تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الرحمان
آياتها ثمان وسبعون آية ثلاث ركوعات وهي مكية
ﰡ
﴿ الرحمان *علم القرآن٢ ﴾ جواب لقول الكفار وما الرحمان فذكر الله تعالى أنه مولى النعم الدنيوية والأخروية كلها من بدء الخلق إلى أبد الآبدين على ما يقتضيه لفظ الرحمان المبني على كمال المبالغة في الرحمة وقدم في الذكر ما هو أصل النعم الدينية وأجلها وهو تنزيل القرآن وتعليم فإنه أساس الدين وفيه صلاح الدارين ثم ذكر بعده خلق الإنسان إشارة إلى أن الإنسان إنما خلق لأجل تلقي القرآن ولذلك علمه البيان ولما كان إشراكهم وعبادتهم لغير الله تعالى وقولهم وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا دليلا على إنكارهم آلاء الله تعالى كرر التوبيخ عليهم في السورة إحدى ثلاثين مرة بعد ذكر بعض آلاء إيقاظا وتنبيها وأما بعد الوعيد على الكفران زجرا ومنعا عما هم عليه وأما بعد الوعد لمن خاف مقام ربه وشكر نعمائه تحريضا وتطعيما وقيل هذه الآية رد لقول الكفار :﴿ إنما يعلمه بشر ﴾ والمعنى أنه لا يستطيع البشر على تعليم مثل هذا القرآن البليغ المعجز بل علمه الرحمان الذي هو المنعم بالنعم الدنيوية والأخروية كلها بمقتضى رحمه وهذا أجل النعم المفضى إلى صلاح الدارين رحمان مبتدأ والجملة خبرة
﴿ خلق الإنسان ﴾ قال ابن عباس وقتادة يعني آدم عليه السلام علمه البيان يعني أسماء كل شيء علمه اللغات كلها فكان آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية وقال أبو العالية والحسن المراد جنس الإنسان
﴿ علمه البيان ٤ ﴾ باللسان والكتابة والفهم والإفهام حتى يتميز عن سائر الحيوانات وصار قابلا للوحي وتنزيل القرآن وقال السدي علم كل قوم لسانهم الذين يتكلمون به وجاز أن يقال خلق الإنسان يعني محمد صلى الله عليه وسلم علمه البيان يعني القرآن فيه بيان ما كان وما يكون من الأزل إلى الأبد مطابقا لبيان من معنى من الرسل هداية للناس وآية على نبوته كذا قال ابن كيسان فعلى هذا الجملتان الأخيرتان بيان وتفصيل للأولى ولهذا لم يورد العاطف بينها وكلها أخبار مترادفة للرحمان قيل : ترك العاطف لكون كل منها مستقلا بالخبرية وقيل بمجيئا على نهج التحديد
﴿ الشمس والقمر بحسبان ٥ ﴾ الحسبان إما مصدر كغفران وسبحان وكقرآن ورجحان ونقصان من حسبانا أو جمع للحساب كالسبان والركبان والمعنى الشمس والقمر يجريان بحساب مقدر معلوم في منازلهم يتنسق أمور الكائنات السفلية ويختلف الفصول والأوقات ويعلم السنون والحساب وأوقات الصلاة والصيام والحج والزكاة وآجال الديون
﴿ والنجم ﴾ أي ما ليس له ساق من النبات ﴿ والشجر ﴾ ماله ساق يبقى في الشتاء ﴿ يسجدان ﴾ أي ينقادان الله طبقا فيما يريد منهما إنقياد الساجدين المكلفين طوعا يقال سجودها سجود ظلمهما قال الله تعالى :﴿ يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ﴾ والجملتان خبران آخران للرحمان وكذا ما بعدهما مما عطف عليهما وكان حق النظم في الجملتين أن يقال وأجرى الشمس والقمر بحسبان وأسجد النجم والشجر والشمس بحسبان والنجم والشجر يسجدان له الوجوب العائد في الخبر لكن حذف العائد منهما لوضوحه وأدخل العاطف بينهما وبين ما بعدهما لاشتراكهما في الدلالة على وجود الصانع يحكم الذي يقدر ويدبر يغير أحوال الأجرام العلوية والسفلية على نهج بديع وأسلوب حكيم
﴿ والسماء ﴾ منصوب بفعل مضمر يفسره ﴿ رفعها ﴾ أي خلقها مرفوعة ﴿ ووضع الميزان ﴾ قال مجاهد أراد بالميزان العدل والمعنى أمر العدل وأثبته في الذمم حتى انتظم أمر العال واستقام وقال الحسن وقتادة والضحاك أراد ما يوزن الأشياء ويعرف به المقادير من الميزان والمكيال والذراع ونحو ذلك فإنها سبب الإنصاف والانتصاف وأصل الوزن التقدير
﴿ ألا تطغوا في الميزان ٨ ﴾ إما مضارع منصوب بأن في قوة المصدر متعلق بوضع بتقدير اللام يعني وضع الميزان لأن لا تجاوزوا الحق في الميزان ولا تظلموا إما مضارع منصوب بأن في قوة مصدر متعلق بوضع بتقدير اللام يعني وضع الميزان لأن لا تجاوزوا الحق في الميزان ولا تظلموا وإما صيغة نهي وأن مفسرة تقديره أمران لا تطغوا في الميزان
﴿ وأقيموا ﴾ معطوف على تطفوا على تقدير كونه نهيا وعلى تقدير كونه مضارعا معطوف على وضع بتقدير قال ﴿ الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ﴾ أي قوموا وزنكم بالعدل ولا تنقصوا أمر الله تعالى بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة ومن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان وكرر لفظ الميزان ثلاث مرات ولم يكتف بالضمير تشديد للتوصية وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه فويل للمطففين. مسألة. من اشترى مكيلا مكايلة أو موزونا موازنة فاكتاله أو ازتنه ثم باعه مكايلة أو موازنة لم يجز للمشتري الثاني أن يبيعه ولا أن يأكله حتى يعيد الكيل أو الوزن لأنه يجعل بأن يزيد على المشروط وذلك للبائع والتصرف في مال الغير حرام يجب التحرز عنه ( وقد نهى النبي صلى الله عليه سلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري رواه ابن ماجه وابن إسحاق من حديث جابر وأعل بعبد الرحمان ابن أبي ليلى ورواه البزار من حديث أبي هريرة وله طريقان ضعيفان عن أنس وابن عباس وروى عبد الرزاق عن يحيى ابن كثير أن عثمان ابن عفان وحكيم ابن حزام كانا يبتاعان الثمر ويجعلان في الغرائر ثم يبيعانه بذلك الكيل فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعا حتى يكيلا لمن ابتاعه منهما قال ابن همام هذا الحديث حجة لكثرة طرقه وقبول الأئمة إياه فإنه قد قال بقولنا هذا مالك والشافعي وأحمد.
مسألة : ولا معتبر بكيل البائع قبل البيع وإن كان بحضرة المشتري لأنه ليس صاع البائع والمشتري وهو المشروط ولا بكيله بعد البيع بغيبة المشتري لأن الكيل من باب التسليم لأنه يصير به المبيع معلوما ولا تسليم إلا بحضرته ولو كال البائع بعد البيع بحضرة المشتري قيل لا يكتفي به بظاهر الحديث فإنه اعتبر صاعين والصحيح أنه يكتفي به لأن المبيع صار معلوما بكيل واحد ولتحقق معنى التسليم ومحل الحديث اجتماع الصفتين كما إذا اشترى المسلم إليه من رجل كرأ وأمر رب السلم أن يقبضه فإنه لا يصلح إلا بصاعين لاجتماع الصفتين بشرط الكيل الشراء المسلم إليه لنفسه وقبض رب السلم
﴿ والأرض ﴾ منصوب بفعل مضمرة تفسيره ﴿ وضعها ﴾ أي خلقها وخفضا مدحوة ﴿ للأنام ﴾ أي للخلق في القاموس الأنام كسحاب وسباط سائر الخلق والجن والإنس أو جميع ما على وجه الأرض قال البيضاوي وقيل الأنام كل ذي روح قلت : الظاهر أن المراد به هاهنا الجن والإنس لأن الخطاب معهما كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾
﴿ فيها فاكهة ﴾ قال ابن كيسان يعني ما يتفكهون به من النعم التي لا تجمع الجملة تعليل لمضمون قوله تعالى والأرض وضعها للأنام ﴿ والنخل ذات الأكمام ﴾ جمع كم بكسر الكاف وهو وعاء الثمر
﴿ والحب ﴾ وهو ما يؤكل من البذور كالحنطة والشعير وسائر ما يتغذى به ﴿ ذو العصف ﴾ وهو ورق الزرع والنبات اليابس كالتبن ﴿ والريحان ﴾ أي الرزق وهو اللب كذا قال أكثر المفسرين من قولهم خرجت أطلب ريحان الله، قال ابن عباس لكل ريحان في القرآن فهو الرزق وقال الحسن وابن زيد وهو ريحانكم الذي يشم وهو فعيلان من الروح فقلب الواو ياء وأدغم ثم خفف وقيل أصله روحان قلب واوها ياء للتخفيف قرأ العامة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان يرفع الأسماء الثلاثة عطفا على الفاكهة وجاز أن يكون الريحان معطوفا على ذو العصف بتقديره وحذف المضاف وأعرب المضاف إليه بإعرابه وقرأ حمزة والكسائي والريحان بالجر عطفا على العصف وما عداه بالرفع عطفا على الفاكهة وقرأ ابن عامر والحبة والنخل ذات الأكمام والحب والعصف والريحان بنصب الثلاثة عطفا على الأرض وضعها على تقديره وخلق النخل ذات الأكمام وخلق الحب والعصف وخلق الريحان ويجوز أن يراد ذا الريحان فحذف المضاف وأعرب المضاف إليه بإعرابه
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ الخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله تعالى الأنام وقوله أيها الثقلان وقيل خطاب للواحد بلفظ التثنية على عادة العرب يخاطبون كذلك نظيره قوله تعالى ﴿ ألقيا في جهنم ﴾ والفاء للسببية والاستفهام لتقرير آلاء وإنكار تكذيبهما فإن ذكر الآلاء سبب لإقرارها وشكر منعهما والرد عن تكذيبهما وكذا الوعيد على الكفران والوعد سببان للإقرار والشكر روى الحاكم عن محمد ابن المنكدر عن جابر ابن عبد الله قال قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمان حتى ختمها ثم قال :( مالي أراكم سكوتا والجن كانوا أحسن منكم ردا ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة فبأي آلاء ربكما تكذبان إلا قالوا ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد }.
﴿ خلق الإنسان ﴾ يعني آدم عليه السلام ﴿ من صلصال ﴾ أي طين يابس به صلصلة أي تردد صوت وقيل الصلصال السنن من الطين ﴿ كالفخار ﴾ أي الطين المطبوخ بالنار وهو الحذف قيل الفخر المباهاة بالأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه ومنه الفخار بمعنى الحراء لصوته إذا نقر كأنه تصور بصورلاة من يكثر التفاخر به، ولا اختلاف بين هذه وبين من حمأ مسنون ومن طين لازب ومن تراب لاتفاقها معنى لأنه تفيد أنه خلق من تراب ثم جعله طينا ثم حمأ مسنونا ثم صلصال.
﴿ وخلق الجان ﴾ اللام للجنس يعني جنس الجن وقيل هو علم لأبي وقال الضحاك هو إبليس ﴿ من مارج من نار ﴾ بيان لمارج وهو الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه وهو في الأصل للمضطرب من مرج إذا اضطرب وقال مجاهد هو ما اختلط بعض ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي تعلو النار إذا وقدت من قولهم مرج أمر القوم إذا اختلط الجملة خبر آخر للرحمان.
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ مما أفاض عليكما من أطوار خلقناكما حتى صرتما أفضل المركبات وخلاصة الكائنات.
﴿ رب المشرقين ورب المغربين ﴾ مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغربيهما خبر آخر للرحمان.
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ مما في لك من الفوائد لا تحصى كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل فيه إلى غير ذلك.
﴿ مرج ﴾ أي أرسل ﴿ البحرين ﴾ الملح والعذب من مرجت الدابة إذا أرسلتها خبر آخر للرحمن ﴿ يلتقيان ﴾ حال من البحرين أي يتجاوزان ويتماس سطوحهما.
﴿ بينهما برزخ ﴾ حاجز من قدرة الله تعالى حال آخر ﴿ لا يبغيان ﴾ حال أخرى أي لا يبغي أحدهما على الأخرى بالممازجة وإبطال الخاصية، وقال قتادة لا يطغيان على الناس بالغرق، وقال الحسن مرج البحرين يعني بحر الروم وبحر الهند وعن قتادة أيضا بحر الفارس وبحر الروم بينهما برزخ يعني الجزائر، وقال المجاهد والضحاك بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ مما في ذلك من المنافع وظهور قدرة الله تعالى جملة معترضة وقوله تعالى
﴿ يخرج ﴾ حال أخرى من البحرين قرأ نافع وأبو عمر ويعقوب يخرج بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول من الإخراج والباقون بفتح الياء وضم الراء من المجرد ﴿ منهما ﴾ أي من البحرين العذاب والملح قيل الدرر إنما يخرج من الملح دون العذب فقيل في جوابه أنه يخرج من مجتمع الملح والعذب وقيل لأنهما لما اجتمعا صارا كالشيء الواحد فكان المخرج من أحدهما منهما وقيل : إنه جائز في كلام العرب أن يذكر شيئين ثم يخص أحدهما بفعل ما قال الله تعالى :﴿ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ﴾ وكان الرسل من الإنس دون الجن وإن كان المراد بالبحرين بحر السماء وبحر الأرض كمما قال مجاهد والضحاك فالوجه أنه إذا مطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها فحيثما وقعت قطرة كانت لؤلؤ كذا قال ابن جرير، ﴿ اللؤلؤ ﴾ قرأ أبو بكر ويزيد بلا همزة والباقون بهمزة وهي كبار الدرر ﴿ والمرجان ﴾ صغارها كذا في القاموس، وقال مقاتل ومجاهد على الضد يعني اللؤلؤ صغار الدرر والمرجان كبارها وقيل المرجان الحزز الأحمر فهو نوع من الجواهر يشبه النبات والحجر وقال عطاء الخراساني هو البسد.
﴿ وله ﴾ تعالى ﴿ الجوار ﴾ السفن الكبار جمع جارية ﴿ المنشآت ﴾ قرأ حمزة وأبو بكر بخلاف عنه بكسر الشين أي اللائي ابتدأن وأنشأن السير والباقون بفتح الشين أي المرفوعات اللاتي رفع خشبها بعض على بعض وقيل المنشآت المسخرات ﴿ في البحر ﴾ متعلق بالمنشآت وهي صفة للجوار وقوله ﴿ كالأعلام ﴾ صفة يعني كالجبال جمع علم وهو الحبل الطويل الجملة معطوفة على مرج البحرين خبر للرحمان بتبعيتها وغنما جعلها تابعة لها لكون الجواري تابعة للبحر.
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان * كل من عليها ﴾ أي على الأرض من الحيوانات أو المركبات أو من كل شيء حتى الجبال والبحار والمعادن ومن التغليب أو من الثقلين ﴿ فان ﴾ يوم القيامة أو قيل ذلك متى شاء الله تعالى أو فان في حد ذات موجود بوجود مستعار من الله تعالى :﴿ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ﴾
﴿ ويبقى وجه ﴾ قيل هو من المتشابهات ﴿ ربك ذو الجلال ﴾ أي ذو العظمة والسلطان والاستغناء المطلق ﴿ والإكرام ﴾ الفضل العام قلت العام قلت عطف بقاء وجه ربك على فناء من الأرض وتخصيص ذكر الفناء ثم يقتضي أن المراد بالوجه هاهنا الجهة حتى يحصل المناسبة والمقارنة بين المعطوف والمعطوف عليه. فإن قيل معنى العطف هاهنا على المقابلة بين فناء الخلق وبقاء الخالق دون المقارنة ؟ قلنا لو كان كذلك لم يفد تقييد الفناء بمن على الأرض فالمعنى كل من على الأرض من الثقلين فإنه في حد ذاته لا يعبأ به ويبقى من جهاته جهته إلى ربه وتوجهه إليه فإنه لا يطرأ عليه فناء قال الله تعالى :﴿ قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم ﴾ وهذه الصفة من عظيم صفات الله تعالى، روى الترمذي عن أنس وأحمد والنسائي والحاكم بسند صحيح عن ربيعة عامرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألظوابيا ذا الجلال والإكرام ) وفي الحصين الحصين أنه صلى الله عليه وسلم مر برجل وهو يقول يا ذا الجلال والإكرام فقال عليه الصلاة والسلام ﴿ قد استجيب لك فسل ﴾ وإلا لظاظة به من كريم صفات الإنسان الجملتان خبران آخران للرحمن والعائد في الجملة الأولى محذوف وفي الثانية وضع المظهر موضع المضمر والتقدير كل من عليها فان بإفنائه أو بقهرمانه ويبقى وجهه
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ منه توفيقه للتوجيه إليه تعالى ومنها ما ذكر من بقاء الرب وإبقاء ما لا يحصى مما على صدد الفناء رحمة وفضلا منها ما يترتب على فناء الكل من الإعادة والحياة الدائمة والنعيم المقيم
﴿ يسأله من في السماوات والأرض ﴾ من الملائكة والإنس والجن حوائجهم من المغفرة والعافية وتوفيق العبادة والتجليات والبركات والرزق وغير ذلك وقيل المراد بمن في السماوات والأرض الموجودات كلها وأورد كلمة من تغلبا فإنها كلها مفتقرة إلى الله تعالى في ذواتها وصفاتها وسائر ما يهمها ويهمن لها والمراد بالسؤال ما يدل على الحاجة إلى تحصيل الشيء نطقا كان أو غيره ﴿ كل يوم ﴾ أي وقت منصوب على الظرفية يسأله أو بمقدر دل عليه ما بعده وما قبله يعني يعطي مسئولهم ويحدث أمور كل يوم ﴿ هو ﴾ يعني الله تعالى﴿ في شأن ﴾ دائما ومن شأنه أن يحي ويميت ويرزق ويعز قوما ويذل آخرين ويشفي مريضا ويمرض صحيحا ويفك عانيا ويرهن فارغا ويفرج مكروها ويجيب داعيا ويعطي سائلا ويغفر ذنبا للمؤمنين ويدخل جهنم الكافرين ويعذبهم بأنواع التعذيب ويدخل الجنة من خاف مقام ربه ويكرمهم بأنواع التكريم أي ما لا يحصى من إنعامه وإحداثه في خلقه ما يشاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين ) رواه ابن ماجه وابن حبان.
في الصحيح من حديث أبي الدر داء وأخرج ابن جرير مثله من حديث عبد الله ابن منيب والبزار من حديث ابن عمر وروى البغوي بسنده عن ابن عباس قال إن مما خلق الله عز وجل لوحا في درة بيضاء دفتاه ياقوته حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر الله عز وجل فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق يرزق ويحيى ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله عز وجل :﴿ كل يوم هو في شأن ﴾ قال الحسين ابن الفضل هو سوق المقادير إلى المواقيت قال أبو سليمان الداراني في هذه الآية كل يوم له إلى العبيد بر جديد وقال سفيان ابن عيينة الدهر كله عند الله يومان أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة فالشأن الذي هو في اليوم الذي هو مدة الدنيا الاختيار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب وقيل شأنه جل ذكره أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاث عساكر من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات وعسكرا من الأرحام إلى الدنيا وعسكرا من الدنيا إلى القبور ثم يرتحلون جميعا إلى الله عز وجل قال مقاتل نزلت الآية في يهود حيث قالوا إن الله لا يفضي يوم السبت شيئا
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ مما يسعف سؤالكما وما يخرج لكما من مكمن العدم حينا فحينا
﴿ سنفرغ لكم ﴾ وقرأ حمزة والكسائي بالياء على الغيبة والضمير عائد إلى الرب والباقون بالنون على التكلم قيل معناه سنجرد لجزائكم وذلك يوم القيامة فإنه تعالى لا يفعل فيه غيره قيل أنه تهديد مستعار من قولك لمن تهدده سأفرغ لك فإن المتجرد للشيء كان أقوى عليه وليس المراد منه الفراغ من شغل فإنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن كذا قال ابن عباس والضحاك وقيل معناه والضحاك وقيل معناه سنقصدكم بعد الترك والإمهال ونأخذ في أمركم وقيل : إن الله وعد أهل التقوى وأوعد أهل الفجور ثم قال سنفرغ لكم مما وعدناكم وأخبرناكم يعني نحاسبكم ولنجز ما وعدناكم فيتم ونفرغ منه وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل ﴿ أيه ﴾ قرأ ابن عامر أيها بضم الهاء والباقون بفتح الهاء ووقف أبو عمرو والكسائي بالألف والباقون بغير الألف ﴿ الثقلان ﴾ أي الإنس والجن سميا بذلك لثقلهما على الأرض أحياءا وأمواتا وقال جعفر الصادق ابن محمد الباقر رضي الله عنه لأنهما مثقلان بالذنوب وقيل لأنهما مثقلان بالتكليف والمناسب لهذه المعاني لثقلين التأويلات المذكورة في قوله تعالى : سنفرغ لكم أعني التهديد أو إتمام الوعد والوعيد وإنجازهما وقال أهل المعاني كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل قال النبي صلى الله عليه وسلم :( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ) فجعلهما ثقلين إعظاما لقدرهما فإنهما مستعدان لصعود مدارج القرب والتجليات والمناسب لهذا المعنى أن يقال في تأويل قوله تعالى :{ سنفرغ لكم أن نخلوا بكم خلوة لا يكون يقره من يخلو به هناك مدخل، عن أبي ذر العقيلي قال : قلت يا رسول الله أكلنا يرى ربه مخليا به يوم القيامة ؟ قال بلى، قلت وما آية ذلك في خلقه ؟ قال يا أبا ذر أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخليا به، قال بلى قال فإنما هو خلق من خلق الله والله أجل وأعظم ) رواه أبو داود وأحسن قول الشاعر بالفارسية.
جباني مختصر خواتم كدوري بين جاء من وجائي توباشد
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ الأمر ظاهر على تأويل المتأخرين كان المراد بالفراغ التهديد ونحو ذلك فالمعنى أنه فلا تكذبان بالآء ربكما فإن التكذيب يوجب التعذيب والمراد بالآلاء كل نعمة بالإنسان وإن لم يكن شيئا منها مذكورا في الآية قيل التهديد أيضا نعمة ينزجر به المكلف وهذا تكلف.
﴿ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض ﴾ أي قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هاربين من الله فارين من قضائه ﴿ فانفذوا ﴾ فاخرجوا أمر تعجيز وقيل معناه إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السماوات والأرض فاهربوا واخرجوا والمعنى حيثما كنتم يدرككم الموت وقيل يقال هذا يوم القيامة أخرج ابن جرير وابن مبارك عن الضحاك قال إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها فيكون فالملائكة على أرجائها حين يأمرهم الرب فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها ثم الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة فصفوا صفا دون صف فينزل الملك الأعلى بجنبه اليسرى جهنم فإذا رآها أهل الأرض ندوا فلا يأتوا قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة فرجعوا إلى المكان الذي كانوا فيه وذلك قوله تعالى :﴿ إني أخاف عليكم يوم الثناد ٣٢ يوم تولون مدبرين ﴾ وقوله تعالى :﴿ وجاء ربك والملك صفا صفا ٢٢ وجاىء يومئذ بجهنم ﴾ وقوله تعالى :﴿ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا ﴾ وقوله تعالى :﴿ وانشقت السماء فهي يومئذ واهية ١٦ والملك على أرجائها ﴾ يعني ما تشقق منها فبينما كذلك إذا سمعوا الصوت فأقبلوا إلى الحساب ﴿ لا تنفذون ﴾ أي لا تقدرون على النفوذ والخروج ﴿ إلا بسلطان ﴾ أي إلا بقوة وقهر وأنى لكم ذلك أو المعنى إلا بسلطان مني فإنه لا قدرة لأحد الاستفادة من الله تعالى لا حول ولا قوة إلا بالله كما أن النبي صلى الله عليه وسلم نفذ ببدنه ليلة المعراج من السماوات السبع إلى سدرة المنتهى والصوفي ينفذ من دائرة الإمكان إلى مدارج القرب بحول الله وقوته قيل معناه حيثما توجهتم كنتم في ملكي وسلطاني أي على سلطاني كقوله ﴿ وقد أحسن بي ﴾ أي إلي وروى عن ابن عباس قال : معناه إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا ولن تعلموا إلا بسلطان أي بينة من الله عز وجل نصبها
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ فإن التكذيب يوجب التعذيب وأنتم لا تقدرون على الفرار منه، وقيل من آلاء الله التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة ومنها ما نصب من المصاعد العقلي والمعارج الثقيلة وأسبابا الترقيات فينفذون لها إلى ما فوق السماوات
قال البغوي وفي الخبر يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا الآية فلذلك قوله عز وجل ﴿ يرسل عليكما شواظ ﴾ يعني حين بعثتم من القبور قرأ ابن كثير بكسر الشين والباقون بضمها وهما لغتان وهو اللهب الذي لا دخان فيه كذا قال أكثر المفسرين وقال مجاهد هو اللهب الأخضر المنقطع من النار ﴿ من نار ونحاس ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالجر عطفا على النار الباقون بالرفع عطفا على شواظ قال سعيد ابن جبير والكلبي النحاس الدخان وهو رواية عن ابن عباس بمعنى الرفع يرسل شواظ تارة ونحاس تارة أخرى ويجوز أن يرسلا معا من غير أن يمتزج أحدهما الأخرى عن ابن جرير يرسل شواظ من نار وشيء من نحاس وجاز أن يكون نحاس في محل الرفع مجرورا للجوار وحكي أن الشواظ لا يكون إلا من النار والدخان جميعا وقال مجاهد وقتادة النحاس هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم وهو رواية العوفي عن ابن عباس قال ابن مسعود النحاس المهل ﴿ فلا تنتصران ﴾ أي لا تمنعان من الله فلا يكون لكم منه تعالى ناصر حين يسوقكم إلى المحشر
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ فإن التكذيب يوجب التعذيب وقيل من آلاء التهديد على موجبات العذاب فيجتنب منها والتميز بين المطيع والعاصي بالجزاء
﴿ فإذا انشقت ﴾ أي انفرجت ﴿ السماء ﴾ فصارت أبوابا لنزول الملائكة الفاء تدل على إن إرسال شواظ من نار يكون قبل انشقاق السماء فهذا الانشقاق ليس الإفناء بل لنزول الملائكة بعد البعث من القبور كما ذكرنا في حديث الضحاك ﴿ فكانت ﴾ عطف على انشقت يعني كانت السماء حينئذ ﴿ وردة ﴾ أي كلون الورد الأحمر وقيل كلون الفرس الورود وهو بين الكميت الأشقر كذا في القاموس وقال البغوي هو الأبيض الذي يضرب الحمرة أو الصفرة قال قتادة السماء اليوم الأخضر أو يكون لها يومئذ لون آخر إلى الحمرة قيل : إنها تتلون ألوانا يومئذ كلون الفرس الورد يكون في الربيع أصفر وفي أول الشتاء أحمر فإذا اشتدا الشتاء كان أغبر فشبه السماء في تلونها إنشقاقها لهذا فإذا اشتد الشتاء كان أغبر فشبه السماء في تلونها انشقاقها لهذا الفرس في تلونه أخرج البيهقي عن ابن مسعود قال السماء تكون ألوانا تكون كالمهل وتكون وردة كالدهان وتكون واهية وتشقق فيكون حالا بعد حال ﴿ كالدهان ﴾ جمع دهن صفة وردة شبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل وشبه الورد في اختلاف ألوانها بالذهن وأخلاف ألوانه كذا قال الضحاك ومجاهد وقتادة والربيه وقال عطاء ابن أبي رباح كالدهان كعصر الزيت يتلون في الساعة ألوانا وقال مقاتل كدهن الورد الصافي وقال ابن جريج يطير السماء كمدهن الزيت وذلك حين يصيبها حر جهنم قال الكلبي كالدهان كالآدام الأحمر وجمعه أدهنته ودهن وجاز أن يكون خبرا بعد خبر لكانت يغني كانت السماء متلونة كلون الورد الأحمر وكلون الفرس الورد وكانت مذابة كالدهن وهو اسم لما يدهن به وجواب الشرط محذوف المعنى فما أعظم الهول وجاز أن يكون قوله تعالى :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ معترضة بين الشرط والجزاء
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ معترضة بين الشرط والجزاء
قوله تعالى :﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه ﴾ الضمير راجع إلى قوله ﴿ إنس ولا جان ﴾ لتقدمهم رتبة يعني لا يسألون هل عملتم كذا حتى يدخلهم جهنم بعد السؤال لأن الله تعالى أعلم بهم منهم والكرام الكاتبون من الملائكة كتبوا علمهم والملائكة العذاب يعرفونهم بسيماهم كما سيجيء فيما بعد وهذا لا ينافي سؤالهم لم عملتم كذا بعدما نهتكم يدل عليه قوله تعالى ﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين ٩٢ عما كانوا يعملون ﴾ كذا قال مجاهد عن ابن عباس ونحو ذلك قال الحسن وقتادة وهو المعنى لما روي عن ابن عباس في الجميع في الجمع بين الآيتين حيث قال أنه لا يسألون سؤال شفعة ورحمة وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ وعهن عكرمة وعن ابن عباس في الجمع بين الآيتين إن في القيامة ومواطن يسألون في بعضها وقال أبو العالية معناه لا يسأل غير المجرم عن ذنب
﴿ يعرف المجرمون بسيماهم ﴾ جملة مستأنفة كأنها في جواب سائل يقول إذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فبم يعرف ملائكة العذاب المجرمين فقال يعرفهم بسيماهم وهي سواد الوجوه وزرقة العيون قال الله تعالى :﴿ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ﴾ أخرج المختفي في الديباج عن ابن عباس مرفوعها أخبرني جبرائيل أن لا إلاه إلا الله أنس للمسلم عند موته وفي قبره وحين يخرج من قبره يا محمد لو تراهم حين يقومون من قبورهم هم ينفضون رؤوسهم هذا يقول لا إلاه إلا الله والحمد لله فتبيض وجهه وهذا ينادي يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله مسودة في وجوههم.
وروى أبو يعلى عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ الذين يأكلون الربا ﴾ الآية، قال يعرف يوم القيامة بذلك لا تستطيعون القيام إلا كما يقوم المتخبط وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو يعلى عن أبي هريرة مرفوعا ( يبعث الله تعالى يوم القيامة قوما من قبورهم تأجج أفواههم نارا فقيل من هم يا رسول الله ؟ قال : قال الله تعالى :﴿ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ) وأخرج البزار عن أبي هريرة نحوه عن جابر يحشر المتكبرون يوم القيامة في صور الذر في الباب أحاديث كثيرة وأخرج الأربعة والحاكم عن ابن مسعود مرفوعا { من سأل وله وما يغنيه جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح وخدوش ﴾ وفي الصحيحين نحوه وأخرج ابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعا ( من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله } وروى أبو نعيم عن عمر والبيهقي عن ابنه محوه وأخرج ابن خزيمة وابن حبان وابن عمر يبعث ملقى النخامة في القبلة يوم القيامة وهو في وجهه وأخرج الطبراني في الأوسط عن سعد ابن وقاص مرفوعا ( ذو الوجهين في الدنيا يأتي يوم القيامة وله وجهان من نار ) والطبراني وابن أبي الدنيا عن أنس مرفوعا :( من كان ذا اللسانين جعل الله يوم القيامة له لسانيين من نار ) والأربعة والحاكم وابن حبان عن أبي هريرة مرفوعا ( من كان عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) وفي لفظ ﴿ ساقط ﴾ وحديث ( يحشر أمتي أفواج صنف على صورة القردة ) الحديث ذكرناه في تفسير قوله تعالى :﴿ فتأتون أفواجا ﴾ في سورة عم يتساءلون وورد في الأحاديث الصحاح يحشر الناس حاملين على أعناقهم ما أخذوه بغير حق وفي الصحيحين مرفوعا في الغلول ( يجيء يوم القيامة وعلى رقبته بعير ) الحديث ﴿ فيؤخذ بالنواصي والأقدام ﴾ أخرج البيهقي عن ابن عباس هذه الآية قال يجمع بين رأسه ورجله ثم يقصف كما يقصف الحطب وأخرج هناد عن الضحاك في الآية قال يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ فإن التكذيب بآلاء يفضي إلى ما ذكر من التعذيب
﴿ هذه جهنم ﴾ مبتدأ وخبره ﴿ التي يكذب بها المجرمون ﴾ أي المشركون يكذبونها في الدنيا الموصول مع الصلة صفة الجهنم والجملة مقولة ليقال المقدر وجملة يقال إما مستأنفة أو حال بمعنى أنه يؤخذ نواصيهم وأقدامهم في حال يقال لهم هذه جهنم التي كنتم تكذبونها
﴿ يطوفون ﴾ أي المجرمون ﴿ بينها ﴾ أي جهنم يحرقون فيها ﴿ وبين حميم ﴾ ماء حار ﴿ آن ﴾ بالغ إلى النهاية في الحرارة يعني يسعون بين الحميم والجحيم أخرج الترمذي والبيهقي عن أبي الدرداء مرفوعا ( يلقى على أهل النار الجوع فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا ويغنى من جوع ويغاثون بطعام ذي عصة فيذكرون أنهم كانوا يغيرون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا أدنيت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت في بطونهم ) الحديث وروى أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا في قوله ﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل ﴾ قال :﴿ كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه ﴾ الحديث وقال كعب الأحبار إن واد مكن أودية جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطلق به في الأغلال فيغمسون في ذلك الوادي حتى يتخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقا جديدا فيلقون في النار فذلك قوله تعالى :﴿ يطوفون بينها وبين حميم آن ﴾ ﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ فإن التكذيب بآلاء الله يوجب التعذيب قيل من قوله تعالى :﴿ كل من عليها فان ٢٦ ﴾ إلى هاهنا مواعظ ومزاجر وتخويف وكل ذلك نعمة من الله لأنها يزجر من المعاصي والظاهر أن هذا القول تكلف والمراد بالآلاء كل نعمة لواحد من الإيجاد والإبقاء والتزريق والهداية ونحو ذلك أورد الله سبحانه التوبيخ بهذه الآية في هذه السورة إحدى وثلاثين مرة ثماني مرات بعد ذكر عجائب الخلقة وبدائع الصنعة على عدد الصفات الثمانية الحقيقية لله تعالى إلى قوله :﴿ كل يوم هو في شأن ﴾ وتنبيها على أنه لا ينبغي تكذيب آلاء من هذا شأنه في الخلق والقدرة سبع مرات عدد أبوابها جهنم بعد ذكر الوعيدات من قوله :﴿ سنفرغ لكم ﴾ إلى قوله ﴿ يطوفون بينها وبين حميم آن ٤٤ ﴾ تنبيها على أنه لا ينبغي كفران آلاء قادر منتقم كذلك خوفا من انتقامه وثماني مرات بعد ذكر نعيم الجنة عدد أبواب الجنة وكذلك ثمان أخر بعد ذكر جنته أخر تنبيها على أنه لا ينبغي كفران آلاء قادر منعم كذلك طمعا في إنعامه والله تعالى أعلم.
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في كتاب العظمة عن عطاء أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه فكر ذات يوم في القيامة والموازين والجنة والنار فقال وددت أني كنت خضرا من هذه الخضر يأتي على بهيمة تأكلني وأني لم أخلق فنزلت ﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ﴾ الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شؤذب قال نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق والمقام إما ظرف والمعنى خاف الموقف الذي يقف فيه العباد للحساب أو موقف القيام عند ربه للحساب وقال قتادة إن المؤمنين خافوا ذلك المقام فعملوا لله ودانوا بالليل والنهار أو مصدر ميمي والمعنى خاف قيام ربه على أحواله من قام عليه إذا راقبه كما في قوله تعالى :﴿ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ﴾ وقيامه عند ربه للحساب فالإضافة إلى الرب للتفخيم والتهويل وقيل لفظ المقام مقحم والمعنى لمن خاف ربه جنتان مبتدأ خبره لمن خاف أو فاعل للظرف والجملة الظرفية معطوفة على قوله ﴿ يرسل عليكما شواظ من نار ﴾ فإنها مع ما يليها بيان الجزاء للأشرار وهذه مع ما بعدها بيان الجزاء للخيار وكلتاهما بيان لقوله تعالى :﴿ سنفرغ لكم أيه الثقلان ٣١ ﴾ الذي هو خبر للرحمن قال الضحاك هذا يعني الإنعام بالجنتين لمن راقب الله في السر والعلانية بعلمه ما عرض له من محرم تركه من خشية الله تعالى وما عمل من خير أفضى به على الله تعالى لا يحبأن يطلع عليه أحد والآية تحتمل المعنيين أحدهما هو الظاهر أن لمجموعهم جنتان قال مقاتل جنته عدن ونعيم وقيل جنة للخائفين من الإنس وجنة للخائفين من الجن فإن الخطاب للفريقين وثانيهما أن لكل واحد من الخائفين جنان قال محمد ابن علي الترمذي جنة لخوفه ربه وجنة لتركه شهوته وقيل جنة بعقيدته وأخرى لعلمه أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه وهذا التأويل مستبعد جدا ويلزم منه أن يكون عدد الجنات على ضعف عدد الخائفين بل على ضعف ضعفهم لأن قوله تعالى :﴿ ومن دونهما جنتان ٦٢ ﴾ معطوف على هذه الجملة فيكون لكل واحد من خاف مقام ربه أربع جنات وقد ورد في الأحاديث أن الجنات كلها أربعة عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( جنتان من فضة آنيتها وما فيها وجنتان من ذهب آنيتها وما فيها وما بين القوم وأن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن } رواه الشيخان في الصحيحين ورواه البغوي عن عبد الله ابن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى أحمد والطيالسي والبيهقي عن أبي موسى مرفوعا بلفظ ﴿ جنات الفردوس أربع جنتان من ذهب حليهما وآنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة حليهما وآنيتهما وما فيهما وما بينهم أن ينظروا ربهم ( الحديث نحوه روى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من خاف أدلج ومن أدلج بلغ ألا أن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة ﴾ ورد أيضا بسنده عن أبي الدرداء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ٣٦ ﴾ فقلت وإن زنى وإن سرق يا رسول الله قال :{ وإن رغم أنف أبي الدرداء
﴿ ذواتا ﴾ وأصله ذوو للمذكر وذات أصله وذوات للمؤنث وتشتته ذواتا على الأصل ويقال في الجمع أيضا ذوات تخفيفا ولا يستعمل شيئا منها إلا مضافا فإنها وضعت ليتوصل بها على الوصف بأسماء أجناس وهاهنا صفة للجنتان ﴿ أفنان ﴾ جمع فنن هي الغصة التي يتشعب من فروع الشجر وتخصيصها بالذكر لأنها تورق وتثمر وتمد الظل وهو قول مجاهد والكلبي وقال عكرمة ظل الأغصان على الحيطان قال الحسن ذواتا ظلال أو جمع فن والمراد به أوان الفواكه وأنواع الأشجار والثمار من قولهم أفنن فلان في حديثه إذا أخذ في فنون منه وضروب وهو قول سعيد ابن جبير والضحاك والمروي عن ابن عباس
﴿ فيها عينان تجريان ﴾ حيث شاؤوا إلى الأعالي والأسافل والجملة صفة لجنتان يعني في كل واحد من الجنة عين يعني شيء من هذا الجنس لا أن في كل واحد منهما أدنى مجموعهما عينان فحسب لا مزيد عليهما وكيف قد قال الله تعالى :﴿ فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ﴾ فلا بد أن يكون من كل نوع من الأنواع الأربعة أنهارا كثيرة وذكر البغوي عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عله وسلم ( أربع عيون في الجنة عينان تجريان من تحت العرش التي ذكرها الله تعالى يفجرونها تفجيرا والأخرى الزنجبيل والأخريان نضاختان من فوق إحداهما التي ذكر سلسبيلا والأخرى التسنيم }
﴿ فيها من كل فاكهة زوجان ﴾ صنفان غريب ومعروف وقيل رطب ويابس والجملة صفة أخرى لجنتان قال البغوي قال ابن عباس ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أن حلو كذا أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عنه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في مسنده وهناد في الزهد والبيهقي عن ابن عباس قال ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء
} متكئين على فرش } منصوب على المدح لمن خاف أو حال منه لأن في معنى الجمع ﴿ بطائنها من إستبرق ﴾ صفة لفرش والإستبرق ما غلظ من الديباج أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن مسعود قال أخبرتم بالبطائن فكيف بالظواهر وذكر البغوي نحوه عنه وعن أبي هريرة وأخرج أبو نعيم عن سعيد ابن جبير قال ظواهرها من نور جامد وذكر البغوي أنه قيل لسعيد ابن جبير البطائن من إستبرق فما الظواهر قال هذا كما قال الله عز وجل :﴿ فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ﴾ وذكر البغوي عن ابن عباس قال وصف البطائن وترك الظواهر لأنه ليس في الأرض أحد يعرف بالظواهر ﴿ وجنى الجنتين دان ﴾ حال من الضمير المستتر في لمن خاف اسم بمعنى مجني وهو ما يجتني من الثمار يعني ثمارها دانية لا يصعب تناولها وأخرج سعيد ابن المنصور، والبيهقي وهناد عن البراء ابن عازب في قوله تعالى :﴿ وذللت قطوفها تذليلا ﴾ قال أن أهل الجنة يأكلون ثمار الجنة قياما وقعودا أو مضطجعين على أي حال شاؤا وذكر البغوي عن ابن عباس قال تدنو الشجرة حتى يجتنبها ولي الله إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وذكر عن قتادة أنه قال لا ترد أيديم عنها بعد ولا شوك
فيهن } أي في أماكن الجنة وقصورها التي دلت عليها الجنتان أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفواكه والفرش ﴿ قاصرات الطرف ﴾ أي نساء قصرت أبصارهن على أزواجهن كذا أخرج البيهقي عن مجاهد ﴿ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ﴾ أي لم يجمع الإنسانيات إنس ولا الجنيات جن، وأصل الطمث الدم منه ويقال للحيض أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي من طرق ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ لم يطمثهن ﴾ قال لم يدمهن يعني بالجماع جملة لم يطمثهن حال من قاصرات الطرف وهو فاعل للظرف المستقر والجملة الظرفية صفة للجنتان وقال الزجاج وغيره فيه دليل على أن الجن يتغشى كما يتغشى الإنس قال مجاهد إذا جامع الرجل فلم يسم انطوى إن الجاعل أحليله فجامع معه قال مقاتل في قوله تعالى :﴿ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ﴾ لأنهن خلقن في أجنات فعلى قوله هؤلاء. . . من حور الجنة وأخرج سعيد ابن منصور والبيهقي عن الشعبي قال هن نساء أهل الدنيا خلقهن الله في الخلق الأخرى كما قال :﴿ إنا أنشأناهن إنشاء ٣٥ فجعلناهن أبكارا ٣٦ عربا أترابا ﴾ لم يطمثهن حين عدن في الخلق الآخر إنس قبلهم ولا جان وذكر البغوي قول الكلبي نحوه قرأ أبو عمرو عن الكسائي لم يطمثهن بضم الميم وأبو الحارث عنه في الثاني كذلك قال الداني هذه قراءتي والذي نص عليه أبو الحارث كرواية الدوري وقال والبغوي قرأ الكسائي إحداهما بالضم فإن كسر الأولى ضم الثانية وإن ضم الأولى كسر الثانية لما روى أبو إسحاق السبيعي قال : كنت أصلى خلف أصحاب علي رضي الله عنه فأسمعهم يقرؤون لم يطمثهن بالرفع يعني بالضم وكنت أصلي خلف أصحاب عبد الله ابن مسعود فأسمعهم يقرؤون بكسر الميم فكان الكسائي يضم إحداهما ويكسر الأخرى لئلا يخرج عن هذين الأثرين وقرأ الجمهور بكسر الميم
} كأنهن الياقوت والمرجان } قال مرادف للجملة السابقة أخرج البيهقي عن أبي صالح والسدي في هذه الآية قال بياض اللؤلؤ وصفاء الياقوت والمرجان قال صفاء لهن كصفاء الدر في الأصداف والذي لا تمسه الأيدي وذكر البغوي عن قتادة قال صفاء الياقوتا في بياض المرجان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر لا يتلفون فيها ولا يتمخطون ولا يتغوطون ) وفي رواية ( لا يسقمون آنيتهم وأمشاطهم من الذهب والفضة ومجارهم من الإلوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن ولا اختلاف بينهم لا تباغض قلوبهم على قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشيا } متفق عليه وأخرج الترمذي وصححه وهو البيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أول زمرة تدخل الجنة كالقمر ليلة بدر والزمرة الثانية كأحسن كوكب دري في السماء لكل امرئ منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقهن من وراء الحلل } وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود قال إن المرأة من الحور العين ليرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم من تحت سبعين حلة كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء وذكر البغوي نحوه عن عمر ابن ميمون وأخرج أحمد وابن حبان والبيهقي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم كأنهن الياقوت والمرجان قال :( ينظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة ولأن أدنى لؤلؤ عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب وأنه يكون عليها سبعون ثوبا ينقدها بصرة فيرى مخ ساقها من وراء ذلك وروى البغوي بسنده عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة من أهل الجنة ليرى ساقها من وراء سبعين حلة من حرير ومخها عن الله يقول
﴿ كأنهن الياقوت والمرجان ٥٨ ﴾ فأما الياقوت فإنه حجر لو دخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته منة ورائه
} هل جزاء الإحسان } في العمل في الدنيا ﴿ إلا الإحسان ﴾ في الثواب في الآخرة روى البغوي بسنده عن أنس قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) ثم قال هل تدرون ما قال ربكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال عليه السلام ( يقول الله عز وجل هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة ) وقال ابن عباس هل جزاء من قال لا إلاه إلا الله } وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة
﴿ ومن دونهما ﴾ أي الجنتين المذكورين ﴿ جنتان ﴾ عطف على جنتان وقوله تعالى :﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ﴾ عطف المفرد على المفرد ومن دونهما حال مقدم عليه والمعنى لمن خاف مقام ربه أربع جنات ولم يفعل هكذا ليدل على أن كون الأولين أفضل من الأخريين وجاز أن يكون من دونهما جنتان جملة معطوفة على جملة تقديره ومن دونهما جنتان لأربابهما قال ابن عباس من دونهما في الدرجة وقال ابن زيد من دونهما في الفضل قال أبو موسى جنتان من ذهب للسابقين وجنتان من فضة للتابعين رواه الحاكم والبيهقي عنه، وأخرج عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( جنتان من ذهب للسابقين وجنتان من ورق لأصحاب اليمين ) كذا ذكر البغوي قول ابن جريج وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال كان عرش الله على الماء ثم اتخذ لنفسه جنة ثم اتخذ فيها أخرى ثم أطبقها بلؤلؤة واحدة قال ومن دونهما جنتان، قال البغوي وقال الكسائي من دونهما أي أمامهما وقبلهما يدل عليه قول الضحاك الجنتان من ذهب والأخريان من ياقوت
} مدهامتان } أي خضروان تضربان إلى السواد من شدة الخضرة فيه إشعار بأن الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على الأرض على الأولين والأشجار والفواكه دلالة على ما بينهما من التفاوت
} فيها عينان نضاختان } أي فوارتان بالماء وهو أيضا أقل مما وصف به الأولين لأنه ذكر هناك تجريان يعني من فوق من العرش وهاهنا نضختان من تحت أخرج ابن أبي حاتم عن البراء ابن عازب قال عينان تجريان هما خير من نضختان
﴿ فيها فاكهة ونخل ورمان ٦٨ ﴾ قال بعضهم ليس النخل والرمان من الفاكهة فإن العطف يدل على المغايرة والفاكهة ما يقصد منها التفكه لا غير وثمرة النخل غذاء وثمر الرمان دواء ولهذا قال أبو حنيفة من حلف لا يأكل فاكهة فأكل رطبا ورمانا لا يحنث وقال أكثرهم هما من الفاكهة وإنما عطف تخصيصها بعد تعميم لمزيد فضلها كما عطف جبرائيل وميكائيل على الملائكة روى البغوي بسنده عن ابن عباس قال نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر ورقها ذهب أحمر سعفها كسوة لأهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثالها القلال أو الدلاء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد ليس له عجم، وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس قال إن التمرة من ثمر الجنة طولها اثنى عشر ذراعا ليس لها عجم وأخرج أيضا عنه قال الرمانة من رمان الجنة يجتمع حولها بشير كثير يأكلون منها فإذا جرى على ذكر أحدهم شيء يريده وجده في موضع يرع حيث يأكل وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( نظرت الجنة فإذا الرمانة من رمانها مثل البعير المقتب )
} فيهن خيرات حسان ٧٠ } أي خيرات بالتشديد فخففت لأن خير الذي بمعنى أخير لا يجمع والجملة صفة أخرى لجنتان أي في أماكنها وقصورها قال البغوي روى الحسن عن أبيه عن أم سلمة قالت : قلت يا رسول الله أخبرني عن قوله تعالى :﴿ خيرات حسان ﴾ قال خيرات الأخلاق حسان الوجوه ) رواه الطبراني وأخرج ابن المبارك عن الأوزاعي قال خيرات بذيات اللسان ولا يعزن ولا يؤدين
} حور } وحوراء بالتحريك أن تشد بياض العين وسواد سوادها وتشتد سود حدقتها وبرق جفونها ويبيض ما حولها إلا شدة بياضها وسوادها في شدة بياض الجسد أو أسود العين كلها مثل الظباء ولا يكون في بني آدم بل يستعار لها كذا في القاموس أخرج البيهقي عن أم سلمة قال قلت يا رسول الله ﴿ أخبرني عن قول الله تعالى { حور عين ﴾ قال بياض أضخام شعر العين بمنزلة الحوراء جناح النسر ) وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عمر قال لشفرات من حور العين أطول من جناح النسر وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خلق الحور العين من الزعفران ) وأخرج البيهقي مثله عن أنس مرفوعا وعن ابن عباس ومجاهد موقوفا وأخرج ابن المبارك عن زيد ابن أسلم قال إن الله تبارك تعالى لا يخلق الحور العين من تراب إنما خلقهن من مسك وكافور وزعفران وأخرج ابن أبي الدنيا عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لو أن حوراء بزقت في بحر لعذب ذلك البحر من عذوبة ريقها ) وأخرج عن ابن عباس قال : إن امرأة من نساء أهل الجنة لو بصقت في سبعة أبحر لكانت تلك الأبحر كلها أحلى من العسل وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لقاب قوس أحدكم في الجنة من الدنيا وما فيها ولو أن امرأة من نساء الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينها ولملأت ما بينها ريحا ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها ) رواه البخاري وأخرج ابن أبي الدنيا عن كعب لو أن يدا من الحور دليت من السماء لأضاءت بها الأرض كما يضيء الشمس أهل الدنيا ﴿ مقصورات في الخيام ﴾ يعني محبوسات مستورات في الحجال قال البغوي قصرن طرفهن وأنفسهن على أزواجهن فلا تبغين بهم بدلا وروى البيهقي عن مجاهد في هذه الآية قال محبوسات لا يبرحنه والخيمة لؤلؤة وفضة وأخرج البيهقي عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ لما أسري بي دخلت الجنة موضعا يسمى البيدح عليه خيام اللؤلؤ والزبرجد الأصفر والياقوت الأحمر فقلن السلام عليك يا رسول الله قلت يا جبرائيل ما هذا النداء ؟ قال هؤلاء المقصورات في الخيام استأذن ربهن في السلام عليك فأذن لهن فطفقن يقلن نحن الراضيات فلا نسخط أبدا ونحن الخالدات فلا نطعن أبدا وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { حور مقصورات في الخيام ﴾ والخيام جمع خيمة روى البغوي بسنده عن عبد الله ابن قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن في الجنة خيمة من لؤلؤ مجوف عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون ) وفي الصحيحين نحوه عن أبي موسى الأشعري مرفوعا وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن ابن عباس قال الخيمة درة مجوفة فرسخ لها أربعة مضارع من ذهب وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم الخيمة درة مجوفة وأخرج مثله عن عمر موقوفا وابن جرير مثله عن أبي مجلز مرسلا، وقال ابن أبي حاتم عن أبي درداء قال الخيمة لؤلؤة فيها سبعون بابا من در وأخرج هناد عن عمر ابن ميمون قال الخيمة درة مجوفة ومثله عن مجاهد وابن أحوص وأخرج ابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا عن ابن مسور لكل مسلم خيرة لكل خيرة خيمة ولكل خيمة أربعة أبواب ندخل عليه تحفة وكرامة وهدية لم يكن قبل ذلك لا مرحات ولا طمحات ولا نجرات ولا حور عين كأنهن بيض مكنون
﴿ لم يطمثهن إنس قبلهم ﴾ يعني قبل أصحاب الجنتين دل عليهم ذكر الجنتين
﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ فائدة نساء الدنيا خير من الحور العين لحديث أخرج البيهقي عن أم سلمة قالت قلت يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم حور العين ؟ قال ( نساء الدنيا أفضل من حور العين كفضل الظهارة على البطانة ) قلت وبم ذلك قال بصلاتهن وصيامهن ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الألوان خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدا وألا نحن الناعمات فلا نبأس أبدا ألا نحن المقيمات فلا نطفن أبدا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا طوبى لمن كنا له وكان لنا، قلت يا رسول الله المرأة تزوج الزوجين والثلاثة والأربعة في الدنيا ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها منهم قال إنها تخير فتخير أحسنهم خلقا في الدار الدنيا فتزوجته إياه فقالت أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة ) وأخرج هناد عن جبان ابن جبلة قال عن نساء أهل الجنة فضلن على الحور العين بأعمالهم في الدنيا
﴿ متكئين ﴾ حال من قوله ولمن خاف مقام ربه والمعنى لمن خاف مقام ربه جنتان كذا حال كونهم متكئين على كذا لهم من دون هاتين الجنتين جنتان أخريان كذا حال كونهم متكئين على كذا حال أو حال من أربابها المقدر يعني حال كون أربابهما متكئين ﴿ على رفرف خضر ﴾ في القاموس الرفرف ثياب خضر يتخذ منها المجالس وبسط وفضول المجالس الفرش والوسادة، وفي الصحاح ضرب من الثياب شبه بالرياض وقيل طرف الفسطاط الواقع على الأرض دون الأطناب والأوتاد وأخرج البيهقي من طريق أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى رفرف خضر قال المجالس وأخرج هناد والبيهقي عن سعيد ابن جبير قال رياض الجنة، قال البغوي قيل الرفرف البسط وهو قول الحسن ومقاتل والقرطبي روى العوفي عن ابن عباس قال الرفرف فضول المجالس والبسط وقال قتادة هو مجالس خضر فوق الفرش، وقال ابن كيسان هي المرافق وقال ابن عيينة الزرابي وقال غيره كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف ﴿ وعبقري حسان ﴾ عطف على خضر في القاموس عبقر موضع كثير الجن وثيابها غاية الحسن والعبقري الكامل من كل شيء والسيد والذي ليس فوق شيء والشديد وضرب من البسط وقال البيضاوي منسوب إلى عبقر يزعم العرب أنه اسم بلد الجن فينسبون إليه كل شيء عجيب والمراد به الجنس ولذلك جمع حسان حملا على المعنى وكذا ذكر في الصحاح وأخرج البيهقي عن ابن عباس عبقري حسان قال الزرابي قال القتيبي كل ثوب موشى عند العرب عبقري وقال أبو عبيدة هو منسوب إلى الأرض يعمل بها الوشي قال الخليل كل جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم عند العرب عبقري ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه ( فلم أر عبقريا يفري فريه )
﴿ تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ﴾ قرأ ابن عامر ذو الجلال بالواو إجراء على الاسم والباقون بالياء والمعنى أنه تعالى اسمه من حيث أنه مطلق على ذاته فما ظنك بذاته وقيل الاسم بمعنى الصفة أو مقحم روى البغوي بسنده عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلا مقدار ما يقول ﴿ اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ﴾ وروى مسلم أيضا.