره الله به ورسوله، ويتجنب ما نهى الله عنه ورسوله ؛ فهو مع الذين أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق في الدنيا والآخرة من أنبيائه ؛ وأتباعهم الذين صدقوهم، واتبعوا مناهجهم والشهداء في سبيل الله، والصالحين الذين صلحت سريرتهم وعلانيتهم ونعمت رفقة هؤلاء وصحبتهم وحسن رفيق أولئك الأبرار !
حذركم : الحذر والحذر بمعنى واحد وهو : التيقظ والاستعداد والمراد : احترسوا واستعدوا.
فانفروا : النفر : الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء والمراد : اخرجوا إلى الجهاد.
ثبات : جمع ثبة وهي الجماعة أي : اخرجوا جماعة تلو جماعة.
التفسير :
٧١- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ... الآية.
يا أيها الذين آمنوا، خذوا حذركم واحترسوا من عدوكم، واستعدوا دائما لملاقاته، فإن الاستعداد له قد يمنع الحرب، ويكون بتنظيم الجيوش وإعداد العدة المناسبة في كل عصر وحين، وبث العيون ( المخابرات والجواسيس ) ودراسة حاله وبلده وطرقه... الخ. مما هو معروف في الأصول الحربية، وإذا أخذتم حذركم ؛ فاخرجوا إليه جماعات إن اقتضى الحال ذلك وإلا فأعلنوا التعبئة العامة واخرجوا إليه مجتمعين وفي هذا إشارة إلى تنظيم الأمة عسكريا، وتعليم شبابها الفنون العسكرية حتى إذا دعا داعي الوطن وجدنا الكل يحمل السلاح، أما الجبهة الداخلية فلا تخلو أمة من الأمم من الجبناء الرعاديد والمنافقين الذين يثبطون الهمم، ويعوقون عن القتال، ويقعدون عنه لفرط حبهم للدنيا وانخلاع قلوبهم من الحرب ؛ لضعف إيمانهم وخور عزيمتهم فاعرفوهم وعالجوا ضعفهم
ليبطئن : ليثبطن غيره عن القتال أو ليبطئن هو أي : يتباطأ.
التفسير :
ولذا يقول القرآن :
٧٢- وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ... الآية. وإن منكم لجماعة يثبطون الهمم ويقعدون عن الحرب فإن أصابتكم مصيبة في الحرب كالهزيمة أو القتل مثلا قالوا : قد أنعم الله علينا وتفضل حيث لم نكن معكم.
يشرون : يبيعون ؛ لأن شري : من كلمات الأضداد.
التفسير :
٧٤- فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ...
كان القرآن ينزل في أعقاب غزوة أحد يأسوا جراح المؤمنين، ويبارك جهاد المجاهدين، ويبين أن الأيام دول، وأن المؤمن يمتحن ويبتلى ولكن العاقبة للمتقين.
ورد في الآيتين السابقتين ذكر القرآن طائفة من المنافقين تبطئ عن الجهاد، وتثبط المؤمنين عنه، فإذا انهزم المؤمنون ؛ فرحوا وشمتوا وإذا انتصر المؤمنون ندموا على تخلفهم عن القتال ؛ لحرمانهم من الغنائم.
وفي هذه الآيات يأمر الله المؤمنين بالقتال في سبيله، والأمر موجه إلى من باعوا الحياة الدنيا ؛ طلبا لثواب الآخرة. وجادوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل إعلاء كلمة الله ؛ وتقدير الكلام : إذا تباطأ المنافقون عن الجهاد ؛ فليسرع إليه المؤمنون الصادقون.
جاء في ضلال القرآن :
''إن المسلم لا يقاتل لمجد شخصي، ولا لمجد بيت، ولا لمجد طبقة، ولا لمجد دولة، ولا لمجد أمة، ولا لمجد جنس، إنما يقاتل في سبيل الله ؛ لإعلاء كلمة الله في الأرض، ولتمكين منهجه من تصريف الحياة'' ١.
وحين يخرج المسلم ليقاتل في سبيل الله بقصد إعلاء كلمة الله، وتمكين منهجه في الحياة، ثم يقتل ؛ يكون شهيدا فينال مقام الشهداء عند الله، فإذا انتصر على العدو كان له ثمرة النصر، وجزاؤه الغنيمة في الدنيا، و الأجر العظيم في الآخرة.
وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.
والمقاتل في سبيل الله بين غايتين : الاستشهاد في سبيل الله، أو النصر على الأعداء، ولا ذكر للهزيمة في الآية الكريمة ؛ لأن المؤمن المجاهد لا يرتد على عقبيه ولا يستسلم للهزيمة بأي حال.
جاء في تفسير القرطبي في هذه الاية ثلاث مسائل منها :
المسألة الثالثة : ظاهر الآية يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :'' تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو على ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر وغنيمة أو أجر إن يغنم'' ٢.
.
٢ تضمن الله لمن خرج في سبيله
رواه البخاري في الإيمان (٣٦) وفي فرض الخمس (٣١٢٣) وفي التوحيد (٧٤٦٣، ٧٤٧٥) رواه مسلم في الإمارة واللفظ له- (١٨٧٦) ومالك في الموطإ كتاب الجهاد (٩٧٤) والنسائي في الجهاد (٣١٢٣، ٣١٢٢) وفي الإيمان وشرائعه (٥٠٢٩) وابن ماجه في الجهاد (٢٧٥٣) والدرامي في الجهاد (٢٣٩١) وأحمد في مسنده (٨٩٢٣، ٨٧٥٧) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي.. الحديث. وقد روى الحديث بأكثر من لفظ منها: انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان.. الحديث. ومنها: أعد الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي... وفي إحدى الروايات: تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد.. الحديث.
.
والمستضعفين : المستذلين وهي معطوفة على في سبيل الله.
الولدان : جمع وليد وهو الصبي، أو العبد.
وليا : معينا.
التفسير :
٧٥- وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا.
يستنهض القرآن همم المسلمين في المدينة ؛ للدفاع عن المستضعفين المستذلين بمكة، الذين يتعرضون لأنواع العذاب والنكال، وهم ضعفاء لا يستطيعون مقاومة المعتدين.
والمعنى : أي شيء لكم حتى لا تقاتلوا ! ؟ أي لا عذر لكم في ترك القتال فالاستفهام في الآية الكريمة، لإنكار واستقباح التخلف عن الجهاد في سبيل الله وفي سبيل إنقاذ المستضعفين من الشيوخ الكبار، والنساء، والأطفال.
جاء في ظلال القرآن :
ومشهد المرأة الكسيرة والولد الضعيف، مشهد مؤثر مثير، لا يقل عنه مشهد الشيوخ الذين لا يملكون أن يدفعوا- وبخاصة حين يكون الدفع عن الدين والعقيدة- وهذا المشهد كله معروض في مجال الدعوة إلى الجهاد ؛ وهو وحده يكفي ؛ لذلك يستنكر العقود عن الاستجابة لهذه الصرخات. وهو أسلوب عميق الوقع. بعيد الغور في مسارب الشعور والإحساس ١.
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا. أي : لا عذر لكم في ترك القتال ؛ لتخليص المستضعفين، الذين عذبهم المشركون بمكة، فاتجهوا إلى الله عز وجل ضارعين قائلين : اللهم ربنا، هيئ لنا الخروج من مكة، والهجرة منها ؛ فرارا بديننا، من أهلها الطغاة الظالمين، وهيئ لنا بفضلك وليا، يتولى أمورنا ويحمينا منهم، وهيئ لنا من عندك من ينصرنا عليهم.
أخرج البخاري عن ابن عباس قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين. فهي من النساء، وهو من الوالدان٢.
وعن مجاهد قال : أمر المؤمنون أن يقاتلوا عن مستضعفين مؤمنين كانوا بمكة ونسبة الظلم إلى أهل مكة، تشريف لها عن نسبة الظلم إليها، فهو مقصور على أهلها المشركين.
.
٢ كنت أنا وأمي من المستضعفين:
رواه البخاري في الجنائز (١٣٥٧) وفي تفسير القرآن (٤٥٨٧) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين: أنا من الولدان وأمي من النساء.
.
الطاغوت : في الأصل كثير الطغيان، ويطلق على رأس في الضلال، وقيل : الشيطان
التفسير :
٧٦- الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا.
لقد وضح الإسلام المنهج ورسم طريق العقيدة السليمة من الإيمان بالله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه ؛ كما ربى القرآن المسلمين تربية إسلامية، فرعى يقينهم ووجدانهم، وضميرهم وقلبهم وعقلهم، وقدم لهم غذاء العقيدة بالقصص والمشاهد، وأخبار القيامة والبعث والجزاء ؛ فنشأ المؤمنون نشأ متكاملة ؛ كأنهم خلقوا من جديد بالعقيدة والإيمان والإسلام، وحين بدأ القتال اكتسح الإسلام الأعداء، بقوة لم يعرف لها التاريخ مثيلا.
فمعارك الإسلام في الجزيرة العربية : في بدر، وأحد، والخندق، والحديبية، وفتح مكة، وغزوة حنين، والطائف، وغزوة تبوك، كتب فيها النصر للقلة المؤمنة على الكثرة الكافرة.
وقل مثل ذلك في انتصار الإسلام على الفرس والروم ومصر، بل لقد انتصر الإسلام بالفكرة والعقيدة في بلاد كثيرة، وهناك انتصار آخر هو انتصار اللغة العربية بحيث صار العلماء في البلاد التي فتحها الإسلام يعتنقون الإسلام طوعا واختيارا، ويدرسون بهذه اللغة ويقدمون للبشرية نتاج أفكارهم، وما كان للغة العربية هذا المجد قبل الإسلام، لكن القرآن والوحي، والحديث النبوي، والتراث الإسلامي ؛ كل هؤلاء أخصبوا اللغة العربية ؛ حتى سماها بعض الباحثين : اللغة الإسلامية.
الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ...
قال الزمخشري :
رغب الله المؤمنين ترغيبا وشجعهم تشجيعا، بإخبارهم أنهم إنما يقاتلون في سبيل الله ؛ فهو وليهم وناصرهم، وأعداؤهم يقاتلون في سبيل الشيطان ؛ فلا ولي لهم إلا الشيطان، وكيد الشيطان للمؤمنين، إلى جنب كيد الله للكافرين، أضعف شيء وأوهنه ١.
وتبقى الآية على جلالها ترسم حقيقة واقعية.
الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ. تحت راية الله فهم جند يقاتلون من أجل منهج الله ودين الله.
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ. أي : في سبيل الطغيان والاستعلاء، وشتان بين من يقاتل في سبيل الحق والعدل والمبادئ والمثل العليا، ومن يقاتل عدوانا وظلما، وتمكينا للطغاة الجبارين، وفي آخر الآية دعوة إلى جهاد الشيطان والانتصار عليه وعلى أتباعه.
جاء في تفسير القرطبي :
الطاغوت. يذكر ويؤنث، والطاغوت هو الشيطان والدليل على ذلك قوله تعالى :
فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا. أي : مكره ومكر من اتبعه، ويقال : أراد به يوم بدر حين قال للمشركين : لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ. ( الأنفال : ٤٨ ).
.
كفوا أيديكم : اقبضوها وامنعوها عن القتال
متاع الدنيا : ما يتمتع به من زخرفها وزينتها ولذائذها.
فتيلا : الفتيل : الخيط الموجود في شق النواة، يضرب به المثل في القلة والحقارة.
التفسير :
٧٧- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ... الآية. روى ابن أبي حاتم بسنده. عن ابن عباس، أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا : يا نبي الله، كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، قال :''إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم''. فلما حوله الله إلى المدينة، أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ... ١. أي : ألم ينته إلى علمك- يا محمد- حال أولئك الذين كانوا يتمون القتال- وهم بمكة- قبل أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم فيه ؛ رغبة في التخلص من إيذاء المشركين المستمر لهم ؟ !
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستمهلهم ويقول لهم- وهم بمكة- : كفوا أيديكم عن قتال المشركين حتى يأذن الله فيه وتفرغوا لتطهير أنفسهم وتزكيتها : بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ٢، وإعدادها للجهاد حين يأذن الله به فيه ؟ !
والاستفهام لتعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه، وكل من يتأتي منه ذلك إلى يوم القيامة- تعجيب لهم –من حال هؤلاء الذين تحدثت الآية عن شأنهم. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً. أي : فلما فرض الله القتال على المؤمنين- بعد الهجرة- استولى الخوف على الكفار- على نفوس فريق منهم، وهم المنافقون، وتهيبوا قتال الناس خشية القتل أو الأسر، وملأ الرعب قلوبهم فأصبحوا يخافون قتال الكفار كخوف المتقين من الله. بل أصبح خوفهم من الناس أشد من خوف المتقين من ربهم.
وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ. أي : وقالوا- في ضيق ورعب وجزع من الموت- : يا ربنا، لم فرضت علينا القتال ؟ ! هلا أخرت فرضه علينا إلى مدة قريبة ؟ ! حبا في التمتع بالدنيا. والمدة القريبة غير محدودة فهي- عندهم- انتهاء آجالهم دون قتال أو : يا ربنا، هلا زدتنا في مدة الكف إلى وقت آخر، قابل للتجديد ؟ ! حذرا من الموت، وهربا من الجهاد ؛ فقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم : قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً...
متاع الدنيا كله قليل، فما بال أيام أو أسابيع أو شهور أو سنين ؟ ! وما قيمة هذا الإمهال لاجل قصير، إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلا ؟ ! ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيام أو أسابيع أو شهور أو سنين، ومتاع الدنيا كله، والدنيا بطولها قليل ؟ !
وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى. أي : وثواب الآخرة خير لكم من المتاع القليل، لمن اتقى الله، ولم يخش إلا الله، وتأتي التقوى هنا في موضعها للمقابلة بين من يخاف الناس ومن يخاف الله، فالذي يخاف الله لا يخاف الناس، والإنسان لا يملك لك نفعا أو ضرا إلا بإذن الله.
وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً. والفتيل : الخيط الموجود في شق النواة ؛ أي : إن الله هو الذي يجازي الأتقياء جزاء الكريم العليم، ولا ينقصون من أجورهم شيئا مهما كان قليلا، قال تعالى : فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. ( الزلزلة : ٧-٨ ).
رواه النسائي في الجهاد (٣٠٨٦) من حديث ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا رسول الله إنا كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا فلما حولنا الله إلى المدينة أمرنا بالقتال فكفوا فأنزل الله عز وجل ﴿ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة﴾. وذكره السيوطي في الدر ونسبه لابن جرير وابن حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه.
.
٢ كانت الزكاة غير محددة المقادير في مكة- قبل الهجرة- وكان ذلك متروكا لتقدير المسلمين، ثم تم تحديدها بالمدينة.
.
بروج مشيدة : حصون مرتفعة منيعة محكمة.
يفقهون : يفهمون فهما دقيقا.
التفسير :
٧٨- أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ... هذه الآية تقرر قاعدة عامة، وإن كان المراد بها المنافقين، أو ضعفة المؤمنين، الذين قالوا : لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ. أي : إلى أن نموت بآجالنا ١.
والمعنى : في أي مكان تكونون فيه- في ساحة القتال، أو بين أهليكم مواطن أمنكم، أو خوفكم، سينزل بكم الموت عند انتهاء آجالكم، ولو كنتم في حصون منيعة و قصور عالية.
جاء في تفسير القرطبي :
قال ابن عباس : البروج : الحصون والآطام والقلاع، ومعنى مشيدة : مطولة أو محصنة بالشد وهو الجص، والمشيد والمشيد سواء، ومنه : قصر مشيد. ( الحج : ٤٥ )، وفي هذه الآية تأنيب للجبناء أو المنافقين، الذين ضاقوا بما فرض الله عليهم من القتال، وإبراز لحماقة تفكيرهم، فإن الجبن لا يطيل عمرا وإنما يجلب ذلا، والشجاعة لا تنقص أجلا وإنما تورث عزا.
وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ.
هذا بيان لنقيصة أخرى من نقائصهم، فهم يتطيرون بالنبي- فيظنونه- حاشاه- شؤما عليهم أو هم يريدون عامدين تجريح قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ تخلصا من التكاليف التي يأمرهم بها.
فقد كانوا يقولون : إذا حلت بهم نعمة، من سعة في الرزق، وكثرة في الأموال والأولاد، هذا الذي أصابنا من النعم من عند الله، قالوا ذلك، لا عن إيمان بالله، واعتراف بفضله، بل قالوه ؛ تهوينا لشأن النبي صلى الله عليه وسلم، وإشارة إلا أنه لا يأتيهم بخير، يدل على ذلك ما حكاه القرآن عنهم بقوله :
وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ. أي : وإن يصبهم جدب وقحط ونقص في الأموال والأولاد ونحو ذلك ؛ قالوا : أصابنا ذلك بشؤمك الذي لحقنا...
قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ. إن الله هو الفاعل الأول، والفاعل الأوحد، لكل ما يقع في الكون وما يقع للناس، فهو وحده الذي يملك النفع والضر ولا يقع في ملكه إلا ما يريد.
فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا. فما شأن هؤلاء القوم ؟ وماذا أصاب عقولهم، حتى أصبحوا بعيدين عن الفهم والإدراك لما يسمعون ولما يقولون، ولا يفهمون أن كلا من الخير والشر من عند الله وحده، وأن الله هو الباسط القابض وكل ذلك صادر عن حكمه وصواب.
.
شهيدا : شاهدا على صدق رسالتك، أو مطلعا بصيرا.
التفسير :
٧٩- مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ... الآية.
قررت الآية السابقة أن كل ما يقع في الكون فهو بإرادة الله العليا، وقضائه و قدره.
ونحن نؤمن بالقضاء والقدر، ونؤمن بأن بيد الله الخلق والأمر، ومع هذا فإن للعبد كسبا واختيارا، وإرادة محدودة مسئولة. والجمع بين إرادة الله، وإرادة العبد يحتاج إلى شيء من الانحناء والتسليم.
فبالنسبة لأحداث الكون كلها فهي من عند الله، وبحكمته وبالنسبة لأعمال الإنسان، فهو إذا اختار طريق الهدى ؛ أعانه الله عليه وسدد خطاه، وإذا اختار طريق الضلال ؛ سلب الله عنه الهدى، ووكله إلى نفسه فكان هو السبب فيما يصيبه من بلاء في الدنيا أو عذاب في الآخرة.
فالآية الثانية مختلفة عن الآية الأولى :
الآية الأولى : تشير إلى أن كل ما يقع في الكون بإذن الله، والآية الثانية : تشير إلى أن العبد إذا أطاع الله ؛ أيده الله بتوفيقه، وإذا عصاه وكله الله إلى نفسه.
قال الزمخشري :
ما أصابك. يا إنسان : خطابا عاما من حسنة. أي : من نعمة وإحسان فمن الله. تفضيلا منه وإحسانا وامتنانا وامتحانا.
وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ. أي : من بلية ومصيبة فمن عندك ؛ لأنك السبب فيها بما اكتسبت يداك، وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ. ( الشورى : ٣٠ )وعن عائشة رضي الله عنها :''ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها، حتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله أكثر'' ١.
وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً. أي : رسولا للناس جميعا لست برسول العرب وحدهم أنت رسول العرب والعجم، كقوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ. ( سبأ : ٢٨ ) وقال تعالى : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا. ( الأعراف : ١٥٨ ).
وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا. على صدق رسالتك، وأنك أبلغت ما أنزل الله عليك، وأديت واجبك أكمل أداء، بإخلاص ويقين : تبشر الناس وتنذرهم، والله تعالى خير شهيد على ذلك.
وفي تقرير رسالته صلى الله عليه وسلم تطمين لقلبه وتقوية لعزمه، كما أن فيه زيادة كبت لهم، وتأكيد لجهلهم، وعدم فقههم.
رواه البخاري في المرضى باب: ما جاء في كفارة المرضى (٥٣١٧) ومسلم في البر والصلة والآداب، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن (٢٥٧٢) عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها). ورواه البخاري فيما تقدم (٥٣١٨) عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن وأذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه). رواه الترمذي في تفسير القرآن باب ومن سورة النساء (٥٠٢٩) عن أبي هريرة قال: لما نزلت ﴿من يعمل سوءا يجز به﴾، شق ذلك على المسلمين فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قاربوا وسددوا. وفي كل ما يصيب المؤمن كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها" هذا حديث حسن غريب.
.
تولى : أعرض.
حفيظا : رقيبا، أو مسيطرا.
التفسير :
٨٠- مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا.
أرسل الله رسوله محمد صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل فختم به الرسالات، وأنزل عليه وحي السماء، وجعل طاعة الرسول فيما يبلغه عن ربه واجبة ؛ لأن طاعته طاعة لوحي الله وأمر الله، قال تعالى : وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. ( النجم : ٣-٤ ).
فليس لمسلم أن يخالف الرسول فيما يبلغه عن ربه، قال تعالى : فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. ( النور : ٦٣ ).
وأما ما رآه الرسول من الأمور الخارجة عن دائرة التبليغ والرسالة، مما هو خاص بشئون الدنيا، فليست أوامر، بل إرشادات، ولذا راجعه المسلمون في بعض الآراء، كما حدث في تأبير النخيل فرجع صلى الله عليه وسلم ونزل على رأيهم ١ وقال :'' أنتم أعلم بأمر دنياكم ''٢ رواه مسلم.
وجاء في تفسير ابن كثير :
يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، بأن من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى على آله وسلم :'' من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني'' ٣وهذا الحديث ثابت في الصحيحين عن الأعمش.
وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا. ومن أعرض عن طاعتك، وعن إتباع الحق الذي جئت به ؛ فاترك أمره إلينا فسنجازيه- فإنما أرسلناك مبلغا ولم نبعثك مسيطرا ولا رقيبا على أعمالهم قال تعالى : فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّر، ٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر. ( الغاشية : ٢١-٢٢ ).
وفي الحديث '' ومن يطع الله ورسوله ؛ فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله ؛ فإنه لا يضر إلا نفسه''.
.
٢ ٢٤)أنتم أعلم بأمر دنياكم:
رواه مسلم في الفضائل (٢٣٦٣) و أحمد في مسنده(١٢١٣٥) من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال: لو لم تفعلوا لصلح قال: فخرج شيصا فمر بهم: فقال: ما لنخلكم قالوا: قلت: كذا وكذا قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم.
.
٣ ) )من أطاعني فقد أطاع الله:
رواه البخاري في الجهاد (٢٩٠٧) وفي الإحكام (٧١٣٧) ومسلم في الإمارة (١٨٣٥) والنسائي في البيعة (٤١٩٣) وفي الاستعاذة (٥٥١٠) وابن ماجه في المقدمة (٣) وفي الجهاد (٢٨٥٩) (٨٧٨٨، ٨٣٠٠، ٧٣٨٦) من حديث أبي هريرة مرفوعا: من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني.
.
برزوا من عندك : خرجوا من مجلسك ظاهرين.
بيت طائفة : دبروا ليلا أو في السر. في أي وقت من ليل أو نهار.
التفسير :
٨١- وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ... الآية.
تحكي هذه الآية شأنا أخر من شئون المنافقين، يعتمد على الختل والتلون والتستر وعدم المواجهة بالحقيقة، فهم أمام النبي صلى الله عليه وسلم يظهرون الطاعة والامتثال والموافقة بألسنتهم، فإذا انصرفوا من مجلسه وذهبوا بعيدا عنه.
بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ. قال ابن كثير : أي : استسروا ليلا فيما بينهم بغير ما أظهروه.
وفي التفسير الوسيط :
دبر زعماؤهم في السر- في الليل أو النهار- مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم، ونقض الذي قالوه بألسنتهم في مجلسه معتقدين أن هذا التدبير الخفي لن يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم، وفاتهم أن الله يعلم كل ما يتآمرون عليه، وقد سجله عليهم وأنه سيكشفه لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه سيعاقبهم على هذا النفاق- في الآخرة- أشد العقاب، كما ينبئ عنه قوله تعالى : وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ.
أي : يعلمه ويكتبه عليهم بما أمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد، والمعنى في هذا التهديد بالجزاء والعقاب.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ. أي : اصفح عنهم ولا تؤاخذهم، ولا تكشف أمورهم للناس، ولا تأبه بهم ولا بمؤامراتهم ؛ وفوض أمرك إلى الله وحده يكفك أمرهم.
وقال تعالى : وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ. ( الطلاق : ٣ ).
وليس معنى التوكل على الله، أن يترك الإنسان الأخذ بالأسباب، فهذا هو التواكل وهو مذموم، وإنما المراد به الأخذ بالأسباب، مع تفويض الأمر إلى الله والاعتماد عليه، وكفى بالله وكيلا. أي : كفى به وليا وناصرا ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه.
يتدبرون القرآن : يتأملون فيه، ويتفكرون في معناه.
اختلافا كثيرا : تناقضا في معانيه، وتبيانا في نظمه.
التفسير :
٨٢- أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا. التدبر : التفكير والتأمل في المعنى.
وتثبت هذه الآية أن القرآن لم يصل إلى شغاف قلوبهم، وإنما قرءوه بألسنتهم، وتطالبهم الآية أن يتدبروه بيقظة وانتباه، وتحضهم على التأمل فيه.
والمعنى : أيعرض هؤلاء المنافقون عن القرآن، فلا يتأملون فيه، ليعلموا أنه من عند الله ؟ !
فلو تدبروه ؛ لأيقنوا أنه من عند الله لا من عند غيره ؛ لأن طاقة البشر لا تستطيع الإتيان بهذا الكمال، في بيان العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، والإخبار الصادق عن الماضي والمستقبل، وعالم الغيب وما يجري فيه... كل ذلك في أسلوب بديع متقن بالغ الغاية في الكمال والتحدي.
إن العلوم التي تقوم على التجارب قد تنقض اليوم، ما أبرمته بالأمس، وتهدم غدا ما بنته اليوم.
وفي كتاب للمستشرق : موريس بوكاي بعنوان :( التوراة، والإنجيل، والقرآن، في ضوء العلم ).
أثبت فيه أن العلم قد نقض بعض ما جاء في التوراة عن بدء الخليقة، وحادث الطوفان، وعير ذلك، كما نقض العلم بعض ما جاء في الأناجيل.
لكن العلم لم ينقض حقيقة واحدة مما جاء في القرآن الكريم، فقد تكلم القرآن عم حقائق علمية تتصل بالسماء والأرض، والجبال والبحار، والليل والنجوم والشمس والقمر، والحيوان والنبات والإنسان وغير ذلك، ومع تطور العلم تطورا ملحوظا في القرن التاسع عشر، و القرن العشرين الميلاديين، فإن هذا العلم جاء يؤكد صدق القرآن ؛ لأن هذا القرآن أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أمي نشأ بين أمه أمية، ولم يكن لديه أجهزة علمية، أو معامل ليكتشف بها هذه الحقائق الكثيرة التي حفل بها القرآن، وقد كان النبي رجلا هاديا عازفا عما عليه قومه، فلما نزل عليه الوحي ؛ تفجر فمه بالحكمة في قواعد الإيمان، والأخلاق والسلوك، والتشريع والقضاء ونظام الحكم، والعقوبات، والعبادات، والمعاملات.
فدل ذلك على أن هذا الوحي ليس من صنع محمد، وإنما هو تنزيل من حكيم حميد.
وقد تحرى العرب أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة واحدة، وطالت مدة التحدي، مع وجود الحافز والباعث لهؤلاء الكفار، أن يبطلوا حجته فقد قاتلوه وقاتلهم، وأفنوا الأموال والأعداد من الر جال في سبيل القضاء على دعوته، فلو كان في استطاعتهم أن يأتوا بمثل القرآن لأتوا به، لكن العجز قد لزمهم، و سجل القرآن هذا العجز بقوله : قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا. ( الإسراء : ٨٨ ).
والمعهود في كبار الأدباء أن تتفاوت آثارهم قوة وضعفا، وسموا وضعة، ولا يسلم أحدا من هذا وإن كان عبقري الموهبة رائع البيان.
أما القرآن الكريم فجميع آياته طبقة عليا من البلاغة والبيان، والسلامة من التناقض والاضطراب مع طول مدة نزوله فقد نزل في ٢٣ عاما، ومع هذا نجده آية واحدة في حسن السبك وجمال النظم، وبراعة الاستهلال وتصريف القول ! ؛ فقد حكي عن الأمم السابقة، وساق مشاهد الكون، وتناول أخبار القيامة ومشاهد الآخرة، قال تعالى : وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا. ( طه : ١١٣ ).
وقد أورد ابن كثير في تفسيره ثلاث روايات لحديث ينهى عن الاختلاف والمراء وضرب القرآن بعضه ببعض ومن هذه الروايات ما يأتي :
عن عبد الله بن عمرو قال : هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فإنا لجلوس إذا اختلف اثنان في آ ية، فارتفعت أصواتهما، فقال :'' إنما هلكت الأمم قبلكم ؛ باختلافهم قي الكتاب'' ١ رواه مسلم والنسائي.
رواه مسلم في العلم (٢٦٦٦) وأحمد ٢/١٨٥.
.
أمر : خبر عن سرايا الرسول صلى الله عليه وسلم.
الأمن : النصر.
الخوف : الهزيمة.
أذاعوا به : نشروه وأفشوه.
يستنبطونه : يستخرجون حقائقه المستورة الخفية، ومقاصده البعيدة.
التفسير :
٨٣- وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ... الآية.
تقدم هذه السورة ألوانا من التربية الإسلامية وآدابها، ومن هذه الآداب : التثبت في القول، وألا يحدث الإنسان بكل ما يسمع، وألا ينقل الأخبار إلا بعد التيقن من صدقها. روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع " ١.
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة '' أن رسول الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال'' ٢ أي : الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر ولا تبين.
وفي الصحيح '' من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو من الكذابين'' ٣ وقد نقل ابن كثير في تفسيره طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة، تدعو المسلمين إلى التثبت في القول، وعدم نشر الإشاعات، والأراجيف، والرجوع إلى الثقات، وإلى أولي الأمر ؛ للتثبت من الأخبار، والتيقن من الأمور، قبل المشاركة في إذاعتها وترويجها.
و نلمح أن بعض المنافقين، أو بعض ضعاف النفوس ممن شهوتهم الكلام، كانوا يرجون أخبار النصر و الأمن، وأخبار الهزيمة و الخوف، وهذه الأمور تسهل للعدو مهمة التجسس، ومعرفة مواطن الضعف و القوة لدى المسلمين.
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ.
فواجب على كل مسلم أن يرد هذه الأخبار إلى أولي الحل والعقد من المسلمين ؛ فإنهم هم الذين يستطيعون تقييم هذه الأخبار، وتقدير ما إذا كان من المصلحة العامة للدولة إذاعتها أو كتمانها، كذلك هم- باطلاعهم على خفايا الأمور- أعرف بصحة تلك الأخبار أو فسادها.
قال ابن كثير :
ونذكر هنا حديث عمر بن الخطاب المتفق على صحته ٤، حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفهمه : أطلقت نساءك ؟ فقال لا، قال عمر : فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه، ونزلت هذه الآية : وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ. فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر.
ومعنى يستنبطونه : يستخرجونه من معادنه، يقال : استنبط الرجل العين إذا حفرها واستخرجها من قعورها ٥
والذين يستنبطون الحقائق هم الذين يطلعون على خفايا الأمور أو المراد بهم الذين رجعوا بهذه الأخبار- حينما سمعوها- إلى الرسول وأصحابه، فإنهم يعرفون- عن طريقهم- ما خفي عليهم أمره من هذه الأخبار. وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً.
ولولا حفظ الله لكم، وتثبيته لقلوبكم ؛ لوقعتم فيما وقع فيه المنافقون، وضعفاء الإيمان وذوو الغفلة، ولولا رحمة الله بهذه الأمة ؛ لضل الكثير من أبنائها، بإتباع سبيل الشيطان، ولكان مصيرها الضياع والانهزام، وضعف الثقة في النفوس.
لكن من عناية الله بهده الأمة، أن جعل فيها قلة ممتازة، تتميز بقوة العزيمة، وثبات الإيمان، وعدم تصديق الأراجيف أو إذاعتها، وهذه القلة بمثابة الأساس المتين الذي يقوم عليه البناء ويعتمد عليه، ويصح أن يكون المراد بقوله : لا تبعتم الشيطان إلا قليلا. إلا في قليل من أعمالكم.
وبالتأمل فيما تضمنته الآية الكريمة من إرشادات حكيمة، يتضح أن القرآن الكريم، قد سبق جميع النظم الحربية، في وضع أقوى الوسائل لمواجهة ما يسمى الآن : الحرب النفسية، أو حرب الأعصاب. وهي التي تدير الحرب العسكرية.
رواه مسلم في المقدمة (٥) وأبو داود في الأدب (٤٩٩٢) من حديث حفص بن عاصم- عن أبي هريرة- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع: قال أبو داود ولم يذكر حفص أبا هريرة قال أبو داود ولم يسنده إلا هذا الشيخ يعني على بن حفص المدائني. ورواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع. ورواه أيضا من حديث أبي الأحوص عن عبد الله قال: بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع.
.
٢ )إن الله كره لكم قيل وقال:
رواه البخاري في كتاب الزكاة (١٤٧٧) في الاستقراض (٢٤٠٨) وفي الأدب (٥٩٧٥) وفي الوفاق (٦٤٧٣) وفي الاعتصام (٧٢٩٢) ومسلم في كتاب الأقضية (١٧١٥) من حديث المغيرة بن شعبة.
.
٣ من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب:
رواه أحمد (١٧٧٧٦، ١٧٧٤٦، ١٧٧١٩) من حديث المغيرة بن شعبة. ورواه مسلم في المقدمة، والترمذي في العلم (٢٦٦٢) من حديث المغيرة بن شعبة أيضا إلا أنه بلفظ: من حدث عني. ورواه مسلم في المقدمة، وأحمد (١٩٦٥٠، ١٩٧١٢) من حديث سمرة بن جندب. ورواه ابن ماجع في المقدمة (٤٠) من حديث علي، ثم أسنده من حديث سمرة. قال الترمذي: هذا حديث صحيح وروى شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث وروى الأعمش وابن أبي ليلى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم وكأن حديث عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن سمرة عند أهل الحديث أصح قال: سألت أبا محمد عبد الله بن عبد الرحمن عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: من حدث عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين، قلت له: من روى حديثا وهو يعلم ان إسناده خطأ أيخاف أن يكون قد دخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو إذا روى الناس حديثا مرسلا فأسنده بعضهم أو قلب إسناده يكون قد دخل في هذا الحديث فقال: لا إنما معنى هذا الحديث إذا روى الرجل حديث ولا يعرف لذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أصل فحدث به فأخاف أن يكون قد دخل في هذا الحديث.
.
٤ لا حينما سأله عمر: أطلقت نساءك؟ حديث الإيلاء:
هذا اللفظ جزء من حديث الإيلاء: رواه البخاري في العلم (٨٩) وفي المظالم ح (٢٤٦٨، ٢٤٦٩) وفي التفسير ح (٤٩١٣، ٤٩١٤، ٤٩١٥) وفي النكاح ح (٥٢٠٣، ٥١٩١) وفي الطلاق ح (٥٢٦٧) وفي اللباس ح (٥٨٤٣) وفي الأدب (٦٢١٨) وفي أخبار الآحاد ح ٦٧٢١ ومسلم في الطلاق ح (١٤٧٩) والترمذي في التفسير ح (٣٣١٨) والنسائي في الطلاق ح (٣٤٥٥) وأبو داود في الأدب ح ٤٥٢٥ وأحمد في مسنده ح ٣٤١.
.
٥ تفسير ابن كثير ١/٥٣٠.
.
لا تكلف إلا نفسك : لا تكلف إلا فعل نفسك
وحرض المؤمنين : وحثهم ورغبتهم.
تنكيلا : تعذيبا وإيلاما.
التفسير :
٨٤- فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ... الآية.
هذه الآية تفريع على ما سبق من بيان حال المنافقين وضعاف الإيمان وأنهم مخذلون بإذاعتهم ما يسمعون، قبل التثبت من صحته.
وهي أمر من الله تعالى لرسوله، ولكل قائد، وكل قادر على القتال من المؤمنين المخلصين، أن يندفع ولو منفردا إلى الجهاد في سبيل الله، عند النفير العام، غير ملتفت إلى المثبطين والمرجفين.
وفي الآية حث على تحمل المسئولية الفردية، وقيام كل فرد بواجبه، وبذلك تتلاحم الصفوف، ويجتمع المسلمون يدا واحدة، كالبنيان المرصوص.
ويفهم من الآية، أن على القائد أن يتقدم جنده، وأن يضرب لهم المثل بنفسه عمليا، وأن يحرض المؤمنين على الجهاد، ويحثهم عليه، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم بدر ؛ وهو يسوي الصفوف، فقد قال لهم :'' قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض'' ١.
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :''يا أبا سعيد، من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيا ؛ وجبت له الجنة'' ٢.
قال : فعجب لها أبو سعيد فقال : أعدها على يا رسول الله ؛ ففعل، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :'' وأخرى يرفع الله العبد بها مائة درجة في الجنة ! ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض '' قال : وما هي يا رسول الله ؟ قال :''الجهاد في سبيل الله''.
عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً. فإذا حرض القائد جنوده على القتال والجهاد، انبعثت الرغبة في الشهادة، ولا ريب أن الاستعداد للحرب وأخذ العدة والتأهب للقتال من شأنه أن يلقي الرعب في قلوب الكفار فيكفون على التحرش بالمسلمين، ولذلك قيل : لا شيء يمنع من الحرب مثل الاستعداد لها.
فإن استعداد المسلمين وأخذهم العدة من شأنه أن يحمل الكفار على التفكير والتروي قبل مواجهة المسلمين، فيتوقفون عن قتالهم، ويكف الله بهذا عن المسلمين شر قوتهم وشدة بأسهم.
وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً. فهو سبحانه أشد قوة من كل ذي قوة وأشد تعذيبا من كل قادر على التعذيب وهو سبحانه قادر عليهم في الدنيا والآخرة. قال تعالى : ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ( محمد : ٤-٧ ).
رواه مسلم في الإماراة (١٩٠١) وأحمد في مسنده (١١٩٩٠) من حديث أنس بن مالك قال: بعث رسول الله صلى الله عليع وسلم بسيسة عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا أدري ما استثنى بعض نسائه قال: فحدثه الحديث قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فقال: إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضرا فليركب معنا فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة فقال: لا إلا من كان ظهره حاضرا فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر وجاء المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟! قال: نعم قال: بخ بخ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك: بخ بخ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها قال: فإنك من أهلها فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة! قال: فرمي بما كان معه من التمر ثم قاتلهم قتل.
.
٢ يا أبا سعيد من رضي الله ربا:
رواه مسلم في الإمارة (١٨٨٤) والنسائي في الجهاد (٣١٣١) وأحمد في مسنده (١٠٧١٨) من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا سعيد من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة فعجب لها أبو سعيد فقال أعدها علي يا رسول الله ففعل ثم قال: وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قال: وما هي يا رسول الله قال: الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله.
.
من يشفع شفاعة : الشفع في الأصل : الضم. ومنه الشفعة. وهي ضم ملك الشريك. ومن الشفع : الشفاعة. كأن المشفوع له كان فردا. فجعله الشفيع شفعا. وتطلق الشفاعة على التوسط لإيصال شخص إلى منفعة دنيوية أو أخروية، أو خلوص من مضرة ما.
نصيب : النصيب : الحظ، وهو قابل للزيادة، وأكثرها ما يستعمل في الخير.
كفل : الكفل : الوزر والإثم، أو المقدار المساوي، وأكثر ما يستعمل في الشر.
مقيتا : مقتدرا، أو حافظا وشاهدا.
التفسير :
٨٥- مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا... الآية
من يسع في أمر فيترتب عليه خير- لفرد أو جماعة- كان له نصيب من أجر ذلك الخير، الذي ترتب على سعيه.
وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا... أي : ومن يسع في أمر فيترتب عليه شر، كان عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه، وهذا عام في الأمرين.
قال ابن كثير في تفسيره :( أي من يسع في أمر فيترتب عليه خير ؛ كان له نصيب من ذلك ).
وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا. أي : يكن عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :''اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء'' ١.
وقال مجاهد بن جبير :( نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض ).
وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا... أي : مقتدرا على مجازاة كل إنسان من المحسنين والمسيئين، بما يستحقه من جزاء، وقال مجاهد : مقيتا. شهيدا حسيبا، وقيل قديرا وقال الضحاك : المقيت الرزاق.
رواه البخاري في الزكاة (١٤٣٢) وفي الأدب (٦٠٢٨، ٦٠٢٧) وفي التوحيد (٧٤٧٦) ومسلم في البر (٢٦٢٧) وأبو داود في الأدب (٥١٣١) والترمذي في العلم (٢٦٧٢)و النسائي في الزكاة (٢٥٥٦) (١٩٢٠٧، ١٩٠٨٧) من حديث أبي موسى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء. ورواه أبو داود في الأدب (٥١٣٢) والنسائي في (٢٥٥٧) من حديث معاوية بن أبي سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الرجل ليسألني الشيء فأمنعه حتى تشفعوا فتؤجروا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اشفعوا تؤجروا.
.
حسيبا : محاسبا ومجازيا، أو كافيا، أو حفيظا.
التفسير :
٨٦- وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا.
حث الإسلام على صلة الرحم، وعمل على إشاعة المودة والمحبة والتراحم بين المسلمين، ومن أسباب المودة : إفشاء السلام، وإطعام الطعام، وصلة الأرحام.
روى أبو داود بسنده إلى أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :''والذي نفسي بيده ! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم ؛ أفشوا السلام بينكم'' ١.
ورد السلام فريضة والزيادة على تطوع، فينبغي أن ترد السلام على المسلم وأن تزيد عليه.
روى ابن جرير عن سلمان الفارسي قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله ؛ فقال :''وعليكم السلام ورحمة الله'' ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :'' وعليك السلام ورحمة الله وبركاته'' ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ؛ فقال له ''وعليك'' فقال الر جل : يا نبي الله بأبي أنت وأمي ! أتاك فلان وفلان فسلما عليك، فرددت عليهما أكثر مما رددت علي، فقال :''إنك لم تدع لنا شيئا، قال الله تعالى : وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا.. فرددناها عليك''٢ قال ابن كثير : وهكذا رواه ابن أبي حاتم، وابن مردويه ولم أره في المسند وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إذ لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام أحمد بن عمران بن حصين : أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليكم يا رسول الله ؛ فرد عليه السلام ثم جلس فقال : " عشر " ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله يا رسول الله ؛ فرد عليه ثم جلس، فقال : " عشرون " ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ فرد عليه السلام، ثم جلس فقال : " ثلاثون " ٣ رواه أبو داود والترمذي والنسائي والبزار.
وجاء في التفسير الوسيط :
والرد على تحية الإسلام واجب وإنما التخيير بين الزيادة وتركها. ولا يرد على من سلم أثناء الخطبة، وتلاوة القرآن جهرا، ورواية الحديث، وعند دراسة العلم، وعند الأذان والإقامة. ولا يسلم على لاعب النرد، والشطرنج، والمغني، والقاعد بقضاء حاجته، والعاري في الحمام.
والسنة أن يسلم الماشي على القاعد، والراكب على الماشي، وراكب الفرس على راكب الحمار، والصغير على الكبير، والعدد القليل على العدد الكثير، وإذا التقيا بادر كل منهما إلى إلقاء السلام على صاحبه، وخيرهما الذي يبدأ.
وجاء في تفسير ابن كثير :
عن ابن عباس قال : من سلم عليك من خلق الله ؛ فاردد عليه وإن كان مجوسيا ؛ ذلك بأن الله يقول : فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا...
فأما أهل الذمة فلا يبدءون بالسلام، ولا يزادون بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :''إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليكم فقل : وعليك'' ٤
وروى أبو داود بسنده إلى أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :''''والذي نفسي بيده ! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم ؛ أفشوا السلام بينكم'' ٥ ورواه مسلم أيضا.
إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا... وختمت الآية بما يحرك وجدان المسلم نحو الامتثال والمحافظة، على ما يوطد روابط المحبة والمودة بين الناس، والحرص على إفشاء السلام، وعلى رد التحية أو الزيادة عليها، وعلى ما يملأ قلب المؤمن خوفا من الله وحذرا من عقابه، فهو سبحانه سريع الحساب، ولا تخفى عليه خافية. فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. ( الزلزلة : ٧-٨ ).
رواه مسلم في الإيمان (٥٤) وأبو داود في الأدب (٥١٩٣) والترمذي في الاستئذان (٢٦٨٨) وابن ماجه في المقدمة (٦٨) وفي الأدب (٣٦٩٢) (١٠٢٧٢، ٩٨٢١، ٩٤١٦، ٨٨٤١) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم. و رواه الترميدي في صفة القيامة (٢٥١٠) و أحمد في مسنده (١٤١٥، ١٤٣٣) من حديث الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء هي الحالقة لا أقول: تحلق الشعر ولكن تحلق الدين والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم بما يثبت ذاكم لكم أفشوا السلام بينكم وقال الترمذي: هذا حديث قد اختلفوا في روايته عن يحيي بن أبي كثير فروى بعضهم عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد عن مولى الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكروا فيه عن الزبير.
.
٢ وعليكم السلام:
قال الهيثمي في المجمع: عن سلمان قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله. قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعليك. فقال الرجل: يا رسول الله أتاك فلان وفلان فحييتهما بأفضل مما حييتني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لن أو لم تدع شيئا، قال الله عز وجل ﴿وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها﴾ فرددت عليك التحية. وقال: رواه الطبراني وفيه هشام بن لاحق قواه النسائي وترك أحمد حديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح. وذكره السيوطي في الدر وزاد نسبته لأحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه بسند حسن.
.
٣ )) عشر في السلام:
رواه أبو داود في الأدب (٥١٩٥) والترمذي في الاستئذان (٢٦٨٩) والدرامي في الاستئذان (٢٦٤٠) وأحمد في مسنده (١٩٤٤٦) من حديث عمران بن حصين أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: عشر ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عشرون ثم جاء آخر فقال: : السلام عليكم ورحمة الله و بركاته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاثون. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وعن سهل بن حنيف رواه البيهقي في السنن، وعن ابن عمر رواه البيهقي في شعب الإيمان.
.
٤ إذ سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم:
رواه مالك في الموطأ كتاب الجامع (١٧٩٠) وأحمد في مسنده (٤٥٤٩) من حديث عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول: السام عليكم فقل: عليك.
.
٥ لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا:
تقدم ص ٧٩
.
اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُو. إخبار بتوحيد الله وتفرده بالألوهية لجميع المخلوقات.
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ. هو الذي يجمع الناس- بعد قيامهم من قبورهم- يوم القيامة ليجازي كلا بما قدمت يداه، وهذا الجمع لا ريب فيه، أو هذا اليوم آت لاشك في مجيئه.
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا. أي : لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره، ووعد ووعيده، فلا إله إلا هو ولا رب سواه، ولا محدث أصدق منه، وحين يدخل أهل النار النار، ويدخل أهل الجنة الجنة، يقول الذين اتقوا ربهم : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. ( الزمر : ٧٤ ).
فئتين : فريقين.
أركسهم : ردهم إلى الكفر ونكسهم.
التفسير :
٨٨- فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ... تفيد هذه الآية وجود بعض المنافقين خارج المدينة ؛ لأن المنافقين داخل المدينة كشفتهم السور المدنية، وذكرت خصالهم، وأمرت المسلمين بمهادنتهم ؛ حتى ينكشف أمرهم، وحتى يقطع المسلمون مصادر قوتهم حيث أخرج المسلمون اليهود من المدينة ؛ فضعف أمر المنافقين بعد ذلك.
وقد ورد في سبب نزول هذه الآية عدة أقوال :
ذكر ابن الجوزي في كتابه : زاد المسير في علم التفسير ٢/١٥٢ : أن هناك سبعة في سبب نزولها، ( ويمكن أن نختار أربعة أقوال منها ) :
١- أن قوما أسلموا، فأصابهم وباء المدينة وحماها، فخرجوا فاستقبلهم نفر من المسلمين، فقالوا : ما لكم خرجتم ؟ قالوا : أصابنا وباء المدينة، واجتويناها، فقالوا : أما لكم في رسول الله أسوة ؟ واختلف بشأنهم ؛ فقال بعضهم : نافقوا، وقال بعضهم : لم ينافقوا ؛ فنزلت هذه الآية.
٢- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد، ورجع ناس ممن خرج معه، فافترق فيهم أصحاب رسول الله، ففرقة تقول : نقتلهم ؛ وفرقة تقول : لا نقتلهم، فنزلت هذه الآية، هذا في الصحيحين من قول زيد بن ثابت.
٣- أن قوما كانوا بمكة تكلموا بالإسلام، وكانوا يعاونون المشركين فخرجوا من مكة لحاجة لهم، فقال قوم من المسلمين : اخرجوا إليهم، فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عدوكم، وقال قوم : كيف نقتلهم وقد تكلموا بمثل ما تكلمنا به ؟ ! فنزلت هذه الآية.
٤- نزلت هذه الآية في شأن عبد الله بن أبي حين تكلم في عائشة بما تكلم به. رواه ابن جرير الطبري ٩/١٣ ورجح ابن جرير قول من قال : إنها نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا بعد إسلامهم من أهل مكة.
ونحن نعلم في قواعد علوم القرآن أنه إذا تعددت الروايات في سبب نزول الآية وبعضها صحيح وبعضها ضعيف أخذنا بالرواية الصحيحة، فإذا كانت الروايات كلها صحيحة وأمكن الجمع بينها ؛ حكمنا بتعدد الأسباب والمنزل واحد، فيمكن أن يكون حدث أكثر من سبب أدى إلى نزول هذه الآية.
والجو العام للسيرة النبوية يؤدي إلى ترجيح ما رجحه ابن جرير الطبري واختاره الأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن حيث رجح أن الآية نزلت في منافقين كانوا بعيدين عن المدينة، ولعل بعض المسلمين كانت تربطهم بهم قرابة، أو مشاركة في تجارة أو منفعة ؛ فأراد القرآن أن يضع قاعدة للمسلمين، تؤكد أن الترابط والتعاون والعمل ينبغي أن يتم على أساس العقيدة والإيمان.
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ. والخطاب في الآية عام لجميع المؤمنين.
والمعنى : لم تختلفون في القول بكفر هؤلاء المنافقين، وتفترقون في هذا الأمر فرقتين، وقد ردهم الله إلى الكفر، كما كانوا بسبب ما اقترفوه من الاحتيال على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخديعته، أو معاونة المشركين في إيذاء المسلمين بمكة، حيث بيتوا الشر وأضمروا الردة ؟
ليس لكم أن تختلفوا في شأنهم.. بل كان يجب عليكم- أيها المؤمنون- أن تتفقوا على القطع بكفرهم ؛ لظهور أدلة هذا الكفر وذلك النفاق.
لقد يسر الله لهؤلاء المنافقين طريق الإيمان الصادق، ولكنهم تنكبوا طريق الصواب، واختاروا الضلالة على الهدى، فسلبهم الله معونته وتوفيقه، وردهم إلى الكفر بسبب ما عملوا.
وكلمة أركسهم فيها أربعة أقوال :
١- ردهم ٢- ركست الشيء وأركسته : لغتان أي : نكسهم وردهم في كفرهم
٣- أوقعهم. ٤- أهلكهم ١.
فأما الذي كسبوا فهو كفرهم وارتدادهم.
أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ. أي : ترشدوه إلى التواب بأن يحكم لهم بحكم المؤمنين ؛ لأن قوما من المؤمنين قالوا : إخواننا وتكلموا بكلمتنا، فبين القرآن خطأ هذا الاتجاه بعد أن ظهر للعيان نفاقهم.
وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً... فإنما يضل الله الظالين. أي : يمد لهم قي الضلالة حين يتجهون هم بجهدهم ونيتهم إلى الضلالة، وعندئذ تغلق في وجوههم سبل الهداية، بما بعدوا عنها وسلكوا غير طريقها، ونبذوا العون والهدى، وتنكروا لمعالم الطريق ٢.
.
٢ في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب ٢/٧٣١.
.
أولياء : أعوانا ونصراء، توالونهم.
التفسير :
٨٩- وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... الآية يفصح القرآن عن حقيقة مشاعر هؤلاء المنافقين، فهم لم يكتفوا بكفرهم، ورجوعهم إلى الضلال، بل يتمنون أن يقضوا على معالم الحق والإيمان.
والقرآن يلمس مشاعر المؤمنين لمسة قوية، مفزع لهم وهو يقول لهم : وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء... فقد كانوا حديثي عهد بنبذ الكفر، وتذوق حلاوة الإيمان، فمن حاول أن يردهم إلى وهدة الضلال، وظلام الجاهلية ؛ وجب أن ينفروا منه، وأن يبعدوا عنه.
فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... أي : إذا كان الأمر كما علمتم ؛ فلا تتخذوا من هؤلاء المنافقين أولياء وأصدقاء، حتى يهاجروا من مكة إلى المدينة ؛ إخلاصا لله، وطلبا لمرضاته.
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ... فإن أعرضوا عن الإيمان الصادق، والهجرة الصحيحة، فذلك هو الدليل المادي على نفاقهم وخداعهم... فأسروا إن قدرتم عليهم، واقتلوهم إذا تمكنتم منهم، في أي مكان تجدونهم فيه ؛ دفعا لشرهم، وردا لكيدهم.
وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا. أي : ولا تجعلوا منهم- في هذه الحالة- وليا يتولى شيئا من مهام أموركم، ولا نصيرا تستنصرون به على أعدائكم.
إن الإسلام يتسامح مع أصحاب العقائد المخالفة له ؛ فلا يكرههم أبدا على اعتناق عقيدته، بل ويحافظ على حياتهم وأموالهم ودمائهم، وهو يمتعهم بخير الوطن الإسلامي، بلا تمييز بينهم وبين أهل الإسلام وهو يدعهم يتحاكمون إلى شريعتهم في غير ما يتعلق بمسائل النظام العام.
إن الإسلام يتسامح هذا التسامح مع مخالفته جهارا نهارا في العقيدة، ولكنه لا يتسامح مع من يقولون : إنهم يوحدون الله، ويشهدون بالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، ثم يناصرون أعداء الإسلام، وينضمون إلى معسكر الكافرين ؛ لأن في هذا خداع للإسلام والمسلمين.
ميثاق : عهد.
حضرت صدورهم : ضاقت صدورهم.
اعتزلوكم : تركوا قتالكم.
ألقوا إليكم السلم : وألقوا إليكم الانقياد والاستسلام.
التفسير :
٩٠- إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ... الآية.
استثنى الإسلام من هذا الحكم –حكم الأسر والقتل- لهذا الصنف من المنافقين، الذين يعينون أعداء الإسلام ؛ من يلجأون إلى معسكر بينه وبين الجماعة الإسلامية عهد- عهد مهادنة أو عهد ذمة-ففي هذه الحالة يأخذون حكم المعسكر الذي يلتجئون إليه ويتصلون به.
من ذلك نلمح رغبة الإسلام في السلام والوفاء، واحترام العهود والمواثيق.
فهو يجعل من يلجأ ويتصل ويعيش بين قوم معاهدين- عهد ذمة أو عده هدنة-شأنه شأن القوم المعاهدين يعامل معاملتهم ويسالم مسالمتهم.
أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ... وهذه فئة تريد أن تقف على الحياد، فيما بين قومهم وبين المسلمين من قتال ؛ إذ تضيق صدورهم أن يقاتلوا المسلمين مع قومهم، كما تضيق صدورهم أن يقاتلوا قومهم مع المسلمين ؛ فيكفوا أيديهم عن الفريقين ؛ بسبب هذا التحرج من المساس بهؤلاء أو هؤلاء.
فهؤلاء ليس للمسلمين تسلط عليهم ؛ لأن الله كف المسلمين عن قتالهم ؛ بما ألقى في قلوبهم من الميل إلى الموادعة.
وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ. أي : ولولا ذلك الذي ألقاه الله في نفوسهم ؛ من الميل إلى الموادعة، والرغبة في الحياد ؛ لكانوا قوة تضاف إلى قوة الأعداء، وتزيد في آلام المسلمين.
وهكذا يلمس النهج التربوي الحكيم نفوس المسلمين المتحمسين، الذين قد لا يرضون هذا الموقف من هذا الفريق، يلمسه بما في هذا الموقف من فضل الله وتدبيره، ومن كف لجانب من العداء والأذى، كان سيضاعف العبء على عاتق المسلمين١.
وجاء في تفسير القرطبي أن هذه الآية فيها خمس مسائل منها :
المسألة الخامسة : قوله تعالى : وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ... تسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين ؛ هو بأن يقدرهم على ذلك ويقويهم، إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي، وإما ابتلاء واختبارا كما قال تعالى : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ... ( محمد : ٣١ )، وإما تمحيصا للذنوب كما قال تعالى : وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ... ( آل عمران : ١٤١ ).
ولله أن يفعل ما يشاء، ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء، ووجه النظم والاتصال بنا قبل : أي : اقتلوا المنافقين الذين اختلفتم فيهم، إلا أن يهاجروا، وإلا أن يتصلوا بمن بينكم وبينهم ميثاق، فيدخلون فيما دخلوا فيه فلهم حكمهم، وإلا الذين جاءوكم، وقد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم ويقاتلوا قومهم، فدخلوا فيكم فلا تقتلوهم ٢
فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً.. أي : ومادام هؤلاء الذين جاءوكم متحرجين من قتالكم وقتال قومهم، وقد اختاروا العزلة وعدم القتال، وسارعوا إلى السلم والمسالمة فليس لكم عليهم- أيها المسلمون-أي سبيل أو أدني تسلط.
قال ابن كثير : أي : فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعباس ونحوه، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره٣.
.
٢ الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي ٥/٣١٠.
.
٣ )) تفسير ابن كثير ١/٥٣٣.
.
أركسوا : انقلبوا.
ثقفتموهم : وجدتموهم.
سلطانا مبينا : حجة ظاهرة.
التفسير :
٩١- سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ... ينبه الله- سبحانه- المسلمين في هذه الآية الكريمة إلى طائفة أخرى من المنافقين يلقون المسلمين بوجه، ويلقون كفار قومهم بوحه آخر... يقصدون بذلك أن يظفروا بالأمن من الجانبين، و هذا الفريق من المنافقين لا يترك قتال المسلمين تحرجا، ولكن يتركه مراوغة لتحقيق مآربه.
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ..
قال ابن جرير الطبري : وهؤلاء فريق آخر من المنافقين كانوا يظهرون الإسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؛ ليأمنوا به عندهم من القتل والسباء، وأخذ الأموال، وهم كفار، يعلم ذلك منهم قومهم، إذا لقوهم كانوا معهم، وعبدوا ما يعبدونه من دون الله، ليأمنوهم على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم يقول الله :
كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا... يعني : كلما دعاهم قومهم إلى الشرك بالله، ارتدوا فصاروا مشركين مثلهم ١
كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا..
أركسوا فيها... أي : انهمكوا فيها والفتنة هنا بمعنى الشرك، حكى ابن جرير عن مجاهد : أنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، ويعودون إلى عبادة الأصنام، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا ؛ فأمر يقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا٢.
فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ... أي : فإن لم يجتنب هؤلاء قتالكم، ويطلبوا الصلح معكم، ويمدوا يد السلام والأمن إليكم، ويكفوا شرهم وأذاهم عنكم، ويقفوا موقف الحياد ويعلنوه- فخذوهم بالقوة أسرى لديكم، واقتلوهم في أي مكان تدركونهم وتظفرون بهم عنده، ( فإن دماءهم لكم حينئذ حلال ) ٣.
أولائكم جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا... والسلطان المبين. أي : هؤلاء المنافقون : قد جعل الله لكم الحجة الواضحة على جواز أخذهم وقتلهم، بسبب ظهور عدوانهم لكم، وانكشاف حالهم في الكفر والغدر بكم، والخيانة والكيد لكم.
.
٢ )) تفسير الطبري تحقيق محمود شاكر ٩/٢٧ وفيه أيضا والفتنة في كلام العرب: الاختبار. والإركاس: الرجوع: فتأويل الكلام: كلما ردوا إلى الاختبار؛ ليرجعوا إلى االكفر والشرك؛ رجعوا إليه. تفسير الطبري ٩/٢٨.
.
٣ الطبري ٩/٢٩.
.
فتحرير رقبة : فعتق رقبة
يصدقوا : يتصدقوا بالدية، بالتنازل عنها.
ميثاق : عهد.
التفسير :
٩٢- وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا.. أي : وما أذن الله لمؤمن ولا أباح له أن يقتل مؤمنا يقول : ما كان ذلك له فيما جعل له ربه، وأذن له فيه من الأشياء البتة ١
لقد حرص الإسلام على حفظ العقول والأعراض والأموال والأرواح وقد حرم الله قتل النفس. في الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :'' ولا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة'' ٢.
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا... أي : وما صح وما استقام لمؤمن صادق الأيمان، فيما أتاه ربه في شريعة الإسلام، أن يقتل إنسانا مؤمنا بغير حق إلا خطأ.
وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ... أي : ومن وقع منه القتل الخطأ، فالجواب عليه في هذه الحالة أن يعتق نفسا مؤمنة، وان يؤدي إلى ورثة القتيل دية يقتسمونها كما يقتسمون الميراث، والدية عوض عن دم القتل، وهي مائة من الإبل او قيمتها بالدراهم أو الدنانير، وقد قدرها عمر رضي الله عنه بألف دينار على من يتعاملون بالذهب، واثني عشر ألف درهم على من يتعاملون بالفضة.
روى أبو داود عن عمر رضي الله عنه :( على أهل الإبل مائة بدنة، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل الشاة ألف شاة، وعلى أهل الحلل مائتا حلة ) وتتحمل عشيرة القاتل عنه دفع الدية، فإن لم تكن له عاقلة ؛ وجبت على بيت المال، فإن لم تكن فيه ؛ وجبت في مال القاتل، ولا تسقط هذه الدية، إلا في حال تنازل أهل القتيل عنها، وهذا التنازل نوع من المعروف وكل معروف صدقة ٣
قال تعالى : إلا ان يصدقوا. أي تجب الدية إلا أن يعفو أهل القتيل بالتنازل عنها تطوعا وصدقة، هذا إذا كان المقتول خطأ مؤمنا : من قوم مؤمنين.
فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ... أي : فإن كان المقتول خطأ من قوم كفار معادين للمؤمنين- وهو مؤمن- فالواجب في هذه الحالة، عتق رقبة مؤمنة، وفكاكها من قيد الرق، وإطلاق حريتها ؛ كفارة عن هذا القتل الخطأ، ولا دية... لأنها تعود على أعداء المسلمين المحاربين، ولا يجوز أن يدفع المسلمون أموالهم إلا عدوهم ؛ ليتقوى عليهم بسببها، ويحاربهم بها.
روى ابن جرير الطبري عن قتادة : فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ. ولا دية لأهله ؛ من أجل أنهم كفارا، وليس بينهم وبين الله عهد ولا ذمة.
وعن ابن عباس قال : كان الرجل يسلم ثم يأتي قومه فيقيم فيهم وهم مشركون، فيمر بهم الجيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتل فيمن يقتل، فيعتق قاتله رقبة ولا دية له.
وقال آخرون : بل عني به الرجل من أهل الحرب، يقدم دار الإسلام فيسلم، ثم يرجع إلى دار الحرب، فإذا مر بهم الجيش من أهل الإسلام هرب قومه، وأقام ذلك المسلم منهم فيها، فقتله المسلمون وهم يحسبونه كافرا.
روى الطبري في رواية أخرى عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى : فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ. هو المؤمن يكون في العدو من المشركين، يسمعون بالسرية من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فيفرون، ويثبت المؤمن فيقتل، ففيه تحرير رقبة مؤمنة ٤.
والروايات متقاربة في المعنى، وكلها تثبت معنى الآية أوة الفقرة من الآية.
قال ابن كثير :
أي : إذا كان القتيل مؤمنا ولكن أولياءه من الكفار أهل حرب فلا دية لهم، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة ولا غير.
وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً... أي : وإن كان المقتول خطأ، من قوم كفار بينكم- أيها المسلمون- وبينهم عهد وميثاق، وليسوا أعداء لكم ؛ فالواجب-في هذه الحالة- المبادرة بأداء دية تسلم إلى أهل القتيل ؛ تعويضا عن دمه، كما يجب-كذلك- عتق نفس مؤمنة ؛ لأن دماء هؤلاء قد عصمت بحكم ما بينهم مبين المسلمين من ذمة وميثاق.
وقد روى ابن جرير الطبري : أن أهل التأويل اختلفوا في صفة القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق، أهو مؤمن أو كافر ؟ فقال بغضهم : هو كافر إلا أنه لزمت قاتله ديته ؛ لأن له ولقومه عهدا، فوجب أداء ديته إلى قومه ؛ للعهد الذي بينهم وبين المؤمنين، وأنها مال من أموالهم ولا يحل للمؤمنين شيء من أموالهم بغير طيب أنفسهم، وقال آخرون : بل مؤمن فعلى قاتله دية يؤديها إلى قومه من المشركين ؛ لأنهم أهل ذمة.
وعلق الطبري على القولين بقوله :
وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية، قوله : من قال عني بذلك المقتول من أهل العهد ( سواء أكان مؤمنا أم كافرا ) لان الله أبهم ذلك، ولم يقل وهو مؤمن، فكان في تركه وصفه بالإيمان الذي وصف به القتيل الماضي ذكره قبل، الدليل الواضح على صحة ما قلنا، فإن ظن ظان أن في قوله تبارك وتعالى : فدية مسلمة إلى أهله. دليلا على أنه من أهل الإيمان ؛ لأن الدية عنده لا تكون إلا لمؤمن، فقد ظن خطأ ؛ وذلك أن دية الذمي وأهل الإسلام سواء ؛ لإجماع جميعهم على أن ديات عبيدهم الكفار، وعبيد المؤمنين من أهل الإيمان سواء. وذهب قوم إلى أن ديات أهل العهد والميثاق على النصف أو على الثلث من ديات أهل الإيمان، قال الطبري : والراجح أن دياتهم وديات المؤمنين سواء ٥.
وقال الإمام ابن كثير في تفسيره :
وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ... أي : فإن كان القتيل، أولياؤه أهل ذمة أو هدنة، فلهم دية قتيلهم، فإن كان مؤمنا ؛ فدية كاملة، وكذا إن كان كافرا أيضا ؛ عند طائفة من العلماء، وقيل : يجب في الكافرنصف دية المسلم، وقيل ثلثها ؛ كما هو مفصل في كتاب الأحكام، ويجب أيضا على القاتل تحرير رقبة مؤمنة٦
وفي التفسير الوسيط ما يأتي :
وفي هذا القسم من أقسام القتل الخطأ، لم يوصف المقتول بالإيمان أو الكفر ؛ مما يشعر بأن وجود عهد وذمة بين المسلمين، يسوى بين الجميع في الدية والفدية، وبذلك يرتفع الإسلام إلى أعلى مستوى من رعاية حقوق المعاهدين والذميين، وهو تشريع في رعاية العهد، وحرمة الدم ولا يسامى أبدا، و حرمة الدم الإنساني واضحة في إيجاب عتق الرقيق في جميع حالات القتل ٧.
فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ... أي : فمن لم يجد الرقيق بأن لم يملكه، ولا يملك ما يوصله إليه ؛ بأن عجزعن ثمنه، أو عجز عن شرائه مع اليسار بثمنه، فالواجب على القاتل في هذه الحالة الانتقال إلى البدل، وهو صيام شهرين متتابعين : لا يقع بين أيامهما إفطار بغير عذر يبيح الفطر.
قال بن كثير : فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ... أي : لا إفطار بينهما بل يسرد صومهما إلى آخرهما، فإن أفطر من غير عذر من مرض، أو حيض، أو نفاس ؛ استأنف ؛ واختلفوا في السفر هل يقطع أم لا على قولين..
توبة من الله... يعني : تجاوزا من الله لكم ؛ إلى التيسير عليكم بتخفيفه ما خفف عنكم، من فرض تحرير الرقبة المؤمنة إذا أعسرتم بها، بإيجابه صوم شهرين متتابعين ٨ والصوم المتتابع فيه قمع الشهوة، وإظهار التوبة، وصفاء النفس، و إظهار الأدب بامتثال أمر الله وطاعة أمره.
وقال ابن كثير في تفسير الآية :
واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام ؛ هل يجب عليه إطعام ستين مسكينا كما في كفارة الظاهر، على قولين :
أحدهما : نعم، كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار، وإنما لم يذكر ههنا ؛ لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير ؛ فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام، لما فيه من التسهيل و الترخيص.
والقول الثاني : لا يعدل إلى الطعام ؛ لأنه لو كان واجبا لما أخر بيانه عن وقت الحاجة.
وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا... أي : كان الله ولا يزال، عظيم العلم بما يصلح عباده، فيما يكلفهم من فرائضه ؛ بالغ الحكمة في كل ما يشرعه من الأحكام.
.
٢ )) لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى:
رواه البخاري في الديات ح ٦٣٧٠، ومسلم في القسامة ٣١٥٧، ٣١٦٧ والترمذي في الديات ح ١٣٢٢ وفي الحدود ح ١٣٦٤ والنسائي في تحريم الدم ح ٣٩٥١، وفي القسامة ح ٤٦٤٢، وأبو داود في الحدود ح ٣٧٨٨، وابن ماجه في الحدود ح ٢٥٢٥، وأحمد ح ٣٤٣٨، ٣٨٥٩، ٤٠٢٤، والدرامي في الحدود ح ٢١٩٦.
.
٣ على أهل الإبل مائة بدنة:
رواه أبو داود في الديات (٤٥٤٢) من حديث عمرو ين شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين قال: فكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر رحمه الله فقام خطيبا فقال: ألا إن الإبل قد غلت قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنى عشر ألفا وعلى أهل البقرمائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة قال: وترك دية الذمة لم يعرفعها فيما رفع من الدية.
.
٤ تفسير الطبري تحقيق محمود شاكر ٩/٤٠.
.
٥ تفسير الطبري تحقيق محمود شاكر ٩/٤٤، ٤٣ باختصار وتصرف.
.
٦ تفسير ابن كثير ١/٥٣٥.
.
٧ التفسير الوسيط: مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الحزب العاشر ص ٨٨١.
.
٨ تفسير الطبري تحقيق محمود شاكر ٩/٥٦.
.
خالدا فيها : ماكثا مكثا طويلا.
التفسير :
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا... أي : ومن يقتل مؤمنا قاصدا قتله ؛ فجزاؤه الذي يستحقه على اقتراف تلك الجريمة الشنيعة، دخول جهنم ماكثا فيها مكثا طويلا، إلى أن يشاء الله إخراجه من النار فيخرجه منها ؛ إذ ليس المراد من الخلود هنا دوام البقاء في جهنم أبدا ؛ فإن الخلود فيها أبدا جزاء الكافرين.
وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ.. أي : وانتقم منه، وأبعده سبحانه عن رحمته..
وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا... أي : وقد هيأ الله في جهنم لمن تعمد قتل المؤمن، عذابا رهيبا، لا يدرك الإنسان غايته لشدة بشاعته.
قال الإيمام ابن كثير في تفسيره :
وهذه الآية تهديد شديد، ووعيد أكيد، لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك في غير ما آية، في كتاب الله حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان : وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ. ( الفرقان : ٦٨ ).
وقال تعالى : قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. ( الأنعام : ١٥١ )
و الآيات و الأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا فمن ذلك ما ثبث في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :( ( أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء ) ) ١.
ورو أبو داود عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم ) ) ٢.
وفي الحديث الآخر ( ( لو اجتمع أهل السموات و الأرض على قتل رجل مسلم لأكبهم الله في النار ) ) ٣.
وفي الحديث الآخر :( ( من أعان علي قتل مسلم ولو بشطر كلمة ؛ جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه : آيس من رحمة الله ) ) ٤.
من تفسير الطبري :
ساق الطبري عدة آراء في صفة القتل الذي يستحق صاحبه أن يسمى متعمدا.
فقال بعضهم : العمد ما كان بحديدة، وشبه العمد ما كان بخشبة، وقال آخرون : كل ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد، إذا كان الذي ضرب به الأغلب منه أن يقتل، وقد رجح الطبري هذا الرأى.
وأما قوله : فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا.
فقد اختلف أهل التأويل في معنى هذه الجملة.
١- فقال بعضهم : معناه : فجزاؤه جهنم إن جازاه الله وإن شاء تجاوز عنه.
٢- وقال آخرون : عني بذلك رجلا بعينه كان أسلم فارتد عن إسلامه وقتل رجلا مؤمنا قالوا : فمعنى الآية : ومن قتل مؤمنا مستحلا قتله ؛ فجزاؤه جهنم خالدا فيها.
وقد ساق الطبري أحاديث تثبت ذلك، وفيها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :''أظنه قد أحدث حدثا، أما والله لئن كان فعل ؛ لا أقيله في حل ولا حرم ولا سلم ولا حرب ؛ فقتل يوم الفتح''٥ قال ابن جريج وفيه نزلت هذه الآية، وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا.
٣- وقال آخرون : معنى ذلك : إلا من تاب.
. قال مجاهد في هذه الآية : إلا من ندم
٤-وقال آخرون : ذلك إيجاب من الله الوعيد لقاتل المؤمن متعمدا، كائنا من كان القاتل، على ما وصفه في كتابه، ولم يجعل له توبة من فعله، قالوا : فكل قاتل مؤمن عمدا، فله ما أوعده الله من العذاب والخلود في النار، ولا توبة له، وقالوا : نزلت هذه الآية بعد التي في سورة الفرقان.
وفي الحديث الصحيح ٦ الذي رواه الإمام أحمد، ورواه الإمام البخاري، والامام مسلم، أن رجلا قال ابن عباس- بعد أن كف بصره- أفريت إن تاب قاتل المؤمن عمدا، وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس ثكلته أمه ! وأنى له التوبة ؟ فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : ثكلته أمه قتل رجلا متعمدا ؛ جاء يوم القيامة آخذا بيمنه أو بشماله، تشجب أوداجه دما، في قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بيده الأخرى يقول : سل هذا فيم قتلني ؟ ! والذي نفس عبد الله بيده، لقد أنزلت هذه الآية، فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم وما نزل بعدها برهان ٧.
وقد وردت عدة آثار في هذا المعنى، تفيد أن عبد الله بن عباس قال في شأن هذه الآية، التي تحدثت عن جزاء قتل المؤمن عمدا : لقد نزلت في آخر ما نزل من القرآن، وما نسخها شيء. وعن الضحاك بن مزاحم قال : ما نسخها شيء منذ نزلت، وليس له توبة.
قال الطبري :
وأولي الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال : معناه :
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه- إن جزاه- جهنم خالدا فيها ؛ ولكنه يعفو ويتفضل على أهل الإيمان به و برسوله، فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه- عز ذكره- إ ما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إياها ثم يخرجه منها ؛ بفضل رحمته لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله : قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا. ( الزمر : ٥٣ ).
لقد قال تعالى عن المشرك : إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء.
( النساء : ١١٦ ).
والقتل دون الشرك.
تعقيب على الآية.
بعض الناس يستدل بهذه الآية على أن مرتكب الكبيرة في النار.
قال ابن كثير في تفسيره :
والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها : أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل، فإن تاب وأناب، وخشع وخضع وعمل عملا صالحا، بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته، وأرضاه عن طلابته قال تعالى :
والذين لا يدعون مع الله إلها ءاخر... إلى قوله... إلا من تاب وءامن وعمل عملا صالحا... وهذا خبر لا يجوز نسخه وحمله على المشركين، وحمل هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا... على المؤمنين خلاف الظاهر، ويحتاج حمله إلى دليل، والله أعلم.
وقال تعالى : إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء. ( النساء : ١١٦ ).
فهذه الآية عامة في جميع الذنوب، ما عدا الشرك.
وثبت في الصحيحين : خبر الإسرائلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالما : هل لي من توبة فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ! ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه ؛ فهاجر إليه فمات في الطريق فقبضته وملائكة الرحمة. ٨.
وإذا كان هذا في بني إسرائيل، فلأن يكون في هذه الأمة ؛ التوبة مقبوله بطريق الأولى والأحرى ؛ لأن الله وضع عنا الآصار والأغلال ؛ التي كانت عليهم، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة٩
رواه البخاري في الرقاق (٦٥٣٣) وفي الديات (٦٨٦٤) ومسلم في القسامة (١٦٧٨) والترمذي في الديات (١٣٩٧) والنسائي في تحريم الدم (٣٩٩٣) وابن ماجه في الديات (٢٦١٧، ٢٦١٥) وأحمد في مسنده (٤٢٠١، ٣٦٦٥) من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أول ما يقضي بين الناس بالدماء.
.
٢ لزوال الدنيا أهون:
رواه الترمذي في الديات (١٣٩٥) والنسائي في تحريم الدم (٣٩٩٧) من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم. ثم رواه الترمذي موقوفا وقال: وهذا أصح من حديث ابن أبي عدي- يعني الموقوف-.
ورواه ابن ماجه في الديات (٢٦١٩) من حديث البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق.
.
٣ لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم:
قال السيوطي في الدر: وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس قال: "قتل بالمدينة قتيل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم من قتله، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: أيها الناس قتل قتيل و أنا فيكم ولا نعلم من قتله، ولو اجتمع أهل السماء والأرض على قتل امرئ لعذبهم الله إلا أن يفعل ما يشاء".
.
٤ من أعان على قتل مسلم:
رواه ابن ماجه في الديات (٢٦٢٠) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله. قال البوصيري في الزوائد: في إسناده يزيد بن أبي زياد، بالغوا في تضعيفه، حتى قيل: كأنه حديث موضوع. وقال الزيلعي في نصب الراية: وهو حديث ضعيف.
قال السيوطي في الدر: وأخرج ابن عدي والبيهقي في البعث عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة: آيس من رحمة الله". وقال الهيثمي في المجمع: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شرك في دم حرام بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله. رواه الطبراني وفيه عبد الله بن خراش ضعفه البخاري وجماعة ووثقه ابن حبان وقال: ربما أخطأ، وبقية رجاله ثقات.
.
٥ أظنه قد أحدث حدثا:
قال السيوطي في الدر: أخرج ابن جريح وابن المنذر من طريق ابن جريح عن عكرمة "أن رجلا من الأنصار قتل أخا مقيس بن ضبابة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الدية فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله. قال ابن جريج، وقال غيره: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ديته على بني النجار، ثم بعث مقيسا، وبعث معه رجلا من بني فهر في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم، فاحتمل مقيس الفهري- وكان رجلا شديدا- فضرب به الأرض، ورضخ رأسه بين حجرين، ثم ألقى يتغنى: قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بن النجار أرباب قارع فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أظنه قد أحدث حدثا، أما والله لئن كان فعل لا أومنه في حل ولا حرم، ولا سلم ولا حرب، فقتل يوم الفتح. قال ابن جريج: وفيه نزلت هذه الآية ﴿ومن يقتل مؤمنا متعمدا..﴾ الآية.
.
٦ ثكلته أمه قتل رجلا متعمدا:
رواه أحمد في مسنده (٢٦٧٨، ٢١٤٣) والترمذي في تفسير القرآن (٣٠٢٩) والنسائي في تحري الدم (٣٩٩٩) وفي القسامة (٤٨٦٦) من حديث ابن عباس أن رجلا اتاه فقال: أرأ يت رجلا قتل رجلا متعمدا قال: ﴿جزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما﴾ قال: لقد أنزلت في آخر ما نزل ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نزل الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال: وأنى له بالتوبة وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ثكلته أمه رجل قتل رجلا متعمدا يجئ يوم القيامة آخذا قاتله بيمنه أو بيساره و آخذا رأسه بيمينه أو شماله تشخب أوداجه دما في قبل العرش يقول: يا رب سل عبدك فيم قتلني. وقال الترمذي: حديث حسن.
.
٧ تفسير الطبري تحقيق محمود شاكر٩/٦٣ قال: رواه احمد في المسند برقم ٢١٤٢ بطوله وهو حديث صحيح، وقوله (تشخب أوداجه دما) أي تسيل دما له صوت في خروجه، مثل صوت الحالب لضرع الشاة (والأوداج) جمع ودج بفتحتين، وهي العروق التي تكتنف الحلقوم وما أ حاط بالعنق من العروق التي يقطعها الذابح (قبل) بضمتين ما يستقبلك من شيء، ويعني به: ما بين يدي العرش ومعنى (وما نزل بعدها من برهان) أي: ما جاء نبي عد نبيكم، ولا نزل كتاب بعد كتابكم.
.
٨ أن رجلا قتل مائة نفس:
رواه البخاري في الأنبياء باب: (أم حسبت ان أصحاب الكهف والرقيم} (٣٢٨٣) مسلم في التوبة باب قوله تعالى: ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات﴾ (٢٧٦٦) وابن ماجه في الديات باب هل لقاتل مؤمن توبة؟ (٢٦٢٢).
.
٩ تفسير ابن كثير ١/ ٥٣٧.
.
ضربتم في سبيل الله : سافرتم للغزو.
فتبينوا : فاطلبوا بيان الأمر والكشف عنه وتثبتوا.
ألقى إليكم السلام : حياكم بتحية الإسلام.
تبتغون عرض الحياة الدنيا : تطلبون متاعها الزائل، ونعيمها الفاني : من مال وغيره.
التفسير :
٩٤- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ... حرص الإسلام على حفظ الأعراض والأموال والدماء والعقول.
وقد ورد في كتب الصحيح وغيرها أسباب نزول هذه الآية وموجزها : أن أحد المسلمين كان في سرية للجهاد فتفرق الأعداء، وبقي رجل في غنمه فلما أدركه المسلم، قال الرجل : السلام عليكم إني مسلم، فقتله المسلم، واستاق ماله ؛ فنزلت هذه الآية، تأمر بالتثبيت والتروي وعدم التسرع في قتل إنسان بعد إعلان إسلامه ؛ إذ ربما كان الدافع الرغبة في ماله وفي عرض الحياة الدنيا.
وقد ساق ابن جرير الطبري ثماني عشرة رواية في سبب نزول هذه الآية، منها : ما يفيد أن القاتل هو أسامة بن زيد، والقتيل هو مرادس بن نهيك، ومنها : ما يفيد أن القاتل هو المقداد بن الأسود، ومنها : ما يفيد أن القاتل غيرهما ويمكن الجمع بينهما بتعدد الأحداث ونزول الآية عقب منها.
وقد وردت روايات بهذا المعنى في البخاري والترمذي، والحاكم، وغيرهم.
وجاء في تفسير مقاتل بن سليمان ما يأتي :
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضمرة، فلقوا رجلا منهم يدعى مرادس ابن نهيك معه غنمه له وجمل أحمر، فلما رآهم أوى إلى كهف جبل، واتبعه أسامة، فلما بلغ مرادس الكهف، وضع فيه غنمه، ثم أقبل إليهم فقال :'' السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله'' فشد عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنمه، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ؛ قال لأسامة :''كيف أنت ولا إله إلا الله ! '' قال : يا رسول الله، إنما قالها متعوذا، تعوذ بها.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :''هلا شققت عن قلبه فنظرت إليه ؟ '' قال : يا رسول الله إنما قلبه بضعة من جسده ١ ؛ فأنزل الله خبر هذا، وأخبره إنما قتله من أجل جمله وغنمه فذلك حين يقول : تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...
فلما بلغ فمن الله عليكم : أي : فتاب الله عليكم ؛ حلف أسامة أن ألا يقاتل رجلا يقول : لا إله غلا الله بعد ذلك الرجل، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ٢.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... يأيها الذين صدقوا الله وصدقوا رسوله فيما جاءهم به من عند ربهم، إذا سيرتم مسيرة لله في جهاد أعدائكم.
فتبينوا. فتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره ؛ وابحثوا عن الحقيقة، وتثبتوا من حال من تقاتلونهم، ولا تقدموا على قتل أحد، إلا إذا علمتموه يقينا حربا لكم ولله ولرسوله.
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ... ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم، مظهرا لكم أنه من أهل ملتكم ودعوتكم.
لست مؤمنا... أي : إنك إنما أظهرت الإسلام، طلبا للنجاة، بنفسك ومالك، ولست مخلصا في إسلامك. وفي الأثر : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد بن الأسود :''كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة من قبل ! '' ٣.
تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. تريدون متاع الحياة الدنيا بالاستلاء على مال الرجل وهو متاع قليل زائل.
فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ. من رزقه وفواضل نعمه فهي خير لكم إن أطعتم الله فيما أمركم به ونهاكم عنه.
كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْل. ُ كفارا مثلهم، أو تستخفون بدينكم كما استخفى هذا الذي قتلتموه وأخذتم ماله.
فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ. أي : هداكم الله إلى الإسلام، أو إعلان الإيمان، أو التوبة على الذي قتل ذلك الرجل، فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم.
فَتَبَيَّنُواْ. تكرير للأمر بالتبيين ؛ ليؤكد عليهم.
إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا. فيعلم ما تخبئه النفوس، وتضمره القلوب، وبواعثها على العمل وغايتها التي لا تنكشف للناس.
.
٢ هلا شققت عن قلبه:
رواه البخاري في المغازى (٤٢٦٩) وفي الديات (٦٨٧٢) ومسلم في الإيمان (٩٦) وأبو داود في الجهاد (٢٦٤٣) وأحمد في مسنده (٢١٢٣٨) من حديث أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله قلت: كان متعوذا فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
.
٣ كان رجل مؤمن يخفي إيمانه:
رواه البخاري في الديات (٦٨٦٥) المقداد بن عمرو الكندي حليف بني زهرة، وكان شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: رسول الله إني لقيت كافرا فاقتتلنا فضرب يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة وقال: أسلمت لله آقتله بعد أن قالها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله قال: يا رسول الله فإنه طرح إحدى يده ثم قال ذلك بعد ما قطعها آقتله قال: لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال وقال حبيب بن أبي عمرة: عن سعيد عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم للمقداد: إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل.
.
القاعدون : المتخلفون عن الجهاد.
أولي الضرر : أصحاب الأمراض والعاهات.
التفسير :
٩٥- لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ... الآية. بين الله سبحانه فضل الجهاد ومنزلة المجاهدين، وصرف القول، وسلك العديد من الطرق ؛ لبيان فضيلة هذه الفريضة.
وقد بين هنا فضل المجاهدين على القاعدين، وهو أمر معروف لأول وهلة، ولكنه ساقه هنا ؛ ليحفز به القاعدين، ويبعث الهمم فيهم إلى الرغبة في الجهاد، وقد ورد في كتب السنة وصحيح البخاري أمر خاص يتصل بهذه الآية ؛ ودقة هذا الكتاب، والحكمة في نزوله منجما ؛ حتى يرعى مصالح البشر.
روى البخاري عن زيد بن ثابت : أن النبي صلى الله عليه وسلم أملى عليه :
لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ. فجاء ابن أم مكتوم وهو يملها علي قال : يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد معك لجاهدت- وكان أعمى- فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سرى عنه فأنزل الله : غير أولي الضرر. ١.
أي : لا يستوي المتخلفون من المؤمنين الأصحاء، الذين قعدوا عن الخروج للجهاد ؛ بدون عذر أو مرض أو غير ذلك لا يستوي هؤلاء، والذين خرجوا للجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم في الأجر والثواب، وعلو الدرجة عند الله تعالى.
وكيف يستوي من تخلف- بدون أعذار- مع الذين بذلوا أرواحهم راضين صابرين ؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى ؟ !
جاء في زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي :
قوله تعالى : لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ. يعني : عن الجهاد، والمعنى : أن الجهاد أفضل، قال ابن عباس :
وأريد بهذا الجهاد غزوة بدر ٢ وقال مقاتل : غزاة تبوك والضرر.
والضرر : هو العذر الذي يمنع صاجبه من الجهاد.
وقال بعضهم : هو العجز بالزمانة والمرض.
وقال ابن عباس : هم قوم كانت تحبسهم عن الغزاة أمراض وأوجاع
وقال الزجاج : الضرر : أن يكون ضريرا وأعمى أو زمنا.
َفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. أي : فضل الله المجاهدين، الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله، لإعلاء كلمة الحق، ابتغاء مرضاة الله، على الذين قعدوا عن الجهاد بغير عذر درجة عظيمة لا يعلم قدرها إلا الله.
وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى... أي : وكلا من فريقي المجاهدين والقاعدين من المؤمنين، وعده الله المثوبة الحسنى وهي الجنة ؛ لتحقق الإيمان الصادق فيهما.
قال ابن كثير : وفيه دليل على ان الجهاد ليس بفرض عين. بل فرضه على الكفاية ٣.
وفي هذه الأيام صار الجهاد فنا من الفنون المعقدة، فالمقاتل يحتاج إلى جهود كثيرة لدراسة فنون السلام والمناورة، أو الطيران أو الإشارة أو حل رموز الشفرة.
ولا يباح لمن كان عليه دور معين، أن يتخلف عن القتال بدون عذر ؛ فقد توعد الله الفار من الزحف بالغضب والعذاب.
قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَار، َ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير. ُ ( الأنفال : ١٥-١٦ ).
وفضل اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. فيه تأكيدا لمزيد أجر المقاتلين، وزيادة درجاتهم لمسارعتهم لتنفيذ أمر الله، واستجابتهم لنداء الله.
وقال تعالى : إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. ( التوبة : ١١١ ).
.
٢ البخاري ٨/١٩٧.
.
٣ تفسير ابن كثير ١/٥٤١.
.
وهذه الآية مفسرة للأجر العظيم في الآية السابقة والمراد بالدرجات درجات الجنة.
روى البخاري ٦/٩، ١٣/٣٤٩ عن أبي هريرة مرفوعا :'' إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض'' ١.
وروى مسلم ٣/١٥٠١ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :''يا أبا سعيد، من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ؛ وجبت له الجنة '' فعجب لها أبو سعيد فقال : أعدها على يا رسول الله ! ففعل، ثم قال ''وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، قال وما هي يا رسول الله ؟ قال : الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله ٢.
وقال ابن زيد : الدرجات : هي السبع التي ذكرها الله تعالى في براءة حين قال : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ. ( التوبة : ١٢٠-١٢١ ).
وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا... أي : كان ولا يزال على الدوام، عظيم الغفران لذنوب عباده، واسع الرحمة بكل شيء.
فإن قيل : ما الحكمة من أن الله تعالى ذكر في أول الكلام درجة وفي آخره درجات ؟ فعنه جوابان :
١- أن الدرجة الأولى تفضيل المجاهدين على القاعدين من أولى الضرر ؛ منزلة، والدرجات تفضيل المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر ؛ منازل كثيرة، وهذا معنى قول ابن عباس.
٢- أن الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم، والدرجات منازل الجنة ٣
جزء من حديث، رواه البخاري في الجهاد والسير ح ٢٧٩٠، وفي التوحيد ح ٧٤٣٢، وأحمد ح ٧٨٦٣، ٨٢١٤، ٨٢٦٩، من حديث أبي هريرة مرفوعا: من آمن بالله وبرسوله... الحديث. ورواه الترمذي أيضا في صفة الجنة ح ٢٥٢٩، وأحمد ح ٢١٥٨٢، من حديث معاد بن جبل مرفوعا: من صام رمضان و صلى الصلوات... الحديث. ورواه الترمذي أيضا في صفة الجنة ح ٢٥٣٠، وأحمد ح ٢٢١٨٧، ٢٢٢٣٢، من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: في الجنة مائة درجة... الحديث. وأشار الترمذي إلى أن حديث معاذ أصح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنهما.
.
٢ يا أبا سعيد من رضي بالله ربا
تقدم ص ٧٦.
.
٣ زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، المكتب الإسلامي ٢/١٧٦.
.
٩٧- إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ... تبين هذه الآ ية موقف المسلمين الذين تخلفوا عن الهجرة من مكة إلى المدينة، مع قدرتهم على هذه الهجرة.
وقد ورد في كتب التفسير : أنها تشير إلى جماعة من المنافقين.
جاء في تفسير ابن كثير عن الضحاك : نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب، فنزلت هذه الآية الكريمة عامة، في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع، وبنص هذه الآية.
وجاء في تفسير الطبري، عدد من الآثار في سبب نزول هذه الآية، تفيد هذه الآثار في جملتها : أن الآية نزلت فيمن تخلف عن الهجرة ؛ وآثر البقاء في دار الكفر.
عن ابن عباس قال :
كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم ؛ فقال المسلمون :''كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا ! فاستغفروا لهم'' فنزلت : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ. الآية.
قال : فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية وأنه لا عذر له.
قال : فخرجوا من مكة فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة١ فنزلت فيهم : وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ. ( العنكبوت : ١٠ )
فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا وأيسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم : ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ. ( النحل : ١١٠ )، فكتبوا إليهم بذلك ''إن الله قد جعل لكم مخرجا'' فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل٢.
ِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ.. أي : تتوفاهم.
ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ... أي : في حال ظلمهم لأنفسهم حيث أسلموا وآثروا البقاء بين ظهراني المشركين في دار الكفر، وتحملوا الذل والهوان والقهر- وهم قادرون على التخلص مما هم فيه-من كبت وإذلال –إلى بلد يأمنون فيه على دينهم وأموالهم وأنفسهم.
إن هؤلاء حين تقبض الملائكة أرواحهم، أي : ملك الموت وأعوانه.
قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ. أي : في شيء كنتم من أمر دينكم الذي يأمركم بالهجرة، والمراد : لم مكثتم هنا وتركتم الهجرة، قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ. قالوا : معتذرين في وقت لا ينفع فيه الاعتذار : كنا نعيش مقهورين تحت أيدي الكفار ؛ لا نقدر على الخروج من مكة، ولا للذهاب في الأرض.
قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا... أي : إن عذركم عن ذلك التقصير غير مقبول، حيث كان في إمكانكم الهجرة إلى الحبشة أو إلى المدينة، واللحاق بإخوانكم المهاجرين، والانضمام إلى صفوفهم، ليزدادو بكم قوة ومنفعة.
من تفسير الزمخشري :
وفي هذه الآية دليل على أن الرجل إذا كان في بلد يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب، والعوائق عن إقامة الدين، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله، وأدوم على العبادة، حقت عليه المهاجرة.
اللهم، إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني ؛ فاجعلها سببا في خاتمة الخير، وادرك المرجو من فضلك، والمبتغى من رحمتك، وصل جواري لك، بعكوفي عند بيتك، بجوارك في دار كرامتك يا واسع المغفرة٣.
فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا.. أي : فجزاء هؤلاء الذين تخلفوا عن الهجرة أن يكون مسكنهم جهنم ؛ لتركهم الفريضة المحتومة _فقد كانت الهجرة واجبة في صدر الإسلام _أو لنفاقهم وكفرهم، ونصرتهم أعداء الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ٤.
.
٢ تفسير الطبري تحقيق محمود شاكر، ٩/١٠٣ وأفاد أن هذا الأثر خرجه ابن كثير في تفسير ٢/٥٥٢، وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢/٢٠٥، وهو في السنن الكبري للبيهقي ٢/١٤، وقد رأى المحقق محمود شاكر توثيق رواة هذا الأثر.
.
٣ تفسير الكشاف ١/٢٩٣، وهو دعاء عالم آثر جوار الله في البيت الحرام؛ حتى سمى جار الله.
.
٤ تفسير الألوسي: روح المعاني ٥/١٢٦.
.
مستضعفين : عاجزين عن القيام بما وجب عليهم.
والولدان : الصغار أو المراهقين أو الأرقاء.
لا يستطيعون حيلة : لا يجدون سببا موصلا إلى الغرض.
التفسير :
٩٨_ إلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً.
هذا عذر من الله لهؤلاء المستضعفين في ترك الهجرة ؛ لأنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين أي : لكن الضعفاء من الرجال و النساء والوالدين أي : الأطفال والمراهقين الذين لا يقدرون على حيلة في الخروج من مكة، ولا على نفقة ولا قوة.
وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً.. أي : لا يعرفون الطريق إلى المدينة.
أو لا يعرفون طريقا يتوجهون إلى إن خرجوا هلكوا ١.
.
قال الألوسي : وفيه دليل على أن ترك الهجرة أمر خطير ؛ حتى أن المضطر الذي تحقق عدم وجوبها عليه، ينبغي أن يعد تركها ذنبا، ولا يأمن، ويترصد الفرصة ويعلق قلبه بها ١.
.
مراغما : متحولا يتحول إليه، ومكانا يتنقل فيه.
وسعه : السعة : البسطة في العيش، والزيادة في الرزق.
فقد وقع أجره على الله : أي : ثبت ثوابه عنده.
التفسير :
١٠٠_ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً... الآية.
كانت الآيات السابقة في تحذير المسلمين من القعود عن الهجرة. من مكة عند القدرة عليها، وبعث الرجاء في نفوس المستضعفين بأن الله سيعفو عنهم.
وهذه الآية جاءت بعدها ؛ للترغيب في تلك الهجرة : بيان ثوابها ومنزلتها عند الله تعالى. وكونها طريقا للنصر، وإذلال الأعداء، وبابا واسعا للرزق. وذلك جريا على عادة القرآن الكريم : من الجمع بين الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب.
سبب النزول :
لما نزلت الآيات السابقة في التحذير من القعود عن الهجرة ؛ خرج ضمرة بن جندب مهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فنزلت الآية : وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ...
أورده ابن كثير عن ابن عباس
وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً... أي : ومن يعمد إلى مثل تلك الهجرة_ في سبيل إعلاء كلمة الله، والمحافظة على دينه- يجد في الأرض متسعا لهجرته، ورحابا فسيحة، يستطيع التنقل فيها، والتحول إليها، والاستمتاع بخيراتها، واتخاذ الموقع المناسب لضرب الأعداء والنجاة من شرهم.
وفي ذلك ما فيه الإهانة لهم، وإرغام أنوفهم. كما يجد- إلى جانب ذلك- سعة في الرزق، وبسطة في العيش... فلا عذر لأحد من الأقوياء في القعود عن الهجرة والبقاء في دار الكفر : مكتوم الأنفاس متعرضا لأذى الكفار. قال تعالى : يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ( العنكبوت : ٥٦ ).
وليست الهجرة- بصفة عامة- للهرب من العدو، وإنما هي ضرب من الجهاد ؛ للقضاء على سيطرة الأعداء، وتحول من موقع إلى موقع آخر، يمكن منه ضرب العدو، وإلحاق الأذى والذل به، والتمكن من إقامة شعائر الدين في حرية وطلاقة.
فهي في الأصل : الانتقال من مكان إلى مكان. والمراد بها : الهجرة من أرض الكفر إلى أي مكان يأمن فيه الإنسان على نفسه وماله ودينه.
وقد هاجر بعض المسلمين- في أول الإسلام- إلى الحبشة.
ثم كانت الهجرة بعد ذلك من مكة إلى المدينة. وكانت واجبة قبل فتح مكة. وهي التي نزلت فيها آيات الترغيب والترهيب.
ولما تم فتح مكة، واستقر الأمر فيها للمسلمين، وأعز الله فيه الإسلام، لم تعد هناك حاجة إلى الهجرة من مكة. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم :''لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية''١.
وتشمل الهجرة بالمعنى العام : الهجرة في طلب العلم، والهجرة في طلب الرزق، والهجرة في نشر الدعوة الإسلامية في البلاد التي لم تصلها أو التي هي حاجة إليها. وكلها مما رغب الله فيه.
وقد تطلق الهجرة على هجر الذنوب والمعاصي، كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم :''والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه'' ٢.
هذا، وقد تكفل الله تعالى، في هذه الآية الكريمة بثواب الهجرة كاملا لمن خرج من بيته بنية الهجرة : لا يريد بذلك إلا وجه الله واللحاق برسول الله، ثم حل به الموت قبل أن يصل إلى مقصده، وإن أدركه أمام باب داره التي خرج منها. فقال جل شأنه :
وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ.. أي : لإعلاء كلمة الله، فهي ضرب من الجهاد.
ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ : أي : يلحقه، وينزل به قبل أن يبلغ مقصده.
فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ : أي ثبت ثوابه عنده، وكان في ضمانه تعالى ؛ بمقتضى وعده وتفضيله ؛
وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا : أي : كان- ولا يزال- عظيم المغفرة لما فرط من الذنوب، التي من جملتها :
القعود عن الهجرة من غير عذر إلى وقت الخروج إليها.
رَّحِيمًا : كثير الرحمة بعباده حيث قبل تو بتهم، وغفر ذنوبهم.
فهذه الآية الكريمة : تطمئن المهاجر على رزقه في مهجره ؛ حتى لا يتقاعس عن الهجرة، فترفع عنه جميع الأعباء، وتفتح له سبل السعادة في الدنيا، وتعده بعظيم الثواب في الآخرة حتى لو حال الموت بينه وبين ما يتمناه : من إتمام الهجرة في سبيل الله بعد أن شرع فيها
رواه البخاري في الجهاد (٢٧٨٣، ٢٨٢٥)والترمذي في السير (١٥٩٠) والدرامي في السير (٢٥١٢) (١٩٩٢، ٣٣٢٥) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا. ورواه البخاري في المناقب (٣٨٩٩) وفي المغازي (٤٣١١) من حديث عبد الله بن عمر. ورواه مسلم في الإمارة (١٨٦٤) من حديث عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا. وفي الباب: عن أبي سعيد الخدري، ومجاشع بن مسعود.
.
٢ والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه:
رواه البخاري في الإيمان (١٠) وفي الرقاق(٦٤٨٤) ومسلم في الإيمان (٤٠) وأبو داود في الجهاد (٢٤٨١) والنسائي في الإيمان (٤٩٩٦) وأحمد في مسنده (٦٩٤٣، ٦٩١٤، ٦٧٦٧، ٦٤٧٩) من حديث عبد الله بم عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه. ورواه ابن ماجه في الفتن (٣٩٣٤) وأحمد في مسنده (٢٣٤٣٨) من حديث فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب. ورواه البخاري في الإيمان (١١) ومسلم في الإيمان (٤٢) و الترمذي في صفة القيامة (٢٥٠٤) عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قالوا يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال من سلم المسلمون من لسانه ويده. ورواه مسلم في الإيمان (٤١) والدرامي في الرقاق (٢٧١٢) وأحمد في مسنده (١٤٧٨٨) من حيث جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. ورواه الترمذي في الإيمان (٢٦٢٧) والنسائي في الإيمان (٤٩٩٥) وأحمد في مسنده (٧٨١٢) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ورواه أحمد في مسنده (١٢١٥١) من حديث أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن من أمنه الناس المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر السوء والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه.
.
ضربتم في الأرض : سافرتم.
جناح : حرج وإثم.
أن تقصروا من الصلاة : أن تخففوها من رباعية إلى ثنائية.
يفتنكم : يتعرض لكم بما تكرهون من الإغارة عليكم أثناء الصلاة.
التفسير :
١٠١- وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ... الآية
بعد أن رغبت الآية السابقة في الهجرة- وهي مبينة على السفر والخوف من العدو- جاءت هذه الآية تبين كيفية الصلاة في السفر، وفي حال الخوف من العدو : من جواز قصرها، وتفضيلا من الله على عباده.
والكلام عن الصلاة في هذا الموطن ؛ للدلالة على أنها وسائل الأمن عند الخوف، وعلى عظم شأنها، وبيان أنها لا تسقط بحال من الأحوال.
والمعنى : إذا سافرتم في الأرض- أيها المسلمون :-
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ : جرج وإثم.
أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ : فتصلوا الرباعية-وهي الظهر والعصر والعشاء- ركعتين.. أما الصبح فلا تقبل القصر ؛ لأنها قصيرة بطبيعتها، وكذلك المغرب لا تقبل القصر ؛ لأنها وتر النهار.
وظاهر الآية : إباحة القصر لمطلق السفر، طال أم قصر.. ولكن الفقهاء اختلفوا في تحديد مسافة القصر ومدته، كما اشترط بعضهم أن يكون سفرا مباحا... وتفصيل ذلك في موضعه من كتب الفقه.
وظاهر قوله تعالى :
إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ. اشترط الخوف في السفر في جواز القصر. ولكن السنة النبوية بينت أنه يجوز القصر في السفر مع الأمن، كما يجوز فيه عند الخوف.
و في ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ جوابا لمن سأله عن القصر حالة الأمن :''صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته'' ١. وقد بين الله سبب الترخيص- في القصر في السفر- عند الخوف من العدو بقوله :
إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا : أي : كانوا لكم أعداء ظاهري العداوة، مجاهرين بها. فتبينوا لعدواتهم واحذروها، وكونوا متيقظين لهم في الصلاة وغيرها.
رواه مسلم في صلاة المسافرين (٦٨٦) وأبو داود في الصلاة (١١٩٩) والترمذي في تفسير القرآن (٣٠٣٤) والنسائي في تقصير الصلاة (١٤٣٣) وأبن ماجه في إقامة الصلاة (١٠٦٥) والدرامي في الصلاة (١٥٠٥) من حديث يعلي ابن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب قلت: ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وقد أمن الناس فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.
.
طائفة : جماعة
وليأخذوا حذرهم : وليكونوا متيقظين للعدو، محترسين منه
فيميلون عليكم : فيهجمون عليكم.
ميلة واحدة : هجمة واحدة يقضون بها عليكم، فلا يحتاجون بعدها إلى هجمة أخرى.
التفسير :
١٠٢-وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ... الآية
لما بين الله حكم القصر في السفر عند الخوف عقبه ببيان كيفية صلاة الخوف.
سبب النزول :
روى الدارقطني، عن أبي عياش الزرقى، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد، وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر. فقالوا : لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا : يأتي عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، قال : فنزل جبريل عليه السلام- بهذ ه الآية بين الظهر والعصر : وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ ١.
ومعنى : وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ : إذا أردت أن تصلي بهم إماما، فلتصل طائفة منهم معك، بعد أن يجعلهم طائفتين، ولتقف الطائفة الأخرى تجاه العدو ؛ لمراقبته، وحراسة المسلمين منه. وليأخذوا أسلحتهم : أي : ولتأخذ الطائفة التي تصلي معك أسلحتهم ؛ ليتقوا بها العدو عند المفاجأة. فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ. أي : فإذا فرغت الطائفة التي تصلي معك من سجود الركعة الأولى ؛ فلينصرفوا للحراسة خلفكم. لْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ : أي : ولتأت الطائفة الأخرى التي كانت في مواجهة العدو للحراسة والمراقبة، والتي لم تصل بعد، فليصلوا معك الركعة الثانية، وهي الأولى لهم.
وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ : أي : يجب أن يكونوا دائما متيقظين لمخادعات العدو، وليأخذوا أسلحتهم معهم ؛ ليتقوه بها إن بادءوهم ؛ لأن الأعداء يتمنون أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم، فيحملوا عليكم حملة واحدة : منتهزين فرصة انشغالكم بالصلاة. كما قال تعالى : وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً : والأمتعة : ما يتمتع به المحارب من لوازمه في السفر.
والأمر هنا : للوجوب ؛ لقوله تعالى بعده :
وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ : أي : ولا إثم عليكم في أن تتركوا أسلحتكم عندما يكون بكم تأذ من المطر أو المرض. وهذه الرخصة لا تعطى إلا في حال العذر الذي بينه الله في الآية في قوله تعالى : وَخُذُواْ حِذْرَكُم. أي كونوا على حذر دائم، وبخاصة في تلك الحالة التي وضعتم فيها أسلحتهم.
إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا : يهينهم ويخزيهم ويذلهم، يتحقق بعضه على أيديكم بالنصر عليهم ؛ إذا اتبعتم النصيحة، ونهضتم بالتكاليف، و كنتم دائما على صلة بالله، وفي موقف اليقظة والاستعداد بما تستطيعون من قوة، ويتحقق بعضه الآخر بالعذاب الذي يلاقونه يوم القيامة من الله بسبب كفرهم ومحاربتهم أولياءه. فاهتموا بأموركم ولا تهملوا مباشرة الأسباب.
هذا نموذج من نماذج تأدية الصلاة في الميدان حين التربص والتهيؤ.
وقد دلت الآية على أهمية الصلاة وضرورتها، وما للجماعة فيها من ميزة ومنزلة، حتى في أشد حالات الخوف.
فالصلاة هي المدد الروحي الحافز للعزائم على النصر ؛ إذ هي صلة بالله رب العالمين، القادر على كل شيء، وهو مالك الأسباب جميعا للنصر وغيره. وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ. ( آل عمران : ١٢٦ )
فعلى المسلمين أن يحرصوا على أداء الصلوات، استدرارا لعون الله. وفي الحروب الحديثة عليهم تأدية الصلاة بالكيفية التي تناسب وضعهم من العدو، بحيث لا يعرض أمنهم للخطر.
وقد بين الشرع طريقتها في كل حال.
ومنها : أنه إذا التحم الجيشان، فللجندي أن يصلي مستقبل القبلة أو غير مستقبلها، وعلى أية كيفية ممكنة ولو بالإيماء.
وفي ذلك يقول الله تعالى : فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا. ( البقرة : ٢٣٩ )
.
١٠٣ _ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ... الآية. فإذا أديتموها على هذا النحو.
فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُم.. ْ. : يأمر الله_ تعالى_ بكثرة الذكر عقب صلاة الخوف وإن كان ذلك مشروعا فيه بعد غيرها أيضا_ ولكن ههنا آكد، لما وقع فيها من التخفيف في أركانها، ومن الرخصة في الحركات الكثيرة التي لا تباح في غيرها _وكما يذكرونه بألسنتهم يذكرونه بقلوبهم.
فَإِذَا اطْمَأْنَنتُم. أي : سكنت قلوبهم من الخوف، وأمنتم بعدما وضعت الحرب أوزانها.
فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ. أي : أدوها بأركانها وشروطها كاملة في مواقيتها.
إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا. أي : أقيموها كذلك ؛ لأنها كانت في حكم الله، ولا زالت مكتوبة مفروضه محددة الأوقات : لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في أمن.
١٠٤_ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ.. أي : لا تضعفوا ولا تتوانوا في طلب الكفار أهل الحرب. لقتالهم ؛ لأنكم، إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَالاَ يَرْجُونَ. فليست الآلام مختصة بكم. بل هي أمر مشتركة بينكم وبينهم. وتزيدون عليهم : أنكم ترجون وتطعمون من الله تعالى. فيما لا يخطر لهم ببال. من نصر دينه الذي أمركم بالجهاد في سبيله. ومن الثواب الجزيل. والنعيم المقيم في الآخرة فأنتم تنصرون الله وهو معكم على عدوكم. ومن كان الله معه ؛ فهو من المنتصرين. وكان اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا : عظيم العلم بكل شيء، فيعلم ما فيه مصلحتكم قي دنياكم وأخراكم، عظيم الحكمة فيما يأمركم به وينهاكم عنه ؛ فجدوا في الامتثال لأمره ؛ فإن عواقب الامتثال حميدة.
خصيما : مجادلا، و مدافعا.
التفسير :
١٠٥ _ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا.
اختار الله رسوله بشرا من بين الناس ؛ ليكون قدوة عملية في سلوكه وله أن يجتهد في الحكم بين الناس وهذا هو رأي الجمهور.
وقال بعضهم : ليس له أن يجتهد ؛ لأن الوحي قطعى، والاجتهاد ظني.
و أجيب عن ذلك بأن الوحي قد لا ينزل عليه في كل وقت ؛ فقد تأخر عنه الوحي خمسة عشر يوما. ثم إن الاجتهاد من صفة العلماء إذا توفرت لديهم شروطه و الرسول نوع مختار من البشر يتمتع بالذكاء والفطنة والأمانة فهو أولى أن يتمتع بهذه النعمة، و أن يعمل عقله في ما لم ينزل عليه وحي بشأنه.
فإذا تخاصم إليه رجلان فمن حقه أن يقضي بينهما، بما ينقدح في ذهنه بأنه الحق والصواب، ولا يجب عليه انتظار الوحي ؛ لان الوحي من شئون الرسالة والدين ونظام التشريعة. أما شئون الدنيا والقضاء بين الناس في خصوماتهم العادية، فهو من شئون الناس ؛ والرسول صلى الله عليه وسلم يقضي بينهم بأصول دينه الذي أوحى إليه، وبما ينقدح في دهنه من الحكم بعد الاستماع إلى أطراف القضية.
وقد ساق الإمام ابن كثير في تفسيره طائفة من الأحداث تتعلق بهذه الآية. منها ما تبث في الصحيحين عن أم سلمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال :( ( ألا إنما أنا بشر و إنما أقضى بنحو ما أسمع ولعل أحدكم أن أن يكون ألحن بحجته من بعض ؛ فأقضى له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها ! ) )١
سبب نزول هذه الآية وما بعدها :
ذكر ابن الجوزي ثلاثة أقوال في سبب نزول هذه الآية.
وقال ابن كثير : ذكر مجاهد وعكرمة وقتادة والسدى وابن زيد وغيرهم في هذه الآية أنها نزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم وهي متقاربة.
وقال ابن الجوزي :
جمهور العلماء على أن المشار إليه بالاستخفاء والتبييت : قوم طعمة بن أبيرق وقد بيتوا : احتيالهم في براءة أصحابهم بالكذب.
وقصة الآية :
أن طعمة بن أبيرق سرق درعا لقتاده بن النعمان ؛ وكان الدرع في جراب فيه دقيق ؛ فجعل الدقيق ينتشر من خرق في الجراب، حتى انتهى إلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده، وحلف : مالى بها علم، فقال أصحابها : بلى و الله، لقد دخل علينا فأخدها، وطلبنا أثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق، فلما حلف تركوه، واتبعوا أثر الدقيق ؛ حتى انتبهوا إلى منزل اليهودي فأخدوه، فقال : دفعها إلى طعمة بن أبيرق، فقال قوم طعمة : انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حتى نبرئ صاحبنا وندافع عنه، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كلامهم، وهم أن يجادل عن طعمة بن أبيرق، و أن يعاقب اليهودي ؛ فنزلت هذه الآيات كلها ؛ تبرئ اليهودي وتطلخ طعمة بعار السرقة ٢ وفي ذلك نلمح صدق القرآن فهو يتحيز إلى الحق، ويدافع عن يهودي برئ، ويوجه الا تهام إلى مسلم خائن ؛ لأن القرآن كلام الله الحق، ومن أصدق من الله حديثا ؟ !
إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّه.
إنا أنزلنا إليك القرآن الكريم ناطقا بالحق، داعيا إليه وإلى التمسك به ؛ لتحكم بين الناس على اختلاف عقائدهم، بما عرفك الله وأوحى به إليك، ولا تكن مجادلا عن الخائنين ؛ فينتصروا على البرءاء.
قال ابن الجوزي :
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ. أي : لتقضي بينهم، وفي قوله : بما أراك الله. قولان :
أحدهما : أنه الذي علمه، والذي علمه ألا يقبل دعوى أحد على أحد إلا ببرها.
والثاني : أنه مما يؤدي إليه اجتهاده ٣.
وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا.
قال الزجاج : لا تكن مخاصما، ولا دافعا عن خائن، واختلفوا هل خاصم عنه أم لا على قولين :
أحدهما : أنه قام خطيبا فعذره.
والثاني : أنه هم بذلك ولم يفعله.
قال القاضي أبو يعلي : وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه، وهو غير عالم بحقيقة أمره ؛ لأن الله تعالى عاتب نبيه على مثل ذلك.
رواه البخاري في المظالم (٢٤٥٨) وفي الشهادات (٢٦٨٠) وفي الحيل (٦٩٦٧) وفي الأحكام (٧١٦٩، ٧١٨١، ٧١٨٥) وفي الأقضية (١٧١٣) ومسلم في الأقضية (١٧١٣) ومالك في الموطإ كتاب الأقضية (١٤٢٤) وأبو داود في الأقضية (٣٥٨٣) والترمذي في الأحكام (١٣٣٩) والنسائي في آداب القضاة (٥٤٢٢) وابن ماجه في الأحكام (٢٣١٧) (٢٥٩٥٢) من حديث أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضى له بذلك فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها.
.
٢ أنظر تفسير ابن الجوزى زاد المسير ٢/١٩٠، وتفسير ابن كثير ١/٥٥١، وكذلك الكشاف وروح المعاني وغيرها.
.
٣ (ابن الجوزى: زاد المسير في علم التفسير ٢/١٩١ المكتب الإسلامي ونقل في الهامش عن ابن كثير أنه قال: احتج بهذه الآية من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد وبما ثبت في الصحيحين "ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو ما أسمع..."
.
أي : واستغفر الله مما هممت به في أمر طعمة وبراءته لظاهر الحال.
قال الألوسي في تفسيره روح المعاني :
والهم بالشيء خصوصا إذ يظن أنه الحق ليس بذنب حتى يستغفر منه، لكن لعظم النبي صلى الله عليه وسلم، وعصمة الله تعالى له، وتنزيهه عما يوهم النقص _ وحاشاه _أمره بالاستغفار ؛ لزيادة الثواب، و إرشاده إلى التثبت، و أن ما ليس بذنب مما يكاد يعد حسنة من غيره ؛ إذا صدر منه عليه الصلاة والسلام بالنسبة لعظمته، ومقامه المحمود يوشك أن يكون كالذنب ؛ فلا متمسك بالأمر بالاستغفار في عدم العصمة كما زعمه البعض، وقيل : يحتمل أن يكون المراد واستغفر. لأولئك الذين برءوا ذلك الخائن. إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا. مبالغا في المغفرة والرحمة لمن استغفره، وقيل : لمن استغفر له ١.
.
يختانون أنفسهم : يخونونها بالظلم والشر ؛ لأن وبال ذلك يعود عليها..
التفسير :
١٠٧ _ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ... الآية
أي تدافع. وتوحى هذه الآية بأن قوم طعمة بن أبيرق، بيتوا أمرا يرا لتبرئة طعمة، وإلصاق التهمة بيهودي برىء، وهم بذلك قد خانوا غيرهم ؛ ولكن القرآن خعلهم خائنين لأنفسهم ؛ لا رتكابهم ما يشين هذه النفس، وما يحط من شأنها عند الله.
أو خائنين لمبادئ الجماعة الإسلامية وقوانينها ؛ وهي القيام بالقسط والعدل وعلى نفس الإنسان أو الوالدين و الأقبين.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ يخونونها بالمعصية، كقوله تعالى : عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ. ( البقرة : ١٨٧ ).
جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم، كما كما جعلت ظلما لها ؛ لأن الضرر راجع إليهم، ( فإن قلت ) : لم قيل للخائنين. يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ. وكان السارق طعمة بن أبيرق وحده ؟.
( قلت ) : لوجهين :
أحدهما : أن قومه شهدوا له بالبراءة ونصروه فكانواشركاء له في الإثم.
والثاني : أنه جمع ليتناول طعمة، وكل من خان خيانة، فلا تخاصم لخائن قط، ولا تجادل عنه ٢
إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا.
أي : لا يرضى عمن يكثرون من الخيانة و الإثم، بارتكاب المعاصي، وانتهاك محارم الله، واتهام غيرهم بهتانا وزورا.
" والذين لا يحبهم الله لا يجوج أن يجادل عنهم أحد و لا أن يحامي عنهم أحد، وقد كرههم الله للإثم و الخيانة ) ) ٣
يبيتون : يدبرون خفية.
التفسير :
١٠٨ _ أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ... الآية
يستترون من الناس ؛ مخافة أن يظهروا أمامهم بالإثم " والناس لا يملكون لهم نفعا ولا ضرا بينما الذي يملك النفع و الضر معهم مطلع عليهم وهم يزورون من القول ما لا يرضاه، فأى موقف يدعوا إلى الزراية والاستهزاء أكثر من ذا الموقف " ١ ؟
قال الزمشري في الكشاف :
وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء و الخشية من ربهم مع علمهم _ إن كانوا مؤمنين _ أنهم في حضرته ٢
وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا...
أي وكان الله بجميع أعمالهم _ عليما_ شامل العلم، فلا تخفى عليه خلجات نفوسهم، وخفايا أسرارهم، وهم تحت عينه وفي قبضته.
.
٢ تفسير الكشاف ١/٢٩٧.
.
تجىء هذه الآية في مقام الإنكار، على هؤلاء الذين جادلوا عن طعمة بن أبيرق، وألصقوا التهمة بيهودي برىء..
والمعنى : هبوا أنكم بذلتم الجهد في المخاصمة عمن أشرت إليه الأخبار في الدنيا.
فما جدوى الجدال في الدنيا، إذا كان ذلك لا يغنى عنهم من عذاب الله شيئا ؟ !
فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أي : فمن يخاصمه في ذلك اليوم الثقيل الذي تنطق فيه كل جارحة بما اجترحت. يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. ( النور : ٢٤ ).
أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا. أي : حافضا ومحاميا من بأس الله تعالى وانتقامه و أصل معنى الوكيل : الشخص الذي توكل الأمور له وتسند إليه، وتفسيره : بالحافظ والمحامي، ؛ مجاز من باب استعمال الشيء في لازم معناه ١
.
١١٠ _ وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا.
فتح الإسلام باب التوبة على مصراعيه، ولم يجعل وساطة بين العبد وربه، ويسر للمذنب باب التوبة والندم، وأخبر الله بقبول توبة التائبين في كل وقت من أوقات الليل و النهار، وبين الإسلام أن خطيئة البشر ليست لعنة أبدية، و إنما هي كبوة يمكن للعبد أن يستقيم بعدها ويطلب المغفرة من الله بالتوبة النصوح، والندم والاستقامة.
وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا. أي : أمرا قبيحا يسوء به غيره، كما فعل طعمة بن أبيرق بليهودي.
أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ. بما يفعله من الذنوب التي يغضب بها الله وقيل : السوء ما دون الشرك، والظلم : الشرك، وقيل : السوء الصغيرة والظلم : الكبيرة.
ثُمَّ يَسْتَغْفِرالله. يطلب مغفرة الله بالتوبة و الصادقة.
يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا. لما استغفره منه، كائنا ما كان الإثم المرتكب.
رحيما. متفضلا على عباده رحيما بهم.
قال تعالى : ورحمتي وسعت كل شيء. ( الأعراف١٥٦ )
وفيه حث لمن نزلت الآية بشأنهم من المذنبين على التوبة و الاستغفار.
ومن يفعل ذنبا من الذنوب ؛ فإما يعود جزاؤه على نفسه لا يتعداه إلى غيره.
جاء في ضلال القرآن :
ليس هناك خطيئة موروثة في الإسلام، كالتى تتحدث عنها تصورات الكنيسة، كما أنه ليست هناك كفارة غير الكفارة التي تؤديها النفس عن نفسها، وعندئذ تنطلق كل نفس حذرة مما تكسب،
مطمئنة إلى أنها لا تحاسب إلا على ما تكسب.. توازن عجيب ! في هذا التصور الفريد، هو إحدى خصائص التصور الإسلامي و أحد مقوماته التي تطمئن الفطرة وحقق العدل الإلهي المطلق، المطلوب أن يحاكيه بنو الإنسان.
وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا. بكل شيء ومنه الكسب.
حكيما في كل ما قدر وقضى، ومن ذلك لا تحمل وازرة وزر أخرى.
بهتانا : البهتان : أفحش الكذب.
خطيئة : صغيرة.
إثما : كبيرة.
التفسير :
١١٢_ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا.
ومن يرتكب خطيئة صغيرة أو إثما، أو كبيرة من المعاصي ثم يتهم بها بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما. في رميه البرىء وإثما في ارتكابه الذنب الذي رمى به البرىء، وقد احتملهما معه وكأنما البهتان و الإثم حملا يحمل على طريقة القرآن في تجسيم المعنى، وإبراز الصورة الآثمة لشخص يذنب ويلقى تبعة الذنب على الأبرياء.
وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ. أي عصمته وألطافه بك بإعلامك عن طريق الوحي بما دبروه وأخفوه. لهمت طائفة منهم. من قوم طعمة بن أبيرق.
أَن يُضِلُّوكَ. عن القضاء بالحق، وتوخي طريق العدل، مع علمهم بأن الجاني هو صاحبهم، فقد روى أن ناسا منهم كانوا يعلمون كنه القصة ١.
وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ. وما يعود ضرر ذلك إلا على أنفسهم ؛ لوقوعهم في الضلالة والكذب والافتراء، وتضليل العدالة.
وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ. فقد تكفل الله بحفظك وعصمتك.
والله يعصمك من الناس.
وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ. وهو القرآن الكريم.
وَالْحِكْمَةَ. بيان ما في الكتاب، وإلهام الصواب، وإلقاء صحة الجواب في الروع ٢.
وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ. من أخبار الأولين والآخرين.
وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا. بالنبوة والرسالة وجميع الفضائل التي خص الله بها رسوله، فكان خاتم الرسل، وصاحب الشفاعة وأمته آخر الأمم، وكتابه آخر الكتب، وملايين المآذن تردد اسمه عند كل آذان.
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذن : أشهد
وشق له من اسمه ليجله | فذو العرش محمود وهذا محمد |
وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا. لاتحويه عبارة ولا نحيط به إشارة.
ومن ذلك : النبوة والرسالة وإرشادك إلى أخطاء المخطئين
.
٢ ابن الجوزى زاد المسير، ونقله عن أبي سليمان الدمشقي.
.
نجواهم : النجوى : المسارة بالحديث بين اثنين فأكثر قاله الزجاج. وعرفها بعضهم : بالحديث الذي ينفرد به اثنان فأكثر، سرا أو جهرا. وعلى كل فضمير نجواهم للناس عامة ؛ لأن الحكم عام.
أو معروف : هو ما عرف حسنه شرعا أو عرفا. فينتظم أصناف البر والخير.
ابتغاء مرضاة الله : طلبا لرضاه.
التفسير :
١١٤- لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ... الآية
لما بين الله تعالى- قبل هذه الآية- أنه أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، الكتاب والحكمة، وعلمه ما لم يكن يعلم : أتبعه ذكر بعض ما أنزله عليه من الكتاب والحكمة مما يدعم أواصر المحبة بين الناس، ويقضي على أسباب النزاع بينهم. كما أن فيه ردا على من كان يحرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن يقضي لصالح من سرق الدرع وخبأها عند اليهودي، فيبرئه ويقضي على اليهودي ! !
والمعنى : لا خير في أحاديث الناس فيما بينهم، إلا في حديث من أمر بصدقه- واجبة كانت أومتطوعا بها، أو أمر بما عرف حسنه شرعا أو عرفا، ولم يعارض قاعدة شرعية، تقبله العقول الخالصة من الهوى بالرضاء، أو أمر بالإصلاح بين الناس ؛ حتى يحل الوئام محل الخصام.
فهذه الجهات الثلاث، هي التي تكون النجوى- أي : الحديث الجانبي فيها- خيرا مشروعا مثابا عليه.
أما الأحاديث الجانبية التي يتآمر فيها المتآمرون على الإضرار بعباد الله، أو يتناجى فيها المتناجون بالمعاصي والهذيان ؛ فلا خير فيها ولا ثواب عليها، بل يعاقب عليها ؛ لأنها كانت في معصية الله تعالى.
فإنما يثاب الإنسان على المعروف، إذا ترك الامتنان والإعجاب به، ولا يتم المعروف- كما قال ابن عباس- رضي الله عنهما- " إلا بثلاث : تعجيله، وتصغيره، وستره. فإذا عجلته هنأته ١ وإذا صغرته عظمته، وإذا سترته أتممته''.
وقد دعت الآية الكريمة إلى فضيلة الإصلاح بين الناس، وجعلتها خيرا مثابا عليه ؛ لما لها من الأثر العظيم فيهم، حيث تحل الوئام محا الخصام، والراحة النفسية محل القلق، والتفكير في الخير مكان التفكير في الشر ؛ فيسود الأمن والسلام.
وقد أباح الإسلام الكذب الأبيض في سبيل الإصلاح، مع أن الكذب_ بصفة عامة- حرام ؛ لأن هذا غير ضار بأحد. وهو مؤد إلى مصلحة مؤكدة، كأن تقول لكلا الخصمين عن صاحبه : سمعته يثني عليك ويصفك بطيب النية، وحسن الطوية والمروءة، ونحو ذلك مما يلين قلب الخصم نحو أخيه في حين أنك لم تسمع ذلك منه.
وذلك يروي حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه- أم كلثوم بنت عقبة- أنها أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :''ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا أو يقول خيرا'' وقالت : لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس، إلا في ثلاث : في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها ٢.
وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا. أي : ومن يتناج ويتحدث مع غيره- في خلوة- بالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس، ويرشده إليها وينصحه بها ؛ فسوف يعطيه الله على ذلك ثوابا جزيلا : يناسب عظمة المنعم.
وإذا كان ثواب التناجي بها، والإرشاد إليها، فثواب فعلها أعظم.
أما أن يأمر بها الإنسان ولا يفعلها، فذلك جرمه عظيم، ووعيده شديد، قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ. ( الصف : ٢-٣ )
.
٢ ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس
رواه البخاري في الصلح (٢٦٩٢) ومسلم في البر(٢٦٠٥) وأبو داود في الأدب (٤٩٢١، ٤٩٢٠) وأحمد في مسنده (٢٦٧٢٨) من حديث أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا.
.
يشاقق الرسول : يخالفه فيما أمر به، أو نهى عنه.
نوله ما تولى : حقيقة معنى نوله : نجعله واليا، يقال : تولاه. بمعنى : تقلده واضطلع به، وولاه غيره. جعله واليا، ومضطلعا بالأمر
والمعنى المقصود : هو أن توفيق الله تعالى- يتخلى عنه.
التفسير :
١١٥-وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا.
المعنى : ومن يخالف الرسول فيما أمر به عن الله تعالى أو نهى عنه، ويتبع غير طريق المؤمنين في عقيدته أو علمه، بأن يكفر او يترك الواجبات، أو يفعل المنهيات- من بعدما ظهر له ما يهديه من أدلة اليقين وأحكام الدين- نتركه وما تولاه وانصرف إليه، وقام به من الكفر والمعاصي.. فلا نلطف به لصرف قواه إليه، وعدم مراجعته نفسه فيه، وندخله جهنم فليخلد فيها إن كان كافرا ويعاقب فيها قدر معصيته إن كان عاصيا.. وقبحت جهنم مصيرا !
فلا ينبغي لعاقل أن يقترف من المعاصي ما يجعلها مصيرا له ومآلا.
الأحكام :
استدل الإمام الشافعي- رضي الله عنه- بهذه الآية، على أن الإجماع من أهل الحق حجة.
جاء في تفسير روح المعاني للالوسي ٥/١٤٩.
عن المزني أنه قال : " كنت عند الشافعي يوما، فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا، فلما رآه ذا مهابة، استوى جالسا، وكان مستندا إلى الأسطوانة ١ وسوى ثيابه : فقال الشيخ : ما الحجة في دين الله تعالى ؟ قال الشافعي : كتابه. قال : وماذا ؟ قال سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. قال : وماذا ؟ قال : اتفاق الأمة. قال : من أين هذا الأخير ؟ أهو في كتاب الله تعالى ؟ فتدبر الشافعي ساعة ساكتا فقال له الشيخ : أجلتك ثلاثة أيام بلياليهن، فإن جئت بآية، وإلا فاعتزل الناس.. فمكث ثلاثة أيام لا يخرج. وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر، وقد تغير لونه، فجاءه الشيخ وسلم عليه وجلس، وقال : حاجتي : فقال : نعم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. قال الله تعالى : وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى.. الآية. فدلت الآية على أن إتباع سبيل المؤمنين فيما يذهبون إليه من الأحكام فرض ؛ لورود الوعيد فيمن لم يتبع سبيلهم. قال الشيخ : صدقت وقام وانصرف ٢.
والآية لا تفيد الخلود في النار لمن يرتكب المعاصي، بل تفيد عقوبتهم بالصيرورة إلى النار، وذلك لا يقتضي التأبيد، خلافا لمن زعم ذلك من الخوارج، حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر خالد في النار، ويجسم دعواهم قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء...
روى الترمذي عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه أنه قال : ما في القرآن آية أحب إلى من هذه الآية : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء...
وفيما يلي نص تفسيرها.
.
٢ روى عنه: أنه قرأ القرآن ثلاث مرات يتفقد هذا الحكم حتى ظفر به.
.
ما دون ذلك : ما سوى الشرك من المعاصي.
ضلالا بعيدا : أي : بعدا عن الحق عظيما.
التفسير :
١١٦- إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء... الآية
سبب النزول :
في سبب نزول هذه الآية قولان :
أحدهما : أنه نزلت في حق طمعة بن أبيرق لما هرب من مكة ومات على الشرك وهذا قول الجمهور.
والثاني : أن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني منهمك في الذنوب، إلا أني لم أشرك بالله منذ عرفته، وإني لنادم مستغفر فما حالى فنزلت هذه الآية...
رو ى هذا القول عن ابن عباس ١.
تمهيد : الشرك بالله كبيرة وإثم وخروج عن مألوف الفطرة فقد خلق الله الإنسان بيده، ونفخ فيه من روحه، وفضله على كثير من خلقه، ووضع له الدلائل والأمارات على ألوهيته، ونادى الإنسان بقوله :
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ. ( البقرة : ٢١ ).
وفي الحديث الصحيح : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله. قال : الشرك بالله، وعقوق الوالد ين، وقول الزور وشهادة الزور'' ٢.
المعنى :
إن الله لا يغفر لطعمة بن أبيرق إذا أشرك ومات على شركه بالله، ولا لغيره من خلقه بشركهم وكفرهم ٣.
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء. ويغفر ما دون الشرك بالله من الذنوب ؛ إذا ندم المذنب وتاب إلى الله. وهذه الآية من أرجى آيات المغفرة في القرآن الكريم، والمقصود من الشرك بالله : الكفر به مطلقا، فيشمل نسبة الولد أو الصاحبة إليه وإنكار وجوده- سبحانه وتعالى- وإنما ذكر الشرك في الآية ؛ لأنه كان الاعتقاد السائد في الجزيرة العربية التي نشأت فيها الدعوة الإسلامية.
وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا. ومن يجعل لله في عبادته شريكا، أو يكفر به بأي وجه فقد ذهب عن طريق الحق و زال عن قصد السبيل ذهابا بعيدا، وزوالا شديدا، وذلك أنه بإشراكه بالله في عبادته قد أطاع الشيطان وسلك طريقه وترك طاعة الله ومنهاج دينه فذلك هو الضلال البعيد والخسران المبين ٤.
وجاء في تفسير ابن كثير : روى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال : ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء... الآية ٥.
.
٢ ألا أنبأكم بأكبر الكبائر:
تقدم ص ١٣.
.
٣ تفسير الطبري ٩/٢٠٦ تحقيق محمود شاكر.
.
٤ تفسير الطبري بتصرف.
.
٥ تفسير ابن كثير ١/٥٥٥ وقد علق الترمذي عليه بقوله: هذا حسن غريب.
.
إن يدعون : ما ينادون، أو ما يعبدون.
إلا إناثا : أي : معبودات كالإناث في الضعف، وعدم القدرة على الإسعاف بالمطلوب وفيها معان أخرى، ستأتي في الشرح بمشيئة الله.
شيطانا مريدا : الشيطان هنا : إبليس- لعنه الله- والمريد : بمعنى : التمرد على الطاعة. أو المتمرد للشر. من قولهم : شجرة مرداء. وهي التي سقط ورقها.
التفسير :
١١٧-إن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا...
نقل ابن جرير الطبري عدة آراء في معنى الإناث، وقد اختصرها ابن الجوزى في زاد المسير فقال : وللمفسرين في معنى الإناث أربعة أقوال :
١- الإناث بمعنى : الأموال ؛ قال الحسن : كل شيء لا روح فيه كالحجر والخشبة فهو إناث.
٢- الإناث : الأوثان، وهو قول عائشة ومجاهد.
٣- أنها الملائكة، كانوا يزعمون أنها بنات الله، قال تعالى : وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا. ( الزخرف : ١٩ ).
٤- إن الإناث : اللات والعزى ومناة كلهن مؤنت، روى عن الحسن قال : لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يسمونه أنثى بني فلان، فنزلت هذه الآية، قال الزجاج : والمعنى ما يدعون إلا ما يسمونه باسم الإناث.
قال الطبري : وأولى التأويلات بالصواب قول من قال :
عنى بذلك الآلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله، ويسمونها الإناث من الأسماء كاللات والعزى ونائلة ومناة وما أشبه ذلك.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ؛ لأن الأظهر من معاني الإناث في كلام العرب، ما عرف بالتأنيث دون غيره، فإذا كان ذلك كذلك فالواجب توجيه تأويله إلى الأشهر من معانيه.
وإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية :
إن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا. ما يدعو الذين يشاقون الرسول، إلا ما سموه بأسماء، الإناث كاللات والعزى وما أشبه ذلك.
وحسب هؤلاء الذين أشركوا بالله، وعبدوا الأوثان والأصنام، حجة عليهم في ضلالهم وكفرهم، أنهم يعبدون إناثا ويدعونها آلهة وأربابا، والإناث من كل شيء أخسه، فهم يقرون للخسيس من الأشياء بالعبودية، على علم منهم بخساسته، ويمتنعون عن إخلاص العبودية للذي له ملك كل سيء وبيده الخلق والأمر ١.
وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا وما يعبدون أو ما ينادون في الواقع إلا شيطانا شريرا عاتبا متمردا، خارجا عن الطاعة، وهو إبليس ؛ فهو الذي زين لهم دعاءها وعبادتها ؛ فأطاعوه، فكانت طاعتهم له عبادة.
.
لعنه الله : طرده من رحمته.
لأتخذن : الاتخاذ : أخذ الشيء على وجه الاختصاص.
نصيبا مفروضا : حظا مقسوما. وسيأتي بيانه في الشرح.
التفسير :
١١٨- لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا.
-لَّعَنَهُ اللّهُ. طرده وأبعده عن رحمته ؛ لتمرده واستكباره عن طاعة ربه، وعدم سجوده لآدم، فأخرجه الله من الجنة مذموما مدحورا مطرودا من رحمة الله في عاجله وآجله.
وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا. أي : بعد أن لعنه الله وطرده من جواره، قال يخاطب الله تعالى : لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا. يريد توكيد استيلائه- بالوسوسة- على إرادة أبناء آدم عدوه ؛ حتى يسخرها في سبيل الغواية والفساد عقيدة وعملا حتى كأنهم نصيب مفروض مقطوع له.
قال الزجاج : الفرض في اللغة : القطع، والفرض فيما ألزمه الله العباد جعله حتما عليهم قاطعا.
وقال مقاتل : النصيب المفروض : أن من كل ألف إنسان واحد في الجنة وسائرهم في النار، وفي تفسير القرطبي ٥/٣٨٨ قلت : وهذا صحيح معنى، يعضده قوله تعالى لآدم يوم القيامة : " ابعث بعث النار، فيقول : وما بعث النار ؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين " ١ أخرجه مسلم، وبعث النار : هو نصيب الشيطان.
وفي تفسير ابن كثير : وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا. أي : معينا مقدرا معلوما. قال : قتادة : ومن كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة ٢.
وقال ابن قتيبة : أي : حظا أفترضه لنفسي منهم فأضلهم ٣
رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (٣٣٤٨) وفي تفسير القرآن (٤٧٤١) وفي الرقاق (٦٥٣٠) رواه مسلم في الإيمان (٢٢٢) (١٠٨٩٢) من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول: أخرج بعث النار قال: وما بعث النار قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فعنده يشيب الصغير ﴿وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد﴾ قالوا: يا رسول الله وأينا ذلك الواحد قال: أبشروا فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألف ثم قال: والذي نفسي بيده إني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبرنا فقال: أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبرنا فقال: أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبرنا فقال: ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود. ورواه مسلم في الفتن (٢٩٤٠) وأحمد في مسنده (٦٥١٩) من حديث عبد الله بن عمر وجاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تحدث به تقول: إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا فقال: سبحان الله أو لا إله إلا الله أو كلمة نحوها لقد هممت أن لا أحدث أحدا شيئا إنما قلت: إنكم سترون بعد قليل أمرا عظيما يحرق البيت ويكون ويكون ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد لا أصغي ليتا ورفع ليتا قال: وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله قال: فيصعق و يصعق الناس ثم يرسل الله أو قال: ينزل الله مطرا كأنه الطل أو الظل نعمان الشاك فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ثم يقال: يا أهل الناس هلم إلى ربكم ﴿وقفوهم أنهم مسئولون﴾ قال: ثم يقال: أخرجوا بعث النار فيقال: من كم فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين... الحديث. ورواه الترمذي في تفسير القرآن (٣١٦٨، ٣١٦٩) (١٩٣٨٣، ١٩٤٠٠) من حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم﴾ إلى قوله ﴿ولكن عذاب الله شديد﴾ قال: أنزلت هذه الآية وهو في سفر فقال: أتدرون أي يوم ذلك فقالوا: الله ورسوله أعلم قال: ذلك يوم يقول الله لآدم: أبعث بعث النار فقال: يا رب وما بعث النار؟ قال تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة... الحديث.
.
٢ تفسير ابن كثير ١/٥٥٦.
.
٣ ابن الجوزي: زاد المسير في علم التفسير ٢/٢٠٤ المكتب الإسلامي.
.
ولأمنينهم : أي : لأعللنهم بالأماني الكاذبة.
فليبتكن آذان الأنعام : الأنعام : الإبل والبقر والغنم والمعز. وغلب استعمالها في الإبل خاصة. وتبتيك الأنعام : تقطيع آذانها أو شقها. وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية وسيأتي بيانه.
فليغرن خلق الله : صورة أو صفة، كفقإ عين الفحل. وسيأتي بيانه، وكخصاء العبيد، وإتيان الذكور بدل الإناث.
وليا من دون الله : أي : معبودا وناصرا، متجاوزا، وتاركا له.
خسرانا مبينا : أي : خسرانا بينا واضحا.
التفسير :
١١٩- وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ...
يؤكد الشيطان اللعين توكيدا بعد توكيد، أنه سيضل عباد الله عن الحق.
قال الألوسي : ولأمنبنهم. الأماني الباطلة وأقوالهم : ليس وراءكم بعث، ولا نشر، ولا جنة، ولا نار، ولا ثواب ولا عقاب، فافعلوا ما شئتم، وقيل : أمنيهم بطول البقاء في الدنيا فيسوفون في العمل. وقيل : أمنيهم بالأهواء الباطلة، الداعية إلى المعصية، وأزين لهم شهوات الدنيا وزهراتها، وأدعو كلا منهم إلى ما يميل إليه طبعه فأصده بذلك عن الطاعة.
وَلأمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ. يؤكد الشيطان أنه سيأمرهم بتبكيت آذان الأنعام ؛ فيطيعون أمره... وتبكيت آذان الأنعام : تقطيعها أو شقها.
وهذا إشارة إلى ما كانت الجاهلية تفعله ؛ من شق أو قطع أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن، وجاء الخامس ذكرا ؛ وتحريم ركوبها، وسائر وجوه الانتفاع بها ١.
وَلأمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ. إن الشيطان يوسوس للإنسان ؛ ليخرجه عن فطرة الله، ويزحزحه
عن منهج الله، ويدعوه إلى تغيير خلق الله ؛ لتحقيق شهواته وأوهامه ولذائذه، كما يزين الشيطان لأتباعه تغيير فطرة الله تعالى وهي الإسلام.
ومن تغيير خلق الله : ترجل النساء، وتخنث الرجال، واللواط والسحاق، وعبادة الشمس والقمر والنار والحجارة مثلا، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا، ولا يوجب لها من الله سبحانه زلفى ٢.
ويلحق بذلك خصاء العبيد وهو حرام منهى عنه.
وهناك تغيير أمرت به السنة، كالختان ووسم البهائم لحاجة تعريفها حتى لا تخلط بغيرها، والوسم : كي البهائم بمكواة يسمونها : الميسم.
جاء في صحيح مسلم عن أنس قال :( ( رأيت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الميسم وهو يسم إبل الصدقة والفيء، وغير ذلك ؛ حتى يعرف كل مال فيؤدى فيه حقه ولا يتجاوز به إلى غيره ) ) ٣.
كما يستثني من تغير خلق الله الخضاب بالحناء.
وبالكتم _ وهو السوداء _ لإرهاب العدو، والوشم لحاجة، وخضب اللحية وقص ما زاد منها على السنة ونحو ذلك ٤.
وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا. في المراد بالولى قولان :
أحدهما : أنه بمعنى : الرب.
والثاني : من الموالاة : أي : ومن يجعل الشيطان صاحبا يتبعه وينقا د له، متجاوزا أوامر الله تعالى، بإيثار ما يدعو إليه الشيطان على ما يأمر به الله.
فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا. أي : فقد خسر الدنيا و الآخرة وتلك خسارة لا جبرلها، ولا استدراك لفائتها.
.
٢ المرجع السابق ٥/١٥٠ كلعب الشطرنج بإسراف وإدمان؛ لتضييع الوقت فإن كان اللعب قليلا؛ جاز.
.
٣ رأيت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الميسم:
رواه مسلم في اللباس (٢١١٩) وفي فضائل الصحابة (١٦٣٧٤، ١٢٦١٤) من حديث أنس بن مالك قال رأيت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الميسم وهو يسم إبل الصدقة.
.
٤ تفسير روح المعاني ٥/١٥٠.
.
إلا غرورا : إلا إيهاما وغشا وخداعا.
التفسير :
١٢٠ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا.
يعد الشيطان عباد الله على معصيته أحلى الوعود المكذوبة، ويمنيهم بأحلى الأمانى الباطلة.
وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا. وهو إيهام النفع فيما فيه الضرر، وهذا الوعد والأمر إما بالخوطر الفاسدة، وإما بلسان أوليائه.
والغرور : الأماني الكاذبة والباطل، أو يقول له : سيطول عمرك وتنال من الدنيا مرادك.
حتى إذا حصحص الحق، واحتاج المغرورون إلى الشيطان، قال لهم عدو الله : ما جاء في الآية ٢٢ من سورة إبراهيم :
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم.
مأواهم جهنم : مستقرهم ومرجعهم.
محيصا : معدل ومهربا.
التفسير :
١٢١- أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا.
أولئك الذين يتخذون الشيطان وليا من دون مستقرهم جميعا في جهنم ولا يجدون عنها معدلا يعدلون إليه ولا مهربا بنجيهم من عذابها.
يقال : وقع في حيص بيص، وحاص باص : إذا وقع لا يقدر على التخلص منه، قال ابن يعيش شارح المفصل ٤/١١٤ تقول العرب : وقع الناس في حيص بيص ؛ إدا وقعوا في فتنة واختلاط من أمرهم لا مخرج لهم منها.
الاية( ١٢٢ ).
المفردات :
خالدين فيها أبدا : مقيمين في الجنة دائما لا يبرحونها.
قيلا : أي : قولا.
التفسير :
١٢٢_وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً.
قال الطبري :
الذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأدوا الفرائض التي فرضها الله عليهم ؛ سوف يدخلهم الله يوم القيامة ؛ بساتين تجري من تحتها الأنهار باقين في هذه الجنات دائما١.
وَعْدَ اللّهِ حَقًّا. أي : عدة الله لهم بقتنا صادقا ؛ وذلك على العكس من وعود الشيطان الكاذبة وأمانيه الفارغة، فكلها غرور وأباطيل، وغش وخداع.
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً ومن أحد أصدق من الله قولا ووعدا ؟ ! فهو الذي إذا قال صدق، وإذا وعد وفى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته :''إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه و سلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار'' ٢.
.
٢ إن أصدق الحديث كتاب الله:
رواه البخاري في الأدب (٦٠٩٨) وفي الاعتصام (٧٢٧٧) والدرامي في المقدمة (٢٠٧) وابن ماجه في المقدمة (٤٦) من حديث عبد الله: إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها و ﴿إن ما توعد لآت وما أنتم بمعجزين﴾. ورواه أحمد في مسنده (١٤٥٦٦، ١٤٠٢٢، ١٣٩٢٤) والنسائي في صلاة العيدين (١٥٧٨) والدرامي في المقدمة (٢٠٦) وابن ماجه في المقدمة (٤٥) من حديث جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وإن أفضل الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ثم يرفع صوته وتحمر وجنتاه ويشتد غضبه إذا ذكر الساعة كأنه منذر جيش قال ثم يقول أتتكم الساعة بعثت أنا والساعة هكذا- وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى- صبحتكم الساعة ومستكم من ترك ما لا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإلى وعلى، والضياع يعني: ولده المسكين
.
بأمانيكم : الأماني : جمع أمنية. وخلاصة ما قاله الراغب في معناه : أنها هي الصورة الحاصلة في النفس، المترتبة على التمني. أما التمني : فهو الرغبة الشديدة في شيء يقدره الشخص في نفسه.
وليا : أحدا يلي أمر الدفاع عنه بالقول.
ولا نصيرا : ينصره ويمنعه بالقوة من العقاب.
التفسير :
١٢٣- لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ... الآية.
لما بين الله سوء مصير من اغتر بوعود الشيطان وأمانيه الكاذبة، وعقبه بذكر حسن مصير المؤمنين الصالحين، أتبع ذلك بيان أن الأمر-بعد الموت- لا يكون بالتمني من هؤلاء وأولئك، بل يكون بالعمل الصالح، فإن الآخرة هي دار الجزاء... والجزاء من جنس العمل. فمن يعمل سوءا يجز به سوءا ومن يعمل خيرا يجز به خيرا ولا يظلم ربك أحدا.
سبب النزول :
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم : عن السدى، قال : التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى، فقال اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى : مثل ذلك. فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم، ونبينا صلى الله عليه وسلم بعد نبيكم، وديننا بعد دينكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم، فنحن خير منكم، ونحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحق. ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا ؛ فأنزل الله : لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ... الآية.
وقال القرطبي : من أحسن ما قيل في سبب نزولها، ما رواه الحكم بن أبان، عن عكرمة عن ابن عباس. قال : قال اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان منا، وقالت قريش : ليس نبعث فأنزل الله : لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ... الآية.
معنى : ليس الفوز بدخول الجنة والتقلب في نعيمها الذي وعده الله الصالحين، حاصلا بأمانيكم-أيها المسلمون- ولا بأماني أهل الكتاب، فإن الأماني- وحدها- لا تحقق هذه الغاية العظيمة، وإنما يحققها- مع الإيمان- العمل الصالح. أما العمل النافع وحده فلا يحققها ؛ لخلوه من قصد وجه الله تعالى، وهذا يستلزم الإيمان. كما أن عدم البعث ليس بأماني من أنكروا البعث، فإنه حاصل، وسيجزى بعده الناس على أعمالهم : فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. ( الزلزلة : ٧-٨ ) ولذا قال تعالى بعده :
مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا. من يعمل عملا سيئا، سواء أكان من كسب القلوب : كالكفر، و الحقد، والحسد، وسوء الظن بالمسلمين، أم كان السبب الجوارح : كالقتل، والسرقة، وأكل مال اليتيم، والتطفيف في الكيل والميزان – يعاقبه الله عليه بما يسوءه، ولا يجد له أحدا ينقذه منه، من ولي يدافع عنه بالقول والشفاعة، أو نصير ينصره بالقوة... فالكل مقهور لله الوالحد القهار.
ولما نزلت هذه الآية، كان لها أثر شديد في نفوس المؤمنين.
يصوره ما أخرجه الترمذي وغيره عن أبي بكر رضي الله عنه- أنه قال للرسول- صلى الله عليه وسلم- بعد أن سمعها :'' بأبي أنت و أمي يا رسول الله ! وأينا لم يعمل سوءا، وإنا لمجزيون بكل سوء علمناه ! '' ١
وما أخرجه الإمام مسلم وغيره عن أبي هريرة قال : " لما نزلت هذه الآية، شق ذلك على المسلمين، وبلغت منهم ما شاء الله تعالى _ فشكوا ذلك إلى رسول الله_ صلى الله عليه وسلم _فقال : سددوا وقاربوا، فإن كل ما أصاب المسلم كفارة، حتى الشوكة يشاكها، والنكبة ينكبها " ٢.
ومن هذا الحديث، نفهم أن الله تعالى، يكفر الخطايا بالبلايا _صغرت أم كبرت_ والأحاديث الواردة في هذا كثير.
ولهذا أجمع العلماء أن مصائب الدنيا وهمومها_ وإن قلت مشتقتها _ تكفر بها الخطايا ؛ إذا صبر صاحبها.
والأكثرون على أنها ترفع بها الدرجات، وتكفر بها السيئات.
وهو صحيح المعول عليه.
ومما صح في ذلك عن رسول الله_ صلى الله عليه وسلم _ أنه قال :" ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها سيئة " ٣ أورده الألوسي.
رواه الترمذي في تفسير القرآن (٣٠٣٩) وأحمد في مسنده (٢٤) من حديث أبي بكر الصديق قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه هذه الآية ﴿من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا﴾ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت على قلت: بلى يا رسول الله قال: فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني قد كنت وجدت انقصاما في ظهري فتمطأت لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شأنك يا أبا بكر قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأينا لم يعمل سوءا وإنا لمجزون بما علمنا؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت يا أبا بكر والمؤمنين فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب وفي إسناده مقال وموسى ابن عبيدة يضعف في الحديث ضعفه يحيي بن سعيد وأحمد بن حنبل ومولى بن سباع مجهول وقد روى هذا الحديث من غير هذا الوجه عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح أيضا وفي الباب عن عائشة. قال السيوطي في الدر: وأخرج أحمد وهناد وعبد بن حميد والحكيم والترمذي وابن جرير وأبو يعلى وابن المنذر وابن حبان وابن السني في عمل اليوم والليلة والحاكم وصحيحه والبيهقى في شعب الإيمان والضياء في المختارة عن أبي بكر الصديق أنه قال:" يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية ﴿ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به﴾ فكل سوء جزينا به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تنصب، ألست تمرض، ألست تحزن، ألست تصيبك الأواء؟ قال: بلى. قال: فهو ما تجزون به".
.
٢ سددوا وقاربوا:
رواه الترمذي في تفسير القرآن باب ومن سورة النساء (٥٠٢٩) عن أبي هريرة قال: لما نزلت ﴿من يعمل سوءا يجز به﴾، شق ذلك على المسلمين فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قاربوا وسددوا. وفي كل ما يصيب المؤمن كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها" هذا حديث حسن غريب.
.
٣ ما من مسلم يشاك شوكة:
رواه البخاري في المرضى باب: ما جاء في كفارة المرضى (٥٣١٧) ومسلم في البر والصلة و الاداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن (٢٥٧٢) عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها). ورواه البخاري فيما تقدم (٥٣١٨) عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أدى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه).
.
نقيرا : النقير هو النقرة في ظهر النواة. وهو مثل يضرب للقلة والحقارة.
التفسير :
١٢٤_ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا.
إنها العدالة الإلهية في عقاب المسيء ومكافأة المحسن ؛ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
وكان أهل الجاهلية يحجبون البنت من الميراث ويقولون : إنما يرث من يركب الفرس ويمسك السيف، ويحمي القبيلة، فسما الإسلام بالبنت وليدة وناشئة وزوجة وأما، وجعلها شريكة للرجل في الإيمان والعمل الصالح والولاء، وجعل لها الحق في البيع والشراء، وتملك الأموال والعقار.
وفي هذه الآية يضع قاعدة عامة هي :
من يعمل شيئا من الأعمال الصالحة _ من الذكور والإناث _ في حال إيمانه ؛ فأولئك المؤمنين الصالحون يدخلون الجنة، ولا ينقصون شيئا من الثواب على أي عمل، ولو كان مشبها للنقير : في القلة، والنقير : نقرة في ظهر النواة، يضرب بها المثل في أدنى الأمور.
قال الأستاذ سيد قطب : وهذه الآية نص صريح على وحدة القاعدة في معاملة الذكر والأنثى، وفي اشتراط الإيمان لقبول العمل.
وهذه الألفاظ الصريحة تخالف ما ذهب إليه الأستاذ، الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في تفسير جزء عم عند قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. إذ رأى النص لعمومه هذا يشمل المسلم وغير المسلم بينما النصوص الصريحة الأخرى تنفي هذا تماما، وكذلك ما رآه الأستاذ، الشيخ المراغي رحمه الله، وقد أشرنا إلى هذه القصة في جزء عم " الجزء الثلاثين من الظلال " ١.
.
أسلم وجهه : الوجه هنا مجاز عن الذات أي : أخلص ذاته ونفسه لله.
حنيفا : مائلا عن الأديان الباطلة.
واتخذ الله إبراهيم خليلا : الخليل- كما قال الزجاج- : هو من ليس في محبته خلل.. اه. فمعنى اتخذ إبراهيم خليلا : أنه تعالى، أحبه حبا لا نقص فيه، واصطفاه اصطفاء كاملا.
التفسير :
١٢٥ _ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ..
يحتاج العمل المقبول إلى ركنين أساسيين :
الأول : الإخلاص لله تعالى بهذه العمل، وأن يقصد به وجه الله، وأن يبعد به صاحبه عن الرياء والسمعة.
والثاني : أن يكون العمل موافقا للشرع، فقد حسنه الشرع فلا حسن إلا ما حسنه الشرع.
ومتى فقد العمل واحدا من هذين الركنين فسد، فمن عمل عملا لغير الله لم يقبله الله، ومن عمل عملا غير موافق لأصول الدين وقواعده و أحكامه كان مردودا عليه، و الآية تثبت ذلك والاستفهام منها بمعنى : النفي الإنكاري، والمعنى : لا يوجد أحسن _في الدين_ ممن أخلص نفسه وذاته لله، فلم يعرف لها ربا سواه، ولم يتوجه لغيره سبحانه، يفعل ذلك وهو محسن في عمله بألا يتترك واجبا، ولا يفعل محرما.
واتبع ملة إبراهيم حنيفا. قال ابن كثير :( وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة ) فمن آمن بالله ربا و بمحمد رسولا، و اختار الاسلام دينا ؛ صار متبعا ملة ابراهيم عليه السلام في العقائد و اصول الاحكام.
و معنى حنيفا : أى : مائلا عن الاديان الزائفة ؛ حال من ابراهيم عليه السلام و يجوز ان يكون حال من فاعل واتبع. أي : سار على الاسلام ملة ابراهيم حال كونه مائلا عن الاديان التي تشرك بالله سبحانه و تعالى.
واتخذ الله إبراهيم خليلا... تذييل جئ به ؛ للترغيب في إتباع ملته عليه السلام والمعنى : أحب الله إبراهيم حبا كاملا، لا خلل فيه ينقصه عن الكمال.
قال الألوسي : واتخذه الله خليلا ؛ لإظهاره الفقر و الحاجة إلى الله تعالى، وانقطاعه إليه، وعدم الالتفات إلى من سواه، كما يدل على ذلك قوله لجبريل عليه السلام حين قال له يوم ألقى في النار : ألك حاجة ؟ : أما إليك فلا، ثم قال : حسبي الله تعالى ونعم الوكيل، المشهور أن الخليل دون الحبيب ١.
وليس في الآية ما يفيد قصر الخلة على إبراهيم ؛ فقد اتخذ الله نبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_ خليلا أيضا.
وروى مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا، ولكنه أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا " ٢.
وروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا سيد ولد آدم يوم القيمة و لا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من بني يومئذ _ آدم فمن سواه_ إلا تحت لوائي، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر ! " ٣
.
٢ لو كنت متخذا خليلا:
رواه البخاري في الصلاة (٤٦٦) وفي المناقب (٣٩٠٤، ٣٦٠٤) ومسلم في فضائل الصحابة (٢٣٨٢) والترمذي في المناقب (٣٦٦٠) (١٠٧٥٠) من حديث أبي سعيد الخدري قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله" فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد وكان أبو بكر أعلمنا قال: يأأبا بكر لا تبك إن أمن الناس على صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودة لا يبقين في المسجد باب إلى سد إلا باب أبي بكر". ورواه البخاري في الصلاة (٤٦٧) وفي المناقب (٣٦٥٦) وفي الفرائض (٦٧٣٨) والدرامي في الفرائض (٢٩١٠) وأحمد في مسنده (٣٣٧٥، ٢٤٢٨) من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن أخي وصاحبي" رواه البخاري في المناقب (٣٦٥٨) (١٥٦٨، ١٥٦٧٥) عبد الله بن أبي مليكة قال: كتب أهل الكوفة إلى ابن الزبير في الجد فقال: أما الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا في هذه الأمة خليلا لاتخذته" أنزله يعني أبا بكر. ورواه مسلم في المساجد (٥٣٢) من حديث جندب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائكم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك". رواه مسلم في فضائل الصحابة (٢٣٨٣) والترمذي في المناقب (٢٦٥٥) وابن ماجه في المقدمة (٩٣) وأحمد في مسنده (٤٣٩٩، ٤٣٤١، ٣٦٨١، ٣٥٧٠) من حديث عبد الله بن مسعود يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكنه أخي وصاحبي وقد اتخذ الله عز وجل صاحبكم خليلا. ورواه أحمد في مسنده (١٥٤٩٢) والترمذي في المناقب (٣٦٥٩) من حديث ابن أبي المعلى عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما فقال: "إن رجلا خيره ربه بين أن يعيش في الدنيا ما شاء أن يعيش ويأكل في الدنيا ما شاء أن يأكل و بين لقاء ربه فاختار ربه" قال: فبكى أبو بكر فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تعجبون من هذا الشيخ إذ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا صالحا خيره ربه بين الدنيا وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه قال: فكان أبو بكر أعلمهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: بل نفديك بآبائنا وأموالنا فقال رسول الله ما من الناس أحد أمن إلينا في صحبته وذات يده من ابن أبي قحافة ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا ولكن ود وإخاء إيمان ود وإخاء إيمان مرتين أو ثلاثا وإن صاحبكم خليل الله. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ورواه الترمذي في المناقب (٣٦٦١) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدا يكافيه الله بها يوم القيامة وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن صاحبكم خليل الله". وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
.
٣ أنا سيد ولد آدم:
رواه مسلم في الفضائل (٢٢٨٧) وأبو داود في السنة (٤٦٧٣) وأحمد (١٠٥٨٩) من حديث أبي هريرة. رواه الترمذي في تفسير القرآن (٣١٤٨) وفي المناقب (٣٦١٥) وابن ماجه في الزهد (٤٣٠٨) وأحمد (١٠٦٠٤) من حديث أبي سعيد. رواه أحمد (٢٦٨٧، ٢٥٤٢) من حديث ابن عباس صلى الله عليه وسلم.
.
محيطا : عليما شامل العلم.
التفسير :
١٢٦- وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا...
إنه سبحانه غني عن الخليل أو المعين، فهو سبحانه مالك السماوات والأرض ؛ متصف بالهيمنة والقهر والعلم والسلطان. وهذه الألوهية الحقة، تستدعي إخلاص العبادة والتوجه والعمل له سبحانه.
فهو مالك كل شيء، وهو بكل شيء محيط، وهو مهيمن على كل شيء، وفي ظل هذا التصور الإسلامي يصلح الضمير ويصلح السلوك وتصلح الحياة.
الكتاب : القرآن
يتامى النساء : اللائي لا حول لهن.
وترغبون أن تنكحوهن : تطمعون في مالهن من الميراث والصداق، فتتزوجونهن لذلك، أو تمنعونهن من الزواج، وتعضلونهن لذلك.
والمستضعفين من الوالدان : الأطفال اليتامى.
بالقسط : بالعدل.
التفسير :
١٢٧- وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء... الآية.
الربط : في هذه الآية- وما تلاها- رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء واليتامى. وكان المسلمون قد بقيت لهم أحكام، سبق لهم السؤال عنها، فلم يجبهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- انتظارا للوحي.
روى أشهب عن مالك رضي الله عنهما، قال : كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يسأل فلا يجيب، حتى ينزل عليه الوحي، وذلك في كتاب الله : ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن، ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير. ( البقرة : ٢٢٠ ) ويسألونك عن الخمر والميسر. ( البقرة١١٩ ) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ. ( طه : ١٠٥ ).
سبب النزول :
أخرج ابن جرير، وابن منذر، عن ابن جبير، قال : كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه، ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا، فلما نزلت المواريث في سورة النساء ؛ شق ذلك على الناس، وقالوا : أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال، والمرأة التي هي كذلك، فيرثان كما يرث الرجل ؟ ! فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء. فانتظروا، فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا : لئن ثم هذا، إنه لواجب ما عنه بد ثم قالوا : سلوا... فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى غير ذلك في سبب النزول ورجح هذا شيخ الإسلام : أبو السعود، كما قاله الألوسي.
ونحن نقول : إن شبب النزول لا يقتضي أنهم لم يسألوا إلا عما جاء فيه، بل سألوا عن غيره أيضا، ولهذا تضمنت الفتوى جواب سؤالهم الوارد في سبب النزول، كما تضمنت عدة أحكام، ستأتي في الآيات التالية، تتعلق بأمر النساء.
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء.
المعنى : ويستفتيك المسلمون- يا محمد- في أحكام الإناث، فيطلبون منك بيان ما يشكل عليهم من أحكامهن، مما يجب لهن أو عليهن.
قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ.
المعنى : قل الله يفتيكم في حكمهن ويبينه لكم. وكذا ما يتلى في أمرهن، مما سبق نزوله قبل هذه الآية، فهو أيضا يفتيكم. و يبين لكم الحكم الشرعي الذي تسألون عنه.
والمقصود من الآية الكريمة : أن الله سيفتيكم- مستقبلا- فيما لم ينزل حكمه من شأن النساء، وأن ما سبق نزوله فيهن ويتلى عليكم. تظل الفتيا أيضا في أمرهن، فيكتمل بالفتاوى- السابقة واللاحقة المشروعة.
وقد أشار المولى سبحانه بقوله :
وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء... الآية. إلى ما سبق في صدر هذه السورة عنهن وعن المستضعفين من الوالدان ابتداء من قوله : وءاتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب... إلى آخر آيتي المواريث.
فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ... أي : ويفتيكم أيضا فيما يتلى عليكم في شأن يتامى الإناث اللاتي لا تؤتونهن- أيها الأولياء- ما كتب لهن من الميراث والصداق، وقد رغبتم في الزواج بهن ؛ طمعا في الميراث والصداق فقد اوجب عليكم فيما نزل بشأنهن أول السورة- أن تسقطوا في شأنهن، بألا تطمعوا في أموالهن الموروثة، وأن تعطوهن من الصداق أعلى سنتهن، وتعدلوا بينهن وبين ضراتهن : في القسم والنفقة وحسن العشرة..
أو يكون المعنى : وإن أنتم رغبتم عن الزواج بهن، فلا تعضلونهن عن الزواج بغيركم ؛ طمعا في أموالهن.
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ. أي : ويفتكم فيما يتلى عليكم في شأن المستضعفين من الأولاد والصغار اليتامى : ذكورا وإناثا. فقد أوجب عليكم- فيما سبق- أن تحافظوا على أموالهم، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم، وأفهمكم أن أكل أموالهم ذنب كبير، وأوجب عليكم أن تؤدوا أموالهم إليهم عند بلوغهم رشدهم دون مماطلة.
وبالجملة : فقد أوجب عليكم- هنا وفيما مر في صدر هذه السورة- أن تقوموا لليتامى بالقسط والعدل، في أمرهم كله. فلا تحاولوا أن تعودوا لما كنتم عليه في الجاهلية، من توريث الرجال الذين يدافعون عن القبيلة وحرمان الصغار والنساء، فذلك جور لا يوافق عليه الإسلام ولا يقره.
وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِهِ عَلِيما... أي : وما تفعلوا- أيها الأولياء- من خير في حقوق من تقدم ذكرهم، فإن الله كان به عليما قبل أن يخلقكم، كما هو عليم به عند فعلكم له فيجزيكم عليه خير الجزاء.
وإنما اقتصرت الآية على ما يفعلونه من الخير، مع انه يعلم ما يفعلونه من شر أيضا، ويجازي عليه بمثله ؛ للإيذان بأن الشر لا ينبغي أن يقع منهم وتحريضا على فعل الخير والاستدامة عليه.
وتكرار هذه الوصية باليتامى والنساء الضعاف- مع ما سبق في أول السورة- لا جتثاث ما عسى أن يكون عالقا بالرجال من أطماع في أموال الضعاف من اليتامى النساء والوالدان.
خافت : علمت أو توقعت.
بعلها : زوجها.
نشوزا : أي ترفعا ١
أو إعراضا : أي : ميلا وعدم اهتمام.
فلا جناح : فلا حرج ولا إثم.
وأحضرت الأنفس الشح : أي : جعل الشح حاضرا في الأنفس ملازما لها، والشح : البخل الشديد.
التفسير :
١٢٨- وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا... الآية.
رسم القرآن الكريم سبيل الحياة الزوجية، وآداب العشرة بين الزوجين في الخلاف والوفاق.
وقد رعى القرآن فطرة الإنسان فالله خالق الإنسان وهو أعلم به، وقد تكبر الزوجة، أو يزهد الرجل فيها، أو يعزم على طلاقها، وترى الزوجة أنها في حاجة إلى بقائها في عصمة الزوج وجواره ؛ فتتنازل له عن شيء من مهرها أو عن بعض حقوقها في المبيت، فإذا فعلت ذلك جاز للزوج أن يقبل ذلك. ويجب ألا يتمادى في الظلم بل يكون عادلا مع تنازل الزوج.
وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة : قالت : لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة ٢.
وفي صحيح البخاري : عن هشام عن أبيه عروة قال : " لما أنزل الله في سودة وأشباهها : وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا. وذلك أن سودة كانت امرأة قد أسنت ففرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضنت بمكانها منه، وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة و منزلتها منه ؛ فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ٣ وكذلك رواه داود، والحاكم في مستدركه.
وقال البخاري : حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة :
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا... قالت : الرجل تكون عنده المرأة المسنة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول : أجعلك من شأني في حل فنزلت هذه الآية.
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ٤
معنى الآية : إذا رأت الزوجة من زوجها تغييرا في معاملته أو انصرافا عنها و إعراضا.
وأمارات النشوز : الغلظة والجفاء.
و أمارات الاعراض : أن يقلل من محادثتها و مؤانستها، وأن يتساهل في تحقيق رغباتها ؛ إما لدمامتها، أو لكبر سنها، أو لغير ذلك.
فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا... أي : فلا إثم على الزوجة فيما تفعله ؛ لإصلاح ما بينها وبين زوجها، من إعفائه من صداقها أو نفقتها أو بعضهما، أو من مسكن أو كسوة، أو فيما تعطيه من مالها، أو فيما تنزل له عنه من نصيبها في القسم، تستعطفه بذلك، وتستديم المقام في عصمته والتمسك بالعقد الذي بينه وبينها من النكاح، ولا إثم على الزوج في قبول ذلك منها، فإن ذلك لا يعتبر رشوة حتى يتحرجا منها، بل يعتبر سبيلا إلى عودة المودة واستمرار الزوجية بينهما، وذلك أسمى في نظر الدين من تلك الماديات اليسيرة التي تعينت لعودة المودة بينهما.
روى أبو داود والطيالسى عن ابن عباس :
" فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز ".
وَالصُّلْحُ خَيْر...
قال الطبري : يعني : والصلح يترك بعض الحق استدامة للحرمة وتمسكا بعقد النكاح، خير من طلب الفرقة والطلاق ٥.
وروى أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " ٦
سأل رجل الإمام عليا عن قول الله عز وجل.
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا... فقال : يكون الرجل عنده المرأة فتنبو عيناه عنها. من دمامتها، أو كبرها، أو سوء خلقها، أو قذرها، فتكره فراقه، فإن وضعت له شيئا من مهرها حل له وإن جعلت له من أيامها فلا حرج ٧.
وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّح...
قال الطبري : أحضرت أنفس النساء الشح بأنصبائهن من من أزواجهن في الأيام والنفقة، فتاويل الكلام : وأحضرت أنفس النساء أهواءهن ؛ من فرط الحرص على حقوقهن من أزواجهن والشح بذلك على ضرائرهن.
من المفسرين من قال : عني بذلك.
" وأحضرت أنفس الرجال والنساء الشح ".
المعنى :
وجعل البخل والحرص على النفع الذاتي، حاضرا في الأنفس ملازما لها، لا يغيب عنها ؛ لأنه من طبعها، فلذا لا تكاد الزوجة تفرط في حقوقها عند الزوج، ولا يكاد الزوج يجود بالإنفاق وحسن المعاشرة لمن لا يريدها.
وإذا كان ذلك هو ما فطرت عليه النفوس، فينبغي- لكل من الزوجين- أن يقدر حرص الآخر على مصلحته، فلا يهدرها تماما، فترضى الزوجة حرص الزوج بالبذل والتضحية، ويرضى الزوج حرص الزوجة فلا يقسو عليها في مطالبه ٨.
وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا... وإن تحسنوا- أيها الرجال- في أفعالكم إلى نسائكم إذا كرهتم منهن دمامة أو خلقا، أو بعض ما تكرهون منهن بالصبر عليهن، وإيفائهن حقوقهن وعشرتهن بالمعروف ٩.
وتتقوا. الله فيهن بترك الجور منكم عليهن وعدم إكراههن على ترك شيء من حقوقهن.
قال ابن كثير : وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن، وتقسموا لهن أسوة بأمثالهن فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء.
.
٢ لما كبرت سودة:
رواه البخاري في الهبة (٢٥٩٤) وفي الشهادات (٢٦٨٨) وفي النكاح (٥٢١٢) وأبو داود في النكاح (٢١٣٨) وابن ماجه في النكاح (٢١٣٨) وابن ماجه في النكاح (١٩٧٢) وأحمد في مسنده (٢٤٣٣٨، ٢٣٨٧٤) عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول اله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غير سودة بن زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه النسائي في النكاح (٣١٩٧) ابن عباس قال توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده تسع نسوة يصيبهن إلا سودة فإنها وهبت يومها وليلتها لعائشة.
.
٣ لما أنزل الله في سودة:
رواه أبو داود في النكاح (٢١٣٥) من حديث هشام بن عروة عن أبيه قال: قالت عائشة: يا ابن أختي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله يومي لعائشة فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قالت: نقول: في ذلك أنزل الله تعالى وفي أشباهها أراه قال: ﴿وإن خافت امرأة من بعلها نشوزا﴾. لم أره في البخاري بهذا اللفظ، وانظر ما قبله، وما بعده.
.
٤ الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها:
رواه البخاري في المظالم (٢٤٥٠) وفي الصلح (٢٦٩٤) وفي تفسير القرآن (٤٦٠١) وفي النكاح (٥٢٠٦) ومسلم في التفسير (٣٠٢١) من حديث عائشة رضي الله عنها في هذه الآية ﴿وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا﴾ قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول: أجعلك من شأني في حل فنزلت هذه الآية في ذلك.
.
٥ تفسير الطبري ٩/٢٦٨.
.
٦ أبغض الحلال إلى الله الطلاق:
رواه داود في الطلاق (٢١٧٨، ٢١٧٧)وابن ماجه في الطلاق (٢٠١٨) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
ورواه أبو داود في الطلاق (٢١٧٧) مرسلا قال الحافظ في التلخيص: ورجح أبو حاتم والدارقطني في العلل والبيهقي المرسل.
.
٧ تفسير ابن كثير ١/٥٦٣.
.
٨ ( التفسير الوسيط مجمع البحوث الإسلامية- الأزهر الحزب العاشر ص ٩٣٠.
.
٩ تفسير الطبري ٩/٢٨٣
.
كالملعقة : المرأة المعلقة ؛ هي التي ليست مطلقة ولا صاحبة زوج، كما قال ابن عباس رضي الله عنه. أو هي المسجونه. كما قال قتادة رضي الله عنه.
التفسير :
١٢٩- وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ.
العدل بين النساء مطلوب في الأمور المادية وهي النفقة والكسوة والمبيت وما يتصل بذلك من حقوق الزوجة، أما العدل في الأمور القلبية من الحب وما يتصل به فغير مستطاع. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ويعدل ثم يقول " اللهم، هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " يعني : القلب.
وهناك آيتان في سورة النساء تتحدثان عن هذا الموضوع : الآية الثالثة من سورة النساء حيث قال سبحانه :
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ.
والآية ١٢٩ من النساء- التي نتكلم عن تفسيرها- وهي :
وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا.
وقد فهم بعض الناس فهما خاطئا مؤداه : أن الاسلام نهى عن تعدد الزوجات ؛ لانه قال في الاية الثالثة من سورة النساء. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً.
و قال في الاية١٢٩ من سورة النساء : وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ أي : ومادام العدل غير مستطاع ؛ فقد وجب الاقتصار على زوجة واحدة.
وهذا فهم خاطئ.
لأن قوله تعالى : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً. يتكلم عن العدل المادي في المأكل والمسكن والمبيت.
وقوله سبحانه : وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ. يتكلم عن العدل في الحب وميل القلب فالله خالق الإنسان وهو أعلم به.
وإذا كان العدل في أمور الحب غير مستطاع. فإن على الإنسان ألا ينساق وراء الأسباب الداعية إلى الميل بقدر طاقته ويعفى عما خرج عن الطوق.
أي : إذا عجزتم عن تحقيق العدل في الحب وميل القلب ؛ فلا تميلوا إلى من تحبونها كل الميل
بحيت تتركون الضرة الأخرى أشبه بالمرأة المعلقة التي تركها زوجها فلا هي متزوجة تتمتع بحب الزوج ورعايته وعطفه ولا هي مطلقة تلتمس الأزواج ويتقدم لها الخطاب.
قال تعالى : فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ...
قال الطبري : وإنما أمر الله جل ثناؤه بقوله : فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ. الرجال بالعدل بين أزواجهن فيما استطاعوا فيه العدل بينهن، من القسم بينهن، والنفقة وترك الجور.. في ذلك بتفضيل إحداهن على الأخرى فيما فرض عليهم العدل بينهن فيه، إذ كان قدح صفح لهم عما لا يطيقون العدل فيه بينهن مما في القلوب من المحبة والهوى١
وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا.
قال الطبري : و إن تصلحوا أعمالكم_ أيها الناس _ فتعدلوا في قسمكم بين أزواجكم، وما فرض الله لهن عليكم من النفقة والعشرة بالمعروف.
واتقوا الله في الميل الزائد لإحداهن.
فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا. يغفر لكم ما سبق من التقصير في حق بعض الزوجات ويتوب عليكم من الميل إلى بعض الزوجات دون بعض.
.
يغن الله كلا من سعته : أي : يغن الله كليهما من غناه الواسع.
التفسير :
١٣٠_ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ... الآية
فإن قبلت المرأة التي قد نشر عليها زوجها، الصلح بصفحها لزوجها عن يومها وليلتها، وطلبت حقها منه من القسم والنفقة وما أوجب الله لها عليه، وأبي الزوج عليها ذلك فتفرقا بطلاق الزوج لها ؛ فإن الله يغنه عنها ويغنها عنه، بأن يعوضه الله من هو خير له منها، ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه.
وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا... أي : كان الله ولا يزال واسع الغنى كافيا، حكيما. في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.
ولقد وصينا : ولقد أمرنا أمرا مؤكدا.
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم : المراد بهم : أهل الكتب السماوية السابقون جميعا : اليهود، والنصارى، و غيرهم.
حميدا : مستحقا للحمد، وإن لم يحمده الحامدون.
التفسير :
١٣١ _ وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ... الآية
ولله جميع ملك ما حوته السماوات السبع والأرضون السبع من الأشياء كلها.
و إنما ذكر جل ثناؤه ذلك بعقب قوله : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته. تذكيرا منه لخلقه باللجوء إلى ذلك الباب عند الشدائد والخطوب، فمن كان له ملك السماوات والأرض خلقا وملكا وتصرفا لا يتعذر عليه إغناء الزوجين بعد فرقتهما، ولا إيناسهما بعد وحشتهما.
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ...
قال الطبري : رجع جل ثناؤه إلى عذل من سعى في أمره بني أبيرق وتوبيخهم، ووعيد من فعل فعل المرتد منهم فقال : وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ.. يقول :
ولقد أمرنا أهل الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل وإياكم وأمرناكم وقلنا لكم ولهم : اتقوا الله يقول : احدروا الله أن تعصوه وتخالفوا أمره ونهيه ١
وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ... وقلنا لهم ولكم : إن تكفروا وتجحدوا وصيته إياكم فتخالفوها ؛ فإنكم لا تضرون غير أنفسكم ؛ فالله غبي حميد لا يضره كفركم ومعاصيكم،
ولا ينفعه إيمانكم وتقواكم وفي الآية الثامنة من سورة إبراهيم : وقال موسى إن تكفروا وأنتم ومن في الأرض جميعا فإن فإن الله غني حميد.
وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا. أي : كان قبل أن تكونوا، ولا يزال بعد ما كنتم.
حميد. أي : محمودا في جميع ما يقدره ويشرعه.
.
وكفى بالله وكيلا : وكفى به قيما وكفيلا ؛ توكل إليه الأمور.
التفسير :
١٣٢- وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً.
ولله ملك جميع ما حوته السماوات والأرض، وهو القيم بجميعه، والحافض لذلك كله، لا يعزب عنه علم شيء منه، ولا يؤوده حفظه وتدبيره ؛ فهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب الشهيد على كل شيء.
وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا...
قال الطبري : وكان الله على إهلاككم وإفنائكم، واستبدال آخرين غيركم قديرا يعني : ذا قدرة على ذلك ١
كما قال تعالى : وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ... ( محمد : ٣٨ )
قال بعض السلف :
ما أهون العباد على الله ؛ إذا أضاعوا أمره.
وقال عز شأنه : إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ. ( فاطر : ١٦، ١٧ ).
.
وقال تعالى : مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ.. ( الشورى : ٢٠ )
وكان الله سميعا بصيرا... أي : وكان الله سميعا لما يقول العباد، بصيرا بأعماله ونياتهم فيجازي كلا على حسب حاله.
وذهب الطبري إلى أن معنى الآية : وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا. أي : من المنافقين الذين أظهروا الإيمان لأجل ذلك.
فإن الله مجازيه به جزاءه في الدنيا.
وجزاءه في الآخرة العقاب والنكال.
كما قال في الآية الأخرى :
مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ*أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ... ( هود : ١٥، ١٧ ).
والإمام ابن كثير نقل رأى الطبري وقال : إن هذا التفسير للطبري فيه نظر : فإن قوله تعالى : فعند الله ثواب الدنيا والأخرة. ظاهرة في حصول الخير في الدنيا و الأخرة.
أي بيده هذا وهذا فلا يقتصر قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة ؛ فإن مرجع ذلك إلى الذي بيده الضر والنفع وهو الله الذي لا إله إلا هو.
قوامين بالقسط : قائمين بالعدل مع المواظبة عليه، والمبالغة فيه.
وإن تلووا : وإن تميلوا ألسنتكم بالشهادة، بالإثيان بها على غير وجهها.
أَوْ تُعْرِضُواْ : أي : تتركوا إقامتها أو تقيموها على غير وجهها.
١٣٥_ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ... الآية.
هذه الآية _والتي بعدها _ فيهما امتداد للحديث عن العدل، الذي سبق طرف منه في الآيات السابقة. وبين الإيمان والعدل رباط وثيق ؛ لأن الإيمان الصحيح، يقتضي إمام العدل والقسط بين الناس.
والمعنى : يأيها الذين آمنوا، كونوا مواظبين على العدل في جميع الأمور، مجتهدين في إقامته كل الاجتهاد ؛ لا يصرفكم عنه صارف. وكونوا شهداء ولو عى أنفسكم أو الوالدين والأقربين. وذلك بأن تقيموا شهاداتكم بالحق خالصة لوجه الله، لا لغرض من الأغراض الدنيوية، مهما يكن أجره، ولو عادت الشهداة بالضرر عليكم، أو على الوالدين والأقربين. فإن الحق أحق أن يتبع، وأولى بالمراعاة من كل عاطفة وغرض.
إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا... أي : فلا يكن المشهود عليه غنيا يرجى نفعه. أو فقيرا يثير فقره الرحمة، فلا تتأثروا بذلك كله في شهاداتكم. فالله أولي بالأغنياء والفقراء، وأحق منكم برعاية ما يناسب كلا منهما. ولولا أن أداء الشهادة على وجهها فيه مصلحة لهما، لما شرعه الله. فراعوا أمره- تعالى- فإنه أعلم بمصالح العباد منكم.
فلا تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ... أي : فلا تتبعوا في شهادتكم-على هذا أو ذاك- هواكم : كارهين إقامة العدل في شهاداتكم من أجل الرغبة في مصلحتهما ؛ لأن اتباع الهوى والميل، ضلال لا يليق بالمؤمنين. وإقامة العدل حق وهدى : يجب على المؤمنين- وجوبا مؤكدا- أن يتصفوا به.
وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا... أي : وإن تميلوا ألسنتكم عن الشهادة بالإتيان بها على غير وجهها الذي تستحقه أو تعرضوا عنها وتتركوا إقامتها وتهربوا من أدائها- فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ. من التحريف، أو الكذب، أو ترك الشهادة وكتمانها خبيرا. وعليما.
قال : وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ... ( البقرة : ٢٨٣ ).
قال الطبري : وهذه الآية عندي تأديب من الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق- في سرقتهم ما سرقوا وخيانتهم ما خانوا- عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم عنده بالصلاح فقال لهم : إذا قمتم بالشهادة لإنسان أوعليه ؛ فقولوا فيها بالعدل. ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم، ولا يحملنكم غنى من شهدتم له، أو فقره أو قرابته ورحمة منكم على الشهادة له بالزور، ولا على ترك الشهادة عليه بالحق وكتمانها ١
والآية بعد كل هذا تظل معلما رفيعا، ومنارة هادية إلى الشهادة بالحق ولو كان ذلك على الإنسان أو قرابته أو من يهمه أمرهم لأى سبب كان كرعاية الجار، أو الطمع في جاره، أو منصب عند حاكم، أو انتصار لطائفة أو مذهب، أو نحو ذلك وما جاء في الآية إنما هو من باب ضرب المثل.
جاء في تفسير ابن كثير :
ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارتهم وزرعهم فأرادوا أن يوشوه ؛ ليرفق بهم ؛ فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلى، ولأنتم أبعض إلى من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبى إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم، فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض.
.
يخاطب الله تعالى بهذه الآية أهل الكتاب فقد كان لهم نوع من الإيمان والتصديق ولكنه إيمان غير كامل. فقد آمن اليهود بموسى وبالتوراة وكفروا بعيسى وبالإنجيل، كما آمن النصارى بموسى وبعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال الطبري في تفسير الآية :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ. بمن قبل محمد من الأنبياء والرسل، وصدقوا بما جاءهم به من عند الله..
آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِه. ِ صدقوا بالله وبمحمد رسوله، أنه لله رسول، مرسل إليكم وإلى سائر الأمم قبلكم.
وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ. وصدقوا بما جاءكم به محمد من الكتاب الذي نزله الله عليه وهو القرآن الكريم.
وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ. وآمنوا بالكتاب الذي أنزل الله من قبل القرآن وهو التوراة والإنجيل.
وقال ابن كثير : وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ.. جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة، وقال في القرآن نزل : لأنه نزل منجما على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم ومعادهم.
وأما الكتب السابقة فكانت تنزل جملة واحدة ؛ لهذا قال تعالى : وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ.
وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ... ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء من عند الله، فقد كفر بجميع ما أمر الله به ؛ لأنه فرق بين الرسل وقال : نؤمن ببعض ونكفر ببعض.. وهذا خروج عن دين الله وهدية واتباع للضلال والهلاك.
فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا... فقد بعد الحق بعدا سحيقا ؛ لأن الخروج عن دين الله وهدية يتبعه الهلاك والضلال والبوار.
ومن المسفرين من قال : معنى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ. أي : استمرار واثبتوا على إيمانكم بالله ورسوله بالقرآن الكريم وبالكتب السماوية السابقة على القرآن وهي : الثوراة، والإنجيل، والزبور، وإلى هذا المعنى ذهب الإمام ابن كثير في فسيره حيث قال : يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل بل من باب تكميل الكامل وتتقريره وتثبيته والإستمرار عليه كما يقول المؤمن في كل صلاة : آهدنا الصراط المستقيم.
أي : بصرنا فيه وزدنا هدى وثبتنا عليه، فأمرهم بالإيمان به وبرسله كما قال تعالى :
يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله. ( الحديد : ٢٨ ).
ازدادوا كفرا : عادوا واستمروا فيه.
التفسير :
١٣٧_ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا... الآية
هذه الآية، بينت حال بعض الكافرين، وهم المنافقين الذين ترددوا بين الإيمان الظاهر أمام المؤمنين، وبين الكفر، حينما يلتقون بالكافرين أمام المؤمنين.
والمعنى : إن المنافقين الذين أظهروا الإيمان أمام المؤمنين رياء، ثم كفروا أوليائهم الكافرين، ثم عادوا إلى إلى إظهار الإيمان حين لقائهم بالمؤمنين، ثم كفروا عند عودتهم إلى الكافرين، ثم ازدادوا في دخيلة أنفسهم كفرا وجحدوا، واستمروا عليه_ إن هؤلاء :
لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً. أي : هؤلاء المنافقين المذكورون، قد حكم الله بأنهم محرومون من أن يغفر الله لهم كفرهم ومعاصيهم، ومحرومون من أن يهديهم الله إلى الحق ؛ لإصرارهم على الكفر والنفاق.
وقيل : إن المراد من هؤلاء : قوم تكرر منهم الارتداد، وأصروا على الكفر وتمادوا في الغنى والضلال.
بشر المنافقين : أنذرهم.
التفسير :
١٣٨_ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.
بعد أن أوصد الله في وجه هؤلاء المنافقين أبواب الرحمة والهداية، نتيجة تكرر الكفر منهم، أمر الله رسوله أن ينذرهم بأنه أعد لهم في الآخرة عذابا شديد الإيلام، وعبر عن الإنذار بالتبشير ؛ تهكما بهم وسخرية منهم، وإيناسا لهم المبشرات كلها، وأنها _بفرض وقوعها كما هي هنا _ فليس لها رصيد لا العذاب الأليم ؛ لتلاعبهم بالعقيدة وسخريتهم بها.
أيبتغون : أيطلبون.
العزة : الغلبة والقوة.
التفسير :
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ... الآية
أي : أولئك هم الذين يوالون الكافرين ويتخذونهم أعوانا وأنصارا لما يتوهمونه فيهم من القوة ويتركون ولاية المؤمنين، ويقولون للكافرين إذا خلوا بهم إنا معكم إنما نحن مستهزءون.. البقرة : ١٤ ).
أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ : أي : أيطلبون بموالاة الكفر : القوة والغلبة ؟ والاستفهام إنكاري أي : أيطلبون العزة ممن لا يستطيع أن يمنحها لهم ؟ !
فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا...
قال الشوكاني : هذه الجملة تعليل لما تقدم من توبيخهم بابتغاء العزة عند الكافرين وجميع أنواع العزة وأفرادها مختص بالله سبحانه، وما كان منها مع غيره فهو من فيضه وتفضله كما في قوله : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. ( المنافقون : ٨ ) والعزة : الغلبة، يقال : عزه يعزه عزا : إذا غلبه.
يخوضوا : يدخلوا.
التفسير :
١٤٠_ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ... الآية
وقد نزل عليكم_ يا معشر المؤمنين في القرآن_ أنكم إذا رأيتم أولئك الكافرين يستهزئون بكتاب الله تعالى : وسمعتم منهم ذلك فاتركوا مجالسهم حتى يخوضوا في حديث غيره.
قال الشوكاني : أي : لا تقلدوا معهم ماداموا كذلك ؛ حتى يخوضوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بها والذي أنزله الله عليهم في الكتاب هو قوله تعالى :
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.. ( الأنغام : ٦٨ )
وقد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يعقدون مع المشركين واليهود حال سخريتهم بالقرآن واستهزائهم به فنهوا عن ذلك١
إنكم إذا مثلهم.. أي : إنكم إن فعلتم ذلك ولم تنتهوا فأنتم مثلهم في الكفر، ولستم بمؤمنين كما تزعمون فإن المرء بجليسه.
إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا.. أي يجتمع الفريقين : الكافرين والمنافقين في الآخرة في نار جهنم ؛ لأن المرء مع من أحب.
قال ابن كثير : أي : كما أشركوهم في الكفر، كذلك يشارك الله بينهم في الخلود في نار جهنم أبدا، ويجمع بينهم في دار العقوبة والنكال والقيود والأغلال وشراب الحميم والغسلين.
.
يتربصون بكم : ينتظرون وقوع أمر بكم.
فتح من الله : نصر منه.
ألم نستحوذ عليكم : ألم نحطكم بعوننا ومساعدتنا.
التفسير :
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ... الآية
هذه الآية _وما بعدها _ تبين لنا بعض سمات المنافقين وصفاتهم، التي كانوا عليها. وأول صفة ذكرت لهم، هي التربص والانتظار ؛ لاستغلال الموافق استغلال الموافق استغلالا دنيئا لمصلحتهم. وهو ما بينه الله بقوله :
فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ. أي : فإن كان لكم نصر على أعدائكم _ بمعونة الله_ تزلفوا لك، وراحوا يطالبون بالمغانم قائلين : ألم نكن معكم. بالعون حتى نصرتم على الأعداء ؟
وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ. من الغلبة في الحرب على المؤمنين.
قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ... أي : قال المنافقون للكافرين : ألم نحطكم بعوننا ومساعدتنا، وإطلاعكم على أسرار المؤمنين ؛ حتى صارت لكم الغلبة عليهم.
وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ. أي : ندفع عنكم صولة المؤمنين بتثبيطنا إياهم، وتباطئنا في معاونتهم، وإشاعة الأخبار التي تهون قلوبهم، وتضعف عزائمهم. فاعرفوا حقنا عليكم، وهاتوا نصيبنا مما غنمتم.
فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : فهو مطلع على دخائل الجميع محقين ومبطلين، فيثبت أولياءه المؤمنين المخلصين، ويعاقب أعداءه المنافقين يوم الجزاء.
وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً. قال ابن كثير : أي : لن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ضفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى :
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ.. ( غافر : ٥١ ).
وعلى هذا يكون ردا على المنافقين فيما أملوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين ؛ خوفا على أنفسهم منهم، إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم كما قال تعالى : فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ... ( المائدة : ٥٢ ).
وفسر بعض العلماء هذه الفقرة على أنها ستكون يوم القيامة ؛ قال الإمام علي :( ( ذلك يوم القيامة ) ).
وقيل : أنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين ما داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل، ولا تاركين للنهي عن المنكر كما قال تعالى : وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ. ( الشورى : ٣٠ ).
قال ابن العربي : وهذا نفيس جدا ١.
.
يخادعون الله : يفعلون مع الله ما يفعل المخادع. وهو إظهار ما لا يبطن.
يراءون الناس : يظهرون للناس غير ما انطوت عليه صدورهم.
التفسير :
١٤٢ _ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ... الآية
هذا الكلام مبتدأ يتضمن بعض قبائح المنافقين وفضائحهم. ولا شك أن الله لا يخادع ؛ فإنه عالم بالسرائر والضمائر.
ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم ؛ يعتقدون أن أمرهم كما راج عند الناس، وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهرا _ فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة، وأن أمرهم يروج عنده..
وَهُوَ خَادِعُهُمْ. أي : هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلال ويخذلهم عن الحق، وعن الوصول إليه في الدنيا، وكذلك يوم القيامة ١.
وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى... الآية. أي : يصلون وهم متثاقلون، لا يرجون ثوابا ولا يخافون عقابا، وما قيامهم للصلاة مع المصلين، إلا مظاهر خداعهم.
يُرَآؤُونَ النَّاسَ.. أي : يقصدون بصلاتهم الرياء و السمعة ولا يقصدون وجه الله.
قال ابن كثير : أي لا إخلاص لهم، ولا معاملة مع الله، بل إنما يشهدون الناس تقية لهم ومصانعة، ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون فيها غالبا كصلاة العشاء وصلاة الصبح، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر " ٢.
وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً... هذه الجمة معطوفة على يراءون. أي : لا يذكرونه سبحانه إلا ذكرا
قليلا، أو لا يصلون صلاة قليلة ووصف الذكر بالقلة ؛ لعدم الإخلاص، أو لكونه غير مقبول أو لكونه قليلا في نفسه.
أو يراد بالقلة : العدم ؛ لأن ذكرهم غير مقبول، فلا فائدة فيه.
.
٢ أثقل الصلاة على المنافقين:
ذكر البخاري تعليقا في مواقيت الصلاة باب ذكر العشاء والعتمة، ثم وصله في الأذان (٦٥٧) ومسلم في المساجد (٦٥١) وابن ماجه في المساجد (٧٩٧) (١٠٤٩٦، ٩٧٥٠، ٩٦٨٧، ٩٢٠٢) والدرامي في الصلاة (١٢٧٣) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر والعشاء ولو يعلمون ما فيهما لأتوها ولو حبوا لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم ثم آمر رجلا يؤم الناس ثم آخذ شعلا من نار فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد. ورواه أحمد في مسنده (٢٠٧٦٧، ٢٠٧٥٨) و أبو داود في الصلاة (٥٥٤) والنسائي في الإمامة (٨٤٣) والدرامي في الصلاة (١٢٦٩) من حديث أبي كعب أنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فقال: شاهد فلان فقالوا: لا فقال: شاهد فلان فقالوا: لا فقال شاهد فلان فقالوا: لا فقال إن هاتين الصلاتين من أثقل الصلوات على المنافقين ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا والصف المقدم على مثل صف الملائكة ولو تعلمون فضيلته لابتدرتموه وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع رجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تبارك وتعالى.
.
مذبذبين : مترددين بين المؤمنين والكافرين.
التفسير :
مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ... الآية
المذبذب : المتردد بين أمرين، والذبذبة الاضطراب قال ابن جنى : المذبذب : القلة الذي لا يثبت على حال.
لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء... أي ليسوا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين فظواهرهم مع المؤمنين وبواطنهم مع الكافرين : ومنهم من يعتريه الشك فتارة يميل إلى هؤلاء وتارة يميل إلى أولئك.
قال ابن جرير عن قتادة يقول : ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين بالشرك.
وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ... أي : يخذله ويسلبه التوفيق ويصرفه عن طريق الهدى.
فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً... أي : طريقا يوصله إلى الحق.
فإنه : من يضلل الله فلا هادى له. ( الأعراف ١٨٦ ).
سلطانا مبينا : حجة ظاهرة.
أولياء : نصراء.
التفسير :
١٤٤_ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ... الآية
بعد أن بين الله صفات المنافقين، الناطقة : بأنهم كفار في حقيقة أمرهم، نهى الله المؤمنين أن يتخذوا الكافرين _ جميعا_ أولياء، فإنهم لا يضمرون الخير لهم. فقال : يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا الكفار أولياء وأحباء ونصراء من دون المؤمنين ؛ لأنهم لا يؤمن جانبهم.
أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا... أي : أترغبون _ بموالاة الكفار_ أن تكون لله عليكم حجة واضحة في عذابه إياكم ؛ إذا إنكم اتخذتم أعداءه أولياء لكم. وهم يبتغون لكم الهزيمة، ولدينكم الزوال. كما قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ... ( الممتحنة : ١ ).
وهذا لا يمنع معاهدات السلام معهم إذا كان في ذلك مصلحة الإسلام والمسلمين.
قال الإمام ابن كثير في تفسيره : ينهي الله تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، يعني : مصاحبتهم ومصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم.
وقال الإمام الشوكاني : أي : لا تجعلوهم خاصة لكم وبطانة توالونهم من دون إخوانكم من المؤمنين كما فعل المنافقون من موالاتهم للكافرين.
الدرك الأسفل : الطبقة السفلى.
التفسير :
١٤٥_ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ... الآية
أي : في الطبقة التي في قعر جهنم وهي سبع طبقات.
قال ابن عباس : أي : أسفل النار، وذلك لأنهم جمعوا مع الكفر الاستهزاء بالإسلام و أهله.
وتفيد الآية : أن النار دركات، كما أن الجنة درجات.
وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا... أي : ينقذهم مما هم في ويخرجهم من أليم العذاب.
واعتصموا بالله : اتخذوه ملجأ وملاذا.
التفسير :
١٤٦_ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ..
تستثني هذه الآية من تاب عن النفاق قبل أن يموتوا، وأصلحوا أعمالهم ونياتهم، وبدلوا الرياء بالإخلاص واعتصموا بالله... أي : تمسكوا بكتاب الله و دينه.
وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ... أي : جعلوا قلوبهم نقية خالية من الشك خالصة للإيمان وقصدوا بعملهم وجه الله.
قال ابن أبي حاتم : عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ( أخلص دينك ؛ يكفيك القليل من العمل ) ) ١.
إن الإخلاص إكسير العبادة وروحها وسر قبولها قال تعالى :
وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ... ( البينة : ٥ ).
فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ... أي : هؤلاء الذين تابوا إلى الله وأصلحوا أعمالهم ونياتهم يدخلون في عداد المؤمنين إيمانا حقيقيا وإنه لشرف عظيم أن يدخل الإنسان في عداد المؤمنين.
وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما... أي : يعطيهم الأجر الكبير في الآخرة وهو الجنة.
قال السيوطي في الدر: وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن معاذ بن جبل: أنه قال لرسول الله حين بعثه إلى اليمن: أوصني. قال: "أخلص دينك يكفك القليل من العمل".
قال المناوي في الفيض: قال الحاكم: صحيح ورده الذهبي وقال العراقي: رواه الديلمي من حديث معاذ وإسناده منقطع.
.
وكان الله شاكرا : أي : كان_ ولا يزال _ مثيبا على الشكر.
التفسير :
_١٤٧مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ...
أي منفعة له سبحانه في عذابهم ؟ إن شكرتم وآمنتم أيتشفى من الغيظ_ حاشا لله_ ؟ وأم يدرك به الثأر، أم يدفع به الضر، ويستجلب النفع ؟ وهو الغنى عنكم ؟ !
قال الإمام الشوكاني في تفسيره : فتح القدير :
هذه الجملة متضمنة لبيان أنه لا غرض له سبحانه في التعذيب إلا مجرد المجازاة للعصاة.
و المعنى : أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم، فإن ذلك لا يزيد في ملكه، كما أن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه ؟ !
وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا. أي : أي يشكر عباده على طاعته ؛ فيثيبهم عليها ويتقبلها منهم.
والشكر في اللغة : الظهور يقال : دابة شكور ؛ إذا ظهر من سمنها فوق ما تعطي من العلف.
فالله سبحانه وتعالى يعطي على العمل القليل الثواب الجزيل وهو واسع العلم لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
فما أعظم فضله، وما أجزل نعمه، وما أكثر عطاءه. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.
وكان من دعاء رسوله الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل :( ( اللهم، لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد. أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت ضياء السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد. لا إله إلا أنت وعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق ) ) ١.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات : تمت كتابة تفسير القرآن الكريم ( الجزء الخامس ) ضحى يوم الأربعاء ٢٨ شوال ١٤٠٧ ه الموافق ٢٤ يونيو ١٩٨٧ م بمنيل الروضة القاهرة، والحمد لله رب العالمين.
اللهم لك الحمد والشكر كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *
رواه البخاري في التهجد (١١٢٠) ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها ح ١٢٨٨، والترمذي في الدعوات ح ٣٣٤٠، والنسائي في قيام الليل ح ١٦٠١ وأبو داود في الصلاة ح ٦٥٥، وابن ماجه في إقامة الصلاة ح ١٣٤٥، وأحمد ح ٢٥٧٥ ومالك في النداء للصلاة ح ٤٥١، والدرامي الصلاة ح ١٤٤٨..
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول : أي لا يرضى الله عن إفشاء القبيح من القول في الناس ؛ بذمهم وذكر معايبهم.
التفسير :
١٤٨- لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا. حث الإسلام على الالتزام بآداب النطق والخطاب وحذر من السخرية والاستهزاء والهمز واللمز.
وفي الأثر ( إن الله يبغض الفاحش من القول ) وفي الآية بيان أن الله سبحانه وتعالى يحب للمؤمنين أن يلتزموا النطق بالكلمة الطيبة والأسلوب الهادئ الجميل، ويكره سبحانه للمؤمنين أن يجهروا بالسوء من القول- كالسب والشتم والتجريح والإهانة- إلا في حالة وقوع ظلم عليهم، ففي هذه الحالة يجوز لهم أن يجهروا بالسوء من القول حتى يرتدع الظالم عن ظلمه. وهذا الحق الذي أعطى للمظلوم يشمل أن يشكو ظالمه أمام القضاء.
وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا... أي أن الله سميع للجهر والسر، عليم بكل شيء، وهو تذييل قصد به التحذير من التعدي في الجهر المأذون فيه، ووعد للمظلوم بأنه تعالى يسمع شكواه ودعاءه أي : وكان الله سميعا لكل ما يسر به المسرون أو يجهر به المجاهرون.
عليما... بما يدور من بواعث وهواجس، وسيجازي كل إنسان بأقواله وأعماله.
قال القرطبي :
والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمه- ولكن مع الاقتصاد- إن كان مؤمنا، فأما أن يقابل القذف بالقذف ونحوه فلا... وإن كان كافرا فأرسل لسانك وادع بما شئت من الهلكة وبكل دعاء كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيت قال : " اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " ١ وروى أبو داود عن عائشة أنها ( سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه ) أي على السارق فقال صلى الله عليه وسلم ( لا تسبخي عنه ) ٢ أي لا تخففي عنه العقوبة بدعائك عليه ٣
جاء في التفسير الوسيط لمجمع البحوث الإسلامية :
ومن الجهر بالسوء من القول : إذاعة ( التمثيليات والأفلام ) المشتملة على القصص الفاجرة، التي تبرز فيها الرذيلة، وتسلط الأضواء على ممثلات الإغراء الجنسي، وتسمع فيها العبارات المخجلة، والأصوات المنكرة المغرية بالإثم، وترى فيها الصور المفسدة لأخلاق الذكور والإناث، الكبار منهم والصغار، فذلك يبغضه الله ولا يحبه، بل إنه تعالى يعاقب عليه أشد العقاب، لخطورته على الأخلاق.
ومن الجهر بالسوء : نشر كتب الجنس وصوره التي تحرض الشباب على الفسق والانحلال الخلقي، وتستأصل المناعة الخلقية- في شبابنا المسلم- من أصولها ٤.
رواه البخاري في الأذان ح ٨٠٤، ومسلم في المساجدح ٦٧٥، والنسائي في التطبيق ح ١٠٧٤، وأبو داود في الصلاة ح ١٤٤٢، وابن ماجه في إقامة الصلاة ح ١٢٤٤، وأحمد ح، ٧٤١٥، ٧٢١٩، والدرامي في الصلاة ح ١٥٩٥.
.
٢ لا تسبخي عنه:
رواه أبو داود في الصلاة (١٤٩٧) وفي الأدب (٤٩٠٩) وأحمد في مسنده (٢٥٢٧، ٢٤٥٣١، ٢٤٥٣٠، ٢٣٦٦٣) من حديث عائشة قالت سرقت ملحفة لها فجعلت تدعو على من سرقها فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا تسبخي عنه قال أبو داود لا تسبخي أي: لا تخففي عنه.
.
٣ جاء في محيط المحيط:
سبخ عنه الحمى خففها ومنه قول الشاعر:
فسبخ عليك الهم واعلم بأنه إذا قدر الرحمن شيئا فكائن.
سبخ الحر سكنه، وسبخ العرق سكن من ضربان وألم. وسبخ الحر سكن وفتر.
.
٤ التفسير الوسيط لمجمع البحوث الإسلامية، الحزب الحادي عشر ص ٩٥٠.
.
والمعنى : إن تظهروا فعل الخير بأنواعه المختلفة، أو تستروه وتجعلوه سرا بينكم وبين ربكم، أو تعفوا عن سوء صدر من سواكم نحوكم، من جهر بكلام يؤذيكم، أو إسرار به، أو ظلم لحق بكم منهم، فقد تخلقتم بأخلاق الله تعالى، فإن الله كان ولم يزل كثير العفو عمن عصاه عظيم القدرة على عقوبته، ولكنه يؤثر العفو مع القدرة على العقاب، فأعفوا واصفحوا عمن أساء إليكم وأنتم قادرون على الانتقام منه.
فالآية تدعو الناس إلى فعل الخير سواء أكان سرا أم جهرا كما تدعوا إلى العفو عن المسيء.
قال تعالى : وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. ( الشورى : ٤٠ )
قال ابن كثير : وفي الحديث الصحيح ( ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدا يعفوا إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) ١.
وقال الفخر الرازي : اعلم أن معاقد الخير على كثرتها محصورة في قسمين : إيصال نفع إليهم، ودفع ضرر عنهم، فقوله تعالى : إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ... إشارة إلى إيصال نفع إليهم، وقوله : أَوْ تَعْفُواْ عن سُوَءٍ.. إشارة إلى دفع الضرر عنهم، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر٢.
رواه مسلم في البر والصلة ح ٢٥٨٨، والترمذي في البر والصلة ٢٠٢٩، وأحمد ح ٨٧٨٢، ٧١٦٥، والدرامي في الزكاة ح ١٦٧٦ من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
.
٢ تفسير الفخر الرازي ١/٩٠.
.
يكفرون بالله ورسله : أي يؤدي مذهبهم إلى الحكم بكفرهم بالله ورسله، على ما سيأتي بيانه.
ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله : بأن يؤمنوا بالله ويكفروا ببعض الرسل، فيحصل بذلك التفريق بين الله ورسله في الإيمان، وهذا التفريق أدى بهم إلى الكفر بالله ؛ لعصيانهم أمره، وإلى الكفر برسله، لأنهم يصدق بعضهم بعضا.
التفسير :
١٥٠_ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ... الآية
بين سبحانه رذائل أهل الكتاب وأباطيلهم وسوء مصيرهم، بعد حديثه القريب عن المنافقين فقال سبحانه :
إن الذين يكفرون بالله ورسله. والمراد بهؤلاء الكافرين : اليهود والنصارى فاليهود كفروا بالله تعالى فجعلوه جسما ينزل إلى الأرض، ويأكل ويشرب، ويغالب غيره، فيغلب تارة ويغلب أخرى، ويقود جيوشهم فتنتصر تارة وتهزم أخرى، وكفروا بعيسى وبمحمد وآمنوا بغيرهما، وبذلك فرقوا بين الله ورسوليه الذين لم يؤمنوا بهما، وأقصوهما عن شرف الرسالة، وبذلك آمنوا ببعض الرسل، وكفروا بالبعض الآخر، وخالفوا بذلك أمر الله، وكانوا به كافرين بجميع الرسل.
وجاء في تفسير الآية للدكتور محمد طنطاوي :
إن الذين يكفرون بالله ورسله. بأن يجحدوا وحدانية الله وينكروا صدق رسله عليهم الصلاة والسلام. ويريدن أن يفرقوا بين الله ورسله، أي يريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله تعالى، وبين الإيمان برسله، بأن يعلنوا إيمانهم بوجود الله تعالى وأنه خالق هذا الكون إلا أنهم يكفرون برسله أو ببعضهم١.
وإرسال الرسل، وإنزال الكتب أمر لابد من الإيمان به لأن الله تعالى يريد لعباده الهداية والإرشاد إلى طريق الخير فأرسل الرسل ليكونوا هداة للبشرية ودعاة إلى الخير، وحجة على العصاة يوم القيامة، قال تعالى : رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ. ( النساء : ١٦٥ ).
قال القرطبي : نص سبحانه على أن التفريق بين الإيمان بالله والإيمان برسله كفر، وإنما كان كفرا لان الله سبحانه فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرسل، فإذا جحدوا رسالة الرسل فقد ردوا عليهم شرائعهم، ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أمروا بالتزامها. فكان كجحد التفريق بين رسله في الإيمان بهم كفر ٢.
وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ. فاليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى وبمحمد والنصارى آمنوا وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهم آمنوا ببعض الرسل، وكفروا بالبعض الآخر، وكانوا بذلك كافرين بالرسل جميعا، لأن دين الله واحد فالكفر برسول من الرسل كفر بما جاء به سائر الرسل، ولأن كل رسول وصى أمته أن يؤمنوا بالرسل الذين يبعثهم الله بعده. فمن كفر بأحدهم فقد كذب الرسل الذين سبقوه وجحد وصيتهم.
وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً. أي : ويريدون أن يتخذوا طريقا وسطا بين الإيمان والكفر مع أنه لا وسط بينهما إذ الحق واحد، لا ينتقص منه، وليس بعد الحق إلا الضلال.
.
٢ تفسير القرطبي ٦/٤.
.
واعتدنا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا. أي : وأعددنا لهؤلاء الكافرين عذابا يهينهم ويذلهم، جزاء التفريق بين الله ورسله، والإيمان بالبعض والكفر بالبعض الآخر.
أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا. أي : أولئك الذين آمنوا بالله ورسله دون التفريق بينهم في الإيمان سوف يؤتيهم الله تعالى أجورهم التي وعدهم إياها، لأنهم هم المؤمنون حقا دون من سبقهم ممن يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض.
وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا. أي : كان وما زال كثير المغفرة والرحمة لمن تلك صفاتهم وهذه نعوتهم. من الطيب، وليرتدع الناس عن الكفر وليستجيبوا لداعي الإيمان.
جهرة : علانية.
الصاعقة : النازلة المهلكة.
سلطانا مبينا : تسلطا ظاهرا على قومه.
التفسير :
١٥٣- يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ... الآية.
سبب النزول :
روى ابن جرير في تفسيره عن ابن جريج، قال : إن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم :( لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله تعالى وإلى فلان أنك رسول الله... )
وعن قتادة : إنهم سألوه أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا تأمر بتصديقه وإتباعه١ والمراد بأهل الكتاب هنا : اليهود خاصة.
والمراد بنزول الكتاب : أو تنزل عليهم آيات القرآن مكتوبة كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة. أو إنزال كتب على أقوام من كبار اليهود ليصدقوا محمدا.
والمعنى : يسألك اليهود يا محمد على سبيل التعنت والعناد أن تنزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا جملة ؛ كما جاء موسى لآبائهم بالتوراة مكتوبة في الألواح جملة.
أو يسألونك أن تنزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا من السماء تطلب منهم تصديقك.
وسؤال اليهود هذا ؛ مقصدهم من ورائه التعنت والجحود، ولو كانوا يريدون الإيمان حقا لما وجهوا إليك هذه الأسئلة المتعنتة، لأن الأدلة القاطعة قد قامت على صدقك، وأن ما ينزل عليك من القرآن هو وحي من عند الله، لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله.
فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً. أي : لا تحزن من أسئلة اليهود فإن طبعهم فيه العناد والمكابرة، فقد سأل آباؤهم موسى ما هو أكبر من ذلك حيث قالوا له : أرنا الله عيانا بحاسة البصر.
ومعنى جهرة : من الجهر وهو ضد الإخفاء، يقال : جهر البئر واجتهرها إذا أظهر ماءها.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى. وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم، وراضين بسؤالهم ومضاهين لهم في التعنت.
وقد ورد هذا المعنى في سورة البقرة في قوله تعالى :
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ، ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ... ( البقرة : ٥٥-٥٦ ).
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ. أي : أن الله أهلكهم بما شاء من ألوان الإهلاك لتجاوزهم حد الأدب والحق.
ويبدو أن المراد بالصاعقة هنا :( ذلك الصوت الشديد المجلجل المزلزل المصحوب بنار هائلة، والذي كان من آثاره أن صعقوا : أي خروا مغشيا عليهم، أو هلكوا بسبب ظلمهم وعنادهم، وفسوقهم عن أمر الله، قال بن جرير الطبري : و الصاعقة : كل أمر هائل رآه الرائي أو عاينه أو أصابه، حتى يضير من هوله و عظيم شأنه إلى هلاك وعطب وذهاب عقل، صوتا كان ذلك أو نارا أو زلزلة أو رجفة... )
ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا. أي : ثم اتخذ بنو إسرائيل العجل معبودا لهم، من بعد ما جاءتهم الأدلة الواضحة الشاهدة بوحدانية الله، النافية لعبادة آلهة سواه.
فلقد أراهم الله على يد موسى آيات عظيمة، منها : انشقاق البحر يسيرون فيه، وقد مهد الله لهم اثني عشر طريقا في البحر، يتخللها الماء كالطود العظيم.
ومن هذه الآيات أن الله فجر لهم اثني عشرعينا، عندما ضرب موسى الحجربعصاه، وقد علم كل أناس منهم مشربهم.
ومن هذه الآيات التي وقعت أمامهم أنهم رأوا عصا موسى تبتلع ما جاء به السحرة من السحر العظيم، وهم قد شاهدوا الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
إلى غير ذلك من الآيات.
وقد جاءت هذه الآيات كلها بدعوة موسى ربه.
قال تعالى : فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ. ( الأعراف : ١٣٣ ).
وقال سبحانه : وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْئلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا. ( الإسراء : ١٠١ ).
فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا. أي : عفونا عن اتخاذهم العجل إلها بعد ما تابوا وأقلعوا عن عبادته لأن التوبة تجب ما قبلها.
وآتينا موسى سلطانا بينا واضحا على قومه، فقوى فيهم أمره وضعفت معارضتهم له، وظهر انكسارا نفوسهم فقبلوا أمره أن يقتلوا أنفسهم-بالندم والحزن- على ما صنعوا توبة منهم.
وفيما تقدم بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بالانتصار على اليهود في المدينة، وقد حقق الله له هذه البشارة، فقد أجلاهم عن المدينة بعد غزوات بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير جزاء ما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم من نكث العهود والخيانة في أوقات الشدة.
.
الطور : الجبل المعروف.
بميثاقهم : بعهدهم.
ادخلوا الباب : المراد به باب المدينة التي أمروا بدخولها.
سجدا : خاضعين.
لا تعدوا في السبت : لا تظلموا فيه أنفسكم، بصيد الحيتان التي حرم عليكم صيدها فيه.
ميثاقا غليظا : عهدا وثيقا مؤكدا.
التفسير :
١٥٤- وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا.
تشير الآية إلى جانب من عناد اليهود وقسوة قلوبهم، فقد جاءهم موسى بألواح التوراة، فاستثقلوا العمل بما جاء فيها من التكاليف، ولم يأخذوها بعزم وقوة، بل بتثاقل وتراخ وعدم اقتناع، لأن قلوبهم لا تزال مشدودة إلى عبادة العجل، فلذا رفع الله فوقهم الجبل تهديدا لهم، ليقبلوا العمل بالتوراة، ويأخذوها بقوة وعزم ويعطوا الميثاق والعهد على ذلك.
قال تعالى : وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( الأعراف : ١٧١ ).
وهكذا كان شأن اليهود : عصيان لما يؤمرون به وعقاب أو تهديدا بعقاب من الله، حتى يستقيموا على الجادة.
والمعنى : ورفعنا فوقهم الطور بسبب ميثاقهم ليعطوه ويتعهدوا بالعمل بالتوراة.
قال ابن كثير :( وذلك أنهم حين امتنعوا عن الالتزام بأحكام التوراة وظهر منهم إباء عما جاء به موسى- عليه السلام- رفع الله على رءوسهم جبلا ثم ألزموا فالتزموا، وسجدوا، وجعلوا ينظرون إلى ما فوق رءوسهم خشية أن يسقط عليهم ). وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا. أي : وقلنا لهم على لسان أنبيائهم : ادخلوا باب القرية التي أمرناكم بدخولها ساجدين لله، أي : ادخلوها متواضعين خاضعين لله، شاكرين فضله وكرمه، ولكنهم خالفوا ما امرهم الله به مخالفة تامة.
واختلف في هذا الباب الذي أمروا بدخوله سجدا، فقيل : هو باب بيت المقدس. روى ابن المنذر وغيره عن قتادة : كنا نتحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس.
وقيل : باب إيلياء.
وقيل : باب أريحاء.
وقد أمروا أن يسألوه تعالى أن يحط عنهم ذنوبهم فيقولوا حطة.
قال تعالى في الآيتين ٥٨-٥٩ من سورة البقرة :
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ.
ولكن بني إسرائيل لما دخلوا منتصرين، تنكروا لما أمرهم الله به من الخضوع والخشوع لله سبحانه. بل سخروا بالخشوع والاستغفار واستبدلوا بهما عملا ماجنا، وقولا هازئا.
روى البخاري في تفسير سورة البقرة عن أبي هريرة أن النبي صلى قال :
" قبل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجدا وقولوا : حطة ؛ دخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا : حنطة ؛ حبة في شعرة " ١
وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ. أي : وقلنا لهم كذلك لا تعتدوا في السبت ولا تتجاوزوا الحدود التي أمركم الله بالتزامها في يوم السبت، والتي منها ألا تصطادوا في هذا اليوم، ولكنهم خالفوا أمر الله وتحايلوا على استحلال محارمه.
وقد تحدث القرآن عن عدوان اليهود في السبت في كثير من آيات القرآن الكريم قال تعالى :
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ، فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ. ( البقرة : ٦٥-٦٦ ).
وقال سبحانه : واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( الأعراف : ١٦٣ ).
وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا. أي : وأخذنا منهم عهدا مؤكدا كل التأكيد وموثقا كل التوثيق، بأن يعملوا بما أمرهم الله به، ويتركوا ما نهاهم عنه.
ويجوز أن يكون المراد بالميثاق الغليظ هنا، هو ما أخذه الله منهم بعد رفع الجبل فوقهم كأنه ظلة. تهديدا لهم ؛ فقد أعطوا موسى عليه السلام عهدا بالعمل بالتوراة، ولكنهم نقضوا عهودهم. كما تجده في الآية الآتية.
رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء (٣٤٠٣) وفي التفسير (٤٦٤١، ٤٤٧٩) ومسلم في التفسير (٣٠١٥) والترمذي في التفسير (٩٩٩٦) وأحمد (٢٧٤٤٩) من حديث أبي هريرة.
.
فبما نقضهم ميثاقهم : أي : فبسبب نقضهم ومخالفتهم للعهد الوثيق المؤكد وما في قوله : فبما نقضهم : لتوكيد هذا النقص، فإنها كثيرا ما توصل بالكلام لهذا الغرض كقوله تعالى : فبما رحمة من الله لنت لهم. أي : فبرحمة مؤكدة من الله كنت لينا معهم.
قلوبنا غلف : أي : مغلقة ومغطاة بأغشية تمنعها من قبول ما جاء به الرسول. وغلف : جمع أغلف. وهو : ما له غلاف.
طبع الله عليها بكفرهم : أي : تخلى عن هدايتها بسبب إصرارهم على الكفر
التفسير :
١٥٥- فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ... أي : فنقض بنو إسرائيل الميثاق الغليظ الذي أخذناه عليهم، فبسبب هذا النقض لعناهم وعاقبناهم، كما لعناهم وعاقبناهم بسبب كفرهم بآيات الله الكونية العجيبة التي أجرها الله على يد موسى، إذ عبدوا العجل بعدها، وقالوا : أرنا الله جهرة.
وكذلك آيات التوراة فقد أخفوا ما جاء فيها من بشارات عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أساءوا تأويلها ليبرروا كفرهم.
وكما لعناهم بذلك، لعناهم بقتلهم أنبياءهم بغيا وحسدا دون شائبة من الحق كما فعلوا بيحيي وزكريا وشعيب وغيرهم- ولعناهم وعاقبناهم بقولهم :
قُلُوبُنَا غُلْفٌ. أي : مغطاة بأغطية من الصدود والرفض لدعوتك يا محمد، فلن تصل إيها براهينك فلا تتعب نفسك معنا.
وقريب من هذا قوله تعالى حكاية عن المشركين :
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ... ( فصلت : ٥ ).
وقيل : إن قوله : غلف : مع غلاف- ككتب وكتاب وعليه يكون المعنى :
وقالوا قلوبنا غلف. أي : أوعية للعلم شأنها في ذلك شأن الكتب فلا حاجة بنا إلى علم جديد.
والتأويل الأول أقرب إلى سياق الآية فقد ورد الله عليهم بقوله : بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً.
المعنى : ليست قلوبهم مغطاة بأغطية تحجب عنها إدراك الحق كما زعموا، بل الحق : أن الله تعالى ختم عليها، وطمس معالم الحق فيها بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة، وإيثارهم الغي على سبيل الرشاد.
فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً.
أي : فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، ليس له وزن عند الله لفقدانه العناصر الضرورية لصحته، ومن هذه العناصر : صدق اليقين، ومحبة الله، وإخلاص الوجه له، وقريب من ذلك قوله تعالى :
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ... ( الحجرات : ١٤ ).
قال الدكتور محمد سيد طنطاوي :
فقوله : إلا قليلا : نعت لمصدر محذوف أي : إلا إيمانا قليلا، كإيمانهم بنبوة موسى عليه السلام، وإنما كان إيمانهم هذا لا قيمة له عند الله، لأن الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم، يعتبره الإسلام كفروا بالكل كما سبق أن بينا في قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا... ( النساء : ١٥٠-١٥١ ).
ومنهم من جعل قوله : إلا قليلا. صفة لزمان محذوف أي : فلا يؤمنون إلا زمانا قليلا.
ومنهم من جعل الاستثناء في قوله : إلا قليلا. من جماعة اليهود المدلول عليهم بالواو في قوله فلا يؤمنون. أي : فلا يؤمنون إلا عددا قليلا منهم : كعبد الله بن سلام وأشباهه. والجملة الكريمة وهي قوله : طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ. معترضة بين الجمل المتعاطفة، وقد جيء بها للمسارعة إلى رد مزاعمهم الفاسدة وأقاويلهم الباطلة ١
.
بهتانا عظيما : كذبا فظيعا ؛ يبهت من يقال فيه، ويدهشه، ويحيره.
التفسير :
١٥٦- وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا.
المراد بالكفر هنا : كفرهم بعيسى عليه السلام.
والبهتان : هو الكذب الشديد الذي لا تقبله العقول، بل يحيرها ويدهشها لغرابته وبعده عن الحقيقة. والمعنى : إن من أسباب لعن اليهود وضرب الذلة والمسكنة عليهم، كفرهم بعيسى عليه السلام، وهو الرسول المبعوث إليهم ليهديهم إلى الحق وإلى الطريق المستقيم.
وافتراؤهم الكذب على مريم أم عيسى، فقد اتهموها في عرضها لأنها حملت بعيسى وهي غير متزوجة، وقد برأها الله من السفاح على لسان وليدها الذي أنطقه الله عقب الوضع، فبرأ والدته وأخبر المشاهدين بأنه عبد الله، وأنه آتاه الكتاب وجعله نبيا... الخ.
وقد وردت هذه المعاني في الصفحة الأولى والثانية من سورة مريم، وتكررت في عدد من السور مثل سورة آل عمران، و الأنبياء و التحريم.
قال تعالى : وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ. ( الأنبياء : ٩١-٩٢ )
شبه لهم : أي : ألقى شبهه عل غيره لينجو من القتل فاشتبه عليهم.
لفي شك منه : أي : لفي حيرة وتردد، وليس إلى الجزم- بأنه عيسى- من سبيل.
التفسير :
١٥٧- وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ... أي : ولعن الله اليهود. بسبب قولهم على سبيل التبجح والتفاخر : إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم فنسبوه إلى أمه تهكما به، وغمزا له ولأمه، بما هو معروف من رأيهم فيهما إلى يومنا هذا. وكلمة رسول الله إن كانت من قول اليهود فهي من باب التهكم بدعواه أنه رسول الله. كما قال المشركون في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم : يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. ( الحجر : ٦ ).
فكأنهم يقولون : إنا قتلنا المسيح الذي يزعم أنه رسول الله، ولو كان كذلك، لما استطعنا قتله. وأما إن كانت من قول الله تعالى وليست من قولهم فهي استئناف من الله تعالى اريد به مدح عيسى عليه السلام ورفع منزلته.
قال الدكتور محمد سيد طنطاوي :
( ولا شك أن ما صدر من اليهود في حق عيسى عليه السلام من محاولة قتله، واتخاذ كل وسيلة لتنفيذ غايتهم ثم تفاخرهم بأنهم قتلوه وصلبوه لا شك أن كل ذلك يعتبر منت أكبر الجرائم لأنه من المقرر في الشرائع والقوانين أن من شرع في ارتكاب جريمة من الجرائم واتخذ كل الوسائل لتنفيذها، ولكنها لم تتم لأمر خارج عن إرادته فإنه يعد من المجرمين الذين يستحقون العقاب الشديد )١.
واليهود قد اتخذوا كافة الطرق لقتل عيسى ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون لأسباب خارجة عن إرادتهم، ومعنى هذا أنه لو بقيت لهم أية وسيلة لإتمام جريمتهم لأسرعوا في تنفيذها فهم يستحقون عقوبة المجرم في نيته وفي تفكيره وفي شروعه لارتكاب ما نهى الله عنه.
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ.
وذلك أنهم تآمروا على قتله مع الحاكم الروماني الذي كان يحكم بيت المقدس، بعد أن أفهموه أن دعوته خطر على الحكم الرماني وعلى الشعب، فظاهرهم الحاكم الروماني على قتله، واتخذوا من أحد أتباعه جاسوسا عليه يرصد حركاته وتنقلاته، وكان اسمه يهوذا الإسخريوطي، وقد جعلوا له في مقابل ذلك ثلاثين درهما.
ثم جاءت قوة من الرومان يتقدمهم يهوذا، ودخلوا على المسيح، فألقى الله شبه المسيح على يهوذا، ورفع عيسى إليه، فقبض الرومان على يهوذا ليصلبوه ويقتلوه، فقال لهم : أنا يهوذا، فقالوا : بل أنت عيسى، فإن كنت يهوذا كما تدعي فأين عيسى ؟ فقال يهوذا لهم : فإن كنت عيسى كما قلتم فأين يهوذا ؟
فلم يأبهوا لقوله، وأخذوه وصلبوه، هذه هي إحدى الروايات التي ذكرت في الرجل الذي ألقى الله شبه عيسى عليه فقتلوه مكانه ٢.
وفي تفسير ابن كثير ما يفيد أن الله تعالى ألقى شبه المسيح على أحد تلاميذه المخلصين حينما أجمعت اليهود على قتله، فأخبره الله بأنه سيرفعه إليه ؛ فقال لأصحابه :
أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب وهو رفيقي في الجنة، فقال رجل منهم : أنا فألقى الله عليه صورة عيسى عليه السلام، فقتل ذلك الرجل وصلب ٣.
والذي يجب اعتقاده بنص القرآن الكريم أن عيسى عليه السلام لم يقتل ولم يصلب، وإنما رفعه الله إليه، ونجاه من مكر أعدائه، أما الذي قتل وصلب فهو شخص سواه.
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ... أي : وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب لفي شك دائم من حقيقة أمره، أي : في حيرة وتردد ليس عندهم علم ثابت قطعي في شأنه أو في شأن قتله، ولكنهم لا يبتغون فيما يقولونه عنه إلا الظن الذي لا تثبت به حجة ولا يقوم عليه برهان.
ولقد اختلف أهل الكتاب في شأن عيسى اختلافا كبيرا ؛ فمنهم من زعم انه ابن الله، وادعى في عيسى عنصرا إلهيا مع العنصر الإنساني، وأن الذي ولدته مريم هو العنصر الإنساني، ثم أفاض الله عليه بعد ذلك العنصر الإلهي، ومنهم من قال : إن مريم ولدت العنصرين معا.
ولقد اختلفوا في أمر قتله، فقال بعض اليهود : إنه كان كاذبا فقتلناه قتلا حقيقيا، وتردد آخرون فقالوا : إن كان المقتول عيسى فأين صاحبنا وإن كان المقتول صاحبنا فأين عيسى.
وقال غيرهم : لا نظن أنهم قتلوه، فالوجه وجه عيسى والجسد لغيره.
وبالجملة فإن أمارات القطع- بأنه هو أو غيره- لم تكن متوافرة لديهم فلذلك شكوا، واختلفت أقوالهم في شأنه.
وجاء في التفسير الوسيط لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر :
( من عجب أن تنص أناجيل المسيحيين، على أن المسيح أخبر حوارييه أنهم جميعا سيشكون فيه ليلة الصلب ٤ فكيف ساغ و لهم القطع بقتله وصلبه، حتى ألزموا أنفسهم تأويلات سخيفة، ناشئة عن اعتقادهم ألوهيته وصلبه، إذا زعموا أنه صلب ليفتدي أهل الخطايا جميعا ! !.
وهذا زعم لا يقبله عاقل، فإن كان إلها أو ابن إله كما زعموا : يستطيع أن يغفر لمن شاء، وإلا يحكم في جسده أسلحة أعدائه، كما أنه- باستسلامه لهم- تسبب في زيادة خطاياهم بقتله، وهذا عكس المطلوب.
مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ إتباع الظَّنِّ. بعد أن اثبت الله شك المختلفين في أمره، وأنهم لا ينزعون- فيما قالوه في شأنه- عن يقين، بل عن حيرة وتردد في أمره، أكد ذلك بقوله : ما لهم به من علم. أي : ليس لهم بما قالوه في قتل عيسى علم ناشئ عن أذلة يقينية إلا إتباع الظن، أي : لكن يتبعون- فيما قالوه- الظن والتخمين.
وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا. أي : وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين.
ويجوز أن تكون يقينا حالا مؤكدة لنفي القتل أي : انتفى قتلهم إياه انتقاء يقينا. فاليقين منصب على النفي، أي : أن نفي كونه قد قتل أمر متيقن مؤكد مجزوم به- كقولك ما قتلوه حقا أي : حق انتفاء قتله حقا.
.
٢ تفسير الآلوسي ٦/١٠، وقد ورد ذلك أيضا في إنجيل برنابا.
.
٣ تفسير ابن كثير ١/٥٧٤.
.
٤ جاء في إنجيل متي إصحاح ٢٦ فقرة ٣١ وانجيل مرقص ١٤ فقرة ٢٧- أن السيد المسيح قال لحواريية ( كلكم يشكون في هذه الليلة) يقصد الليلة التي قتل فيها، وهذا مصدق لما جاء في القرآن من شكهم فيه.
.
وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا. أي : وكان الله ولم يزل عزيزا. اي : منيع الجناب، لا يلجأ إليه أحد غلا اعزه وحماه، حكيما. في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور.
وجمهور العلماء على أن الله تعالى رفع عيسى إليه بجسده وروحه لا بروحه فقط.
قال الشيخ حسنين مخلوف في تفسير ( صفوة البيان ) :
والجمهور على أن عيسى رفع حيا من غير موت ولا غفوة، بجسده وروحه إلى السماء، والخصوصية له- عليه السلام- هي في رفعه وبقائه فيها إلى الأمر المقدر له.
وفسر بعضهم الرفع في قوله تعالى : بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ. بأنه رفع بالروح فقط.
وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن عيسى رفع بجسده وروحه. ومنها ما رواه الشيخان ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ) الحديث، وانظر كتاب التصريح بما تواتر في نزول المسيح للكشميري تحقيق الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة ١
.
١٥٩- وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ... الآية.
للمفسرين في تفسير هذه الآية اتجاهان : الأول أن الضمير في قوله : قبل موته. يعود إلى عيسى عليه السلام- وعليه أن يكون المعنى : وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى- عند نزوله في آخر الزمان- قبل موته. أي : قبل موت عيسى.
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا. أي : وفي يوم القيامة يشهد عيسى على اهل الكتاب بأنه قد أمرهم بعبادة الله وحده، وانه قد نهاهم عن الاشتراك معه آلهة أخرى.
وقد انتصر لهذا الاتجاه كثير من المفسرين وعلى رأسهم شيخهم ابن جرير فقد قال : وأولي الأقوال بالصحة والصواب قول من قال في تأويل ذلك :
( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ).
وقد علق ابن كثير على ما رجحه ابن جرير بقوله :
ولا شك أن الذي قاله ابن جرير هو الصحيح ؛ لان المقصود من سياق الآيات بطلان ما زعمته اليهود من قتل عيسى وصلبه. أما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه أن ضمير قبل موته. يعود على الكتابي المدلول عليه بقوله : إن من أهل الكتاب.
وحاصل المعنى على هذا : أن كل يهودي ونصراني- وهو يحتضر- يؤمن بعيسى قبل أن تزهق روحه فيعتقد أنه- أي عيسى- عبد الله ورسوله، لأن حقائق الحق تنكشف للمحتضر، ولكن هذا الإيمان لا ينفعه، لأنه حدث في وقت انقطع فيه عنه التكليف، لأن وقت الغرغرة من عالم الآخرة. ويؤيد هذا الرأي قراءة أبي : ليؤمنن به قبل موتهم. بضم النون وصيغة الجمع.
وقد جنح إلى هذا الرأي ابن عباس، كما نقله عنه ابن المنذر وغيره، واختاره أبو السعود والكشاف، وتفسير الجلالين.
والإخبار بحالتهم هذه وعيد لهم وتحريض على المسارعة إلى الإيمان بعيسى عليه السلام- قبل أن يضطروا إليه عند الموت- مع عدم فائدته.
الذين هادوا : هم اليهود، هادوا : أي : تابوا من عبادة العجل.
التفسير :
١٦٠_فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ... الآية.
الحديث لا يزال موصولا في شان أهل الكتاب.
والمعنى : فبسبب ظلم عظيم من الذين هادوا- أي : تابوا من عبادة العجل- حرمنا ما كان حلالا لهم من الطيبات، ولو أنهم لم يقعوا في هذا الظلم الشديد لما حرم عليهم هذه الطيبات التي هم في حاجة إليها.
وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا. أي : وبمنعهم كثيرا من الناس عن الدخول في دين الله.
قال مجاهد : صدوا أنفسهم وغيرهم عن الحق.
أعتدنا : أعددنا لهم قبل قدومهم.
التفسير :
١٦١- وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ. أي : وحرمنا عليهم الطيبات-أيضا- بسبب أخذهم الربا في أموالهم التي يقرضونها غيرهم.
وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. أي : بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة.
واعتدنا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. أي : وأعددنا في الآخرة للكافرين منهم خاصة عذابا شديد الإيلام.
وقد استفيد مما تقدم : أن العقوبات الدنيوية يقع أثرها على الكافر والمؤمن والعاصي والطائع، وهي للعصاة عقاب، وللمطيعين ابتلاء، وفي ذلك يقول الله تعالى :
وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً. ( الأنفال : ٢٥ ).
أما العقوبات في الآخرة فإنها ستختص بالعصاة والكفار، ولذا قال تعالى في عقوبة الآخرة : واعتدنا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.
فخص الكافرين بالعذاب، وقال في عقوبة الدنيا : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم. فعم جميع اليهود بتحريم ألوان من الطيبات.
١٦٢_لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ ١ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ...
بعد أن حكي القرآن مخازي اليهود في آيات سابقة وسجل عليهم أسئلتهم المتعنتة وسوء أدبهم مع الله وعبادتهم العجل، وعصيانهم لأوامر الله ونواهيه ونقضهم للعهود والمواثيق وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم : قلوبنا غلف، وبهتهم لمريم القانتة العابدة الطاهرة، وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله...
تأتي هذه الآية رقم ١٦٢ من سورة النساء ؛ لتحق الحق وتمدح الراسخين في العلم منهم مدحا عظيما، وتبشرهم بالأجر الجزيل.
سبب النزول :
أخرج البيهقي في الدلائل عن عبد الله بن عباس ان هذه الآية نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب إيمانا صادقا : كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد، وثعلبة بن سعته، وأسد بن سعيه وغيرهم.
ومعنى الآية :
لقد كفر عامة اليهود بما أنزل عليهم لجهلهم وعنادهم وكبرهم، لكن الثابتون في العلم منهم، والصادقون في الإيمان بكتابهم، كعبد الله بن سلام وغيره من علمائهم، يؤمنون بما أنزل الله إليك من القرآن، وبما أنزل من قبلك من الكتب التي جاء بها الأنبياء والمرسلون، وليسوا متعصبين لدينهم بالباطل كسائر بني قومهم.
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ٢ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر. ِ هذه بقية أوصاف المؤمنين من علماء أهل الكتاب فقد وصفوا بالصفات الآتية :
١- الرسوخ في العلم.
٢- الإيمان الكامل بما أوحاه الله إلى أنبيائه من كتب وهدايات.
٣- إقامة الصلاة.
٤- إيتاء الزكاة.
٥- الإيمان بالله وباليوم الآخر وبما فيه من حساب وجزاء.
أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا. أي : ألئك العلماء الراسخون في العلم من أهل الكتاب، الذين حفزهم رسوخهم في العلم على الإيمان بما أنزل إليك، وما أنزل على سائر المرسلين، وحفزهم أيضا على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان بالله واليوم الآخر- هؤلاء العلماء سنؤتيهم في الآخرة أجرا عظيما، بخلاف من عداهم ممن أصروا على الكفر، واستحقوا أن يعد الله لهم عذابا عظيما.
.
٢ المقيمين في وصف في المعنى لكلمة ﴿الراسخون﴾ وقد عدل عن رفعه بالعطف إلى قطعة ونصبه لإرادة المدح، وفي مصحف عبد الله ابن مسعود ﴿ والمقيمون﴾ وقد آثرها سيد قطب في تفسيره.
.
الأسباط : جمع سبط وهو الحفيد والمراد بهم : حفدة يعقوب- عليه السلام- أو أبناؤه الاثنا عشر وذراريهم. فإنهم حفدة إبراهيم وإسحاق.
وقيل الأسباط- كالقبائل في العرب : ولد إسماعيل. وقد بعث منهم عدة رسل. فالمراد : أوحينا إلى الأنبياء منهم، إذ ليسوا جميعا أنبياء.
زبورا : أي : مكتوبا وهو الكتاب المنزل على داود عليه السلام. ويسمى : المزامير في العهد القديم.
التفسير :
١٦٣- إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ... الآية.
تمهيد :
حكى الله تعالى في الآيات السابقة جرائم اليهود ومنها : كفرهم بعيسى ومحمد وزعمهم أنهم صلبوا المسيح.
ثم ذكر هنا أن الإيمان بجميع الرسل شرط لصحة الإيمان، وأنه سبحانه أرسل سائر الرسل مبشرين ومنذرين، ثم دعا النصارى إلى عدم الغلو في شأن المسيح باعتقادهم فيه أنه ابن الله، أو ثالث ثلاثة، فليس هو ابن الله كما يزعم النصارى، وليس ابن زنى كما يزعم اليهود، فكلا الفريقين واقع بين الإفراط والتفريط.
وتفيد هذه الآية أن الله أرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وليس محمد صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل، فقد أوحى الله إليه كما أوحى إلى الرسل جميعا من عهد نوح إلى عهد محمد، وكلهم رسل أرسلوا للتبشير والإنذار، للإعذار للناس قبل الحساب.
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ...
إنا أوحينا إليك يا محمد بكلامنا وأوامرنا ونواهينا، كما أوحينا إلى نوح وإلى سائر الأنبياء الذين جاءوا من بعده. قال الجمل :( وإنما بدأ الله تعالى- بذكر نوح- لأنه أول نبي بعث بشريعة، وأول نذير على الشرك، وكان أول من عذبته أمته لردهم دعوته... وكان أطول الأنبياء عمرا... ).
والكاف في قوله : كما نعت لمصدر محذوف و( ما ) مصدرية أي : إنا أوحينا إليك إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح- عليه السلام- والنبيين من بعده.
أي : أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى نوح والأنبياء من بعده.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا. وقد خص الله هؤلاء الأنبياء بالذكر تشريفا وتعظيما لهم.
وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا. وخص داود بالذكر ونص على إعطائه الزبور للإشعار بعظمته وعظمة ما فيه لأن كل ما فيه تسبيح وتقديس وحكم ومواعظ.
وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا. أي : وكلم الله موسى- بدون وساطة جبريل- تكريما له عليه السلام- وقوله : تكليما. مصدر مؤكد لقوله تعالى : وكلم. لرفع احتمال المجاز.
قال ابن كثير :
وهذه تسمية الأنبياء الذين نص الله على أسمائهم في القرآن وهم :
( آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وأيوب وشعبي وموسى وهارون ويونس وداود وسليمان وإلياس واليسع وزكريا ويحيي وعيسى، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين، وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم ).
وقال ثعلب :
في تفسير قوله تعالى : وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا. لولا التأكيد لجار أن تقول : قد كلمت فلانا بمعنى كتبت إليه رقعة أو بعثت إليه رسولا فلما قال تكليما لم يكن إلا كلاما مسموعا من الله تعالى١.
.
حجة : معذرة يعتذر بها.
التفسير :
١٦٥- رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
المقصود من هذه لآية بيان مهمة الرسل، فهم يبشرون بالجنة من أطاع، وينذرون بالنار من عصى. وقد خلق الله هذا الكون وأبدع نظامه حتى صار شاهدا للعاقل على وجود الله وتفرده وقدرته.
ومع ذلك فقد اقتضت رحمته بعباده أن يرسل الرسل ضمانا لهداية الله الناس ؛ لان العقل قد يعجز عن إذراك حقائق الأمور ونتائجها.
والرسل عليهم الصلاة والسلام : إنما جاءوا لينبهوا إلى النظر في عجائب الكون وما فيه من دلائل ويبينوها، وهم الذين يبلغون رسالات ربهم إلى الناس، ويبينون لهم أحكامه وشرائعه.
وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا. أي : وكان الله ولم يزل عزيزا. وهو القادر الغالب على كل شيء، حكيما. أي : بالغ الحكمة في كل ما يدير من شئون الكون.
ومن ذلك تدبير أمر النبوة، وتخصيص كل نبي بنوع من الوحي والإعجاز، على النحو الذي اقتضت حكمته، مراعاة للزمان والمكان الذي بعث فيه كل رسول.
تذييل :
جاء في رسالة التوحيد- للشيخ محمد عبده- كلام نفيس عن حاجة البشر إلى إرسال الرسل وعن وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام. حيث قال :
الرسل يرشدون العقل إلى معرفة الله وما يجب أن يعرف من صفاته، ويبينون الحد الذي يجب أن يقف عنده في طلب ذلك العرفان، على وجه لا يشق عليه الاطمئنان إليه، ولا يرفع ثقته بما آتاه الله من القوة.
الرسل يبينون للناس ما اختلفت عليه عقولهم وشهواتهم، وتنازعته مصالحهم ولذاتهم، فيفضلون في تلك المخاصمات بأمر الله الصادع. ويؤدون بما يبلغون عنه ما تقوم به المصالح العامة، ولا يفوت به المصالح الخاصة.
الرسل يضعون لهم بأمر الله حدودا عامة، يسهل عليهم أن يردوا إليها أعمالهم، كاحترام الدماء البشرية إلا بحق. مع بيان الحق الذي تهدر له، وحظر تناول شيء مما كسبه الغير إلا بحق، مع بيان الحق الذي يبيح تناوله، واحترام الأعراض، مع بيان ما يباح وما يحرم من الأبضاع
يحملونه على تحويل أهوائهم عن اللذائذ الفانية إلى طلب الرغائب السامية آخذين في ذلك كله بطرق من الترغيب والترهيب، والإنذار والتبشير حسبما أمرهم الله- جل شأنه-.
يفصلون في جميع ذلك ما يؤهلهم لرضا الله عنهم وما يعرضهم لسخطه عليهم، ثم يحيطون بيانهم بنبإ الدار الآخرة وما أعد الله فيها من الثواب وحسن العقبى، لمن وقف عند حدوده وأخذ بأوامره...
وبهذا تطمئن النفوس، وتثلج الصدور، ويعتصم المرزوء بالصبر، انتظارا لجزيل الأجر أو إرضاء لمن بيده الأمر، وبهذا ينحل أعظم مشكل في الاجتماع الإنساني، لا يزال العقلاء يجتهدون أنفسهم في حله إلى اليوم ١.
.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود فقال لهم : إني والله أعلم أنكم لتعلمون أني رسول الله، فقالوا : ما نعلم ذلك، فأنزل الله قوله : لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ ١.
أي : إذا تعنت اليهود ولم يشهدوا لك بالرسالة فإن الله عز وجل يشهد بأن القرآن الكريم الذي أنزله إليك بوساطة جبريل الأمين، قد أنزله بعلمه ومعرفته محتويا على علم الله وتشريعاته من الحلال والحرام والآداب والأحكام، والملائكة تشهد بصدق محمد وبأن ما أنزل عليه حق، وبأنه من عند الله وكفى بالله شهيدا على صدقك حيث أيدك بالمعجزات الباهرة، والبراهين الساطعة، المغنية عن شهادة هؤلاء المعاندين، وقد عرفت شهادة الملائكة بشهادة الله ؛ فإن من شهد الله له شهدت له ملائكته.
من تفسير ابن كثير :
جاء في تفسير ابن كثير لقوله تعالى : لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ. أي : فيه علمه الذي أراد أ يطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا أن يعلمه الله به. كما قال تعالى وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء. ( البقرة : ٢٥٥ )، وقال : وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا. ( طه : ١١٠ ).
وقال ابن أبي حاتم عن عطاء بن السائب قال : أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن، وكان إذا أقرا عليه أحدنا القرآن قال : قد أخذت علم الله، فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل، ثم يقرأ قوله : أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا.
.
صدوا : صد عن الأمر ؛ أعرض عنه. وصده عن الأمر : صرفه عنه ومنعه منه.
سبيل الله : السبيل ؛ الطريق، يذكر ويؤنث قال تعالى : قل هذه سبيلي ( يوسف : ١٠٨ ).
التفسير :
١٦٧- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا. إن الذين كفروا بالحق الذي جاءهم به محمد صلى الله عليهم و سلم وصدوا عن سبيل الله. وأعرضوا عن طريق الإسلام ولم يكتفوا بذلك بل منعوا غيرهم أيضا من سلوكه ضلوا ضلالا بعيدا. أي : قد ضلوا ضلالا بلغ الغاية في الشدة والشناعة والمراد بالذين كفروا : اليهود أو ما هو أعم.
ولم يكن أيضا من الحكمة في التدبير : أن يهدي الله تعالى الصراط المستقيم قوما أصروا على الكفر، وابتعدوا عن الحق عنادا، فلا يستمعون نداء الخير والفلاح إذ أصموا دونه آذانهم، وأغلقوا قلوبهم فهم لا يفقهون.
قال صاحب الظلال :
وما في هذا ظلم، فلقد اختاروا الضلالة على الهدى، وكل موجبات الإيمان حاضرة، ولقد سلكوا طريق جهنم فأغلق الله عليهم كل طريق سواه، جزاء وفاقا على ضلال الاختيار ١
والأبد : مدة الزمان الذي لا يتجزأ ولا غاية له، وتأكيد الخلود بالأبدية يدل على دوام العذاب بلا نهاية.
والمعنى : أنهم أجسامهم تبقى في جهنم، لا تبلى ولا تذهب حساسيتها ؛ ليذوقوا العذاب دواما وكان ذلك على الله يسيرا. أي : وكان إيصال العذاب إليهم شيئا فشيئا، ودوام تعذيبهم في جهنم، أمرا يسير على الله.
.
١٧٠_ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ... الآية. أي : يأيها المكلفون من الناس جميعا، قد جاءكم الرسوب المشهود له بالصدق في رسالته، بالهدى ودين الحق من ربكم فآمنوا به وصدقوه وأطيعوه ؛ يكن إيمانكم خيرا لكم في الدنيا والآخرة.
فالخطاب في هذه الآية الكريمة للإنسان أيا كان، سواء أكان عربيا أم غير عربي، أبيض أم أسود أم قريبا ؛ لأن رسالته صلى الله عليه وسلم _ عامة شاملة للناس جميعا.
وهذه الآية الكريمة تحث الناس جميعا على الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يجئهم بشيء باطل، وإنما جاءهم بالحق الثابت الموافق لفطرة البشر أجمعين، ولأنه يجئهم بما جاءهم به من عند نفسه، وإنما جاءهم به من عند الله تعالى، ولأنه لم يجئهم بما يفضي بهم إلى الشرور و الآثام، وإنما جاءهم بما يوصلهم إلى السعادة في الدنيا وإلى الفوز برضا الله في الآخرة.
تلك هي عاقبة المؤمنين، أما عاقبة الكافرين فقد حذر سبحانه منها بقوله :
وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات و الارض و كان الله عليما حكيما. أي : و إن تكفروا_سبحانه_له ما في السموات و الارض خلقا و ملكا وتصرفا، وكان الله تعالى عليما علما تاما بأحوال خلقه، حكيما في جميع أفعاله و تدبيراته.
لاتغلوا : الغلو ؛ مجاوزة الحد. غلو النصارى في دينهم : إفراطهم في تعظيم عيسى، حتى جعلوه إلها أو ابنا الله، وغلو اليهود : مبالغتهم في الطعن في عيسى حتى اتهموه وأمه بما لا يليق.
المسيح : أصل المسيح ؛ الممسوح، وسمي به عيسى.
كلمته : المراد بها : عيسى_ عليه السلام_ وأطلقت الكلمة عليه ؛ لأنه جاء بكلمة : كن.. بدون أب.
روح منه : رحمة منه ؛ لأنه رحمة من الله لمن آمن به.
تمهيد :
أنصف القرآن عيسى. فقد اتهم أمة بالزنى، كما أنصفه من ادعاء النصارى بأنه إله أو نصف إله. والمسيحية ديانة من ديانات التوحيد.
قال صاحب الظلال :
( الثابت من البحث العلمي في تطور العقائد المسيحية أن عقيدة التثليث لم تصاحب المسيحية الأولى، إنما دخلت إليها بعد فترة، ودخلت إليها في خطوات متدرجة ودخلت إليها مع الوثنيين الذين دخلوا في المسيحية ولم يبرأوا بعد من التطورات الوثنية والآلهة المتعددة، وقد ظل الموحدون المسيحيون يقامون إلى ما بعد القرن الخامس الميلادي على الرغم من كل ما لقوه من اضطهاد.
وما تزال فكرة التثليث تصدم عقول المثقفين من المسيحيين، فيحاول رجال الكنيسة أن يجعلوها مقبولة لهم بشتى الطرق وبالإحالة إلى مجهودات لا ينكشف سرها للبشر إلا يوم يكشف الحجاب عن كل ما في السماوات وما في الأرض. ١
١٧١- يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ. وأهل الكتاب لفظة تعم اليهود والنصارى، ولكن سياق النص هنا، يخصصها بالنصارى.
وغلو النصارى في دينهم : أنهم أفرطوا في تقديس عيسى عليه السلام- حتى أخرجوه من مرتبة البشرية واتخذوه إلها من دون الله وجعلوه ابنا له.
من تفسير ابن كثير :
قوله تعالى : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ... ينهى- سبحانه- أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله، يعبدونه كما يعبدون الله.
وفي الصحيح عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبده، قولوا : عبد الله ورسوله ". ٢
وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ. أي : ولا تفتروا على الله كذبا لا أساس له، ولا دلل يعتمد عليه، وهو قول النصارى : المسيح ابن الله. ( التوبة ٣٠ ).
وهذا قول يناقض الدليل الواضح والقول الثابت إذ الإله لا يلد، ولا يولد، فإن ذلك أمارة الحدوث، وعلامة الاحتياج.
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ. أي : إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، أرسله سبحانه لهداية الناس إلى الحق، وليس إلها من دون الله، ولا ابنا الله كما تدعون. وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ. أي : أنه تكون في بطن أمة، وجد بسبب كلمة الله وأمره :( كن ) كما قال تعالى : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَل آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ. ( آل عمران : ٥٩ ).
وروح منه. أي : ونفخة منه لأن عيسى حدث بسبب نفخة جبريل في درع مريم، فكان عيسى بإذن الله فنسب إلى أنه روح من الله ؛ لأنه بأمره كان، وسمى النفخ روحا ؛ لأنه ريح تخرج من الروح.
قال تعالى : وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ. ( الأنبياء : ٩١ ).
وقيل : المراد بقوله : وروح منه. أي : وذو روح من أمر الله ؛ لأنه سبحانه خلقه كما يخلق سائر الأرواح.
وقيل : الروح هنا بمعنى : الرحمة، كما في قوله تعالى : وأيدهم بروح منه. أي : برحمة منه ونعمة. أي : أن عيسى- عليه السلام- لما كان رحمة من الله لقومه ونعمة عظيمة منه عليهم، من حيث إنه كان يرشدهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا ةالآخرة، سمى روحا منه-سبحانه وتعالى- وكانت منه تشريفا وتعظيما له عليه السلام.
والمعنى : أن عيسى روح عظيم، وهبة، جليلة، مبتدأة من الله.
تفسير للشيخ محمد أبو زهرة :
قال الشيخ أبو زهرة رحمة الله عليه : وقوله : وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ. أي : خلقه بكلمة منه وهي كن كما خلق آدم، وكان عيسى بهذا كلمة الله ؛ لأنه خلقه بها، فقد خلق من غير بدر يبدر في رحم أمه، فما كان تكوينه نماء لبذر وجد، وللأسباب التي تجري بين الناس، بل كان السبب هو إرادة الله وحده وكلمته كن وبذلك سمى كلمة الله.
وتعلق النصارى بأن كون عيسى كلمة الله دليل على ألوهيته- تعلق باطل- فما كانت الكلمة من الله إلها يعبد، وإنما سمى بذلك ؛ لأنه أنشأه بروح مرسل منه وهو جبريل الأمين، وقد يقال : إنه نشأ بروح منه سبحانه أي : أنه أفاض بروحه في جسمه كما أفاض بها على كل إنسان كما قال تعالى : الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ( السجدة : ٧-٩ )
والرأي الأول أولى، وعلى ذلك يكون معنى قوله : أي : أنه نشأ بنفخ الله الروح فيه من غير توسيط سلالة بشرية ونطفة تتشكل إنسانا وذلك بالملك الذي أرسله وهو جبريل.
وسمى الله تعالى -عيسى- روحا باعتباره نشأ من الروح مباشرة ؛ ولأنه غلبت عليه الروحانية.
وبهذا يزول الوهم الذي سيطر على عقول من غالوا في شأن عيسى فنحلوه ما ليس له، وما ليس من شأنه، إذ جعلوه إلها، أو ابن إله. ٣
ويقول الأستاذ سيد قطب :
إن كل مخلوق يوجد بكلمة من الله. إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. ( يس : ٨٢ )، فالكلمة هي توجه الإدارة، وليس عيسى بدعا في ذلك فهو كلمة الله، وروح منه. هو هذا الروح الذي كان به آدم إنسانا، وجسده لا يزيد عنصرا واحدا على عناصر التراب، ولا يتميزإلا بهذا الروح الذي تلقاه من الله، هذا الروح كذلك تلقته مريم- على نحو لا ندركه نحن، ولم تدركه هي، بل عجبت أن يكون لها ولد ولم يمسسها بشر- فكان منه عيسى كما كان منه آدم، كلاهما تلقاه أول مرة فإذا هو إنسان حي لا عن ولادة معهودة، ولكن عن طريق مباشر، وكلاهما فيه سواء مع بعض الاختلاف. ٤
فآمنوا بالله ورسوله. أي : إذا كان ذلك هو الحق في شأن عيسى، فآمنوا بالله إيمانا حقا بأن تفردوه بالألوهية والعبادة، وآمنوا برسله جميعا بدون تفريق بينهم، ولا تغالوا في أحد منهم بأن تخرجوه عن طبيعته وعن وظيفته.
ولا تقولوا ثلاثة. ولم يقل : ولا تؤمنوا بثلاثة للإشارة إلى أن أمر الثلاثة قول يقولونه، فإن سألتهم عن معناه تارة يقولون : الأب والابن والروح القدس، أي : إنهم ثلاثة متفرقون، وتارة يقولون : الأقانيم ( الصفات ) ثلاثة والذات واحدة.
جاء في تفسير الكشاف للزمخشري :
والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة، وأن المسيح ولد الله من مريم، ألا ترى إلى قوله تعالى : أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ. ( المائدة : ١١٦ ).
وقالت النصارى المسيح ابن الله. والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون في المسيح لاهوتية وناسوتية من جهة الأب والأم. ٥
وقد أفاض بعض العلماء في الرد على مزاعم أهل الكتاب في عقائدهم. ٦
انتهوا خيرا لكم. أي : انتهوا عن الشرك والتثليث يكن الانتهاء عن ذلك خيرا لكم ؛ لأنكم به تخرجون من العقيدة الناشئة عن الضلال والأوهام إلى العقيدة المبنية على الحجة والبرهان.
إنما الله إله واحد. أي : إنما الله واحد بالذات منزه عن التعدد بأي وجه من الوجوه، متفرد في ألوهيته، هو سبحانه الخالق لهذا الكون والمدبر لأمره.
سبحانه أن يكون له ولد. تنزه الله تنزيها عظيما، لا حدود له، عن أن يكون له ولد ؛ لأن اتخاذ الولد دليل الضعف وأمارة الحدوث، وصفة العاجز المحتاج إلى من يعينه في حياته، ويخلفه بعد مماته.
قال تعالى : ليس كمثله سيء وهو السميع البصير. ( الشورى : ١١ )
له ما في السماوات وما في الأرض. أي : كل ما في السماوات وما في الأرض ملك إرادته فما هو محتاج، ونسبة كل شيء إليه سبحانه هي نسبة الخلق إلى الخالق والمملوك إلى المالك، يستوي في ذلك كل ما في الكون وكل من في الكون.
والتأمل يرى أنه سبحانه- في كل موضع نزه نفسه عن الولد ذكر كونه ملكا ومالكا لما في السماوات والأرض ؛ ليكون دليلا عليه، إذ المعنى : تنزه الله عن أن يكون له ولد ؛ لأن له في السماوات وما في الأرض.
وكفى بالله وكيلا. أي : إن الله سبحانه، كاف وحده في تدبير المخلوقات وفي حفظ هذا الكون فلا يحتاج إلى ولد يعينه ولا إلى إله آخر يدبر أمر الكون معه.
.
٢ لا تطروني كما أطرت:
رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (٣٤٤٥) (٦٨٣٠) والدرامي في الرقاق (٢٧٨٤) وأحمد في مسنده (٣٣٣، ١٦٥، ١٥٥) من حديث عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم عليه السلام فإنما أنا عبد فقولوا عبده ورسوله.
.
٣ مجلة لواء الإسلام السنة ١٨ العدد ٩ تفسير القرآن الكريم للشيخ محمد أبو زهرة.
.
٤ في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب ٦/١٩.
.
٥ تفسير الكشاف ١/٥٩٤.
.
٦ انظر تفسير الآلوسي ٦/٢٦-٣٦ وتفسير القاسمي ٥/١٧٦٥.
.
لن يستنكف : لن يأنف ولن يستكبر، وأصله من النكف. وهو تنحية الدمع عن الخد بالأصبع.
المقربون : الذين قربهم الله تعالى ورقع منازلهم على غيرهم.
ويستكبر : أصل الاستكبار : طلب الكبر والترفع عن الناس من غير استحقاق.
التفسير :
١٧٢- لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ. المسيح عيسى ابن مريم لن يأنف ولن يمتنع عن أن يكون واحدا من عباد الله ؛ لأنه عليه السلام- وهو نبي الله ورسوله- يوقن أنه من خلق الله. ويعلم أن الكل عبيد الله، وأن العبودية لله لا تنقص من قدره، ولا من قدر رسل الله وملائكته. فالعبودية لله مرتبة لا يأباها إلا كافر بنعمة الخلق والإنشاء.
وقد تحدثت آيات القرآن عن هذا المعنى في أكثر من موضع وأجابت عنه إجابة مقنعة، داحضة للافتراء.
قال تعالى : وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا. ( مريم : ٨٨-٩٥ ).
وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ. أي : وكذلك الملائكة المقربون لن يأنفوا ولن يمتنعوا عن أن يكونوا عبيدا لله لأنهم مفطورون على الطاعة.
لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ. ( التحريم : ٦ ).
والمقصود بهذا الاستطراد : تقوية الرد على النصارى وتأكيده حيث زعموا أن عيسى إله مع الله فلن يكون عبدا له، ولما كان منشأ ذلك عندهم، أن عيسى خلق من غير أب، بين الله لهم أن الملائكة خلقوا من غير أب ولا أم، ولهم عند الله تلك المكانة العالية، وانهم أكمل حالا في العلم بالمغيبات، وفي القدرة على حمل ما لا يستطيعه البشر، وهم- مع ذلك- لا يأنفون من وصفهم بالعبودية، بل يعتزون بأنهم عباد الله... فكيف يأنف عيسى من ذلك ؟ والعبودية لله أعلى مراتب الشرف، وأعظم درجات الكمال كما قال الشاعر :
ومما زادني عجبا وتيها | وكدت بأخمصى أطا الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي | وأن صيرت أحمد لي نبيا |
جاء في تفسير ( في ظلال القرآن ) للأستاذ سيد قطب :
إن الذين أقروا بعبوديتهم لله هم الذين آمنوا فعرفوا حقيقة الصلة بين الخالق والمخلوق، وعملوا الصالحات، لأن عمل الصالحات هو الثمرة الطبيعية لتلك المعرفة، وما يريد الله من عباده أن يعبدوه لأنه بحاجة إلى عبادتهم، ولا لأنها تزيد في ملكه تعالى أو تنقص منه شيئا.
ولكن يريد أن يعبدوه وحده ؛ ليستعلوا على كل من سواه، وليرفعوا جباههم أمام المتجبرين والطغاة، معتزين بالله وليعملوا الخير يبغون بالخير قربة ورضاه، وليتجردوا من شهواتهم وعصبياتهم وملابساتهم الأرضية متطلعين إلى وجهه في علاه، وليرفعوا عن ثقلة الأرض وضروراتها وهم يطلعون إلى ذلك الأفق الوضيء الكريم : لهذا يوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله ؛ لأنهم عرفوا، ولأنهم عملوا، ولأنهم أصلحوا في الأرض، ولأنهم زادوا في محصول الحياة.
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا. أي : وأما الذين أنفقوا وتعظموا عن عباداته و طاعته فسيعذبهم عذابا موجعا شديدا.
وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا. أي : ليس لهم من يتولاهم أو ينصرهم من عذاب الله.
برهان : البرهان : الحجة والمراد به هنا : محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن مهمته إقامة البرهان على إحقاق الحق، وإبطال الباطل. وقيل : المراد به : المعجزات، أو القرآن.
نورا : المراد به : القرآن الكريم ؛ لأنه ينير الطريق للسالكين.
التفسير :
١٧٣_ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ... الآية
تأتي الآيتان ١٧٥، ١٧٤ من سورة النساء دعوة إلى الناس كافة بالتأمل في صدق الدعوة المحمدية، وهي آخر رسالات السماء إلى الأرض وقد اشتملت هذه الرسالة على أسباب السعادة الدنيوية والأخروية.
قال صاحب الظلال :
إن الرسالة الأخيرة تحمل برهانها من الله، وهي نور كاشف للظلمات والشبهات، فمن اهتدى بها، واعتصم بالله من الشبهات المهلكة، فسيجد رحمة الله تؤويه، وسيجد فضل الله يشمله، وسيجد في ذلك النور هدى إلى الصراط المستقيم ١.
وقال الفخر الرازي : اعلم أنه تعالى- لما أورد الحجة على جميع الفرق من المنافقين والكفار واليهود والنصارى، وأجاب عن جميع شبهاتهم، عمم الخطاب، ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ.
والبرهان هو- محمد- صلى الله عليه وسلم وإنما سماه برهانا لان حرفته إقامة البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل والنور المبين هو القرآن الكريم وسماه نورا، لانه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب ٢.
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا. وأنزلنا إليكم القرآن المجيد، أعظم الكتب التي أنزلناها لهداية البشر، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
وسماه : نورا مبينا، إذ هو كالنور، يضيء الطريق، ويظهر الحق، ويهدي إلى سبيل الخير والرشاد. وقد تحدثت الآية عن نعمتين عظيمتين :
النعمة الأولى : إرسال محمد صلى الله عليه وسلم أعظم نعم الله على الناس.
النعمة الثانية : إنزال القرآن هدى للمتقين.
والناس- بالنسبة لهاتين- النعمتين الجليلتين- فريقان : فريق المؤمنين وقد بين الله حالهم العظيم في الآية التالية. وفريق الكافرين، ولم تذكر الآيات هنا عقاب الكافرين إهمالا لهم، أو لأن عاقبتهم السيئة معروفة لكل عاقل بسبب كفرهم وفسوقهم عن أمر الله.
.
٢ تفسير الفخر الرازي ١١/١١٩ طبعة عبد الرحمن محمد.
.
واعتصموا به : عصموا بالإيمان به أنفسهم من المعاصي وحفظوها.
في رحمة منه : المراد بالرحمة هنا : الجنة.
التفسير :
١٧٥- فأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا.
جاء في تفسير ابن كثير :
َفأمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ. أي : جمعوا بين مقامي العبادة والتوكل على الله في جميع أمورهم.
وقال ابن جريج : آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن.
فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ. أي : يرحمهم فيدخلهم الجنة ويزيدهم ثوابا ومضاعفة ورفعا في درجاتهم من فضله عليهم وإحسانه إليهم. وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا. أي : طريقا واضحا قصدا قواما لا اعوجاج فيه ولا انحراف، وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة، وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات، وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات.
وفي حديث الحارث الأعور عن على بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " القرآن صراط الله المستقيم وحبل الله المتين " ١.
رواه الترمذي في كتاب فضائل القرآن (٢٩٠٦)، والدرامي في كتاب فضائل القرآن (٣٣٣١)، وأحمد (٧٠١) من حديث علي بن أبي طالب. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول وفي الحارث مقال. قال السيوطي في "الدر": وأخرج ابن أبي شيبة والدرامي والترمذي وضعفه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن مردوية والبيهقي في شعب الإيمان عن علي.. فذكره. قلت : و ذكره الفتني في تذكرة الموضوعات وقال: موضوع.
.
يستفتونك : الاستفتاء، طلب الفتيا والفتيا والفتوى : اسم من أفتى العالم ؛ إذا بين الحكم.
الكلالة : الذي لا ولد له ولا والد. وقيل الكلالة : مصدر من تكلله النسب أي : تطرفه. كأنه أخذ طرفيه من جهة الوالد والولد : فليس له منهما أحد، فسمى بالمصدر. ومن هنا أطلقت على الميت الذي لم يترك والدا ولا والد " من كل " إذا ضعف. وهذا قول على وابن مسعود. وقال سعيد بن جبير : هي الوارث الذي ليس ولدا ولا والدا ؛ لأن هؤلاء الوارثين يتكللون الميت من جوانبه، وليس في عمود نسبه. كالإكليل يحيط بالرأس، ووسط الرأس خال منه.
التفسير :
١٧٦- يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ...
روى الشيخان عن البراء أن هذه الآية هي آخرآية نزلت من الفرائض.
وروى الترمذي عن جابر بن عبد الل، ه يقول : " مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني ".
فقلت : يا رسول الله، كيف أقضي في مالي ؟ أو كيف أصنع في مالي ؟ فلم يجيبني شيئا- وكان له تسع أخوات- حتى نزلت آية المواريث يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ. قال جابر : " في نزلت ".
يَسْتَفْتُونَكَ. أي : طلب الصحابة منك أن تبين لهم الحكم في ميراث الذي لم يترك ولد ولا والدا.
قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ. أي : قل لهم يا محمد : الله يبين لكم حكم ميراث الكلالة.
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ. من مات وليس له والد أو ولد وهي الكلالة.
وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ. أي : وله أخت شقيقة أو أخت لأب فلها نصف ما ترك أخوها.
أما الإخوة لأم، فقد سبق بيان ميراثهم في قوله تعالى : وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ. ( النساء : ١٢ ).
وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ. أي : وأخوها الشقيق أو لأب يرث جميع ما تركت إن لم يكن لها ولد.
فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ. أي : إن كانت الأختان اثنتين فأكثر فلهما الثلثان مما ترك أخوهما المتوفى.
بدليل القصة التي نزلت فيها الآية، فقد كانت لجابر بن عبد الله رضي الله عنه تسع أخوات في رواية الترمذي، وقياسا على ميراث البنات.
وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ.
أي : وإن كان الورثة مختلطين إخوة وأخوات فللذكر منهم مثل نصيب الأختين.
يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ.
أي : يوضح الله لكم شرائع دينكم ويفصلها ؛ كراهة أن تضلوا عن الطريق السوي فتمنعوا مستحقا، وتعطوا غير مستحق.
والآية صريحة في أن من تعدى حدود الله في أحكام الميراث ؛ فقد ضل طريق الحق، وأخطأ سبيل الرشاد.
وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. أي : والله الذي يبين تلك الفرائض لعبادة وشرعها لهم، قد أحاط بكل شيء علما، فعلمه تام بما يصلح المجتمع الإسلامي من الشرائع والأحكام.