بسم الله الرحمن الرحيم
-سورة النساء-ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: ﴿يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ﴾.قوله: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً﴾ يدل على أن الخنثى لا بد أن يكون رجلاً أو امرأة، إذ لم يخلق الله تعالى من ظهر آدم ﷺ ' لاّ رجلاً أو امرأة لا ثالث.
ومن قرأ " الأرحام " بالخفض، فهو غير جائز عند البصريين، وقبيح عند الكوفيين، لأنه عطف ظاهر على مضمر مخفوض.
وفي واحد الأرحام لغات: رَحِمٌ ورِحِمٌ، ورَحْمٌ [ورِحْمٌ].
والرحم مؤنثة، ومعنى الآية: أن الله تعالى نبّه خلقه على قدرته وأمرهم بتقواه، والنفس هنا: آدم ﷺ.
[ وقوله]: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ الآية.
قال مجاهد: خلق حواء عن قصيري آدم وهو نائم، استيقظ فقال " أثا " بالنبطية: امرأة.
قال السدي: أُسكِنَ آدم الجنة فكان يمشي فيها وحيشاً ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، فإذا عند رأسه امرأة قاعدة، خلقها الله تعالى من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة، قال: ولم خُلقتِ؟ قالت: لتسكن إليّ.
وعن ابن عباس أنه قال: إن الله جلّ ذكره خلق آدم ﷺ بيده سبحانه وتعالى في جنات عدن، فرأى آدم ﷺ كل شيء يشبه بعضه بعضاً، ولم يرَ في الجنة شيئاً يشبهه، وأحبّ أن يكون معه من يشبهه ليأنس به، وأحبّ الله تعالى أن يؤنسه بزوجته ليكون منهما النسل، فأسبته الله تعالى، والجنة لا نوم فيها، ولا نعاس ولا سبات، فخلق حواء من ضلع من أضلاعه وهي: القصيري فلما ذهب عنه السبات رأى من يأنس به، ويشبهه فسمي إنساناً حيث أنس، فقال لها: ما أنت؟ قالت: أثا، وأثا بالسريانية أنثى، وقيل: معناه امرأة.
قال جماعة من المفسرين: لما خلق الله تعالى ( وتعالى) آدم ﷺ، ألقى عليه النوم، فلما نام خلق حواء من أحد أضلاعه، وهو لا يشعر ولا يألم، فلما انتبه فرآها قال: من هذه؟ قيل: هي زوجتك، فعطف عليها، وأحبّها ولو ألِم لخلْقها لم يحنُ عليها، ولم
قال ابن عباس: خلق الرجل من الأرض فجعلت همّته في الأرض، وخلقت المرأة من الرجل فجعلت همّتها في الرجل، فاحبسوا نساءكم.
قوله: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا [رِجَالاً]﴾ أي: نشر من آدم وحواء خلقاً كثيراً.
ومعنى ﴿تَسَآءَلُونَ﴾ أي: اتقوا الله الذي إذا سأل بعضكم بعضاً سأل به وجعله وسيلة، يقول السائل أسألك بالله، أنشدك بالله وشبهه، فكما تعظمونه بألسنتكم، عظّموه بالطاعة فيما أمركم به ونهاكم عنه.
وقال الضحاك: ﴿تَسَآءَلُونَ بِهِ﴾ أي تعاقدون به، وتعاهدون به.
وقال ابن عباس: ﴿تَسَآءَلُونَ بِهِ﴾ فتتعاطفون به.
﴿والأرحام﴾ أي اتقوا الأرحام، هذا على قراءة من قرأ بالنصب. ومن قرأ بالخفض. فمعناه: تساءلون به وبالأرحام (تقولون أسألك بالله وبالرحم).
قال ابن عباس والمعنى: واتقوا الله في الأرحام فصلوها.
قال يعقوب: الوقف ﴿تَسَآءَلُونَ بِهِ﴾ على قراءة النصب و " الأرحام " على قراءة الخفض.
قوله: ﴿وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ﴾ الآية.
هذه الآية عنى بها أوصياء اليتامى أن يعطوهم ما لهم إذا بلغوا الحلم وأنس منهم الرشد، ولا يقال يتيم إلاّ لمن (لم) يبلغ الحلم. قال النبي ﷺ: " لا يُتم بعد البلوغ "، وسموا يتامى في الآية وإن كان قد بلغوا الحلم على الاسم الأول.
﴿وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب﴾ أي الحرام عليكم من أموالهم بالحلال من أموالكم.
قال الزهري: تعطي لهم مهزولاً وتأخذ سميناً أي: لا تأخذ الجيد من أموالهم وتعطي مكانه الرديء تقول شيئاً بشيء ودرهماً بدرهم وشاة بشاة والذي تأخذ خير من الذي تعطي والاسم واحد.
وقيل معنى: ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ﴾ لا تربح على يتيمك يهوى عندك دابة أو ثوباً أو غير ذلك وهو غير جاهل فتزداد عليه في الثمن.
وكون (إلى) بمعنى مع أولى، وعليه أكثر الناس، وذلك أن (إلى) أصلها أن تكون نهاية أو تكون حداً نحو ﴿إِلَى الليل﴾ [البقرة: ١٨٧] فهذا نهاية لا يدخل [ما] بعدها فيما قبلها ونحو قوله: ﴿إِلَى الكعبين﴾ [المائدة: ٦] فهذا حد تدخل الكعبان في الغسل ومثله (إلى المرافين) فإن خرجت إلى عن هذين الأصلين كانت بمعنى حرف آخر، فلما لم يحسن فيها في هذا
والهاء في (إنه كان) قيل: تعود على الأكل. وقيل: تعود على التبدل.
[وقيل: على المال].
والحوب: الإثم.
وقال نافع: ﴿بالطيب﴾ تمام، [وقال أحمد بن موسى ﴿إلى أَمْوَالِكُمْ﴾ تمام].
قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى...﴾ الآية.
إنما جاز أن تقع (ما) لمن يعقل، لأنها، والفعل: مصدر، وهي تقع للنعوت فكأنه قال: فانحكوا الطيب من النساء أي: الحلال، ﴿فواحدة﴾ أي: فانكحوا واحدة.
وقرأ الأعرج بالرفع على معنى: فواحدة تقنع يرفع بالابتداء
وهذا أيضاً خطاب للأولياء في صداق اليتامى، والمعنى: فإن خفتم يا أولياء ألاّ تعدلوا في صداقهن، فتبلغوا صدقات أمثالهن فلا تنكحوهن ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ أي: الطيب يعني الحلال من غيرهن من واحدة إلى أربع ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ أن تجوروا إذا نكحتم أكثر من واحدة، فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم.
قالت عائشة رضي الله عنهـ: هي اليتيمة تكون في حجر وليّها يعجبه مالها ويريد أن ينكحها بأدنى من سنة صداقها، فنهى أن ينكحوهنّ إلاّ أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا أن ينكحوا من سواهن من النساء.
وقيل: معناها إنهم نهوا عن نكاح ما فوق الأربع لأن قريشاً كانت تتزوج العشرين من النساء والأكثر، فإذا صار الرجل معدماً رجع إلى مال يتيمه فأنفقه أو تزوّج به فنهوا عن ذلك.
وقيل لهم: إن أنتم خفتم على أموال اليتامى ألاّ تعدلوا فيها من أجل حاجتكم إليها، فلا تجاوزوا فيما تنكحون من النساء أربعاً، فإن خفتم أيضاً مع الأربع ألاّ تعدلوا في أموال يتاماكم، فاقتصروا على واحدة أو على ما ملكت أيمانكم قاله عكرمة.
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ﴾ في الأربع فانكحوا واحدة ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم﴾ قاله ابن جبير والسدي، وقاله ابن عباس والضحاك وغيرهم، وهو اختيار الطبري.
وقال الحسن المعنى: وإن خفتم ألاّ تعدلوا في يتاماكم إذا نكحتموهنّ، فانكحوا ما طاب لكم منهنّ: اثنين أو ثلاثة أو أربعاً ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ﴾ فانكحوا واحدة، أو فاقنعوا بما ملكت أيمانكم.
ومعنى: ﴿تُقْسِطُواْ فِي اليتامى﴾ أي: في نكاح اليتامى ثم حذف. ومعنى ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ عند أبي عبيدة: وإن أيقنتم.
وقال القتبي معناه: وإن علمتم.
ومعنى: ﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾: ما حلّ لكم، وهذه الآية ناسخة لما كانوا عليه في الجاهلية
﴿ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾ أي أقرب ألاّ تجوروا، وتميلوا. يقال: عال إذا جار، يعول عولاً، ويقال: من الحاجة عال يعيل عيلة إذا احتاج، وأعال يعيل إذا كثر عياله.
قال الحسن: العول الميل في النساء، وهو قول مجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة وغيرهم.
وقال مجاهد: ألا تعولوا: ألاّ تضلوا.
وعن عائشة: ألاّ تجوروا.
وعول الفرائض من هذا لأنها تميل عن وجهها وحقها.
وأيضاً، فإنه قد أحلّ لنا ملك اليمين، وإن كثروا وهو ممّا يعال.
وقوله: ﴿مثنى وثلاث ورباع﴾ معدول عن اثنين اثنين، وثلاث ثلاث، وأربع أربع دل عليه، ولا تتجاوز العرب في العدل إلى ما بعد الأربع.
قوله: ﴿وَآتُواْ النسآء صدقاتهن نِحْلَةً﴾ الآية.
﴿نِحْلَةً﴾ مصدر لأن قوله ﴿وَآتُواْ النسآء﴾ بمنزلة انحلوهنّ، فعمل في نحلة، وقيل: هي مصدر في موضع الحال.
ومعنى الآية أن الله تعالى أمر المؤمنين أن يعطوا النساء مهورهنّ عطية واجبة.
قال قتادة: ﴿صدقاتهن نِحْلَةً﴾ فريضة. وقيل: ديانة.
وقيل: المعنى: " نحلة " من الله تعالى للنساء دون الرجال إذ جعل على الرجل الصداق، ولم يجعل على المرأة شيئاً فينحي لها ذلك. وقيل: نحلة عن طيب نفس.
وواحد الصدقات: صدقة، والصداق يفتح ويكسر عند يعقوب، وقال
وقال ابن زيد في معنى الآية: إنها أمر من الله ألاّ تنكح امرأة إلاّ بشيء واجب، والمخاطب بهذ الأزواج، قيل لهم: أعطوا من نكحتم صداقها [ولا] تنكحوا بغير صداق.
وقيل: إن المخاطب بهذا الأولياء لأنهم كانوا لا يعطونهنّ من صداقهن شيئاً يأخذه الولي نفسه، فنهى الله تعالى عن ذلك. وقيل: بل المخاطب الأولياء أيضاً، لأنهم كانوا يعطي الرجل منهم أخته للآخر على أن يعطيه الآخر أخته، وهذا نكاح الشغار الذي نهى النبي ﷺ عنه، وعنه نهى الله تعالى في هذه الآية.
قوله: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً﴾ أي: من الصداق إن تركنَ ذلك من غير
والهاء في ﴿مِّنْهُ﴾ تعود على المال، لأن المعنى: وآتوا النساء هذا المال الذي اسمه: صدقات فرجعت الهاء على المعنى الذي دلّ عليه الكلام.
وقيل: تعود على الإيتاء. وقيل: على الصداق.
وقال نافع: ﴿صدقاتهن﴾، تمام. وهذا يدل على أن نحلة لا يعمل فيه ما قبله وأن المعنى أنحلهن الله تعالى نحلة، أضمر الفعل. والأحسن في التمام أن تقف على " مريئاً ".
قوله: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ﴾ الآية.
من قرأ: قياماً فهو مصدر، والمعنى الذي تصلح به أموركم فتقومون بها قياماً،
ومن قرأ: قيماً فهو عند البصريين جمع قيمة أي: جعلها الله قيمة للأشياء.
وقرأ النخعي ﴿التي﴾ بالجمع.
قال الفراء الأكثر في كلام العرب: النساء اللواتي، والأموال التي.
والسفهاء هنا: النساء والصبيان، وهو قول قتادة وابن جبير والحسن والسدي والضحاك. وقيل: هم الصبيان خاصة قاله ابن عباس. وقيل: هم الصغار ولد الرجل خاصة.
وقيل: هم النساء خاصة. وقيل: هم اليتامى الذين لم يبلغوا الرشد وهذا قول حسن والمعنى: لا تسلطوهم على اموالكم التي جعلها الله قيام معاشكم، فيفسدوها ولكن ارزقوهم، واكسوهم، وإن كانوا ممن تلزمكم نفقتهم، وهذا قول من قال: السفهاء ولد الرجل وامرأته.
قوله: ﴿وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوف﴾ أي: عدوهم وعداً حسناً من البر والصلة، وقيل: المعنى ادعوا لهم بالصلاح.
وقيل: المعنى علموهم أمر دينهم.
وقال ابن جريج: المعنى: قولوا لهم إن صلحتم ورشدنم سلمنا إليكم أموالكم، وخلينا بينكم وبينها.
قوله: ﴿وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ﴾ الآية.
والمعنى اختبروهم في عقولهم وصلاحهم، وتثمر أموالهم وذلك بعد الاحتلام ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ﴾ الرشد ﴿فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾. وقد قال أبو حنيفة: لا حجر على بالغ. وعامة الفقهاء على خلافه.
وقيل: الرشد: الصلاح في الدين والمال، وقال مجاهد: الرشد هنا العقل. ﴿فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ هذا كلام يدل [على] أن الآية في المُولى عليهم من يتامى الصبيان الإناث والذكور، وقال الحسن: رشداً في أموالهم وصلاحاً في دينهم.
قال زيد بن أسلم: وذلك بعد الاحتلام.
قوله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً﴾ أي: لا تأكلوا أموال اليتامى بغير ما أباح الله تعالى.
وقيل: لا تسرفوا في أكلها، والإسراف في كلام العرب تجاوز الحد المباح إلى
وقوله: ﴿بِدَاراً﴾ أي: مبادرة أن يكبروا، وهو مصدر بادرت. أي: لا تأكلوها مبادرة منكم (بلوغهم وإيناس الرشد منهم فيأكلوها لئلاّ يرشدوا فيأخذوها منكم).
قوله: ﴿وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ أي: عن أموال اليتامى بماله.
﴿وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف﴾ أي: يستقرض من مال يتيمه، ثم يؤديه إذا
وروي أن ابن عباس والشعبي وغيرهم: أن له أن يأكل منه إذا احتاج قرضاً ويؤديه إذا أيسر مثلما أكل.
وقال السدي: إذا كان الولي فقيراً أكل من يتيمه بأطراف أصابعه، ولا قضاء عليه، وقاله الشعبي، وروي مثله عن ابن عباس بأنه لا قضاء عليه.
وعن عائشة: إنّ الوصي يأكل من مال اليتيم مكان قيامه عليه إذا كان فقيراً (أكل بالمعروف، ولم يذكر قرضاً ولا رداً وقال النخعي إذا كان الولي فقيراً) أخذ من مال يتيمه ما يسدّ به جوعته ويستر عورته، ولم تذكر قضاء.
وقال ابن زيد: يأكل إذا احتاج لقيامه عليهم وحفظه لأموالهم ولا قضاء عليه.
وقيل: المعنى أكل الولي مع اليتيم هو في التمر وشرب رسل الماشية خاصة دون غيره، ولا قضاء عليه، وقد توقف بعض أهل العلم فيها وقال: لا أدري لعلها منسوخة بقوله: ﴿إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً﴾ الآية [١٠].
قال أبو حنيفة: لا يأكل معه شيئاً إلاّ أن يسافر من أجله فيأخذ القوت.
وقال نافع بن أبي نعيم: سألت يحيى بن سعيد وربيعة عن قول الله تعالى: ﴿ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ فقال: أنفق عليه بقدر فقره، وإن كان غنياً أنفق عليه بقدر غناه، ولم يكن للولي منه شيء.
ثم أمر الله تعالى الأولياء بالإشهاد على اليتامى إذا رشدوا ودفعوا إليهم أموالهم فقال: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيباً﴾ الآية.
أي: كافياً من الشهود الذين يشهدون على القبض، ونصب (حسيباً) على الحال.
قوله: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون﴾ الآية.
وهذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية، كانوا يورثون الذكر دون الإناث، وكان الكبير من ولد الذكور (يرث) دون الصغير يقولون: لا يرث، إلا من طاعن بالرمح، فنسخ الله تعالى ذلك، وأعلمنا أنه لكل واحد نصيب مفروض أي واجب مما قل ومما كثر من التركة.
قوله: ﴿وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى﴾ الآية.
هذه الآية في قول ابن عباس، وابن حبيب، ومجاهد محكمة واجبة، يعطي الورثة للقرابة الذين لا ميراث لهم ما طابت به أنفس الورثة، كأنهم ينحون إلى أنها ندب وليس بفرض.
وقيل: إنها محكمة عنى بها الميت يقسم وصيته وهو حي، فيوضي بها فهو ندب أيضاً.
قوله: ﴿وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ أي يعتذر إليهم إن لم يعطوا شيئاً، يقول الولي: ما لي في هذا المال شيء، وهو مال اليتامى، وقيل: القسمة في هذا قسمة الوصية أمر أن يعطى منها من لا يرث من القرابة على الندب لذلك.
قوله: ﴿وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً﴾ الآية.
لم يأت ليخش مفعول لذكره بعد ذلك الخوف، وإتيانه بمفعوله فسد ذلك مسد مفعول يخشى (لأن الخوف والخشية سواء، ومثلهما معنى الاتقاء فسد مفعول يخشى) مفعول الخوف ومفعول الاتقاء، كما قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا﴾ [النحل: ١١٠] فسَدَّ خبر إن الثانية مسدَّ خبر الأولى في قوله ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ﴾ [النحل: ١١٠].
والمعنى: وليخف الذين يحضرون وصية الموصي أن يأمروا الموصي أن يفرق ماله على غير ولده، ولكن ليأمروه أن يبقى ماله لولده، كما لو أنه كان هون الموصي يسره أن يحثه من يحضره على توفير ماله لولده لضعفهم وعجزهم قال ذلك ابن عباس.
وقال قتادة: معناه: من حضر ميتاً فلينهه عن الحيف وليأمره بإحسان، وليخش على عيال المتوفى ما كان يخشى على عياله لو حضره الموت، وهو مثل القول الأول ومثل هذه المعنى قال السدي.
وقال الضحاك قولاً قريباً من الأول: قال هذا عند الموت لا يقول أحدكم لرجل عند وصيته: اعتق وتصدق حتى يفرق ناله، ويدع ورثته عالة لعياله كما كان يحب هو أن يفعل به لو حضرته الوفاة وعنده ذرية ضعفاء.
قوله: ﴿وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً﴾ أي يأمرون الميت في وصيته بما لا ضرر فيه على ورثته كما يحب هو أن يفعل في ورثته بما يأمر به نفسه.
وقال مجاهد: هذا عند تفريق المال وقسمته، يقول الذين يحضرون: زد فلاناً وأعط فلاناً، فأمرهم الله تعالى أن يقولوا مثلما كان يحبون أن يقال لولده بعدهم. وكل هذه الأقوال لا تمنع الوصية أن يوصي لقرابته بخمس ماله أو بربعه أو بثلثه كذا
وقيل: إنهم لا يأمرونه أن يوصي لأحد البتة إذا كان له أولاد ضعفاء يخاف عليهم الضيعة كما كنتم تصنعون لو حضركم الموت أيها الحاضرون وعندكم أولاد ضعفاء تخافون عليهم الضيعة.
وروي أن أصحاب النبي ﷺ كان من اجتهادهم في الخير والعمل الصالح إذا حضروا مريضاً منهم قالوا له: انظر لنفسك فليس ينفعك ولدك ولا يغنون عنك من الله شيئاً، ويقدم جل ماله ويجحف بولده، وكل هذا قبل الوصية بالثلث، وتحديدها من النبي ﷺ فكره الله سبحانه ذلك وأمرهم أن يأمروا الذي حضرته الوفاة بما يحبون أن يأمروهم به إذا حضرتهم الوفاة ولهم ذرية ضعفاء. وقد قيل: إن هذا أمر للموصي على الأيتام أن يفعل فيهم ما يحب [أن يفعل] بعده في أولاده.
وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الوصية لولاة اليتامى ألا يأكلوا أموالهم كما يحبون لو ماتوا وتركوا أولاداً ضعفاء أن يحتاط على أموال أولادهم كما يحتاطون هم على مال يتاماهم، أي: لتفعلوا بهم ما تحبون أن يفعل بولدكم بعدهم.
قوله: ﴿إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً﴾ الآية.
وقال النبي ﷺ فيما روى الخدري عنه من خبر ليلة الإسراء: " نَظَرْتُ فِإِذَا أنَا بِقَوْمٍ لَهُمْ مَشافِرٌ كَمَشَافِرِ الإِبِلِ، وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأخُذُ بِمَشَافِرِهِم، ثَمَّ يَجْعَلَ في أفْوَاهِهِمْ صَخْراً مِنْ نَارٍ تَخْرُجُ مِن أسَافِلِهِم، قُلْتُ: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ﴿الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً﴾ ".
وقال ابن [زيد] عن أبيه: هي لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم ويأكلون أموالهم، وإنما جاز أن يخبر عنهم بأكل الناس لأنهم لما أكلوا ما يؤديهم إلى النار كانوا بمنزلة من يأكل النار، وإن كان يأكل الطيب في الدنيا.
قوله: ﴿يُوصِيكُمُ الله في أولادكم لِلذَّكَرِ﴾ الآية.
ومعنى قوله ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ معناه: لم يزل كذلك، كأن القوم عاينوا
وفيها قول ثالث وهو: أن كان يخبر بها عن الحال كما قال: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً﴾ [مريم: ٢٩]، وقول رابع: أن الإخبار من الله تعالى في الماضي والمستقبل واحد لأنه عنه معلوم.
ومعنى ﴿يُوصِيكُمُ﴾ يفرض عليكم فلفظه لفظ الخبر، ومعناه الإلزام كما قال: -[" ذلكم وصاكم به أي فرضه عليكم ". وقيل معناه: يعهد إليكم إذا مات منكم ميت وخلف] أولاداً أن يقسم عليهم على كذا وكذا.
وقوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين﴾ وما بعده هو تفسير ما وصاهم به، بين الله للنبي ﷺ وأمته الواجب في مواريث من مات منهم في هذه السورة ونسخ به ما كان عليه أهل الجاهلية من توريث الأولاد المقاتلة دون الصغار وتوريث الذكور دون الإناث.
وقال مجاهد وغيره كانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله تعالى بما أحب
وروي أن هذه الآية نزلت لما استشهد سعد بن الربيع يوم أحد، وترك بنتين وامرأة، وأباه الربيع، فأخذ أبوه جميع ما ترك على ما كانوا عليه في الجاهلية، فأتت امرأة سعد النبي ﷺ فشكت ذلك إليه مرتين وهي تبكي، وتذكر فقر بنيها، وأنه لا أحد يرغب فيهما لفقرهما، فنزلت آية المواريث ﴿يُوصِيكُمُ الله في أولادكم﴾.
قال أبو محمد: وقد كان هذا في علم الله تعالى أنه سيفرضه علينا، ويجعل لإنزاله علينا سبباً، وكذلك جميع ما أنزله علينا من الفرائض وغيرها، قد تقدم علمه بذلك لا إله إلا هو.
قوله: ﴿فَإِن كُنَّ نِسَآءً﴾ أي فإن كان المتروكات نساء.
وقوله: ﴿فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ (فرض الله تعالى لما فوق الاثنين من النساء:
والدليل: هو أن الله تعالى جعل فرض الاثنين من الأخوات: الثلثين بالنص، والابنتان أمس قرابة، وأقرب من الأختين، فوجب ألا ينقص عن فرض الأختين، وأيضاً فإن الله تعالى جعل [فرض] الأختين للأم كفرض ما فوق ذلك، (فكذلك يجب أن يكون فرض الابنتين كفرض [الأختين] فما فوق).
ودليل آخر وهو أنه جعل فرض الأخت كفرض البنت، فيجب أن يكون فرض البنتين كفرض الأختين، وكذلك أعطى الأخوات الجماعة الثلثين قياساً على فرض البنات المنصوص عليه، وكان المبرد يقول: إن في الاية دليلاً على أن فرض البنتين: الثلثان، وهو أنه قال: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين﴾ (فأقل العدد ذكر وأنثى، فإذا كان
وقيل: (إن) الابنة لما وجب لها مع أخيها في مال أبيها الثلث، كانت أحرى أن يجب لها في مال أبيها مع أختها أيضاً الثلث، ويكون لأختها معها مثلما وجب لها وهو الثلث، فوجب للابنتين الثلثان بهذا الاستدلال.
والهاء في ﴿لأَبَوَيْهِ﴾ تعود على الميت، ولم يجر له ذكر، لكن الكلام يدل عليه، والأولى من هذا كله أن تكون الابنتان أعطيتا الثلثين لفعل النبي ﷺ فقد روي عنه أنه أعطى للابنتين الثلثين.
وقيل: أُعطيتا الثلثين بالإجماع.
والأولاد فيما ذكر الله تعالى هم أولاد الصلب الذكور والإناث وولد الابن خاصة وإن سفلوا الذكور والإناث، وكذلك ولد ابن الابن ابن الابن إذا نسب إلى الميت من قبل آبائه والأعلى يحجب الأسفل إلا أن يكون الأعلى أنثى، فإن لها ما للبنت، والباقي لمن هو أسفل منهما من ولد الابن إذا كان فيهم ذكر، ولهذا تبيين يطول ذكره، وهو مذكور في كتاب الفرائض، وكذلك الابنتان لهم الثلثان والباقي لمن هو
قوله: ﴿فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ الآية.
مذهب بعض الصحابة وبعض الفقهاء أن الإخوة الذين يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس هم ثلاثة فما فوق ذلك لقوله (إخوة فأتى بلفظ الجمع)، وقال أكثرهم، وكثير من الفقهاء (وإن كانوا أخوة، رجالاً ونساءً) وهو مذهب زيد الاثنان يحجبان الأم كالثلاثة والإخوة في الآية يراد بهم اثنين فما فوقهما، وإنما جاز أن يقع لفظ الجماعة للاثنين لأنهما شبها بالشيء الذي ليس في الإنسان منه غير عضو (واحد) كقولك: الزيدان صغت قلوبهما وخرجت أنفسهما، وفقئت أعينهما، فلما جمع في موضع التثنية كان هو المشهور عن العرب، وأتى به القرآن، شبه الشخصان بالأعضاء التي في كل واحد منهما عضو واحد في موضع التثنية (كما يجمع الأعضاء في موضع التثنية).
والشبه الذي بينهم أن الشخصين كل واحد غير صاحبه كذلك الأعضاء كل واحد غير الآخر، فأخرج تثنيتهما بلفظ تثنية العضوين. وقال بعض النحويين:
﴿وَأَطْرَافَ النهار﴾ [طه: ١٣٠] يريد طرفيه إذ ليس له سوى طرفين، وقد قال النبي ﷺ " ( صلاة) الاثنين جماعة " وقال
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ﴾ [الشعراء: ١٥].
أراد به موسى وهارون المتقدم ذكرهما، وقال في قوله: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة: ١٨] وإنما أراد به علياً رضي الله عنهـ والوليد، فجمع (يستوون).
وقالوا في قوله: ﴿وَأَلْقَى الألواح﴾ [الأعراف: ١٥٠] أنهما كانا لوحين فجمع في موضع التثنية،
وإنما نقصت الأم بالإخوة (وزيدت للأب) لأن على الأب مؤنتهم دون الأم.
قوله: ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ﴾ الآية.
" أو " هنا للإباحة، والكلام فيه تقديم وتأخير، والدين هو المتقدم على الوصية وليست " أو " بمعنى الواو، لأن الواو لو كانت لجاز أن يتوهم أن الحكم لا ينفذ إلا باجتماع الدين والوصية.
قوله: ﴿آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً﴾ المعنى لا يعلمون أيهم أقرب لهم نفعاً في الدنيا والآخرة.
وقال ابن عباس: لا تدرون أيهم أرفع درجة في الجنة، لأن الآباء يشفعون في
فالمعنى على هذا لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعاً في الآخرة.
وفرض الزوج والزوجة ظاهر في النص غير خفي، فلذلك لم يذكر.
قوله: ﴿فَرِيضَةً﴾ منصوب على الحال المؤكدة لما قبلها من الفرض، وقيل: هو مصدر لأن معنى قوله ﴿يُوصِيكُمُ﴾ يفرض عليكم. ثم قال: ﴿فَرِيضَةً﴾ فأعمل فيه المعنى الذي دل عليه يوصيكم، وهذا قول حسن.
قوله: ﴿وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كلالة أَو امرأة﴾ الآية.
" نصب (كلالة) على أنه خبر كان عند الأخفش، وإن شئت على الحال يجعل كان بمعنى وقع " ويورث " صفة رجل، وهذا على أن الكلالة هو الميت، وهو قوله البصريين لأنهم يقولون الكلالة الميت الذي لا ولد له، ولا والد وقد روي ذلك
قال البصريون: هو كما تقول رجل عقيم: إذا لو يولد له، مشتق من الإكليل كأن الورثة غير الولد، والولد قد أحاطوا به فحازوا المال.
وقرأ الحسن وأبو رجاء (يورِث كلالة) بكسر الراء جعل الكلالة مفعول به.
وقرأ بعض الكوفيين (يورِث كلالة) بكسر الراء وتشديد نصب كلالة على أنه مفعول بها.
والكلالة في عاتين الروايتين: الورثة أو المال.
وقد قيل: الكلالة الورثة لا ولد فيهم ولا أب وهو قول أهل المدينة وأهل الكوفة، وشاهد هذا القول قراءة الحسن وأبي رجاء المتقدم ذكرهما، ويبعد هذا القول لأجل نصب كلالة لأنه يجب على هذا القول أن ترتفع على معنى يورث منه كلالة.
وقال عطاء: الكلالة المال الذي لا يرثه ولد ولا والد، وهو قول شاذ، فيكون نصبها على أنه صفة لمصدر محذوف والتقدير: يورث وارثه كلالة.
وقال ابن زيد: الكلالة الحي والميت الذي لا ولد له ولا والد.
والكلالة مشتق من الإكليل المنعطف على جبين الملك، ومن الروضة المكللة وهي التي قد حف بها النّوْرُ، وشبه ذلك بالقمر إذا حا بالإكليل وهو منزلة من منازل القمر ذات نجوم، يقال يتكلله النسب إذا أحاط به، وإنما سمي الميت الذي لا ولد له، ولا والد كلالة لأن كل واحد من الولد والوالد إذا انفرد يحيط بالميراث كله.
وقرأ الحسن غير مضار وصيةٍ، بالإضافة ولحن في ذلك لأن اسم الفاعل لا يضاف إلى المصدر، ووجهه غير مضار بوصية أي: غير مضار بها ورثته في ميراقهم لا يقدر بما ليس (عليه) ولا يوصي بأكثر من الثلث.
و" وصية " نصب على المصدر.
وأكثر العلماء على أن الكلالة في أول هذه السورة يراد بها الإخوة [من الأم والكلالة في آخر السورة يراد بها الاخوة] من الأب والأم.
قوله: ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ إنما وحد في أوله وقد تقدم ذكر رجل وامرأة، لأن الاسمين إذا تقدما وعطف أحدهما على الآخر بأو، جاز أن تضيف الخبر إليهما أو لأحدهما، إن شئت أن تقول: من كان عنده غلام أو جارية، فيحسن إليه، وإن شئت: إليها وإن شئت إليهما.
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يُطِعِ الله﴾. الآية.
قوله: ﴿واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة﴾ الآية.
" اللاتي " لا تكون إلا للنساء. والمعنى: والنساء اللاتي يأتين الفاحشة، فاستشهدوا عليهن فيما آتين أربعة رجال، فإن شهدوا عليهن بالفاحشة ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت﴾ حتى يمتن ﴿أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ أي: طريقاً إلى النجاة فكانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، وكان هذا قبل نزول الحدود، فلما نزل: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: ٢]، نسخ ذلك.
قال السدي: نزلت هذه الآية في التي دخل بها إذا زنت، فإنها تحبس في البيت ويأخذ زوجها مهرها.
قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾ قال: هي الزنا، ثم جاءت الحدود فنسختها فجلدت ورجمت وصار مهرها ميراثاً فكان السبيل هو الحد الذي نزل.
وقيل: إن حكم الزاني والزانية الثيبين والبكرين كان أن يحبسا حتى يموتا، فنسخ الله ذلك بالآية التي بعدها وصار حكمهما أن يؤذيا بالسب والتعيير لقوله " فآذوهما " ثم نسخ ذلك بالحدود، هذا قول الحسن وعكرمة وروي عن عبادة بن الصامت.
وقال قتادة كان حكم البكرين الزانيين أن يؤذيا بالتعيير، وحكم المحصنيين أن يحبسا حتى يموتا، فنسخ بالحدود،: الجلد للبكرين ونفي الرجل بعد الجلد عاماً،
وقال مجاهد: ﴿واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة﴾ عام لكل ثيب وبكر من النساء ﴿واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ﴾ عام لكل من زنى من الرجال خاصة ثيباً كان أو بكراً، وهو مروي عن ابن عباس. واختاره النحاس وغيره، لأنه قال ﴿واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ﴾ ولم يقل منكم، وقال ﴿واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ﴾ أي يأتين الفاحشة منكم يريد الرجال بعد ذكر النساء، ثم نسخت الآيتان بالحدود.
وقد اختلف في الحد على الثيب فقال علي رضي الله عنهـ: الجلد ثم الرجم، وقال: أجلد بكتاب الله، وأرجم بسنة رسول الله ﷺ. وبه قال الحسن وإسحاق. وأكثر العلماء على ان عليه الرجم دون الجلد، وهو مروي عن عمر رضي الله عنهـ وهو [قول]
واختلف في نفي البكر: فقال العمران ما: يجلد ولا ينفى، وكذلك قال عثمان وعلي وابن عمر رضي الله عنهما وهو قول عطاء وسفيان ومالك، والشافعي، وابن أبي ليلى، وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وقال قوم: لا يحد حتى يعترف أربع مرات في موضع أو في مواضع قال مالك: لا يقام عليه الحد إن كان بعذر وهو مذهب الأوزاعي.
وأما الإحصان الذي يجب معه الرجم فهو الوطء للمسلمة الحرة بنكاح صحيح، فإن كان فاسداً لم يكن محصناً بذلك النكاح في قول عطاء وقتادة والليثي
وروي عن علي وجابر بن عبد الله في الذمية إذا دخل بها، والمسلمة سواء، وعند الحسن البصري وعطاء والزهري، وقتادة ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق يحصن (المسلم)، ولا يحصن المسلم الذمية.
وروي عن ابن عمر أنها لا تحصنه (وهو قول الشعبي وعطاء والنخعي ومجاهد والثوري.
والأمة يدخل بها الحر تحصنه عند ابن المسيب والزهري، ومالك، والشافعي. وقال عطاء والحسن البصري وابن سيرين، وقتادة، والثوري وغيرهم: لا تحصنه فأما الحرة تكون تحت العبد فهو يحصنها عند (ابن) المسيب والحسن البصري،
وقال عطاء والنخعي، وأصحاب الرأي: لا يحصنها.
ومذهب مالك والشافعي والأوزاعي في الصبية التي لم تبلغ (يدخل بها البالغ الحر: أنها تحصنه، ولا يحصنها، وقال أصحاب الرأي لا تحصنه الصبية، ولا المجنونة).
وقال الشافعي تحصنه المجنونة إذا دخل بها.
وقال مالك في الصبي: إذا جامع امرأته لا يحصنها.
قوله: ﴿واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا﴾ الآية.
المعنى عند الطبري: الرجل والمرأة اللذان يأتيان الفاحشة منكم أي: من رجالكم ﴿فَآذُوهُمَا﴾، قيل: يعني بذلك غير المحصن، وبالذي قبلها: المحصنان. وقيل: عنى بذلك الرجلان الزانيان.
وقيل: هذه الآية والتي قبلها منسوخة بالحدود، وعليه العمل عند الصحابة والعلماء. وقيل: هي ناسخة لما قبلها ومنسوخة بالحدود.
وقال ابن عباس: معناها: يؤذيان باللسان ويضربان بالنعال.
والسبيل في الآية التي قبلها هي الحدود التي نزلت في النور.
قوله: ﴿إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء بِجَهَالَةٍ﴾ الآية.
معناها عندها الطبري: أن التوبة ليست لأحد إلا الذين يعملون السوء، وهم جهال: ثم يتوبون قبل الموت، فإن الله يتوب عليهم، وأكثر الصحابة على أن كل ذنب فعله الإنسان فعل جهالة عمداً كان أو غير عمد.
قال مجاهد: كل من عصى ربه فهو جاهل حتى يتوب عن ذلك، وعلى ذلك أكثر التابعين وأهل التفسير.
وقد قال الضحاك: إن الجهالة: العمد خاصة وروي مثله عن مجاهد.
وقال عكرمة: الجهالة: الدنيا. فالمعنى على قوله: للذين يعملون السوء في
وقيل معنى: ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ أي: بجهالة منهم لما في الذنب من العقاب عمدوا ذلك أو جهلوه. وقيل: الجهالة أن يعمل المعصية وهو يعلم أنها معصية، فإن لم يعلم ذلك، فهو خطأ وليست بجهالة.
قوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾ الآية.
أي: في صحة لا مرض فيها قبل نزول إمارات الموت، قاله ابن عباس والسدي وغيرهما، وقيل: المعنى من قبل معاينة الموت (وروي ذلك عن ابن عباس، وقاله الضحاك، وقال عكرمة وابن زيد " من قريب " من قبل الموت).
وقد روي قتادة عن أبي قلابة أنه قال: ذكر لنا أن إبليس لعنه الله لما لعن وأُنظْر قال: وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح، قال الله تعالى: لا
وقال النبي ﷺ: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ".
وقال أهل المعاني: " ثُمّ يثوبون " قبل مماتهم في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تعالى ونهيه، وقبل أن يغلبوا على أنفسهم وعقولهم ﴿فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ﴾ أي: يرزقهم إنابة إلى طاعته ويتقبل منهم توبتهم إليه.
قال الأخفش: قال إني تبت الآن " تمام وخولف في ذلك لأن و ﴿الذين يَمُوتُونَ﴾ عطف على " الذين " الأول.
قوله: ﴿وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات﴾ الآية.
قال ابن عمر: التوبة مبسوطة ما لم يُسَق. وعنى بذلك أهل النفاق.
وقال ابن الربيع: نزلت الأولى في المؤمنين يعني قوله: ﴿إِنَّمَا التوبة عَلَى الله﴾ ونزلت الثانية - الوسطى - في المنافقين وهي قوله: ﴿وَلَيْسَتِ التوبة﴾ ونزلت الآخرة في الكفار يعني قوله: ﴿وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ لا توبة لهم في الآخرة إذ ليست بدار عمل.
وقيل: هي في أهل الإسلام، وذكر عن ابن عباس أنه منسوخة بقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨ و١١٦]، قال: فحرم الله المغفرة على من مات، وهو
ومعنى ﴿أَعْتَدْنَا﴾ - وهو أفعلنا - من العتاد.
قولهم: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً﴾ الآية.
الكَره والكُره لغتان بمعنى عند البصريين والكسائي.
وقال الفراء: الكَره بالفتح أن يكون على الشيء، والكُره المشقة، هذا معنى قوله.
وقال القتبي: الكره بالفتح بمعنى القهر والضم بمعنى المشقة.
ومعنى الآية عند أبي بكير وغيره: أنها نهي للرجل يحبس المرأة، وليس له بها حاجة رجاء أن يرثها، ونهاه أن يعضلها حتى تفتدي منه بما أخذت منه، أو ببعضه.
وقوله: ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾، معناه أن تشتم عرضه، أو تخالف أمره وتبذو
فمعنى الوراثة هو أن يأخذها لنفسه، ويكون بها أولى من ولي نفسها، ومن غيره، ومعنى العضل: أن ياخذها ويمنعها من تزوج غيره، كذلك قال جماعة أهل التفسير،
وقيل: كان ذلك سنة الأنصار.
وقيل: كان ذلك سنة الجميع يمنع امرأة قريبه أن تتزوج ويغصبها نفسها إن شاء.
قال الضحاك: كان الرجل إذا مات وترك امرأته أتى حميمه، فألقى ثوبه عليها، فورث نكاحها وكان أحق بها، وكان ذلك عندهم نكاحاً، فإن شاء أمسك حتى تفتدي منه، وقال ابن عباس: كان حميم الميت يلقي ثوبه على امرأته فإن شاء تزوجها بذلك، وإن شاء حبسها حتى تموت، فيرثها فذلك.
قوله: ﴿لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً﴾ لأنهم يمنعونها من التزويج حتى تموت، فيرثها بذلك إلا أن تذهب إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ثوبه فتكون أحق بنفسها، كذلك حكمهم فيها. وقال زيد بن أسلم: كان الرجل إذا مات في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله وكان يعضلها حتى يتزوجها أو يزوجها من أراد. وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة (المرأة) حتى يطلقها، أو يشترط عليها ألا تنكح إلا من
وقال مالك: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها كان نكاحها بيد ابن زوجها، يعني من غيرها، فإذا ماتت قبل أن تنكح كان ميراثها له، فكان الرجل يعضل امرأة أبيه عن النكاح حتى تموت فيرثها فنهى الله عن ذلك ونسخه.
قوله: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ﴾ الآية.
أي: تحبسوهن عن النكاح لتأخذوا من أموالهن إذا متن ما كان موتاكم ساقوا لهن من صدقاتهن، قال ذلك ابن عباس والحسن وعكرمة فهو خطاب عند هؤلاء لورثة الميت.
وروي عن ابن عباس في معناها أيضاً أنها في مخاطبة الأزواج ألا يحبسوا النساء وهم كارهون لهن ليأخذوا منهن ما دفعوا إليهن.
قال قتادة المعنى: لا ينبغي لك أن تحبس امرأتك وأنت كاره لها لتفتدي منك. وقال بعض أهل التفسير نزل صدر الآية في الجاهلية، وآخرها في أمر الإسلام فقوله: ﴿لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً﴾ في الجاهلية.
وقوله: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ في الإسلام وهو ما ذكرنا من قول قتادة وما روي عن
وقوله: ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾ الآية.
سمح للأزواج في المضارة إذا أتين بفاحشة ظاهرة يفتدين ببعض ما أعطوهن قال ذلك الحسن.
وقال عطاء: كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة سلَّمَت إليه ما أخذت منه، وأخرجها، فنسخ ذلك بالحدود.
وقال أبو قلابة: للرجل أن يضار بالمرأة إذا أتت بفاحشة، ويضيق عليها حتى تختلع منه.
وقال ابن عباس: الفاحشة هنا النشوز، إذا نشزت وجاز له أن يأخذ منها
قوله: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف﴾ الآية.
أي: صاحبوهن بالمعروف في المبيت والكلام. وقيل: المعروف إمساكهن بأداء حقوقهن التي لهن عليكم أو تسرحوهن بإحسان. قوله: ﴿فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ الآية.
﴿خَيْراً كَثِيراً﴾ أي: في إمساكه ﴿خَيْراً كَثِيراً﴾ أي: في الصبر على إمساك ما تكرهون.
فالهاء في " فيه " تعود على الإمساك. قال مجاهد المعنى: ويجعل الله في الكراهة خيراً كثيراً. قال السدي: ﴿وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ أي: الولد.
قال ابن عباس: خيراً كثيراً أي: يعطف عليها، ويرزق منها ولداً ويجعل الله في ولدها خيراً كثيراً.
فالهاء في (فيه) على قول مجاهد تعود على الكراهة.
نهى الله المؤمنين أن يأخذوا من أزواجهم شيئاً، وإذا أرادوا طلاقهن ليستبدلوا بهن غيرهن. والقنطار: المال الكثير وفي تحديد عدده اختلاف قد ذكرناه في آل عمران، والبهتان: الباطل:
﴿أَتَأْخُذُونَهُ﴾ كله على طريق التحذير والتوبيخ ألا يؤخذ منهن شيء، وإن كثر ما عندهن، وهو تحذير لمن فعله ومعنى ﴿أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ الملامسة والمباشرة أي: تلامستم وتباشرتم، وأصل الإفضاء في اللغة: المباشرة والمخاطبة، يقال: القوم فوضى فضا أي: مختلطون لا أمير لهم، فالإفضاء في هذه المواضع عند أكثر العلماء
﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾: هو الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان، وهذا قول عامة الفقهاء. وكان في عقد النكاح قديماً أن يقال للناكح: " الله عليك " أي: " لتمسك بالمعروف أو تسرح بإحسان ".
وقال ابن زيد: رخص عليهم بعد ذلك فقال: ﴿إِلاَّ [أَن] يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] وهذه ناسخة لتلك في قوله. وأكثر الناس على أنها محكمة فليس له أن يأخذ منها إذا أراد أن يستبدل بغيرها شيئاً مما أعطاها، وأجاز له في البقرة أن يأخذ منها إذا أرادت هي طلاقها لتفتدي منه إذا كان كارهاً للطلاق، وليس في حكم إحدى الآيتين نفي للأخرى فكلاهما محكم، تلك يجوز أن يأخذ منها لأنها مريدة للطلاق وهو كاره، وهذه لا يجوز أن يأخذ منها لأنه هو المريد للطلاق ليستبدل غيرها.
﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ الآية.
وقوله: ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ هو أن الأبناء كانوا في الجاهلية ينكحون نساء آبائهم وهو من الاستثناء المنقطع، المعنى لكن ما سلف دعوة فإنه مغفور، وقيل المعنى ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾. فإنكم لا تؤاخذون به.
قال ابن بكير: نهى الله تعالى أن يفعلوا (ما كان) أهل الجاهلية يفعلونه كان الرجل يخلف أباه على زوجته إذا توفي الأب، وقوله: ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ معناه لكن ما قد سلف في الجاهلية و ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ فهو ذم لما كانوا عليه.
ذم الله تعالى ما كانوا عليه في آخر الآية، ونهى عنه في أولها هذا معنى قول ابن بكير، ف، " ما " بمعنى من في هذه الأقوال، والمعنى: ولا تتزوجوا النساء اللواتي تزوجهن آباءكم، فحرم الله أن يتزوج الرجل المرأة التي تزوجها أبوه دخل بها أو لم يدخل، لأنه إذا عقد عليها فهو نكاح، وحرم أن يتزوج الرجل زوجة ابنه مثل قوله
وقيل: معنى الآية: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾: كنكاح آبائكم الفاسد الذي لا يجوز مثله في الإسلام، لكن ما سلف فإنه معفو عنه. والمعنى عند الطبري، ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم، إلا ما قد سلف في الجاهلية، ومضى بـ ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً﴾، فمن متعلقة عنده بتنكحوا ﴿مَا نَكَحَ﴾ بمعنى استثناء منقطع، وهو قول أهل التأويل فيما ذكره الطبري لأن " ما " لا تكون لمن يعقل، فقال: ولو كان المعنى لا تنكح النساء اللواتي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع (ما) من وهو معنى قوله الزجاج، فالنهي إنما وقع على ألا ينكحوا مثل (نكاح) آبائهم، ولم يقع على ألا ينكحوا حلائل الأبناء، والقول الأول يكون النهي إنما وقع على ألا ينكحوا حلائل الأبناء (فتكون)، " ما " لمن يعقل.
وقيل: المعنى ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ من فعلكم ذلك، فإنه كان فاحشة ومقتاً، فلا
وقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً﴾ أي لم يزل كذلك.
وقيل: كان زائدة والمعنى إنه فاحشة.
وعقد الأب على الابن، وكذلك عقد الابن يحرم على الأب بإجماع.
ومعنى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ أنهم كانوا يفعلونه، ويعلمون قبحه.
ومعنى ﴿وَمَقْتاً﴾ هو أنهم كانوا إذا ولد للرجل ولد من امرأة أبيه سمي ولد مقت، وأولاده المقت معروفون عند أهل النسب يقولون: فلان مقتي النسب، والمقت أشد البغض.
﴿وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ أي: ساء فعلهم طريقاً، ونصبه على التفسير والبيان.
حرم عليكم نكاح أمهاتكم، حرم الله تعالى في هذه الآية من النسب سبعاً، ومن الصهر سبعاً: فالتي من النسب: الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، والتي من الصهر: الأم من الرضاعة، والأخت من الرضاعة، وأم الزوجة، وبنت الزوجة المدخول بها، وامرأة الابن من نسب، أو رضاعة، والجمع بين الأختين، والسابعة قوله: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء﴾ والعمات وإن بعدن مثل العمات وإن قربن، وبنات الأخ والأخت وإن بعدن مثل من قرب منهن.
واختلف في أمهات النساء اللوتي لم يدخل بهن إذا ماتت البنت قبل الدخول. يروى عن علي رضي الله عنهـ: جواز نكاحها وعن زيد بن ثابت مثله، جعلها كالربيبة تحرم إذا دخل بأمها، ولا تحرم إذا لم يدخل بالأم وإن كان عقد.
وقال جماعة من العلماء والصحابة والتابعين غير ما ذكرنا أنها تحرم، وإن لم يدخل بالبنت، وليس مثل الربيبة لأنها قد نص عليها أنها لا تحرم إلا بالدخول بالأم، فنعتها بقوله: ﴿الاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾. فهو نعت للنساء اللاتي خفضن " بمن " ولا يحسن أن يكون نعتاً للنساء المخفوضات بالإضافة، لاختلاف العاملين، فقد أجازه الكوفيون
وكل امرأتين لو كانت إحداهما ذكراً والأخرى (أنثى) ولا يحل أحدهما لصاحبه، فلا يجوز الجمع بينهما، هذا أصل جامع في تحريم الجمع بين امرأتين، ومعنى الدخول هنا الجماع، وقيل الدخول: هو التجرد للفعل، وإن لم يفعل.
وقال الزهري في الرجل يلمس أو يقبل أو يباشر ينهى عن ابنتها.
(وحلائل الأبناء) أزواجهم، وسميت حليلة لأنها تحل معه في فراش واحد، وكل العلماء أجمع على أن حليلة ابن الرجل تحرم عليه بعقد ولده عليها، وإن لم يدخل.
ومعنى قوله: ﴿الذين مِنْ أصلابكم﴾ أي: الذين ولدتموهم دون الذين تبنيتموهم، فإما حلائل الأبناء من الرضاع فبمنزلة حلائل الأبناء من الأصلاب لأن الله تعالى قد جعل الأختين من الرضاعة كالأخت من النسب، والأم من الرضاعة
﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ﴾ [الأحزاب: ٤]، ونزلت ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ [الأحزاب: ٤٠].
وإذا اشترى الرجل الجارية فباشرها، أو عشرها، أو قبل، ولم يجامع حرمت على ابنه، وعلى أبيه في قول مالك، وأكثر العلماء، وابن الابن وإن سفل بمنزلة الابن في هذا كله والجد بمنزلة الأب وإن علا في هذا كله فاعلمه، والوطء في النكاح الفاسد
قوله: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ الاتي فِي حُجُورِكُمْ﴾ كل العلماء على تحريم الربيبة التي دخل بأمها كانت في حجر الزوج أو لم تكن في حجره إلا ما روي عن علي رضي الله عنهـ: أنه أجاز نكاح الربيبة بعد موت أمها إذا لم تكن في حجر الزوج اتباعاً لظاهر الآية لأن الله قال: ﴿الاتي فِي حُجُورِكُمْ﴾ أي في بيوتكم. وسئل عمر عن المرأة وابنتها من ملك اليمين هل يطأ إحداهما بعد الأخرى، فنهى عن ذلك وحرمه. وقال علي رضي الله عنهـ: يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد.
وكره ابن مسعود رضي الله عنهـ الجمع بينهما من ملك اليمين فقال له رجل: يقول الله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم﴾ [النساء: ٣] فقال له ابن مسعود: وبعيرك مما ملكت يمينك.
وقال النخعي: إذا كانت عنده أختان فلا يقرب واحدة منهما حتى يخرج الأولى عن ملكه، وقال الحكم وحماد.
وقوله: ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ أي: ما مضى في الزمن الأول فإنه كان حلالاً، وروي أن يعقوب عليه السلام تزوج أختين أم يوسف وأم يهودا، وكان ذلك لجميع المم فيما ذكر [فحر] م الله تعالى على هذه الأمة رحمة منه لهم لما يلحق النساء من الغيرة، فيوجب التقاطع والعداوة بين الأختين.
ونهى النبي ﷺ أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، وقال: " يحرم من الرضاع
وكره الحسن وعكرمة أن يتزوج الرجل (امرأة رجل وابنته من غير المرأة ويجمع بينهما، وكل الفقهاء على جوازه.
وكره طاوس أن ينكح الرجل) المرأة وينكح ابنه ابنتها إذا كانت ولدتها بعد وطء الأب لها (وكل الفقهاء على جوازه، فإن كانت ولدتها قبل وطء الأب لها) فلم يكرهه أحد.
قوله: ﴿والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم﴾ الآية.
قال ابن عباس: وطء كل ذات زوج زنا إلا ما سبي، وكذلك قال ابن زيد وابو قلابة ومكحول والزهري.
فالمعنى: حرمت عليكم النساء اللواتي أحصنهن الأزواج إلا ما ملكت أَيْمانكم من ذوات الأزواج السبايا فإنه حلال لكم، ونزل ذلك في سبي (أصاب) المسلمون بأوطاس لهن أزواج فكرهوا أن يقعوا عليه ولهن أزواج، فسألوا النبي ﷺ عن ذلك فنزلت ﴿إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم﴾ من السبايا ولهن أزواج في بلد الشرك، وإنهنَّ حلال لكم يعني: بعد الاستبراء. وقال آخرون: المعنى في ﴿إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم﴾ أي: وطئهن جائز لكم يعني بعد الاستبراء، إن الله حرم نكاح المحصنات بالأزواج، واستثنى ملك اليمين، وهي المملوكة، ذوات الزوج يبيعها مولاها سيكون بيعها طلاقها
قال ابن عباس وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله: بيع المملوكة طلاقها.
وقال أبو العالية " والمحصنات هنا العفائف التي أحصنهن عفافهن، وهو مردود إلى أول السورة، والمعنى عنده ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وثلاث ورباع﴾ [النساء: ٣] ثم حرم ما حرم من النسب والصهر، ثم قال: (والمحصنات من النساء) أي: إنهن حرام إلا بصداق وولي وشهود، ويجب على هذا القول نصب المحصنات لأنه عطف على مَثْنَى وما بعده.
وقال ابن جبير وعطاء: ﴿والمحصنات مِنَ النسآء﴾ حرم الله المحصنات فوق الأربع مع تحريم القرابة المذكورة.
وقيل المعنى: ﴿إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم﴾ بنكاح أو ملك، فحرم الله ذوات الأزواج من النساء ما حرم قبله من ذوي الأرحام، واستثنى ما ملكت اليمين بعقد نكاح صحيح أو بثمن، قال ذلك مجاهد، وقيل: المحصنات: الحرائر، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنهـ: إن الآية نزلت في نساء مهاجرات قدمن المدينة، فتزوجهن بعض
وروي أن ابن عباس كان يتوقف في تفسير هذه الآية، قال ابن جبير: كان ابن عباس لا يعلمها.
وروي عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إ'ليه أكباد الإبل يعني ﴿والمحصنات مِنَ النسآء﴾.
والإحصان: يكون بالحرية كقوله ﴿والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ [المائدة: ٥] يريد الحرائر من أهل الكتاب ويكون بالإسلام كقوله: ﴿فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة﴾ [النساء: ٢٥] على قراءة من فتح الهمزة يريد أسلمن، ويكون بالعفة كقوله:
﴿والذين يَرْمُونَ المحصنات﴾ [النور: ٤]، يريد العفائف، ويكون بالزوج.
والفائدة في قوله: ﴿مِنَ النسآء﴾ أن المحصنات يقع على معنى: والأنفس المحصنات فيكون للرجال والنساء، فبين أنه للنساء بقوله ﴿مِنَ النسآء﴾ دليل ذلك أنه قال: ﴿والذين يَرْمُونَ المحصنات﴾ فلولا أنه يراد به الأنفس المحصنات لم يحد من قذف رجلاً بالنص على ما ذكرنا.
ومعنى ﴿كتاب الله عَلَيْكُمْ﴾ قال عطاء والنخعي هو الأربع لا يزيد عليهن، وقاله السدي، وقال ابن زيد: معناه أمر الله عليكم، يريد ما حرم الله من هؤلاء وما أحل لهم، وقرأ ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذلكم﴾ الآية.
ومن فتح الهمزة، فلقرب اسم الله تعالى من الفعل، فأسنده إليه، فتقديره كتاب الله ذلك عليكم، وأحل لكم. ومن ضم فإنه أجراه على أول الآية، لأنه جرى على ترك
وقال قتادة ﴿مَّا وَرَاءَ ذلكم﴾؛ ما ملكت يمينكم "
وقال الطبري: بين الله لنا المحرمات بالنسب والصهر، ثم أخبرنا أنه قد أحل لنا ما وراء هؤلاء المحرمات في هاتين الآيتين بأن نبتغيهما بأموالنا نكاحاً، وملك يمين لا سفاحاً، وقد أعلمنا أن ما زاد على أربع حرام، وما كان من الإماء ذوات الأزواج حرام ما لم ينتقل الملك.
قوله: ﴿مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين﴾ معناه: أعفَّاء غير مزانين والسفاح: الزنا، والإحصان هنا العفاف، وقال مجاهد: محصنين متناكحين.
وقال السدي: وغير الاستمتاع هنا أن يتزوّجها إلى أجلٍ مسمّى بإذن وليّها، ويشهد شاهدين، فإذا تمّ الأجل أمر أن يدفع إليها ما شرط لها، وليس له عليها سبيل وتعتد، ولا ميراث بينهما.
وسئل ابن عباس عن متعة النساء فقال: أما تقرؤون فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى فقيل له لو قرأناها هكذا لكان الأمر على ذلك. فقال: فإنها كذلك.
وفي قراءة أبي زيادة: إلى أجل مسمى، وكذلك ابن جبير.
وقالت عائشة رضي الله عنها كانت المتعة حلالاً، ثم نسخ الله ذلك بالقرآن، وروي ذلك
وقال ابن المسيب: نسخت المتعة بآية الميراث يعني: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم﴾ [النساء: ١٢] لأن المتعة كانت لا ميراث بها.
وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت حرم الله المتعة بقوله ﴿والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ [المؤمنون: ٥ والمعارج: ٢٩]. وكانت المتعة أن يتزوج الرجل المرأة إلى أجل معلوم، وشرط (ألا) طلاق بينهما، ولا ميراث ولا عدة.
[وقال أبو عبيدة: نسخت المتعة بالقرآن والسنة لأن النبي ﷺ حرم المتعة يوم الفتح وغيره.
وقيل: المعنى: إن أدركتم عسرة بعد أن فرضتم لنسائكم أجورهن ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تراضيتم بِهِ﴾.
وقيل المعنى: لا جناح عليكم إذا تم الأجل الذي اشترطتم في الاستمتاع أن يزدنكم في الأجل، وتزيدهن في الأجر قبل أن يستبرئن أرحامهن، وهو منسوخ. وقال السدي: إن شاء أرضاها بعد الفريضة بأجرة، ثم تقيم معه إلى الوقت الذي يتراضون أيضاً عليه، وهو منسوخ. وقيل: المعنى: لا جناح عليكم فيما وصعه نساؤكم عنكم من صدقاتهن بعد الفريضة.
قال الأخفش ﴿إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم﴾ تمام.
وقال غيره ﴿كتاب الله عَلَيْكُمْ﴾ التمام، وهو أحسن لأن العامل فيه ما قبله من المعنى الذي دل عليه كتاب، وإنما يصح قول الأخفش إذا نصبت ﴿كتاب الله﴾ على الإغراء، وهو بعيد.
(وفريضة) مصدر كأنه قال: فرض ذلك عليكم فريضة وهو التمام.
قوله ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً﴾ الآية.
قرأ الكسائي المحصنات في كل القرآن - بكسر الصاد، إلا قوله ﴿والمحصنات مِنَ النسآء﴾ قال: لأنه أراد به ذوات الأزواج من السبايا أحلهن الله بعد استبرائهن بالحيض، فالأزواج أحصنوهن، قال: وغير ذلك يكون المراد به غير التزوج، إما إحصان إسلام، أو عفة أو بلوغ، فتكون هي التي أحصنت نفسها بإسلامها أو بعفتها أو ببلوغها، ولا يحتمل عنده ﴿والمحصنات مِنَ النسآء﴾ إلا إحصان
ومن فتح الصاد في جميع ذلك قال: إن الإسلام يحصنهن كما يحصنهن التزويج، وكذلك العفاف والبلوغ والحرية وشبهه. وحكى أصحاب أبي عمرو (أن العرب) لا تقول: هذا قاذف محصِنة، ولكن تفتح، ومن ضم " أحصن " أجراه على محصنات جعلهن مفعولات في الموضعين، فأما من فتح الهمزة، فحجته أن التفسير ورد على إضافة الإحصان إليهن، ولأن من قرأ بضم الهمزة يلزمه في الحكم ألا يوجب الحد على المملوكة إلا إذا كانت ذات زوج دون الأيم، وفي إجماع الجميع على إيجاب الحد (على) المملوكة الأيم دليل واضح على فتح الهمزة بمعنى: فإذا أحصن أي: أحصن أنفسهن بالعفاف أو بالإسلام.
والاختيار عند أهل اللغة: الضم لأنه قد تقدم ذكر إسلامهن في قوله ﴿أَن يَنكِحَ المحصنات﴾ فدل على أن الثاني غير الإسلام فيكون أحصن بمعنى تزوجن، فالمعنى فإذا أحصنهن الأزواج، ويكون حدها إن زنت بالكتاب، وحَدَّ الأيم بالسنة،
وقال بعضهم: الطول الهوى قاله ربيعة، إذا هوى أمَتَه، وخشي على نفسه، وهو يقدر على نكاح الحرة فأرى أن ينكح الأمة. وقال جابر: لا يتزوج الحر الأمة إلا أن يخشى على نفسه العنت، فليتزوجها. وقال عطاء: لا يفعل ذو الطول إلا أن يخشى على نفسه البغي.
وأكثر الناس على أن ذا الطول لا يتزوج الأمة وإن خشي على نفسه لأن وجود الطول إلى الحرة فيه قضاء شهوة، ولذة وليس هو كالمضطر إلى الميتة، والله تعالى قد حرم نكاح الأمة إلا لمن (لم) يجد طولاً إلى الحرة، فلا يخرج عن التحريم فيخلص
قال الشافعي وغيره: لا ينكح الأمة حتى يعدم ما يتزوج به الحرة ويخاف الزنا، فإن لم يجتمع الأمران عليه فلا يتزوج الأمة.
وإذا نكح الأمة على الحرة فإن مالكاً قال: لا يفعل فإن فعل جاز النكاح، وكانت الحرة مخيرة إن شاءت أقامت وإن شاءت اختارت نفسها.
وقال الشافعي: النكاح باطل.
وقال الزهري: يفرق بينه وبين الأمة، ويعاقب.
وقال عطاء: لا ينكح المة على الحرة إلا بأمرها، فإن اجتمعا كان للحرة ثلثا النفقة. وكان مجاهد يقول: مما وسع الله به على هذه الأُمَة نكاح الأَمَة، واليهودية والنصرانية وإن كان هو شراً، يعني إذا خاف العنت على نفسه في الأمَّة لهوى نزل به. وقال مسروق الشعبي: نكاح الأمة لا يحل إلا لمضطر كالميتة، فإذا تزوج حرة على أمة حرمت عليه الأمة كالرجل يجد طعاماً ومعه ميتة.
والمحصنات هنا العفائف (وقيل الحرائر) وهو الأشبه لذكر المماليك
وقوله ﴿مِّن فتياتكم المؤمنات﴾ يدل على أن تحريم نكاح غلإماء المشركات واجب وهو محرم عند مالك وجماعة من العلماء.
قال أهل العراق: ذلك على الإرشاد، وليس بمحرم، وإنما هو ندب.
فأما نكاح الحرة على الأمة فهو جائز عند ابن المسيب وعطاء والشافعي، وأبي ثور وأصحاب الرأي.
وروي عن علي رضي الله عنهـ جوازه، وقال: يفرض للحرة يومان وللأمة يوم. وقال مالك والزهري: للحرة الخيار إذا علمت بذلك إن شاءت أقامت، وإن شاءت فارقته.
وقال ابن عباس: نكاح الحرة طلاق الأمة، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال النخعي: يفارق الأمة إذا تزوج الحرة أن يكون له من الأمة ولد، فلا يفارقها،
وروي عن الزهري أنه قال: يتزوج أربعاً، ولم يذكر عنتاً.
وروي عن ابن عباس أنه لا يتزوج إلا واحدة، وبه قال قتادة والشافعي.
وقال أحمد: يتزوج من الإماء اثنتين لا غير.
وقوله: ﴿بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ أي: أنتم بنو آدم.
وقيل: معناه أنتم مؤمنون كلكم إخوة.
وقيل: نزل ذلك لما كانت العرب تعير ابن الأمة وتسميه هجيناً.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات﴾
وقوله ﴿والله أَعْلَمُ بإيمانكم﴾، أي: يعلم من آمن منكم وصدق بما جاء من عند الله تعالى ( ورسوله) ﷺ. وقوله: ﴿فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾ أي تزوجوهن بإذن مواليهن، ورضاهن ﴿وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ أي: أعطوهن مهورهن بالمعروف على ما تراضيتم به مما أحل الله لكم أن تجعلوه مهوراً ﴿محصنات غَيْرَ مسافحات﴾ أي: عفائف غير زناة.
﴿وَلاَ متخذات أَخْدَانٍ﴾ وليس ممن لهن أصدقاء على السفاح لأنهن في الجاهلية كان لهن الخليل، والصديق يحبسن أنفسهن للفجور عليه سراً، وكانوا في الجاهلية
﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأنعام: ١٥٢].
وقال السدي وغيره: ولا مسافحات معلنات بالزنا.
قوله: ﴿فَإِذَآ أُحْصِنَّ﴾ أي: صرن ممنوعات الفروج بالأزواج وهذا المعنى يدل على الضم في الهمزة.
وقيل: أحصن: أسلمن قاله السدي وهذا المعى يدل على القراءة بفتح الهمزة.
وقال سالم والقاسم: إحصانها عفافها، وإسلامها. وأكثر الناس على أن المعنى فإذا تزوجن.
﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات﴾ معنى ذلك: إذا أتت الأمة بزنى بعدما أحصنت بالزوج فعليها ﴿نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات﴾ أي الحرائر الأبكار.
وقيل: ذوات الإسلام التي أحصنهن دينهن غير محصنات بأزواج. وقوله
وسميت البكر محصنة لأنه يكون بها فيما يستقبل كما يقال: ضحته قبل أن يضحي بها، وقيل: المحصنات هنا المتزوجات، فعلى الإماء المتزوجات نصف حد الحرة وهو خمسون، والرجم لا يتبعض لأن المرجوم قد يموت بحجر واحد، وربما لم يمت بألف حجر، فنصف الرجم متعذر حده، فلا بد من الرجوع إلى نصف الجلد.
وق قال النبي ﷺ: " إذا زنت الأمة فاجلدوها " وإحصان الأمة إسلامها، وقد يجوز أن يكون معنى قوله ﴿نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات﴾ يعني من الأبكار لأن إحصان الحرة قد يكون العفاف، وقد يكون الإسلام، وقد يكون التزويج، ولا يحصن الأمة لا تزويج ولا غيره إلا: الإسلام.
و ﴿العذاب﴾ الحد غير الرجم، قال ابن عباس: على الأمة إذا زنت وهي مع حر نصف حد الحرة، وهو خمسون والمعنى فلازم لهن نصف حد الحرة.
قوله ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ﴾ معناه ذلك الذي أبيح من نكاح الأمة لمن خشي العنت، وهو الزنا.
وقيل: هو الإثم. وقيل: العقوبة.
وأصل العنت في اللغة المشقة يقال: أكمة عنوت إذا كانت شاقة، فهذا يدل على جواز نكاح الإماء إنما يكون باجتماع الشرطين المذكورين، وهما: عدم الطول، وخوف العنت وروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: لا ينبغي للحر أن يتزوج أمة وهو يجد الطول إلى الحرة، فإن فعل فرق بينهما وعزر.
قوله: ﴿وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي: عن نكاح الإماء خير لكم ﴿والله غَفُورٌ﴾ أي: غفور لكم عن نكاحهن على ما نصه لكم، وأذن لكم فيه قال ذلك السدي وابن عباس وطاوس وغيرهم.
قوله: ﴿رَّحِيمٌ﴾ أي: رحيم بكم إذ أذن لكم في نكاحهن عند الاقتدار وعدم الطول للحرة.
قوله ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ الآية.
المعنى يريد الله أن يبين لكم حلاله من حرامه، ويبين لكم طرق الإيمان من قبلكم لتتبعوه، ﴿وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ أي: يرجع بكم إلى طاعته ﴿والله عَلِيمٌ﴾ عليم بمصلحة عباده حكيم في تدبيره فيهم.
والمعنى عند النحويين يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم ومثله
قوله ﴿والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ الآية.
والمعنى والله يريد أن يرجع بكم إلى طاعته ليغفر لكم ما سلف لكم من ذنوبكم في جاهليتكم من نكاحكم حلائل آبائكم وأبنائكم، وغير ذلك مما ركبتموه ﴿وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ﴾ أي: ترجعوا عن الحق وهو الزنا.
قال مجاهد: يريدون أن تزنوا مثلهم.
ومعنى الشهوات: شهوات الدنيا ولذاتها.
وقيل: هم اليهود والنصارى قاله السدي، وقيل: هم اليهود خاصة يريدون أن تنكحوا الأخوات من الأب مثلهم لأنهم يحلون ذلك.
قوله ﴿يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ الآية.
أي: يريد أن يوسع عليكم في نكاح الفتيات المؤمنات عند عدم الطول، وخوف العنت: ﴿وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً﴾ أي لا يستطيع الصبر عن شهوة النساء.
وقرأ ابن عباس: وخلَق الإنسانَ بالفتح أي: وخلق الله الإنسان شعيفاً، يعني ضعيفاً في أمر النساء لا يقدر على الصبر عن الجماع.
قال أبو محمد رضي الله عنهـ: وتخفيف الله (تعالى) عن عباده أعظم من أن يحصى، لم يكلفهم ما ليس في وسعهم ولا ما يطيقون، وضاعف حسناتهم بعشر أمثالها، إلى سبعمائة مثل " وإذا همَّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة ضعف، وإذا همَّ بسيئة ولم يعملها لم يكتب عليه شيء وتكتب له حسنة، وإن عملها كتبت سيئة واحدة فإن استغفر منها محيت عنه " وفضل الله
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أموالكم بَيْنَكُمْ﴾ الآية.
﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة﴾ الأكثر في كلام العرب أن تستعمل إلا أن يكون في الاستثناء لغير ضمير فيها على معنى إلا يحدث أو يقع وإن في موضع نصب استثناء ليس من الأول واختار أبو عبيدة النصب على إضمار الأموال في تكون، وغير مختار عند أهل اللغة لأن أكثر كلام العرب في هذا لا يضمرون فيها شيئاً.
ومعنى الآية إنهم نهوا عن أكل الأموال بالربا، والقمار والظلم والبخس ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة﴾ فليربح ما شاء فيها قال ذلك السدي، وغيره وهو اختيار الطبري فهي محكمة.
وقيل: نزلت في ألا يأكل أحد متاع أحد إلا بشراء، أو بقيود، ثم نسخ ذلك بقوله: ﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١] الآية.
قال الطبري: في هذه الآية دليل على فساد قوله من ينكر طلب الأقوات والتجارات، والصناعات من المتصوفة الجهلة لأنه حرم أكل الأموال بالباطل، وأباح أكلها بالتجارات عن تراض من البائع والمشتري، ومعنى ﴿عَن تَرَاضٍ﴾ هو الخيار فيما تبايعا فيه ما لم يفترقا من مجلسهما الذي تبايعا فيه، وهو قول الشافعي.
وقيل: التراضي هو الرضى بعقد البيع والشراء، فإذا تراضيا فقد تم البيع افترقا أو لم يفترقا، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.
وقال القتبي ﴿عَن تَرَاضٍ﴾ [عن] موافقة منكم لما أحله الله تعالى وتورع عما
وقيل: ﴿عَن تَرَاضٍ﴾ عن رضى من البائع والمشتري.
قوله: ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، وهو معنى قول النبي ﷺ " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ".
وقيل معناه: لا تتجروا في بلاد العدو فتغدروا بأنفسكم. وقرأ الحسن " ولا تقتّلوا " بالتشديد على التكثير.
﴿إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾، أي: رحمكم الله بأن حرم دماءكم، بعضكم على بعض.
قوله ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً﴾ الآية.
المعنى: ومن يقتل أخاه المؤمن اعتداء وظلماً ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً﴾. وقيل: المعنى ومن يفعل ما قد حرم الله عليه مما ذكر في أول السورة إلى ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً﴾.
قوله: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ الآية.
الكبائر هي: من أول السورة إلى ثلاثين آية منها في قول جماعة من العلماء. وقال علي رضي الله عنهـ على المنبر في الكوفة: والكبائر سبع فسئل عنها، فقال: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة، يريد أن يرجع الرجل أعرابياً بعدما هاجر إلى الله (تعالى) ورسوله.
وقيل: الكبائر منصوصة في كتاب الله تعالى على ما روي عن علي رضي الله عنهـ وهي سبع قوله: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء﴾ [الحج: ٣١] وقوله: ﴿إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً﴾ [النساء: ١٠] وقوله: ﴿الذين يَأْكُلُونَ الرباوا لاَ يَقُومُونَ﴾ [البقرة: ٢٧٥].
وقوله: ﴿فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار﴾ قال فيمن ولي ﴿فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله﴾ [الأنفال: ١٦] وقوله: ﴿وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً﴾ [النساء: ٩٢].
وقوله: ﴿إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ﴾ [محمد: ٢٥].
وقال عطاء: الكبائر سبع وهي: قتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، ورمي المحصنات، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وروي أن ابن عمر قال: تسع زاد على ما قال عطاء: السحر، والإلحاد في البيت الحرام.
وقال ابن مسعود: الكبائر أربع: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، قال الله تعالى: ﴿ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء﴾ [الحج: ٣١].
وقال: ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون﴾ [الحجر: ٥٦] وقال:
﴿لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون﴾ [يوسف: ٨٧] وقال ﴿فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون﴾ [الأعراف: ٩٩].
وقيل: لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، وقاله عمر رضي الله عنهـ وروي عن ابن عباس أنه قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو عذاب وهذا قوله جامع.
وقال الحسن: الكبائر كل ذنب توعد الله عليه بالنار في كتابه: كالشرك، وهو أكبر الكبائر، وقتل النفس، وأكل الربا، والزنا، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وقذف المحصنات، وشهادة الزور، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والإدمان على الخمخر وشبهه.
وقد يكون الذنب صغيراً فإذا أصر عليه صار كبيراً بالإصرار عليه، وترك التوبة، والإقلاع عنه، فالإصرار على الذنب ذنب عظيم.
(وقيل: الكبائر كل ما لا يقبل معه عمل، نحو الشرك بالله سبحانه، وقيل الأولاد، والسحر، والكفر برسول الله عليه السلام وبآبائه، وشبهه).
وقال زيد بن أسلم: كل ذنب يصلح معه عمل فليس بكبيرة والله يغفر
وقد قال بكر القاضي: من أعظم الكبائر سب السلف وتنقصهم، وشهادة الزور عند الحكام، وعدول الحكام على الحق، واتباعهم للهوى.
ومن الكبائر: اللواط، والإصرار على الصغائر من الكبائر. " والندم توبة " والصغائر تكفرها الطهارة والصلاة والجماعات.
وقال أبو بكر رضي الله عنهـ: إن الله يغفر الكبيرة فلا تيأسوا، ويعذب على الصغير فلا تغتروا.
وقال عمر: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار. و " سئل النبي ﷺ عن الكبائر فقال: " الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قوله الزور (أو) قال وشهادة الزور " وروي أنه قال: " اليمين الغموس ".
وروي عنه أنه قال: " من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان واجتنب
وقال ابن مسعود " سألت النبي ﷺ عن الكبائر؟ فقال: " أن تدعو لله نداً وقد خلقك، (وأن تقتل ولدك) من أجل أن يأكل معك، أو تزني بحليلة جارك، وقرأ علينا رسول الله ﷺ ﴿ والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ﴾ [الفرقان: ٦٨] ".
وروي عنه ﷺ أنه قال: " هو الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف وقذف المحصنة، وقل الزور، والغلول، والسحر وأكل الربا واليمين الغموس ".
ومعنى قوله ﴿نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أنه تعالى وعد أن يكفر الصغائر باجتناب الكبائر وقال النبي عليه السلام: " اجتنبوا الكبائر وسددوا وابشروا ".
وقال ابن مسعود: في خمس آيات من سورة النساء لهن أحب إلي من الدنيا
قوله: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾
وقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ٤٨ - ١١٦]
وقوله: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ١١٠] وقوله: ﴿والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ١٥١] الآية.
قال (ابن عباس): ثمان آيات نزلت في سورة النساء هن خير لهذه الأمة لما طلعت عليه الشمس وغربت أولها ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٦]. الآية، والثانية ﴿والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٧] الآية، والثالثة ﴿يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ [النساء: ٢٨] الآية ثم ذكر الخمس التي ذكرها ابن مسعود.
وقيل: إن السيئات تكفرها الصلوات الخمس ما اجتنبت الكبائر.
ومن فتح الميم من (مَدخلاً) احتمل أن يكون مصدر دخل، وأن يكون
قوله: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ﴾ الآية.
نهى المؤمنين أن يتمنوا ما فضل الله به بعضهم على بعض وأمرهم أن يسألوه من فضله، وروي أن أم سلمة قالت يا رسول الله: لا نعطى الميراث؟ ولا نغزو في سبيل الله تعالى فنقتل؟ فأنزل الله تعالى ﴿ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ﴾ الآية.
قال ابن عباس: هو الرجل يقول: وددت لو أن لي مال فلان، فنهى الله تعالى عن ذلك، وأمرهم أن يسألوه من فضله لأن التمني يورث الحسد والبغي.
وقال السدي: نزلت في الرجال والنساء. وقال الرجال: لو كان لنا من الأجر مثلا ما للنساء كما لنا من الميراث مثلا ما لهن، وقال النساء: لو كان لنا أجر مثل الرجال الشهداء، فلو كتب علينا القتال لقاتلنا، فقال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ﴾ وقال ﴿واسألوا الله مِن فَضْلِهِ﴾.
وقال ابن جبير: ﴿واسألوا الله مِن فَضْلِهِ﴾ العبادة.
وقيل: اسألوه التوفيق، والعمل بما يرضيه.
قوله: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن﴾ المعنى: للرجال نصيب مما اكتسبوا من الأبواب على الطاعة، والعقاب على المعصية وللنساء مثل (ذلك).
وقال قتادة: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء شيئاً، فلما أنزل الله ميراثهم، قال النساء: لو جعل أنصباءنا (في الميراث كالرجال، وقال الرجال: إنَّا لنرجو أن نفضل النساء في الحسنات في الآخرة كما فُضِّلنا) في الدنيا عليهن بالميراث فأنزل الله تعالى ﴿لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن﴾ يقول: المرأة تجزى بحسنتها ﴿عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾.
وقيل: إنه لما نزل ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين﴾ قالت النساء: كذلك عليهم نصيبان من الذنوب، كما لهم نصيبان من الميراث فأنزل الله تعالى ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا﴾ أي: من الذنوب وللنساء مثل ذلك ﴿واسألوا الله مِن فَضْلِهِ﴾.
وقيل: المعنى: للرجال نصيب من موتاهم.
وقيل: المعنى: للرجال نصيب من الأجر وهو الجهاد، وخصوا به وبأجره، وللنساء نصيب من الأجر خصصن به، وهو حفظها لزوجها في السر والعلانية، ونظرها لزوجها، وطاعتها له وإصلاحها عليه كل لها فيه أجر خصت به.
قوله ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا موالي مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون﴾ الآية.
الموالي: الورثة، يعني العصبة، كذلك قال ابن جبير عن ابن عباس، وقال مجاهد وقتادة: فالمعنى ولكلكم جعلنا عصبة يرثون ما تركتم، ولفظ الآية عام يراد به الخصوص إذ ليس [كل إنسان له عصبة معلومة ترثه، وكل إنسان له عصبة غير معلومة. وقد قال مالك: كل] من هلك من العرب فلا يخلوا أن يكون له وارث بهذه الآية وإن لم تعرف عينه.
قوله: ﴿والذين عَقَدَتْ أيمانكم فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ كان الرجل يحالف الرجل وليس بينه
قوله ﴿والذين عَقَدَتْ أيمانكم فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ يعني من النصر والنصيحة والرفد ويوصى لهم.
وقال ابن عباس وغيره: كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات قبل صاحبه ورثه، فأنزل الله تعالى ﴿ وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين﴾ [الأحزاب: ٦] ثم قال:
﴿إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ﴾ [الأحزاب: ٦] أي: إلا أن ترضوا للذين عاقدتم وصية، فهي لهم جائزة من الثلث.
والمعاقدة التي كانت بينهم هو أن يقول: دمي ودمك، وتطلب بي وأطلب بك، وتورثني وأرث بك، فجعل في أول الإسلام السدس من المال، ويقسمُ الباقي في الورثة ثم نسخ ذلك في الأنفال.
وقال ابن إسحاق: كان الرجل الذليل يأتي العزيز فيعاقده باليمين ويقول له: أنا ابنك، ترثني وأرثك، وحرمتي وحرمتك، ودمي ودمك، وثأري ثأرك، فأمر الله تعالى بالوفاء لهم قبل تسمية الميراث، ثم نسخ بالميراث في الأنفال.
قوله: ﴿الرجال قوامون عَلَى النسآء﴾ الآية.
قال ابن عباس: الرجل أمين على المرأة تطيعه فيما أمرها به، فهو قائم عليها يقوم بنفقتها، ومؤنتها ويسوق مهرها، فهو فضله (الذي فضله) الله تعالى عليها.
وقال السدي: معنى قوله: " قوامون يأخذون على أيديهن ويؤدبوهن. وهذه الآية نزلت في رجل من الأنصار، لطم امرأته فخوصم، إلى النبي عليه السلام فقضى لها بالقصاص فأنزل الله تعالى ﴿ الرجال قوامون عَلَى النسآء﴾ الآية: فلم يقتص منه، قاله الحسن وقتادة.
كان الزهري يقول: ليس بين الرجل، وامرأته قصاص فيما دون النفس. وروي أن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي ﷺ قالت: ما بال النساء لهن نصيب وللرجال نصيبان؟ ما بال شهادة امرأتين مثل شهادة رجل؟ وذكرت أشياء في فضل الرجال، فأنزل الله تعالى ﴿ الرجال قوامون عَلَى النسآء﴾.
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنهـ: " قدمتُ الشام، فرأيت النصارى يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوقع في نفسي أَنَّا أحق أن نفعل هذا بالنبي فلما قدمت المدينة سجدت له، فقال ما هذا فأخبر (ته) بما رأيت فقال: " لو كنت آمراً أن يسجد أحد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفسي بيده لا تؤدي امرأة حق الله عليها حتى تؤدي حق زوجها " ".
ومعنى: ﴿بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ الآية.
قوله: ﴿وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أموالهم﴾: " فضل الرجال على النساء بما ذكرنا، ﴿وَبِمَآ﴾ ساققوا من أموالهم إلى النساء من مهور ونفقة ﴿فالصالحات﴾ هن المستقيمات لأزواجهن " ﴿قانتات﴾ أي: طائعات لله ولأزواجهن ﴿حافظات لِّلْغَيْبِ﴾ أي يحفظن أنفسهن عند غيبة أزواجهن [في فروجهن وأموال أزواجهن.
وقيل: المعنى: طائعات لأزواجهن] ما غاب عنهم من سرهن وشأنهن.
وقال النبي ﷺ: " " خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك. وإذا أمرتها أطاهتك وإذا غبت عنها حفظتك، في مالك ونفسها " ثم قرأ رسول الله ﷺ ﴿ فالصالحات قانتات﴾ الآية ".
ومعنى ﴿بِمَا حَفِظَ الله﴾ أي: يحفظ الله إياهن: أي صيرهن كذلك قال سفيان:
ومن نصب " الله " وهي قراءة جعفر، فالمعنى: فيهن يحفظهن الله في طاعته، وأداء حقه فيما لزمهن به في حفظ غيبة أزواجهن، كقولك للرجل: ما حفظت الله في كذا وكذا والمعنى: بمراقبتهن في حفظ أزواجهن.
وفي قراءة ابن مسعود: بما حفظ الله فأحسنوا إليهن وأجملوا.
والرجل له الحجر على المرأة بنفسها، ومالها إذا تجاوزت الثلث ولا تفعل شيئاً إلا بإذنه إلا في الفرائض التي فرض الله عليها، فلا طاعة له غليها في ذلك من الصلوات وإخراج الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان، هذا مذهب مالك، وله أن
قوله: ﴿والاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ الآية.
" واللاتي " في موضع رفع بالابتداء، وتقديره عند سيبويه: وفيما يتلى عليكم الألاتي، والمحذوف: الخبر، وعند غيره: الخبر: ﴿فَعِظُوهُنَّ﴾، ويجوز أن تكون " اللاتي " في موضع نصب على قول من قرأ: ﴿والسارق والسارقة﴾ [المائدة: ٣٨] بالنصب.
و ﴿تَخَافُونَ﴾ عند الفراء وأبو عبيدة بمعنى توقنون وتعلمون، (وهو) على بابه عند غيرهما.
والنشوز هو: امتناع المرأة من فراش زوجها، والخلاف له فيما يلزمها من طاعته. وأصل النشوز الارتفاع والانزعاج، فكأنهن ارتفعن عن أداء حق الأزواج، وطاعتهم يقال: نشزت ونشصت. وقيل: النشوز البعض قاله السدي.
وقال ابن زيد: النشوز المعصية والخلاف. وقال عطاء: النشوز أن تحب فراقه.
وقال ابن عباس: فعظوهن بكتاب الله وبطاعته، وهو قول الجماعة.
﴿واهجروهن فِي المضاجع﴾ إذا لم يرجعن مع الوعظ فاهجروهن بترك جماعهن ومضاجعتهن.
وقال السدي: وغيره: " يرقد عندها ويوليها ظهره، ويطؤها ولا يكلمها ".
روي عن ابن عباس أنه قال: يهجرها في المضجع من غير أن يذكر نكاحاً، وذلك عليها شديد.
(وقيل: المعنى [اهجروهن في الكلام حتى يرجعن إلى مضاجعتكم كأنه قال]: اهجروهن من أجل المضاجع.
وقال ابن عباس الهجران إنما هو في أمر المضجع، وأنها لو تركت لم تضاجع، وقال ابن جبير اهجروهن يأتين مضاجعكم).
وقال عكرمة وغيره: إنما الهجران بالمنطق، ويلزم من قال هذا أن يقطع الألف لأنه إنما يقال في هذا المعنى الإهجار، يقال: أهجر فلان في منطقه إذا تكلم بالقبيح. وروى أبو هريرة رضي الله عنهـ أن النبي ﷺ قال: " إذا باتت المرأة مهاجرة لزوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع ".
واختار الطبري في الآية أن يكون المعنى: واضربوهن من أجل المضاجع.
﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ﴾ إلى ما يجب عليهن ﴿فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾ أي: فلا تلتمسوا عليهن طريقاً في الظلم، وهو التعالي عليهن ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً﴾ المعنى لا تبغوا عليهن العلل فتٌعلوا أيديكم عليهن، فإن الله ذو علم فوقكم وفوق كل شيء، فأيديكم وإن كانت عالية، فليس من أجلها علوا تبغوا عليهن، وتطلبوا العلل فإن الله أعلى يداً وأكبر من كل شيء. وقيل: المعنى: لا تبغوا عليهن سبيلاً لا تكلفوهن الحب لكم إنما لكم عليهن المساعدة في الجماع أما القلب فليس بيدها منه شيء.
قوله ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾ الآية.
خفتم عند أبي عبيدة بمعنى أيقنتم، ورد ذلك الزجاج وقال: لو أيقنا لم نحتج إلى الحكمين، وخفتم على بابه. والمعنى: وإن خفتم أيها الناس مشاقة أحد الزوجين لصاحبه، وهو إتيان كل واحد منهما ما يشق على الآخر فالمرأة تقصر عن أداء حقه،
وقال السدي: " المرأة تبعث حكماً من أهلها، والرجل نفسه يبعث حكماً من أهله بتوكيل كل واحد منهما، لكنها بالنظر لهما، فيعملان ما وكل به، وروي ذلك عن علي رضي الله عنهـ.
وروي عنه أنه قال لحكمين وَجَّه بهما: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما.
وقال ابن عباس: (بعثت أنا ومعاوية حكمين، فقيل لنا: إن رأيتما أن تجمعا
قال مالك: أحسن ما سمعت من أهل العلم أن الحكمين يجوز قولهما بين الرجل والمرأة في الفرقة والاجتماع.
وقال قتادة: يبعث السلطان الحكمين ليعرفا الظالم من المظلوم، فيحملاهما على الواجب فلا يفرقان بينهما.
وقال الشافعي: لا يفرقان إلا بأمر الزوج.
وقال جماعة: حكم الحكمين ماذ في التفرقة وغيره، وإنما يأتي الحكمان فيخلو حَكَم الرجل به ويسأله عما يشتكي. ويخلو حَكَم المرأة بها، ويسألها عما تشتكي؟ ثم يجتمعان، فيجتهدان، فإن رأيا التفريق فرقا، وإن رأيا الترك تركا، وأصلحا.
وقيل: إنهما ينظران الظالم منهما، فإن كانت المرأة وعظها، وجبرها على طاعة زوجها، وإن كان الرجل وعظاه وجبراه أن يتقي الله تعالى فيها، فيمسك بمعروف أو يسرح بإحسان، والحكم هنا الناظر بالعدل، قاله الضحاك وغيره.
وقوله: ﴿إِن يُرِيدَآ﴾ قيل: الضمير للحكمين إن يريدا أن يصلحا بين الرجل والمرأة ﴿يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ﴾ أي " بين الرجل والمرأة، قال ابن عباس وابن جبير ومجاهد.
وقيل الضمير للزوجين لأنه لا يقال حكم إلا لمن يريد الإصلاح فغير جائز أن يقال: إن يرد الحكمان إصلاحاً وهما لا يسميان بهذا الاسم إلا وهما يريدان الإصلاح ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً﴾ بما يريد الزوجان أو الحكمان من إصلاح خبيراً بذلك.
قوله تعالى: ﴿واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً﴾ الآية.
قوله: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾ أي: وأحسنوا بهم إحساناً كقولك ضرباً زيداً، بمعنى اضرب زيداً، وأجاز الفراء رفع إحساناً بالابتداء، والمخفوض الخبر كأنه قال: وعليكم بالوالدين إحسان. ومعنى الآية: أن الله تعالى أمر عباده بالتذلل له والطاعة ولا
وقيل: هو الذي تقرب منك بالإسلام والجوار، لا بالرحم.
﴿والجار الجنب﴾ هو الذي يبعد منك لا قرابة بينك وبينه، [قاله ابن عباس، وقال قتادة ومجاهد: هو جارك الذي ليس بينك وبينه] قرابة فله حق الجوار.
وقال السدي: هو الغريب يكون بين القوم، وقال: الجار الجنب: الزوجة، ذكره ابن وهب عن بعض رجاله.
وقيل: هو اليهودي والنصراني.
﴿الجنب﴾ البعد، ومنه اجتنب فلان فلاناً إذا بعد منه، ومنه قيل للجنب: جنب لبعده من الطهر، والصلاة حتى يغتسل، ومن قيل: رجل أجنبي أي بعيد غريب، فمعنى ذلك: والجار المجانب للقرابة أي: البعيد منها.
وقال القتبي: الجيران على أربعة أقسام أحدهم: من ساكنك في الدار ولهذا سمت العرب الزوجة جارة، وقال الأعشى لامرأته:
أي جارتنا بيني فإنك طالقة كذاك أمور الناس غاد وطارقة.
والثاني: الملاصق منزلك، والثالث: الذي معك في المحلة، وإن لم يلاصقك وعلى هؤلاء الثلاثة وقعت الوصية من الله تعالى والرابع: هو الذي جمعك وإياه بلد واحد يقول الله تعالى في المنافقين: ﴿ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الأحزاب: ٦٠] يعني المدينة.
وكان الأوزاعي يقول: الجوار أربعون دار من كل ناحية. وقيل من سمع الإقامة فهو جار.
قال علي رضي الله عنهـ: من سمع النداء فهو جار المسجد.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " الجيران ثلاثة: جار (له) عليك حق وهو
قوله: ﴿والصاحب بالجنب﴾ الآية.
قال ابن عباس وغيره: هو رفيق الرجل في سفره، وكذلك قال قتادة ومجاهد وعكرمة.
وعن ابن عباس: هو الرجل الصالح.
وكذلك روي عن علي رضي الله عنهـ، والحسن بن علي: أنه امرأة الرجل. وعن ابن عباس مثله، وهو قول النخعي وابن أبي ليلى. وقال ابن جريج وابن زيد: هو الذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك ورفقك.
﴿وابن السبيل﴾ المسافر يجتاز بك ماراً، قاله مجاهد وقال الضحاك: هو الضعيف. والسبيل: الطريق، وابنه صاحبه الماشي فيه فله حق على من يمر به إذا كان مستقره في غير معصية، وأضيف إلى الطريق لأنه إليها يأوي وفيها يبيت.
" والخال ثوب من........... "
والفخور المفتخر على عباد الله تعالى بما أنعم الله تعالى عليه من رزقه، وهو مع ذلك كفور لربه تعالى لا يشكره، فهو مستكبر على ربه سبحانه، مستطيل مفتخر على عباد الله جلت عظمته، وقال مجاهد المختال: المتكبر.
قوله: ﴿الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل﴾ الآية.
﴿الذين﴾ " بدل مِن " مَن وقيل: هم في موضع رفع بالابتداء، والخبر
﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: ٤٠] أي لا يظلم. وقال الأخفش: الذين في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف دل عليه ما بعده، وتقديره الذين يبخلون قرناء الشيطان ودل
والبخل لغتان، وفيه [لغتان] غير هاتين، ويقال: البُخُل والبَخْل، ومعنى الآية: إن الله لا يحب المختال الفخور الذي يبخل بماله ويأمر الناس بالبخل.
وقد روي أن البخل هنا: كتمان أمر محمد عليه السلام، وعنى به اليهود والنصارى وهم يجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل.
وقال ابن زيد: هم اليهود بخلوا بما آتاهم الله من الرزق، وكتموا ما آتاهم من العلم في أمر النبي ﷺ وغيره.
وقال ابن عباس: كان الرجل من أشراف يهود يأتون رجالاً من الأنصار، ويخالطوهم، ويستنصحون لهم، لا تنفقوا أموالكم فإنا نخاف عليكم الفقر في ذهابها، فأنزل الله تعالى ﴿ الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ أي: يكتمون نبوة محمد ﷺ وأمره وذلك كله في التوراة.
وروي أن فيها: خاتم النبيين، وسيد العاملين، وأمته الحمادون، ويشدون أوساطهم، ويفترسون جبالهم، تسيل دموعهم على خدودهم يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم.
قوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ﴾ أي للجاحدين نبوة محمد ﷺ ﴿ عَذَاباً مُّهِيناً﴾ أي مذلاً.
﴿والذين﴾ في موضع جر عطف على الكافرين، ويجوز أن يعطف على ﴿الذين يَبْخَلُونَ﴾ و ﴿رِئَآءَ الناس﴾ مفعول من أجله، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال:
﴿وَلاَ يُؤْمِنُونَ﴾ حال كأنه: مرائين غير مؤمنين.
ويجوز أن يكون مؤمنون مرفوعاً على القطع أي: وهم لا يؤمنون.
ومعنى الآية: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ﴾ ﴿والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله﴾ ﴿عَذَاباً مُّهِيناً﴾ هذا من صفة المنافقين.
وقيل: هو صفة اليهود أيضاً، وهو بصفة المنافقين أليق وأحسن، لأنهم لا يؤمنون بالبعث، واليهود يؤمنون بالبعث، وقد وصفهم الله تعالى أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر فهو إلى المنافقين أقرب.
قوله: ﴿وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً﴾ أي: خليلاً يعمل بطاعته، ويتبع أمره، ويترك أمر الله تعالى، فبئس الخليل خليله.
قوله: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ﴾ المعنى: أي الشيئين على الذين يبخلون إذا أنفقوا
قوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ الآية.
قوله: ﴿يضاعفها﴾ يدل على أضعاف كثيرة إذ لو أراد مرة لقال: يضاعفها، ومعنى الآية: إن الله تعالى لا يبخس واحداً فعل خيراً مثقال ذرة أي: قدر وزن الذرة فما فوق ذلك، والذرة في قول ابن عباس: رأس النملة الحمراء.
وقال النبي ﷺ: " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيعظم بها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة لم تكن له حسنة " وقال ﷺ: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان "، وقال الخدري: حين حدث بهذا الحديث عن النبي عليه السلام فإن شككتم (فَاقْرَءُوا) ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾.
والذرة هنا عند أهل العلم النملة الصغيرة وقال يزيد بن هارون: زعموا أنه لا وزن لها.
وقال ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد من عند الله تعالى: ألا من كان يطلب مظلمة فليجيء إلى حقه فيأخذه " قال فيفرح والله المرء أن له الحق على ولده وولده أو زوجته وأخته فيأخذه منه، وإن كان صغيراً، ومصداق ذلك في كتاب الله ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١].
فيقال له: إيت هؤلاء حقوقاً؟ فيقول: يا رب من أين يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله تعالى لملائكته: انظروا [في] أعمله الصالحة فأعطوهم منها، فإن بقي مثقال ذرة من حسنة، قالت الملائكة: يا ربنا - وهو أعلم بذلك منها - أعطينا كل ذي حق حقه، وبقي له مثقال ذرة من حسنة، فيقول الله تعالى لملائكته: ضعفوها لعبدي وأدخلوه برحمتي الجنة " ومصداق ذلك في كتابه {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ
قوله: ﴿وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها﴾ هذا لأهل الإيمان كلهم، وروي عن ابن عمر: أنها في المهاجرين خاصة، قال: " نزلت الآية في الأعراب ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠] قال: فقال رجل: ما للمهاجرين؟ فقال النبي ﷺ: ما هو أعظم من ذلك وقرأ
﴿وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً﴾ الآية ".
واختار الطبري أن تكون المضاعفة أكثر من عشرة للمهاجرين خاصة، وقال: هو في معنى حديث أبي هريرة، تضاعف بألفي ضعف أي للمهاجرين، واحتج بأن الله تعالى قد اخبرنا أن الله يجزي بالحسنة عشر أمثالها، فلا يجوز أن يكون في خبره اختلاف، ولكن ذلك للمهاجرين وهذا لغيرهم.
قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ الآية.
العامل في " كيف " " جئنا "
المعنى: فكيف يكون حالهم إذا جئنا من كل أمة بشهيد يشهد على أعمالهم، وجئنا بك يا محمد على أمتك شهيداً، وكان النبي عليه السلام إذا أتى على هذه الآية فاضت
قال السدي يأتي النبي يوم القيامة منهم من أسلم معه من قومه واحد والاثنان، والعشرة، وأقل وأكثر من ذلك حتى ياتي لوط صلوات الله عليه وسلم لم يؤمن معه إلا بنتاه فيقال للنبيين: هل بلغتم ما أرسلتم به؟ فيقولون: نعم فيقال له: من يشهد لكم؟ فيقولون: أمة محمد عليه السلام. فتدعى أمة محمد عليه السلام فيقال لهم: إن الرسل ادعوا عندكم شهادة فبم تشهدون؟ فيقولون: يا ربنا نشهد أنهم قد بلغوا كما شهدوا في الدنيا في التبليغ، فيقال: من يشهد على ذلك؟ فيقولون: محمد ﷺ، فيشهد محمد ﷺ أن أمته قد صدقت، وأن الرسل قد بلغوا فذلك قوله ﴿لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾.
ومن رواية يونس عن ابن وهب عن إبراهيم عن حيان بن أبي جيلة بسنده إلى النبي عليه السلام أنه قال: " إذا جمع الله عباده يوم القيامة كان أول من يدعى إسرافيل فيقول الله تعالى: ماذا فعلت في... هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم، أي رب، قد بلغت جبريل، فيدعى جبريل فيقول له: هل بلغك إسرافيل عهدي؟ فيقول: نعم يا رب، قد بلغني، فيخلى عن إسرافيل، فيقال لجبريل: هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم قد بلغته الرسل، فيدعى الرسل فيقول: هل بلغكم جبريل عهدي؟ فيقولون: نعم، فيخلى عن جبريل ثم، يقال للرسل: ما فعلتم بعهدي؟ فيقولون: بلغنا أممنا، فيدعى الأمم، فيقال لهم: هل بلغكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذب، ومنهم المصدق، فيقول الرسل: إن
وقد مضى في هذه الآية ما فيه كفاية وهذه زيادة إن لم يتقدم لفظها وإن كان قد تقدم معناها.
وفي رواية أخرى عن الأوزاعي قال النبي ﷺ: " أول من يسأل يوم القيامة عن البلاغ: اللوح المحفوظ. يقال: هل بلغت إسرافيل ما أمرت به؟ فيقول: نعم، قيل لإسرافيل: هل بلغك اللوح المحفوظ ما أمر به؟ فيقول: نعم، فما أرى شيئاً أشد فرحاً يوم القيامة من اللوح المحفوظ حين صدقه إسرافيل، ثم كذلك إسرافيل وجبريل والأنبياء ".
قال الضحاك هو قول الله تعالى ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾ [الحج: ٧٦].
قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ﴾ الآية.
يوم يجيء من كل أمة شهيد يتمنى الكافرون ﴿لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض﴾ أي: يصيرون تراباً مثلها كما قال: ﴿وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً﴾ [النبأ: ٤٠]. ومن قرأ " تُسوى " (بالضم)، فالمعنى يتمنون لو سواهم الله والأرض سواء، ومن قرأ " تَسوى " بالفتح والتخفيف، فهو مثل المشددة، إلا أنه حذف إحدى التاءين.
وقيل المعنى: لو انقسمت بهم الأرض فيصاروا في بطنها. وقال الحسن في فراءة الضم: إن المعنى " لو تسوى " بالتخفيف عليهم، والباء بمعنى على، فالمعنى
قوله: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ أي: لا تكتم جوارحهم حديثاً من الله.
قال ابن عباس: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام جحدوا فقالوا: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] فختم الله على أفواههم وتكلمت (أيديهم)، وأرجلهم فلا يكتمون الله حديثاً، وعنه هذا التفسير باختلاف ألفاظ.
وسبب تفسيره لهذا الهذا القول من له يقول الله عن الكافرين أنهم قالوا: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] وقد كتموا ويخبر أنهم لا يكتمون الله حديثاً ففسره بما ذكرنا، وقوله ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ على قول غير ابن عباس أنهم يودون لو استووا بهم الأرض، ولا يكتمون الله حديثاً لما عاينوا جوارحهم تشهد عليهم.
وقيل: المعنى يومئذ لا يكتمون الله حديثاً، ويودون لو تسوى بهم الأرض، وهو
وقيل: المعنى يتمنون لأو استووا مع الأرض، وليس يكتمون الله حديثاً أي هو عالم بهم وبما أسروا مما يودون ويتمنون بهم، وإن لم ينطقوا به، فليس ذلك بكتمان على الله [تعالى - كأن الكلام قد تم على قوله - لو تسوى بهم الأرض، ثم قال: وليس يخفى على الله] من حديثهم شيء وهذا جواب ثالث عن الآيتين.
وقيل: المعنى أنهم يتمنون إذ عصوا الرسول أن يسووا مع الأرض ويودون لا يكتمون الله حديثاً.
وكتمانهم الذي ندموا عليه هو قولهم ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ وهو جواب ثالث
وقال قتادة: هي مواطن في يوم القيامة، فمواطن يجحدون، ومواطن يقرون.
وجاء رجل إلى ابن عباس فقال له: رأيت أشياء تختلف علي في القرآن، فقال: ما هو؟ أشك في القرآن؟ فقال: ليس بشك، ولكنه اختلاف، فقال: هات ما اختلف عليك من ذلك، فقال: أسمع الله تعالى يقول:
﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] وقال ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ فقد كذبوا إذا ادعوا الإسلام.
فقال ابن عباس: وماذا؟ قال أسمعه يقول:
﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١] وقال: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [الصافات: ٥٠]
وقال: ﴿أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً﴾ [فصلت: ٩].
إلى قوله: ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصلت: ١١] الآية.
وقال في آية أخرى: ﴿أَمِ السمآء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا * [وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا]﴾ [النازعات: ٢٧ - ٢٩]
﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: ٣٠]. وأسمعه يقول: ﴿[وَكَانَ] الله عَلِيماً حَكِيماً﴾ الآية [النساء: ١٧].
وأما قوله: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات، ومن في الأرض إلا من شاء الله ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾.
﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ [الزمر: ٦٨] ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [الصافات: ٥٠].
وأما قوله ﴿أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ...﴾ الآية فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخاناً فسواهن سبع سموات في يومين بعد خلق الأرض. وأما قوله: ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ فإنه تعالى دحاها بعد خلق السموات، وجعل فيها جبالاً وأنهاراً وبحوراً.
وأما قوله: ﴿وَكَانَ الله﴾ فإن الله لم يزل كذلك عزيراً حكيماً قديراً لم يزل كذلك وما اختلف عليك من القرآن فهو شبه ما ذكرت لك.
وقال مجاهد: ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أي: مع ذلك.
﴿جُنُباً﴾ و ﴿عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ نصب على الحال.
ومعنى ﴿سكارى﴾ أي: من الخمر، وهذا قبل تحريم الخمر فأمرهم الله ألا يقربوها، وهو سكارى حتى يعلموا ما يقولون.
وقيل: إن ناساً من أصحاب النبي ﷺ شربوا الخمر قبل تحريمها، فصلى بهم أحدهم فقرأ: ﴿قُلْ يا أيها الكافرون﴾ فخلط فيها، فنزلت الآية، ينهاهم عن قرب الصلاة في حال السكر حتى يعلموا ما يقرأون ثم نسخ شربها بالتي في المائدة.
وروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: " فِيَّ أنزلت الآية " ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى﴾ قال: دعانا رجل من أصحاب النبي ﷺ طلحة وغيره فأكلنا وشربنا. فقدموني إلى الصلاة فقرأت فيها: (قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، وأنا عابد ما تعبدون) فكان هذا قبل تحريم الخمر. وقيل هي محكمة.
ومعنى السكر هنا: " السكر من النوم "، قاله الضحاك.
قوله: ﴿وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ أي: لا تقربوها جنباً إلا أن تمروا [ب] موضعها مجتازين حتى تغتسلوا.
وقيل المعنى: في ﴿إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ أي: إلا أن تكونوا مسافرين فتتيمموا لها. وقال علي بن أبي طالب وقاله مجاهد وابن جبير قال: هو الرجل يكون في السفر تصيبه جنابة فيتيمم ويصلي. وعليه جماعة من أهل التفكير فيكون المعنى لا تصلوا وأنتم جنب إلا تكونوا مسافرين غير واجدين للماء، وقيل: معنى لا تقربوا مواضع الصلاة جنباً إلا عابري سبيل أي: أن تكونوا مجتازين في المسجد.
[قال ابن عباس ﴿إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ﴾. قال لا تقربوا المسجد إلا أن يكون
وقال ابن زيد: نزلت في رجل من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، وكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، يريدون الماء فلا يجدون ممراً، إلا المسجد، فأنزل الله تعالى ﴿ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ رخصة لهم.
وذهب مالك والشافعي أن الجنب يمر في المسجد عابر سبيل.
قال مالك: لا تدخل الحائض المسجد، وأرخص له غيره أن تمر فيه كالجنب.
وقال ابن حنبل: إذا توضأ الجنب فلا بأس أن يجلس في المسجد.
وكذلك قال إسحاق.
والجنب هنا من أنزل في قول جماعة من العلماء دون أن يجامع ولا ينزل، روي عن النبي ﷺ أنه قال:
" الماء من الماء " فلا غسل عليه إلا بإنزال الماء عند جماعة من الصحابة هو قوله
قال غيرهم: والجنب في الآية من أنزل، أو التقى منه الختانان، وإن ينزل لأن في كلاهما الطهر عندهم، فمن أولج، ولم ينزل بمنزلة من أنزل في الحكم فكلاهما لا يقرب المسجد إلا عابري سبيل.
وإيجاب الطهر من التقاء الختانين، وإن لم ينزل قوله عامة الفقهاء، وهو قول عمر، وعثمان، وابن عمر، وأبي هريرة، وعائشة، وغيرهم وهو مذهب مالك والشافعي والثوري وأهل العراق، وجماعة من الفقهاء، وقد تراترت الأخبار بإيجاب الغسل من التقاء الختانين عن النبي ﷺ.
قال مالك: المرض هنا هو المريض الذي به جراحه رخص له في التيمم.
وقيل: المريض هنا هو الذي لا يجد من يأتيه بالماء.
﴿أَوْ على سَفَرٍ﴾ أي: مسافرين غير واجدين الماء وأنتم جنب فتيمموا.
قوله: ﴿أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط﴾ أي: من قضى حاجته فلم يجد ماء فليتيمم، والغائط: ما اتسع من الأرض، وقيل: هو الموضع المنخفض المستور وكثر ذلك حتى قيل لمن قضى حاجته متغوط. قال أبو عبيدة: " أصل الغائط المكان المطمئن من الأرض ".
قةله: ﴿أَوْ لامستم النسآء﴾ اللمس هنا الجماع، وقيل: هو ما دون الجماع، أرخص الله لهم أن يتيمموا إذا لم يجدوا ماء، والمقيم والمسافر في جواز التيمم له عند عدم الماء سواء، وعلى من عدم الماء التيمم لكل صلاة لأنه يطلب الماء لكل صلاة وعند عدمه يتيمم. ومعنى لمستم أو لامستم واحد.
وقال المبرد: " لمستم الأولى أن يكون بمعنى قَبَّلْتُم، لأن لكل واحد منهما فعلاً، ولمستم بمعنى غشيتم، ومسستم أن المرأة ليس لها في هذا الفعل شيء فلمستم بمعنى غشيتم. وقال أبو عمرو: " لامستم بمعنى: الجماع ". ومذهب الكسائي: أن اللمس بمعنى الغمز والإفضاء ببعض الجسد إليها.
والصعيد: الأرض الملساء التي لا نبت فيها قاله قتادة. وقيل: هو الأرض المستوية، قاله ابن زيد. وقيل: الصعيد التراب، وقيل: وجه الأرض.
والصعيد في اللغة وجه الأرض، والطيب هنا النظيف الطاهر، وقال
قوله: ﴿بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ أي منه، ومسح الأيدي في التيمم هو إلى حد الوضوء إلى المرفقين، وهو قول ابن عمر والحسن والشعبي وسالم بن عبد الله، وهو قول مالك والليث والثوري والشافعي وعبد العزيز بن أبي سلمة وأصحاب الرأي.
وقيل: التيمم إلى الكفين إلى الزندين، وهو موضع قطع السارق، وهو مذهب عكرمة، والأوزاعي وابن جبير ومكحول وعطاء، وروي ذلك عن ابن المسيب والنخعي وغيرهم.
وقيل التيمم إلى الآباط، وهو قول الزهري.
قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾ الآية.
﴿أَلَمْ تَرَ﴾: ألم تعلم، وقيل: ألم تخبر يا محمد. وقيل: ألم تر بقلبك، يا محمد إلى الذين أُعطوا حظاً من كتاب الله، والنصيب الحظ - وهو اليهود.
﴿وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل﴾ أي تعدوا عن الحق والطريق المستقيم ﴿يَشْتَرُونَ الضلالة﴾ أي: يختارون الضلالة على الهدى ﴿والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ أي: أعلم منكم بأمرهم وبما يسرون من آرائهم، ﴿وكفى بالله وَلِيّاً﴾ أي: [به] فاكتفوا، وله فانتصروا على أعدائكم.
قوله: ﴿مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ الآية.
المعنى أن " من " متعلقة بـ ﴿الذين أُوتُواْ نَصِيباً﴾ أي هم من الذين هادوا. وقيل: المعنى من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم. وقيل: المعنى من الذين هادوا من يحرفون
وقيل: " من " متعلقة بنصير، أي: وكفى بالله نصيراً من هؤلاء القوم، أي: ينتصر منهم في الآخرة، فاكتفوا بنصرته منهم أيها المؤمنون.
واختار قوم أن يكون المحذوف من كما قال: ﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الصافات: ١٦٤] أي: من له، كما يقول له: منا يقول ذلك ومنا لا يقوله، أي: من يقوله ومن لا يقوله ومذهب سيبويه تقدير قوم كما ذكرنا أولاً.
واختار أهل التفسير أن يكون " من " متعلقة بالذين أوتوا نصيباً من الكتاب ".
ومعنى ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم﴾ أي: يتأولونها على غير وجهها، ويعدلونها عن ظاهرها، والكلم هنا كلام النبي عليه السلام، وقال مجاهد: الكلم كلم التوراة يبدلونها، وهو جمع كلمة.
﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾: يقولون لمحمد ﷺ: سمعنا قولك، وعصينا أمرك،
وقيل معنى ﴿واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ أي: اسمع غير مقبول منك، ويلزم قائل هذا أن يقول غير مسموع منك. ومعنى ﴿لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ أي: تحريفاً إلى السب والاستخفاف.
وقيل: كانوا يريدون بقولهم ﴿راعنا﴾ أي: راعينا مواشينا، ويوهمون أنهم يريدون راعنا، أي: انتظرنا وارفق بنا، وإنما يريدون الرعي رعي المواشي عن طريق الهزء والاستخفاف والمغالطة.
قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ أي: سمعنا قولك وأطعنا أمرك ﴿واسمع﴾ أي: اسمع منا ﴿وانظرنا﴾ أي: انتظرنا نفهم عنك ما تقول لكان ذلك [﴿خَيْراً لَّهُمْ] وَأَقْوَمَ﴾ أي وأعدل.
قوله: ﴿يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا﴾ الآية.
هذا خطاب لليهود الذين كانوا حوالي رسول الله ﷺ أمرهم الله تعالى أن يؤمنوا بالقرآن الذي هو مصدق للتوراة ومحقق لها.
وروي أن عبد الله بن سلام كان بالشام، فأقبل حتى أتى النبي عليه السلام قبل أن يدخل هلى أهله فأسلم - وقال: لقد خفت، وأنا مقبل ألا أصل إليك حتى يصير وجهي خلفي. وقيل: معنى ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ﴾ أي: آمنوا من قبل أن تمحق صورة الوجوه حتى تصير كالأفقية تذهب بالأنف والعين والحاجب وغير ذلك من أدوات الوجه ويصير كالقفا.
وقيل المعنى: ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ﴾ أبصار الوجوه فتصير لا تنظر شيئاً كالقفا.
ومعنى ﴿فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ﴾ يرجع الوجه في موضع القفى، فيصير يمشي القهقري، قال قتادة: ﴿فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ﴾ تحول وجوهها قبل ظهورها.
وقال مجاهد والحسن: المعنى من قبل أن نعمي قوماً عن الحق فنردهم على أدبارهم في الصلاة والكفر.
وقيل: المعنى: ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً﴾ أي: نمحو آثارها، فنردها على أدبارها
وقال مالك: كان أول إسلام كعب أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ ﴿يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً﴾ الآية فوضع كعب يده على وجهه ورجع القهقري إلى بيته، فأسلم مكانه وقال: والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي.
قوله: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أصحاب السبت﴾ معناه أن نخزيهم، فنجعلهم قردة كما أخزينا أصحاب السبت الذين اعتدوا فيه.
قاله قتادة والحسن والسدي وابن زيد، وهذا من الرجوع إلى الغيبة بعد المخاطبة مثل ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ﴾ [يونس: ٢٢].
قوله: ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً﴾ أي: كائناً موجوداً، والأمر في هذا الموضع: المأمور، وسمّي بالأمر عن الأمر كان (فمعناه): ولم يزل مأمور الله موجوداً كائناً إذا أراده وجده لا إله إلا هو، فهو مصدر وقع موقع المفعول كما قال ﴿هذا خَلْقُ الله﴾ [لقمان: ١١] أي: مخلوقه.
قوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية.
قال ابن عمر: كنا معشر أصحاب رسول الله ﷺ لا نشك في قاتل المؤمن، وأكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، يعني في الشهادة له بالنار حتى نزلت: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ فأمسكنا عن الشهادة.
وروي عن ابن عمر أنه قال: لما نزلت ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ [الزمر: ٥٣] إلى قوله
﴿إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾ [الزمر: ٥٠] قام رجل إلى النبي ﷺ فقال: والشرك يا رسول الله. فنزلت ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ فكان قوله
وقيل: المعنى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء بعد التوبة ولا يحسن هذا لأنه يجب منه أن يكون من تاب، ومات على توبته موقوفاً على المشيئة إن شاء غفر له وإن شاء لم يغفر له، وهذا قول لم يقله أحد، ولا يجوز اعتقاده بل الميت على توبته مغفور له بإجماع.
قوله: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله﴾: أي: يشرك في عبادته غيره ﴿فَقَدِ افترى﴾ أي: اختلق: ﴿إِثْماً عَظِيماً﴾.
روى جابر بن عبد الله أنه قال: " سئل النبي ﷺ عن الموجبتين، فقال: " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله دخل النار " ".
قوله ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ الآية.
معناه ألم تر بقلبك يا محمد، إلى اليهود الذين يطهرون أنفسهم من الذنوب ويمتدحونها، وهو قولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] فلا ذنوب لنا، قاله قتادة.
وقال الحسن وابن زيد: هم اليهود والنصارى قالوا:
﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١١١] وقالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾.
وقال مجاهد: تزكيتهم تقديم أولادهم لإمامتهم ولدعائهم يزعمون أنهم لا ذنوب لهم.
وقال عكرمة: كانوا يقدمون الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم يصلون بهم، يقولون: ليست لهم ذنوب.
وقال ابن عباس كانوا يقولون: إن أبنائنا إن توفوا فهم لنا قربة عند الله يستشفعون لنا ويزكوننا.
وقال: ابن مسعود: " كانوا يقولون: كان بعضهم يزكي بعضاً، فقال الله تعالى: ﴿يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: يزكي بعضهم بعضاً، كما قال ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٤] أي: يقتل بعضكم بعضاً.
قوله: ﴿بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ﴾. أي: يوفق من يشاء للطاعة، والعمل بما يزكيه
قوله: ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ أي: ليس ينقصون من حقوقهم مقدار الفتيل، وروي عن ابن عباس انه قال: الفتيل ما خرج بين أصابعك من الوسخ إذا فتلتهما.
وقيل: ما خرج بين الكفين إذا فتلتهما. وعن ابن عباس أيضاً: الفتيل الذي في بطن النواة، يعني في شق النواة كالخيط، ومثله عن مجاهد، وهو فعيل بمعنى: مفعول: وقيل: الفتيل ما في (بطن) النواة.
والنقير: (النقرة) التي في ظهرها منها تنبت [النخلة]. والقطمير: القشرة الملفوفة عليها.
قال الأخفش: يزكون أنفسهم تمام، وخولف في هذا لأن ما بعده متصل به.
قوله: ﴿انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ الآية.
معناها: انظر يا محمد، كيف يختلقون الكذب على الله في تزكيته لأنفسهم
قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾ الآية.
معناها: ألم تر يا محمد بقلبك إلى الذين أعطوا حظاً من الكتاب يعني: علماء بني إسرائيل أعطوا في كتابهم أمر النبي ﷺ وصفته فكتموه.
قال عكرمة: الجبت والطاغوت صنمان كان المشركون يعبدونهما. وقال ابن عباس: الأصنام هي الجبت والطاغوت الذين يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس.
وروي عن عمر رضي الله عنهـ وأرضاه أنه قال: الجبت الساحر والطاغوت الشيطان.
وقال ابن جبير: الجبت بلسان الجبشة الساحر، والطاغوت الكاهن، وكذبلك قال أبو العالية. وقال قتادة: الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن، وكذلك قال السدي. وعن ابن جبير أيضاً: الجبت الكاهن والطاغوت الشيطان.
والجبت والطاغوت عند أهل اللغة كل ما عبد من دون الله [ تعالى، وروي عن ابن وهب عن مالك أنه قال: الطاغوت ما عبد من دون الله] سبحانه، قال الله تعالى: ﴿ اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا﴾ [الزمر: ١٧]، قال: فقلت لمالك: وما الجبت قال: سمعت من يقول: هو الشيطان.
قال قطرب: الجبت أصله عند العرب الجبس، وهو الثقيل الذي لا خير فيه ولا عنده، فأبدلت التاء عن السين، وهي لغة رديئة لا يجب أن يحمل القرآن عليها.
وعن عمر: أن الجبت السحر، والطاغوت الشيطان.
وقوله: ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هؤلاء أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً﴾ أي: يقول اليهود لبعض الكفار، هؤلاء أصحابكم أهدى من المؤمنين بالله ورسوله طريقاً، يغبطونهم بتكذيب محمد ﷺ وما جاء به، وذكر أن ذلك من قول كعب بن الأشرف.
وقال ابن عباس: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش: أنت خير أهل
قال عكرمة: انطلق كعب بن الأشرف إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي ﷺ وأمرهم أن يغزوه، وقال: أنا معكم نقاتله فقالوا: أنتم أهل كتاب، وهو صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكر منكم، فإن أردت أن نخرج معك، فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما، ففعل، وقال: أنتم خير من محمد، فأنزل الله تعالى ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب﴾ الآية.
فالجبت والطاغوت على هذا الخبر هما الصنمان. وقال ابن زيد: فاعل ذلك حيي بن أخطب. وقيل: هو كعب، وحيي ورجلان من اليهود من بني النضير لقوا قريشاً بالموسم، فقال لهم المشركون: أنحن أهدى أم محمد وأصحابه؟ إن أهل
قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك﴾ الآية.
أم هاهنا بمعنى: بل أي: بل لهم نصيب. وقيل: أم عاطفة على شيء محذوف قبلها تقديره: أهم أولى بالنبوة ممن أرسلت أم لهم نصيب؟. والمعنى: ليس لهم حظ من الملك، ولو كان لهم لم يعطوا الناس منه نقيراً لبخلهم. وقيل: الناس هنا: محمد ﷺ. والنقير النقطة في ظهر النواة وقيل: النقير هنا نَقْر الإنسان بأطراف أصابعه، والفائدة فيها: وصفهم بالبخل وأنهم لو كانوا ملوكاً لبخلوا بالشيء الحقير اليسير.
قوله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ الناس﴾ الآية.
المعنى: أن اليهود حسدوا قريشاً إذ كان النبي ﷺ منهم، فوبخهم الله تعالى وقال: ﴿فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إبراهيم الكتاب والحكمة﴾ فيجب أن يحسدوهم أيضاً، ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً﴾ وهو ما أعطى سليمان ﷺ فكيف لم يحسدوا هؤلاء.
وقال ابن عباس: عنى بالناس: محمد ﷺ ومن آمن به. وعنه أنه قال: نحن
قال همام: ﴿مُّلْكاً عَظِيماً﴾ أيدوا بالملائكة والجنود.
قال أبو عبيدة: معنى ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ﴾: (أيحسدون).
وقيل الناس هنا: العرب، حسدهم اليهود إذ كان محمد ﷺ منهم فهو الفضل. وقيل: الملك العظيم النبوة. وقيل: هو تحليل النساء لهم. وقيل: هو ما
واختار الطبري أن يكون ﴿مُّلْكاً عَظِيماً﴾ هو ما أوتي سليمان ﷺ من الملك وتحليل النساء.
قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ﴾ الآية.
المعنى: فمن أهل الكتاب الذين قيل لهم آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم: من آمن بالله تعالى. وقيل: بمحمد ﷺ. وقيل: بالقرآن وهو أبينها لقوله: ﴿آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً﴾ ثم قال ﴿فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ﴾ أي: بما نزلنا، وهو القرآن، ﴿وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ﴾ أي: لم يؤمن به.
وقيل: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ﴾ أي: عن محمد ﷺ ( أي): أعرض عنه، وقيل: ﴿مَّنْ آمَنَ بِهِ﴾: القرآن. قاله مجاهد، وقيل: " به " بهذا الخبر. وذكر السدي في قصة طويلة أن إبراهيم صلوات الله عليه، كان عنده طعام كثير بورك له فيه كسبه من زرع زرعه من قمح كونه من عند الله تعالى، فكان الناس يأتونه في مجاعة يطلبون
وفي هذه الآية دليل علي أن من لم يؤمن قد أخرت عقوبته التي توعد بها في قوله: ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ﴾ إلى يوم القيامة لإيمان من آمن منهم وهو قوله: ﴿وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً﴾ وإنما كان الوعيد لهم من الله جلت عظمته بالعقوبة على مقام جميعهم على الكفر، فلما آمن بعضهم خرجوا عن الوعيد الذي توعدوا به في دار الدنيا، وهو الطمس وأخرت عقوبة المقيمين على الكفر.
وسعير: فعيل، مصروف عن مفعوله كما قال: كف خضيب، ولحية دهين، والمسعورة: الموقودة بشدة التوقد، والمعنى وكفى بجهنم سعيراً لمن صد عنه، أي: أعرض عن محمد ﷺ، وما جاء به.
قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بآياتنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً﴾ الآية.
هذا وعيد من الله تعالى لمن أقام على الكفر وأعرض عن النبي ﷺ وما جاء به ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً﴾ أي نلقيهم في النار.
قوله: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ﴾ أي احترقت واشتوت.
قال ابن عمر: إذا احترقت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها بيضاء مثل القراطيس.
قال الحسن: تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة، كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فيكونون كما كانوا. قال الربيع: سمعنا أنه مكتوب في الكتاب الأول أن جلد أحدهم أربعون ذراعاً، ومنه تسعون ذراعاً، وبطنه لو وضع فيه جبل وسعه، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلوداً غيرها. قال الحسن: تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة. قال: وغلظ جلد الكفار أربعون ذراعاً، والله أعلم بأي ذراع.
وإنما جاز أن يبدلوا جلوداً غير جلودهم التي كانت في الدنيا فيعذبون منها
وقيل: المعنى: بدلناهم جلوداً غير محرقة، أي يصير الجلد (غير) محرق، وهو كما تقول: صغ لي خاتماً من هذه الفضة، فإذا تم الخاتم فهو الفضة بعينها.
وقيل: المعنى: كلما نضجت سرابيلهم بدلوا سرابيل من قطران غيرها، فجعلت السرابيل لهم جلوداً لملازمتهم لها كما يقال: الشيء الخاص بالإنسان هو الجلدة ما بين عينيه لملازمته لها. وقد أخبر الله بلباسه السرابيل من قطران فقال
﴿سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ﴾ [إبراهيم: ٥٠] فأما جلودهم فليس تحرق لأن في احتراقها فناءها، وفي فنائها راحتها وجواز فناء غيرها من أجسامهم ولحومهم. وقد أخبر الله تعالى أنهم لا يخفف عنهم ولا يموتون.
قوله: ﴿لِيَذُوقُواْ العذاب﴾ أي: فعلنا ذلك ليذوقوا العذاب أي: ألمه وشدته ﴿إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً﴾ أي: لم يزل عزيزاً في انتقامه لا يقدر على الامتناع منه أحد ﴿حَكِيماً﴾ في تدبيره وقضائه.
قوله: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾ الآية.
المعنى الذين آمنوا بمحمد ﷺ وبما جاء به وأدوا العمل الصالح فندخلهم يوم القيامة بساتين تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً أي: بغير نهاية ولا انقطاع ﴿لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ أي بريئا من الأدناس والريب والحيض والغائط والبول والمخاط، وغير ذلك من أقذار بني آدم ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً﴾ (أي): كثيفاً كما قال ﴿وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ﴾ [الواقعة: ٣٢].
وقال أبو هريرة عن النبي ﷺ: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ".
وقيل: معنى ﴿ظِلاًّ ظَلِيلاً﴾ أي: يظل من الحر والبرد وليس كذلك كل ظل
قوله: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا﴾ الآية.
قال زيد بن أسلم: نزلت الآية في ولاة أمور المسلمين.
قال مكحول في وقوله: ﴿وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ﴾: هم أهل الآية التي قبلها في قوله: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا﴾.
وقال ابن زيد: قال أبي: هم الولاة أمرهم الله تعالى أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها.
وقال ابن جريج: خوطب بهذا النبي عليه السلام أن يرد مفاتيح الكعبة على عثمان بن طلحة كان المفتاح لآبائه من قصي، وكان أبوه قتل يوم بدر فورثه من أبيه
وروي أن النبي ﷺ قال: " يا عثمان خذ المفاتيح على أن للعباد معك نصيباً، فأبى أن يأخذه حتى نزلت الآية، فدفعه النبي ﷺ ولم يشرك معه أحداً، فهو اليوم في ذريته الأمثال فالأمثال.
وكان النبي ﷺ قد أخذها منه يوم فتح مكة، ففتح البيت ودخله، ثم خرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفاتيح ".
وقيل: نزلت لما أخذ النبي ﷺ مفاتيح الكعبة من شيبة بن عثمان.
وروى أهل التفسير أن العباس عم النبي عليه السلام سأل النبي عليه السلام أن يجمع له السقاية والسدانة، وهي الحجابة، وهو أن يجعل له مع السقاية فتح البيت وإغلاقه، فنازعه شيبة بن عثمان فقال: " يا رسول الله: اردد علي ما أخذت مني "، يعني مفاتيح الكعبة فرده ﷺ على شيبة.
وقال الحسن: " لما فتح رسول الله ﷺ مكة دعا عثمان بن طلحة فقال: " أرنا المفتاح "، فلما أتاه به قال عباس: " يا رسول الله اجمعه لي مع السقاية، فكف عثمان يده مخافة أن يدفعه إلى العباس، فقال رسول الله ﷺ: يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم
فقال: هاك في أمانة الله تعالى، فأخذه رسول الله ﷺ، ففتح باب الكعبة، ثم دخل، فأفسدها ما كان في البيت من التماثيل، وأخرج مقام إبراهيم ﷺ فوضعه حيث وصعه، ثم طاف بالبيت مرة أو مرتين، ونزل جبرئيل عليه السلام بالآية يأمره أن يرد المفتاح إلى أهله، فدعا عثمان فقال: هاك المفتاح إن الله يقول: " أدوا الأمانات إلى أهلها وقرأ الآية كلها ".
وقال ابن عباس: الآية على العموم في كل من ائتمن على شيء فعليه رده إلى أهله.
واختار أهل النظر أن يكون خطاباً لولاة أمور المسلمين أن يؤدوا الأمانة.
يما ائتمنوا عليه من أمور المسلمين في أحكامهم والقضاء في حقوقهم بكتاب الله، والقسم بينهم بالسوية، ويدل على صحة ذلك أن الله تعالى أمر المسلمين بطاعتهم بعد ذلك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ﴾ فحض الولاة على العدل والإنصاف بين المسلمين، وحض المسلمين على طاعة الولاة.
قوله: ﴿إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ أي: نعمه العظيمة يعظكم بها يا ولاة أمور المسلمين، في أداء ما ائتمنتم عليه من أموال المسلمين ﴿إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً﴾ أي: لم يزل
وقال: ﴿ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله﴾ [ص: ٢٦].
وقال: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون﴾ [المائدة: ٤٧]، ﴿فأولئك هُمُ الفاسقون﴾ [المائدة: ٤٧]، و ﴿فأولئك هُمُ الظالمون﴾ [المائدة: ٤٥].
وقال: ﴿كُونُواْ قوامين بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين﴾ [النساء: ١٣٥].
وقال ﷺ " المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمان، وكلتا يديه - جلت عظمته - يمين هم الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وأموالهم ".
وقال ﷺ: " إن أحب الناس إلى الله تعالى وأقربهم إليه سبحانه وتعالى - إمام
وقال معقل المزني عند موته: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "ليس من ولي أمة قَلت أوكثرت لم يعدل فيهم إلا كبه الله على وجهه في النار".
وروي عنه - ﷺ - أنه قال: " ما من أمير عشرة إلا وهو يجيء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يكون عمله هو الذي يطلقه أو يوبقه، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ".
وقال - ﷺ -: " سبعة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله: إمام مقسط، وشاب نشأ في عبادة الله - عز وجل - حتى توفاه الله على ذلك، ورجل ذكر الله في خلا، ففاضت عيناه من خشية الله - عز وجل -، ورجل كان قلبه متعلقاً بالمسجد حين يخرج منه حتى يرجع إليه، ورجل قال أحدهما للآخر: إني أحبك في الله، وقال الآخر: إني أحبك في الله، فتصادرا على ذلك، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب إلى نفسها فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ".
قال ابن مسعود، إذا كان الإمام عادلا فله الأجر، وعليكم الشكر وإذا كان جائرا فعليه الوزر وعليكم الصبر.
وقال بعض الحكماء انفع من خصب الزمان.
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله...﴾ الآية.
أي: دوموا على طاعته ﴿وَأَطِيعُواْ الرسول﴾ في سنته، وما أتاكم به ﴿وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ﴾ أي: ولاة أموركم، وهم الأمراء، قال ذلك أبو هريرة، وابن عباس وغيرهما.
وقيل: هم أصحاب السرايا على عهد رسول الله ﷺ.
وقال زيد بن زيد أسلم: هم السلاطين.
وقال جابر بن عبد الله " هم أهل العلم والفقه والخير، قاله مجاهد وقتادة، وأبو العالية، وروي عن ابن عباس مثله وقاله عطاء، ولذلك قيل، إن الأمر في هذا: القرآن: فمعناه: وأولي القرآن، وأولي العلم بالقرآن، ودل على أن الأمر: القرآن
وعن ابن عباس أنه قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي ﷺ في سرية. وروي عن مجاهد أنه قال: هم أصحاب محمد ﷺ.
وقال عكرمة: هم أبو بكر وعمر.
واختار أهل النظر أن يكون المراد أمراء مسلمين لقوله ﷺ: " سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره، ويليكم الفاجر بفجوره فاسمعوا لهم، وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم ".
قال ﷺ: " على المرء المسلم الطاعة ".
وقال ﷺ: " لا يزال الناس بخير ما استقامت لهم هذاتهم وولاتهم " والهداة العلماء العاملون بعلمهم.
قوله: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله﴾ الآية.
وقيل: المعنى إن اختلفتم في شيء فقولوا: الله أعلم، على التغليظ في الاختلاف والنهي عنه، قوله: ﴿ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ أي هذا الفعل خير لكم في دنياكم وأخراكم، وأحسن عاقبة، لأنه يدعوكم إلى الإلفة وترك الاختلاف والتنازع، والفرقة.
وقال مجاهد ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾: أحسن جزاء.
وقيل: أحسن ثواباً وخير عاقبة.
قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُو﴾ الآية: معناه ألم تعلم بقلبك الذين يزعمون أنهم صدقوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك من الكتاب، وهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمرهم الله أن يكفروا به: أي: بما جاء به الطاغوت.
والطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى فهو جماعة، وهو يذكر ويؤنث، فإذا ذُكِّر ذهب به إلى [معنى] الشيطان وإذا أُنِّث ذُهب [به] إلى معنى الألوهية، وإذا جمع ذهب به إلى [معنى] الأصنام.
قال الله جل ذكره: ﴿اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا﴾ [الزمر: ١٧] فأنث على معنى الألوهية. وقال في الجمع: ﴿أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٧] فجمع على معنى: أوليلؤهم الأصنام.
قوله: ﴿يُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ﴾ أن يضلهم أي: يضل هؤلاء المتحاكمين إلى الطاغوت عن الحق أي: يصدهم عنه.
وروي أن هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين دعا رجلاً من اليهود في خصومة كانت بينهما، فكان المنافق يدعوه إلى اليهود لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، واصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن جهينة ليحكم بينهم، ورسول الله ﷺ بين أظهرهم، فأنزل الله هذه الآية فقوله: ﴿يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ يعني به المنافق ﴿وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ يعني به اليهود ﴿يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت﴾ وهو الكاهن ﴿وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾ أمر هذا في كتابه، وهذا في كتابه أن يكفروا بالكاهن. وقيل: إنهما رجلان من اليهود تخاصما فدعا أحدهما إلى النبي ﷺ والآخر يدعو إلى الكاهن فمضيا، فأنزل الله هذه الآية.
وقوله ﴿ضَلاَلاً﴾ مصدر لفعل دل عليه ﴿يُضِلَّهُمْ﴾ كأنه فيضلهم ﴿ضَلاَلاً﴾ مثل: ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧]. قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول﴾ هذا ذم لفعل المذكورين أنهم يتحاكمون إلى الطاغوت، فأخبر الله تعالى أنهم إذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله " أي: إلى كتابه جلت عظمته وإلى رسوله ﷺ ﴿ رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ﴾ أي: يمتنعون عنك.
و ﴿صُدُوداً﴾: هو اسم للمصدر عند الخليل، والمصدر عنده الصد، وهو مصدر عند الكوفيين، والصد أيضاً مصدر عندهم.
ووقع الإخبار عن المنافق بالصد لأنه هو الذي دعا إلى الكاهن، ولم يمض إلى رسول الله ﷺ.
وقال ابن جريج: دعا اليهودي المنافق إلى رسول الله ﷺ.
وقيل: " دعا اليهودي المنافق إلى رسول الله ﷺ، فقال المنافق: بيني وبينك الكاهن، فلم يرض اليهودي بالكاهن، ومضيا إلى النبي ﷺ فحكم لليهودي على
ومعنى: يصدون عنك أي: عن حكمك.
قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَآ أصابتهم مُّصِيبَةٌ﴾ الآية.
معنى: كيف في هذا: الاستفهام، ولها معان أخرى.
تكون بمعنى التحذير، والتخويف نحو قوله ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾ [النمل: ٥١].
وتكون بمعنى الجحود فتتبعها إلى نحو قوله ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله﴾ [التوبة: ٧] ألا ترى بعده ﴿إِلاَّ الذين﴾ [التوبة: ٧] تقديره ما يكون للمشركين عهد.
وتكون كيف استفهام بمعنى التوبيخ والتعجب، نحو قوله ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أمواتا﴾ [البقرة: ٢٨] ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله﴾ [آل عمران: ١٠١] وتكون تنبيهاً نحو قوله:
وتكون توكيداً لما قبلها، وتحقيقاً له، نحو قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ [النساء: ٤١] فهذا كله من تفسير الكوفيين النحويين وهو صحيح.
والمعنى كيف يكون حال هؤلاء الذين يتحاكمون إلى الطاغوت ويزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ويمتنعون أن يأتوا حكمك إذا أصابتهم مصيبة أي: نزلت بهم نقمة من الله تعالى ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي: بذنوبهم التي تلفت منهم ﴿ثُمَّ جَآءُوكَ﴾ حالفين بالله ﴿إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إحسانا وَتَوْفِيقاً﴾.
أخبر الله عنهم أنهم لا يردعهم عن النفاق: والعبر والنقمات وأنهم إذا أصابتهم مصيبة بذنوبهم أخذوا يحلفون كاذبين أنا لم نرد إلا الإحسان والتوفيق أي: لم نرد باحتكامنا إلى الكاهن إلا الإحسان من بعضنا البعض، ولم يرجعوا إلى التوبة والاعتراف.
وقيل: أنهم أتوا النبي ﷺ في أمر القتيل الذي قتله عمر وحلفوا، أنا أردنا بطلب الدم إلا إحساناً وموافقة الحق.
وقيل: قوله ﴿في أَنْفُسِهِمْ﴾ مؤخر عن موضعه يراد به التقديم، فكيف إذا أصابتهم مصيبة في أنفسهم بما قدمت أيديهم.
وكونه في غير موضعه من غير تقديم ولا تأخير، أحسن لتمام المعنى بذلك، إنما يحسن تقدير التقديم والتأخير إذا لم يكمل معنى الآية، وتقدير التقديم والتأخير مروي عن مجاهد.
قوله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله﴾ الآية.
المعنى ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا﴾ رسولاً إلا افترضنا طاعته على أمر من أرسل إليهم، فأنت يا محمد من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلته إليهم فهذا توبيخ لمن احتكم إلى غير النبي ﷺ.
قوله: ﴿بِإِذْنِ الله﴾ أي: بعلمه، فدل هذا، أن هؤلاء الذين لم يتحاكموا إلى
قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ﴾ لو أن هؤلاء المنافقين إذ تحاكموا إلى الكاهن، فظلموا أنفسهم بذلك ﴿جَآءُوكَ﴾ تائبين مستغفرين مما فعلوا، فسألت الله العفو عن جرمهم ﴿لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً﴾ ومعنى تواباً راجعاً عما يكرهون إلى ما يحبون، رحيماً بهم في تركه عقوبتهم على ذنبهم.
قوله: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ الآية.
المعنى في قوله: ﴿فَلاَ﴾ أي: ليس الأمر على ما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك إذا دعوا إليك، ثم استأنف القسم فقال: ﴿وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي: وربك يا محمد، لا يؤمنون أي: لا يصدقون بالله تعالى ونبيه ﷺ ﴿ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾، أي: يحكمونك حَكَماً بينهم في خصوماتهم. وقرأ أبو السمأل: ﴿شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ بإسكان الجيم وهو بعيد لخفة الفتحة.
قوله: ﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ﴾ أي: ضيقاً من حكمك أي لا تأثم أنفسهم بإنكارها حكمك، وشكها في طاعتك لأن الحرج الإثم، وكأنه قال: ثم لا
وقيل: الحرج: الشك وكله يرجع إ'لى الإثم.
﴿وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾ أي: يسلموا لحكمك إقراراً بنبوتك.
ويروى أن هذه الآية نزلت في الزبير بن العوام وخصم له، " ذكر عن الزبير أنه خاصم رجلاً من الأنصار وهو حاطب بن أبي بلتعة في شريج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري سرح الماء يمر، وكانت أرضه أسفل من أرض الزبير فأبى عليه، فاختصما إلى النبي ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك. فغضب الأنصاري فقال: يا رسول الله إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله ﷺ، ثم قال: يا زبير اسق، ثم تحبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر، ثم أرسل الماء إلى جارك، فاستوعب رسول الله ﷺ للزبير حقه في صريح الحكم وكان
وقيل: نزلت في اليهودي والمنافق اللذين تقدم ذكرهما قاله مجاهد وغيره، وهو أولى بسياق الكلام.
قال الطبري: ولا ينكر أن تكون الآية نزلت في الجميع فيكون حكم المتحاكمين إلى الطاغوت، وحكم الزبير وخصمه.
ومن قال إنها في الزبير وخصمه ما زالت أحسن الوقف على ما [قبل الآية، ومن قال: إنها في اليهود والمنافق ما زالت، فليس الوقوف على ما] قبلها بتمام، لأن القصة واحدة.
وروي " أنها نزلت في رجلين اختصما إلى النبي ﷺ، فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه ردنا إلى عمر، فقال النبي ﷺ: انطلقا إلى عمر، فلما أتيا عمر قال الذي له الخق: يا ابن الخطاب قضى رسول الله ﷺ على هذا، فقال: ردنا إلى عمر فردنا إليك، قال: كذلك؟ قال: نعم! قال عمر: مكانكما حتى أخرج فأقضي بينكما، فخرج إليهما مشتملاً على سيفه، فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر فاراً إلى
قوله ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ﴾ الآية.
فالمعنى: ولو أنا كتبنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك المتحاكمين إلى الطاغوت أي: فرضنا عليهم قتل أنفسهم، والخروج من ديارهم ما فعل ذلك إلا قليل منهم.
ومعنى: قتل أنفسهم قتل بعضهم بعضاً كما أمر أصحاب موسى ﷺ، ولما نزل ذلك افتخر ثابت بن قيس ورجل من اليهود، فقال اليهودي، والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم فقتلنا أنفسنا وبلغت القتلى منا سبعون ألفاً، فقال ثابت: والله لو كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا، فأنزل الله تعالى ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾ وقيل: " إن الآية لما نزلت قال رجل من أصحاب النبي ﷺ قيل: هو أبو بكر رضي الله عنهـ لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: " إن من أمتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ".
وقال السدي: وأشد تثبيتاً أي تصديقاً.
قوله: ﴿وَإِذاً لأتيناهم مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً﴾ المعنى: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً، ﴿وَإِذاً لأتيناهم مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً﴾، أي ثواباً في الآخرة ﴿وَلَهَدَيْنَاهُمْ﴾ أي لوفقناهم للصراط المستقيم وهو طريق الجنة.
قولهم: ﴿وَمَن يُطِعِ الله والرسو﴾ الآية.
المعنى من يطع الله تعالى والرسول ﷺ بتسليم لأمرهما والرضا بحكمهما، فهو مع الذين أنعم الله عليهم لأنبيائه، وأهل طاعته في الآخرة ﴿وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً﴾ أي: وحسن الأنبياء ومن معهم رفيقاً.
و ﴿رَفِيقاً﴾ منصوب على الحال عند الأخفش، بمعنى رفقاء، وقال الكوفيون: نصبه على التفسير، وقال بعض البصريين نصبه على التمييز.
والصديقون: أتباع الأنبياء صلوات الله عليهم، صدقوهم فهو فعيل من الصدق وقد كثر ذلك عنه.
وروي عن النبي ﷺ في حكاية أنه قال: " الصديقون المتصدقون ".
وفعيل أصله المبالغة في ذم أو مدح.
﴿والشهدآء﴾ جمع شهيد، وهو المقتول في سبيل لله [شهد لله تعالى بالحق، فسمي شهيداً لذلك. وقيل: سمي شهيداً لأنه يشهد كرامة الله] سبحانه وقيل: لأنه يشهد على العباد بأعمالهم يوم القيامة، وقيل: هم الذين قاموا وشهدوا لله بالحق. ويقال: الشهداء عدول يوم القيامة.
﴿والصالحين﴾ كل من صلحت سريرته وعلانيته. ﴿وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً﴾ في الجنة. والرزق لفظه لفظ واحد وهو في معنى الجمع.
ويروى أن هذه الآية نزلت في قوم حزنوا على فقد النبي ﷺ حذر ألا يروه في الآخرة، فأخبرهم الله تعالى أن من أطاعه، وأطاع رسوله مع النبيين في الجنة.
فبعث إليه النبي ﷺ فبشره ".
وقال مسروق: قال أصحاب رسول الله ﷺ له: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك لو قدمت رفعت فوقنا، فلم نرك، فأنزل الله تعالى ﴿ وَمَن يُطِعِ الله والرسول﴾ الآية: وروي نحو ذلك قتادة والسدي وغيرهما.
وقال عطاء: " جاء رجل من الأنصار إلى النبي ﷺ وهو يبكي، فقال: " ما يبكيك يا فلان؟ " فقال: يا نبي الله والله الذي لا إله 'لاّ هو، لأنت أحب إلي من أهلي ومالي، والله الذي لا إله إلا هو، لأنت أحب إلي من نفسي، وأنا أذكرك وأنا في أهلي،
قيل هو عبد الله بن زيد الذي رأى الأذان في المنام وروي أنه لما بلغه موت رسول الله ﷺ قال: اللهم اعمني حتى لا أرى شيئاً بعد حبيبي ﷺ فعمي من وقته.
قوله: ﴿ذلك الفضل﴾ أي ذلك العطاء بأن يكونوا مع النبيين صلوات الله عليهم، فضل من الله تعالى عليهم، بأن وفقهم للطاعة، فجعلهم من النبيين والصديقين في الجنة، فهو سابقة منه لهم، لم يطيعوا إلا بفضله، وبالطاعة التي هي بفضله وصلوا إلى فضله، فكل من عنده، وبفضل منه، لا إله إلا هو، لا خير إلا من عنده، ولا توفيق إلا به يوفق للخير ويجازي عليه بخير، فهذا الفضل العظيم الظاهر ﴿وكفى بالله عَلِيماً﴾ أي اكتفوا به.
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ...﴾ الآية.
هذا أمر من الله للمؤمنين أن يأخذوا أسلحتهم وينفروا إلى عدوهم مجتمعين أو متفرقين، جماعة بعد جماعة، يعني سرايا متفرقين.
قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ﴾: لام " لام " تأكيد وليبطئن لام قسم، كان التقدير لمن أقسم: ليبطئن، والتشديد [في الطاء] بمعنى التكثير.
وقرأ مجاهد: " ليبطئن " بإسكان الباء، وتخفيف الطاء.
ومن قرأ كأن لم تكن، فلتأنيث لفظ المودة.
ومن قرأ بالياء حمله على معنى الود. لأن المودة والود بمعنى واحد. وقرأ الحسن ليقولن بضم اللام على الجمع حمله على معنى من، فَضَم، لتدل على الواو المحذوفة.
ومعنى الآية أن الله تعالى أعلم المؤمنين منهم من يبطئ أن ينفر معهم إلى جهاد
والتقدير في: كأن لم يكن بينكم وبينه مودة " أن يكون مؤخر المعنى " [فأفوز فوزاً عظيماً كأن لم يكن بينكم وبينهم] أي: كأن لم يعاقبكم على الجهاد.
وقيل: التقدير ﴿قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً﴾ كأن لم يكن بينكم وبينهم مودة ولا أن أصابكم فضل من الله ".
قوله: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة﴾ الآية.
حض الله تعالى المؤمنين على القتال في هذه الآية غالبين أو مغلوبين، ومعنى، ﴿فِي سَبِيلِ الله﴾ أي: في ذات الله ودينه، ومعنى ﴿يَشْرُونَ﴾ يبيعون حياتهم الدنيا بنعيم الآخرة، يقال: شربت الشيء بعته، وشريته اشتريته ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ أي:
قوله: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين﴾ الآية.
﴿المستضعفين﴾ عطف على السبيل كأنه قال: " وفي المستضعفين أي: في خلاصهم.
وقيل: المعنى: وفي سبيل المستضعفين، وهم الذين أسلموا بمكة وغلبوا على أنفسهم بالقهر، وعذبوا في أبدانهم ليرجعوا عن دينهم.
حض الله تعالى المؤمنين على القتال من أجل دين الله سبحانه [ومن أجل] المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، عذرهم الله، وأخبر أنهم يقولون ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا﴾ أي: التي ظلم أهلها.
روى الحسن وقتادة: أن رجلاً من بني إسرائيل خرج من القرية الظالمة إلى القرية الصالحة فأدركه الموت في الطريق فنأى بصدره إلى القرية الصالحة، فاحتجت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأمروا أن يعدوا أقرب القريتين إليه، فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر، فتوفته ملائكة الرحمة، وقيل: أن الله قرب إليه القرية الصالحة والقرية الصالحة هي مكة.
قوله: ﴿واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً﴾ أي: من عندك ولياً يلي خلاصنا.
قوله: ﴿الذين آمَنُواْ يقاتلون فِي سَبِيلِ الله﴾ الآية.
أخبر الله تعالى أن: ﴿الذين﴾ صدقوا بالنبي ﷺ وبما جاء به يقاتلون في سبيل الله.
وأن الكافرين يقاتلون في سبيل الطاغوت، وهو الشيطان هاهنا بدليل قوله: ﴿فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان﴾ أي: الذين يتولونه ويطيعون أمره ﴿إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً﴾: لأولياؤه ضعاف لأنهم يقاتلون لغير الثواب، والمؤمنون يقاتلون رجاء الثواب.
قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ﴾ الآية.
هذه الآية نزلت في ناس من أصحاب النبي ﷺ تسرعوا إلى قتال المشركين بمكة قبل الهجرة، بما يلقون منهم من الأذى، فقيل لهم: كفوا أيديكم عن القتال وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فكانوا يتمنون القتال ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ﴾ كرهه جماعة منهم، ومعنى كتب فرض، ومعنى ﴿لولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ أي: إلى أن نموت
قال ابن عباس: هو عبد الرحمن بن عوف وأصحابه سألوا النبي ﷺ القتال ثم كرهه جماعة منهم لما فرض غليهم.
وقال السدي: قوم أسلموا قبل أن يفرض القتال فسألوا القتال، فلما فرض عليهم كرهه جماعة منهم وخاف منه كما يخاف الله وأشد من ذلك.
وقيل: هم المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه.
وقيل: نزلت في يهود فعلوا ذلك، فنهى الله هذه الأمَة أن تصنع صنيعهم.
ويجوز - والله أعلم - أن يكون هؤلاء اليهود الذين فعلوا ذلك هم الذين ذكرهم الله في البقرة في قوله ﴿إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله﴾ [البقرة: ٢٤٦] ثم قال: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال﴾ [البقرة: ٢٤٦] أي فرض ﴿تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٦].
ومن قراء ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ بالتاء أجراه على الخطاب لأن بعده ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ﴾.
﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ الآية.
هذا توبيخ من الله تعالى لهؤلاء الذين يخشون الناس كخشية الله فراراً من الموت، فقال الله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾.
قال مالك: في قصور السماء، ألا تسمع قوله: ﴿والسمآء ذَاتِ البروج﴾ [البروج: ١] وقيل: معناه: " في قصور محصنة قاله قتادة. وقيل المعنى: في قصور السماء، قاله أبو العالية.
والمشيدة عند أهل اللغة المطولة، والمشيدة بالتخفيف المزينة، وقيل: هي المعمولة بالشيد وهو الجص.
وقال بعض الكوفيين: التخفيف والتثقيل أصلحهما واحد.
والتشديد يراد به الجمع كقولهم: غنم مذبحة، وقباب مصنعة، فيقال: " قصور
(ومَّشِيدٍ) مفعول: فالمشيدة على هذا المعمولة بالشيد وهو الجص وكذلك قال عكرمة.
قوله: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله﴾ أي: رضاء أو ظفر أو غنيمة ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ﴾ أي: شدة وهزيمة أو جراح (يقولوا هذه من سوء تدبيرك) ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله﴾ أي: الشدة والرخاء، والظفر والهزيمة ﴿مِنْ عِندِ الله﴾ أي: بقضائه وقدره ﴿فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ أي: ما شأنهم لا يفقهون أن كلاً من عند الله سبحانه.
والوقف على ﴿فَمَالِ هؤلاء﴾ لا يحسن، لأنه إن خالف خط المصحف لم يحسن، وإن وقف على الكلام قبح لأنه لام خفض وقد روي عن بعضهم الوقف على اللام وهو حمزة والكسائي وعاصم قياساً على أصولهم في اتباع السواد، وروي عن غيرهم من القراء الوقف على ﴿فَمَا﴾ على الأصل، والاختيار ألا يوقف عليه فهو
قوله: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله...﴾ الآية.
قال الأخفش: ﴿مَّآ﴾ بمعنى الذي.
وقيل: ﴿مَّآ﴾ للشرط.
والمعنى: ما أصابك يا محمد من خصب ورخاء وصحة وسلامة، فبفضل الله عليك وإحسانه، وما أصابك من جدب وشدة وسقم وألم، فبذنب أتيته قوقبت به، والخطاب للنبي ﷺ، والمراد أمته، وكان النبي ﷺ يقول: " ما يصيب الرجل من خدش من عود ولا غيره إلا بذنب، وما يغفر الله تعالى أكثر ".
وقال ابن عباس: الحسنة هنا فتح بدر وغنيمتها، والسيئة ما أصابه يوم أحد عوقبوا عند خلاف الرماة لأمر النبي ﷺ، فكان ما عوقب به بذنوبهم التي اجترحوها، فهو قوله ﴿فَمِن نَّفْسِكَ﴾ قال أبو زيد: " وقوله في آل عمران ":
وقرأ ابن عباس: فمن نفسك وأنا كتبتها عليك وكذلك هي قراءة عبد الله بن مسعود.
وعن ابن عباس أن الآية نزلت في قصة أحد تقول: ما فتحت عليك يا محمد من فتح فمني وما كانت من نكبة فمن ذنبك وأنا قدرت ذلك عليك.
وقد ذكر النحاس: أن القول محذوف من الآية والتقدير ﴿لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ يقول ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة من نفسك [أي: بشؤمك].
وذكر ابن الأنباري قولاً ثالثاً: أن المعنى: ما أصابك الله به من حسنة فمنه،
قال نفطوية: أصل السيئة ما يسوؤك، فالمعنى وما أصابك من أمر يسوؤك فهو بذنبك وذلك أمر من الله.
وقال الضحاك عن ابن عباس: الحسنة هنا ما أصاب المسلمين من الظفر يوم بدر، والسيئات ما نكبوا به يوم أحد.
قوله: ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً﴾ الآية.
رسولاً: مصدر مؤكد لأرسلناك، ودخلت " من " في قوله: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ﴾
قوله: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾ الآية.
هذا إعذار من الله تعالى إلى خلقه في طاعة نبيه عليه السلام فإنه عن الله يأمر وينهى، وهو رد إلى قوله: ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ﴾ للناس رسولاً، ثم قال: ومن يطعك فقد أطاع الله، لكنه خرج من لفظ الخطاب إلى لفظ الغيبة، كما قال: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك﴾ [يونس: ٢٢] ثم قال: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: ٢٢]، ﴿وَمَن تولى﴾ أي: من طاعتك يا محمد ﴿فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾، رجع الكلام إلى الخطاب ولو جرى على الغيبة لقال: فما أرسلناه.
وقيل: معنى الآية: من يطع الرسول في سنته فقد أطاع الله في فرائضه، وهذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين، لأن قوله فما أرسلناك عليهم حفيظاً. يدل على الإعراض عنهم وتركهم إذا تولوا عنه، وهذا مثل " ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ﴾ [الشورى: ٤٨] " ثم
وقال أبو عبيدة: معنى " حفيظاً " محتسباً.
قوله: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ﴾ الآية.
" طاعة " رفعت على معنى: أمرنا طاعة، فالمبتدأ مضمر وأجاز الأخفش النصب [على] المصدر كأنهم يقولون نطيع طاعة، وهذه الآية، نزلت في الذين تقدم ذكرهم أنهم لما كتب عليهم القتال خشوا ﴿الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ [النساء: ٧٧].
فالمعنى: يقولون أمرنا طاعة فيما تأمرنا به وتنهانا عنه يا محمد، فإذا خرجوا من عندك يا محمد ﴿بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ﴾ أي: غير جماعة منهم ليلاً الذي تقول أي: تقول الطائفة.
ويجوز أن يكون المعنى غير الذي تقول يا محمد من القرآن وغير ذلك، وكل من
قال السدي: هم المنافقون يطيعون، إذا حضروا، فإذا خرجوا غيروا وبدلوا، وقال ابن عباس وغيره.
وقيل معنى: يكتب ما يبيتون أي ينزله في كتابه إليك يا محمد ويخبرك به، وفي ذلك أعظم الآيات للنبي ﷺ لأنه يخبرهم بما يسرون ليلاً.
قوله: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أي: دعهم قال الضحاك: المعنى لا تخبرهم بأسمائهم.
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ فوض أمرك إليه، ﴿وكفى بالله وَكِيلاً﴾، أي: حسبك ناصراً على عدوك.
قوله: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله﴾ الآية.
[المعنى]: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ﴾ المبيتون غير ما تقول ﴿القرآن﴾ فيعلمون حجة الله عليهم، وأنك أتيتهم بالحق من عند الله متسق المعاني مختلف الأحكام بعضه يشهد على بعض بالتحقيق وأن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض، فليس من كلام آدمي إلا وفيه اختلاف، إما في
وقوله: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله﴾ معناه على قولكم ودعواكم إذ ليس يجوز أن يأتي من عند غير الله مثله، ومعنى ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن﴾ ألا ينظرون في عاقبته، يقال: " تدبرت الشيء فكرت في عاقبته ".
قوله: ﴿وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ﴾ الآية.
هذا خبر من الله تعالى هؤلاء المنافقين الذين يبيتون غير ما يقول القرآن إذا جاءهم [خبر] من سرية غزت للمسلمين أنهم آمنون من عندهم، (أو) أنهم خائفون: صحيح أو غير صحيح، لم يتوقفوا حتى يصح، ويثبت، وأفشوه في الناس.
وقوله: ﴿أَذَاعُواْ بِهِ﴾ أي: أفشوا (ونشروا) وأسمعوا به، وأعلنوه كان خيراً
والهاء في ﴿بِهِ﴾ وفي ﴿لَعَلِمَهُ﴾ و ﴿يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ للأمر، وقيل: للخوف، وقيل: عليهما جميعاً، واكتفى بالتوحيد عن التثنية.
ومعنى: ﴿يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ أي: يبحثون عن صحته، ويستخرجونه. والهاء والميم في " منهم " تعود على أولي الأمر أي: ليعلم ذلك من أولي الأمر من يستنبطه أي: يبحث عن صحته ويستخرجها.
يقال: استنبطت الركية: استخرجت ماءها وسمي النبط نبطاً لاستنباط الماء. أي: استخراجهم الماء، والنبط: الماء المستخرج من الأرض.
وقيل: إن الذين عنوا بذلك ضعفة المسلمين كانوا يسمعون من المنافقين أخباراً غير صحيحة فيفشونها فعذلهم الله على ذلك، وأمرهم برد ما سمعوا إلى النبي ﷺ، وأولي الأمر فيعلمون صحة ما قيل من سقمه، ويعرفون كذبه من صحته
وقوله: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ أي: لولا نعمته عليكم بأن عافاكم مما ابتُلي بـ هؤلاء المنافقون الذين وصفهم بالتبييت والخلاف ﴿لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان﴾ وهو خطاب للذين قال لهم ﴿خُذُواْ حِذْرَكُمْ فانفروا ثُبَاتٍ﴾.
وقوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ الآية.
هو استثناء من المستنبطين قاله قتادة، وهو قول الزجاج واختياره.
وقال ابن عباس هو استثناء من قوله: ﴿أَذَاعُواْ بِهِ﴾ ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ فهو استثناء من الإذاعة، وهو قول الأخفش والكسائي وأبي عبيدة، وأبي حاتم [وأبي عبيد] وجماعة من النحويين، وهو اختيار الطبري.
ومعنى ﴿أَذَاعُواْ بِهِ﴾ وأذاعواه سواء، قاله الكسائي.
قوله: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾ الآية.
المعنى: جاهد يا محمد أعداء الله ﴿لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾ أي: لا يلزمك إلا أن تقاتل بنفسك ﴿وَحَرِّضِ المؤمنين﴾ أي: حضهم على القتال معك، وأعلمهم ثواب الله في الآخرة للشهداء، ﴿عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ﴾ أي: يكف قتاهم، وعسى من الله واجبة، ﴿والله أَشَدُّ بَأْساً﴾ أي: نكاية في الكفار ﴿وَأَشَدُّ تَنكِيلاً﴾ أي: عقوبة، وهذه الفاء في ﴿فَقَاتِلْ﴾ متعلقة بقوله ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ ﴿فَقَاتِلْ﴾ أي: من أجل هذا فقاتل.
وقيل: هي متعلقة بقوله: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِي سَبِيلِ الله﴾ [النساء: ٧٥] وإنما أمره تعالى بالقتل وحده لأنه وعده بالنصر، ولما أمره الله تعالى بالقتل بنفسه لبس يوم أحد
قوله: ﴿مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا﴾ الآية.
المعنى: من يشفع لأخيه شفاعة حسنة يكن له نصيب منها في الآخرة، أي: حظ ﴿وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا﴾ أي: إثم منها في الآخرة.
وقال مجاهد: هو شفاعة الناس بعضهم لبعض، وقاله الحسن وابن زيد وغيرهم.
وإنما اختار ذلك لأنه في سياق الآية التي حض الله تعالى النبي ﷺ على القتال فيهت، وحضه على أن يحرض المؤمنين على القتال معه، فصارت هذه الآية وعداً لمن أجاب تحريض رسول الله ﷺ على القتال، وكان ذلك أشبه عنده من شفاعة الناس بعضهم لبعض إذ لم يجر له ذكر قبل ولا بعد.
والكفل والنصيب عند أهل اللغة سواء، قال تعالى: ﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ﴾ [الحديد: ٢٧] أي: نصيبين، والنصيب قد يكون خيراً أو شراً.
وقال الحسن: الشفاعة الحسنة ما يجوز في الذين، والشفاعة السيئة ما لا يجوز في الدين.
وقال الحسن: من يشفع شفاعة حسنة كان له أجرها وإن لم يُشَفَّع.
وروي أن قوله: ﴿وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا﴾ نزل في اليهود كانوا يدعون على المؤمنين في الغيبة بالهلاك، ويقولون لهم في الحضور: السام عليكم، وهو دعاء أيضاً، ثم اتْبع ذلك بقوله: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ﴾ وهو: السلام.
والمقيت: الحفيظ عند ابن عباس.
وقال السدي: المقيت: القدير وهو اختيار الطبري.
وقال الكسائي: مقيتاً مقتدراً.
وقال أبو عبيدة: المقيت: الحافظ المحيط.
وقال ابن جريج: المقيت القائم على كل شيء رواه عن ابن كثير.
وقال بعضهم:
وَذيِ ضَغَنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عنه | وَكُنْتُ على مُسَاءَتِه مَقِيتاً |
وقيل: المعنى: إذا قيل لكم السلام عليكم، فقولوا السلام عليكم ورحمة الله، فهذا خير من التحية، أو يردها فيقول: السلام عليكم، كما قيل له، قال ذلك السدي، وروي عن ابن عمر أنه يرد: وعليكم السلام.
وقال ابن عباس: ﴿فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ﴾ على أهل الإسلام أو ردوها على أهل الكفر، وقال: من سلم عليك من خلق الله فأردده عليه، وإن كان مجوسياً، وقال ذلك قتادة.
وقال ابن زيد: قال أبي: " حق على كل مسلم (حُيَّيَ) بتحية أن يُحَيِّيَ
وروي عن ابن عباس: ﴿أَوْ رُدُّوهَآ﴾ يقول: وعليكم: على الكفار.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم ".
واختار الطبري أن يكون المعنى للمسليمن، يرد عليهم أحسن من تحيتهم بزيادة الرحمة والبركة، أو يرد عليهم تحيتهم بعينها بغير زيادة، ويكون الرد على أهل الكتاب معمولاً به بقوله النبي ﷺ ولا يزاد على ذلك.
فقول النبي ﷺ: قولوا لهم: وعليكم يظن على أن يقال لهم مثل ما قتالوا، فيجب أن تكون الآية كلها في المسلمين وبين النبي ﷺ أنه لا يجوز أن يبدأوا بالسلام، والسلام عند الجماعة تطوع والرد فريضة، وقال مالك في معنى الآية: إن ذلك على المشمت في
وقال: مجاهد الحسيب: الحفيظ. وقال أبو عبيدة: كافياً.
وقيل معنى حسيب: محاسب كما يقال: أكيل بمعنى: مواكل.
والحسيب عند أهل اللغة الكافي. يقال حسبه إذا كفاه، ومنه ﴿عَطَآءً حِسَاباً﴾ [النبأ: ٣٦] أي: كافياً: ومنه ﴿حَسْبُكَ الله﴾ [الأنفال: ٦٤] أي: يكفيك الله.
قوله تعالى: ﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ﴾.
(معنى الآية) أنه تخويف وتحقيق للبعث والحشر وأن ذلك لا ريب فيه أي لا شك فيه ﴿يَوْمِ القيامة﴾ يوم القيام لرب العالمين، والهاء زيدت للمبالغة، وقيل: سميت بذلك لأنه يوم يقوم الناس من قبورهم فيه، والهاء للمبالغة أيضاً.
ومعنى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً﴾ أي: لا أحد أصدق حديثاً من الله.
هذه الآية نزلت في الذين تخلفوا عن رسول الله ﷺ يوم أحد، رجعوا إلى المدينة، وقالوا لأصحاب النبي عليه السلام: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ﴾ [آل عمران: ١٦٧] فكان أصحاب رسول الله ﷺ فيهم فرقتين فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، فنزلت: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ﴾ أي: فرقتين ﴿والله أَرْكَسَهُمْ﴾ أي: ردهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم، وذلك بما كسبوا من خلاف رسول الله ﷺ.
وقال مجاهد وغيره: نزلت في قوم أتوا مكة: زعموا أنهم مهاجرون، ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا رسول الله ﷺ أن يخرجوا إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم، فاختلف فيهم أصحاب النبي ﷺ ففرقة تقول: إنهم منافقون، وفرقة تقول: هم مؤمنون، فأنزل الله الآية.
وقيل: نزلت في قوم قدموا المدينة مسلمين فأقاموا ما شاء الله، ثم استوخموا المدينة، فسألوا النبي ﷺ أن يخرجوا إلى البادية، فأذن لهم، فتكلم الناس فيهم،
وقيل: ﴿أَرْكَسَهُمْ﴾ معناه أضلهم.
ثم قال مخبراً عنهم ﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ﴾ فدل على أنهم ارتدوا، وأن النفاق كفر، وقوله تعالى ﴿فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ يدل على أنهم قوم كانوا بمكة يَدَّعون الإيمان، وليسوا بمؤمنين وهو قول ابن عباس وعمر وغيرهما.
وقيل: إنهم لما خرجوا يريدون البادية مضوا إلى مكة فاختلف أصحاب النبي ﷺ في أمرهم، فأوضح الله تعالى خبرهم، وحكمهم في هذه الآية.
وقال معمر: كتب ناس من أهل مكة إلى أصحاب رسول الله ﷺ يقولون لهم: إنهم قد أسلموا، وكان ذلك منهم كذباً، فلقيهم المسلمون بعد ذلك، فاختلفوا فيهم، فقالت طائفة: دماؤهم حلال، وقالت طائفة: دماؤهم حرام فأنزل الله الآية، وهم ناس لم يهاجروا وأقاموا بمكة، وأعلنوا الإيمان فاختلف فيهم أصحاب النبي ﷺ.
وأركسهم: ردهم، وقيل: أوقعهم وقيل: أضلهم وأهلكهم.
وقال القتبي: أركسهم نكسهم وردهم في كفرهم، ، وحكى الفراء أركسهم وركسهم بمعنى ردهم إلى الكفر.
قوله: ﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله﴾ الآية.
هذا تبعيد لهدي من أضل الله ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ أي: طريقاً مستقيماً، وقيل: سبيلاً إلى الحجة.
قولهم: ﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ﴾ الآية.
المعنى: تمنى المنافقون الذين بمكة، الذين اختلفتم فيهم فرقتين لو تكفرون مثلهم، فتكونون أنتم وهم في الكفر سواء ﴿فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ﴾ أي: أخلاء ﴿حتى يُهَاجِرُواْ﴾ أي: يخرجوا من ديار الشرك إلى ديار الإسلام، ويكون خروجهم ابتغاء وجه الله ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْاْ﴾ أي: أدبروا عن الله ورسوله والهجرة إليكم، ﴿فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ أي: أين اصبتموهم من أرض الله، ﴿وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ﴾:
قوله: ﴿إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ﴾ الآية.
المعنى اقتلوا من وجدتم من المنافقين الذين اختلفتم فيهم إن لم يهاجروا إلا أن يتصل قوم منهم بمن بينكم وبينهم عهد فيدخلون فيما دخلوا فيه، ويرضون بما رضوا، فلا يقتل من كانت هذه حاله منهم فإن لهم حكمهم.
قال السدي: المعنى إذا أظهروا كفرهم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم إلا أن يكون أحد منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق، فأجروا عليه مثلما تجرون على القوم واحكموا في الجميع بحكم واحد.
ومعنى: ﴿يَصِلُونَ﴾ يتصلون.
وقال أبو عبيدة: معنى: ﴿يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ﴾: ينتسبون إليهم. وهو بعيد، لأن النبي ﷺ قد قاتل من ينتسب إلى من بينهم وبينه عهد، وليس النسب مما يمنع قتال الكفار لعهد بيننا وبين قرابتهم.
وقال ابن زيد: نسخها الجهاد.
قوله: ﴿أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ الآية.
المعنى: إلا الذين جاؤوكم قد ضاقت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم، فدخلوا فيكم، فلا تقتلوهم، ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾ أي: لسلط عليكم هؤلاء الذين يتصلون بقوم بينكم وبينهم ميثاق، والذين يجيئونكم قد ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ أي: ضاقت عن قتالكم، وقتال قومهم، فيقاتلوكم مع اعدائكم من المشركين، ولكن الله كفهم عنكم.
وقوله: ﴿فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ ليست اللام بجواب للقسم [كاللام في ﴿لَسَلَّطَهُمْ﴾، وإنما دخلت للمجاءاة لا للقسم]، ومثله قوله: ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ [النمل: ٢١]. ليست اللام
قوله: ﴿فَإِنِ اعتزلوكم﴾ أي: اعتزلكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عن قتالهم فلم يقاتلوكم ﴿وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم﴾. أي: صالحوكم، وقيل المعنى: استسلموا إليكم.
﴿فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾ أي: ليس لكم إليهم طريق فتستحلونهم بما في أنفسهم وأموالهم وذراريهم، وهذا كله منسوخ بقوله: ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [التوبة: ٥].
وقال الحسن وعكرمة: قوله: ﴿إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ﴾ إلى قوله ﴿سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾ [النساء: ٩١] وقوله: ﴿لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين﴾ [الممتحنة: ٨] إلى ﴿يُحِبُّ المقسطين﴾ [الممتحنة: ٨] قالا: بنسخ ذلك في براءة فجعل لهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر.
واختلف في ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾، فقال المبرد المعنى: الدعاء، لأنه قال: ﴿أَوْ جَآءُوكُمْ﴾ أحصر الله صدوركم أي: ضيقها عن قتالكم، وقتال قومهم. وقال الزجاج: يجوز أن يكون خبراً بعد خبر، فالمعنى أو جاءكم ثم خبر بعد فقال: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾، وأكثر النحويين على أنه حال، وقد مضمرة والتقدير: أو جاؤوكم قد حصرت أي: ضاقت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم. أي: جاؤوكم في هذه الحال فلا تقاتلوهم.
وقال الطبري: المعنى: أو جاؤوكم قد حصرت.
وقرأ أبي بن كعب: ﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ﴾، وحصرت صدورهم بإسقاط أو ﴿جَآءُوكُمْ﴾، ولا يقرأ به الآن.
قوله: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ﴾ الآية.
المعنى: إن هؤلاء قوم كانوا يظهرون الإسلام للنبي ﷺ وأصحابه ليأمنوا منهم، ويظهرون الكفر لأهل مكة إذا رجعوا إليهم ليأمنوهم، ﴿كُلَّ مَا ردوا﴾ أن يخرجوا من ﴿الفتنة﴾ - وهي الشرك - ﴿أُرْكِسُواْ فِيِهَا﴾. أي: ردوا فيها. وأصل الفتنة الاختبار فالمعنى فلما ردوا إلى الاختبار. ﴿أُرْكِسُواْ﴾ أي: نكسوا.
قيل: هم أسد، وغطفان قدموا على النبي ﷺ، فأسلموا، ثم رجعوا إلى
وقيل: نزلت في قوم من المشركين [طلبوا الأمان من رسول الله ﷺ ليأمنوا عنده وعند أصحابه وعند المشركين] قاله قتادة.
وقال: ﴿كُلَّ مَا ردوا إِلَى الفتنة أُرْكِسُواْ فِيِهَا﴾ أي: كلما عرض عليهم بلاء هلكوا فيه.
وقال السدي: نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي كان يأمن في المسلمين والمشركين.
قوله: ﴿فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ويلقوا إِلَيْكُمُ السلم﴾ أي: فإن لم يعتزلكم هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم ويساسلموا [إليكم] ويعطونكم القيادة في الصلح ﴿ويكفوا أَيْدِيَهُمْ﴾ يعني عن القتال. ﴿فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أي: اقتلوهم أين أصبتموهم أي: إن لم يفعلوا ذلك ﴿وأولئكم جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً﴾ أي: حجة ﴿مُّبِيناً﴾ أي: ظاهرة.
قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً﴾ الآية.
وإلا عند البصريين في هذا النوع بمعنى لكن.
وهذا كلام أوله حظر، وآخره في الظاهر إباحة، وقتل المؤمن لا يباح لكنه محمول على المعنى الباطن، ومعناه ما كان مؤمن ليقتل مؤمناً على النفي، والنفي يستثنى منه الإثبات، فهو محمول على معنى الأول وباطنه، فالمعنى أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ فهو خبر، خبر بأنه قد يقع، وليس بإطلاق ولا إباحة قتل، ومثله ﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ﴾ [مريم: ٣٥] فظاهر هذا الحظر، والله لا يحظر عليه.
ومعنى الآية: أنه ليس لمؤمن قتل مؤمن البتة إلا أن يقتله خطأ، فإن قتله خطأ، فعليه تحرير رقبة في ماله، ودية مسلمة إلى أهل المقتول يؤديها عاقلة القاتل ﴿إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ﴾ أي: أن يتصدق أولياء المقتول على عاقلة القاتل بديته فيسقط عنهم الدية.
وقرأ أبو عبد الرحمان السلمي:
قال مجاهد وغيره: هذه الآية نزلت في عيا [ش] ابن أبي ربيعة قتل رجلاً مؤمناً يحسب أنه كافر، وقد كان ذلك الرجل يعذب عياشاً بمكة، أخبر عياش النبي ﷺ فنزلت: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً﴾.
قال ابن زيد: نزلت في أبي عامر، والد أبي الدرداء خرج في سرية فعدل إلى شعب يريد حاجة، فوجد رجلاً في غنم، فقتله، وكان يقول: لا إله لا الله، وأخذ غنمه فوجد من ذلك في نفسه، فذكر ذلك للنبي ﷺ فأنكر عليه النبي (عليه السلام) قتله، إذ قال: لا إله إلا الله فنزلت الآية: وقيل: نزلت في اليمان والد حذيفة،
وروي أن حذيفة وأبا الدرداء تصدقا بدية أبويهما على من قتلهما، وكذلك قتل هشام بن صبابة الكناني خطأ فنزلت الآية في ذلك.
والآية عند جماعة العلماء عامة في كل من قتل خطأ واختلف في الرقبة، فقيل: لا يُعْتَق إلا مؤمن قد صام وصلى وعقل وبلغ، وقيل: كل مؤمن يجزئ وإن لم يبلغ.
ومعنى ﴿وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ﴾ أي موفرة، والدية مائة من الإبل على أهل الإبل.
وروي عن عمر أن على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنى عشرة آلاف درهم.
وقيل: دية الحر مائة من الإبل لا يجزئ غيرها، وبه قال الشافعي، قال إلا ألا توجد فيُأخذ الفدية، ويجعل [الإبل] خمسة أخماس خمس جذاع وخمس حقاق وخمس بنات لبون.
وخمس بنات مخاض وخمس بنو لبون، وهو قول لمالك والشافعي وغيرهما.
ودية المرأة نصف دية الرجل، وهو قول جماعة الصحابة والتابعين، والفقهاء، إلا الشاذ منهم.
وكل ما جناه جان خطأ فعلى عاقلته الدية، إلى أن يكون الذي يجب في ذلك أقل من ثلث الدية، فليس على العاقلة شيء، وذلك في مال الجاني، وتؤجل دية الخطأ في ثلاث سنين، وثلث الدية تؤديها العاقلة في سنة، ونصف الدية يجتهد فيها الإمام، فيجعلها في سنتين أو في ستة ونصف وثلاثة أرباع الدية في ثلاث سنين، وهي على الرجال البالغين دون النساء والصبيان، وليس على كل واحد شيء معلوم ولكن على كل واحد قدر يسره، فأما دية العمد فهي على القاتل خاصة إذا قبلت منه.
وقوله: ﴿فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ أي: فإن كان المقتول خطأ من قوم كفار أعداء لكم ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ أي: والمقتول مؤمن فقتله مؤمن يظن أنه كافر ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ أي: فعليه ذلك.
قال عكرمة: هو الرجل يسلم في دار الحرب، فيقتل يظن أنه كافر، فليس فيه دية، وفيه الكفارة: تحرير رقبة مؤمنة.
وروي ابن القاسم عن مالك أنه قال: إنما ذلك في حرب رسول الله عليه السلام أهل مكة، يكون فيهم الرجل المؤمن لم يهاجر، وأقام معهم فيصيبه المسلمون خطأ، فليس على المسلمين فيه دية لأنه تعالى (يقول): {والذين آوَواْ ونصروا أولئك بَعْضُهُمْ
وقال ابن عباس والسدي وغيرهما: هو أن يكون الرجل مؤمناً، وقومه كفار لا عهد لهم، فيقتل خطأ، فليس لأهله دية لأنهم كفار، وعلى القاتل الكفارة تحرير رقبة، وقاله قتادة.
وقال الحسن البصري، وجابر بن زيد: هو مؤمن من قوم معاهدين، وهو قول مالك.
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: كان الرجل يسلم، ثم يأتي قومه، فيقيم فيهم، وهم مشركون، فيمر بهم الجيش لرسول الله ﷺ، فيقتل فيمن قتل فلا دية فيه، وفيه الكفارة.
وجماعة أهل التفسير على أن المعنى إن كان المقتول في دار الحرب مؤمناً، وهو من قوم كفار وهو بينهم فلا دية فيه وفيه الكفارة.
قوله: ﴿وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾.
المعنى: وإن كان المقتول خطأ بين أظهرهم من قوم كفار بينكم وبينهم عهد، ففيه الدية إلى أهله، والكفارة تحرير رقبة مؤمنة.
وقيل: المعنى: إن كان المقتول خطأ في دار قومه من قوم كفار بينكم وبينهم عهد
وقال الزهري: دية الذمي دية المسلم.
وقيل: المراد به إن كان المقتول مؤمناً قتل خطأ، وهو من قوم كفار بينكم وبينهم عهد ففيه الدية إلى قومه الكفار، وفيه تحرير الرقبة المؤمنة قاله النخعي ومثله روى ابن القاسم عن مالك أنه قال: ذلك في الهدنة التي كانت بين النبي ﷺ، وبين المشركين أنه إن أصيب مسلم كان بين أظهركم لم يهاجر وأصيب خطأ فإن ديته على المسلمين يردونها إلى قومه الذين كان بين أظهركم الكفار، ومما يبين ذلك أن أبا جندل ورجل آخر أتيا النبي ﷺ مسلمين في الهدنة، فردهما إليهم فكما كان لهم أن يردوا
وكان الطبري يختار أن يكون المقتول من أهل الذمة لأن الله سبحانه وتعالى لم يقل: " وهو مؤمن " كما قال في الأول ﴿فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ وقد قال جماعة: إن دية الذمي والمسلم سواء، وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان وابن مسعود ومعاوية. وقال عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير: دية الكتابي نصف دية المسلم، وبه قال عطاء وابن المسيب والحكم وعكرمة، وهو قول الشافعي.
وقال عمر بن عبد العزيز: دية المجوسي نصف دية المسلم.
وروى عن النخعي والشعبي والثوري أن ديته مثل دية المسلم.
قوله: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ﴾ أي: لم يجد رقبة مؤمنة لعسرته، وقلة ما في يده، فعليه صيام شهرين متتابعين.
وقال الشعبي: صوم الشهرين عن الدية والرقبة جميعاً إذا لو يجدها لفقره، وفقر عاقلته.
وقال الطبري: عن الرقبة خاصة لأن الدية على العاقلة، وهو قول جماعة العلماء.
قوله: ﴿تَوْبَةً مِّنَ الله﴾ مصدر، وقيل مفعول من أجله.
﴿وَكَانَ الله﴾ أي: لم يزل بما يصلح عباده ﴿حَكِيماً﴾ " فيما يقضي به ويأمر ".
تم الجزء الحادي عشر
قوله: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ الآية.
قوله: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً﴾ الآية.
وروى أبو هريرة: أن النبي ﷺ قال: " والله للدنيا وما فيها أهون على الله من قتل مسلم بغير حق ".
وروى عنه أيضاً أنه قال: " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوب على جبهته: آيس من رحمة الله " وعنه ﷺ أنه قال: " كل ذنب عسى [الله] أن يغفره إلا لمن مات مشركاً، أو من قتل مؤمناً متعمداً " المعنى: من يتعمد قتل مؤمن فجزاؤه جهنم.
وليس عند أكثرهم في القتل غير الخطأ أو العمد، فأما شبه العمد فليس له نص في كتاب الله، ولا تواترت به الأخبار عن النبي ﷺ...
مذهب مالك: ومن أحرق رجلاً قتل به، وهو عمد، ولو أطعمه شيئاً فقتله، وقال: لم أرد قتله إنما أردت أن أسكره، فقال مالك: يقتل، ولا يقبل منه،
وروي عن علي رضي الله عنهـ أنه قال: أما العبد فيسجن، وأما السيد فيقتل. وقال أبو هريرة: يقتل الآمر دون العبد وكذلك قال الحسن وعكرمة، وقال الشعبي يقتل العبد ويضرب السيد. وقال الشافعي: إن كان العبد أعجمياً، أو صبياً فعلى السيد القود دون العبد، وإن كان يعقل ويفهم، فعلى العبد القود، وعلى السيد العقوبة. فإن أمره رجل بقتل آخر، فقتله فعلى القاتل القود عند مالك، والشافعي، وجماعة من التابعين.
وقوله: ﴿فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خالدا فِيهَا﴾ معناه: فجزاؤه إن جازاه، قاله التميمي
وقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾
[النساء: ٤٨] يدل على جواز العفو على القاتل عمداً.
وقيل: إنها نزلت في رجل بعينه أسلم، ثم ارتد، وقتل رجلاً مؤمناً، فمعنى الآية: ومن يقتل مؤمناً متعمداً مستحلاً قتله فجزاؤه جهنم، فالكافر يقتل المؤمن مستحلاً وليس كذلك المؤمن، بل إن قتل فإنما يقتل وهو يعلم أن قتله حرام.
وقيل: نزلت في رجل من الأنصار قُتِل ولي له. وقبل الدية، ثم وثب على قاتل وليه فقتله وارتد، قال ذلك ابن جريج وغيره.
وقال مجاهد: إلا من تاب يعني ان العفو من الله جائز للقاتل عمداً إذا
وعن ابن عباس أنه لا توبة له، وأنها محكمة لم تنسخ.
وقال زيد بن ثابت: نزلت ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً﴾ الآية بعد أن نزلت
﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية بأربعة أشهر.
وقال ابن عباس: هذه الآية التي في النساء مدنية نسخت التي في الفرقان ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ﴾ [الفرقان: ٧٠] لأنها مكية.
وعن ابن عمر وزيد بن ثابت: إن للقاتل توبة وهو قول جماعة من العلماء لقوله: ﴿إِلاَّ مَن تَابَ﴾ وقوله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ﴾ [طه: ٨٠] وقوله: ﴿وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ﴾ [الشورى: ٢٣]. وروي عن ابن عباس أنه قال: التي في الفرقان نزلت في
وعن زيد بن ثابت أنه قال: نزلت سورة النساء بعد الفرقان بستة أشهر.
وكان الطبري يقول: جزاؤه جهنم حقاً، ولكن الله يعفو ويتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله، فلا يجازيه بالخلود فيها إما أن يعفو، فلا يدخلهم النار، وإما أن يدخلهم، ثم يخرجهم بفضل رحمته لقوله ﴿إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾ [الزمر: ٣٠].
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ﴾ الآية.
من قرأ بالتاء، فمعناه: فتثبتوا حتى يتبين لكم الفاسق من غيره، والمأمور بالتثبت في فسحة أوسع من المأمور بالتبيين، لأن المأمور بالتبيين قد لا يعذر على ذلك، والمأمور بالتثبت لا شك أنه يقدر على ذلك، فهو في فسحة من أمره، ومقدرة على فعل ما أمر به، وليس كذلك المأمور بالتبين لأنه قد لا يتبين له ما يريد إذا تبين، والتثبت لا يمنع عليه من نفسه.
ومن قرأ بالياء فمعناه: تبينوا الفاسق من غيره، ولا تعجلوا حتى تتبينوا، فإن العجلة من الشيطان. وقال أبو عبيدة: إحداهما قريبة من (الأخرى).
ومعنى الآية أن الله تعالى أمر المؤمنين إذا ضربوا في الأرض أي: ساروا في الجهاد أن يتثبتوا في القتل، إذا أشكل عليهم الأمر، فلم يعرفوا حقيقة إسلام من أرادوا قتله، وأن لا يقولوا لمن ألقى إليهم السلم، أي: من استسلم في أيديهم ﴿لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ ليأخذوا ما معه.
ومن قرأ السلام: فمعناه لا تقولوا لمن سلم عليكم ﴿لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ لتأخذوا ما معه، فعند الله مغانم كثيرة من رزقه، فلا يغرنكم سَلَب من استسلم في أيديكم. ﴿كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ﴾ أي: كنتم من قبل مثل هذا الذي قتلتموه، وأخذتم ماله استخفى بدينه من قومه حذراً على نفسه منهم، وكذلك كنتم.
وقيل: معناه، وكذلك كنتم كفاراً مثله، فهداكم الله وأعز دينكم، ومَنَّ عليكم
وقيل: معنى: ﴿فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ﴾ فقد مَنَّ الله عليكم بالتوبة من قتيلكم هذا الذي استسلم إليكم، ثم قتلتموه وأخذتم ماله، فتثبتوا أي: لا تعجلوا في قتل من التبس عليكم أمر إسلامه.
وقرأ أبو رجاء: السِلْم بكسر السين.
وقرأ أبو جعفر: (لست مؤمَناً) بفتح الميم أي: لسنا نؤمنك.
وهذه الآية نزلت في قتيل من غطفان اسمه مرداس كان قد أسلم، فقتلته سرية لرسول الله ﷺ بعد أن قال: إني مسلم، وقيل: بعدما سلم عليهم. وقيل: بعدما قال: إني مسلم لا إله إلا الله، وكانت معه غنيمة فأخذوها.
ويروى أن الذي قتله مات ودفن، فلفظته الأرض ثلاث مرات، يدفن وتلفظه الأرض فأمرهم النبي ﷺ أن يلقوه في غار من الغيران، وقال ﷺ: " إن الأرض تقبل من هو شر منه، ولكن الله جعله لكم عبرة ".
وحجة من قرأ السلام ما روي أنه قال لهم: إني مسلم وما روي أنه قال: إني مسلم لا إله إلا الله.
قوله: ﴿[إِنَّ الله] كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ أي: خبيراً بما تصنعون في طلبكم الغنيمة، ولم تقبلوا منه ما قال لكم.
قوله: ﴿لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر﴾ الآية.
من قرأ: غيرَ بالنصب فعلى الاستثناء بمعنى [إلا] أولي الضرر، فإنهم يستوون مع المجاهدين، ويجوز النصب على الحال بمعنى لا يستوي القاعدون في حال صحتهم.
ومن رفع على النعت للقاعدين بمعنى لا يستوي القاعدون الأصحاء عن
وقدره أبو إسحاق: ﴿لاَّ يَسْتَوِي القاعدون﴾ الذين هم ﴿غَيْرُ أُوْلِي الضرر﴾، وهو بمعنى [الصفة] التي ذكرنا وقرأه أبو حيوة غيرِ مخفوض على النعت للمؤمنين. وقال المبرد: هو بدل لأنه نكرة والأول معرفة.
﴿دَرَجَةً﴾ نصب على البدل من قوله ﴿أَجْراً﴾.
وقيل: إن فيه معنى التأكيد كما تقول علي ألف درهم عرفاً.
ومعنى الآية: لا يعتدل من جاهد في ذات الله، ومن قعد عن ذلك، إلا أن يكون القاعدون من أولي الضرر، فإنه يستوي مع المجاهد. هذا على قراءة النصب، والنصب في الآية أحسن لما روى البراء رضي الله عنهـ أن رسول الله ﷺ قال: " " إيتوني بكتف أو لوح فكتب " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون " وعمر بن أم مكتوم خلف
وقال زيد بن ثابت: املى علي رسول الله ﷺ.
﴿ لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله﴾.
قال: فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، قال: فأنزل الله عليه، وفخذه على فخذه، فثقلت حتى خشيت أن تسترض فخده [ثم] سرى عنه فقال: ﴿غَيْرُ أُوْلِي الضرر﴾.
وهذا في غزاة بدر، وقد قال ذلك عطاء وقتادة والسدي والزهري ذكروا أن الاستثناء نزل في ابن أم مكتوم.
قوله: ﴿فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً﴾، أي: فضيلة يريد القاعدين من أولى الضرر، فضل الله المجاهدين على القاعد للضرر درجة واحدة لجهاده بنفسه وماله ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ أي: المجاهد والقاعد من أولي الضرر، وعدهم الله الحسنى، وهي الجنة لأنهم كلهم مؤمنون.
وذكر الأموال في هذا الموضع، وتفضيل الذين ينفقونها في سبيل الله يدل على تفضيل الغنى على الفقر، وهو في القرآن كثير، فلا يستوي في الفضل من أعطاه الله
وأجمع المسلمون أنهم أفضل ممن هو أفقر منهم في ذلك الوقت من الصحابة.
وحديث النبي ﷺ " إن فقراء أمتي يدخلون الجنة قبل اغنيائهم بنصف يوم من أيام الآخرة " معناه الفقراء من أصحاب النبي ﷺ يدخلون الجنة قبل الأغنياء من غير أصحاب محمد ﷺ لفضل الصحابة لا للفقر.
ويدل على ذلك ما " روي عن رسول الله ﷺ أنه سئل: من أول الناس وروداً الحوض؟ فقال: " نفر من المهاجرين الشعثة رؤوسهم الدنسة ثيابهم، الذين لا
قوله: ﴿وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً﴾ يعني: على القاعدين من المؤمنين من غير أولي الضرر.
وقوله: و " درجات منه " أي فضائل منه، ومنازل من منازل الكرامة.
وقال قتادة: الدرجات كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الإسلام درجة، والقتل في الجهاد درجة.
وقال [ابن] زيد: الدرجات التي فضل بها المجاهد على القاعد تسع، وهي التي ذكرها الله تعالى في براءة، قوله: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ [التوبة: ١٢٠]. فذلك خمسة، والسادسة والسابعة قوله تعالى: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: ١٢١].
وقيل الدرجات: سبعون درجة ما بين الدرجتين حضر الفرس الجواد
قوله: ﴿إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ﴾ الآية.
المعنى: إن الذين تقبض الملائكة أرواحهم ظالمين أنفسهم أي مكتسبين غضب الله تعالى وسخطه ﴿قَالُواْ﴾: أي: قال لهم الملائكة ﴿فِيمَ كُنتُمْ﴾ أي: أي شيء كنتم من دينكم؟
وقيل المعنى: قالت لهم الملائكة: أكنتم في المشركين، أم في أصحاب النبي ﷺ؟ فأجابوا الملائكة بأن قالوا: ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ﴾ في أرضنا بكثرة العدو، وقوته قالت لهم الملائكة، ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾ أي: تخرجوا من بين أظهر المشركين إلى أرض الإيمان.
﴿فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ أي: هؤلاء الذين هذه صفتهم مصيرهم إلى جهنم وهي سكناهم ﴿وَسَآءَتْ مَصِيراً﴾ أي: ساءت جهنم مصيراً لأهلها.
وروي أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا أسلموا والنبي ﷺ بمكة، فلما هاجر النبي عليه السلام أقاموا بمكة، فمنهم من ارتد إلى الشرك فتنه أبوه وعشيرته حتى ارتد، ومنهم من بقي على حاله.
فلما خرج المشركون لنصرة غيرهم إلى بدر خرجوا مع المشركين، وقالوا إن
فلما التقوا بالنبي ﷺ، في بدر نظروه في قلة فبقوا في قومهم فقتلوا، فتوفتهم الملائكة ظالمي أنفسهم، فاعتذروا بأنهم استضعفوا بمكة، ثم استثنى فقال: ﴿إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان﴾ وهو من عجز عن الهجرة، ولا طاقة له بالخروج قد استضعفهم المشركون ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾ أي لا يعرفون طريقاً يخلصهم من المشركين، لا قوة لهم ولا معرفة طريق ﴿فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ [عَنْهُمْ]﴾ أي إن هؤلاء المستضعفين لعل الله أن يعفو عنهم للعذر الذي هم فيه وهم مؤمنون.
﴿وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً﴾ أي: بعباده قبل أن يخلقهم ومعناه: لم يزل كذلك.
وقيل: إن (كان) من الله بمنزلة ما في الحال. فالمعنى والله عفو غفور.
وروي أن هاتين الآيتين، والتي بعدهما نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا، وآمنوا، وتخلفوا عن الهجرة مع النبي ﷺ حين هاجر، وعرض بعضهم على الفتنة فافتتن، وشهد مع المشركين حرب المؤمنين، فلم يقبل الله تعالى معذرتهم وقولهم
وقال ابن عباس: كان قوم من أهل مكة أسلموا وأخفوا الإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم لقتال المسلمين، فأصيب بعضهم فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا فاستغفروا لهم، فأنزل الله تعالى: ﴿ إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية فكتب المسلمون إلى من بقي بمكة: ألا عذر لهم بهذه الآية، فخرجوا من مكة فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة فنزلت فيهم
﴿وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله﴾ [العنكبوت: ١٠] فكتب بها المسلمون إليهم، فخرجوا، ويئسوا من كل خبر فنزل فيهم ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ﴾ [النحل: ١١٠] الآية، فكتبوا إليهم بذلك إن الله قد جعل لكم مخرجاً، فخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل.
ومعنى: ﴿المستضعفين مِنَ الرجال﴾ يعني الشيخ الكبير.
قال السدي: " لما أسر العباس، وعقيل قال رسول الله ﷺ للعباس: " افْدِ
قال ابن عباس: كنت أنا من الولدان.
وروى عنه أنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين.
قال السدي: الحلية المال، والسبيل الطريق إلى المدينة.
قوله: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الآية.
المعنى أن من يفارق أرض الشرك، ويمضي إلى أرض الإسلام فإنه يجد مذهباً، ومسلكاً إلى أرض الإسلام، فالمراغم: المذهب.
قال مالك: المراغم الذهاب في الأرض، والسعة سعة البلاد.
قال مالك: لا ينبغي المقام في أرض يسب فيها السلف، ويعمل فيها بغير الحق، والله يقول: ﴿يَجِدْ فِي الأرض مراغما كَثِيراً وَسَعَةً﴾.
وقال ابن عباس: المراغم: المتجول من أرض إلى أرض.
وقال مجاهد: المراغم: المندوحة عما يكره.
وقال ابن زيد: المراغم: المهاجر.
وقال أهل اللغة: المراغم: المضطرب والمذهب.
قوله: ﴿وَسَعَةً﴾ يريد سعة في الرزق.
وقال قتادة: " وسعة " أي " سعة من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى.
والمراغم: مشتق من الرغام وهو التراب، يقال: رغم أنف فلان: إذا ألصق بالتراب، يستعار ذلك لمن ذل وصغر. يقال راغمت فلاناً: إذا عاديته. فسمي المهاجر مراغماً، لأن المهاجر يعادي من يخرج عنه من أهل الكفر.
وقوله: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً﴾ الآية.
المعنى: إنه لما نزل ﴿إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية.
وقيل: اسم أبيه جندب، وقيل زنباع، وقيل العيص.
وقال ابن زيد: هو رجل من بني كنانة هاجر إلى النبي ﷺ من مكة، فمات في الطريق، فسخر به قومه واستهزءوا وقالوا: لا هو بلغ الذي يريد، ولا هو أقام في أهله يقومون عليه، فأنزل الله ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ﴾ الآية.
ومعنى: ﴿وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله﴾ قال ابن جبير: هو رجل من خزاعة يقال له ضمرة بن العيص، أو العيص بن ضمرة بن زنباع، كان مريضاً فأمر أهله أن يحملوه إلى رسول الله ﷺ على سرير ففعلوا، فأتاه الموت بالتنعيم فنزلت فيه الآية وفي من كان مثله.
وقيل: نزلت في رجل من كنانة من بني ضمرة مرض بمكة بعد إسلامه،
وبهذه الآية أوجب العلماء للغازي إذا خرج للغزو ثم مات قبل القتال أن يعطى سهمه، وإن لم يشهد الحرب وذلك مذهب أهل المدينة فيما ذكر يزيد بن [أبي] حبيب، ذكر ابن المبارك عن ابن لهيعة عن يزيد.
قوله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ الآية.
فقوله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة﴾ في الإقصار في السفر، وتم الكلام عند قوله: ﴿مِنَ الصلاة﴾.
ثم ابتدأ قصة أخرى في إباحة صلاة الخوف وصفتها.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ سأل قوم رسول الله ﷺ: فقالوا يا رسول الله: أنضرب الأرض؟ أي: نسير، فأنزل الله تعالى ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة﴾ ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول وغزا النبي ﷺ فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم هو وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل: إن لهم أخرى مثلها في أثرها، فأنزل الله تعالى ﴿ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا﴾ - إلى قوله - ﴿عَذَاباً مُّهِيناً﴾ فنزلت صلاة الخوف بكيفيتها.
وقال ابن عباس: معنى القصر هنا هو أن يقصروا من ركوعها وسجودها في حال الخوف، ويصلي كيف ما أمكن إلى القبلة وإلى غيرها ماشياً أو راكباً، كما قال: ﴿فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً﴾ [البقرة: ٢٣٩] وهو اختيار الطبري، قال: ودليله قوله ﴿فَإِذَا اطمأننتم﴾ وإقامتها إتمام ركوعها وسجودها، وفرائضها من قبلة وغيرها.
فقد قال جماعة من التابعين والصحابة منهم: حذيفة وجابر بن عبد الله وابن
وقرأ أبي بن كعب " أن تقصُروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا " بحذف ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ على معنى كراهة أن يفتنكم.
وروي عن عائشة أنها قالت: أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما أتى النبي ﷺ المدينة صلى إلى كل صلاة مثلها إلا صلاة المغرب فإنها وتر، وإلا صلاة الصبح لطول قراءتها، فكان رسول الله ﷺ إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى ركعتين.
قال ابن عباس: من صلى في السفر أربعاً كمن صلى في الحضر ركعتين.
قال ابن القاسم: في الوقت يعيد.
وقال أصحاب الرأي: إذا صلى المسافر أربعاً، فقعد في الثانية قدر التشهد فصلاته تامة، وإن لم يقعد قدر التشهد، فصلاته فاسدة وقال الشافعي وأبو ثور: المسافر بالخيار في الإتمام والقصر.
قوله: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ﴾ الآية.
المعنى: وإذا كنت يا محمد في الضاربين في الأرض من أصحابك، وثم خوف من عدو فأقمت لهم الصلاة ﴿فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ [مِّنْهُمْ]﴾ معك في الصلاة وباقيهم في وجاه العدو ﴿وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾ أي: ولتأخذ الطائفة المصلية معك أسلحتهم من سيف يتقلد به الرجل، وخنجر يشده إلى وسطه، ودرع يلقيه على نفسه (ونحوه).
وقال ابن عباس: الطائفة المأمورة بأخذ السلاح التي وجاه العدو، وليست المصلية، لأن المصلي لا يحارب.
قوله: ﴿فَإِذَا سَجَدُواْ﴾ أي: سجد الذين معك " ﴿فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ﴾ أي: فلينصرفوا بعد سجودهم خلفكم في موضع الذين لم يصلوا.
فمن قال إن صلاة الخوف ركعة قال: ينصرفون بسلام فيقفون بإزاء العدو ولا قضاء عليهم، وتأتي طائفة أخرى فيصلي بهم ركعة ويسلمون بسلام الإمام، ولا قضاء عليهم، وكذلك وصف حذيفة أنه صلى مع النبي ﷺ ركعة بكل طائفة، ولم يقضوا شيئاً.
وقد روى عن جابر بن عبد الله، وعمر وابن عمر أن الركعتين ليستا بقصر.
وروي عن جابر أنه قال: ليست الركعتان في السفر بقصر إنما القصر واحدة عن القتال وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة وحماد في شدة الحرب قالوا: يؤمنون بها.
وقال الضحاك: فإن لم يقدروا يكبروا تكبيرتين حيث كان وجهه.
وروى الزهرى عن سالم عن ابن عمر أنهم يصلون ركعتين كيفما تيسر، وحيثما
وصفة ذلك أن يقوم الإمام بطائفة، والأخرى وجاء العدو، فيركع بالطائفة التي معه، ركعة بسجدتيها ثم يقوم ويثبت قائماً ويتمون لأنفسهم الركعة الثانية. ثم يسلمون وينصرفون وجاه العدو والإمام قائم وتأتي الطائفة الأخرى فيكبرون مع الإمام ويركع بهم الركعة الأخرى بسجدتيها ثم يسلم، ويقومون فيأتون بركعتهم لأنفسهم بسجدتيها، ثم يسلمون وفيها أقوال غير ما ذكرنا.
ولا يصلي صلاة الخوف إلا من كان في سفر عند مالك.
فأما الخائفون في الحضر فإنهم يصلون أربعاً على سنة صلاة الخوف إذا خافوا العدو، ويصلى الإمام في الخوف لأهل الحضر والسفر المغرب بالطائفة الأولى ركعتين ثم يتشهد بهم، ويثبت قائماً. ويتمون لأنفسهم ويسلمون، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة ويتشهد ويسلم، ويقومون هم لتمام ما بقي عليهم، ويقرأون فيما يقضون بأم القرآن وسوره.
وفي حديث ابن القاسم أنه يسلم ويقومون يتمون ما بقي عليهم، وإليه رجع مالك، وقد كان يقول بحديث يزيد بن رومان ثم رجع عنه لحديث القاسم.
فإن سها الإمام بنقص سجدت الطائفة الأولى قبل السلام بعد قضاء ما عليها، وإن زاد سجدت بع السلام، والإمام قائم لا يسجد، فإذا أتت الطائفة الأخرى صلى بهم الركعة الباقية.
فعلى حديث القاسم يسجد ويسلم إن كان نقصاً، ولا يسجدون حتى يتموا لأنفسهم. وسجدوا بع السلام إن كان زيادة، ويسجدون هم أيضاً إذا أتموا، وعلى قول ابن رومان يثبت حتى يتموا لأنفسهم ثم يسجد بهم، ويسلم أو يسلم ويسجد.
قوله: ﴿وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً﴾ الآية.
معناها: تمنى الكافرون [لو] تشتغلون بصلاتكم عن سلاحكم وأمتعتكم
قوله: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾ الآية.
(أي: ليس عليكم إثم إن نالكم ضرر من مطر، وأنتم وجاه العدو، وإن كنتم مرضى أي: جرحى أو أعلاه، ﴿أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾ أي: ضعفتم عن التمادي في حملها فأباح تعالى للمؤمنين أن يضعوا السلاح إذا وجدوا ضرراً في حملها، ولكن حذرهم عند وضعها فقال: ﴿خُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾ لئلا يميلوا عليكم وأنتم غير مسلحين غافلين.
وأصل الجناح: العدل، ومنه جناح الطائر لأنه غير معتدل والإثم غير مستو فسمي به.
قوله: ﴿عَذَاباً مُّهِيناً﴾ أي مذلاً.
وذكر ابن عباس أن قوله ﴿أَوْ كُنتُمْ مرضى﴾ نزل في عبد الرحمن بن عوف كان جريحاً.
قوله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة...﴾ الآية.
المعنى: إن الله تعالى أمرهم بذكره بعد الفرائض من الصلاة التي قد بينها لهم
قوله: ﴿فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة﴾ [أي: فإذا سكن خوفكم، فأقيموا الصلاة] بتمامها في أوقاتها كما فرضت عليكم.
فالمعنى: عند من جعل القصر في صلاة الخوف هو النقص من تمام السجود والركوع لا من العدد: فإذا أمنتم في سفركم، فأتموا الركوع والسجود، قاله السدي وهو اختيار الطبري.
والمعنى عند من لم ير ذلك: فإذا اطمأننتم في أمصاركم ودوركم، فأقيموا الصلاة التي أمرتم أن تقصروها في حال خوفكم وسفركم، قال ذلك مجاهد وقتادة.
وقال ابن يزيد: المعنى: فإذا اطمأننتم من عدوكم فصلوا الصلاة، ولا تصلوها ركباناً، ولا مشاة ولا جلوساً فهو إقامتها.
قوله: ﴿كتابا مَّوْقُوتاً﴾ أي: فريضة مفروضة قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وقال قتادة: ﴿كتابا مَّوْقُوتاً﴾ منجماً يؤديها في أنجمها أي: في أوقاتها.
وقيل: معنى ﴿مَّوْقُوتاً﴾ محتوماً لا بد من أدائها بتمامها في أوقاتها.
وقال ابن زيد بن أسلم: " كتاباً موقتاً " أي منجماً. كلما [مضى] نجم أي: كلما [مضى] وقت جاء وقت.
وروي عن النبي ﷺ قال: " ليس بين العبد والكافر إلا ترك الصلاة ".
وقال: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر ".
وقال النخعي وابن المبارك وأحمد وإسحاق: من ترك الصلاة عامداً حتى خرج وقتها بغير [عذر] فهو كافر، ويستتاب فإن تاب وإلا قتل، ولم يسمعه مالك كافراً، ولكن قال: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك قال الشافعي.
وروي أنه يستتاب ثلاثاً فإن صلى وإلا قتل.
وقال الزهري: يضرب ويسجن إلا أن يكون ابتدع ديناً غير دين الإسلام، فإنه
قوله: ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم إِن تَكُونُواْ...﴾ الآية.
قرأ عبد الرحمن الأعرج: أن تكونوا تالمون بفتح إن على معنى لأن تكونوا أي: لا تهنوا من [أجل] ألمكم، ، أي لا تضعفوا عن عدوكم من أجل ما أصابكم من الجراح، والتعب فإنهم قد أصابهم مثل ما أصابكم، ولكم عليهم فضيلة، وهي أنكم ترجون من الله الجنة في الآخرة، والأجر والخلاص من النار، وترجون الغنيمة في الدنيا وهم لا يرجون جنة ولا أجراً، ولا يأمنون من عذاب، فأنتم أيها المؤمنون أولى ألا تضعفوا وأن تصبروا على عدوكم.
وقيل: معنى ترجون هنا: تخافون.
والرجاء هنا بمعنى الأمل أحسن وأقوم.
ومعنى: ﴿ابتغآء القوم﴾ في طلبهم.
فقال عكرمة نزلت يوم أحد ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾ [آل عمران: ١٤٠] ونزلت ﴿إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ﴾.
قال ابن عباس: " لما صعد رسول الله ﷺ يوم أحد الجبل جاء أبو سفيان فقال: يا محمد: ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ الحرب سجال، يوم لما ويوم لكم، فقال رسول الله ﷺ: " أجيبوا- "، فقالوا: لا سواء، لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: عزى لنا ولا عزى لكم، فقال رسول الله ﷺ قولوا: إن الله مولانا ولا مولى لكم.
قال أبو سفيان: موعدنا وموعدكم بدر الصغرى، وكان بالمسلمين جراح. فقاموا وبهم الجراح.
قوله: ﴿وَكَانَ الله عَلِيماً﴾ أي: لم يزل عالماً بمصالح خلقه. ﴿حَكِيماً﴾ أي: حكيماً في تدبيره وتقديره.
قوله: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله﴾ الآية.
المعنى: إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله﴾ أي: بما أنزلنا إليك من كتابه ﴿وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً﴾ أي: لا تكن لمن خان مسلماً أو معاهداً خصيماً.
وقد كثرت الروايات في السبب التي نزلت فيه هذه الآية. غير أنها، وإن اختلفت ألفاظها ترجع إلى معنى واحد.
واختصار القصة أن رجلاً من الأنصار اسمه: طعمة بن أبيرق وكان منافقاً، سرق درعاً لعمة كانت عنده وديعة، فلما أن خاف أن يعرف فيه قذفها على يهودي، وأخبر بني عمه بذلك فجاء اليهودي إلى رسول الله ﷺ يخبره بالدرع، وقال: والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت علي، فلما رأوا ذلك بنو عم طعمة جاءوا إلى
وقيل: إن رسول الله ﷺ برأه بقولهم على رؤوس الناس.
فقال الله تعالى: ﴿ استغفر الله﴾ أي: مما هممت به، ومما فعلته ﴿وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ يريد طعمة ومن أعانه وهو يعلم بسرقته.
وقال السدي: بل الخيانة التي ذكرها الله تعالى هي وديعة كان قد استودعها يهودي عند طعمة بن أبيرق وهي درع، فأخفاها طعمة، وجحدها، ثم رماها في دار رجل آخر من اليهود. فأتى اليهودي إلى النبي ﷺ فأخبره أنها رميت في داره.
وروي أن طعمة قال لليهودي صاحب الدرع: إنك إنما استودعت درعك عند فلان، وأنا أشهد لك عليه، ثم ألقى طعمة الدرع في دار ذلك الرجل الذي يريد أن يشهد عليه فجادل الأنصار عن طعمة أنه لم يفعل شيئاً، وأتوا النبي ﷺ، فقالوا: يا رسول الله، جادل عن طعمة وأكذب اليهودي، فهم النبي ﷺ أن يفعل فأنزل الله تعالى ﴿ وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ إلى رأس ثلاث آيات.
قال ابن جريج: فهذه الآيات كلها فيه نزلت.
ومعنى: ﴿يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: يُخوِّنونها، أي: يجعلونها خونة أي: يلزمون الخيانة.
﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً﴾ أي: لا يحب من كانت هذه صفته.
قوله: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس﴾ أي يخفون أمر خيانتهم من الناس الذين لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً.
و ﴿وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله﴾ الذي هو مطلع عليهم، ويعلم ما تخفون فهو أحق أن
وقيل: يبيتون " يبدلون، وقيل يؤلفون ".
وهذا كله في الرهط الذي مشوا إلى النبي ﷺ في شأن طعمة يبرئونه وهم يعلمون أنه سارق الدرع.
وعن ابن عباس: " أن طعمة دفن الدرع فأتي جبريل النبي ﷺ، فقال له: إذا غَدوت من منزلك، فإنك سترى أثراً بيناً، فاتبعه حتى إذا انقطع، فأمر من يحفر، فإن الدرع مدفون ففعل النبي ﷺ ذلك، فاستخرج الدرع، وقال النبي ﷺ: " إنما أنا بشر فمن كان ألحن بحجته من صاحبه فقضيت له بحق ليس له، فإنما أقطع له قطعة من النار: وهرب المنافق إلى مكة ".
قوله: ﴿وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً﴾ أي لم يزل محيطاً بما يصنعون وما يبيتون لها، لا يخفى عليه شيء منها حتى يجازيهم بها.
قوله: ﴿هَا أَنْتُمْ هؤلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا﴾ الآية.
﴿أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾.
﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾ [التوبة: ١١٠].
﴿أَم مَّنْ خَلَقْنَآ﴾ [الصافات: ١١].
﴿أَم مَّن يأتي آمِناً﴾ [فصلت: ٣٩].
وسائره في القرآن " أمَّن " غير منفصل والانفصال هو الأصل، والاتصال استخفاف إذ وجب الأدغام، والمدغم بمنزلة حرف واحد فكتب على ذلك.
و" هؤلاء " بمعنى الذين خبروا الابتداء.
والمعنى أنتم الذين جادلتم عنهم أي: عن بني أبيرق في الحياة الدنيا ﴿فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي: فمن يخاصم الله في الآخرة؟ " أم من يكون عليهم وكيلاً "؟ أي من ذا الذي يتوكل لها، ولا الخائنين يوم القيامة في خصومتهم بين يدي ربهم، الذي يعلم الغيوب، ولا يستر عليه شيء مما بيتم وما صنعتم.
قوله: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ الآية.
هذه الآية نزلت في الذين يختانون أنفسهم الذين ذكرهم الله أولاً [و] أخبر أنه من عمل سوءاً [أ] وذنباً أو ظلم نفسه بأن ألزمها ما يستحق عليه العقوبة ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله﴾ أي: يستدعي المغفرة من الله فإنه يجد الله غفوراً لذنبه، رحيماً به، وهي عامة في كل من أصاب ذنباً.
المعنى: من يكسب ذنباً فإنما وباله على نفسه دون غيره، فالمعنى، لا تجادلوا عن من اختان نفسه، فإن من كسب ذنباً فإنما هو راجع عليه ﴿وَكَانَ الله عَلِيماً﴾ أي: عالماً بما تصنعون أيها المجادلون وجميع خلقه.
و ﴿حَكِيماً﴾ بسياستكم وجميع خلقه.
قوله: ﴿وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً﴾ الآية.
الخطيئة ما أتاه الإنسان [من ذنب] متعمداً، وغير متعمد والإثم ما أتاه متعمداً فقط. ومن أجل ذلك فصل بينهما في الاكتساب.
فالمعنى: ومن يكسب خطيئة على غير عقد منه لها، أو إثماً على عمد منه، ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً﴾ أي يضيف ذلك إلى بريء ﴿فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً﴾ أي تحمل بفعله ذلك فرية وكذباً وإِثْماً عَظِيماً.
وقيل: إن الخطيئة والإثم واحد، ولكن لما اختلف اللفظان جاز.
وقيل: إن الخطيئة هي الصغيرة، والإثم في الكبيرة ولذلك انفصلا.
وقال أبو إسحاق: سمى الله تعالى بعض المعاصي خطايا، وسمى بعضاً إثماً فأعلم أن من اكتسب معصية تسمى خطيئة، أو كسب معصية تسمى إثماً، ثم رمى
والبهتان: الكذب.
وهذا نزل في شأن طعمة وما رمى به اليهودي أو غيره من سرقة الدروع، والهاء في " به " تعود على الإثم، ولا يجوز أن تعود على الإثم والخطيئة، لأنها بمعنى الجرم والذنب، ولأن الأفعال، وإن اختلفت العبارات منها فهي راجعة، إلى معنى واحد، فرجعت الهاء على ذلك، هذا قول من قال: لما اختلف اللفظان جاز أن يكررا، والمعنى فيهما سواء.
ويجوز أن تعود على الخطيئة لأنها بمعنى الذنب.
وقيل: تعود على الكسب [ودب] عليه يكسب.
وقوله: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ﴾.
المعنى: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾ بأن نبهك على الحق، وعصمك بتوفيقه، وبين لك من الخائن ﴿لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ﴾ بمساعدتهم، فتبرئ طعمة من سرقة الدروع على رؤوس الملأ، وتلحقها باليهودي لأنهم سألوه في ذلك، فهم به حتى نزلت عليه الآية، ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ﴾ أي ليس يضرك هؤلاء الخائنون شيئاً، إنما يضلون أنفسهم ويضرونها.
المعنى :( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ) بأن نبهك على الحق، وعصمك بتوفيقه، وبين لك من الخائن ( لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مِّنْهُمُ أَنْ يُّضِلُّوكَ ) بمساعدتهم، فتبرئ طعمة من سرقة الدروع على رؤوس الملأ، وتلحقها باليهودي لأنهم سألوه في ذلك، فهم به حتى نزلت عليه الآية، ( وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ) أي ليس يضرك هؤلاء الخائنون شيئاً، إنما يضلون أنفسهم ويضرونها.
المعنى: لا خير في كثير من نجوى المتناجين من الناس إلا في من أمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاح بين الناس، فإن أولئك فيهم الخير، فنجوى على هذا اسم للناس المتناجين.
والصدقة: معروف.
وقوله: ﴿أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ هو جميع فعل الخير غير الصدقة.
وقد قيل: المعروف في هذا: القرض يقرضه الإنسان المحتاج فقد أتى: " أن القرض كالصدقة " وأن فيه أجراً عظيماً.
وقيل: المعنى: لا خير في كثير من نجوى الناس إلا في نجوى من أمر بصدقة.
فتكون على القول الأول النجوى هم الناس، ولكنه خرج على جمع جرحى،
قوله: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى...﴾ الآية.
المعنى: من يباين الرسول من بعدما تبين له أنه رسول الله ﷺ، وأن ما جاء به الحق ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين﴾ أي غير طريقهم، ومنهاجهم، وهو التصديق بمحمد ﷺ وبما [جاء به] ﴿نُوَلِّهِ مَا تولى﴾ أي: نجعل ناصره من استنصر به واستعان به الأوثان والأصنام.
وقال مجاهد: ﴿نُوَلِّهِ مَا تولى﴾: نتركه وما يعبد.
وقيل: نتركه واختياره.
﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ أي نجزه بها.
﴿وَسَآءَتْ مَصِيراً﴾ أي ساءت جهنم مصيراً، وهو الموضع الذي يصير إليه.
" وجهنم ": في قول بعض اللغويين اسم مختلق للنار، لا يعرف له اشتقاق، ومُنِع من الصرف للتعريف والعجمة.
وقال أكثرهم: هو اسم عربي مشتق من قول العرب: هذه رِكية جهنام: إذا كانت بعيدة القعر، فسميت النار جهنم لبعد قعرها، ومنعت من الصرف على هذا القول للتعريف والتأنيث.
ولما مات ابن الأبيرق مقتولاً من أجل السرق الذي سرق بعد ارتداده، أنزل الله تعالى ﴿ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ إلى قوله: ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾ معناه: إن الله لا يغفر لطعمة إذ أشرك به، ومات على شركه، ولا لمن هو مثله، ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ﴾ يعني أن طعمة لولا أنه أشرك ومات على شركه لكان في مشيئة الله سبحانه على ما سلف من
﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله﴾ أي: من يجعل له في عبادته شريكاً فقد ذهب عن طريق الحق، وزال عن قصد السبيل ذهاباً بعيداً.
قوله: ﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً...﴾ الآية.
المعنى: إن الله أخبر عما يعبد الذين ذهب إليهم طعمة، وصار على دينهم وهم كفار قريش.
ومعنى: ﴿إناثا﴾ اللات والعزى ومناة ونائلة، فسمى هذا إناثاً لأن المشركين سموها بأسماء الإناث، قاله السدي وابن زيد.
وقال الحسن: الإناث هنا. المرأة حجر أو خشب.
وقال الضحاك: قوله: ﴿إناثا﴾ هو أن المشركين كانوا يَدَّعون أن الملائكة بنات الله تعالى الله أن يكون له ولد.
وقيل: إنهم كانوا يقولون لأصنامهم أنثى بني فلان، فأنزل الله ذلك كذلك على نحو تسميتهم لها.
وقال مجاهد: ﴿إناثا﴾ أي إلا أوثاناً. وفي مصحف عائشة إلا أوثاناً.
وكان ابن عباس يقرأ [أُثُنا] جمع [وثن وأصل الهمزة على هذا واو مثل
قوله: ﴿وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً﴾ أي ما يدعون إلا شيطاناً متمرداً على الله سبحانه، والمتمرد الخارج عن الخير.
والمريد: العاتي ﴿لَّعَنَهُ الله﴾ أي قد لعنه الله أي: أخزاه وأبعده من كل خير.
وقال ﴿لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾ أي معلوماً. قال الشيطان إذ لعنه الله: لأتخذن منهم بإغوائي إياهم عن طريق الحق نصيباً مفروضاً، أي: معلوماً، وقال الشيطان أيضاً: ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ﴾ أي: عن الحق إلى الكفر ﴿وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ أي ولأزيغنهم بما أجعله في نفوسهم من الأماني عن طاعتك (و) توحيدك إلى طاعتي.
وقيل: المعنى: أمنيهم طول الحياة وتأخير التوبة مع الإصرار على المعاصي.
﴿وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام﴾ أي: لآمرنهم أن يشرعوا غير ما شرعت لهم
والبَحيرة كانت عندهم: الشاة أو الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن شقوا آذانها، ولم ينتفعوا بها.
والبتك: القطع.
﴿وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ الآية.
(قيل: إخصاء البهائم، قاله عكرمة وسفيان).
وقال ابن عباس: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ دين الله، قاله مجاهد. وروي عن قتادة والحسن والضحاك ﴿خَلْقَ الله﴾ الفطرة دين الله.
وقيل: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ هو: الوشم.
وقيل: معنى: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ هو أن الله خلق الشمس والقمر، والحجارة
وكان الطبري يختار قول من قال: المعنى دين الله، لقول الله تبارك وتعالى: ﴿فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا﴾ [الروم: ٣٠] وقوله ﴿لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ [الله]﴾ [الروم: ٣٠] أي: دينه يدل عليه قوله: ﴿ذَلِكَ الدين القيم﴾ [الروم: ٣٠].
قوله: ﴿وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مِّن دُونِ الله﴾ أي: يطيعه في معصية الله سبحانه ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً﴾ أي: هلك هلاكاً ظاهراً.
وقوله: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ﴾ أي: يعد أولياءه، ويمنيهم الظفر [على] من حاول خلافهم ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً﴾ أي: باطلاً لأنه يقول لهم يوم القيامة ﴿إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ..﴾ [إبراهيم: ٢٤] الآية.
وقيل معنى: ﴿يَعِدُهُمْ﴾ أي: يعدهم الرياسة والجاه والمال.
قوله: ﴿فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً﴾ أي: أولئك الذين اتخذوا الشيطان ولياً ﴿مَأْوَاهُمْ﴾ أي: مصيرهم إليها ﴿جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً﴾ أي: لا يجدون عن جهنم إذا
يقال: حاص فلان عن الأمر إذا عدل عنه وحاد.
وحكى جاص بالجيم والصد المعجمة بمعنى جاص في الكلام لا في القرآن.
قوله: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي﴾ الآية.
المعنى: إن الله يدخل المؤمنين جنات تجري من تحتها الأنهار وعداً حقاً لا كعدة الشيطان لأوليائه، وتمنيه الذي هو غرور ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً﴾ أي: لا أحد أصدق منه قيلاً والقول والقيل سواء.
وقيل: تمام إن جعلت قوله: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ مخاطبة للمسلمين، مقطوعاً عما قبله وإن جعلته مخاطبة للكفار الذي تقدم ذكرهم لم يكن ﴿قِيلاً﴾ تمام وكان قطعاً.
قوله: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ﴾ الآية.
قال مسروق: تفاخر النصارى والمسلمون، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم.
ثم أفلح الله تعالى حجة المؤمنين فقال: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة﴾ ثم زاد في الفضل فقال: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ الآية.
وقال قتادة: تفاخر المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أحق بالله منكم، وقال المسلمون: نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فأنزل الله ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ الآية.
أي: ليس ذلك الي قلتم بأمانيكم ففي ليس اسمها في جميع هذه الأقوال.
﴿مَن يَعْمَلْ سواءا﴾ ابتداء شرط، وجوابه خبره وهو: ﴿يُجْزَ بِهِ﴾.
وقال الضحاك: تخاصم أهل الأديان: اليهود والنصارى والمسلمون فأنزل الله ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ الآية.
وقال مجاهد: عنى بذلك أهل الشرك من عبدة الأوثان، قالوا: لن نبعث ولن نعذب، وقالت اليهود والنصارى ﴿لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١١١].
فأنزل الله ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ يعني المشركين في قولهم: لن نبعث ولن نعذب.
والمعنى: ليس الكائن من أمركم بما تتمنون يا أهل الشرك ولا بما يتمنى أهل الكتاب، وهو اليهود والنصارى بل ﴿مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ﴾.
وقيل: التقدير: ليس ثواب الله بأمانيكم لأنه قد جرى ذكر ذلك في قوله: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ﴾ الآية ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ أي: مقدار النقير وهو النقطة في ظهر النواة وهي منبت النخلة.
وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله: ﴿مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ﴾ ذلك ما يصيبهم في الدنيا، وقاله مجاهد وغيره.
وقال الحسن: ﴿مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ﴾ الكافر وقرأ ﴿وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور﴾ [سبأ: ١٧]، وقال في قوله ﴿لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ﴾ [النجم: ٣١]: " هِمُ الكُفَّارَ " ﴿وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى﴾ [النجم: ٣١] قال: كانت والله لهم ذنوب، ولكنه غفرها لهم، ولم يجازهم بها.
وقال ابن زيد: يعني المشركين يريد بالآية قال: وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم
وقال الضحاك: ﴿مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ﴾ يعني بذلك اليهود والنصارى، والمجوس وكفار العرب.
قوله: ﴿وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾.
وروي أن هذه الآية لما نزلت قال أبو بكر الصديق رضي الله عنهـ: " يا رسول الله: وإن لمجزون بأعمالنا؟ قال رسول الله ﷺ: " أما المؤمن فيجزى بها في الدنيا، وأما الكافر فيجزى بها يوم القيامة " ".
وقال الحسن وابن أبي كثير ﴿مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ﴾ أي يعمل شركاً يجز به بدلالة قوله: ﴿وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور﴾ وتلاها الحسن مع هذه (الاية) استشهاداً بها.
وقال ابن جبير: ﴿مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ﴾ أي: من يشرك.
قالت عائشة وأبي بن كعب: إن المعنى: من عمل سوءاً من مؤمن، أو كافر جوزي به، وهو اختيار الطبري، واحتج بما روى أبو هريرة قال: " لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين منهم ما شاء الله أن تبلغ، فشكوا ذلك إلى النبي ﷺ فقال: قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها ".
وروت عائشة عن أبي بكر رضي الله عنهـ أنه قال: " لما نزلت هذه الآية: يا رسول الله ﴿مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ﴾ فقال له النبي ﷺ: " أوليس يصيبك كذا (ويصيبك كذا) فهو كفارة " ".
وقال ابن عمر: سمعت أبا بكر يقول: " سمعت النبي ﷺ يقول: ﴿مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ﴾ في الدنيا ".
وروى عن ابن أبي بكر رضي الله عنهـ أنه قال: " يا نبي الله: كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال النبي ﷺ " غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك
قال مسروق : تفاخر النصارى والمسلمون، فقال هؤلاء : نحن أفضل، وقال هؤلاء : نحن أفضل منكم.
فأنزل الله عز وجل :( لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ )( ١ ) الآية( ٢ ).
ت*
ثم أفلح الله تعالى حجة المؤمنين فقال :( وَمَنْ يَّعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ اَوُ انْثَى وَهُوَ مُومِنٌ فَأُوْلَائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ )
*ت/
ثم زاد في الفضل فقال :( وَمَنْ اَحْسَنُ دِيناً مِمَّنَ اَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ) الآية.
وقال قتادة : تفاخر المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أحق بالله منكم، وقال المسلمون : نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فأنزل الله ( لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ ) الآية( ٣ ).
أي : ليس ذلك الذي قلتم بأمانيكم ففي ليس اسمها في جميع هذه الأقوال( ٤ ).
( مَنْ يَّعْمَلْ سُوءاً ) ابتداء شرط، وجوابه خبره وهو :( يُجْزَ بِهِ ).
وقال الضحاك : تخاصم أهل الأديان : اليهود والنصارى والمسلمون فأنزل الله ( لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ) الآية( ٥ ).
وقال مجاهد : عنى بذلك أهل الشرك من عبدة الأوثان، قالوا : لن نبعث ولن نعذب( ٦ )، وقالت اليهود والنصارى ( لَنْ يَّدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً اَوْ نَصَارَى )( ٧ )( ٨ ).
فأنزل الله ( لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ) يعني المشركين في قولهم : لن نبعث ولن نعذب( ٩ ).
( وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ) يعني قولهم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ( مَنْ يَّعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) خلافاً لمن أدعى( ١٠ ) الجميع.
والمعنى : ليس الكائن من أمركم بما تتمنون يا أهل الشرك ولا بما يتمنى أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى بل ( مَنْ يَّعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ).
وقيل : التقدير : ليس ثواب الله بأمانيكم لأنه( ١١ ) قد جرى ذكر ذلك في قوله :( وَالذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ ) الآية( ١٢ ) ( وَلاَ يُظْلَمُونَ نَفِيراً ) أي : مقدار النقير وهو النقطة في ظهر النواة وهي منبت النخلة.
وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله :( مَنْ يَّعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) ذلك ما يصيبهم في الدنيا، وقاله مجاهد وغيره( ١٣ ).
وقال الحسن :( مَنْ يَّعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) الكافر وقرأ ( وَهَلْ يُجَازَى إِلاَّ الْكَفُورُ )( ١٤ )، وقال في قوله ( لِيَجْزِيَ الذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا )( ١٥ ). " هِمُ الكُفَّارُ " ( ١٦ ) ( وَيَجْزِيَ الذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى )( ١٧ ) قال : كانت والله لهم ذنوب، ولكنه غفرها لهم، ولم يجازهم( ١٨ ) بها( ١٩ ).
وقال ابن زيد : يعني المشركين يريد بالآية قال : وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم( ٢٠ ).
وقال الضحاك :( ٢١ ) ( مَنْ يَّعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) يعني بذلك اليهود والنصارى، والمجوس وكفار العرب( ٢٢ ).
قوله :( وَلاَ يَجِدْ لَهُ( ٢٣ ) مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ).
وروي أن هذه الآية لما نزلت قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : يا رسول الله : وإن لمجزون بأعمالنا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أما المؤمن فيجزى بها في الدنيا، وأما الكافر فيجزى بها يوم القيامة " ( ٢٤ ).
وقال الحسن وابن( ٢٥ ) أبي كثير( ٢٦ ) ( مَنْ يَّعْمَلْ سُوءاً يُجْزَى بِهِ ) أي يعمل شركاً يجز به بدلالة قوله :( وَهَلْ يُجَازَى إِلاَّ الْكَفُورُ ) وتلاها الحسن مع هذه ( الآية( ٢٧ ) ) استشهاداً بها( ٢٨ ).
وروى عن ابن عباس أنه قال : السوء هنا : الشرك، ومعنى( ٢٩ ) من يشرك( ٣٠ ) : يجز به( ٣١ ).
وقال ابن جبير :( مَنْ يَّعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) أي : من يشرك( ٣٢ ).
قالت عائشة وأبي بن كعب : إن المعنى : من عمل سوءاً من مؤمن، أو كافر جوزي به، وهو اختيار الطبري( ٣٣ )، واحتج بما روى أبو هريرة قال : لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين منهم ما شاء الله أن تبلغ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها( ٣٤ ).
وروت عائشة عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : لما نزلت هذه الآية : يا رسول الله ( مَنْ يَّعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" أوليس يصيبك كذا ( ويصيبك كذا( ٣٥ ) ) فهو كفارة " ( ٣٦ ).
وقال ابن عمر : سمعت أبا بكر يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( مَنْ يَّعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) في الدنيا( ٣٧ ).
وروى عن ابن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : يا نبي الله : كيف الصلاح بعد هذه الآية ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك اللاواء( ٣٨ ) ؟ فهو ما تجزون به " ( ٣٩ ).
وروي أن أبا بكر قال : لما نزلت هذه الآية، جاءت قاصمة الظهر( ٤٠ )، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنما هي المضائق في الدنيا( ٤١ ).
٢ - (أ): أهل الكتاب الله..
٣ - انظر: جامع البيان ٥/٢٨٨ والدر المنثور ٢/٦٩٣..
٤ - أضمر اسم ليس فيها، وهو ضمير يعود على ما ادعى عبدة الأوثان من أنهم لن يبعثوا، أو على ما قالت اليهود والنصارى. انظر: معاني الزجاج ٣/١١١، ومشكل الإعراب ١/٢٠٨..
٥ - انظر: جامع البيان ٥/٢٨٩، والدر المنثور ٢/٦٩٤..
٦ - (أ): لن بعث ولن تعذب..
٧ - البقرة آية ١١٠..
٨ - انظر: تفسير مجاهد ١/١٧٥..
٩ - انظر: جامع البيان ٥/٢٨٠، وأسباب النزول ١٠٣ ولباب النقول: ٨٣..
١٠ - (ج): أدى..
١١ - (د): الآية..
١٢ - انظر: هذا التوجيه في معاني الزجاج ٢/١١١..
١٣ - انظر: جامع البيان ٥/٢٩٢، والدر المنثور ٢/٦٩٧..
١٤ - سبأ آية ١٧..
١٥ - ساقط من (د)..
١٦ - ساقط من (ج)..
١٧ - النجم آية ٣١..
١٨ - (أ): ولم يجازيهم وهو خطأ..
١٩ - انظر: جامع البيان ٥/٢٩٢..
٢٠ - في قوله ابن زيد تقديم وتأخير أبهم معناها وهي عند الطبري هكذا وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم، ولم يعد أولئك –يعني المشركين- جامع البيان ٥/٢٩٣..
٢١ - ساقط من (د)..
٢٢ - انظر: إعراب النحاس ١/٤٥٦..
٢٣ - في كل النسخ لهم وهو خطأ مخالف مما هو مثبت في المصحف..
٢٤ - خرجه الترمذي في كتاب التفسير ٤/٣١٥ بلفظ قريب منه وقال: هذا حيث غريب، وفي إسناده مقال: [فهو ضعيف] [المدقق]..
٢٥ - (ج) (د): محمد بن أبي كثير وهو خطأ..
٢٦ - واسمه يحيى بن أبي كثير الطائي اليماني توفي ١٢٩-١٣٢، عالم بحديث أهل المدينة وروى له الستة وذكره ابن حبان في الثقات. انظر: تاريخ الثقات ٤٧٥، وتاريخ أسماء الثقات ٣٥٤ وميزان الاعتدال ٤/٤٠٢، والتهذيب ١١/٢٦٨..
٢٧ - ساقط من (د)..
٢٨ - نسبه الطبري إلى لحسن في جامع البيان ٥/٢٩٢..
٢٩ - ساقط من (د)..
٣٠ - (د): شركه..
٣١ - انظر: جامع البيان ٥/٢٩١..
٣٢ - انظر: المصدر السابق..
٣٣ - انظر: جامع البيان ٥/٢٩٣..
٣٤ - خرجه الحميدي في مسند أبي هريرة ٢/٢٨٥..
٣٥ - ساقط من (د)..
٣٦ - خرجه السيوطي برواية الطبري ٥/٢٩٣ ولم ينسبه لغيره الدر المنثور ٢/٦٩٦..
٣٧ - انظر: المسند لأحمد ١/١٦٦، والترمذي في أبواب التفسير ٤/٣١٥..
٣٨ - اللاواء: الشدة والمحنة وضيق العيش وأصله لأى يلئى لئياً، انظر: اللسان ١٥/٢٣٧..
٣٩ - خرجه أحمد في المسند –تحقيق شاكر ١/١٨٢، والحاكم في المستدرك ٣/١١٤، والبيهقي في سننه ٣/٢٧٣..
٤٠ - أي: الكاسرة والمهلكة. انظر: اللسان ١٢/٤٨٦..
٤١ - خرجه الطبري في جامع البيان ٥/٢٩٣ والسيوطي عنه في الدر المنثور ٢/٦٩٩ ولم ينسب لغيره..
وروي أن أبا بكر قال: " لما نزلت هذه الآية، جاءت قاصمة الظهر، فقال رسول الله ﷺ: " إنما هي المضائق في الدنيا ".
قوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾ الآية.
روي أن هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنهـ.
والمعنى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ﴾ أي: استسلم لله، وانقاد له ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ﴾ أي: عمل بما أمر به ﴿واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم﴾ أي: دينه ﴿حَنِيفاً﴾ مستقيماً.
وقيل: ﴿حَنِيفاً﴾ مائلاً عن سائر الأديان غير دين إبراهيم.
﴿واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ أي: اتخذ [هـ] يعادى فيه، ويحب فيه، ويوالي فيه، والخلة التي في إبراهيم النبي، والخلة التي في الله لإبراهيم ﷺ هي نصره له على من حاوله بشر كالذي فعل به إذ أراده نمرود بالإحراق، وكالذي فعل به إذ أعانه على ملك مصر إذ أراده عن أهله، ومن ذلك تصييره إماماً لمن بعده من عباده وشبه ذلك.
وذلك أنه أصاب أهل ناحيته جدب فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل، وقيل: من أهل مصر يمتار طعاماً من عنده لأهله فلم يصب عنده حاجته.
فرجع فلما قرب من أهله مر بمغارة فيها رمل فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرمل لئلا أُغم أهلي بدخولي إليهم بغير ميرة، وليظنوا أني قد أتيتهم بما يحبون، ففعل ذلك فحول الله ما في غرائره من الرمل دقيقاً.
فلما صار إلى منزله، نام، وقام ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقاً فعجنوا منه وخبزوا، واستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا من أين هو؟ فقالوا من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك، فعلم ما صنع الله تعالى له، فقال نعم. هو من عند خليلي فسماه الله تعالى بذلك خليلاً.
وقد قيل: في قوله ﴿واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ معناه فقيراً محتاجاً إليه، ويكون الخليل المحب المنقطع إلى الله تعالى الذي ليس في انقطاعه إلأيه اختلال، فيكون سمي (خليلاً) لانقطاعه إلى الله سبحانه، ومحبته له من غير خلل يدخل ذلك.
ويكون الخليل أيضاً الذي يختص الإنسان فيكون سمي بذلك لأن الله تعالى قد اختصه في الوقت بالرسالة دون غيره.
وقد قال النبي ﷺ: " واتخذ الله صاحبكم خليلاً يعني نفسه "، أي: اختصه بالرسالة، وهذا القول قول مختار.
وقد قال النبي ﷺ: " لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً " أي: لو اختصصت أحداً بشيء من الدنيا لاختصصت أبا بكر.
وقد قال بعض أهل اللغة: الخليل الذي ليس في محبته خَلَل فسمي إبراهيم
قوله: ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي له ما فيهن، فلم يتخذه خليلاً لحاجة إليه، لأن له ما في السموات وما في الأرض، ولكنه اتخذه خليلاً لمسارعته إلى رضاه فكذلك سارعوا أنتم إلى ذلك فيتخذكم أولياء.
﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً﴾ أي: يحيط بما يعمله الخلق، لا يخفى عليه شيء.
قوله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ...﴾ الآية.
" ما " في قوله: ﴿وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ في موضع رفع عطف على اسم الله تعالى.
" وما " هو القرآن. أي الله يفتيكم فيهن، والقرآن يفتيكم فيهن أيضاً، وهو قول ابن عباس وغيره.
وقال الفراء، ﴿مَا﴾ في موضع خفض عطف على الضمير في ﴿فِيهِنَّ﴾ أي: الله يفتيكم في النساء، وفيما يتلى عليكم يفتيكم، وهو غلط عند البصريين لأنه عطف ظاهر على مضمر مخفوض.
وقيل ﴿مَا﴾ في موضع رفع بالابتداء، و ﴿مَا﴾ القرآن أيضاً على معنى: (ما
قوله: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾.
المعنى عن أن، وأن في موضع نصب بحذف الخافض.
وقيل المعنى: وترغبون في أن تنكحوهن، والإعراب واحد، والمعنى مختلف معنى قول من أضمر " عن " إنهم لا يريدون نكاحهن ومن أضمر " في " فمعناه أنهم يريدون نكاحهن ويرغبون في ذلك.
قوله: ﴿والمستضعفين﴾ عطف على يتامى النساء، أي يتلى عليكم في يتامى النساء، وفي المستضعفين.
ومعنى الآية: إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون المولود حتى يكبر، ولا يورثون المرأة، فلما كان الإسلام سأل المؤمنون النبي ﷺ عن ذلك، فقال الله تعالى لنبيه ﷺ: ﴿ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب﴾ يفتيكم أيضاً يعني ما في أول السورة من الفرائض في اليتامى.
قالت عائشة: " هذا في اليتيمة تكون عند الرجل لعلها أن تكون شريكته في ماله، وهو أولى بها من غيره فيرغب عنها أن ينكحها ويعضلها لما لها فلا يُنكحها غيره كراهة أن يشركه أحد في مالها ".
وقال ابن جبير: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ، ولا يرث الصغير ولا المرأة، فلما نزلت المواريث في أول النساء توقفوا، ثم سألوا النبي ﷺ عن ذلك، فأنزل الله تعالى ﴿ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب﴾ أي: في أول السورة، قال وكان الولي إذا كانت عنده المرأة ذات الجمال والمال رغب فيها ونكحها، وإن لم تكن ذات جمال ومال أنكحها غيره.
وقال النخعي: كان الرجل إذا كانت عنده يتيمة دميمة لم يعطها ميراثها وحبسها عن التزويج حتى تموت فيرثها فنهى الله تعالى عن ذلك ﴿وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يتامى النسآء الاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ أي: عن أن تنكحوهن، وذلك كله كان في الجاهلية.
وقال ابن جبير ﴿وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب﴾ هو ما أتى في آخر السورة قوله:
﴿إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ [النساء: ١٧٥].
روى أن عمرة بنت عمرو بن حزم، كانت تحت سعد بن الربيع، فقتل يوم أحد، فكانت لها منه ابنة، فأتت عمرة النبي ﷺ تطلب ميراث ابنتها من أبيها، فنزلت الآية في ابنتها، وكان أمرهم في الجاهلية، أن الرجل إذا مات ورث أكبر ولده ماله
وقيل: المعنى: ﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ وفيما ﴿وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يتامى النسآء﴾ والذي يتلى هو قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء﴾ [النساء: ٣]. فما في موضع خفض على هذا التأويل.
وقيل: المعنى ﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ والقرآن يفتيكم وهو قوله:
﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وثلاث ورباع﴾.
﴿وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ أي ترغبون عن نكاحهن لدمامتهن وفقرهن.
وقيل: المعنى وترفبون في نكاحهن وذلك لمالهن وحسنهن.
واختار الطبري أن يكون المعنى: وترغبون عن نكاحهن لأنهم إنما عيب عليهم أن يأخذوا مالها ويحبسوها ولا ينكحوها، ولم يعب عليهم نكاحها إلا إذا لم يعطوها صداق مثلها، ولم يذكر هنا الصداق فالمعنى أنهم لا يعطونهم ميراثهن ويرغبون عن نكاحهن.
قوله: ﴿والمستضعفين مِنَ الولدان﴾ أي: ﴿وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يتامى النسآء﴾ وهي اليتيمة يأخذ مالها ولا يتزوجها ولا يزوجها، وفي المستضعفين من الصبيان كانوا لا يورثون إلا بالغاً.
﴿وَأَن تَقُومُواْ﴾ أي: وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط تعطوا الصغير والكبير حقه،
وقيل هو: ﴿وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب﴾ [النساء: ٢]. والذي يتلى عليكم في التزويج هو قوله: ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وثلاث ورباع﴾ [النساء: ٣].
قوله: ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾ أي: ما تفعلوا من عدل في اليتامى، فإن الله لم يزل عالماً بما هو كائن منكم من ذلك.
قوله ﴿وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا [نُشُوزاً] أَوْ إِعْرَاضاً...﴾ الآية.
قرأ الجحدري ﴿أَن يُصْلِحَا﴾ بتشديد الصاد وكسر اللام.
وأصله أن يصطلحا ثم أدغم الثاني في الأول أعني: دغم الطاء في الصاد.
وفي قراءة عبد الله: فلا جناح عليهما [إن أصلحا].
ولذلك اعتبر الكوفيون قراءتهم فقرأ وا " يصلحا " ولقوله: " صلحاً ".
والصلح الاسم، والعرب تضع الاسم موضع المصدر كقولهم المطية لمطاء.
فأما من قرأ " يصلحا " فليس " صلحاً " باسم له ولا مصدر، فقراءة الكوفيين أقرب إلى ﴿صُلْحاً﴾ من قراءة غيرهم لأن ﴿صُلْحاً﴾ اسم الفعل لأصلح.
ومعنى الآية فيما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: " خشيت سودة أن يطلقها رسول الله ﷺ فقالت: لا تطلقني واحبسني مع نسائك ولا تقسم لي ففعل " فنزلت " ﴿وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً﴾ الآية.
﴿والصلح خَيْرٌ﴾ أي: جرب تسمح فبقى في حرمتها أولى وأحسن من الطلاق والفرقة.
وقيل: المعنى ﴿والصلح خَيْرٌ﴾ من الفرقة ولكن حذف لدلالة الكلام عليه.
قال ابن عباس: هي المرأة تكون عند الرجل حتى تكبر فيريد أن يتزوجها عليها فيتصالحا على أن لهذه يوماً ولهذه يومين أو ثلاثة أو أكثر.
وقالت عائشة رضي الله عنها: هي المرأة تكون عند الرجل ولعله لا يستكثر منها، ولا يكون لها ولد وتكون له صاحبة فتقول له: لا تطلقني وأنت في حل من شأني.
وعلى هذه المعنى في الآية جميع أهل التفسير.
وروي أن هذه الآية نزلت في خولة بنت محمد بن مسلمة الأنصاري، والبعل
قوله: ﴿وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح﴾ أي: أنفس النساء. حريصة في الشح على الأيام، وقيل: هو على نصيبها من الرجل، ونفس الرجل في حرصه على الميت عند من تميل نفسه إليها.
وقال عطاء: [هو] في الأيام والنفقة.
وقال ابن جبير: نزلت الآية في صفية زوج النبي ﷺ كانت قد كبرت، فأراد النبي ﷺ أن يطلقها، فاصطلحا على أن يمسكها، ويجعل يومها لعائشة شحاً منها على رسول الله ﷺ.
وقال ابن زيد وغيره معنى: ﴿وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح﴾ يعني نفس الزوجة، والزوج لا يترك أحد حقه لصاحبه.
قوله: ﴿وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ...﴾ الآية.
المعنى: ولن تطيقوا أيها الرجال أن تسووا بين النساء في حبهن بقاؤكم حتى تعدلوا بينهن، فلا تكون لبعضهن مزية على بعض ﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ فإن ذلك مما لا تقدرون عليه ﴿فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل﴾ أي: لا تميلوا على من لم تملكوا صحبته من قلوبكم فتجوروا عليها بترك أداء الواجب لها ﴿فَتَذَرُوهَا كالمعلقة﴾ أي كالتي هي لا ذات زوج، ولا هي أيم.
وليس في قوله: ﴿فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل﴾ دليل على جواز بعض الميل، إنما معناه لا تميلوا بما تقدرون على تركه ميل الميل فهو أمر يُغلب الإنسان عليه، ولذلك كان عمر رضي الله عنهـ يقول: " اللهم أما قلبي أملك، وأما غير ذلك فأرجو أن أعدل ".
وكان النبي ﷺ يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: " اللهم هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ".
قال ابن أبي مليكة: " نزل ذلك في عائشة رضي الله عنها. يعني كان النبي ﷺ يحبها
قال سفين: " نزلت في الحب والجماع ".
وقال السدي: ﴿فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل﴾ قال: " يجوز عليها فلا تنفق ولا تقسم ".
وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: " من كانت له امرأتان يميل [مع] إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه ساقط ".
وقال قتادة: " المعلقة ": المحبوسة.
وقال ابن جبير: " لا مطلقة ولا ذات بعل.
قوله: ﴿وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ﴾ أي تصلحوا أعمالكم، فتعدلوا في أزواجكم، وتتقوا الله فيهن ﴿فَإِنَّ الله﴾ لم يزل ﴿غَفُوراً رَّحِيماً﴾ لكم أي يستر عليكم ما سلف منك (رحيماً بكم).
قوله: ﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ...﴾ الآية.
المعنى: وإن رأت المرأة التي مال عنها زوجها، إلا أن تفارقه، ولا تسمح له بشيء من حقها، وأبى الزوج الأخذ عليها بالإحسان، فتفرقا بطلاق الزوج إياها ﴿يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ﴾ أي: الزوج والمرأة أن تتزوج من هو أصلح لها من الأول، ويتزوج هو من هي أصلح له منها في رزقه وعصمته.
﴿وَكَانَ الله وَاسِعاً﴾ أي: ذا سعة في الرزق لخلقه ﴿حَكِيماً﴾ فيما قضى به بينهما
وقيل: الواسع: المحيط بكل شيء، ومنه قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ [طه: ٩٦] أي أحاط به.
وقال أبو عمرو في " واسع كريم " قال الواسع الغني والكريم الجواد.
قوله: ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَلَقَدْ وَصَّيْنَا﴾ الآية.
كرر تعالى ذكره، ذكر كون ما في السموات وما في الأرض أنه له، في ثلاثة مواضع متوالية، وفي كل آية معنى من أجله وقع التكرير:
١ - أما الأول فإن الله جل ذكره نبه الخلق على ملكه بعقب قوله ﴿وَكَانَ الله وَاسِعاً﴾، فأخبر أن من سعته أن له ما في السموات والأرض، وفي هذا تقوية لقول أبي عمرو أن الواسع الغني، ثم رجع تعالى بعد إعلامه إيانا، وتنبيهه على ملكه إلى إعلامه إيانا أنه قد وصى من كان قبلنا بتقواه كما وصانا بالتقوى في الأزواج وغيرها، والذين من قبلنا من أهل الكتاب وصاهم بذلك في التوراة والإنجيل، وصانا نحن في القرآن بالتقوى أيضاً، فقال: ﴿أَنِ اتقوا الله﴾.
٢ - ثم قال: ﴿وَإِن تَكْفُرُواْ﴾ كما كفر أهل الكتاب ﴿فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات [وَمَا فِي الأرض]﴾ إنه لا يضره كفرهم إذ له كل شيء، كما لم يضره ما فعل أهل الكتاب في مخالفتهم أمره، ﴿وَكَانَ الله غَنِيّاً﴾ أي غني عن خلقه، فأخبرنا في هذه الآية بغناه عنا،
٣ - [ثم] أعلمنا في الآية الثالثة بحفظه لنا، وعلمه بنا فقال ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً﴾ أي كفى به حفيظاً.
فهذا فائدة التكرير أنه تعالى نبهنا على ملكه، وسعته بعد قوله ﴿وَكَانَ الله وَاسِعاً﴾. فأعلمنا أنه من سعة ملكه أن له ما في السموات وما في الأرض.
وأعلمنا في الثانية بحاجتنا إليه، وغناه عنا.
وفي الثالثة أعلمنا بحفظه لنا وعلمه بتدبيرنا.
وتقدم قوله: ﴿غَنِيّاً حَمِيداً﴾ على ﴿وكفى بالله وَكِيلاً﴾ لأنه خاطبهم أولاً فأخبرهم أنه لا يحتاج إليهم، إن كفروا، وأنهم مضطرون إليه، إذ له ما في السموات وما في الأرض.
قوله: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ...﴾ الآية.
هذه الآية مردودة على وقوله: ﴿وَإِن تَكْفُرُواْ﴾ فقال تعالى: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ بالفناء ﴿وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ من غيركم وهو قادر على ذلك.
وقيل: إنها ترجع على طعمة، وأصحابه الذين تقدم ذكر نياتهم توبيخاً لهم، وقد روى النبي ﷺ " لما نزلت هذه الآية ضرب على ظهر سلمان بيده وقال: " هم
هذه الآية نزلت في المنافقين الذين أظهروا [الإيمان ليدفعوا عن أنفسهم الضرر في الدنيا، والمعنى من كان أظهر الإيمان بمحمد ﷺ من أهل النفاق لغرض ﴿فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا﴾ يعني جزاؤه في الدنيا ما يأخذ من الغنم إذا شهد مع المسلمين، وثواب الآخرة، وهو نار يصلاها أبداً، ومثل هذا قوله ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار﴾ [هود: ١٥ - ١٦] الآية.
وقيل: إن الآية نزلت في أمر الذين سعوا في أمر طعمة وعذروه، وهم يعلمون أنه سرق.
قوله: ﴿وَكَانَ الله﴾ أي: يسمع قوله هؤلاء الذين يريدون ثواب الدنيا بأعمالهم، ويقولون آمنا إذا لقوا المؤمنين ﴿سَمِيعاً بَصِيراً﴾ بهم فيما يكتمون.
وقيل: إن الآية نزلت في الكفار، وذلك أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، ويتقربون إلى الله ليوسع عليهم في الدنيا، ويدفع عنهم مكروهاً، فأنزل الله تعالى: ﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا...﴾ الآية.
قوله: ﴿إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا﴾ وقال الأخفش: " أو " بمعنى الواو، فلذلك قال: " بهما " ولم يقل به.
وقيل: المعنى: إن يكن المتخاصمان غنيين أو فقيرين.
وقيل: هو مثل قوله ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس﴾ [النساء: ١٢].
وقيل: لما كان المعنى فالله أولى بغنى الغني، وفقر الفقير، رد الضمير عليهما.
وقيل: إنما ردع الضمير إليهما لأنه لم يقصد فقيراً بغني، فجاء الرد عليهما: بالتثنية، وبالتوحيد وبالجمع.
ومعنى الآية: " إن الله تعالى تقدم إلى عباده أن يقوموا بالقسط أي: بالعدل، ولو على أنفسهم أو والديهم أو قرابتهم ولا يكونوا كالذين قالوا لطعمة بغير القسط لقرابته منهم.
وأن لا يميلوا لفقر فقير، ولا لغنى غني، فيجوروا.
﴿فالله أولى بِهِمَا﴾ أي أحق بهما لأنه خالقهما، ومالكهما دونكم ﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى﴾ في الميل مع أحدهما. والشهادة على نفسه هو أن يقر بها عليه.
وقيل: إن الآية نزلت في النبي ﷺ، تخاصم إليه غمي وفقير، فكان ميله مع الفقير يروى أنه لا يظلم الغني لفقره.
وقيل: نزلت في الأمر بالشهادة بالحق، وترك الميل مع الغني لغناه، أو مع فقير لفقره.
قال ابن شهاب: كان فيما مضى من السلف الصالح تجوز شهادة الوالد لولده والأخ لأخيه ويتأولون في ذلك قول الله ﴿كُونُواْ قوامين بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين﴾ فلم يكن يتهم أحد في ذلك من السلف الصالح ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة.
ومذهب الحسن البصري والنخعي والشعبي، وشريح ومالك والثوري
وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولاً.
وروي عن عمر رضي الله عنهـ أنه أجازه، وكذلك روي عن عمر بن عبد العزيز، وبه قال إسحاق وأبو ثور والمزني.
ومذهب مالك رضي الله عنهـ جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلاً [إلا] في النسب.
وروى ابن وهب هنه: أنها لا تجوز إذا كان في عياله أو في نصيبه مال يرثه.
ولا تجوز عند مالك شهادة الزوج والمرأة أحدهما للآخر، وأجازه الشافعي. ولا تجوز شهادة الرجل المصاحب له بصلة، أو بعطف عليه عند مالك. وكذلك لا تجوز شهادة رجل لرجل، والشاهد [في عيال] المشهود له، قوله
وقال ابن عباس: هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي فيكون لَيُ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر.
وقيل: هي مخاطبة للشهداء، والمعنى أن تلووا أيها الشهداء ألسنتكم بغير الحق، أو تعرضوا عن الحق.
وقيل: أو " تعرضوا " عن الشهادة فتتركوها.
وقال مجاهد: ﴿وَإِن تَلْوُواْ﴾ تبدلوا الشهادة: ﴿أَوْ تُعْرِضُواْ﴾ أي: تكتموها كذلك قال قتادة والسدي.
قال ابن زيد: ﴿وَإِن تَلْوُواْ﴾ تكتموا بعضها، أو تعرضوا [تكتموها] فتأتوا الشهادة، تقول: أكتم عن هذا أنه مسكين، رحمة به، ويقول: هذا غني أتقيه، وأرجو ما قِبَلَه، فهو قوله ﴿إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا﴾ أي: إن يكن المشهود عليه غنياً أو
﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى﴾ في ألا تعدلوا: ﴿وَإِن تَلْوُواْ﴾ تغيروا الشهادة ﴿أَوْ تُعْرِضُواْ﴾ تكتموها ﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ مجازيكم ومن قرأ ﴿وَإِن تَلْوُواْ﴾ بواو فيحتمل أن تكون مثل تلوا من اللي ولكن أبدلت من الواو المضمومة همزة، ثم ألغيت حركتها على اللام على أصل التسهيل، ويكون المعنى واحداً.
ويجوز أن يكون من الولاية، قال ذلك الكسائي، فيكون المعنى وإن تلوا شيئاً من الشهادة، فتبلغوه على حقه، ولا تجوروا فيه ﴿أَوْ تُعْرِضُواْ﴾ أي: تتركوا تبليغه
قوله ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ...﴾ الآية.
المعنى: يا أيها الذين آمنوا بمن قبل محمد ﷺ من الأنبياء، والرسل وصدقوا آمنوا بمحمد ﷺ وبالكتاب الذي أنزل من قبل وهو التوراة والإنجيل.
﴿وَمَن يَكْفُرْ بالله﴾ أو بما جاء به محمد ﷺ من عند الله وملائكته وكتبه ورسله ﴿فَقَدْ ضَلَّ﴾ أي: ذهب عن الحق وجار جوراً بعيداً، فهو خطاب لمن آمن بما قبل محمد ﷺ، ولم يؤمن بمحمد ﷺ.
وقيل: هو خطاب للمؤمنين بمحمد ﷺ.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بمحمد ﷺ آمنوا أي اثبتوا على الإيمان به، وبما جاء من عند الله.
وقيل: هو خطاب للمنافقين، والمعنى يا أيها الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم آمنوا بالله ورسوله، أي صدقوا به بقلوبكم إيماناً يقيناً يوافق اللسان القلب.
قوله: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ...﴾ الآية.
المعنى: إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا به، ثم آمنوا بعيسى يعني النصارى ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفراً بمحمد ﷺ، وكفرهم بموسى وعيسى عليه السلام [هو]
وقيل: عُنِي بذلك المنافقون آمنوا مرتين وكفروا مرتين، ثم ازدادوا كفراً بعد ذلك.
وقيل: هم اليهود والنصارى.
وقال قتادة: هم اليهود والنصارى: آمنت اليهود بالتوراة، وكفرت بالإنجيل، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا [كفراً] بكفرهم بمحمد ﷺ. وآمنت النصارى بالإنجيل ثم تركت العمل بما فيه، فكفرت بذلك، ثم ازدادوا كفراً بالقرآن وبمحمد ﷺ ﴿ لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ أي: لا يغفر لهم كفرهم الأول والآخر، وذلك أن الكافر إذا آمن غفر له كفره، فإن رجع إلى الكفر لم يغفر له كفره الأول.
وقال ابن عمر: يستتاب المرتد ثلاثاً، أي كلما ارتد يستتاب، فإن آمن، ثم ارتد استتيب، فإن تاب، ثم ارتد استتب، فإن تاب ثم ارتد قتل، فإنما يستتاب ثلاث
وقيل: يستتاب، كلما ارتد.
قوله: ﴿بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين﴾ الآية.
المعنى اجعل ما يقوم لهم مقام البشارة بالعذاب الأليم ﴿أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة﴾ أي: المنعة باتخاذهم لهم أولياء ﴿فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً﴾ أي: المنعة لله، والنصر من عنده.
يقال أرض عزاز وعزاز إذا كانت صلبة شديدة، ومنه قولهم: عز الشيء إذا لم يوجد أي: اشتد وجوده، أي: صعب.
وقال النحاس: " هذا يدل على أن من عمل معصية من الموحدين ليس بمنافق لأنه لا يتولى الكافرين.
قوله: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب﴾ الآية.
المعنى قد أخبرتم أيها المنافقون في القرآن ﴿أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾.
وهذه الآية تدل على اجتناب أهل المعاصي إذ ظهر منهم منكر، ومجانبة أهل الباطل من كل نوع من المبتدعة والقدرية وغيرهم إذا خاضوا في فسقهم.
وروى إبراهيم التيمي عن أبي وائل قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس من الكذب ليضحك بها جلساؤه فيسخط الله عليهم.
وقال إبراهيم النخعي: إذ سمع هذا عن أبي وائل، صدق أبو وائل، أو ليس ذلك في كتاب الله تعالى { أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ
قوله: ﴿الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ الآية.
في قراءة أبي: ومنعناكم في موضع: نمنعكم.
وأجاز الفراء: ونمنعكم بالنصب على الصرف.
ومعنى الآية: أنها صفة للمنفقين لأنهم كانوا يتربصون بالمؤمنين، فإن كان فتح من الله جل وعز للمؤمنين، قالوا للمؤمنين: ألم نمنعكم في جهادكم، فطلبوا الفيء من الغنيمة ﴿وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ﴾ ظفر على المؤمنين قالوا للكافرين ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ أي: نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين ﴿وَنَمْنَعْكُمْ﴾ من المؤمنين، أي: كنا عيوناً لكم نأتيكم بالأخبار في السر، ونخذل المؤمنين حتى غلبتموهم ﴿فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي: بين المؤمنين والمنافقين ﴿وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً﴾ أي: حجة يوم القيامة.
وهذا وعد من الله جل ذكره للمؤمنين يكون في القيامة فأما في الدنيا فقد يغْلِبون ويُغلَبون، ودل على ذلك قوله ﴿فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة﴾.
وقيل: معناه: لا يجعل الله الكافرين على المؤمنين سبيلاً يوم القيامة في قتلهم لهم، وسبيهم لذراريهم، ذلك مباح للمؤمنين في الدنيا، ولا درك عليهم في
وقال ابن جريج: معن: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ ألم يتبين لكم أنا معكم.
وأصل الاستحواذ الغلبة والاستيلاء.
قوله: ﴿إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله﴾ الآية.
معنى الآية أن المنافقين يخادعون الله بإحرازهم لإيمانهم دماءهم وأموالهم، ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ هو ما حكم فيهم من منع دمائهم وأموالهم بما ظهر من إيمانهم مع علمه بباطن اعتقادهم استدراجاً للانتقام منهم في الآخرة.
وقال السدي: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ يعطيهم الله يوم القيامة نوراً يمشون به مع المؤمنين كما كان معهم في الدنيا إيمان يمنع من دمائهم ثم يسلبهم ذلك النور فيطفئه، فيقومون في ظلمتهم ويضرب بينهم بسور.
وقال ابن جريج: إخداع الله لهم هو ما ذكر من قولهم ﴿انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾ [الحديد: ١٣].
وقال الحسن: يلقى على كل مؤمن ومنافق نور يمشون به حتى إذا انتهوا إلى
﴿انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾ ألم نكن معكم في المسجد والحج والغزو؟
﴿قَالُواْ بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ باعتقادكم خلاف ما أظهرتم ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾ عن التوبة ﴿وارتبتم﴾ أي: شككتم في رسول الله ﷺ وثواب الله تعالى وعقابه سبحانه.
قال الحسن: فتلك خديعة الله إياهم.
وقيل: المعنى: يُخادعون أولياء الله وهو أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ أي معاقبتهم، وسمي الثاني خداعاً لأنه مجازاة للأول، وقيل: لازدواج الكلام.
وقيل: معنى: ﴿يُخَادِعُونَ الله﴾ أي نبيه ﷺ لأن من خادع النبي ﷺ، فقد خادع الله سبحانه كما قال ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: ١٠].
قوله: ﴿وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى﴾ الآية.
هذا إعلام من الله تعالى أن المنافقين لا يعملون شيئاً من الفروض إلا رياء، وإبقاء على [أنفسهم، فهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، إذ ليست عندهم بفرض. إنما يقومون للناس] رياء إذ لا يرجون ثواباً، ولا يخافون عقاباً.
والمعنى: أنهم يذكرون الله رياء لا ذكر مؤمن موقن بتوحيد الله تعالى فلذلك سمي قليلاً، إذ هو غير مقصود به الله سبحانه، وما عنده تعالى، فمن أجل هذا وصف بالقلة، مع أنه ليس في ذكر الله تعالى قليل، إنما قل من أجل اعتقادهم لا من أجل قلة ذكرهم.
قال الحسن: إنما قل لأنه كان لغير الله سبحانه.
وقال علي رضي الله عنهـ " ما قل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل! يريد قوله ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين﴾ [المائدة: ٢٧] فمن تقبل شيء من عمله، فهو من المتقين، ومن كان من المتقين فهو من أهل الجنة، يقول الله: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ﴾ [القمر: ٥٤].
قوله: ﴿مُّذَبْذَبِينَ﴾ أي: متحيرين في دينهم مضطربين، وأصل التذبذب التحرك والاضطراب، فهم يتحيرون في دينهم لا مع المؤمنين على بصيرة، ولا مع المشركين على جهالة، فهم حيارى.
قال النبي ﷺ: " مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة،
قال قتادة: ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرحين.
وقيل: إلى المؤمنين ولا [إلى] أهل الكتاب
﴿وَمَن يُضْلِلِ الله﴾ أي: ومن يخذله الله ﴿فَلَن تَجِدَ لَهُ﴾ يا محمد ﴿سَبِيلاً﴾ أي: طريقاً يسلكه إلى الحق.
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ﴾ الآية.
المعنى: إن الله نهى المؤمنين أن يوالوا الكافرين، فيجعلون على أنفسهم الحجة لله، والسلطان: الحجة، وهو يذكر ويؤنث وبالتذكير أتى القرآن.
فمن ذَكَّر ذهب إلى معنى صاحب السلطان، أي صاحب الحجة، وقيل ذهب إلى البرهان والاحتجاج.
ومن أَنَّث فلتأنيث الحجة، والعرب تقول: قضت به عليك السلطان أي الحجة.
قوله: ﴿إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار﴾ الآية.
والنار أدراك سبعة، فهم في القعر السابع، نعوذ بالله منها.
والدَرْك والدَرَك لغتان بمعنى.
والفتح: الاختيار عند بعض العلماء لقولهم: أدراك كجمل وأجمال وجمعة في الكثير: الدروك.
ومن أسكن الراء جمعه في القليل على أدرك، والكثير الدروك، وقال عاصم: " لو كانت الدروك بالفتح لقيل السفلى " ذهب إلى أن الفتح إنما هو على أنه جمع دركة ودرك، كبقرة وبقر.
وطبقات النار سفل سفل، يقال لها أدراك.
ومنازل الجنة يقال لها درجات وهو علو علو.
وقوله: ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ﴾ كتب بغير ياء على لفظ الوصل.
وقال الفراء :( مَعَ المُومِنِينَ ) أي : من المؤمنين( ١ ).
ومذهب النحويين في هذا: الوقف على الياء.
ومعنى الآية: أن الله تعالى أعلمنا أن المنافقين في الطبق الأسفل من النار، وأنهم لا ناصر لهم ينقذهم منها.
والعرب تقول لكل ما تسافل درك، ولكل ما تعالى درج. وقال ابن مسعود: إن المنافقين في توابيت من حديد مغلقة عليهم في النار.
وقال أبو هريرة: ﴿فِي الدرك الأسفل﴾ في توابيت ترتج عليهم.
وقال ابن عباس: في أسفل النار.
ثم استثنى تعالى التائبين فقال ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾ أي: رجعوا عن نفاقهم وشكهم إلى اليقين بالله ورسوله ﷺ وبما جاء به وأصلحوا أعمالهم فعملوا بما أمرهم الله تعالى ﴿ واعتصموا بالله﴾ تعالى أي: تمسكوا بما أمرهم الله به ﴿وَأَخْلَصُواْ﴾ طاعتهم له تعالى، ولم يعملوا رياء الناس ﴿فأولئك مَعَ المؤمنين﴾ في الجنة ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً﴾.
وقال الفراء: ﴿مَعَ المؤمنين﴾ أي: من المؤمنين.
قوله: ﴿مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ...﴾ الآية.
المعنى: ما يفعل الله بعذابكم أيها المنافقون إن تبتم، ورجعتم وآمنتم، بمعنى أي
قال قتادة: في هذه الآية: " إن الله لا يعذب شاكراً ولا مؤمناً ".
وقيل: معنى: ﴿شَاكِراً﴾ مشكوراً على كل حال.
قوله: ﴿لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ الآية.
قرأ زيد بن أسلم، والضحاك وابن أبي إسحاق ﴿إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ بفتح الظاء.
ومعنى الآية: لا يحب الله أن يجهر أحد بالدعاء [على أحد] إلا من ظُلم فيدعو على ظالمه. أي: لكن من ظُلم فله أن يدعو على ظالمه، ولا يكره الله ذلك.
قال ابن عباس: أُرخص للمظلوم أن يدعو على ظالمه، وإن صبر فهو خير له.
قال قتادة: عذر الله سبحانه المظلوم.
و" من " في موضع رفع بالهجر، كأنه: لا يحب الله أن يجهر بالسوء إلا المظلوم وإن شئت في موضع نصب كما قال تعالى: ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ﴾ [الغاشية: ٢٢ - ٢٣] وكقولهم: إني لا أكره الخصومة، والمراء إلا رجلاً يريد الله بذلك، فهذا محمول على المعنى وأن لم يكن قبله أسماء.
وأصل الاستثناء المنقطع أن يكون منصوباً، وهذا من ذلك.
وقال مجاهد في الآية: هو الرجل لا تحسن ضيافته، فيخرج فيقول أساء ضيافتي، رخص له أن يقول ذلك.
وقال السدي: إن الله لا يحب الجهر بالسوء من أحد ولكن من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم فليس عليه جناح.
ومن قرأ بفتح الظاء، فمعناه إلا من ظلم فلا بأس أن يُجْهَر له بالقول.
قيل: إن هذه الآية: نزلت في الرجل ينزل بالرجل وعند المنزول به سعة، يضيفه، فإن تناوله بلسانه في تأخره عن ضيافته فقد عذره الله تعالى، وسمى الله سبحانه ترك
وقال ابن زيد معنى الفتح: لا يحب الله أن يقول لمن تاب عن النفاق: ألست نافقت؟ ألست الذي ظلمت وفعلت؟ ﴿إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ أي: إلا من أقام على النفاق، فإنه يقال له ذلك، ودل على هذا قوله تعالى ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾.
وقيل: المعنى ﴿إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ فقال سوءاً، فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه.
وقال قطرب: ﴿إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ أي: إلا المكره لأنه مظلوم.
﴿وَكَانَ الله سَمِيعاً﴾ أي: لما تجهرون به ﴿عَلِيماً﴾ أي بما تسرون وبغير ذلك.
قوله: ﴿إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ...﴾ الآية.
المعنى: إن تقولوا جميلاً لمن أحسن إليكم، فتظهروا ذلك وتخفوه. أي: تتركوا إظهاره، فلا تبدوه ﴿أَوْ تَعْفُواْ عَن سواء﴾ أي: تصفحوا لمن أساء إليكم عن إساءته، فلا تجهروا له بالسوء، أي: الذي قد أُذن لكم أن تجهروا به وهو قوله ﴿إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ فإن الله كان عفواً، أي: لم يزل عفواً عن خلقه مع قدرته على الانتقام منهم. وهذا
قوله: ﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ﴾ الآية.
معنى الآية أنها في اليهود والنصارى يكفرون بالله بكفرهم برسول الله ﷺ. ﴿ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ﴾ أي: يزعمون أنهم افتروا على ربهم ﴿وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ آمنت اليهود بموسى، وكفرت بعيسى، وبمحمد ﷺ، وآمنت النصارى بعيسى وكفرت بموسى، وبمحمد ﷺ، ﴿ أولئك هُمُ الكافرون﴾ أي: مَنْ، هذه صفته كافر ﴿وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً﴾ أي: طريقاً لا مع المؤمنين ولا مع غيرهم وقيل بين الإيمان والجحد طريقاً.
قوله: ﴿وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً﴾ الآية.
المعنى: الذين صدقوا بواحدانية الله تعالى، وأقروا برسله [صلوات الله عليهم] ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ [أي لم يكذبوا ببعض وآمنوا ببعض ﴿أولئك سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ أي من هذه صفته سوف نؤتيهم أجورهم أي يعطيهم
قوله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء...﴾ الآية.
قوله: ﴿جَهْرَةً﴾ حال من الضمير في قالوا، وهو العامل فيه، أي: قالوا مجاهرين بذلك، قال ذلك أبو عبيدة.
وقيل: هو نُعت بمصدر محذوف [تقديره] رؤية جهرة.
ومعنى الآية: أن اليهود سألوا النبي ﷺ أن ينزل عليهم كتاباً من السماء مكتوباً كما جاء موسى بني إسرائيل بالتوراة، قالوا له: إن موسى جاء بالألواح من عند الله، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقك، فأنزل الله ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب﴾ الآية.
قال ابن جريج: سألوا أن ينزل عليهم رجال منهم كتاباً من السماء بتصديقه واتباعه وهم اليهود والنصارى.
وقيل: هم اليهود خاصة سألوا النبي عليه السلام أن يصعد إلى السماء وهم يرونه بلا كتاب، وينزل ومعه كتاب تعنتاً. فأعلمه الله تعالى أنهم قد سألوا موسى عليه السلام أكبر من هذا ﴿فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً﴾ أي: رؤية منكشفه ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة﴾ أي صعقوا بظلمهم أنفسهم، في عظيم ما سألوا موسى ﷺ مما ليس لهم أن يسألوا مثله ﴿ثُمَّ اتخذوا العجل﴾ أي
قوله: ﴿فَعَفَوْنَا عَن ذلك﴾ أي: عفونا عن عبادتهم العجل ﴿وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾ أي: أعطيناه حجة تبين عن صدقه وصحة نبوته.
قوله: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بِمِيثَاقِهِمْ...﴾ الآية.
المعنى: ورفعنا فوقهم الجبل لما امتنعوا من العمل بما في التوراة، وقبول ما جاءهم به موسى ﷺ ﴿ بِمِيثَاقِهِمْ﴾ أي ما أعطوا الله من الميثاق ليعملوا بما في التوراة ﴿وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً﴾ يعني باب حطة أمروا بذلك، فدخلوا يزحفون على أستاههم ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت﴾ أي لا تتجاوزوا في يوم السبت ما أبيح لكم، وذلك أنهم أمروا ألا يأكلوا الحيتان يوم السبت، ولا يتعرضوا لها. ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾ أي شديداً أنهم يعظمون ما أمرهم الله، وينتهون عما نهاهم عنه.
قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله﴾ الآية.
المعنى: وينقض هؤلاء الذين تقدمت صفتهم: الميثاق - وهو كتمانهم أمر
والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم وبكفرهم، وبكذا وبكذا أخذتهم الصعقة.
قال الطبري: هذا غلط لأن الذين أخذتهم الصاعقة قوم موسى ﷺ، والذين رموا مريم بالبهتان بعدهم بدهر طويل، فهؤلاء غير هؤلاء.
والذي قال الطبري لا يلزم، لأن اليهود قد تأخروا، وهم الذين طالبوا عيسى ﷺ بالصاعقة، وإن لم تأخذهم بأعيانهم، فقد أخذت آباءهم. فالمراد آباؤهم على ما مضى في البقرة وفي غيرها لأنهم راضون بما كان عليه آباؤهم من الكفر فلهم من الحكم ما لآبائهم إذ هم على مذهبهم.
وقال قتادة: ﴿لَعنَّاهُمْ﴾ محذوف من الكلام كأنه: فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم
وقيل: المعنى: فبنقضهم ميثاقهم كذا (وقولهم كذا). طبع الله عليها.
وقال الزجاج: المعنى: فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم.
قوله: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً﴾ أي: بمحمد ﷺ ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ﴾ هو أنهم رموها بالزنا ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح﴾ أي: بدعواهم ذلك، فأكذبهم الله في ذلك، فقال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ﴾.
قيل: إن اليهود أحاطوا بعيسى ومن معه وهم لا يشبهون عيسى بعينه فحولوا جميعاً في صورة عيسى، فأشكل عليهم أمر عيسى، فخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى، فقتلوه وهم يحسبون أنه عيسى.
فقال: أنا عيسى، فأخذوه وقتلوه، وهو على صورة عيسى، وصلبوه وظنوا أنه عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك، إذا الصورة مشبهة، ورفع الله عيسى من يومه ذلك.
وقيل: إنه كان محبوساً عند خليفة قيصر، فاجتمعت اليهود إليه فتوهم يريدون خلاصه، فقال: أنا أخليه لكم، فقالوا: بل نريد قتله، فرفعه الله إليه، فأخذ خليفة قيصر رجلاً فقتله، وقال لهم: قد قتلته، خوفاً منهم، وهو الذي شبه لهم.
قوله: ﴿وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ﴾ يعني اليهود الذين أحاطوا بعيسى، ومن معه وأرادوا قتله، وذلك أنهم كانوا عرفوا عدد من كان في البيت، قبل دخلوهم فيما ذكر بعض أهل التأويل: فلما دخلوا فقدوا واحداً من العدد، ووجدوا الشبه فالتبس عليهم أمر عيسى بفقدهم واحداً من العدد، فقتلوا الذي عليه الشبه على شك.
وقيل: إن شكهم فيه هو أن بعضهم زعم أنه الله وما قتل.
وزعم بعضهم أنه ما قتل، فهم شاكون فيه. ودل على صحة شكهم قوله تعالى:
﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾ أي: ما قتلوا لظنهم في المقتول أنه عيسى يقيناً، ولكنهم قتلوه على شك، فالهاء عائدة على الظن.
قال ابن عباس: المعنى ما قتلوه ظنهم به يقيناً.
وقال السدي: وما قتلوا أمره يقيناً أنه هو عيسى.
وقال الفراء: المعنى: ما قتلوا العلم به يقيناً.
وقيل المعنى: الذي شبه لهم إنه عيسى يقيناً، بل قتلوه على شك ﴿بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ﴾ أي عيسى.
" ومن جعل الهاء تعود على العلم أو الظن أو النفس أو المشبه بعيسى وقف على يقيناً ".
" ومن جعلها تعود على عيسى وقف على قتلوه على النفي، ويكون يقيناً نعت لمصدر محذوف المعنى: قال هذا قولاً يقيناً ".
قال النحاس: إن قدرت أن يكون المعنى: " بل رفعه الله إليه يقيناً " فهو خطأ لأنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها لضعف بل،... وكون الهاء تعود على عيسى قول خارج عن قول أهل التأويل.
وقال بعض أصحاب حمزة ": عيسى ابن مريم تمام. لأنهم لم يقروا بأنه رسول
وقال نافع: ﴿لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ﴾ تمام.
وأجاز ابن الأنباري الوقف على " قتلوه " على أن ينصب " يقيناً بإضمار فعل هو جواب القسم، تقديره: ولقد صدقتم يقيناً، ولقد أوضح لكم يقينه إيضاحاً يقيناً، ثم تبتدئ ﴿بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ﴾ مستأنفاً.
قوله: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾ أدخله بعضهم في باب الاستعارة لأنه أريد به تحقيق الأمر واستيقانه.
والاستعارة في كلام العرب باب، وهذا فصل نبين فيه نُبَذاً من معاني الاستعارة [فالاستعارة] معناها: أن نضع الكلمة في موضع ما هو قريب منها أو ما هو سببها، أو ما يشبه الآخر أي مقارب له بمعنى كقولك " النبات نوء " لأنه [عنه] يكون، والمطر سماء، لأنه منها ينزل، ويقولون " ضحكت الأرض " لأنها تبدي عن حسن النبات.
وتفتر عنه كما يفتر الضاحك عن الثغر. ويقولون " لقيت من فلان عرق القربة " أي: شدة، وأصل هذا أن حامل القربة يتعب في نقلها حتى يعرق جبينه، فاستعير عرقه في موضع.
ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ [القلم: ٤٢] أي: شدة الأمر، وذلك أن
ومنه قوله: ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ [النساء: ٤٩] ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ [النساء: ١٢٤] إذ لم يرد أنهم لا يظلمون ذلك بعينه، إنما أراد مقدار هذين الحقيرين والعرب تقول: ما رزانه، زبالاً، فالزبال ما تحمله النملة بفيها.
ومنه قوله: ﴿مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ﴾ [فاطر: ١٣] يريد به التقليل أي ما يملكون من شيء.
ومنه ﴿فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾ [الفرقان: ٢٣] أراد به أبطلناه، كما أن الهباء المنثور مبطل لا فائدة فيه، وهو ما سطع في شعاع الشمس من كوة البيت، والمنبث ما سطع من سنابك الخيل.
ومنه: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ﴾ [إبراهيم: ٤٣] أي: لا تغني خيراً، لأن المكان إذا كان خالياً فهو هواء لا شيء فيه.
ومنه: ﴿وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ [الكهف: ٢١] أي أطلعنا، وأصله من عثر بشيء وهو غافل ثم
ومنه: ﴿حُبَّ الخير﴾ [ص: ٣٢] يريد الخيل سميت خيراً لما فيها من الخير وهو منافعها.
ومنه: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فأحييناه﴾ [الأنعام: ١٢٢] أي كافراً فهديناه ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً﴾ [الأنعام: ١٢٢] أي إيماناً ﴿كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات﴾ [الأنعام: ١٢٢] أي في الكفر فاستعير الموت مكان الكفر، والحياة مكان الهدى والنور مكان الإيمان.
ومنه: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح: ٢] أي: إثمك وأصل الوزر ما حمل على الظهر فشبه الإثم بالحمل، وشبه بالثقل، لأن الحمل والثقل سواء فقال: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: ١٣] أي آثاماً مع آثامهم.
ومنه: ﴿ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً﴾ [البقرة: ٢٣٥] أي نكاحاً لأن النكاح يمون سراً، ولا يظهر فاستعير له السر.
ومنه: ﴿نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣] كما تزرع الأرض، فشبه الولد بالزرع والبطن بالأرض.
ومنه: ﴿إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢٦٦] أي ترخصوا وأصله أن يصرف المرء، بصره عن
قيل : إن( ١ ) اليهود أحاطوا بعيسى ومن معه وهم لا يشبهون( ٢ ) عيسى بعينه فحولوا جميعاً في صورة عيسى، فأشكل عليهم أمر عيسى، فخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى، فقتلوه وهم يحسبون أنه عيسى( ٣ ).
قال وهب بن منبه : أتى عيسى( ٤ ) ومن( ٥ ) معه سبعة عشر من الحواريين في بيت، فأحاط بهم اليهود، فكلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى، فقالوا لهم : سحرتمونا لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم( ٦ ) جميعاً، قال عيسى لأصحابه : من يشتري اليوم نفسه بالجنة ؟ قال رجل منهم : أنا فخرج إليهم. فقال : أنا عيسى، فأخذوه وقتلوه( ٧ )، وهو على صورة عيسى، وصلبوه وظنوا أنه عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك، إذا الصورة مشبهة، ورفع الله عيسى من يومه ذلك( ٨ ).
وقيل : إنه كان محبوساً عند خليفة قيصر، فاجتمعت اليهود إليه فتوهم( ٩ ) يريدون خلاصه، فقال : أنا أخليه لكم، فقالوا :( ١٠ ) بل نريد قتله، فرفعه الله إليه، فأخذ خليفة قيصر رجلاً فقتله، وقال لهم : قد قتلته، خوفاً منهم، وهو الذي شبه لهم.
قوله :( وَإِنَّ الذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ) يعني اليهود الذين أحاطوا بعيسى، ومن معه وأرادوا قتله، وذلك أنهم كانوا عرفوا عدد من كانوا عرفوا عدد من كان في البيت، قبل دخلوهم فيما ذكر بعض أهل التأويل : فلما دخلوا فقدوا واحداً من العدد، ووجدوا الشبه فالتبس عليهم أمر عيسى بفقدهم واحداً من العدد، فقتلوا الذي عليه الشبه على شك( ١١ ).
وقيل : إن شكهم فيه هو أن بعضهم زعم أنه الله وما قتل.
وزعم بعضهم أنه ما قتل، فهم شاكون فيه. ودل على صحة شكهم قوله تعالى :( مَالَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ اِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ ) فقتلوا من قتلوا على شك لا على يقين وعلم( ١٢ ).
( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) أي : ما قتلوا لظنهم في المقتول أنه عيسى يقيناً، ولكنهم قتلوه على شك، فالهاء عائدة على الظن.
قال ابن عباس : المعنى ما قتلوه ظنهم به يقيناً.
وقال السدي : وما قتلوا أمره يقيناً أنه هو عيسى( ١٣ ).
وقال الفراء : المعنى : ما قتلوا العلم به يقيناً( ١٤ ).
وقيل المعنى : االذي شبه لهم إنه عيسى يقيناً، بل قتلوه على شك ( بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) أي عيسى.
" ومن جعل الهاء تعود على العلم أو الظن أو النفس أو المشبه بعيسى وقف على يقيناً ".
" ومن جعلها تعود على عيسى وقف على قتلوه على النفي، ويكون يقيناً نعت لمصدر محذوف المعنى : قال هذا قولاً يقيناً " ( ١٥ ).
قال النحاس : إن قدرت أن يكون المعنى : " بل رفعه الله إليه يقيناً " فهو خطأ لأنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها لضعف بل، ... ( ١٦ ) وكون الهاء تعود على عيسى قول خارج عن قول أهل التأويل( ١٧ ).
وقال بعض أصحاب حمزة " ( ١٨ ) : عيسى ابن مريم تمام. لأنهم لم يقروا بأنه رسول فليس بمتصل بما قبله( ١٩ ).
وقال نافع :( لَفِي( ٢٠ ) شكٍّ مِّنْهُ ) تمام( ٢١ ).
وأجاز ابن الأنباري( ٢٢ ) الوقف على " قتلوه " ( ٢٣ ) على أن ينصب " يقيناً بإضمار فعل هو جواب القسم، تقديره : ولقد صدقتم يقيناً( ٢٤ )، ولقد أوضح لكم يقينه إيضاحاً يقيناً، ثم تبتدئ ( بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) مستأنفاً.
قوله :( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) أدخله بعضهم في باب الاستعارة لأنه أريد به تحقيق الأمر واستيقانه.
والاستعارة في كلام العرب باب، وهذا فصل نبين فيه نُبَذاً من معاني الاستعارة [ فالاستعارة ]( ٢٥ ) معناها : أن نضع الكلمة في موضع ما هو قريب منها أو ما هو سببها، أو ما يشبه الآخر أي مقارب له بمعنى كقولك " النبات نوء " لأنه [ عنه ]( ٢٦ ) يكون، والمطر سماء، لأنه منها ينزل، ويقولون " ضحكت الأرض " لأنها تبدي عن حسن النبات. وتفتر عنه كما يفتر الضاحك عن الثغر. ويقولون " لقيت من فلان عرق القرية " أي : شدة، وأصل هذا أن حامل القربة يتعب في نقلها حتى يعرق جبينه، فاستعير عرقه في موضع.
ومن ذلك قول الله تعالى :( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ )( ٢٧ ) أي : عن شدة الأمر، وذلك أن الرجل إذا وقع في أمر يحتاج إلى معاناة، شمر عن ساقه، فاستعير الساق في موضع الشدة، وهو كثير في القرآن، وإنما هذا في أصل كلام العرب ثم خاطبهم الله على ما يعقلون في كلامهم وما اعتادوا منه.
ومنه قوله :( وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً )( ٢٨ ) ( وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً )( ٢٩ ) إذ لم يرد أنهم لا يظلمون ذلك بعينه، إنما أراد مقدار هذين الحقيرين والعرب تقول : ما رزانه( ٣٠ )، زبالاً( ٣١ )، فالزبال ما تحمله النملة بفيها.
ومنه قوله :( مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير )( ٣٢ ) يريد به التقليل أي ما يملكون من شيء.
ومنه ( فَجَعَلْنَاهُ هَنَاءً مَّنْثُوراً )( ٣٣ ) أراد به أبطلناه، كما أن الهباء المنثور مبطل لا فائدة فيه، وهو ما سطع في شعاع الشمس من كوة البيت، والمنبث( ٣٤ ) ما سطع من سنابك الخيل.
ومنه :( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ )( ٣٥ ) أي : لا تتغني خيراً، لأن المكان إذا كان خالياً فهو هواء لا شيء فيه.
ومنه :( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ )( ٣٦ ) أي أطلعنا، وأصله من عثر بشيء وهو غافل ثم نظر إليه فاطلع عليه فصار العثار( ٣٧ ) سبباً للتبين( ٣٨ ) فاستعير مكان التبيين والاطلاع.
ومنه ( حُبَّ الخَيْرِ )( ٣٩ ) يريد الخيل سميت خيراً لما فيها من الخير وهو منافعها.
ومنه ( أَوَمَنْ كَانَ مَيّتاً فَأَحْيَيْنَاهُ )( ٤٠ ) أي كافراً فهديناه ( وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً ) أي إيماناً ( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ) أي في الكفر فاستعير الموت مكان الكفر، والحياة مكان الهدى والنور مكان الإيمان.
ومنه :( وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ )( ٤١ ) أي : إثمك وأصل الوزر ما حمل على الظهر فشبه الإثم بالحمل( ٤٢ )، وشبه( ٤٣ ) بالثقل، لأن الحمل والثقل سواء فقال :( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ )( ٤٤ ) أي آثاماً مع آثامهم.
ومنه :( وَلَكِنْ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً )( ٤٥ ) أي نكاحاً لأن النكاح يكون سراً، ولا يظهر فاستعير له السر.
ومنه :( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ )( ٤٦ ) كما تزرع الأرض، فشبه الولد بالزرع والبطن بالأرض.
ومنه :( إِلاَّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ )( ٤٧ ) أي ترخصوا وأصله أن يصرف المرف، بصره عن الشيء ويغمضه فسمي( ٤٨ ) الترخيص إغماضاً.
ومنه ( هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ )( ٤٩ ) جعل كل واحد لصاحبه كالثوب للإنسان يتضامان، ويلتصقان كالثوب في تتضامه، والتصاقه على الإنسان، وقد قيل معنى ( لِبَاساً ) سكناً، كما قال ( لِيَسْكُنَ( ٥٠ ) إِلَيْهَا )( ٥١ ) ( لِتَسْكُنُوا فِيهِ )( ٥٢ ).
ومنه :( وَثِيَابَكَ( ٥٣ ) فَطَهِّرْ ) أي : نفسك من الذنوب، فجعل موضع النفس، لنه يشتمل عليها، وشبه ذلك كثير.
٢ - (د): لا ينبثون وهو تحريف..
٣ - انظر: جامع البيان ٦/١٢..
٤ - (ج): عيسى صلى الله عليه وسلم..
٥ - كذا... وصوابه: عيسى ومعه، وهي رواية جامع البيان ٦/١٢..
٦ - (د): ليقتلنكم..
٧ - (ج) (د): فقتلوه..
٨ - جامع البيان ٦/١٢-١٣..
٩ - (أ) فتراهم وكأن المعنى: فتوهم خليفة قيصر [المدقق]..
١٠ - (د): فقالوا بلى بل..
١١ - انظر: هذا التوجيه في جامع البيان ٦/١٦..
١٢ - انظر: جامع البيان ٦/١٧..
١٣ - انظر: جامع البيان ٦/١٧..
١٤ - انظر: معاني الفراء ١/٢٩٤..
١٥ - انظر: القطع: ٢٤٥..
١٦ - بياض في كل النسخ..
١٧ - م. انظر: إعراب النحاس ١/٤٦٩، ومشكل الإعراب ١/٢١٢..
١٨ - هو أبو عمارة حمزة بن حبيب بن إسماعيل التيمي توفي ١٥٦ أحد القراء السبعة كان عالماً ورعاً ومقرئاً. انظر: معرفة القراء ١/٩٣، وغاية النهاية ١/٢٦١..
١٩ - القطع: ٢٧٥..
٢٠ - (ج): وفي أسكنه لفي شك..
٢١ - انظر: القطع: ٢٧٥..
٢٢ - (د): الأنباري من الوقف..
٢٣ - إيضاح الوقف ٢/٦٠٩..
٢٤ - (د): ولقد صدقتم يقيناً ولقد صدقتم..
٢٥ - ساقط من (أ)..
٢٦ - (د): ما هو قريب منها ما هو قريب منها..
٢٧ - القلم آية: ٤٢..
٢٨ - النساء: الآية ٤٨..
٢٩ - النساء: الآية ١٢٣..
٣٠ - (د): ما ران وهو تحريف..
٣١ - وأصله ما أغنى عنه زبله ولا زبال، ويروى ما في الإناء زبالة وهو مثل يضرب لمن لا يغني عنك شيئاً. انظر: مجمع الأمثال ٢/٢٩٣ ومعنى ما رزأ: ما أصاب: انظر: اللسان ١/٨٥ و١١/٣٠٠..
٣٢ - فاطر: آية ١٣..
٣٣ - الفرقان آية ٢٣..
٣٤ - قال تعالى: (فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثّاً) الواقعة آية ٦، تفسير الغريب ٣٧٢-٤٤٥..
٣٥ - إبراهيم آية ٤٥..
٣٦ - الكهف آية ٣١..
٣٧ - (د): استار..
٣٨ - (ج): التبيين..
٣٩ - ص آية ٣٢..
٤٠ - الأنعام آية ١٢٢..
٤١ - الشرح: ٢..
٤٢ - (أ): الحمل (د): الجبل..
٤٣ - (د): وشبيه..
٤٤ - العنكبوت آية ١٢..
٤٥ - البقرة آية ٢٣٣..
٤٦ - البقرة آية ٢٢١..
٤٧ - البقرة آية ٢٦٦..
٤٨ - (د): فتمسى..
٤٩ - البقرة آية ١٨٦..
٥٠ - (ج) (د): ليسكنوا إليها وفي "النمل" آية ٨٦ (لِتَسْكُنُوا فِيهِ)، وفي الروم آية ٢١ (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)..
٥١ - الأعراف آية ١٨٩..
٥٢ - يونس: ٦٧ والقصص آية ٧٣، انظر: معاني الزجاج ١/٢٥٦..
٥٣ - في جميع النسخ كثيابك، وهو خطأ والآية من المدثر: ٤..
قيل : إن( ١ ) اليهود أحاطوا بعيسى ومن معه وهم لا يشبهون( ٢ ) عيسى بعينه فحولوا جميعاً في صورة عيسى، فأشكل عليهم أمر عيسى، فخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى، فقتلوه وهم يحسبون أنه عيسى( ٣ ).
قال وهب بن منبه : أتى عيسى( ٤ ) ومن( ٥ ) معه سبعة عشر من الحواريين في بيت، فأحاط بهم اليهود، فكلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى، فقالوا لهم : سحرتمونا لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم( ٦ ) جميعاً، قال عيسى لأصحابه : من يشتري اليوم نفسه بالجنة ؟ قال رجل منهم : أنا فخرج إليهم. فقال : أنا عيسى، فأخذوه وقتلوه( ٧ )، وهو على صورة عيسى، وصلبوه وظنوا أنه عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك، إذا الصورة مشبهة، ورفع الله عيسى من يومه ذلك( ٨ ).
وقيل : إنه كان محبوساً عند خليفة قيصر، فاجتمعت اليهود إليه فتوهم( ٩ ) يريدون خلاصه، فقال : أنا أخليه لكم، فقالوا :( ١٠ ) بل نريد قتله، فرفعه الله إليه، فأخذ خليفة قيصر رجلاً فقتله، وقال لهم : قد قتلته، خوفاً منهم، وهو الذي شبه لهم.
قوله :( وَإِنَّ الذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ) يعني اليهود الذين أحاطوا بعيسى، ومن معه وأرادوا قتله، وذلك أنهم كانوا عرفوا عدد من كانوا عرفوا عدد من كان في البيت، قبل دخلوهم فيما ذكر بعض أهل التأويل : فلما دخلوا فقدوا واحداً من العدد، ووجدوا الشبه فالتبس عليهم أمر عيسى بفقدهم واحداً من العدد، فقتلوا الذي عليه الشبه على شك( ١١ ).
وقيل : إن شكهم فيه هو أن بعضهم زعم أنه الله وما قتل.
وزعم بعضهم أنه ما قتل، فهم شاكون فيه. ودل على صحة شكهم قوله تعالى :( مَالَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ اِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ ) فقتلوا من قتلوا على شك لا على يقين وعلم( ١٢ ).
( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) أي : ما قتلوا لظنهم في المقتول أنه عيسى يقيناً، ولكنهم قتلوه على شك، فالهاء عائدة على الظن.
قال ابن عباس : المعنى ما قتلوه ظنهم به يقيناً.
وقال السدي : وما قتلوا أمره يقيناً أنه هو عيسى( ١٣ ).
وقال الفراء : المعنى : ما قتلوا العلم به يقيناً( ١٤ ).
وقيل المعنى : االذي شبه لهم إنه عيسى يقيناً، بل قتلوه على شك ( بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) أي عيسى.
" ومن جعل الهاء تعود على العلم أو الظن أو النفس أو المشبه بعيسى وقف على يقيناً ".
" ومن جعلها تعود على عيسى وقف على قتلوه على النفي، ويكون يقيناً نعت لمصدر محذوف المعنى : قال هذا قولاً يقيناً " ( ١٥ ).
قال النحاس : إن قدرت أن يكون المعنى :
" بل رفعه الله إليه يقيناً " فهو خطأ لأنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها لضعف بل، | ( ١٦ ) وكون الهاء تعود على عيسى قول خارج عن قول أهل التأويل( ١٧ ). |
وقال نافع :( لَفِي( ٢٠ ) شكٍّ مِّنْهُ ) تمام( ٢١ ).
وأجاز ابن الأنباري( ٢٢ ) الوقف على " قتلوه " ( ٢٣ ) على أن ينصب " يقيناً بإضمار فعل هو جواب القسم، تقديره : ولقد صدقتم يقيناً( ٢٤ )، ولقد أوضح لكم يقينه إيضاحاً يقيناً، ثم تبتدئ ( بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) مستأنفاً.
قوله :( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) أدخله بعضهم في باب الاستعارة لأنه أريد به تحقيق الأمر واستيقانه.
والاستعارة في كلام العرب باب، وهذا فصل نبين فيه نُبَذاً من معاني الاستعارة [ فالاستعارة ]( ٢٥ ) معناها : أن نضع الكلمة في موضع ما هو قريب منها أو ما هو سببها، أو ما يشبه الآخر أي مقارب له بمعنى كقولك " النبات نوء " لأنه [ عنه ]( ٢٦ ) يكون، والمطر سماء، لأنه منها ينزل، ويقولون " ضحكت الأرض " لأنها تبدي عن حسن النبات. وتفتر عنه كما يفتر الضاحك عن الثغر. ويقولون " لقيت من فلان عرق القرية " أي : شدة، وأصل هذا أن حامل القربة يتعب في نقلها حتى يعرق جبينه، فاستعير عرقه في موضع.
ومن ذلك قول الله تعالى :( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ )( ٢٧ ) أي : عن شدة الأمر، وذلك أن الرجل إذا وقع في أمر يحتاج إلى معاناة، شمر عن ساقه، فاستعير الساق في موضع الشدة، وهو كثير في القرآن، وإنما هذا في أصل كلام العرب ثم خاطبهم الله على ما يعقلون في كلامهم وما اعتادوا منه.
ومنه قوله :( وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً )( ٢٨ ) ( وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً )( ٢٩ ) إذ لم يرد أنهم لا يظلمون ذلك بعينه، إنما أراد مقدار هذين الحقيرين والعرب تقول : ما رزانه( ٣٠ )، زبالاً( ٣١ )، فالزبال ما تحمله النملة بفيها.
ومنه قوله :( مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير )( ٣٢ ) يريد به التقليل أي ما يملكون من شيء.
ومنه ( فَجَعَلْنَاهُ هَنَاءً مَّنْثُوراً )( ٣٣ ) أراد به أبطلناه، كما أن الهباء المنثور مبطل لا فائدة فيه، وهو ما سطع في شعاع الشمس من كوة البيت، والمنبث( ٣٤ ) ما سطع من سنابك الخيل.
ومنه :( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ )( ٣٥ ) أي : لا تتغني خيراً، لأن المكان إذا كان خالياً فهو هواء لا شيء فيه.
ومنه :( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ )( ٣٦ ) أي أطلعنا، وأصله من عثر بشيء وهو غافل ثم نظر إليه فاطلع عليه فصار العثار( ٣٧ ) سبباً للتبين( ٣٨ ) فاستعير مكان التبيين والاطلاع.
ومنه ( حُبَّ الخَيْرِ )( ٣٩ ) يريد الخيل سميت خيراً لما فيها من الخير وهو منافعها.
ومنه ( أَوَمَنْ كَانَ مَيّتاً فَأَحْيَيْنَاهُ )( ٤٠ ) أي كافراً فهديناه ( وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً ) أي إيماناً ( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ) أي في الكفر فاستعير الموت مكان الكفر، والحياة مكان الهدى والنور مكان الإيمان.
ومنه :( وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ )( ٤١ ) أي : إثمك وأصل الوزر ما حمل على الظهر فشبه الإثم بالحمل( ٤٢ )، وشبه( ٤٣ ) بالثقل، لأن الحمل والثقل سواء فقال :( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ )( ٤٤ ) أي آثاماً مع آثامهم.
ومنه :( وَلَكِنْ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً )( ٤٥ ) أي نكاحاً لأن النكاح يكون سراً، ولا يظهر فاستعير له السر.
ومنه :( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ )( ٤٦ ) كما تزرع الأرض، فشبه الولد بالزرع والبطن بالأرض.
ومنه :( إِلاَّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ )( ٤٧ ) أي ترخصوا وأصله أن يصرف المرف، بصره عن الشيء ويغمضه فسمي( ٤٨ ) الترخيص إغماضاً.
ومنه ( هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ )( ٤٩ ) جعل كل واحد لصاحبه كالثوب للإنسان يتضامان، ويلتصقان كالثوب في تتضامه، والتصاقه على الإنسان، وقد قيل معنى ( لِبَاساً ) سكناً، كما قال ( لِيَسْكُنَ( ٥٠ ) إِلَيْهَا )( ٥١ ) ( لِتَسْكُنُوا فِيهِ )( ٥٢ ).
ومنه :( وَثِيَابَكَ( ٥٣ ) فَطَهِّرْ ) أي : نفسك من الذنوب، فجعل موضع النفس، لنه يشتمل عليها، وشبه ذلك كثير.
٢ - (د): لا ينبثون وهو تحريف..
٣ - انظر: جامع البيان ٦/١٢..
٤ - (ج): عيسى صلى الله عليه وسلم..
٥ - كذا... وصوابه: عيسى ومعه، وهي رواية جامع البيان ٦/١٢..
٦ - (د): ليقتلنكم..
٧ - (ج) (د): فقتلوه..
٨ - جامع البيان ٦/١٢-١٣..
٩ - (أ) فتراهم وكأن المعنى: فتوهم خليفة قيصر [المدقق]..
١٠ - (د): فقالوا بلى بل..
١١ - انظر: هذا التوجيه في جامع البيان ٦/١٦..
١٢ - انظر: جامع البيان ٦/١٧..
١٣ - انظر: جامع البيان ٦/١٧..
١٤ - انظر: معاني الفراء ١/٢٩٤..
١٥ - انظر: القطع: ٢٤٥..
١٦ - بياض في كل النسخ..
١٧ - م. انظر: إعراب النحاس ١/٤٦٩، ومشكل الإعراب ١/٢١٢..
١٨ - هو أبو عمارة حمزة بن حبيب بن إسماعيل التيمي توفي ١٥٦ أحد القراء السبعة كان عالماً ورعاً ومقرئاً. انظر: معرفة القراء ١/٩٣، وغاية النهاية ١/٢٦١..
١٩ - القطع: ٢٧٥..
٢٠ - (ج): وفي أسكنه لفي شك..
٢١ - انظر: القطع: ٢٧٥..
٢٢ - (د): الأنباري من الوقف..
٢٣ - إيضاح الوقف ٢/٦٠٩..
٢٤ - (د): ولقد صدقتم يقيناً ولقد صدقتم..
٢٥ - ساقط من (أ)..
٢٦ - (د): ما هو قريب منها ما هو قريب منها..
٢٧ - القلم آية: ٤٢..
٢٨ - النساء: الآية ٤٨..
٢٩ - النساء: الآية ١٢٣..
٣٠ - (د): ما ران وهو تحريف..
٣١ - وأصله ما أغنى عنه زبله ولا زبال، ويروى ما في الإناء زبالة وهو مثل يضرب لمن لا يغني عنك شيئاً. انظر: مجمع الأمثال ٢/٢٩٣ ومعنى ما رزأ: ما أصاب: انظر: اللسان ١/٨٥ و١١/٣٠٠..
٣٢ - فاطر: آية ١٣..
٣٣ - الفرقان آية ٢٣..
٣٤ - قال تعالى: (فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثّاً) الواقعة آية ٦، تفسير الغريب ٣٧٢-٤٤٥..
٣٥ - إبراهيم آية ٤٥..
٣٦ - الكهف آية ٣١..
٣٧ - (د): استار..
٣٨ - (ج): التبيين..
٣٩ - ص آية ٣٢..
٤٠ - الأنعام آية ١٢٢..
٤١ - الشرح: ٢..
٤٢ - (أ): الحمل (د): الجبل..
٤٣ - (د): وشبيه..
٤٤ - العنكبوت آية ١٢..
٤٥ - البقرة آية ٢٣٣..
٤٦ - البقرة آية ٢٢١..
٤٧ - البقرة آية ٢٦٦..
٤٨ - (د): فتمسى..
٤٩ - البقرة آية ١٨٦..
٥٠ - (ج) (د): ليسكنوا إليها وفي "النمل" آية ٨٦ (لِتَسْكُنُوا فِيهِ)، وفي الروم آية ٢١ (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)..
٥١ - الأعراف آية ١٨٩..
٥٢ - يونس: ٦٧ والقصص آية ٧٣، انظر: معاني الزجاج ١/٢٥٦..
٥٣ - في جميع النسخ كثيابك، وهو خطأ والآية من المدثر: ٤..
ومنه: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ [البقرة: ١٨٧] جعل كل واحد لصاحبه كالثوب للإنسان يتضامان، ويلتصقان كالثوب في تضامه، والتصاقه على الإنسان، وقد قيل معنى
﴿لِبَاساً﴾ سكناً، كما قال ﴿لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: ١٨٩] ﴿لِتَسْكُنُواْ فِيهِ﴾ [يونس: ٦٧ - القصص: ٧٣].
ومنه: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: ٤] أي: نفسك من الذنوب، فجعل موضع النفس، لأنه يشتمل عليها، وشبه ذلك كثير.
قوله: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ...﴾ الآية.
التقدير عند سيبويه، (وإن من أهل الكتاب أحد).
وعند الكوفيين (وإن من أهل الكتاب إلا (من) ليؤمنن [به]) حذفوا الموصول وهو قبيح.
وسيبويه إنما قدر حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه، وذلك كثير في
وحذف الموصول وإقامة الصلة مقامه على قول الكوفيين غير جائز ولا موجود لأن الصلة كبعض الموصول، ولا يحسن حذف بعض الاسم، ولأن الصلة لا بد منها للموصول وليس الصفة كذلك فقد يستغنى عنها.
والمعنى: إنهم كلهم يؤمنون بعيسى إذا نزل لقتل الدجال، فتصير الأمم كلها واحدة ملة الإسلام، كذلك قال ابن عباس، والحسن وقتادة.
قال ابن زيد: إذا نزل عيسى لقتل الدجال لم يبق يهودي إلا آمن، وذلك حين لا ينفعهم إيمانهم، فالهاء في " به " يعود على عيسى ﷺ في هذين القولين.
وروى عن ابن عباس أنه قال: ليس من أهل [الكتاب] أحد إلا يؤمن
وقال [مجاهد]: لا تخرج نفس الكتابي حتى يؤمن بعيسى قال وإن غرق، وإن تردى من حائط لا بد أن يؤمن بعيسى.
وقد قرأ أُبي: " قبل موتهم " فهذا يدل على أنها لأهل الكتاب وهو قول أكثر المفسرين.
وقال ابن عباس: " لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وإن عجل عليه بالسلاح.
وقال عكرمة: لو وقع يهودي من فوق القصر لم يبلغ الأرض حتى يؤمن بعيسى، فالهاء تعود على الكتابي على هذه الأقوال ويجوز أن تكون لعيسى.
وروي عن عكرمة أيضاً، لا يموت اليهودي والنصراني حتى يؤمن بمحمد عليه السلام. فالهاء في " به " تعود على محمد ﷺ.
وفي حرف أُبي ومصحفه " قبل موتهم " يعني: أهل الكتاب.
وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: " الأنبياء أخوات لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بينه وبيني نبي، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر، كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل، بين ممصرتين، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يُهلك الله تعالى في زمانه الملل كلها غير الإسلام، ويُهلك الله في زمانه المسيح الكذاب الدجال وتقع الأمنة في زمانه حتى ترتع الأسود مع الإبل، والذئاب مع الغنم، ويلعب الغلمان والصبيان بالحيات، لا يضر بعضهم بعضاً، ثم يلبث في الأرض ما شاء الله - وربما قال - أربعين سنة، ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه ".
قوله: ﴿وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ أي: شاهداً على تكذيب من كذبه، وتصديق من صدقه، وأنه بلغ الرسالة وأقر بالعبودية.
قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ الآية.
قال ابن إسحاق: هذا بدل من ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ﴾ ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ والذي حرم عليهم هو قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا
والظلم هنا هو نقضهم الميثاق ﴿وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله﴾ ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾.
﴿وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً﴾ وعلى عيسى. فهذا هو الظلم، فمن أجله حرمت عليهم الطيبات وهي كل ذي ظفر والشحوم من البقر والغنم.
وقوله: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي صدوا أنفسهم، وغيرهم عن الحق ﴿وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ﴾ هو قولهم أؤخرك بديني وتزيدني ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل﴾ هو ما يأكلون من الرشا في الحكم، وعلى تغيير الدين يأخذون أثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بأيديهم، ويقولون هذا من عند الله، فسمي ذلك باطلاً لأنه أخذ بغير استحقاق.
﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ﴾ أي من هؤلاء اليهود ﴿عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي موجع أي مؤلماً.
قوله: ﴿لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ والمؤمنون﴾ الآية: نصب ﴿والمقيمين الصلاة﴾ عند سيبويه على التعظيم.
وقال الكسائي: هو في موضع خفض عطف على " ما " جعل المقيمين هم الملائكة عليهم السلام، وهو اختيار المبرد، والطبري.
واستبعد المبرد النصب على المدح لأن المدح إنما يكون بعد تمام الخبر، والخبر لم
ومذهب سيبويه أن " يؤمنون " الخبر فقد أتى قبل الراسخون. ومذهب المبرد أن أولئك الخبر، فهو لم يأت بعد.
وقيل: هو معطوف على قبلك.
وقيل: على الكاف في قبلك.
وقيل: على الكاف في أولئك.
وقيل: على الهاء، والميم في منهم.
وهذه الأقوال الثلاثة عطف فيها على مضمر مخفوض على مذهب الكوفيين، وهو لا يجوز عند البصريين.
قوله: ﴿والمؤمنون﴾ في رفعه خمسة أقوال:
رفعه عند سيبويه على الابتداء.
وقيل: رفع على إضمار مبتدأ.
وقيل: عطف على المضمر في المقيمين.
وقيل: عطف على المضمر في " يؤمنون ".
ومعنى الآية: إن الله تعالى أخبر عن أهل الكتاب أنهم سألوا محمد ﷺ أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، ثم بيّن أنهم ليسوا كلهم قالوا ذلك، فأخبر أن الراسخين في العلم منهم أي: من أهل الكتاب والمؤمنون أي منهم أيضاً يؤمنون بالقرآن، والتوراة والإنجيل، وجميع كتب الله، وهو ما أنزل من قبل محمد ﷺ فهم لا يسألون ما سأل أولئك.
وقوله: ﴿والمقيمين الصلاة﴾ هم من أهل الكتاب أيضاً.
قال أبان بن عثمان: هو غلط من الكاتب يعني كونه بالياء وإنما حقه الرفع بالواو وهي قراءة ابن مسعود.
وقالت عائشة رضي الله عنها لعروة إذ سألها عن اختلاف الإعراب في ﴿والمقيمين الصلاة﴾ وفي
﴿والصابئون﴾ [المائدة: ٧١] في المائدة وفي ﴿إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ﴾ [طه: ٦٣] في طه، يا ابن أختي، هذا عمل
وفي قراءة عبد الله " والمقيمون " بالرفع.
وقال عثمان رضي الله عنهـ أرى فيه لحناً، وستقيمه العرب بألسنتها، يريد المصحف، وهذه الأحاديث مطعون فيها عند العلماء لصحة جواز المصحف على لغة العرب.
وإذا كان للشيء وجه لم يجز أن يحمل على الغلط، وقد ذكرنا أن كونه بالياء له وجوه سائغة في لغة العرب، ويدل على أنه ليس بخطأ من الكاتب إن في مصحف أُبَيّ ﴿والمقيمين﴾ أيضاً فلو كان الرفع الصواب لم تجتمع المصاحف على تركه.
قوله: ﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ...﴾ الآية.
قرأ الحسن: يونس ويوسف بالكسر جعله فعلاً مستقبلاً سمي به من آسف وآنس، وعلى هذا يجب أن يصرفا في النكرة، ويهمزا، ويكون جمعهما: يا أنس ويا أسف.
ومن لم يهمز قال في الجمع: يوانس ويواسف.
ومعنى الآية إن الله أخبر نبيه ﷺ أنه أرسل إليه بالرسالة كما أرسل إلى من ذكر من الأنبياء وإلى من لم يسم.
وقيل: معناه: أوحى إلى جميعهم وإلى محمد ﷺ ﴿ أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾ [الشورى: ١٣].
وكان سبب نزول هذه الآية أن النبي ﷺ لما أخبرهم بما أوحى الله إليه من سؤالهم إياه أن ينزل عليهم كتاباً فتلا ذلك عليهم وفضحهم: ﴿مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ بعد موسى، فأنزل الله هذه الآية تكذيباً لهم.
وقيل: إنهم قالوا عند نزول هذه الآية ﴿مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١] ولا على عيسى، ولا على موسى، فأنزل الله ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: ٩١] الآية.
وروي أن سكين بن عدي بن زيد قال للنبي ﷺ: والله، يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى، فأنزل الله هذه الآية.
وأول أنبياء بني إسرائيل بعد أولاد إسرائيل وإسرافيل يعقوب موسى، وآخرهم عيسى صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
وروى أيضاً عنه أنه (قال): جميع كتب الله التي أنزل مائة كتاب، وأربعة كتب: أنزل الله على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل،
ومن حسب كلامه: " من عمله قل كلامه ".
قال: وكانت صحف موسى كلها عبراً.
" عجبت لمن أيقن بالموت وهو يفرح ".
" وعجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو يسخط ".
" وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها ".
" وعجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل ".
ويروى أن آدم عاش ألف سنة وفي التوراة عاش ألأف سنة إلا سبعين عاماً.
وكان بين آدم والطوفان ألفاً سنة ومائتا وإثنان وأربعون سنة.
وبين نوح وإبراهيم ألفاً سنة ومائة سنة وأربعون سنة.
وبين إبراهيم وموسى سبعملئة سنة.
وبين موسى وداود خمسائة سنة.
وبين داود وعيسى ألف سنة ومائتا سنة.
قال وهب بن منبه: كان بين آدم ونوح عشرة آباء، وبين نوح وإبراهيم عشرة آباء.
قال عكرمة: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام.
قال القتيبي: قرأت في الإنجيل: أن بين إبراهيم وداود أربعة عشر قرناً، ومن داود إلى جالية بابل أربعة عشر قرناً، ومن جالية بابل إلى عيسى أربعة عشر قرن.
قوله: ﴿وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ﴾ الآية.
[رسلاَ] نصب عطفاً على معنى ﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾، لأن معناه إنا بعثناك وبعثنا رسلاً.
وقيل: هو منصوب بفعل يفسره ما بعده كأنه: وأرسلنا رسلاً قصصناهم عليك.
وقيل: المعنى: وقصصنا رسلاً قصصناهم عليك، والمعنى إنها معطوفة على ما
ومعنى الآية أن الله أخبر نبيه محمداً ﷺ أنه أوحى إليه كما أوحى إلى من ذكر من الأنبياء، وكما أوحى إلى رسل قد قصهم عليه، وإلى رسل لم يقصهم عليه، تكذيباً لليهود إذ قالوا ﴿مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ ثم أعلمه أنه خص موسى بالكلام، وأكده بقوله ﴿تَكْلِيماً﴾ ليعلم أنه حقيقة لا مجاز، ولأن الفعل في كلام العرب إذا أكد بالمصدر علم أنه حقيقة لا مجاز.
قال كعب: كلم الله موسى بالألسنة كلها، فجعل موسى يقول: يا رب لا أفهم، حتى كلمه بلسان موسى آخر الألسنة.
وقوله: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ﴾ نصب على الحال من أسماء الأنبياء.
﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ﴾ أي كيلا يقولوا: هلا ﴿أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ﴾ [طه: ١٣٤ - القصص: ٤٧].
قوله: ﴿لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ...﴾ الآية.
المعنى: إن جحدوا ما أنزل إليك يا محمد بأن قالوا: ﴿مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ فإن الله يشهد أنه أنزله إليك بعلم منه أنك خِيرته من خلقه ويشهد بذلك ملائكته
وقيل معنى: ﴿بِعِلْمِهِ﴾ أي وفيه علمه، كما تقول: جائنا فلان بالسيف أي ومعه.
قال ابن عباس: " نزلت هذه الآية في جماعة من يهود دخل عليهم رسول الله ﷺ فقال لهم: إني والله أعلم، أنكم لتعلمون أني رسول الله فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله ﴿لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ﴾ ".
المعنى: إن الذين جحدوا نبوتك بعد علمهم بها ﴿وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي: عن الدين الذي بعثك الله به، وهو الإسلام وهو قولهم: لمن سألهم عن النبي ﷺ ما نجد صفته في كتابنا، وقولهم: إن النبوة لا تكون إلا في ولد هارون، وذرية داود ﴿قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً﴾ أي قد جاروا عن قصد الطريق جوراً شديداً.
قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ...﴾. الآية.
المعنى: إن الذين جحدوا نبوة محمد، ووضعوا الحق في غير محله، ليس يغفر لهم الله ذلك، إذا ماتوا عليه، ولم يكن ليهديهم طريقاً إلى الحق، ولكن يخذلهم حتى يسلكوا طريق جهنم فيقيمون فيها، خالدين [فيها] أبداً.
المعنى : إن الذين جحدوا نبوة محمد، ووضعوا الحق في غير محله، ليس يغفر لهم الله ذلك، إذا ماتوا عليه، ولم يكن ليهديهم طريقاً إلى الحق، ولكن يخذلهم حتى يسلكوا طريق جهنم فيقيمون فيها، خالدين [ فيها ]( ١ ) أبداً( ٢ ).
وقيل معنى :( [ وَلاَ ]( ٣ ) لِيَهْدِيَهُمْ ) أي لا يوفقهم إلى الإسلام( ٤ ). ( وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ) أي الخلق خلقه، والأمر أمره يفعل ما يشاء.
٢ - انظر: المصدر السابق..
٣ - ساقط من (أ) (ج)..
٤ - انظر: المصدر السابق..
قوله: ﴿يا أيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ...﴾ الآية.
﴿خَيْراً لَّكُمْ﴾ نصب عند سيبويه بإضمار فعل التقدير (وأتوا خير لكم).
وهو عند الفراء: نعت لمصدر محذوف.
وعند أبي عبيدة خبر كان، التقدير: يكن خيراً لكم.
وقيل: نصبه على الحال. لأن التقدير: وآمنوا خيراً لكم، فلما حذف هو، الذي هو كناية عن مصدر يرتفع خير به، اتصل خبر بمعرفة قبله فنصب على الحال، وفي بعد، لأن خيراً غير جار على الفعل، ولا هو بمعنى الجار.
والمعنى: أنه خطاب لمشركي العرب وسائر أصناف الكفر. والحق هو الإسلام.
والمعنى: ﴿وَإِن تَكْفُرُواْ﴾ أي: تجحدوا، رسالة ﷺ وتردوها فعن ذلك لا يضر الله شيئاً. لأن له ما في السموات والأرضين، فلن ينقصه كفركم شيئاً، ولم يزل الله عليماً بكم، وبما أنتم إليه صائرون وعاملون حكيماً في أمره إياكم.
قوله: ﴿يا أهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق...﴾ الآية.
﴿انتهوا خَيْراً لَّكُمْ﴾ نصب ﴿خَيْراً﴾ عند سيبويه على إضمار فعل دل عليه الكلام لأنه أمرهم بالانتهاء عن الكفر والدخول في الإيمان، فالمعنى: وأوا خيراً لكم. قال: لأنك إذا قلت أنتم فأنت تخرجه من شيء، وتدخله في آخر، ومثله عنده.
قواعد من سر حتى ملك | أو الربا بينهما أسهلا |
ومذهب أبي عبيدة أنه خبر كان، والتقدير يكن خيراً لكم، ورد ذلك المبرد
ومذهب الفراء أنه نعت لمصدر محذوف كأنه قال: انتهوا انتهاء خيراً لكم.
قوله: ﴿سُبْحَانَهُ﴾ انتصب انتصاب المصدر.
و ﴿أَن يَكُونَ﴾ إن في موضع [نضب] بحذف الخافض المحذوف، [والتقدير على أن يكون، وقد قيل: في موضع خفض بإعمال الخافض المحذوف].
ومعنى الآية: أنها خطاب للنصارى.
فمعنى: ﴿لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ﴾ أي: " لا تجاوزوا الحق في دينكم.
﴿وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله [إِلاَّ الحق]﴾ أي: لا تقولوا في عيسى إلا الحق فإن قولكم في عيسى غير الحق إذ تقولون إنه: ابن الله، فهذا قولهم على الله غير الحق.
و ﴿المسيح﴾ فعيل بمعنى مفعول بمعنى ممسوح وسمي بذلك لأن الله مسحه من الذنوب والأدناس.
وقد قيل: إنها لفظة أعجمية أصلها مشيحا فأعرب فقيل المسيح، وقد ذكرنا
ومعنى: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ﴾ الكلمة هنا الرسالة التي أمر الله ملائكته أن تأتي بها مريم مبشرة من الله لها التي ذكرها الله في آل عمران.
قال قتادة: كلمة [قوله] ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾.
ومعنى: ﴿أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ﴾ أعلمها بها وأخبرها، كما تقول: ألقيت إليك كلمة حسنة، بمعنى أعلمتك، بها.
ومعنى: ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ أي: ونفخ منه، وذلك أنه حدث عيسى في بطن أمه بأمر الله، وتقديره من غير ذكر من نفخة جبريل عليه السلام في درع مريم بأمر الله إياه، فنسبه تعالى إليه لأنه عن أمره كان.
وسمي النفخ روحاص: لأنه ريح تخرج من الروح.
وقيل: معنى: ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾: أنه كان بإحياء الله إياه بقوله ﴿كُنْ﴾ فمعناه وحياة منه.
وقيل: معنى: ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ ورحمة منه كما قال ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ [المجادلة: ٢٢] فمعنى برحمة منه أي جعله رحمة لمن تبعه وصدقه.
كما قال: ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً﴾ [مريم: ٢٠].
قال: أخذهم فجعلهم أرواحاً، ثم صورهم ثم، استنطقهم، فكان روح عيسى عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد، والميثاق فأرسل تلك الروح إلى مريم، فدخل في فيها فحملت فهو قوله ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾.
وقيل: الروح في الآية معطوف على المضمر في ﴿أَلْقَاهَا﴾ والمضمر اسم الله، والروح اسم جبريل كان تقديره: ألقى الله وجبريل الكلمة إلى مريم، كما قال:
﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين﴾ [الشعرا: ١٩٣] وهو جبريل عليه السلام.
وقيل معنى: ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ وبرهان منه لمن اتبعه، وذلك ما أنزل عليه من كتابه، وسمي البرهان روحاً، لأنه يحيى به من قبله
قوله: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح...﴾ الآية.
﴿أَن﴾ في موضع نصب، أي: من إن، أو: عن إن.
والمعنى: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح﴾ و ﴿لاَ الملائكة المقربون﴾ أن يقروا بالعبودية لله والإذعان له.
وقيل: هم من قرب منهم من السماء السابعة قاله الضحاك.
وفي هذا اللفظ دليل على فضل الملائكة على بني آدم.
ومعنى: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ﴾ لن يتعظم ويستكبر.
﴿وَمَن يَسْتَنْكِفْ﴾ أي يتعظم من عبادته ويستكبر عنها.
﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً﴾ أي يبعثهم، فأما المؤمنون وهم المقرون بالوحدانية ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ [بعد ذلك] تفضلاً منه. [وذلك أنه تعالى [وعد] المؤمنين للحسنة عشر أمثالها، ثم يزيدهم تفضلاً منه] ما شاء غير محدود.
وقيل: الزيادة إلى سبعمائة ضعف، وقيل إلى ألفين.
قوله: ﴿وَأَمَّا الذين استنكفوا﴾ أي " تعظموا عن عبادته " ﴿واستكبروا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي مؤلماً.
﴿وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ أي: يستنقذهم من عذاب الله.
المعنى: إنه خطاب لجميع الملل.
ومعنى: ﴿بُرْهَانٌ﴾ أي حجة. ومن أجل تذكير البرهان في اللفظ قال ﴿قَدْ جَآءَكُمْ﴾ ولم يقل قد جاءتكم، وهو محمد ﷺ هو حجة على جميع الخلق.
﴿وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً﴾ أي القرآن.
قوله: ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ﴾ أي تمسكوا بالنور وهو القرآن فالهاء تعود على القرآن.
وقيل: معنى ﴿واعتصموا بِهِ﴾ أي اقتنعوا بكتابه عن معاصيه.
﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ أي: يوفقهم لإصابه فضله، ويهديهم لسلوك طريق من أنعم عليه من أهل طاعته.
وقال بعض الكوفيين في نصب الصراط: إنه على القطع من الهاء في إليه.
وقيل: معنى ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ﴾ أي: إلى ثوابه.
والهاء في إليه تعود على الله جل ذكره.
وقيل: تعود على الفضل.
وقيل: على الرحمة والفضل لأنهما بمعنى الثواب والرحمة في قول مقاتل: الجنة.
قوله: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة...﴾ الآية.
وقال الكسائي والفراء: المعنى: لئلا تضلوا.
وروى ابن عمر، أن النبي ﷺ قال: " لا يَدْعُوَنَّ أحدكم على ولده، أن يوافق من الله إجابة " المعنى: لئلا يوافق.
وقيل: المعنى: يبين الله لكم الضلالة لتجتنبوه.
ومعنى الآية: أن عمر بن الخطاب سأل النبي ﷺ عن الكلالة، فنزلت ﴿يَسْتَفْتُونَكَ...﴾ الآية.
والكلالة من لا ولد له ولا والد من الموتى، فهو اسم للميت الذي لم يترك ولداً ولا والداً.
وقيل: الكلالة اسم للورثة الذين لا ولد فيهم ولا والد، وقد مضى ذكر هذا بأشبع من هذا.
وقيل: إنها نزلت في جابر بن عبد الله عاده النبي ﷺ في مرضه، قال جابر: فقلت يا رسول الله: كيف أقضي في مالي؟ وكان له تسع أخوات ولم يكن له ولد ولا
وقال الفراء وأنس: هي آخر آية نزلت من القرآن.
وقال جابر: نزلت في المدينة.
وقيل نزلت في سفر كان فيه النبي ﷺ ومعنى حكمها: أن من مات لا ولد له ولا والد ﴿وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ﴾ إن مات وليس لها ولد ولا والد، وللاثنين فأكثر من أخيهما الثلثان.
فإن ترك إخوة ذكوراً وإناثاً ﴿فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين﴾ والأخ للأب يقوم مقام الأخ للأب والأم عند عدمه، وكذلك الأخت.
وقوله: ﴿فَإِن كَانَتَا اثنتين﴾ فيه قولان:
قال الأخفش: التقدير: فإن كان من ترك اثنتين ثم ثنى الضمير على معنى من.
وقال المازني: فائدة الخبر هنا أنه لما قال ﴿كَانَتَا﴾ كان يجوز أن يكون الخبر صغيرين، أو كبيرين، فلما قال ﴿اثنتين﴾ اشتمل على الصغير والكبير فأفاد ذلك.
لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة ٣٤٧ هـ
المجلد الثالث
المائدة - الأنعام
١٤٢٩ هـ - ٢٠٠٨ م