تفسير سورة غافر

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة غافر من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿غَافِرِ﴾ الغفْر: السترُ والمحو والتكفير ﴿الطول﴾ الإِنعام والتفضل ﴿يُدْحِضُواْ﴾ يبطلوا ويزيلوا، يقال: الباطلُ داحضٌ، لأنه يزلق ويزل فلا يستقر ﴿حَقَّتْ﴾ وجبت ولزمت ﴿مَقْتُ﴾ المقت: شدة البغض ﴿الروح﴾ الوحيُ والنبوة سمي رُوحاً لأن القلوب تحيا به كما تحا الأبدان بالأرواح ﴿التلاق﴾ الاجتماع في الحشر ﴿بَارِزُونَ﴾ ظاهرون لا يسترهم شيء ﴿الأزفة﴾ اسم للقيامة سميت آزفة لقربها، يقال أزف الشيء إذا اقترب ﴿وَاقٍ﴾ دافع يدفع عنهم العذاب.
التفسِير: ﴿حم﴾ الحروف المقطَّعة للتنبيه على إعجاز القرآن، وللإِرشاد على أن هذا القرآن المعجز منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية ﴿تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله﴾ أي هذا القرآن تنزيلٌُ من الله ﴿العزيز العليم﴾ أي العزيز في ملكه، العليم في خلقه ﴿غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب﴾ أي الذي يعفو عن ذنوب العباد، ويقبل توبة العصاة لمن تاب منهم وأناب ﴿شَدِيدِ العقاب﴾ أي شديد العقاب لمن تكبر وطغى، وأعرض عن طاعة المولى ﴿ذِي الطول﴾ أي ذي الفضل والإِنعام ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا معبود بحقٍ إلا الله، ولا ربَّ في الوجود سواه ﴿إِلَيْهِ المصير﴾ أي إليه وحده مرجع الخلائق فيجازيهم بأعمالهم، وإنما قدَّم المغفرة والتوبة على العقاب، للإِشارة إلى سعة الفضل وأن رحمته سبقت عذابه، ثم لما ذكر أن القرآن هداية الله للعالمين، أعقبه بذكر المجادلين المعاندين فقال ﴿مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ﴾ أي ما يدفع الحق ويجادل في هذا القرآن بعد وضوح آيات وظهور إعجازه إلا الجاحدون لآياتِ الله، المعاندون لرسله ﴿فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد﴾ أي فلا تغترَّ أيها العاقل بتصرفهم وتقلبهم في هذه الدنيا، بالمساكن والمزارع، والممالك والتجارات، فإنهم أشقى الناس، وما هم عليه من النعيم متاعٌ قلي، وظلٌ زائل، فإِني وإِن أمهلتهم لا أهملُهم، بل آخذه بعد ذلك النعيم أخذ عزيز مقتدر قال في التسهيل: والآية تسليةٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووعيدٌ شديد للكفار ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي كذَّب قبل كفار مكة أقوام كثيرون، منهم قوم نوح والأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم ولم يقبلوا ما جاءوا به من عند الله كقوم عاد وثمود وفرعون وأمثالهم ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾ أي وهمت كل أمةٍ من الأمم المكذبين أن يقتلوا رسولهم ويبطشوا به قال ابن كثير: أي حرصوا على قتله بكل ممكن ومنهم من قتل رسوله ﴿وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق﴾ أي جادلوا رسلهم بالباطل ليزيلوا ويبطلوا به الحق الواضح الجلي ﴿فَأَخَذْتُهُمْ﴾ أي فأهلكتهم إهلاكاً مريعاً ﴿فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ استفهام تعجيب أي فكيف كان عقابي لهم؟ ألم يكن شديداً فضيعاً؟ ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين كفروا﴾ أي وكذلك وجبت
86
كلمة العذاب على هؤلاء المكذبين من قومك، كما وجبت لمن سبقهم من الكفار ﴿أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار﴾ أي لأنهم أهل النار، قال القرطبي: أي كما حقَّ على الأمم التي كذبت رسلها وحلَّ بها عقابي، كذلك وجبت كلمة العذاب على الذين كفروا بالله من قومك لأنهم أصحاب النار.
ثم ذكر تعالى حال الملائكة الأطهار، والمؤمنين الأبرار، بعد أن ذكر الكفار والفجار فقال ﴿الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ أي هؤلاء العباد المقربون حملةُ العرش ومن حول العرش من أشراف الملائكة وأكابرهم، ممن لا يُحصي عددهم إلا الله، هم في عبادة دائبة لله، ينزهونه عن صفات النقص، ويثنون عليه بصفات الكمال ﴿وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أي ويصدقون بوجوده تعالى، وبأنه لا إله لهم سواه، ولا يستكبرون عن عبادته قال الزمخشير: فإن قالت: ما فائدة قوله ﴿وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ ولا يخفى أن حملة العرش وجميع الملائكة يؤمنون بالله؟ فالجواب أن ذلك إظهار لفضيلة الإِيمان وشرفه والترغيب فيه ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ أي موهم مع عباداتهم واستغراقهم في تسبيح الله وتمجيده، يطلبون من الله المغفرة للمؤمنين قائلين ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً﴾ أي يا ربنا وسعت رحمتُك وعلمك كل شيء قال المفسرون: وفي وصف الله تعالى بالرحمة والعلم وهو ثناءٌ قبل الدعاء تعليمُ العباد أدب السؤال والدعاء، فهم يبدأون دعاءهم بأدبٍ ويستمطرون إحسانه وفضله وإنعامه ﴿فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ﴾ أي فاصفح عن المسيئين المذنبين، التائبين عن الشرك والمعاصي، المتعبين لسبيل الحق الذي جاء به أنبياؤك ورسلك ﴿وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم﴾ أي واحفظهم من عذاب جهنم ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ﴾ أي أدخلهم جنات النعيم والإِقامة التي وعدتهم إياها ﴿وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ أي وأدخل الصالحين من الآباء والأزواج والأولاد في جنات النعيم أيضاً ليتم سرورهم بهم قال ابن كثير: أي جمع بينهم وبينهم لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في الجنة بمنازل متجاورة ﴿إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾ أي العزيز الذي لا يُغلب ولا يمتنع عليه شيء، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة ﴿وَقِهِمُ السيئات﴾ هذا من تمام ادعاء الملائكة أي أحفظم يا ربّ من فعل المنكرات والفواحش التي توبق أصحابها ﴿وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ أي ومن حفظته من نتائجها وعواقبها يوم القيامة، فقد لفطفت به ونجيته من العقوبة ﴿وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم﴾ أي وذلك الغفران ودخول الجنان، هو الظفر العظيم الذي لا ظفر مثله.. ولما تحدث عن أحوال المؤمنين، ذكر شيئاً من أحوال الكافرين فقال ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ أي تناديهم الملائكة يوم القيامة على جهة التوبيخ والتقريع: لبغض الله الشديد لكم في الدنيا أعظم من بغضكم اليوم لأنفسكم ﴿إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ﴾ إي حين كنتم تُدعون إلى الإِيمان فتكفرون كبراً وعتواً قال قتادة: بغضُ الله لأهل الضلالة حين عُرض عليهم الإِيمان في الدنيا فأبوا أن يقبلوه، أكبرُ مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله ﴿قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين﴾ أي قال الكفار لما
87
رأوا الشدائد والأهوال ربَّنا أمتَّنا مرتين، وأحييتنا مرتين ﴿فاعترفنا بِذُنُوبِنَا﴾ أي فاعترفنا بما جنيناه من الذنوب في الدنيا ﴿فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾ أي فهل تردنا إلى الدنيا لنعمل بطاعتك؟ وهل تخرجنا من النار لنسلك طريق الأبرار؟ قال المفسرون: الموتةُ الأولى حين كانوا في العمد، والموتة الثانية حين ماتوا في الدنيا، والحياة الأولى حياة الدنيا، والحياة الثانية حياةُ البعث يوم القيامة، فهاتان موتتان وحياتان، وإنما قالوا ذلك على سبيل التعطف والتوسل إلى رضى الله، بعد أن عاينوا العذاب، وقد كانوا يكفرون وينكرون، ولهذا جاء الجواب ﴿ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ﴾ أي ذلكم العذاب والخلود في جهنم بسبب كفركم وعدم إيمانكم بالله، فإِذا دعيتم إلى التوحيد كفرتم ﴿وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ﴾ وإن دعيتم إلى اللت والعزَّى وأمثالهما من الأصنام، آمنت وصدَّقتم بألوهيتها ﴿فالحكم للَّهِ العلي الكبير﴾ أي فالقضاء لله وحده، لا للأوثان والأصنام، ولا سبيل إلى نجاتكم، لأن الله هو المتعالي على خلقه، العظيم في ملكه الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
. ولما ذكر تعالى ما يوجب التهديد الشديد للمشركين، أردفه بذكر ما يدل على كما قدرته وحكمته ليصير بمنزلة البرهان على عدم جواز عبادة الأوثان فقال ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ أي الله جل وعلا هو الذي يريكم أيها الناس العلامات الدالة على قدرته الباهرة في مخلوقاته، في العالم العلوي والسفلي الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها ﴿وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً﴾ أي وينزِّل لكم من السماء المطر الذي هو سبب للرزق، وبه تخرج الزروع والثمار ﴿وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ﴾ أي وما يعتبر ويتعظ بهذه الآيات الباهرة، إلا من يرجع إلى الله بالتوبة والإِنابة، العمل الصالح البعيد عن الرياء والنفاق ﴿فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ أي فاعبدوا الله أيها المؤمنون مخلصين له العبادة والطاعة ولا تعبدوا معه غيره ﴿وَلَوْ كَرِهَ الكافرون﴾ هذا للمبالغة أي اعبدوه وأخلصوا له قلوبكم، حتى ولو كره الكافرون وذلك، وغاظهم إخلاصكم وقاتلكم عليه ﴿رَفِيعُ الدرجات﴾ أي عظيم الشأن والسلطان، صاحب الرفعة والمقام العالي ﴿ذُو العرش﴾ أي صاحب العرش العظيم، الذي هو أعظم المخلوقات، ولا شيء يشبهه من مخلوقات الله قال ابن كثير: أخبر تعالى عن عظمته وكبريائه، وارتفاع عرضه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها، وقد ذُكر أن العرش من ياقوتةٍ حمراء ولا يعلم سعته إلا الله وقال أبو السعود: وكونُ العرض العظيم المحيط بأكناف العالم العلوي والسفلي، تحت ملكوته وقبضة قدرته، مما يقضي بكون علو شأنه وعظم سلطانه، في غايةٍ لا غاية وراءها ﴿يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي نزل الوحي على من يشاء من خلقه، ويختص بالرسالة والنبوة من أراد من عباده، وإِنما سمَّى الوحي روحاً لأنه يسري في القلوب كسريان الروح في الجسد قال القرطبي: سمَّاه روحاً لأن الناس يحيون به من موت الكفر كما تحيا الأبدان بالأرواح ﴿لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق﴾ أي ليخوِّف الرسول الموحَى إليه يوم القيامة الكبرى، حيث يلتقي العباد جميعاً ليحاسبوا
88
على أعمالهم، ويلتقي الخلق بالخالق في ساعة الحساب قال قتادة: يلتقي فيه أهل السماء بأهل الأرض، والخالق والخلق ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ﴾ أي يوم هم ظاهرون بادون للعيان، لا شيء يكنُّهم ولا يظلّهم ولا يسترهم من جبلٍ أو أكمةٍ أو بناء، لأنهم في أرض مستوية هي أرض المحشر ﴿لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾ أي لا يخفى على الله شيء من أحواله وأعمالهم ولا من سرائرهم وبواطنهم قال الصاوي: والحكمة في تخصيص ذلك اليوم مع أن الله لا يخفى عليه شيء في سائر الأيام أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم إذا استتروا بالحيطان مثلاً لا يراهم الله، وفي هذا اليوم لا يتوهمون هذا التوهم ﴿لِّمَنِ الملك اليوم﴾ ؟ أي ينادي الله سبحانه والناسُ بارزون في أرض المحشر: لمن المُلكُ اليوم؟ ويسكت الخلائق هيبةً لله تعالى وفزعاً، فيجيب تعالى نفسه قائلا ﴿لِلَّهِ الواحد القهار﴾ أي لله المتفرد بالملك، الذي قهر بالغلبة كل ما سواه قال الحسن: هو تعالى السائل والمجيب، لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه، فيجيب نفسه ﴿اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ أي في ذلك اليوم يوم القضاء والفصل بين العباد تُجازى كل نفسٍ بما عملت من خيرٍ أو شر ﴿لاَ ظُلْمَ اليوم﴾ أي لا يُظلم أحد شيئاً، لا بنقص ثواب، ولا بزيادة عقاب ﴿إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾ أي سريعٌ حسباه، لا يشغله شأنٌ عن شأن، فيحاسب الخلائق جميعاً في وقتٍ واحد قال القرطبي: كما يرزقهم في ساعةٍ واجدة، يحاسبهم كذلك في ساعةٍ واحدة، وفي الخبر:
«لا ينتصف النهارُ حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهلُ النار في النار» ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة﴾ أي خّوفهم ذلك اليوم الرهيب يوم القيامة قال ابن كثير: «الآزفة» اسم من أسماء القيامة، سميت بذلك لقربها كقوله تعالى ﴿أَزِفَتِ الآزفة﴾ [النجم: ٥٧] ﴿إِذِ القلوب لَدَى الحناجر﴾ أي تكاد قلوبهم لشدة الخوف والجزع تبلغ الحناجر وهي الحلوق مكان البلعوم ﴿كَاظِمِينَ﴾ أي ممتلئن غماً وحسرةً شأن المكروب قال في التسهيل: معنى الآية أن القلوب قد صعدت من الصدور لشدة الخوف حتى بلغت الحناجر، ويحتمل أن يكون ذلك حقيقةً أو مجازواً عبَّر به عن شدة الخوف والحنجرة هي الحلق ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ﴾ أي ليس للظالمين صديقٌ ينفعهم ﴿وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ أي ولا شفيع يشفع لهم لينقذهم من شدة العذاب ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين﴾ أي يعلم جلَّ وعلا العين الخائنة بمسارقتها النظر إلى محرم قال ابن عباس: هو الرجل يكون جالساً مع الناس، فتمرُّ المرأة فيسارقهم النظر إليها ﴿وَمَا تُخْفِي الصدور﴾ أي ويعلم السرَّ المستور تخفيه الصدور ﴿والله يَقْضِي بالحق﴾ أي يقضي ويحكم بالعدل ﴿والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾ أي والذين يعبدونهم من دون الله من الأوثان والأصنام ﴿لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾ أي لا حكم لهم أصلاً فيكف يكونون شركاء لله؟ قال أبو السعود: وهذا تهكمٌ بهم
89
لأن الجماد لا يقال في حقه يقضي أو لا يقضي ﴿إِنَّ الله هُوَ السميع البصير﴾ أي هو السمع لأقوال العباد، البصير بأفعالهم ﴿أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الأرض﴾ ؟ أي أولم يعتبر هؤلاء المشركون في أسفارهم بما يرون من أثار المكذبين ﴿فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي فينظروا ما حلَّ بالمكذبين من العذاب والنكال؟ فإنَّ العاقل من اعتبر بغيره ﴿كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ أي كانوا أشدَّ قوةً من هؤلاء الكفار من قومك ﴿وَآثَاراً فِي الأرض﴾ أي وأقوى آثاراً في الأرض من الحصون والقصور والجند الأشداء، ومع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد أهكلهم الله لما كذبوا الرسل ﴿فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ﴾ أي أهلكهم الله إهلاكاً فضيعاً بسبب إجرامهم وتكذيبهم رسل الله ﴿وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ﴾ أي وما كان لهم أحد يدفع عنهم عذاب الله، ولا يقيهم من عقابه.
. ثم ذكر تعالى سبب عقابه لهم فقال ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات﴾ أي ذلك العذاب بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالمعجزات الباهرات، والآيات الساطعات الواضحات ﴿فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ الله﴾ أي فكفروا مع هذا البيان والبرهان فأهلكهم الله ودمَّرهم ﴿إِنَّهُ قَوِيٌّ﴾ أي إنه تعالى قويٌ لايُقهر، ذو قوة عظيمة وبأسٍ شديد ﴿شَدِيدُ العقاب﴾ أي عقابه شديد لمن عصاه، وعذابه أليم وجيع، أعاذنا الله من عقابه وأجارنا من عذابه.
90
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما حلَّ بالكفار من العذاب والدمار، أردفه بذكر قصة موسى مع فرعون تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عما يلقاه من الأذى والتكذيب، وبياناً لسنة الله تعالى في أهلاك الظاليمن، ثم ذكر موقف مؤمن آل فرعون ونصيحته لقومه، وهي مواقف بطولية مشرِّفة في وجه الطغيان.
اللغَة: ﴿استحيوا﴾ استبقوا بناتهم على قيد الحياة ﴿ضَلاَلٍ﴾ ضياع وبطلان ﴿عُذْتُ﴾ اعتصمت وتحصنتُ والتجأت ﴿ظَاهِرِينَ﴾ غالبين مستعلين ﴿بَأْسِ الله﴾ عذابه وانتقامه ﴿دَأْبِ﴾ عادة وشأن ﴿التناد﴾ يوم القيامة للنداء فيه إلى المحشر، أو المناداة الناس بعضهم بعضاً قال أمية بن الصَّلت:
وبثَّ الخلق فيها إذ دحاها فهم سكَّانُها حتى التَّنادِ
﴿عَاصِمٍ﴾ مانع ودامع ﴿صَرْحاً﴾ قصراً وبناءً عظيماً حالياً ﴿تَبَابٍ﴾ خسران وهلاك ﴿لاَ جَرَمَ﴾ حقاً ولا محالة ﴿حَاقَ﴾ نزل وأحاط.
التفسِير: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ اللام موطئة للقسم أي والله لقد بعثنا رسولنا موسى بالآيات البينات، والدلائل الواضحات، وبالبرهان البيّن الظاهر وهو معجزة اليد والعصا ﴿إلى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ﴾ أي إلى فرعون الطاغية الجبار، ووزيره هامان، وقارون
91
صاحب الكنوز والأموال قال في البحر: وخصَّ قارون وهامان بالذكر لمكانتهما في الكفر، ولأنهما أشهر أتباع فرعون ﴿فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ أي فقالوا عن موسى إنه ساحر فيما أظهر من المعجزات، كذَّاب فيما ادعاه أنه من عند الله، وصيغة كذَّاب للمبالغة ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا﴾ أي فلما جاءهم بالمعجزات الباهرة التي تدل على صدقه، والتي أيَّده الله بها ﴿قَالُواْ اقتلوا أَبْنَآءَ الذين آمَنُواْ مَعَهُ واستحيوا نِسَآءَهُمْ﴾ أي اقتلوا الذكور لئلا يتناسلوا، واستبقوا الإِناث للخدمة قال الصاوي: وهذا القتلُ غيرُ الأول، لأن فرعون بعد ولادة موسى أمسك عن قتل الأولاد، فلما بُعث موسى وعجز عن معارضته أعاد القتل في الأولاد ليمتنع الناس من الإِيمان، ولئلا يكثر جمعهم فيكيدوه، فأرسل الله عليهم أنواع العذاب كالضفادع والقُمَّل والدم والطوفان، إلى أن خرجوا من مصر فأغرقهم الله تعالى وجعل كيدهم في نحورهم ﴿وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ أي وما تدبيرهم ومكرهم إلا في خسرانٍ وهلاك، لأن الله لا يُنجح سعيهم ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذروني أَقْتُلْ موسى﴾ أي قال فرعون الجبار: اتركوني حتى أقتلْ لكم موسى ﴿وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ أي وليناد ربه حتى يخصله مني، وإنما ذكره على سبيل الاستهزاء وكأنه يقول: لا يهولنكم ما يذكر من ربه فإِنه لا حقيقة له وأنا ربكم الأعلى، وغرضُه أن يوهمهم بأنه إنما امتنع عن قتله رعايةً لقلوب أصحابه قال أبو حيان: والظاهر أ، فرعون لعنه الله كان قد استيقن أنه نبيٌ، وأن ما جاء به آياتٌ باهرة وما هو بسحر، ولكن الرجل كان فيه خبثٌ وجبروت وكان قتالاً سفاكاً للدماء لأهون شيء، فكيف لا يقتل من أحسَّ منه بأنه يثل عرشه ويهدم ملكه، ولكنه يخاف إن همَّ بقتله أن يُعاجل بالهلاك، وكان كلامه للتمويه على قومه وإيهامهم أنهم هم الذي يكفّرونه، وما كان يكفُّه إلا شدةُ الخوف والفزع ﴿إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ﴾ أي إني أخشى أن يغيّر ما أمنت عليه من عبادتكم لي إلى عباده ربه ﴿أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد﴾ أي أو أن يثير الفتن والقلاقل في بلدكم، ويكون بسببه الهرجُ، وهذا كما قال المثل «صار فرعون واعظاً» ﴿وَقَالَ موسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾ أي إني استجرتُ بالله واعتصمتُ به ليحفظني ﴿مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب﴾ أي من شر كل جبارٍ عنيد متكبر عن الإِيمان بالله، لا يصدِّق بالآخرة قال في التسهيل: وإنما قال ﴿مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ﴾ ولم يذكره باسمه ليشمل فرعون وغيره، وليكون فيه وصفٌ لغير فرعون بذلك الوصف القبيح ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾ قال المفسرون: كان هذا الرجل ابن عم فرعون وكان قبطياً يخفي إيمانه عن فرعون،
92
فلما سمع قول الجبار متوعداً موسى بالقتل نصحهم بقوله ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله﴾ استفهام إنكاري للتبكيت عليهم أي أتقتلون رجلاً لا ذنب له إلا لأجل أنقال: ربيَ الله من غير تفكرٍ ولا تأملٍ في أمره؟ ﴿وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ﴾ أي والحال أنه قد أتاكم بالمعجزات الظاهرة التي شاهدتموها من عند ربكم ﴿وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾ أي إن كان كذاباً في دعوى الرسالة فضرر كذبه لا يتعداه قاله القرطبي: ولم يكن ذلك لشكٍ منه في رسالته وصدقه، ولكنْ تلطفاً في الاستكفاف، واستنزالاً عن الأذى ﴿وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ﴾ أي وإِن كان صادقاً في دعواه أصابكم بعضُ ما وعدم به من العذاب ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ أي لا يوفق للهداية والإِيمان من هو مسرفٌ في الضلال، مبالغ في الكذب على الله قال الإِمام الفخر: وفي هذا إشارة إلى رفع شأن موسى لأن الله هداه وأيده بالمعجزات، وتعريضٌ بفرعون في أنه مسرفٌ في عزمه على قتل موسى، كذَّاب في إِقدامه على ادعاء الإِلهية، والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته، بل يبطله ويهدم أمره وقال في البحر: هذا نوعٌ من أنواع علم البيان يسميه علماؤنا «استدراج المخاطب» وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى، وقومه على تكذيبه أراد الانتصار له بطريق يُخفي عليهم بها أنه متمعصبٌ له، وأنه من أتباعه، فجاءهم بطريق النصح والملاطفة فقال ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً﴾ ولم يذكر اسمه بل قال رجلاً ليوهمهم أنه لا يعرفه، ثما قال ﴿أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله﴾ ولم يقول رجلاً مؤمناً بالله أو هو نبيٌ الله، إذ لو قال ذلك لعلموا أنه متعصب ولم يقبلوا قوله، ثم أتبعه بقوله ﴿وَإِن يَكُ كَاذِباً﴾ فقدَّم الكذب على الصدق موافقة لرأيهم فيه ثم تلاه بقوله ﴿وَإِن يَكُ صَادِقاً﴾ ولم يقل هو صادق وكذلك قال ﴿يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ﴾ ولم يقل كلُّ ما يعدكم ولو قال ذلك لعلموا أنه متعصب له، وأنه يزعم نبوته وأنه يصدّقه، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدِّق له وهو قوله ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ وفيه تعريضٌ بفرعون، إذ هو في غاية الإِسراف والكذب على الله، إذْا ادعدى الألوهية والربوبية ﴿ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظَاهِرِينَ فِي الأرض﴾ كرر النصح مع التلطف والمعنى: أنتم غالبون على بني إسرائيل في أرض مصر قد قهرتموهم واستعبدتموهم اليوم ﴿فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا﴾ أي فمن ينقذنا من عذاب الله وينجينا منه إن قتلتم رسوله قال الرازي: وإِنما قال ﴿يَنصُرُنَا﴾ و ﴿جَآءَنَا﴾ لأنه كان يُظهر لهم أنه منهم، وأنَّ الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه.
. وهنا تأخذ فرعون العزةُ بالإِثم، ويستبدُّ به الجبروت والطغيان ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى﴾ أي ما أشير عليكم برأيٍ سوى ما ذكرتُه من قتل موسى حسماً لمادة الفتنة ﴿وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد﴾ أي وما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الصواب والصلاح ﴿وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب﴾ أي أخشى عليكم مثل أيام العذاب التي عُذّب بها المتحزبون على الأنبياء ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾ هذا تفسير للأحزاب أي مثل عادة قوم نوع وعاد وثمود وما أصابهم من العذاب والدمار بتكذيبهم لرسلهم ﴿والذين مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي والمكذبين بعد أولئك كقوم لوط ﴿وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ﴾ أي لا يعاقب
93
العباد بدون ذنب قال الزمخشري: أي إن تدميرهم كان عدلاً وقسطاً لأنهم استوجبوه بأعمالهم، وفيه مبالغة حيث جعل المنفي إرادة الظلم، ومن كان بعيداً عن إرادة الظلم، كان عن الظلم أبعد ﴿وياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد﴾ خوَّفهم بعذاب الآخرة بعد أن خوفهم بعذاب الدنيا والمعنى إني أخاف عليكم من ذلك اليوم الرهيب يوم الحشر الأكبر، حيث ينادي المجرمون بالويل والثبور ﴿دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً﴾ [الفرقان: ١٣] ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾ أي تولون منهزمين من هول عذاب جنهم قال المفسرون: إن الكفار إذا سمعوا زفير النار أدبروا هاربين، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة يتلقونهم يضربون وجوههم، فيرجعون إلى مكانهم فتتلقهم جنهم ﴿مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ﴾ أي ليس لكم مانع ولا دافع يصرف عنكم عذاب الله ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ أي ومن يضلله اللهُ فليس له من يهديه إلى طريق النجاة ﴿وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات﴾ أي والله لقد جاءكم يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالمعجزات الظاهرات ﴿فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ﴾ أي فلم تزالوا شاكين في رسالته كافرين بما جاء به من عند الله قال المفسريون: المراد آباؤكم وأصولكم ﴿حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً﴾ أي حتى إذا مات قلتم على سبيل التشهيّ والتمني من غير حجة ولا برهان لن يأتي أحد يدعي الرسالة بعد يوسف قال أبو حيان: وليس هذا تصديقاً لرسالة يوسف، كيف وما زالوا في شك منه، وإنما المعنى لا رسول من عند الله فيبعثه إلى الخلق، ففيه نفي الرسول ونفي بعثته ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ﴾ أي مثل ذلك الضلال الفظيع يُضلُّ الله كل مسرفٍ في العصيان، شاكٍّ في الدين، بعد وضوح الحجج والبراهين ﴿الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ هذا من تتمة كلام الرجل المؤمن والمعنى الذين يجادلون في شريعة الله بغير حجة وبرهان جاءهم من عند الله ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين آمَنُواْ﴾ أي عظُم بغضاً عند الله وعند المؤمنين جدالُهم بغير رهان قال في البحر: عادل الواعظ عن مخاطبتهم إلى الإسم الغائب، لحسنِ محاورته لهم واستجلاب قلوبهم، لئلا يفجأهم بالخطاب، وفي قوله ﴿كَبُرَ مَقْتاً﴾ ضربٌ من التعجب والاستعظام لجادالهم، كأنه خارج عن حدِّ أمثاله من الكبائر ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ أي كما ختم على قلوب هؤلاء المجادلين كذلك يختم بالضلال على قلب كل متكبر عن الإِيمان، متجبرٍ على العباد، حتى لا يعقل الرشاد، ولا يقبل الحق، وإنما وصف القلب بالتكبر والجبروت لكونه مركزهما ومنبعهما، وهو سلطان الأعضاء، فمتى فسد فسدت ﴿وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً﴾ أي قال فرعون لوزيره هامان ابن لي قصراً عالياً، وبناءً شامخاً منيفاً قال القرطبي: لما قال مؤمن آل فرعون ما قال، وخاف فروع أن يتمكن كلامه في قلوب القوم، أوهم أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد، فأمر وزيره هامان ببناء الصرح ﴿لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات﴾ أي لعلي أصل وأنتهي إلى طرق السموات وما
94
يؤدي إليها، وكررها للتفخيم والبيان ﴿فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى﴾ أي فأنظر إلى إله موسى نظر عيان ﴿وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً﴾ أي وإِني لأعتقد موسى كاذباً في ادعائه أن له إلهاً غيري قال أبو حيان: وبلوغُ أسباب السموات غير ممكن، لكنَّ فرعون أبرزه في صورة الممكن تمويهاً على سامعيه، ولما قال ﴿فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى﴾ كان ذلك إقراراً بالإِله فلذلك استدرك هذا الإِقرار بقوله ﴿وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً﴾ ﴿وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سواء عَمَلِهِ﴾ أي ومثل ذلك التزيين زُيّن لفرعون عمله السيء حتى رآه حسناً ﴿وَصُدَّ عَنِ السبيل﴾ أي ومُنع بضلاله عن طريق الهدى ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ﴾ أي وما تدبير فرعون ومكره إلا في خسار وهلاك، خسر ملكه في الدنيا بالغرق، وفي الآخرة بالخلود في النار ﴿وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد﴾ كرَّر مؤمن آل فرعون نصحه لهم بعد تلك المراوغة التي لقيها من فرعون، ودعا قومه إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، وكشف لهم عن قيمة الحياة الزائلة، وشوَّقهم إلى نعيم الحياة الباقية، وحذَّرهم من عذاب الله ومعنى الآية: امتثلوا يا قوم أمري واسلكوا طريقي أرشدكم إلى طريق الفوز والنجاة طريق الجنة ﴿ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ﴾ أي ليست الدنيا إلا متاعاً زائلاً، لاثبات له ولا دوام ﴿وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار﴾ أي وإن الدار الآخرة هي دار الاستقرار والخلود، التي لا زوال لها ولا انتقال منها، فإِما خلود في النعيم، أو خلود في الجحيم قال القرطبي: ومراده بالدار الآخرة الجنة والنار لأنهما لا يفنيان ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا﴾ أي من عمل في هذه الدنيا سيئةً فلا يعاقب في الآخرة إلا بمقدارها دون زيادة، رحمة منه تعالى بالعباد ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ أي ومن فعل في الدنيا العمل الصالح سواءً كان ذكراً أو أنثى بشرط الإِيمان ﴿فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي فأولئك المحسنون يدخلون جنات النعيم، ويعطون جزاءهم بغير تقدير، بل أضعافاً مضاعفة فضلاً من الله وكرماً، فقد اقتضى فضله تعالى أن تضاعف الحسناتُ دون السيئات قال ابن كثير: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي لا يتقدر بجزاء، بل يثيبه الله ثواباً كثيراً عظيماً، لا انقضاء له ولا نفاد ﴿وياقوم مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار﴾ ؟ أي ما لي أدعوكم إلى الإِيمان الموصل إلى الجنان، وتدعونني إلى الكفر الموصل إلى النار؟ والاستفهما للتعجب كأنه يقول: أنا أتعجب من حالكم هذه، أدعوكم إلى النجاة والخير، وتدعونني إلى النار والشر؟ ثم وضَّح ذلك بقوله ﴿تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ أي تدعونني للكفر بالله، وأن أعبد ما ليس لي علمٌ بربويته، وما ليس بإِلهٍ كفرعون ﴿وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار﴾ أي وأنا أدعوكم إلى عبادة الله الواحد الأحد، العزيز الذي لا يُغلب، العفَّار لذنوب العباد ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تدعونني إِلَيْهِ﴾ أي حقاً إنما تدعونني لعبادته ﴿لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدنيا وَلاَ فِي الآخرة﴾ أي لا يصلح أن يُعبد لأنه لا يسْتجيب لنداء داعيه، ولا يقدر على تفريج كربته لا في الدنيا ولا في الآخرة ﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى الله﴾ أي وأن مرجعنا إلى الله وحده فيجازي كلاً بعمله ﴿وَأَنَّ المسرفين هُمْ أَصْحَابُ النار﴾ أي وأن المسرفين في الضلال والطغيان
95
سيخلَّدون في النار ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ﴾ أي فستذكرون صدق كلامي عندما يحل بكم العذاب، وهو تهديد ووعيد ﴿وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله﴾ أي أتوكل على الله، وأسلّم أمري إليه قال القرطبي: وهذا يدل على أنهم هدَّدوه وأرادوا قتله ﴿إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد﴾ أي مطلع أعمالهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم ﴿فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ﴾ أي فنجاه الله من شدائد مكرهم، ومن أنواع العذاب الذي أرادوا إلحاقه به ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب﴾ أي ونزل بفرعن وجماعته أسوأ العذاب، وهو الغرق في الدنيا، والحرق في الآخرة، ثم فسَّره بقوله ﴿النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً﴾ أي النار ُحرقون بها صباحاً ومساء قال المفسرون: المراد بالنار هنا نار القبر وعذابهم في القبور بدليل قوله بعده ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب﴾ أي ويوم القيامة يقال للملائكة: ادخلوا فرعون وقومه نار جنهم التي هي أشد من عذاب الدينا.
96
المنَاسَبة: لما ذكر تعالى ما حلَّ بآل فرعون من العذاب والدمار، ذكر بعده النزاع والخصام الذي يكون بين أهل النار، واستغاثة المجرمين، وهم في عذاب الجحيم يصلون سعيرها فلا يجابون، ثم ذكر الأدلة والبراهين على قدرة الله ووحدانيته، لإِقامة الحجة على المشركين.
اللغَة: ﴿يَتَحَآجُّونَ﴾ يختصمون ﴿خَزَنَةِ﴾ جمع خازن وهو المتكفل بحفظ الشيء وحراسته ﴿الأشهاد﴾ جمع شاهد وهو الذي يشهد بالحجة على غيره ﴿دَاخِرِينَ﴾ أذلاء صاغرين ﴿تُؤْفَكُونَ﴾ تُصرفون عن الإِيمان إلى الكفر ﴿قَرَاراً﴾ مستقرا ﴿أُسْلِمَ﴾ أذل وأخضع.
التفسِير: ﴿وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النار﴾ أي واذكر حين يختصم الرؤساء والأتباع في نار جهنم ﴿فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً﴾ أي فيقول الأتباع الضفعاء للرؤساء المستكبرين عن الإِيمان واتباع الرسل، إنا كنا لكم في الدنيا أتباعاً كالخدم ننقاد لأوامركم، ونطيعكم فيما تدعوننا إليه من الكفر والضلال ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النار﴾ ؟ أي فهل أنتم دافعون عنا جزءاً من هذا العذاب الذي نحن فيه؟ قال الرازي: علموا أن أولئك الرؤساء لا قدرة لهم على ذلك التخفيف، وإنما مقصودهم من هذا الكلام المبالغة في تخجيل الرؤساء، وإِيلام قلوبهم، لأنهم سعوا في إيقاعهم في أنواع الضلالات ﴿قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ﴾ أي قال الرؤساء جواباً لهم: إنَّا جميعاً في نار جهنم، فلو قدرنا على إزالة العذاب عنكم لدفعناه عن أنفسنا ﴿إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد﴾ أي قضى قضاءً مبرماً لا مردَّ له، بدخول المؤمنين الجنة، والكافرين النار، فلا نستطيع أن نفعل لكم شيئاً ﴿وَقَالَ الذين فِي النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ﴾ لما ئيس أهل النار بعضهم من بعض التجأوا إلى حراس جنهم يطلبون منهم التخفيف قال البيضاوي: وإنما وضع جهنم موضع الضمير ﴿لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ﴾ بدلاً من «لخزنتها» للتهويل والتفظيع ﴿ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب﴾ أي أدعوا لنا الله أن يخفف عنا ولو مقدار يوم واحد من هذا العذاب ﴿قالوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات﴾ ؟ أي أجابتم الملائكة على سبيل التوبيخ والتقريع: ألم تأتكم الرسل بالمعجزات الظاهرات فكفرتم بهم وكذبتموهم؟ ﴿قَالُواْ بلى﴾ أي قال الكفار بلى جاءونا ﴿قَالُواْ فادعوا﴾ اي قالت لهم الملائكة: فادعوا اللهَ أنتم فإِنا لا نجترىء على ذلك قال الرازي: وليس قولهم ﴿فادعوا﴾ لرجاء المنفعة، ولكنْ للدلالة على الخيبة، فإن الملائكة المقربين إذا لم يُسمع دعاؤهم، فكيف يسمع دعاء الكفار؟ ثم يصرّحون لهم بأنه لا أثر لدعائهم فيقولون ﴿وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾ أي دعاؤكم لا ينفع ولا
97
يجدي لأن دعاء الكافرين ما هو إلا خسار وتبار ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا﴾ أي ننصر الرسل والمؤمنين بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة المجرمين في هذه الحياة الدنيا ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد﴾ أي وفي الآخرة يوم يحضر الأشهاد الذين يشهدون بأعمال العباد، من مَلك ونبيٍ ومؤمن قال الرازي: الآية وعدٌ من الله تعالى لرسوله بأن ينصره على أعدائه في الحياة الدنيا وفي الآخرة ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ﴾ أي لا ينفع المجرمين اعتذارهم قال ابن جرير: لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم، لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل ﴿وَلَهُمُ اللعنة﴾ أي الطردُ من رحمة الله ﴿وَلَهُمْ سواء الدار﴾ أي ولهم جهنم أسوأ مرجع ومصير قال ابن عباس: ﴿سواء الدار﴾ سؤُ العاقبة ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى﴾ أي والله لقد أعطينا «موسى بن عمران» ما يُهتدى به في الذين، من المعجزات والصحف والشرائع ﴿وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب﴾ أي أورثناهم العلم النافع والكتاب الهادي وهو «التوراة» ﴿هُدًى وذكرى لأُوْلِي الألباب﴾ أي هادياً وتذكرةً لأصحاب العقول السليمة ﴿فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ أي فاصبر يا محمد علىأذى المشركين، فإن وعد الله لك ولأتباعك بالنصر على الأعداء، حقٌ لا يمكن أن يتخلف، لأن الله لا يخلف الميعاد قال الإِمام الفخر: لما بيَّن تعالىأنه ينصر رسله، وضرب المثال في ذلك بحال موسى، خاطب بعده رسوله بقوله ﴿فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ والمراد أنَّ الله ناصرك كما نصرهم، ومنجزٌ وعده لك كما أنجزه في حقهم ﴿واستغفر لِذَنبِكَ﴾ أي واطلب المغفرة من ربك على ما فرط منك من ترك الأولى والأفضل، قال الصاوي: والمقصودُ من هذا الأمر تعليم الأمة ذلك، وإلا فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معصومٌ من الذنوب جميعاً، صغائر وكبائر قبل النبوة وبعدها على التحقيق وقال ابن كثير: وهذا تهييجٌ للأمة على الاستغفار ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي والإبكار﴾ أي ودمْ على تسبيح ربك في المساء والصباح قال الرازي: والمرادُ منه الأمرُ بالمواظبة على ذكر الله، وألاَّ يفتر اللسان عنه، حتى يصبح في زمرة الملائكة الأبرار، الذين
﴿يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٠] والمرادُ بالتسبيح تنزيهُ اللهِ عن كل ما لا يليق به، ثم نبه تعالىإلى السبب الدافع للكفار إلى المجادلة بالباطل فقال ﴿إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله﴾ أي يخاصمون في الآيات المنزلة ﴿بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ أي بلا برهانٍ ولا حجةٍ من الله ﴿إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ﴾ أي ما شفي قلوبهم إلا تكبرٌ وتعاظم يمنعهم من اتباعك والانقياد إليك ﴿مَّا هُم بِبَالِغِيهِ﴾ أي ما هم بواصلين إلى مرادهم من إطفاء نور الله، ولا بمؤملين مقصودهم بالعو عليك ﴿فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع البصير﴾ أي فالتجىءْ وتحصَّنْ بالله من كيدهم، فإِن الله يدفع عنك شرهم، لأنه هو السميعُ لأقوالهم العليمُ بأحوالهم.. ثم ذكر تعالى الدلائل الدالة على قدرته ووحدانيته فقال ﴿لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس﴾ اللام لام الابتداء أي لخلقُ الله للسمواتِ والأرضِ وإِنشاؤُهما وابتداعهما من غير شيء أعظم من خلق البشر، فمن قدر على خلقهما مع عظمهما كيف
98
يعجز عن خلق ما هو أحقر وأهون؟ قال في التسهيل: والغرض الاستدلال على البعث، لأن الإِله الذي خلقَ السمواتِ والأرض على كبرها، قادرٌ على إعادة الأجسام بعد فنائها ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي ولكنَّ أكثر الناس لا يعملون ذلك، لأنهم لا يتأملون لغلبة الجهل عليهم، وفرط غفلتهم واتباعهم لأهوائهم ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير﴾ أي لا يتساوى المؤمن والكافر ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسياء﴾ أي ولا البرُّ والفاجر ﴿قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ﴾ أي لا تتعظون بهذه الأمثال إلا قليلاً قال ابن كثير: والمراد أنه كما لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئاً، والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره، كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار، والكفرة الفجار، ما أقلَ ما يتذكر كثيرٌ من الناس؟ ﴿إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا﴾ أي إن القيامة آتيةٌ لا محالة، لا شك في ذلك ولا مرية ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي ولكنَّ أكثر الناس لا يصدقون بمجيئها، ولذلك ينكرون البعث والجزاء قال الرازي: والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث والقيامة ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ أي ادعوني أجبْكم فيما طلبتم، وأعطم ما سألتم قال ابن كثير: ندب تعالى عباده إلى دعائه، وتكفَّل لهم بالإِجابة فضلاً منه وكرماً ﴿إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ أي إنَّ الذين يتكبرون عن دعاء الله سيدخلون جهنم أذلاء صاغرين.
. ثم ذكر تعالى من آثار قدرته ووحدانيته، ما يلزم منه أفراده بالعبادة والشكر فقال ﴿الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً﴾ أي الله جل وعلا بقدرته وحكمته هو الذي جعل لكم الليل مظلماً لتستريحوا فيه من تعب وعناء العمل بالنهار، وجعل النهار مضيئاً لتتصرفوا فيه بأسباب الرزق وطلب المعاش ﴿إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾ إي إنه تعالى متفضل على العباد، وهو صاحب الجود والإِحسان إليهم ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ﴾ أي ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون الله على إحسانه، ويجحدون فضله وإِنعامه ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي ذلكم المتفرد بالخلق والإِنعام هو الله ربكم، خالق كل الأشياء ﴿لاَّ إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا معبود في الوجود سواه ﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ أي فكيف تصرفون عن عبادة الخالق المالك إلى عبادة الأوثان؟ ﴿كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ﴾ أي كذلك يُصرف عن الهدى والحق الذين جحدوا بآيات الله وأنكروها قال الصاوي: وهذه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى لا تحزن يا محمد على إِنكار قومك فإن من قبلهم فعل ذلك، ثم زاد في البيان ودلائل القدرة فقال ﴿الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً﴾ أي جعلها مستقراً لكم في حياتكم وبعد مماتكم قال ابن عباس: جعلها منزلاً لكم في حال الحياة وبعد الموت ﴿والسمآء بِنَآءً﴾ أي وجعل السماء سقفاً محفوظاً، كالقبة المبنية مرفوعة فوقكم ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ أي صوَّركم أحسن تصوير، وخلقكم في أحسن الأشكال، متناسي الأعضاء، ولم يجعلكم كالبهائم منكوسين تمشون
99
على أربع قال الزمخشري: لم يخلق تعالى حيواناً أحسن صورةً من الإِنسان، وهذه مثل قوله تعالى
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: ٤] ﴿وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات﴾ أي ورزقكم من أنواع اللذائذ ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ﴾ أي ذلكم الفاعل لهذه الأشياء والمنعم بهذه النعم هو ربكم لا إله إلا هو ﴿فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين﴾ أي فتعالى وتمجَّد وتقدس ربُّ جميع المخلوقات الذي لا تصلح الربوبية إلاَّ له ﴿هُوَ الحي لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي هو تعالى المتفرد بالحياة الذاتية الحقيقة، الباقي الذي لا يموت، لا إله سواه ﴿فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ أي فاعبدوه وحده مخلصين له العبادة والطاعة ظاهراً وباطناً قائلين ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ أي الثناء والشكر لله مالك جميع المخلوقات، لا للأوثان الي لا تملك شيئاً، ولما بيَّن صفات الجلال والعظمة، نهى عن عبادة غير الله فقال ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي قل يا محمد إن ربي العظيم الجليل نهاني أن أعبد هذه الآلهة التي تعبدونها من الأوثان والأصنام قال الصاوي: أمر تعالى نبيه أن يخاطب قومه بذلك زجراً له، حيث استمروا على عبادة غير الله، بعد ظهور الأدلة العقلية والنقلية ﴿لَمَّا جَآءَنِيَ البينات مِن رَّبِّي﴾ أي حين جاءتني الآيات الواضحات من عنده، الدالة على وحدانيته قال الرازي: والبيناتُ هي أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة، وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليق إلا به، وأن جعل الحجارة المنحوتة والأخشاب المصورة، شركاء له في المعبودية مستنكرٌ في بديهة العقل ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين﴾ أي وأمرت أن أذل وأخضع لله وحده، وأن أخلص له ديني، وأطهّر نفسي من عبادة غيره.
100
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن دلائل القدرة والوحدانية، فبعد أن ذكر تعالى دلائل القدرة في الآفق أردفها بدلائل القدرة في الأنفس، ثم تحدث عن أحوال المشركين يوم القيامة، وختم السورة الكريمة بالوعيد والتهديد لأهل الكفر والضلال.
اللغَة: ﴿الأغلال﴾ القيود جمع غُلَّ وهو القيد يجمع اليد إلى العنق ﴿الحميم﴾ الماء الحار البالغ نهاية الحرارة ﴿يُسْجَرُونَ﴾ توقد بهم النار يقال: سجر التنور أوقده ﴿تَمْرَحُونَ﴾ تبطرون وتأْشرون ﴿مَثْوَى﴾ مأوى ومكان إقامة، من ثَوى بالمكان إذا أقام فيه ﴿خَلَتْ﴾ مضت.
التفسِير: ﴿هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾ هذا بيانٌ للأجوار التي مرَّ خلق الإِنسان أي هو جل وعلا بقدرته الذي أوجدكم أيها الناس من العد، فخلق أصلكم آدم من تراب، ثم خلق ذريته من النطفة وهي المنيُّ، ثم من علقة وهي الدم الغليظ، إلى آخر تلك الأطوار ﴿ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ أي ثم بعد أن ينفصل الجنين من بطن الأم يكون طفلاً ﴿ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ﴾ أي ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقل، وهو سنُّ الأربعين ﴿ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً﴾ أي ثم لتصبحوا في سنِّ الهرم والشيخوخة قال الإِمام الفخر: رتَّب تعالى عمر الإِنسان على ثلاث مراتب: الطفولة، وبلوغ الأشد، والشخوخة، وهذا ترتيب مطابق للعقل، فإِن الإِنسان في أول عمره يكون في النمَّاء والنشوء وهو المسمى بالطفولة، إلى أن يبلغ إلى كمال النشوء من غير أن يحصل له ضعف، وهذا بلوغ الأشد، ثم يبدأ بالتراجع ويبدأ فيه الضعف والنقص، وهذه مرتبة الشيخوخة ﴿وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ﴾ أي ومنكم من يُتوفى قبل أن يخرج إلى العالم وهو السِّقطُ وقال مجاهد: من قبلِ سنِّ الشيخوخة ﴿ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى﴾ أي ولتصلوا إلى الزمان الذي حُدِّد لكل شخصٍ وهو الموتَ ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي ولكي تعقلوا دلائل قدرته تعالى وتؤمنوا بأنه الواحد الأحد ﴿هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي هو القادر جل وعلا على الإِحياء والإِماتة ﴿فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ﴾ أي فإِذا أراد أمراً من الأمور فلا يحتاج إلى تعب وعناء، وإِنما يوجد فوراً دون تأخير قال أبو السعود:
101
وهذا تمثيلٌ لكمال قدرته، وتصوير لسرعة وجودها من غير أني كون هناك أمرٌ ومأمور.. ثم عاد إلى ذم المجادلين في آيات الله بالباطل فقال ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله أنى يُصْرَفُونَ﴾ الاستفهام للتعجيب أي ألا ترى السامع وتعجبْ من حال هؤلاء المكابرين، الذين يجادلون في آيات الله الواضحة، كيف تُصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال؟ ثم بيَّنهم بقوله ﴿الذين كَذَّبُواْ بالكتاب وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا﴾ أي الذين كذبوا بالقرآن، وبسائر الكتب والشرائع السماوية ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ وعيدٌ وتهديد أي سوف يعلمون عاقبة تكذيبهم ﴿إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل﴾ أي حين يدخلون النار، وتربط أيديهم إلى أعناقهم بالأغلال والسلاسل ﴿يُسْحَبُونَ فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ﴾ أي يسحبون بتلك السلاسل في الماء الحارِّ المسخّن بنار جهنم، ثم يُوقدون ويحرقون فيها قال ابن كثير: ومعنى الآية أن السلاسل متصلة بالأغلال وهي بأدي الزبانية، يسحبونهم على وجوههم تارةً إلى الحميم، وتارة إلى الجحيم كما قال تعالى
﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ [الرحمن: ٤٤] ﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي ثم قيل لهم تبكيتاً: أين هم الأوثان والأصنام التي كنتم تعبدونها وتجعلونها شركاء لله؟ ﴿قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا﴾ أي فيقولون: غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا نستشفع بهم ﴿بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً﴾ أي بل لم نكن نعبد شيئاً قال المفسرون: جحدوا عبادتهم، وإنما فعلوا ذلك لحيرتهم واضطرابهم ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين﴾ أي مثل إضلال هؤلاء المذكبين يضلُّ الله كل كافر ﴿ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾ أي ذلكم العذاب بما كنتم تظهرونه في الدنيا من السرور بالمعصية وكثرة المال وإِنفاقه في المحرمات ﴿وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ أي وبسبب بطركم وأشركم وخيلائكم قال الصاوي: وهذاوإن كان ذماً في الكفار، إلا أنه يجرُّ بذيله على كل من توسَّع في معاصي الله، فله من هذا الوعيد نصيب ﴿ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي ادخلوا من أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم ماكثين فيها أبداً ﴿فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين﴾ أي بئست جهنم مقراً وسكناً للمستكبرين عن آيات الله، المعرضين عن دلائل الإِيمان والتوحيد، وإنما قال ﴿مَثْوَى المتكبرين﴾ ولم يقل فبئس مدخل المكبرين وهو مقتضى النظم، لأن الدخول لا يدوم، وإنما يدوم المثوى ولذا خصه بالذمِّ ﴿فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ أي فاصبر يا محمد على تكذيب قومك لك، فإِن وعد الله بتعذيبهم كائنٌ لا محالة قال الصاوي: هذا تسلية من الله لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووعدٌ حسن بالنصر له على أعدائه ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ﴾ أي إنْ أريناك بعض الذي نعدهم من العذاب، وجواب الشرط محذوفٌ تقديره فذلك هو المطلوب، أو لتقرَّ به عينُك ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ أي أو نتوفينَّك يا محمد قبل إنزال العذاب عليهم، فإِلينا مرجعهم يوم القيامة فننتقم منهم أشدَّ الانتقام، ثم أخبره تعالى بأنباء الرسل تسليةً له عليه السلام فقال ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ﴾ أي والله لقد بعثنا يا محمد رسلاً كثيرين قبلك، وأيدناهم بالمعجزات
102
الباهرة فجادلهم قومهم وكذبوهم فتأسَّ بهم في الصبر على ما ينالك قال القرطبي: عزَّاه تعالى بما لقيت الرسلُ من قبله ﴿مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ أي من هؤلاء الرسل من أخبرناك عن قصصهم مع قومهم، ومنهم من لم نخبرك عن قصصهم وأخبارهم ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ أي وما صحَّ ولا استقام لرسولٍ من الرسل أن يأتي قومه بشيء من المعجزات إلا بأمر الله، وهذا ردٌ على قريش حيث قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اجعل لنا الصفا ذهباً وغير ذلك من مقترحاتهم ﴿فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بالحق﴾ أي فإِذا جاء الوقت المسمّى لعذابهم أهلكهم الله ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون﴾ أي خسر في ذلك الحين المعاندون الذين يجادلون في آيات الله، ويقترحون المعجزات على سبيل التعنت، ثم ذكَّرهم تعالى بعمه فقال ﴿الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام﴾ أي الله جلَّ وعلا الذي لا تصلح الألوهية إلا له، هو الذي سخَّر لكم هذه الأنعام «الإِبل والبقر والغنم» خلقها لكم ولمصلحتكم ﴿لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ أي لتركبوا على ظهور بعض هذه الحيوانات، وتأكلوا من لحومها وألبانها، ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ أي ولكم في هذه الأنعام منافع عديدة في الوبر والصوف والشعر، واللبن والزبد والسمن ﴿وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ﴾ أي بحمل الأثقال في الأسفار البعيدة ﴿وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ﴾ أي وعلى هذه الإِبل في البر، وعلى السفن في البحر تُحملون، وإنما قرن بين الإِبل والسفن لما بينهما من شدة المناسبة حتى سميت الإِبل سفن البر ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ أي ويريكم أيها الناس حججه وأدلته على وحدانيته في الآفاق والأنفس ﴿فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ﴾ توبيخٌ لهم على إنكارهم لوحدانيته مع ظهور آياته الكثيرة والمعنى أيَّ آية من تلك الآيات الباهرة والدلائل الكثيرة الساطعة تنكرون مع وضوحها وجلائها وكثرتها؟ فإن هذه الدلائل لظهورها لا تقبل الإِنكار ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ الاستفهام إِنكاري أي أفلم يسر هؤلاء المشركون في أطراف الأرض ليعرفوا عاقبة المتكبرين المتمردين، وآثار الأمم السالفة قبلهم، ماذا حلَّ بهم من العذاب والدمار بسبب كفرهم وتكذيبهم؟ ﴿كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأرض﴾ أي كانوا أكثر عدداً من أهل مكة، وأقوى منهم قوة، وآثارهم لا تزال باقية بعدهم من الأبنية والقصور والمباني الضخمة ﴿فَمَآ أغنى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أي فلم ينفعهم ما كانوا يكسبونه من الأبنية والأموال شيئاً، ولا دفع عنهم العذاب ﴿فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات﴾ أي فلما جاءتهم الرسل بالمعجزات الظاهرات، والآيات الواضحات ﴿فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم﴾ أي فرح الكفار بما هم عليه من العلم الدنيوي، الخالي عن نور الهداية والوحي، فرح بطرٍ وأشر، وأغتروا بذلك العلم ﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي نزل بهم جزاء كفرهم واستهزائهم بالرسل والآيات ﴿فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ﴾ أي فلما رأوا شدة العذاب وعيانوا أهواله وشدائده قالوا آمنا بالله الواحد الأحد ﴿وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ أي كفرنا بالأصنام والأوثان التي أشركناها في العبادة مع الله ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ أي فلم يكن ينفعهم ذلك الإِيمان حين شاهدوا العذاب لأنه إيمانٌ عن قسر وإلجاء {سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي
103
عِبَادِهِ} أي سنَّ الله ذلك سنةً ماضيةً في العباد، أنه لا ينفع الإِيمان إذا رأوا العذاب ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون﴾ أي وخسر في ذلك الوقت الكافرون بربهم، الجاحدون لتوحيد خالقهم.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق بين ﴿الذنب.. والتوب﴾ وبين ﴿أَمَتَّنَا.. وَأَحْيَيْتَنَا﴾ وبين ﴿صَادِقاً.. وكَاذِباً﴾ وبين ﴿غُدُوّاً.. وَعَشِيّاً﴾ وبين ﴿يُحْيِي.. وَيُمِيتُ﴾ وبين ﴿الأعمى.. والبصير﴾.
٢ - المقابلة ﴿ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ﴾ [غافر: ١٢] فقد قابل بين التوحيد والإِشراك، والكفر والإِيمان وكذلك توجد المقابلة بين قوله تعالى ﴿ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار﴾ [غافر: ٣٩] وهذه من المحسنات البديعية.
٣ - المجاز المرسل ﴿وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً﴾ [غافر: ١٣] أطلق الرزق وأراد المطر لأن الماء سبب في جميع الأرزاق، فهو من إِطلاق المسَّبب وإرادة السبب.
٤ - الاستعارة اللطيفة ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير﴾ [غافر: ٥٨] استعار الأعمى للكافر، والبصير للمؤمن.
٥ - المجاز العقلي ﴿والنهار مُبْصِراً﴾ [غافر: ٦١] من إسناد الشيء إلى زمانه، لأن النهار زمنٌ للإِبصار.
٦ - الكناية ﴿يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ﴾ [غافر: ١٥] الروحُ هنا كناية عن الوحي، لأنه كالروح للجسد.
٧ - صيغ المبالغة مثل: «كذَّاب، جبَّار، سمعي، بصير، عليم» الخ.
٨ - الجناس الناقص ﴿تَفْرَحُونَ.. وتَمْرَحُونَ﴾ وكذلك ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ [غافر: ٦٤].
٩ - التأكيد بإِن واللم ﴿إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ﴾ [غافر: ٥٩].
١٠ - صيغة الحصر ﴿مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ﴾ [غافر: ٤].
١١ - جناس الاشتقاق ﴿أَرْسَلْنَا رُسُلاً﴾.
١٢ - طباق السلب ﴿مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾.
١٣ - توافق رءوس الآيات مع السجن البديع، والكلام الذي يأخذ بالألباب، انظر روعة البيان، وتمعَّنْ قول القرآن وهو يتحدث عن مؤمن آل فرعون بذلك البيان الإلهي المعجز ﴿وياقوم مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار﴾ [غافر: ٤١٤٢] الخ الآيات الكريمة التي هي أجلى من عقود الجُمان.
104
Icon