تفسير سورة الحشر

اللباب
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الحشر مدنية في قول الجميع، وهي أربع وعشرون آية وأربع مائة وخمس وأربعون كلمة وألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا.

مدنية في قول الجميع، وهي أربع وعشرون آية وأربع مائة وخمس وأربعون كلمة وألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ تقدم نظيره.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر﴾.
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: قل: سورة النَّضير، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون - صلوات الله وسلامه عليه - نزلوا ب «المدينة» في فتن بني إسرائيل انتظاراً لمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان من أمرهم ما نصّ عليه.
قوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الكتاب﴾.
يجوز أن تكون «من» للبيان، فتتعلق بمحذوف، أي: أعني من أهل الكتاب.
والثاني: أنها حال من «الَّذين كفروا».
وقوله تعالى: ﴿مِن دِيَارِهِمْ﴾ متعلق ب «أخرج»، ومعناها: ابتداء الغاية، وصحت إضافة الديار إليهم؛ لأنهم أنشئوها.
562
قوله: ﴿لأَوَّلِ الحشر﴾.
هذه اللاَّم متعلقة ب «أخرج» وهي لام التوقيت، كقوله تعالى: ﴿لِدُلُوكِ الشمس﴾ [الإسراء: ٧٨] أي: عند أول الحشر.
وقال الزمخشري: وهي كاللام في قوله تعالى: ﴿ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: ٢٤]، وقوله: «جئت لوقت كذا» وسيأتي الكلام على هذه «اللام» في سورة «الفجر» إن شاء الله تعالى.

فصل في الكلام على الحشر


قال القرطبي: «الحشر» : الجمع، وهو على أربعة أضرب:
حشران في الدنيا وحشران في الآخرة.
أما اللذان في الدنيا فقوله تعالى: ﴿هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر﴾.
قال الزهري: كانوا من سِبْطٍ لم يصبهم جلاء، وكان الله - عَزَّ وَجَلَّ - قد كتب عليهم الجلاء، فلولا ذلك لعذّبهم في الدنيا، وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى «الشام».
قال ابن عباس وعكرمة: من شك أن المحشر في «الشام» فليقرأ هذه الآية.
وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لهم: «اخْرُجُوا» قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى أرْضِ المَحْشَرِ».
قال قتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هذا أول المحشر.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هم أول من حشر من أهل الكتاب، وأخرج من دياره.
وقيل: إنهم أخرجوا إلى «خيبر»، وإن معنى «لأول الحشر» : إخراجهم من حصونهم إلى «خيبر»، وآخرهم بإخراج عمر إياهم من «خيبر» إلى «نجد» و «أذرعات».
وقيل: «تيماء» و «أريحاء»، وذلك بكفرهم ونقض عهدهم.
563
وأما الحشر الثاني: فحشرهم قرب القيامة.
قال قتادة: تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيلُ معهم حيث قالوا، وتأكل من تخلف منهم، وهذا ثابت في الصحيح.
وذكروا أن تلك النَّار ترى بالليل، ولا ترى بالنهار.
قال ابن العربي: للحشر أول ووسط، وآخر.
فالأول: إجلاء بن النَّضير.
والأوسط: إجلاء خيبر.
والآخر: حَشْر يوم القيامة.
وعن الحسن: هم بنو قريظة، وخالفه بقية المفسرين، وقالوا: بنو قريظة ما حشروا، ولكنهم قتلوا حكاه الثعلبي.

فصل في نسخ مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم


قال إلكيا الطَّبري: ومُصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجوز الآن، وإنما كان ذلك في دار الإسلام ثم نُسِخَ، والآن فلا بد من قتالهم، أو سبيهم، أو ضرب الجزية عليهم.
قوله تعالى: ﴿مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ﴾ أي: لعظم أمر اليهود لعنهم الله ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين واجتماع كلمتهم.
وقوله تعالى: ﴿وظنوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله﴾.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: إن المسلمين ظنوا أنهم لعزّتهم وقوّتهم لا يحتاجون إلى أن يخرجوا من ديارهم.
قيل: المراد بالحصون: الوطيح والنَّطاة والسُّلالم والكتيبة.
قوله: ﴿مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم﴾. فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون «حُصُونهم» مبتدأ، و «مَانِعتهم» خبر مقدم، والجملة خبر «أنهم». لا يقال: لم لا يقال: «مَانعَتُهُم» مبتدأ، لأنه معرفة، و «حصونهم» خبره، ولا حاجة إلى تقديم ولا تأخير؟ لأن القصد الإخبار عن الحُصُون، ولأن الإضافة غير محضة فهي نكرة.
564
الثاني: أن تكون «مانعتهم» خبر «أنهم» و «حصونهم» فاعل به، نحو: إن زيداً قائم أبوه، وإن عمراً قائمة جاريته. وجعله أبو حيان أولى؛ لأن في نحو: «قائم زيد» على أن يكون خبراً مقدماً ومبتدأ مؤخراً، خلافاً، الكوفيون يمنعونه، فمحل الوفاق أولى.
قال الزمخشري: «فإن قلت: فأي فرق بين قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم، أو» مانعتهم «، وبين النظم الذي جاء عليه؟.
قلت: بتقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وُثُوقهم، ومنعها إياهم، وفي تغيير ضميرهم اسماً ل»
أن «، وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض إليهم، وليس ذلك في قولك: حصونهم تمنعهم». انتهى.
وهذا الذي ذكره إنَّما يتأتى على الإعراب الأول، وقد تقدم أنه مرجوح.
وتسلط الظن هنا على «أن» المشددة، والقاعدة أنه لا يعمل فيها ولا في المخففة منها إلا فعل «علم» وتعين إجراؤه مجرى اليقين لشدته وقوته، وأنه بمنزلة العلم.
وقوله: ﴿مِّنَ الله﴾ أي: من أمره.
قوله تعالى: ﴿فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ﴾.
قال الزمخشري: قرىء «فأتاهم الهلاك» أي: أتاهم أمره وعذابه ﴿من حيث لم يحتسبوا﴾، أي: لم يظنوا، وقيل: من حيث لم يعلموا.
وقال ابن جريج والسدي وأبو صالح: «من حيث لم يحتسبوا: بقتل كعب بن الأشرف، وكانوا أهل خلعة وسلاح وقصور منيعة فلم يمنعهم شيء منها».
وقيل: الضمير في «فأتاهم الله» يعود إلى المؤمنين، أي: فأتاهم نصرُ الله وتقويته [لا] يمنعهم شيء منها.
قوله: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب﴾ بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، وكان الذي قتله محمد بن مسلمة، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش - وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة - وخبره مشهور في السيرة.
قال أهل اللغة: «الرُّعْبُ» : الخوف الذي يرعب الصُّدور، أي: يملؤه، وقذفه: إثباته فيه، ومنه قالوا في صفة الأسد: مقذف، كأنه قذف اللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه.
565
وهذه الآية تدلّ على أن الأمور كلها من الله تعالى، لأن الآية دلّت على أن وقوع ذلك بالرُّعب صار سبباً في إقدامهم على بعض الأفعال، وبالجملة فالفعل لا يحصل إلا عند حصول داعية متأكدة في القلب، وحصول تلك الداعية لا يكون إلا من الله تعالى، فكانت الأفعال بأسرها مستندة إلى الله - تعالى - بهذا الطريق.
قوله: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم﴾ يجوز أن يكون مستأنفاً للإخبار به، وأن يكون حالاً من ضمير «قلوبهم»، وليس بذاك.
وقرأ أبو عمرو: «يُخَرِّبُونَ» بالتشديد، وباقيهم: بالتَّخفيف.
وهما بمعنى؛ لأن «خرَّب» عدَّاه أبو عمرو بالتضعيف، وهم بالهمزة.
وعن أبي عمرو: أنه فرق بمعنى آخر، فقال: «خرّب» - بالتشديد - هدم وأفسد، و «أخرب» - بالهمزة - ترك الموضع خراباً، وذهب عنه، وهو قول الفرَّاء.
قال المبرد: ولا أعلم لهذا وجهاً.
و «يُخْرِبُونَ» من خرب المنزل وأخربه صاحبه، كقوله: «عَلِمَ وأعْلَمَ، وقَامَ وأقَامَ».
وإذا قلت: «يخربون بيوتهم» من التخريب فإنما هو تكثير؛ لأن ذكر «بيوتاً» تصلح للتقليل والتكثير.
وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في بعض الكلام، فيجري كل واحد مجرى الآخر، نحو: «فرحته وأفرحته».
قال الأعشى: [المتقارب]
٤٧٣٦ -........................ وأخْرَبْتَ مِنْ أرْضِ قَوْمٍ دِيَارا
واختار الهذلي قراءة أبي عمرو لأجل التَّكثير.
ويجوز أن يكون «يخربون» تفسيراً للرُّعب فلا محلَّ له أيضاً.
قال أبو عمرو: وإنما اخترت التشديد؛ لأن الإخراب ترك الشيء خراباً بغير ساكن،
566
وبنو النضير لم يتركوها خراباً، وإنما خرَّبوها بالهدم، ويؤيده قوله تعالى: ﴿بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين﴾.

فصل في تفسير الآية


قال قتادة والضحاك رحمهما الله تعالى: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود يخربون من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم.
وقال مقاتل: إن المنافقين أرسلوا إليهم ألا يخرجوا وتدرّبوا على الأزِقَّة، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب.
وقيل: إن المسلمين كانوا إذا ظهروا على دربٍ من دروبهم خربوه، وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم وينقِّبُونها من وراء أدبارهم.
وقيل: إن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد، واليهود لما أيقنُوا بالجلاء، فكانوا ينظرون إلى الخشبةِ في منازلهم مما يستحسنونه، أو الباب فيهدمون بيوتهم، وينزعونها، ويحملونها على الإبل.
فإن قيل: ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين؟.
قلت: لما عرضوهم لذلك، وكانوا السبب فيه، فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم.
وقال الزهري: «يخربون بيوتهم» بنقض المواعدة، «وأيدي المؤمنين» بالمقاتلة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: «بأيديهم» في تركهم لها، «وأيدي المؤمنين» في إجلائهم عنها.
قوله تعالى: ﴿فاعتبروا ياأولي الأبصار﴾.
والاعتبار: مأخوذ هنا من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، وبهذا سميت العبرةُ عبرةً؛ لأنها تنتقل من العين إلى الخدِّ، وسمي علم التعبير؛ لأن صاحبه ينتقل من المتخيّل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات؛ لأنها تنقل المعاني عن لسان القائل إلى عقلِ المستمع.
ويقال: السعيد من اعتبر بغيره؛ لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه.
567
ولهذا قال المفسرون: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يا أولي الأبصار﴾.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يريد أهل اللُّب والعقل والبصائر.
قال الفراء: أي من عاين تلك الوقائع والأبصار جمع البصر.
ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحُصُون من الله، فأنزلهم الله - تعالى - منها، وسلط عليهم من كان ينصرهم، وأنهم هدموا أموالهم بأيديهم، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه.
واستدل الأصوليون بهذه الآية على وجوب العمل بالقياس.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء﴾.
العامة: على مده وهو الإخراج.
يقال: أجليت القوم، وجلا هو جلاء.
وقال الماوردي: الجلاء أخصّ من الخروج؛ لأنه لا يقال إلا لجماعة، والإخراج يكون للجماعة والواحد.
وقال غيره: الفَرْق بينهما أن الجلاء كان مع الأهل والولد، بخلاف الإخراج فإنه لا يستلزم ذلك.
وقرأ الحسن وعلي ابنا صالح: «الجَلاَ» بألف فقط.
وطلحة: مهموزاً من غير ألف ك «النبأ».
والمعنى: أنه لولا أنه قضى أنه سيجليهم عن ديارهم، وأنه يبقون مدة، فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن ﴿لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا﴾ أي: بالقتل كما فعل بإخوانهم «بني قريظة»، والجلاء مفارقة الوطن يقال: جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء.
وأما قوله: ﴿وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابُ النار﴾، فهو كلام مبتدأ غير معطوف على ما قبله، إذ لو كان معطوفاً على ما قبله لزم ألا يوجد؛ لأن «لولا» تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط.
568
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ﴾.
أي: عادوه وخالفوا أمره.
﴿وَمَن يُشَآقِّ الله﴾.
قرأ طلحة بن مصرف، ومحمد بن السميفع: بالفك، كالمتفق عليه في الأفعال، وأدغم الباقون.
والمقصود من الآية الزَّجْر.
569
قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر ﴾.
قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : سورة الحشر ؟ قال : قل : سورة النَّضير، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون - صلوات الله وسلامه عليه - نزلوا ب «المدينة » في فتن بني إسرائيل انتظاراً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم فكان من أمرهم ما نصّ عليه١.
قوله :﴿ مِنْ أَهْلِ الكتاب ﴾ يجوز أن تكون «من » للبيان، فتتعلق بمحذوف، أي : أعني من أهل الكتاب. والثاني : أنها حال من «الَّذين كفروا ».
وقوله تعالى :﴿ مِن دِيَارِهِمْ ﴾ متعلق ب «أخرج »، ومعناها : ابتداء الغاية، وصحت إضافة الديار إليهم ؛ لأنهم أنشئوها٢.
قوله :﴿ لأَوَّلِ الحشر ﴾هذه اللاَّم متعلقة ب «أخرج » وهي لام التوقيت، كقوله تعالى :﴿ لِدُلُوكِ الشمس ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] أي : عند أول الحشر.
وقال الزمخشري٣ : وهي كاللام في قوله تعالى :﴿ يا ليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾[ الفجر : ٢٤ ]، وقوله :«جئت لوقت كذا » وسيأتي الكلام على هذه «اللام » في سورة «الفجر » إن شاء الله تعالى.

فصل في الكلام على الحشر :


قال القرطبي٤ :«الحشر » : الجمع، وهو على أربعة أضرب :
حشران في الدنيا وحشران في الآخرة.
أما اللذان في الدنيا فقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر ﴾.
قال الزهري : كانوا من سِبْطٍ لم يصبهم جلاء، وكان الله - عز وجل - قد كتب عليهم الجلاء، فلولا ذلك لعذّبهم في الدنيا، وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى «الشام ».
قال ابن عباس وعكرمة : من شك أن المحشر في «الشام » فليقرأ هذه الآية٥.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم :«اخْرُجُوا » قالوا : إلى أين ؟ قال :«إلى أرْضِ المَحْشَرِ ».
قال قتادة رضي الله عنه : هذا أول المحشر٦.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم أول من حشر من أهل الكتاب، وأخرج من دياره٧.
وقيل : إنهم أخرجوا إلى «خيبر »، وإن معنى «لأول الحشر » : إخراجهم من حصونهم إلى «خيبر »، وآخرهم بإخراج عمر إياهم من «خيبر » إلى «نجد » و«أذرعات ».
وقيل :«تيماء » و«أريحاء »، وذلك بكفرهم ونقض عهدهم.
وأما الحشر الثاني : فحشرهم قرب القيامة، قال قتادة : تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيلُ معهم حيث قالوا، وتأكل من تخلف منهم، وهذا ثابت في الصحيح٨. وذكروا أن تلك النَّار ترى بالليل، ولا ترى بالنهار.
قال ابن العربي٩ : للحشر أول ووسط، وآخر.
فالأول : إجلاء بن النَّضير.
والأوسط : إجلاء خيبر.
والآخر : حَشْر يوم القيامة.
وعن الحسن : هم بنو قريظة١٠، وخالفه بقية المفسرين، وقالوا : بنو قريظة ما حشروا، ولكنهم قتلوا حكاه الثعلبي.

فصل في نسخ مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم :


قال إلكيا الطَّبري : ومُصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجوز الآن، وإنما كان ذلك في دار الإسلام ثم نُسِخَ، والآن فلا بد من قتالهم، أو سبيهم، أو ضرب الجزية عليهم.
قوله تعالى :﴿ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ﴾ أي : لعظم أمر اليهود لعنهم الله ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين واجتماع كلمتهم.
وقوله تعالى :﴿ وظنوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله ﴾.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن المسلمين ظنوا أنهم لعزّتهم وقوّتهم لا يحتاجون إلى أن يخرجوا من ديارهم١١.
قيل : المراد بالحصون : الوطيح والنَّطاة والسُّلالم والكتيبة١٢.
قوله :﴿ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم ﴾. فيه وجهان١٣ :
أحدهما : أن تكون «حُصُونهم » مبتدأ، و«مَانِعتهم » خبر مقدم، والجملة خبر «أنهم ». لا يقال : لم لا يقال :«مَانعَتُهُم » مبتدأ، لأنه معرفة، و«حصونهم » خبره، ولا حاجة إلى تقديم ولا تأخير ؟ لأن القصد الإخبار عن الحُصُون، ولأن الإضافة غير محضة فهي نكرة.
الثاني : أن تكون «مانعتهم » خبر «أنهم » و«حصونهم » فاعل به، نحو : إن زيداً قائم أبوه، وإن عمراً قائمة جاريته. وجعله أبو حيان١٤ أولى ؛ لأن في نحو :«قائم زيد » على أن يكون خبراً مقدماً ومبتدأ مؤخراً، خلافاً، الكوفيون يمنعونه، فمحل الوفاق أولى.
قال الزمخشري١٥ :«فإن قلت : فأي فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم، أو «مانعتهم »، وبين النظم الذي جاء عليه ؟.
قلت : بتقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وُثُوقهم، ومنعها إياهم، وفي تغيير ضميرهم اسماً ل «أن »، وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض إليهم، وليس ذلك في قولك : حصونهم تمنعهم ». انتهى.
وهذا الذي ذكره إنَّما يتأتى على الإعراب الأول، وقد تقدم أنه مرجوح.
وتسلط الظن هنا على «أن » المشددة، والقاعدة أنه لا يعمل فيها ولا في المخففة منها إلا فعل «علم » وتعين إجراؤه مجرى اليقين لشدته وقوته، وأنه بمنزلة العلم.
وقوله :﴿ مِّنَ الله ﴾ أي : من أمره.
قوله تعالى :﴿ فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ﴾.
قال الزمخشري١٦ : قرئ «فأتاهم الهلاك » أي : أتاهم أمره وعذابه ﴿ من حيث لم يحتسبوا ﴾، أي : لم يظنوا، وقيل : من حيث لم يعلموا١٧.
وقال ابن جريج والسدي وأبو صالح :«من حيث لم يحتسبوا : بقتل كعب بن الأشرف، وكانوا أهل خلعة وسلاح وقصور منيعة فلم يمنعهم شيء منها »١٨.
وقيل : الضمير في «فأتاهم الله » يعود إلى المؤمنين، أي : فأتاهم نصرُ الله وتقويته [ لا ] يمنعهم شيء منها١٩.
قوله :﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب ﴾ بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، وكان الذي قتله محمد بن مسلمة، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش - وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة - وخبره مشهور في السيرة.
قال أهل اللغة :«الرُّعْبُ » : الخوف الذي يرعب الصُّدور، أي : يملؤه، وقذفه : إثباته فيه، ومنه قالوا في صفة الأسد : مقذف، كأنه قذف اللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه.
وهذه الآية تدلّ على أن الأمور كلها من الله تعالى، لأن الآية دلّت على أن وقوع ذلك بالرُّعب صار سبباً في إقدامهم على بعض الأفعال، وبالجملة فالفعل لا يحصل إلا عند حصول داعية متأكدة في القلب، وحصول تلك الداعية لا يكون إلا من الله تعالى، فكانت الأفعال بأسرها مستندة إلى الله - تعالى - بهذا الطريق٢٠.
قوله :﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم ﴾ يجوز أن يكون مستأنفاً للإخبار به، وأن يكون حالاً من ضمير «قلوبهم »، وليس بذاك٢١.
وقرأ أبو عمرو :«يُخَرِّبُونَ »٢٢ بالتشديد، وباقيهم : بالتَّخفيف. وهما بمعنى ؛ لأن «خرَّب » عدَّاه أبو عمرو بالتضعيف، وهم بالهمزة.
وعن أبي عمرو : أنه فرق بمعنى آخر، فقال :«خرّب » - بالتشديد - هدم وأفسد، و«أخرب » - بالهمزة - ترك الموضع خراباً، وذهب عنه، وهو قول الفرَّاء.
قال المبرد : ولا أعلم لهذا وجهاً.
و«يُخْرِبُونَ » من خرب المنزل وأخربه صاحبه، كقوله :«عَلِمَ وأعْلَمَ، وقَامَ وأقَامَ ».
وإذا قلت :«يخربون بيوتهم » من التخريب فإنما هو تكثير ؛ لأن ذكر «بيوتاً » تصلح للتقليل والتكثير٢٣.
وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في بعض الكلام، فيجري كل واحد مجرى الآخر، نحو :«فرحته وأفرحته ».
قال الأعشى :[ المتقارب ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وأخْرَبْتَ مِنْ أرْضِ قَوْمٍ دِيَارا٢٤
واختار الهذلي قراءة أبي عمرو لأجل التَّكثير٢٥.
ويجوز أن يكون «يخربون » تفسيراً للرُّعب فلا محلَّ له أيضاً.
قال أبو عمرو : وإنما اخترت التشديد ؛ لأن الإخراب ترك الشيء خراباً بغير ساكن، وبنو النضير لم يتركوها خراباً، وإنما خرَّبوها بالهدم٢٦، ويؤيده قوله تعالى :﴿ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين ﴾.

فصل في تفسير الآية :


قال قتادة والضحاك رحمهما الله تعالى : كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود يخربون من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم٢٧.
وقال مقاتل : إن المنافقين أرسلوا إليهم ألا يخرجوا وتدرّبوا على الأزِقَّة، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب٢٨.
وقيل : إن المسلمين كانوا إذا ظهروا على دربٍ من دروبهم خربوه، وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم وينقِّبُونها من وراء أدبارهم.
وقيل : إن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد، واليهود لما أيقنُوا بالجلاء، فكانوا ينظرون إلى الخشبةِ في منازلهم مما يستحسنونه، أو الباب فيهدمون بيوتهم، وينزعونها، ويحملونها على الإبل.
فإن قيل : ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين ؟.
قلت : لما عرضوهم لذلك، وكانوا السبب فيه، فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم٢٩.
وقال الزهري :«يخربون بيوتهم » بنقض المواعدة، «وأيدي المؤمنين » بالمقاتلة.
وقال أبو عمرو بن العلاء :«بأيديهم » في تركهم لها، «وأيدي المؤمنين » في إجلائهم عنها.
قوله تعالى :﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾، والاعتبار : مأخوذ هنا من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، وبهذا سميت العبرةُ عبرةً ؛ لأنها تنتقل من العين إلى الخدِّ، وسمي علم التعبير ؛ لأن صاحبه ينتقل من المتخيّل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات ؛ لأنها تنقل المعاني عن لسان القائل إلى عقلِ المستمع.
ويقال : السعيد من اعتبر بغيره ؛ لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه.
ولهذا قال المفسرون : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها٣٠.
وقوله عز وجل :﴿ يا أولي الأبصار ﴾. ، قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد أهل اللُّب والعقل والبصائر٣١.
قال الفراء : أي من عاين تلك الوقائع والأبصار جمع البصر.
ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحُصُون من الله، فأنزلهم الله - تعالى - منها، وسلط عليهم من كان ينصرهم، وأنهم هدموا أموالهم بأيديهم، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه٣٢.
واستدل الأصوليون بهذه الآية على وجوب العمل بالقياس.
١ أخرجه البخاري (٨/٤٩٧)، كتاب: التفسير، باب: سورة الحشر. حديث (٤٨٨٣)..
٢ ينظر الدر المصون ٦/٢٩٢..
٣ ينظر الكشاف ٤/٤٩٩..
٤ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٨/٣..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٧/٤)، عن ابن عباس وعكرمة.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٢٧٧)، وعزاه إلى البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "البعث"..

٦ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/٤٠)، عن قتادة..
٧ ينظر المصدر السابق..
٨ ينظر المصدر السابق..
٩ ينظر: أحكام القرآن لابن العربي ٤/١٧٦٤..
١٠ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/٤)، عن قتادة..
١١ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٩/٢٤٣)..
١٢ ينظر: القرطبي ١٨/٤..
١٣ ينظر: الدر المصون ٦/٢٩٢..
١٤ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٤٢..
١٥ ينظر: الكشاف ٤/٤٩٩..
١٦ السابق..
١٧ ينظر: القرطبي ١٨/٤..
١٨ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/٤)، عن ابن جريج والسدي وأبي صالح..
١٩ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٤٣..
٢٠ ينظر السابق ٢٩/٢٤٤..
٢١ ينظر: الدر المصون ٦/٢٩٣..
٢٢ ينظر: السبعة ٦٣٢، والحجة ٦/٢٨٣، وإعراب القراءات ٢/٣٥٧، وحجة القراءات ٧٠٥، والعنوان ١٨٨، وشرح الطيبة ٦/٤٧، وشرح شعلة ٦٠٠، وإتحاف ٢/٥٢٩..
٢٣ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٤٤..
٢٤ عجز بيت وصدره:
فأقللتَ قوما وأعمرتهم ***..................
ينظر ديوانه ص ٨٢، والتفسير الكبير ٢٩/٢٧١..

٢٥ ينظر: الدر المصون ٦/٢٩٣..
٢٦ ينظر: القرطبي ١٨/٤، ٥..
٢٧ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٥/٥٠٠)، عن الضحاك..
٢٨ ذكره الرازي في "تفسيره" (٢٩/٢٤٤)..
٢٩ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٤٤، ومعاني القرآن للزجاج ٥/١٤٤..
٣٠ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٤٥..
٣١ ذكره الرازي في تفسيره" (٢٩/٢٤٥)، عن ابن عباس..
٣٢ ينظر: القرطبي ١٨/٥..
وقوله تعالى :﴿ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء ﴾.
العامة : على مده وهو الإخراج.
يقال : أجليت القوم، وجلا هو جلاء.
وقال الماوردي١ : الجلاء أخصّ من الخروج ؛ لأنه لا يقال إلا لجماعة، والإخراج يكون للجماعة والواحد.
وقال غيره : الفَرْق بينهما أن الجلاء كان مع الأهل والولد، بخلاف الإخراج فإنه لا يستلزم ذلك.
وقرأ الحسن٢ وعلي ابنا صالح :«الجَلاَ » بألف فقط.
وطلحة٣ : مهموزاً من غير ألف ك «النبأ ».
والمعنى٤ : أنه لولا أنه قضى أنه سيجليهم عن ديارهم، وأنه يبقون مدة، فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن ﴿ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا ﴾ أي : بالقتل كما فعل بإخوانهم «بني قريظة »، والجلاء مفارقة الوطن يقال : جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء.
وأما قوله :﴿ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابُ النار ﴾، فهو كلام مبتدأ غير معطوف على ما قبله، إذ لو كان معطوفاً على ما قبله لزم ألا يوجد ؛ لأن «لولا » تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط٥.
١ ينظر: النكت والعيون ٥/٥٠١، والبحر المحيط ٨/٢٤٣..
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٤٣، والدر المصون ٦/٢٩٣..
٣ السابق..
٤ ينظر: القرطبي ١٨/٦..
٥ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٤٦..
قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ ﴾.
أي : عادوه وخالفوا أمره١.
﴿ وَمَن يُشَاقِّ الله ﴾.
قرأ طلحة٢ بن مصرف، ومحمد بن السميفع : بالفك، كالمتفق عليه في الأفعال، وأدغم الباقون.
والمقصود من الآية الزَّجْر.
١ ينظر: القرطبي ١٨/٦..
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٤٣، والدر المصون ٦/٢٩٣، والقرطبي ١٨/٦..
قوله: ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ﴾.
«ما» شرطية في موضع نصب ب «قطعتم»، و «من لينة» بيان له، و «فبإذن الله» جزاء الشرط، فلا بد من حذف، أي: فقطعها بإذن الله، فيكون «بإذن الله» الخبر لذلك المبتدأ.
واللِّيْنة: فيها خلاف كبير.
قيل: هي النَّخْلة مطلقاً.
وأنشد الشاعر في ذلك: [الطويل]
٤٧٣٧ - كَأنَّ قُتُودِي فوقهَا عُشُّ طَائرٍ عَلَى لِينَةٍ سَوْقاءَ تَهْفُو جُنُوبُهَا
وقال ذو الرمة: [الطويل]
٤٧٣٨ - طِرَاقُ الخَوافِي واقِعٌ فَوْقَ لِينَةٍ نَدَى لَيْلهِ فِي رِيشِهِ يَتَرقْرَقُ
وقيل: هي النَّخْلة ما لم تكن عجوة. قاله الزهري، ومالك، وسعيد بن جبير وعكرمة، والخليل.
569
وقيل: ما لم تكن عجوة ولا برنيَّة، وهو قول أبي عبيدة.
قال جعفر بن محمد: هي العجوة خاصة، وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح في السفينة والعتيق: الفَحْل، وكانت العجوة أصل الإناث كلها، فلذلك شقّ على اليهود قطعها حكاه الماوردي.
وقيل: هي النَّخْلة الكريمة، أي: القريبة من الأرض.
وأنشد الأخفش رحمة الله عليه: [الخفيف]
٤٧٣٩ - قَدْ شَجَانِي الحمَامُ حِينَ تَغَنَّى بِفِراقِ الأحْبَابِ مِنْ فَوْقِ لِينَهْ
وقال سفيان بن عيينة: هي ضرب من النخل، يقال لثمره: اللَّون. تمره أجود التَّمر، وهو شديد الصُّفرة يرى نواه من خارجه، ويغيب فيه الضِّرْس، النخلة منها أحب إليهم من وصيف.
وقيل: هي الفَسِيْلة؛ لأنها ألينُ من النخلة.
وأنشد: [الخفيف]
٤٧٤٠ - غَرَسُوا لِينَةً بِمَجْرَى مَعِينٍ ثُمَّ حَفُّوا النَّخِيلَ بالآجَامِ
وقيل: اللينة هي الأشجار كلها للينها بالحياة، وأنشد بيت ذي الرمة المتقدم.
وقال الأصمعي: إنها الدَّقَل. قال: وأهل «المدينة» يقولون: لا تنتفخ الموائد حتى توجد الألوان يعنون الدَّقل.
قال ابن العربي: «والصَّحيح ما قاله الزهري ومالك».
وفي عين «لينة» قولان:
أحدهما: أنها «واو» ؛ لأنها من اللون، وإنما قلبت ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها ك «ديمة» و «قيمة».
الثاني: أنها «ياء» ؛ لأنها من اللين.
وجمع اللينة «لين» ؛ لأنه من باب اسم الجنس ك «تمرة، وتمر».
وقد كسر على «ليان» وهو شاذّ؛ لأن تكسير ما يفرق بتاء التأنيث شاذ ك «رطبة ورطب وأرطاب».
وأنشد: [المتقارب]
570
٤٧٤١ - وسَالِفَةٍ كَسَحُوقِ اللِّيَا نِ أضْرَمَ فيهَا الغَويُّ الشُّعُرْ
والضمير في قوله «تَرَكْتُمُوهَا» عائد على معنى «ما».
قوله: «قَائِمَةً».
قرأ عبد الله والأعمش وزيد بن علي: «قُوَّماً» على وزن «ضُرَّباً» جمع «قائم» مراعاة لمعنى «ما» فإنه جمع.
وقرأ عبد الله، ﴿ما قطعتم من لينةٍ ولا تركتموها على أصولها﴾ أي: لم تقطعوها.
وقرىء: «قَائِماً» مفرداً مذكراً.
وقوله: ﴿أُصُولِهَا﴾.
قرىء: «أصْلها» بغير «واو»، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه جمع «أصل» نحو: «رَهْن ورُهُن».
والثاني: أن يكون حذف الواو استثقالاً لها، واكتفى بالضمة عن «الواو».

فصل في نزول الآية


روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما نزل بنو النضير، وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزع أعداء الله عند ذلك، وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصَّلاح، أفمن الصلاح قطع الشجر وعَقْر النخل؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فوجد المسلمون في أنفسهم وخشوا أن ذلك فساداً، واختلفوا في ذلك.
فقال بعضهم: لا تقطعوا فإنها مما أفَاءَ اللَّه علينا.
وقال بعضهم: بل نُغيظهم بقطعها، وأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم.
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: حرَّق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نخل بني النضير وقطع
571
وهي «البُويرة»، فنزل: ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله﴾ أخبر في هذه الآية أن ما قطعوه وما تركوه «فبإذْنِ الله» أي: بأمره ﴿وَلِيُخْزِيَ الفاسقين﴾.
و «اللام» في «ليخزي» متعلقة بمحذوف أي: أذن في قطعها ليسرَّ المؤمنين ويعزهم ويخزي الفاسقين.

فصل في هدم حصون الكفار


احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ حصون الكفرة وديارهُم يجوز هدمُهَا وتحريقُهَا وتغريقها وأن ترمى بالمجانيق وكذلك أشجارهم.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنهم قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال.
وروي أن رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون، فسألهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال هذا: تركتها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال الآخر: قطعتها غيظاً على الكُفَّار.
واستدلوا به على جواز الاجتهاد بحضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال الماوردي رَحِمَهُ اللَّهُ: في هذه الآية دليل على أن كل مجتهد مصيب.
وقال إلكيا الطبري: وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين أظهرهم، ولا شكَّ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى ذلك وسكت، فتلقوا الحكم من تقريره فقط.
قال ابن العربي: وهذا باطل لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان معهم، ولا اجتهاد مع حضور النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما يدل على اجتهاد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما لم ينزل عليه أخذاً بعموم الأذية للكفار، ودخولاً في الإذْنِ للكل فيما يقضي عليهم بالبوارِ، وذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿وَلِيُخْزِيَ الفاسقين﴾.
قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ﴾ الآية.
قال المبرد: «يقال: أفاء يفيء، إذا رجع، وأفاء الله، إذا رده».
وقال الأزهري: «الفَيْء: ما رده الله على أهل دينه من أموالٍ بلا قتالٍ إما بأن
572
يجلوا عن أوطانهم ويخْلُوهَا للمسلمين، أو يصالحون على جزيةٍ يؤدّونها عن رءوسهم، أو مال غير الجزية يفتدون به من سفكِ دمائهم، كما فعله بنو النضير حين صالحوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أن لكل ثلاثة منهم حمل بعير مما شاءوا سوى السلاح، ويتركوا الباقي، فهذا المال هو الفيءُ، وهو ما أفاء الله على المسلمين، أي: رده من الكفار على المسلمين».
وقوله: «مِنْهُمْ» أي: من يهود بني النضير.
قوله: ﴿فَمَآ أَوْجَفْتُمْ﴾.
الفاء جواب الشرط، أو زائدة، على أنها موصولة متضمنة معنى الشَّرط، و «ما» نافية.
والإيْجَاف: حمل البعير على السَّير السريع، يقال: وجف البعير والفرس إذا أسرع، يَجِفُ وجْفاً ووَجِيفاً ووجفَاناً، وأوجفته أنا إيجافاً، أي: أتعبته وحركته.
قال العجاج: [الرجز]
٤٧٤٢ - نَاجٍ طَوَاهُ الأيْنُ مِمَّا وجَفَا... وقال نصيب: [الطويل]
٤٧٤٣ - ألاَ رُبَّ رَكْبٍ قَدْ قطَعْتُ وجيفَهُمْ إلَيْكَ ولوْلاَ أنْتَ لَمْ يُوجفِ الرَّكْبُ
قوله تعالى: ﴿مِنْ خَيْلٍ﴾.
«من» زائدة، أي: خيلاً، والرِّكاب: الإبل، واحدها: راحلة، ولا واحد لها من لفظها.
قال ابن الخطيب: والعرب لا يطلقون لفظ الرَّاكب إلاَّ على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارساً.
والمعنى: لم تقطعوا إليها شُقَّة، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإنما كانت من «المدينة» على ميلين قاله الفراء. فمشوا إليها مشياً ولم يركبوا خيلاً، ولا إبلاً إلا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقيل: إنه ركب جملاً.
573
وقيل: حماراً مخطُوماً بليفٍ، فافتتحها صُلْحاً.
قال ابن الخطيب: إن الصحابة طلبوا من الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يقسم الفَيْءَ بينهم كما يقسم الغنيمة بينهم، فذكر الله - تعالى - الفرق بين الأمرين، وأن الغنيمة هي التي أتعبتم أنفسكم في تحصيلها، وأما الفيءُ فلم يوجف عليه بخيل ولا ركابٍ، فكان الأمر فيه مفوضاً إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يضعه حيث يشاء.
وها هنا سؤال، وهو أن أموال بني النَّضير أخذت بعد القتال؛ لأنهم حوصروا أياماً، وقاتلوا وقتلوا، ثم صالحوا على الجلاء، فوجب أن تكون تلك الأموال من جملة الغنائم لا من جملة الفيء؟ فلهذا السؤال ذكر المفسرون ها هنا وجهين:
الأول: أن هذه الآية ما نزلت في قرى بني النضير؛ لأنهم أوجفوا عليه بالخيل والرِّكاب، وحاصرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمسلمون، بل هي فيء «فَدَك» ؛ لأن أهله انجلوا عنه، فصارت تلك القرى والأموال التي في يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من غير حربٍ، فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأخذ من غلَّة «فدك» نفقته ونفقة من يعوله، ويجعل الباقي للسِّلاح والكراع، فلما مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ادعت فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنه كان نحلها «فدكاً»، فقال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أنت أعز الناس علي فقراً، وأحبهم إلي غنى، لكني لا أعرف صحة قولك، ولا يجوز لي أن أحكم بذلك، فشهدت لها أم أيمن ومولى للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فطلب منها أبو بكر الشَّاهد الذي يجوز شهادته في الشرع فلم يكن فأجرى أبو بكر ذلك على ما كان يجريه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينفق منه على من كان ينفق عليه الرسول، ويجعل ما يبقى في السلاح والكُراع.
وكذلك عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - جعله في يد علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يجريه على هذا المجرى، ورد هذا في آخر عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقال: إن بنا غنًى وبالمسلمين إليه حاجة.
وكان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يجريه كذلك، ثم عاد إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فكان يجريه هذا المجرى، والأئمة الأربعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - اتَّفقوا على ذلك.
والقول الثاني: أن هذه الآية نزلت في بني النضير وقراهم، وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب، ولم يقطعوا إليها مسافة كبيرة، وإنما كانوا على ميلين من «المدينة»، فمشوا إليها مشاة، ولم يركب إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما كانت المقاتلة قليلة، والخيل والركاب غير حاصل أجراه الله - تعالى - مجراه ما لم يحصل فيه المقاتلة أصلاً، فخص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتلك الأموال فروي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قسمها بين المهاجرين، ولم يُعْطِ الأنصار شيئاً
574
منها إلا ثلاثة نفرٍ كانت بهم حاجة: أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحرث بن الصمة.
قال بعض العلماء: لما ترك بنو النضير ديارهم وأموالهم طلب المسلمون أن يكون لهم منها حظ كالغنائم، فبين الله - تعالى - أنها فيءٌ، وكان قد جرى بعض القتال؛ لأنهم حوصروا أياماً، وقاتلوا وقتلوا، ثم صالحوا على الجلاء، ولم يكن قتالٌ على التحقيق، بل جرى مبادىء القتال، وجرى الحصار، فخص الله - تعالى - تلك الأموال برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال مجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: علمهم الله - تعالى - وذكرهم أنه إنما نصر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونصرهم بغير كراع ولا عدة.
﴿ولكن الله يسلط رسله على من يشاء من عباده﴾ من أعدائه.
وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دون أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -.
قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَفَآءَ الله﴾.
قال الزمخشري: «لم يدخل العاطف على هذه الجملة؛ لأنها بيان للأولى، فهي منها غير أجنبية عنها».
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هي «قريظة» و «النضير»، وهما ب «المدينة» و «فدك» وهي على ثلاثة أميال من «المدينة» و «خيبر»، وقرى «عرينة» و «ينبع» جعلها الله - تعالى - لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين أن في ذلك المال الذي خصه الله - تعالى - لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سُهماناً لغير الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تطييباً منه لعباده.

فصل في المراد بذي القربى


قال ابن الخطيب: أجمعوا على أن المراد بذي القربى بنو هاشم، وبنو المطلب.
وقال القرطبي: وقد تكلم العلماء في هذه الآية والتي قبلها على معناهما هل معناهما واحد أو مختلف، والآية التي في الأنفال؟.
فقال بعضهم: إن قوله تعالى: ﴿مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى﴾ منسوخ بآية «الأنفال» من كون الخمس لمن سمي له، والأخماس الأربعة لمن قاتل، وكان في أول الإسلام تقسم الغنيمة على هذه الأصناف، ولا يكون لمن قاتل عليها شيء، وهذا قول
575
يزيد بن رومان، وقتادة وغيرهما، ونحوه عن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وقال بعضهم: ما غنمتم بصُلْح من غير إيجاف خيل، ولا ركاب، فيكون لمن سمى الله تعالى فيه فيئاً، الأول للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاصة إذا أخذ منه حاجته كان الباقي في مصالح المسلمين.
وقال معمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الأولى: للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والثانية: هي الجزية والخراج للأصناف المذكورة فيه. والثالثة: الغنيمة في سورة «الأنفال» للغانمين.
وقال الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وبعض العلماء: إنَّ معنى الآيتين واحد، أي: ما حصل من أموال الكفار بغير قتال قسم على خمسة أسهمٍ، أربعة منها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقسم الخمس الباقي على خمسة أسهمٍ؛ سهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيضاً، وسهم لذوي القُرْبى، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب؛ لأنهم منعوا الصدقة، فجعل لهم حق في الفيء. وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل.
وأما بعد وفاة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فالذي كان من الفيء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصرف عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في قول إلى المجاهدين المترصّدين للقتال في الثُّغُور؛ لأنهم القائمون مقام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وفي قول آخر: يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثُّغور، وحفر الأنهار، وبناء القناطر، يقدم الأهم فالأهم، وهذا في أربعة أخماس الفيء.
فأما السهم الذي كان له من خمس الفيء والغنيمة فهي لمصالح المسلمين بعد موته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلا خوف، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَيْسَ لي مِنْ غَنائِمكُمْ إلاَّ الخمسُ، والخمسُ مردودٌ فِيْكُم».
وكذلك ما خلفه من المال غير موروث، بل هو صدقة عنه يصرف في مصالح المسلمين، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّا لا نُورثُ ما تركناهُ صدقة».
وقيل: كان مال الفيء لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ﴾ فأضافه إليه، غير أنه كان لا يتأثّل مالاً، إنما كان يأخذ بقدر حاجة عياله، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
قال ابن العربي رَحِمَهُ اللَّهُ: لا إشكال أنها ثلاثة معانٍ في ثلاث آيات:
فالآية الأولى وهي قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر﴾ [الحشر: ٢]، ثم قال تعالى: ﴿وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ﴾ يعني: من أهل الكتاب معطوفاً عليهم ﴿فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ﴾ يريد - كما بينا - فلا حق لكم فيه، ولذلك قال
576
عمر: كانت خالصة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعني بني النضير، وما كان مثلها فهذه آية واحدة، ومعنى متحد.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾، وهذا كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول وسمى الآية الثانية آية الغنيمة، ولا شك في أنه معنى آخر باستحقاق آخر لمستحق آخر، بيد أن الآية الأولى والثانية مشتركتان في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئاً أفاء الله على رسوله، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية «الأنفال» أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثالثة وهي قوله تعالى: ﴿مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى﴾، عن ذكر حصوله بقتال، أو بغير قتال، فمن ها هنا نشأ الخلاف.
فقالت طائفة: هي ملحقة بالأولى، وهو مال الصُّلح كله ونحوه.
وقالت طائفة: هي ملحقة بآية «الأنفال»، واختلفوا هل هي منسوخة كما تقدم أو محكمة؟.
قال القرطبي: «وإلحاقها بالتي قبلها؛ لأن فيه تجديد فائدة ومعنى».
وقد قيل: إن سورة «الحشر» نزلت بعد «الأنفال»، ومن المُحَال أن ينسخ المتقدم المتأخر.

فصل في أموال الأئمة والولاة


الأموال التي للأئمة والولاة فيها مدخل ثلاثة أضرب:
الأول: ما أخذ من المسلمين على طريق التَّطهير لهم كالصَّدقات والزكوات.
والثاني: الغنائم، وهو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكفار بالحرب والقهر والغلبة.
والثالث: الفيء، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفواً صفواً من غير قتال، ولا إيجاف كالصلح والجزية والخراج والعُشُور والمأخوذ من تجار الكفار.
ومثله أن يهرب المشركون، ويتركون أموالهم، أو يموت منهم أحد في دار الإسلام ولا وارث له.
فأما الصدقة فمصرفها الفقراء والمساكين والعاملون عليها حسب ما ذكره تعالى في سورة التوبة.
وأما الغنائم فكانت في صدر الإسلام للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصنع فيها ما شاء كما قال في «الأنفال» :﴿قُلِ الأنفال لِلَّهِ والرسول﴾ [الأنفال: ١] ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ﴾ [الأنفال: ٤١]
577
الآية وقد مضى وأما الفيء وقسمته وقسمة الخمس سواء.
قال القرطبي: «والأمر فيهما عند مالك إلى الإمام، فإن رأى حبسهما لنوازِلَ تنزل بالمسلمين فعل، وإن رأى قسمتهما، أو قسمة أحدهما، قسمها كلها، أو قسم أحدهما بين الناس، ويستوي فيه غريبهم ومولاهم، ويبدأ بالفقراء من رجال ونساء حتى يغنوا، ويعطي ذوي القربى من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الفيءِ سهمهم على ما يراه الإمام، وليس لهم حد معلوم».
وهل يعطي الغني منهم؟.
فأكثر الناس على إعطائه؛ لأنه حق لهم.
وقال مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لا يعطي منهم غير فقرائهم؛ لأنه جعل لهم عوضاً من الصدقة.
وقال الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إن ما حصل من أموال الكفار بغير قتال كان يقسم في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على خمسة وعشرين سهماً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عشرون سهماً يفعل فيها ما يشاء، والخمس يقسم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة.
قال أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي: وهذا القول ما سبقه به أحد علمناه، بل كان ذلك خالصاً له كما ثبت في الصحيح عن عمر مبيناً للآية، ولو كان هذا لكان قوله: ﴿خَالِصَةً يَوْمَ القيامة﴾ [الأعراف: ٣٢] يجوز أن يشركهم فيها غيرهم.

فصل في تقسيم هذه الأموال


وتقسم هذه الأموال المتقدم ذكرها في البلد الذي جُبِيَ فيه، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم، إلاَّ أن ينزل بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة، فينتقل إلى أهل الفاقة حيث كانوا كما فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في أعوام «الرَّمادة» وكانت خمسة أعوام أو ستة.
وقيل: عامين.
وقيل: عام اشتدّ فيه الطَّاعون مع الجوع، وإن لم يكن ما وصفناه. ورأى الإمام إيقاف الفيء أوقفه لنوائب المسلمين، ويبدأ بمن أبوه فقير، والفيء حلال للأغنياء، ويساوي فيه بين الناس، إلا أنه يؤثر أهل الحاجة والفاقة، والتفضيل فيه إنما يكون فيه على قدر الحاجة، ويعطي منه الغرماء ما يؤدون به ديونهم، ويعطي منه الجائزة والصِّلة إن كان ذلك أهلاً، ويرزق القضاة والحكام، ومن فيه مصلحة للمسلمين، وأولاهم بتوفير الحظ منهم أعظمهم للمسلمين نفعاً، ومن أخذ من الفيء شيئاً في الديوان كان عليه أن يغزو إذا وقع الغزو.
578
قوله تعالى: ﴿كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً﴾.
قرأ هشام: «تكون» بالتاء والياء، «دولة» بالرفع فقط، والباقون: بالياء - من تحت - ونصب «دولة» فأما الرفع فعلى أن «كان» تامَّة، وأما التذكير والتأنيث فواضحتان؛ لأنه تأنيث مجازي.
وأما النصب فعلى أنها الناقصة، واسمها ضمير عائد على الفيء، والتذكير واجب لتذكير المرفوع، و «دولة» خبرها. وقيل «دولة» عائد على «ما» اعتباراً بلفظها.
وقرأ العامة: «دولة» بضم الدال.
وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والسلمي: بفتحها.
فقيل: هما بمعنى، وهو قول عيسى بن عمر، ويونس، والأصمعي، وهو ما يدولُ للإنسان، أي: ما يدور من الجد والغنى والغلبة.
وقال الحُذَّاق من البصريين والكسائي: «الدَّوْلة» - بالفتح - من المُلك - بضم الميم -، وبالضم من «المِلْك» - بكسرها - أو بالضم في المال، وبالفتح في النُّصْرة.
وهذا يرده القراءة المروية عن علي والسلمي، فإن النصرة غير مرادة قطعاً، و «كي لا» علة لقوله تعالى: ﴿فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ أي: استقراره لكذا لهذه العلة.
قال المبرد: الدولة اسم للشَّيء الذي يتداوله القوم بينهم.
والدولة - بالفتح - انتقال حال سارة من قوم إلى قوم، فالدُّولة - بالضم - اسم لما يتداول، وبالفتح مصدر من هذا، ويستعمل في الحالة السارّة التي تحدث للإنسان، فيقال: هذه دولة فلان، أي قد أقبل، والمعنى: كي لا يكون الفيءُ الذي حقه أن يعطى للفقراء ليكون لهم بُلغةً يعيشون بها واقعاً في يد الأغنياء ودولة لهم.
والمعنى: فعلنا ذلك في هذا الفيءِ، كي لا يقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء منها أيضاً بعد المرباع ما شاء.
579
وفيها يقول شاعرهم: [الوافر]
٤٧٤٤ - لَكَ المِرْبَاعُ مِنْهَا والصَّفَايَا...............................
يقول: لئلا يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية.
قال الكلبي: إنها نزلت في رؤساء المسلمين، قالوا فيما ظهر عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أموال المشركين: يا رسول الله، خُذْ صفيَّك والربح، ودعنا والباقي، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية؛ وأنشد: [الوافر]
٤٧٤٥ - لَكَ المِرْبَاعُ مِنْهَا والصَّفَايَا وحُكْمُكَ والنَّشِيطَةُ والفُضُولُ
فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ﴾ [من الأخذ والغلول «فانتهوا» ].
قاله الحسن وغيره.
وقال السدي: ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه، وما منعكم عنه فلا تطلبوه، قال ابن جريج: ما آتاكم من طاعتي فافعلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه.

فصل في أن أوامر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أوامر الله تعالى


هذه الآية تدل على أن كل ما أمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر من الله - تعالى - لأن الآية وإن كانت في الغنائم، فجميع أوامره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونواهيه داخل فيها.
قال عبد الرحمن بن زيد: لقي ابن مسعود رجلاً محرماً وعليه ثيابه، فقال: انزع عنك هذا.
فقال الرجل: اتقرأ عليَّ بهذه آية من كتاب الله تعالى؟ قال نعم: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾.
580
وقال عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي: سمعت الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يقول: سَلُوني عمَّا شئتم أخبركم من كتاب الله - تعالى - وسنة نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: فقلت له: أصلحك الله، ما تقول في المحرم يقتل الزُّنْبُور؟ قال: فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾. وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اقْتَدُوا باللَّذيْنِ من بَعْدِي أبي بَكرٍ وعُمر رضِيَ اللَّهُ عنهُمَا».
حدثنا سفيان بن عيينة بن مسعر بن كدام، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه أمر بقتل الزُّنْبُور.
وهذا الجواب في غاية الحسن أفتى بجواز قتل الزنبور في الإحرام، وبيَّن أنه يقتدي فيه ب «عمر»، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر بالاقتداء به، وأنَّ الله - تعالى - أمر بقُبول ما يقوله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجواز قتله مستنبط من الكتاب والسُّنَّة.
وسئل عكرمة عن أمهات الأولاد، فقال: هل هُنَّ أحرار؟ فقال: في سورة النساء في قوله تعالى: ﴿أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنكُمْ﴾ [النساء: ٥٩].
وفي «صحيح مسلم» وغيره عن علقمة عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَعَنَ اللَّهُ الواشِمَاتِ والمُسْتوشِمَاتِ والمُتنمِّصَات والمُتَفلِّجَاتِ للحُسْنِ، المُغيِّراتِ لخَلْقِ الله» فبلغ ذلك امرأة من «بَنِي أسد» يقال لها: أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: وما لي لا ألعَنُ من لعنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في كتاب الله تعالى، فقالت: لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت فيه ما تقول، فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت: [ ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾.
قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى الله عنه. الحديث.

فصل في الكلام على الآية


قوله تعالى: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ﴾.
581
وإن جاء بلفظ الإيتاء وهو المناولة، فإن معناه الأمر بدليل قوله تعالى] :﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾.
فقابله بالنهي، ولا يقابل النهي إلا بالأمر، بدليل ما تقدم، مع قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إذَا أمَرتكُمْ بشَيءٍ فأتُوا مِنْهُ ما اسْتطعْتُمْ، وإذَا نَهيْتُكُمْ عن شَيْءٍ فانتهُوا».
قوله: ﴿واتقوا الله﴾ أي: عذاب الله، إنه شديد لمن عصاه.
وقيل: اتقوا الله في أوامره ونواهيه، فلا تضيعوها، ﴿فإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾.
582
قوله تعالى :﴿ وَمَا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ ﴾ الآية.
قال المبرد١ :«يقال : أفاء يفيء، إذا رجع، وأفاء الله، إذا رده ».
وقال الأزهري٢ :«الفَيْء : ما رده الله على أهل دينه من أموالٍ بلا قتالٍ إما بأن يجلوا عن أوطانهم ويخْلُوهَا للمسلمين، أو يصالحون على جزيةٍ يؤدّونها عن رءوسهم، أو مال غير الجزية يفتدون به من سفكِ دمائهم، كما فعله بنو النضير حين صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لكل ثلاثة منهم حمل بعير مما شاءوا سوى السلاح، ويتركوا الباقي، فهذا المال هو الفيءُ، وهو ما أفاء الله على المسلمين، أي : رده من الكفار على المسلمين ».
وقوله :«مِنْهُمْ » أي : من يهود بني النضير.
قوله :﴿ فَمَا أَوْجَفْتُمْ ﴾.
الفاء جواب الشرط، أو زائدة، على أنها موصولة متضمنة معنى الشَّرط، و«ما » نافية٣.
والإيْجَاف : حمل البعير على السَّير السريع، يقال : وجف البعير والفرس إذا أسرع، يَجِفُ وجْفاً ووَجِيفاً ووجفَاناً، وأوجفته أنا إيجافاً، أي : أتعبته وحركته.
قال العجاج :[ الرجز ]
نَاجٍ طَوَاهُ الأيْنُ مِمَّا وجَفَا٤ . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال نصيب :[ الطويل ]
ألاَ رُبَّ رَكْبٍ قَدْ قطَعْتُ وجيفَهُمْ إلَيْكَ ولوْلاَ أنْتَ لَمْ يُوجفِ الرَّكْبُ٥
قوله تعالى :﴿ مِنْ خَيْلٍ ﴾.
«من » زائدة، أي : خيلاً، والرِّكاب : الإبل، واحدها : راحلة، ولا واحد لها من لفظها.
قال ابن الخطيب٦ : والعرب لا يطلقون لفظ الرَّاكب إلاَّ على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارساً.
والمعنى : لم تقطعوا إليها شُقَّة، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإنما كانت من «المدينة » على ميلين قاله الفراء. فمشوا إليها مشياً ولم يركبوا خيلاً، ولا إبلاً إلا النبي صلى الله عليه وسلم فقيل : إنه ركب جملاً.
وقيل : حماراً مخطُوماً بليفٍ، فافتتحها صُلْحاً.
قال ابن الخطيب٧ : إن الصحابة طلبوا من الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يقسم الفَيْءَ بينهم كما يقسم الغنيمة بينهم، فذكر الله - تعالى - الفرق بين الأمرين، وأن الغنيمة هي التي أتعبتم أنفسكم في تحصيلها، وأما الفيءُ فلم يوجف عليه بخيل ولا ركابٍ، فكان الأمر فيه مفوضاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء.
وها هنا سؤال، وهو أن أموال بني النَّضير أخذت بعد القتال ؛ لأنهم حوصروا أياماً، وقاتلوا وقتلوا، ثم صالحوا على الجلاء، فوجب أن تكون تلك الأموال من جملة الغنائم لا من جملة الفيء ؟ فلهذا السؤال ذكر المفسرون ها هنا وجهين :
الأول : أن هذه الآية ما نزلت في قرى بني النضير ؛ لأنهم أوجفوا عليه بالخيل والرِّكاب، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، بل هي فيء «فَدَك » ؛ لأن أهله انجلوا عنه، فصارت تلك القرى والأموال التي في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير حربٍ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ من غلَّة «فدك » نفقته ونفقة من يعوله، ويجعل الباقي للسِّلاح والكراع، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعت فاطمة - رضي الله عنها - أنه كان نحلها «فدكاً »، فقال أبو بكر رضي الله عنه : أنت أعز الناس علي فقراً، وأحبهم إلي غنى، لكني لا أعرف صحة قولك، ولا يجوز لي أن أحكم بذلك، فشهدت لها أم أيمن ومولى للرسول صلى الله عليه وسلم فطلب منها أبو بكر الشَّاهد الذي يجوز شهادته في الشرع فلم يكن فأجرى أبو بكر ذلك على ما كان يجريه الرسول صلى الله عليه وسلم ينفق منه على من كان ينفق عليه الرسول، ويجعل ما يبقى في السلاح والكُراع.
وكذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جعله في يد علي - رضي الله عنه - يجريه على هذا المجرى، ورد هذا في آخر عهد عمر - رضي الله عنه - وقال : إن بنا غنًى وبالمسلمين إليه حاجة.
وكان عثمان - رضي الله عنه - يجريه كذلك، ثم عاد إلى علي - رضي الله عنه - فكان يجريه هذا المجرى، والأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - اتَّفقوا على ذلك.
والقول الثاني٨ : أن هذه الآية نزلت في بني النضير وقراهم، وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب، ولم يقطعوا إليها مسافة كبيرة، وإنما كانوا على ميلين من «المدينة »، فمشوا إليها مشاة، ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كانت المقاتلة قليلة، والخيل والركاب غير حاصل أجراه الله - تعالى - مجراه ما لم يحصل فيه المقاتلة أصلاً، فخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الأموال فروي أنه صلى الله عليه وسلم قسمها بين المهاجرين، ولم يُعْطِ الأنصار شيئاً منها إلا ثلاثة نفرٍ كانت بهم حاجة : أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحرث بن الصمة.
قال بعض العلماء : لما ترك بنو النضير ديارهم وأموالهم طلب المسلمون أن يكون لهم منها حظ كالغنائم، فبين الله - تعالى - أنها فيءٌ، وكان قد جرى بعض القتال ؛ لأنهم حوصروا أياماً، وقاتلوا وقتلوا، ثم صالحوا على الجلاء، ولم يكن قتالٌ على التحقيق، بل جرى مبادئ القتال، وجرى الحصار، فخص الله - تعالى - تلك الأموال برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد رضي الله عنه : علمهم الله - تعالى - وذكرهم أنه إنما نصر رسوله صلى الله عليه وسلم ونصرهم بغير كراع ولا عدة٩.
﴿ ولكن الله يسلط رسله على من يشاء ﴾ من أعدائه.
وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون أصحابه - رضي الله عنهم -.
قوله تعالى :﴿ مَا أَفَاءَ الله ﴾.
قال الزمخشري١٠ :«لم يدخل العاطف على هذه الجملة ؛ لأنها بيان للأولى، فهي منها غير أجنبية عنها ».
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي «قريظة » و«النضير »، وهما ب «المدينة » و«فدك » وهي على ثلاثة أميال من «المدينة » و«خيبر »، وقرى «عرينة » و«ينبع » جعلها الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم وبين أن في ذلك المال الذي خصه الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم سُهماناً لغير الرسول صلى الله عليه وسلم تطييباً منه لعباده١١.

فصل في المراد بذي القربى :


قال ابن الخطيب١٢ : أجمعوا على أن المراد بذي القربى بنو هاشم، وبنو المطلب.
وقال القرطبي١٣ : وقد تكلم العلماء في هذه الآية والتي قبلها على معناهما هل معناهما واحد أو مختلف، والآية التي في الأنفال ؟.
فقال بعضهم : إن قوله تعالى :﴿ مَا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى ﴾ منسوخ بآية «الأنفال » من كون الخمس لمن سمي له، والأخماس الأربعة لمن قاتل، وكان في أول الإسلام تقسم الغنيمة على هذه الأصناف، ولا يكون لمن قاتل عليها شيء، وهذا قول يزيد بن رومان، وقتادة وغيرهما، ونحوه عن مالك رضي الله عنه.
وقال بعضهم : ما غنمتم بصُلْح من غير إيجاف خيل، ولا ركاب، فيكون لمن سمى الله تعالى فيه فيئاً، الأول للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة إذا أخذ منه حاجته كان الباقي في مصالح المسلمين.
وقال معمر رضي الله عنه : الأولى : للنبي صلى الله عليه وسلم. والثانية : هي الجزية والخراج للأصناف المذكورة فيه. والثالثة : الغنيمة في سورة «الأنفال » للغانمين.
وقال الشافعي رضي الله عنه وبعض العلماء : إنَّ معنى الآيتين واحد، أي : ما حصل من أموال الكفار بغير قتال قسم على خمسة أسهمٍ، أربعة منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقسم الخمس الباقي على خمسة أسهمٍ ؛ سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً، وسهم لذوي القُرْبى، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب ؛ لأنهم منعوا الصدقة، فجعل لهم حق في الفيء. وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل.
وأما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فالذي كان من الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف عند الشافعي - رضي الله عنه - في قول إلى المجاهدين المترصّدين للقتال في الثُّغُور ؛ لأنهم القائمون مقام الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي قول آخر : يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثُّغور، وحفر الأنهار، وبناء القناطر، يقدم الأهم فالأهم، وهذا في أربعة أخماس الفيء.
فأما السهم الذي كان له من خمس الفيء والغنيمة فهي لمصالح المسلمين بعد موته صلى الله عليه وسلم بلا خوف، كما قال صلى الله عليه وسلم :«لَيْسَ لي مِنْ غَنائِمكُمْ إلاَّ الخمسُ، والخمسُ مردودٌ فِيْكُم ».
وكذلك ما خلفه من المال غير موروث، بل هو صدقة عنه يصرف في مصالح المسلمين، لقوله صلى الله عليه وسلم :«إنَّا لا نُورثُ ما تركناهُ صدقة ».
وقيل : كان مال الفيء لنبيه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى :﴿ وَمَا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ ﴾ فأضافه إليه، غير أنه كان لا يتأثّل مالاً، إنما كان يأخذ بقدر حاجة عياله، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
قال ابن العربي رحمه الله١٤ : لا إشكال أنها ثلاثة معانٍ في ثلاث آيات :
فالآية الأولى وهي قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر ﴾ [ الحشر : ٢ ]، ثم قال تعالى :﴿ وَمَا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ ﴾ يعني : من أهل الكتاب معطوفاً عليهم ﴿ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ﴾ يريد - كما بينا - فلا حق لكم فيه، ولذلك قال عمر : كانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني بني النضير، وما كان مثلها فهذه آية واحدة، ومعنى متحد.
الآية الثانية : قوله تعالى :﴿ ما أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ﴾، وهذا كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول وسمى الآية الثانية آية الغنيمة، ولا شك في أنه معنى آخر باستحقاق آخر لمستحق آخر، بيد أن الآية الأولى والثانية مشتركتان في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئاً أفاء الله على رسوله، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية «الأنفال » أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثالثة وهي قوله تعالى :﴿ مَّا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى ﴾، عن ذكر حصوله بقتال، أو بغير قتال، فمن ها هنا نشأ الخلاف.
فقالت طائفة : هي ملحقة بالأولى، وهو مال الصُّلح كله ونحوه.
وقالت طائفة : هي ملحقة بآية «الأنفال »، واختلفوا هل هي منسوخة كما تقدم أو محكمة ؟.
قال القرطبي١٥ :«وإلحاقها بالتي قبلها ؛ لأن فيه تجديد فائدة ومعنى ».
وقد قيل : إن سورة «الحشر » نزلت بعد «الأنفال »، ومن المُحَال أن ينسخ المتقدم المتأخر.

فصل في أموال الأئمة والولاة


الأموال التي للأئمة والولاة فيها مدخل ثلاثة أضرب :
الأول : ما أخذ من المسلمين على طريق التَّطهير لهم كالصَّدقات والزكوات.
والثاني : الغنائم، وهو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكفار بالحرب والقهر والغلبة.
والثالث : الفيء، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفواً صفواً من غير قتال، ولا إيجاف كالصلح والجزية والخراج والعُشُور والمأخوذ من تجار الكفار.
ومثله أن يهرب المشركون، ويتركون أموالهم، أو يموت منهم أحد في دار الإسلام ولا وارث له.
فأما الصدقة فمصرفها الفقراء والمساكين والعاملون عليها حسب ما ذكره تعالى في سورة التوبة١٦.
و
١ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٤٧..
٢ ينظر: تهذيب اللغة ٥/٧٨..
٣ ينظر: الدر المصون ٦/٣٩٤..
٤ وبعده:
طيّ الليالي زُلفا فزلفا سماوة الهلال حتى احقوقفا
ينظر: ديوانه ٢/٢٣٢، والكتاب ١/٣٥٣، وشرح أبيات سيبويه ١/٣١٩، وجمهرة اللغة ص ٥٥٣، واللسان (حقف)، و(زلف)، و(وجف)، و(سما). والبحر المحيط ٨/٢٤٠، والدر المصون ٦/٢٩٤..

٥ ينظر البحر ٨/٢٤٠، والدر المصون ٦/٢٦٤..
٦ ينظر "التفسير الكبير" (٢٩/٢٤٧)..
٧ ينظر المصدر السابق..
٨ ينظر: الفخر الرازي (٢٩/٢٤٨)..
٩ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٢٨٤)، عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد..
١٠ الكشاف ٤/٥٠٢..
١١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٣٥)، عن ابن عباس بمعناه وذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/١٠)..
١٢ التفسير الكبير ٢٩/٢٤٨..
١٣ الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٠، ١١..
١٤ ينظر: أحكام القرآن ٤/١٧٧٢..
١٥ الجامع لأحكام القرآن ١٨/١١..
١٦ آية ٦٠..
قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَآءِ﴾ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بدل من «لِذي القُربى». قاله أبو البقاء والزمخشري.
قال أبو البقاء: «قيل: هو بدل من» لذي القُرْبى «وما بعده».
[وقال الزمخشري: بدل من «لذي القُرْبى» وما عطف عليه]، والذي منع الإبدال من «لله وللرسول» والمعطوف عليهما، وإن كان المعنى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله - عَزَّ وَجَلَّ - أخرج رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الفقراءِ في قوله: ﴿وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ وأن الله - تعالى - يترفع برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن تسميته بالفقيرِ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عَزَّ وَجَلَّ.
يعني أنه لو قيل: بأنه بدل من «الله ورسوله» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو قبيح لفظاً، وإن كان المعنى على خلاف هذا الظاهر كما قيل: إن معناه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما ذكر الله - عَزَّ وَجَلَّ - تفخيماً، وإلا فالله - تعالى - غني عن الفيء وغيره، وإنما جعله بدلاً من «لذي القُربى» ؛ لأنه حنفي، والحنفية يشترطون الفقر في إعطاء ذوي القربى من الفيءِ.
الثاني: أنه بيان لقوله تعالى: ﴿والمساكين وابن السبيل﴾ [الحشر: ٧]، وكررت لام الجر لما كانت
582
الأولى مجرورة ب «اللام» ليبين أنَّ البدل إنما هو منها. قاله ابن عطية.
وهي عبارة قلقةٌ جداً.
الثالث: أن «للفقراء» خبر لمبتدأ محذوف، أي: ولكن الفيء للفقراء.
وقيل: تقديره: ولكن يكون للفقراء، وقيل: اعجبوا للفقراء.
قوله «يبتغون» يجوز أن يكون حالاً، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: للفقراء.
والثاني: «واو» أخرجوا. قالهما مكي.

فصل في معنى الآية


ومعنى الآية أن الفيء والغنائم للفقراء والمهاجرين.
وقيل: ﴿كي لا يكون دولة بين الأغنياء﴾ ولكن يكون «للفقراء» وهو مبني على الإعراب المتقدم، وعلى القول بأنه بيان لذوي القربى، «واليتامى والمساكين» أي: المال لهؤلاء؛ لأنهم فقراء ومهاجرون، وقد أخرجوا من ديارهم فهم أحق الناس به.
وقيل: ﴿ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ﴾ [الحشر: ٦] للفقراء المهاجرين كي لا يكون المال دولة بين الأغنياء مهاجرين من بني الدنيا.
وقيل: والله شديدُ العقاب للفقراء المهاجرين، أي: شديد العقاب للكافر بسبب الفقراء المهاجرين ومن أجلهم، ودخل في هؤلاء الفقراء المتقدم ذكرهم في قوله تعالى: ﴿وَلِذِي القربى واليتامى﴾ [الحشر: ٧].
قال القرطبي: «وقيل: هو عطف على ما مضى، ولم يأت بواو العطف كقولك: هذا المال لزيد لبكر لفلان.
و»
المهاجرون «: من هاجر إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حبًّا فيه ونُصرةً له».
وقال قتادة: هؤلاء المهاجرين الذين تركوا الدِّيار والأموال والأهلين والأوطان حبًّا لله - عَزَّ وَجَلَّ - ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتَّى إن الرجل منهم كان يَعْصِبُ على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها.
قوله تعالى: ﴿الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ﴾ أي: أخرجهم كفار «مكة»، أي: أحوجوهم إلى الخروج، وكانوا مائة رجل «يَبْتَغُونَ» أي: يطلبون ﴿فَضْلاً مِّنَ الله﴾ : أي غنيمة في
583
الدنيا «ورضْوَاناً» في الآخرة أي: مرضاة ربهم ﴿وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ في الجهاد ﴿أولئك هُمُ الصادقون﴾ في فعلهم ذلك.
وروي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - خطب ب «الجابية»، فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبيَّ بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومَنْ أراد أن يسأل عن الفقهِ، فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله - تعالى - جعلني له خازناً وقاسماً، ألا وإنِّي بادٍ بأزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمعطيهنّ، ثم بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي، أخرجنا من «مكة» من ديارنا وأموالنا.
قوله: ﴿أولئك هُمُ الصادقون﴾.
يعني: أنهم لما هجروا لذَّات الدنيا، وتحملوا شدائدها لأجل الدِّين ظهر صدقهم في دينهم.
قوله تعالى: ﴿والذين تَبَوَّءُو الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ﴾.
يجوز في قوله: ﴿والذين تبوّءوا الدار﴾ وجهان:
أحدهما: أنه عطف على «الفقراء» فيكون مجروراً، ويكون من عطف المفردات، ويكون «يحبون» حالاً.
والثاني: أن يكون مبتدأ، خبره «يُحبُّون» ويكون حينئذ من عطف الجمل.
وفي قوله: «والإيمان». ستة أوجه:
أحدها: أنه ضمن «تَبَوَّءوا» معنى لزموا، فيصح عطف الإيمان عليه، إذ الإيمان لا يتبوأ.
الثاني: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا، كقوله: [الرجز]
٤٧٤٦ - عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً..........................
وقوله: [مجزوء الكامل]
٤٧٤٧ -........................ مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا
الثالث: أنه يتجوّز في الإيمان، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط
584
بهم، فكأنهم نزلوه، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة. وفيه خلاف مشهور.
الرابع: أن يكون الأصل: دار الهجرة، ودار الإيمان، فأقام «لام» التعريف في «الدار» مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه.
الخامس: أن يكون سمى «المدينة» ؛ لأنها دار الهجرة، ومكان ظهور الإيمان.
قال بهذين الوجهين الزمخشري.
وليس فيه إلاَّ قيام «ال» مقام المضاف إليه، وهو محل نظر، وإنما يعرف الخلاف، هل يقوم «ال» مقام الضمير المضاف إليه؟.
فالكوفيون يُجِيزُونه، كقوله: ﴿فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى﴾ [النازعات: ٤١] أي: مأواه.
[والبصريون: يمنعونه، ويقولون: الضمير محذوف، أي: المأوى له].
وقد تقدم تحرير هذا وأما كونها عوضاً من المضاف إليه فلا نعرف فيه خلافاً.
السادس: أنه منصوب على المفعول معه أي: مع الإيمان معاً. قاله ابن عطية.
وقال: وبهذا الاقتران يصح معنى قوله «من قبلهم» فتأمله.
قال شهاب الدين: «وقد شرطوا في المفعول معه أن يجوز عطفه على ما قبله حتى جعلوا قوله تعالى: ﴿فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ﴾ [يونس: ٧١] من باب إضمار الفعل؛ لأنه لا يقال: أجمعت شركائي، إنما يقال: جمعت».

فصل في المراد بهذا التبوء


«التَّبَوُّء» : التمكن والاستقرار، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليهم، ولا خلاف أن الذين تبوَّءُوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا «المدينة» قبل المهاجرين إليها، والمراد بالدَّار: «المدينة».
والتقدير: والذين تبوَّءُوا الدار من قبلهم.

فصل


قيل هذه الآية معطوفة على قوله: «للفقراء المهاجرين» وأن الآيات في «الحَشْر» كلها معطوفة بعضها على بعض.
قال القرطبي: ولو تأملوا ذلك، وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن
585
الله - تعالى - يقول: ﴿هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ﴾ [الحشر: ٢]- إلى قوله - «الفاسقين» فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع، ثم قال تعالى: ﴿وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ﴾ [الحشر: ٦] فأخبر أن ذلك للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه لم يوجف عليه حين خلَّوه، وما تقدم فيهم من القتالِ، وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر، ثم قال تعالى: ﴿مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل﴾ [الحشر: ٧]، وهذا كلام غير معطوف على الأول، وكذا ﴿والذين تبوّءوا الدار والإيمان﴾ ابتداء كلام في مدحِ الأنصار والثناء عليهم، فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين، وكأنه قال: الفَيْء للفقراء المهاجرين، والأنصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء، وكذا ﴿والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر: ١٠] ابتداء كلام، والخبر ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا﴾ [الحشر: ١٠].
وقال إسماعيل بن إسحاق: إن قوله تعالى: ﴿والذين تَبَوَّءُو الدار﴾، ﴿والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر: ١٠] معطوف على ما قبله، وأنهم شركاء في هذا الفيء، أي: هذا المال للمهاجرين، والذين تبوَّءوا الدار والإيمان.
وقال مالك بن أوس: قرأ عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ﴿إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين﴾ [التوبة: ٦٠].
ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: ﴿واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال: ٤١]، فقال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ:
﴿وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ﴾ [الحشر: ٦] حتى بلغ ﴿لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾، ﴿والذين تَبَوَّءُو الدار والإيمان﴾، ﴿والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر: ١٠] ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي ب «سَرْو حمير» نصيبه منها لم يعرق جبينه.
وقيل: إنه دعا للمهاجرين والأنصار واستبشارهم بما فتح الله عليه من ذلك، وقال لهم: تبينوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليَّ ففكر في ليلته، فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت فلما غدوا عليه، قال: قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة «الحشر» وتلا: ﴿مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى﴾ [الحشر: ٧] إلى قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾ فلما بلغ قوله: ﴿أولئك هُمُ الصادقون﴾ قال: ما هي لهؤلاء فقط، وتلا قوله: ﴿والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر: ١٠] إلى قوله ﴿رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: ١٠] ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك.

فصل


روى مالك بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: لولا من يأتي من آخر النَّاس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خيبر.
586
وصح عن عمر أنه أبقى سواد «العراق» و «مصر» وما ظهر عليه من الغنائم ليكون في أعطيات المقاتلة، وأرزاق الجيش والذَّراري، وأن الزبير وبلالاً وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم، فكره ذلك منهم.
واختلف فيما فعل من ذلك: فقيل: إنه استطاب أنفس أهل الجيش فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين فله، ومن أبى أعطاه ثمن حظه فمن قال: إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه قسم «خيبر»، لأنّ اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها.
وقيل: إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش.
وقيل: إنه تأول في ذلك قول الله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾ إلى قوله: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: ١٠] على ما تقدم أيضاً.

فصل في اختلاف الفقهاء في قسمة العقار


اختلفوا في قسمة العقار، فقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين.
وقال أبو حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الإمام مخير بين قسمتها، أو وقفها لمصالح المسلمين.
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال، فمن طاب نفساً عن حقه للإمام أن يجعلها وقفاً عليهم فله، ومن لم تطب نفسه فهو أحق بماله.
وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - استطاب نفوس القائمين واشتراها منهم، وعلى هذا يكون قوله تعالى: ﴿والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر: ١٠] مقطوعاً مما قبله، وأنهم ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم.

فصل في فضل المدينة


قال القرطبي: «روى ابن وهب قال: سمعت مالكاً يذكر فضل» المدينة «على غيرها من الآفاق، فقال: إن» المدينة «تُبُوئتْ بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ: ﴿والذين تَبَوَّءُو الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ الآية».
587
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ﴾. فيه وجهان:
أحدهما: أن الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه، والمعنى: لا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيءِ وغيره، والمحتاج إليه يسمى حاجة تقول: خذ منه حاجتك، وأعطاه من ماله حاجته. قاله الزمخشري.
فعلى هذا يكون الضمير الأول للجائين بعد المهاجرين، وفي «أوتُوا» للمهاجرين.
والثاني: أن الحاجة هنا من الحسد.
قال الحسنُ: حسداً وحزازة مما أوتوا المهاجرين دونهم، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة؛ لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية.
والضميران على ما تقدم قبل.
وقال أبو البقاء: «الحاجة مس حاجة». أي: أنه حذف المضاف للعلم به، وعلى هذا، فالضميران ل ﴿الذين تبوّءو الدار والإيمان﴾.
وقال القرطبي: «يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خُصُّوا به من مال الفيءِ وغيره، كذلك قال الناس. وفيه تقدير حذف مضافين، والمعنى: مس حاجة من فقد ما أوتوا، وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة».

فصل في سبب نزول الآية


قال القرطبي: «كان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أموال بني النضير، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم وإشراكهم في الأموال، ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنْ أحْبَبْتُمْ قَسَمْتُ مَا أفَاءَ اللَّه عَلَيَّ مِن بَنِي النَّضيرِ بَيْنكُمْ وبَيْنَهُمْ، وكَان المُهَاجرُونَ على مَا هُمْ عليْهِ مِنَ السُّكْنَى في مَسَاكنكُمْ وأمْوالكُمْ، وإنْ أحَبَبْتُمْ أعْطَيتُهم وخَرَجُوا من دِيَارِكُمْ «، فقال سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ وسَعْدُ بْنُ معاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بَلْ نَقْسِمهُ بَيْنَ المهاجرينَ، ويُكونُونَ في دُورنا كَمَا كَانُوا، ونادت الأنصار: رَضيْنَا وسلَّمْنَا يا رسُولَ الله، فقال رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنصَارَ وأبْنَاءَ الأنْصَارِ «وأعطى رسول الله للمهاجرين، ولم يعط الأنصار إلا الثلاثة الذين ذكرناهم».
588
ويحتمل أن يريد به ﴿وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ﴾ إذا كانوا قليلاً يقنعون به، ويرضون عنه، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دنيا، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه بحكم الدنيا، وقد أنذرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال:
«سَتَرَونَ بَعْدِي أثَرَةً فاصْبرُوا حَتَّى تلْقَونِي على الحَوْضِ».
قوله: ﴿وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ﴾.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم بني النضير:» إن شِئْتُم قَسمْتُمْ للمُهَاجرينَ من أمْوالكُمْ ودِيَاركُمْ وشَارَكتُمُوهُم في هذه الغنيمةِ، وإن شِئْتُم كَانَتْ لكُم ديَارُكمْ وأموالكُمْ ولَمْ نَقْسِمْ لَكُمْ مِنَ الغَنِيمَةِ شَيْئاً «. فقالت الأنصار: بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة»، فنزل: ﴿وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ﴾ الآية.
قال ابن الخطيب: «وذكر المفسرون أنواعاً من إيثار الأنصار للضيف بالطعام، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف، ثم ذكروا أن هذه الآية نزلت في ذلك الإيثار، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات.
فذكر القرطبي: أن الترمذي روى عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن رجلاً بات به ضيف، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية، وأطفئي السراج، وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية»
.
وخرجه مسلم أيضاً: عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: إني مجهودٌ، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق نبيًّا ما عندي إلا ماء، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَنْ يُضيف هذا الليلة رَحِمَهُ اللَّهُ؟ «فقام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله أنا، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج»، وذكر نحو الحديث الأول.
589
وفي رواية: فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة، فانطلق به إلى رحله.
وذكر المهدوي: أنها نزلت في ثابت بن قيس، ورجل من الأنصار يقال له: أبو المتوكل، ولم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته.
وذكر القشيري قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأس شاة فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منّا، فبعثه إليه ولم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت: ﴿وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ﴾ الآية.
وذكر الثعلبي عن أنس، قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة، وكان مجهوداً فوجه به إلى جار له، فتداوله سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول، فنزلت الآية.

فصل في معنى الإيثار


الإيثار هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية،
590
وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا، أي: خصصته به وفضلته، ومفعول الإيثار محذوف، أي: يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، لا عَنْ غِنًى بل مع احتياجهم إليها.
فإن قيل: قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء؟.
فالجواب: إنما كره ذلك في حق من لا يوثق به بالصبر على الفقر، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله - تعالى - عليهم بالإيثار على أنفسهم، فكانوا كما قال الله تعالى: ﴿والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس﴾ [البقرة: ١٧٧].
فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار.
«كما روي أن رجلاً جاء إلى النبي بمثل البيضة من الذَّهب، فقال هذه صدقة، فرماه بها، وقال:» يَأتِي أحدُكُمْ بِجميعِ مَا يَملِكُهُ فيتصدَّق بِهِ، ثُمَّ يقعدُ فيتكفَّفُ النَّاس «انتهى.

فصل في الإيثار بالنفس


الإيثار بالنَّفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس.
ومن الأمثال: [البسيط]
٤٧٤٨ - الجُودُ بالمَالِ جُودٌ ومكرمةٌ والجُودُ بالنَّفْسِ أقْصَى غايةِ الجُودِ
وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ففي الصحيح: أن أبا طلحة ترس على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم أحد، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله، لا يصيبونك، نحري دون نحرك يا رسول الله ووقى بيده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فشلتْ.
وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم»
اليَرْموك «أطلب ابن عم لي [ومعي شيء من الماء وأنا أقول: إن كان به رمقٌ سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أن
591
نعم]، فإذا أنا برجل يقول: آه آه فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه، فجئت إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمعت آخر يقول: آه آه فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئت إليه، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وقال أبو اليزيد البسطامي رَحِمَهُ اللَّهُ: ما غلبني أحد سوى شاب من أهل» بلخ «قدم علينا حاجًّا، وقال: يا أبا اليزيد، ما حد الزهد عندكم؟.
فقلت له: إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا.
فقال: هكذا كلاب»
بلخ «عندنا.
فقلت: وما حدّ الزهد عندكم؟.
قال: إذا فقدنا شكرنا، وإذا وجدنا آثرنا.
وسئل ذو النون المصري: ما حدُّ الزهد؟ قال: ثلاث، تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند الفوت.
وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى»
الري «ومعهم أرغفة معدودة لا تشبح جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج، وجلسوا للطعام، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾.
هذه واو الحال، والخصاصة: الحاجة، وأصلها من خصاص البيت، وهي فروجه، وحال الفقير يتخللها النقص، فاستعير لها ذلك.
وقال القرطبي: «أصلها من الاختصاص، وهو الانفراد بالأمر، فالخصاصة: انفراد بالحاجة، أي: ولو كانت بهم فاقة وحاجة»
.
ومنه قول الشاعر: [الكامل]
٤٧٤٩ - أمَّا الرَّبيعُ إذَا تَكُونُ خَصَاصَةٌ عَاشَ السَّقِيمُ بِهِ وأثْرَى المُقْتِرُ
قوله تعالى: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾.
العامة على سكون الواو، وتخفيف القاف من الوقاية، وابن أبي عبلة وأبو حيوة: بفتح الواو وتشديد القاف.
592
والعامة - بضم الشين - من «شح»، [وابن أبي عبلة] وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بكسرها.
قال القرطبي: الشُّحُّ والبخل سواء، يقال: رجل شحيح بيِّن الشُّح والشَّح والشحاحة.
قال عمرو بن كلثوم: [الوافر]
٤٧٥٠ - تَرَى اللَّحِزَ الشَّحِيحَ إذَا أمِرَّتْ عَليْهِ لِمَاله فِيهَا مُهِينَا
وجعل بعض أهل اللغة الشُّحَّ أشد من البخل.
وفي «الصحاح» : الشح: البخل مع حرصٍ، شَحِحْتُ - بالكسر - تشحّ، وشَحَحْتُ أيضاً تَشُحُّ وتشِحُّ، ورجل شَحِيحٌ، وقومٌ شحاحٌ وأشحَّة.
والمراد بالآية: الشُّح بالزكاة، وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضِّيافة، وما شاكل ذلك، فليس بشحيحٍ ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه، ومن وسّع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرنا من الزكوات والطَّاعات فلم يُوقَ شح نفسه.
روى الأسود عن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أن رجُلاً أتاه فقال: إنِّي أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: سمعت الله يقول: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون﴾ وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يديّ شيئاً، فقال ابن مسعود: ليس ذلك الذي ذكر الله - تعالى -، إنما الشُّحُّ أن تأكل مال أخيك ظُلْماً، ولكن ذلك هو البخل، وبئس الشيء البخل، ففرق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بين الشح والبخل.
وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشُّحُّ أن يشح بما في أيدي
593
النَّاس، يجب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام فلا يقنع.
قال ابن زيد: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إنما الشُّح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له.
وقال ابن جريج: الشح: منع الزكاة وادخار الحرام.
وقال ابن عيينة: الشح: الظلم.
وقال الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم.
وقال ابن عباس: من اتبع هواه، ولم يقبل الإيمان، فذلك هو الشحيح.
وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه، ولم يمنع شيئاً أمره الله بإعطائه، فقد وقاه الله شحَّ نفسه.
وقال أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بَرِىء مِن الشُّحِّ مَنْ أدَّى الزَّكَاةَ وأقْرَى الضَّيْفَ، وأعْطَى في النَّائِبَة».
وعنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يدعو
«اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ شُحِّ نَفْسِي، وإسْرافِهَا وَسوآتِهَا».
وقال أبو الهياج الأسدي: رأيت رجلاً في الطواف يدعو: اللهم قني شُحَّ نفسي، لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزْنِ ولم أفعل، فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
قال القرطبي: ويدل على هذا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ فإنَّ الظُّلْمَ ظُلماتٌ يَوْمَ
594
القِيَامةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ فإنَّ الشُّحَّ أهْلكَ مَن كَانَ قَبْلَكُم حَملهُمْ على أن سفَكُوا دِمَاءهُمْ واسْتَحَلُّوا مَحَارمَهُمْ».
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سَبيلِ اللَّهِ ودُخَانُ جَهَنَّم في جَوْفِ عَبْدٍ أبَداً، ولا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ والإيمَانُ في قَلْبِ عَبْدٍ أبَداً».
وقال كسرى لأصحابه: أي شيء أضرُّ بابن آدم؟ قالوا: الفقرُ، فقال: الشح أضر من الفقر، لأن الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبعْ أبداً.
595
قوله تعالى :﴿ والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ ﴾.
يجوز في قوله :﴿ والذين تبوّءوا الدار ﴾ وجهان١ :
أحدهما : أنه عطف على «الفقراء » فيكون مجروراً، ويكون من عطف المفردات، ويكون «يحبون » حالاً.
والثاني : أن يكون مبتدأ، خبره «يُحبُّون » ويكون حينئذ من عطف الجمل.
وفي قوله :«والإيمان ». ستة أوجه :
أحدها : أنه ضمن «تَبَوَّءوا » معنى لزموا، فيصح عطف الإيمان عليه، إذ الإيمان لا يتبوأ.
الثاني : أنه منصوب بمقدر، أي : واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا، كقوله :[ الرجز ]
عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً . . . . . . . . . . . . . . . . . ٢
وقوله :[ مجزوء الكامل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا٣
الثالث : أنه يتجوّز في الإيمان، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة. وفيه خلاف مشهور.
الرابع : أن يكون الأصل : دار الهجرة، ودار الإيمان، فأقام «لام » التعريف في «الدار » مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه.
الخامس : أن يكون سمى «المدينة » ؛ لأنها دار الهجرة، ومكان ظهور الإيمان.
قال بهذين الوجهين الزمخشري٤.
وليس فيه إلاَّ قيام «ال » مقام المضاف إليه، وهو محل نظر، وإنما يعرف الخلاف، هل يقوم «ال » مقام الضمير المضاف إليه ؟.
فالكوفيون يُجِيزُونه، كقوله :﴿ فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى ﴾ [ النازعات : ٤١ ] أي : مأواه.
[ والبصريون : يمنعونه، ويقولون : الضمير محذوف، أي : المأوى له ] ٥.
وقد تقدم تحرير هذا وأما كونها عوضاً من المضاف إليه فلا نعرف فيه خلافاً.
السادس : أنه منصوب على المفعول معه أي : مع الإيمان معاً. قاله ابن عطية.
وقال٦ : وبهذا الاقتران يصح معنى قوله «من قبلهم » فتأمله.
قال شهاب الدين٧ :«وقد شرطوا في المفعول معه أن يجوز عطفه على ما قبله حتى جعلوا قوله تعالى :﴿ فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ﴾ [ يونس : ٧١ ] من باب إضمار الفعل ؛ لأنه لا يقال : أجمعت شركائي، إنما يقال : جمعت ».

فصل في المراد بهذا التبوء٨


«التَّبَوُّء » : التمكن والاستقرار، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ولا خلاف أن الذين تبوَّءُوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا «المدينة » قبل المهاجرين إليها، والمراد بالدَّار :«المدينة ».
والتقدير : والذين تبوَّءُوا الدار من قبلهم.

فصل


قيل هذه الآية معطوفة على قوله :«للفقراء المهاجرين » وأن الآيات في «الحَشْر » كلها معطوفة بعضها على بعض.
قال القرطبي٩ : ولو تأملوا ذلك، وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه ؛ لأن الله - تعالى - يقول :﴿ هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ ﴾ - إلى قوله - «الفاسقين » فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع، ثم قال تعالى :﴿ وَمَا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاءُ ﴾ فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يوجف عليه حين خلَّوه، وما تقدم فيهم من القتالِ، وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر، ثم قال تعالى :﴿ مَّا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾، وهذا كلام غير معطوف على الأول، وكذا ﴿ والذين تبوّءوا الدار والإيمان ﴾ ابتداء كلام في مدحِ الأنصار والثناء عليهم، فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين، وكأنه قال : الفَيْء للفقراء المهاجرين، والأنصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء، وكذا ﴿ والذين جَاءُو مِن بَعْدِهِمْ ﴾ ابتداء كلام، والخبر ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ﴾.
وقال إسماعيل بن إسحاق : إن قوله تعالى :﴿ والذين تَبَوَّءُوا الدار ﴾، ﴿ والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ ﴾ معطوف على ما قبله، وأنهم شركاء في هذا الفيء، أي : هذا المال للمهاجرين، والذين تبوَّءوا الدار والإيمان.
وقال مالك بن أوس : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه :﴿ إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاءِ والمساكين ﴾ [ التوبة : ٦٠ ].
ثم قال : هذه لهؤلاء، ثم قرأ :﴿ واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ﴾ [ الأنفال : ٤١ ]، فقال : هذه لهؤلاء، ثم قرأ :﴿ وَمَا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ ﴾ حتى بلغ ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ﴾، ﴿ والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان ﴾، ﴿ والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ ﴾ ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي ب «سَرْو حمير » نصيبه منها لم يعرق جبينه.
وقيل : إنه دعا للمهاجرين والأنصار واستبشارهم بما فتح الله عليه من ذلك، وقال لهم : تبينوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليَّ ففكر في ليلته، فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت فلما غدوا عليه، قال : قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة «الحشر » وتلا :﴿ مَا أَفَاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ﴾ فلما بلغ قوله :﴿ أولئك هُمُ الصادقون ﴾ قال : ما هي لهؤلاء فقط، وتلا قوله :﴿ والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ ﴾ إلى قوله ﴿ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك.

فصل


روى مالك بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر - رضي الله عنه - قال : لولا من يأتي من آخر النَّاس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر١٠.
وصح عن عمر أنه أبقى سواد «العراق » و«مصر » وما ظهر عليه من الغنائم ليكون في أعطيات المقاتلة، وأرزاق الجيش والذَّراري، وأن الزبير وبلالاً وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم، فكره ذلك منهم١١.
واختلف فيما فعل من ذلك : فقيل : إنه استطاب أنفس أهل الجيش فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين فله، ومن أبى أعطاه ثمن حظه فمن قال : إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قسم «خيبر »، لأنّ اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها.
وقيل : إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش.
وقيل : إنه تأول في ذلك قول الله تعالى :﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ﴾ إلى قوله :﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ على ما تقدم أيضاً.
فصل في اختلاف الفقهاء في قسمة العقار١٢
اختلفوا في قسمة العقار، فقال مالك - رضي الله عنه - للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : الإمام مخير بين قسمتها، أو وقفها لمصالح المسلمين.
وقال الشافعي - رضي الله عنه - ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال، فمن طاب نفساً عن حقه للإمام أن يجعلها وقفاً عليهم فله، ومن لم تطب نفسه فهو أحق بماله.
وعمر - رضي الله عنه - استطاب نفوس القائمين واشتراها منهم، وعلى هذا يكون قوله تعالى :﴿ والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ ﴾ مقطوعاً مما قبله، وأنهم ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم.

فصل في فضل المدينة


قال القرطبي١٣ :«روى ابن وهب قال : سمعت مالكاً يذكر فضل «المدينة » على غيرها من الآفاق، فقال : إن «المدينة » تُبُوئتْ بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ :﴿ والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ﴾ الآية ».
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ ﴾. فيه وجهان١٤ :
أحدهما : أن الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه، والمعنى : لا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيءِ وغيره، والمحتاج إليه يسمى حاجة تقول : خذ منه حاجتك، وأعطاه من ماله حاجته. قاله الزمخشري١٥.
فعلى هذا يكون الضمير الأول للجائين بعد المهاجرين، وفي «أوتُوا » للمهاجرين.
والثاني : أن الحاجة هنا من الحسد.
قال الحسنُ : حسداً وحزازة مما أوتوا المهاجرين دونهم، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة ؛ لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية.
والضميران على ما تقدم قبل.
وقال أبو البقاء١٦ :«الحاجة مس حاجة ». أي : أنه حذف المضاف للعلم به، وعلى هذا، فالضميران ل ﴿ الذين تبوّءوا الدار والإيمان ﴾.
وقال القرطبي١٧ :«يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خُصُّوا به من مال الفيءِ وغيره، كذلك قال الناس. وفيه تقدير حذف مضافين، والمعنى : مس حاجة من فقد ما أوتوا، وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة ».

فصل في سبب نزول الآية


قال القرطبي١٨ : كان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم وإشراكهم في الأموال، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إنْ أحْبَبْتُمْ قَسَمْتُ مَا أفَاءَ اللَّه عَلَيَّ مِن بَنِي النَّضيرِ بَيْنكُمْ وبَيْنَهُمْ، وكَان المُهَاجرُونَ على مَا هُمْ عليْهِ مِنَ السُّكْنَى في مَسَاكنكُمْ وأمْوالكُمْ، وإنْ أحَبَبْتُمْ أعْطَيتُهم وخَرَجُوا من دِيَارِكُمْ »، فقال سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ وسَعْدُ بْنُ معاذٍ - رضي الله عنهما - بَلْ نَقْسِمهُ بَيْنَ المهاجرينَ، ويُكونُونَ في دُورنا كَمَا كَانُوا، ونادت الأنصار : رَضيْنَا وسلَّمْنَا يا رسُولَ الله، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم :«اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنصَارَ وأبْنَاءَ الأنْصَارِ » وأعطى رسول الله للمهاجرين، ولم يعط الأنصار إلا الثلاثة الذين ذكرناهم١٩.
ويحتمل أن يريد به ﴿ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ ﴾ إذا كانوا قليلاً يقنعون به، ويرضون عنه، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم دنيا، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه بحكم الدنيا، وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال :«سَتَرَونَ بَعْدِي أثَرَةً فاصْبرُوا حَتَّى تلْقَونِي على الحَوْضِ »٢٠.
قوله :﴿ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ ﴾.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني النضير :«إن شِئْتُم قَسمْتُمْ للمُهَاجرينَ من أمْوالكُمْ ودِيَاركُمْ وشَارَكتُمُوهُم في هذه الغنيمةِ، وإن شِئْتُم كَانَتْ لكُم ديَارُكمْ وأموالكُمْ ولَمْ نَقْسِمْ لَكُمْ مِنَ الغَنِيمَةِ شَيْئاً ». فقالت الأنصار : بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة، فنزل :﴿ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ ﴾ الآية٢١.
قال ابن الخطيب٢٢ :«وذكر المفسرون أنواعاً من إيثار الأنصار للضيف بالطعام، وتعللهم ع
١ ينظر: الدر المصون ٦/٢٩٥..
٢ تقدم..
٣ تقدم..
٤ ينظر: الكشاف ٤/٥٠٤، ٥٠٥..
٥ سقط من أ..
٦ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٢٨٧..
٧ ينظر: الدر المصون ٦/٢٩٦..
٨ ينظر: القرطبي ١٨/١٥..
٩ السابق: ١٨/١٥، ١٦..
١٠ أخرجه البخاري ٧/٥٦٠ في المغازي، باب غزوة خيبر (٤٢٣٦)..
١١ ينظر: تفسير القرطبي (١٨/١٦)..
١٢ ينظر القرطبي ١٨/١٧..
١٣ السابق..
١٤ ينظر: الدر المصون ٦/٢٩٦..
١٥ ينظر: الكشاف ٤/٥٠٥..
١٦ ينظر: الإملاء ٢/١٢١٦..
١٧ الجامع لأحكام القرآن ١٨/١٧..
١٨ السابق..
١٩ أخرجه البخاري ١٣/٢٧٨، كتاب الاعتصام، باب: ما يكره من كثرة السؤال (٧٢٨٩)، ومسلم ٤/١٨٣١، كتاب الفضائل، باب: توقيره صلى الله عليه وسلم (١٣٢/٢٣٥٨)..
٢٠ أخرجه البخاري ٧/٦٤٤، كتاب المغازي، باب: غزوة الطائف (٤٣٣٠)، وطريقه في (٧٢٤٥)، ومسلم في المصدر السابق (١٣٩ - ١٠٦١)..
٢١ ينظر: تفسير القرطبي (١٨/١٨)..
٢٢ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٥٠..
قوله تعالى: ﴿والذين جَآءُو﴾. يحتمل الوجهين المتقدمين في «الذين» قبله، فإن كان معطوفاً على «المهاجرين»، ف «يقولون» حال ل «يحبون» أي: قائلين أو مستأنف، وإن كان مبتدأ ف «يقولون» خبره.

فصل


هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين؛ لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار. ﴿والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ﴾. قال بعض المفسرين: هذا عطف على «المُهَاجرينَ» وهم الذين هاجروا من بعد.
595
وقيل: التابعون لهم بإحسان، ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة.
قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: الأولى منازل المهاجرين، والثانية هي: الذين تبوءوا الدار والإيمان، والثالثة: والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد ألاَّ تخرج من هذه المنازل.
وقال بعضهم: كن مهاجراً، فإن قلت: لا أجد، فكن أنصارياً، فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبَّهم، واستغفر لهم كما أمرك الله.
وقال مصعب بن سعد: الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان، وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدِّه، أنه جاءه رجل فقال: يا ابن بنت رسول الله ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا ابن أخي أنت من قوم قال الله فيهم ﴿لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾ ؟ [الحشر: ٨] الآية، قال: لا، قال: فأنت من قوم قال الله فيهم: ﴿والذين تَبَوَّءُو الدار والإيمان﴾ ؟ [الحشر: ٩] الآية، قال: لا، قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام، وهي قوله تعالى: ﴿والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان﴾.
وروي أن نفراً من أهل «العراق» جاءوا إلى محمد بن علي بن الحسين فسبُّوا أبا بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - فأكثروا، فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا: لا، قال: أفمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم؟، قالوا: لا، قال: فقد تبرأتم من هذين الفريقين، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم: ﴿والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ﴾، قوموا قد فعل الله بكم وفعل. ذكره النحاس.

فصل في وجوب محبة الصحابة


هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - لأنه جعل لمن بعدهم حظًّا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم، والاستغفار لهم، ومن أبغضهم أو واحداً منهم، أو اعتقد فيه شرًّا أنه لا حقَّ له في الفيء.
قال مالك: من كان يبغضُ أحداً من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان في قلبه لهم غلّ فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ: ﴿والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ﴾.
596

فصل


قال القرطبي: دلت هذه الآية على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول وإبقاء العقار والأرض بين المسلمين أجمعين كما فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إلا أن يجتهد الوالي فينفذ أمراً فيمضي عمله فيه لاختلاف الناس فيه، وإن هذه الآية قاضية بذلك، لأن الله - تعالى - أخبر عن الفيء وجعله لثلاث طوائف: المهاجرين والأنصار - وهم معلومون - ﴿والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان﴾ فهي عامة في جميع التابعين والآتين من بعدهم إلى يوم [الدين].
«يروى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج إلى المقبرة، فقال:» السَّلامُ [عليكم] دارَ قَوْم مُؤمِنينَ وإنَّا إن شَاءَ اللَّهُ بكم لاحِقُونَ ودِدْتُ لَوْ رأيتُ إخواننا «قالوا: يَا رسُولَ اللَّهِ، ألَسْنَا إخْوَانَكَ؟ فقَالَ رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» بَلْ أنتُمْ أصْحَابِي، وإخْواننا الذين لَمْ يأتُوا بَعْدُ، وأنَا فَرَطُهمْ على الحوْضِ «».
فبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن إخوانهم كلُّ من يأتي بعدهم، لا كما قال السُّديُّ والكلبي: إنهم الذين هاجروا بعد ذلك.
وعن الحسن أيضاً: أن الذين جاءوا من بعدهم من قصد إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى «المدينة» بعد انقطاع الهجرة.
قوله: ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان﴾.
قيل: أمروا أن يستغفروا لمن سبق هذه الأمة من مؤمني أهل الكتاب، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: أمرهم أن يستغفروا لهم فَسبُّوهم.
وقيل: أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أمر الله سبحانه بالاستغفار لأصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يعلم أنهم سيُفْتنُونَ.
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: أمرهم بالاستغفار لأصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسبوهم، سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لا تَذْهَبُ هذهِ الأمة حتَّى يلعَنَ آخِرُهَا أوَّلهَا».
597
وقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إذا رأيتم الَّذين يسُبُّونَ أصْحَابِي فقُولُوا: لَعَنَ اللَّه شَرَّكُم».
وقال العوام بن حوشب: أدركت هذه الأمة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى تتآلف عليهم القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم.
وقال الشعبي: تفاضلت اليهود والنَّصارى على الرافضة بخصلة، سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب موسى - صلوات الله وسلامه عليه -، وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب عيسى - صلوات الله وسلامه عليه -، وسئلت الرافضة، من شرُّ أهلِ ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، فالسيف عليهم مسلولٌ إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية، ولا يثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفكِ دمائهم وإدحاض حجتهم، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلَّة.
﴿وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ أي: حسداً وبغضاً، ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ﴾. للتبليغ فقط بخلاف قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ [العنكبوت: ١٢] فإنها تحتمل ذلك وتحتمل العلة.

فصل


قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: هذه الآية سبب التعجب من اغترار اليهود لما وعدهم المنافقون من النصر معهم مع علمهم بأنهم لا يعتقدون ديناً ولا كتاباً.
قال المقاتلان: يعني عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وعبد الله بن نبتل، ورفاعة بن زيد، وقيل: رفاعة بن تابوت، وأوس بن قيظي، كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا، ومالوا ليهود قريظة والنضير.
والإخوان: هم الإخوة، وهي هنا تحتمل وجوهاً:
أحدها: الأخوّة في الكفر؛ لأن اليهود والمنافقين اشتركوا في عموم الكفرِ بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وثانيها: الأخوّة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة.
598
وثالثها: الأخوّة بسبب اشتراكهم في عداوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فقالوا لليهود: ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ﴾ من المدينة ﴿لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ﴾.
وقيل: هذا من قول بني النضير لقريظة، وقولهم: ﴿وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً﴾ يعنون محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا: لا نطيعه في قتالكم.
وفيه دليل على صحة نبوّة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جهة الغيب؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا معهم، وقوتلوا فلم ينصروهم كما قال سبحانه وتعالى: ﴿والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ في قولهم وفعلهم.
فقولهم: ﴿وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً﴾ أي: في قتالكم أو في خذلانكم.
قوله تعالى: ﴿وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ﴾.
أجيب القسم المقدر، لأن قبل «إن» لام موطئة حذفت للعلم بمكانها، فإنَّ الأكثر الإتيان بها، ومثله قوله: ﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ﴾ [المائدة: ٧٣] وقد تقدم.
قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾.
أجيب القسم لسبقه، ولذلك رفعت الأفعال ولم تجزم، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً.
وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: قوله تعالى: ﴿لاَ يَنصُرُونَهُمْ﴾ لما كان الشرط ماضياً ترك جزم الجواب انتهى. وهو غلط؛ لأن ﴿لاَ يَنصُرُونَهُمْ﴾ ليس جواباً للشرط بل جواب القسم، وجواب الشرط محذوف كما تقدم وكأنه توهم أنه من باب قوله: [البسيط]
٤٧٥١ - وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ... يَقولُ: لا غَائِبٌ مَالِي ولا حَرِمُ
وقد سبق أبا البقاء ابنُ عطية إلى ما يوهم شيئاً من ذلك، ولكنه صرح بأنه جواب القسم، فقال: «جاءت الأفعال غير مجزومة في» لا يخرجون ولا ينصرون «؛ لأنها راجعة على حكم القسم لا على حكم الشرط، وفي هذا نظر».
فقوله: «وفي هذا نظر» يوهم أنه جاء على خلاف ما يقتضيه القياس وليس كذلك، بل جاء على ما يقتضيه القياس.
599
وفي هذه الضمائر قولان:
أحدهما: أنها كلها للمنافقين.
والثاني: أنها مختلفة بعضها لهؤلاء، وبعضها لهؤلاء.

فصل


اعلم أنه - تعالى - عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها، وقد أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا، فهؤلاء المنافقون لا يخرجون معهم، وكان الأمر كذلك؛ لأن بني النضير لما خرجوا لم يخرج معهم المنافقون، وقاتلوا أيضاً فما نصروهم، وهذا كما يقول المعترض الطاعن في كلام الغير: لا نسلم أن الأمر كما تقول، ولئن سلمنا أن الأمر كما تقول إلا أنه لا يفيد ذلك فائدة فكذا هاهنا ذكر تعالى أنهم لا يخرجون معهم، وبتقدير أن ينصروهم إلا أنهم لا بد وأن يتركوا النُّصرة وينهزموا، ويتركوا أولئك المنصورين في أيدي أعدائهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: ٢٣].
[وقيل: معنى لا ينصرونهم: لا يدومون على نصرهم، هذا على أن الضميرين متفقان على اختلاف الضميرين، فالمعنى: لئن أخرج اليهود لا يخرج معهم المنافقون، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ﴿وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ﴾ أي: ولئن نصر اليهود المنافقين ليولُّنَّ الأدبار].
قوله تعالى: ﴿لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً﴾.
مصدر من «رُهِبَ» المبني للمفعول، فالرهبة واقعة من المنافقين لا من المخاطبين، كأنه قيل: لأنتم أشد رهوبية في صدورهم من الله، فالمخاطبون مُرْهِبُونَ وهو قول كعب بن زهير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في مدح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [البسيط]
٤٧٥٢ - فَلَهْوَ أخْوَفُ عِنْدِي إذْ أكَلِّمُهُ وقِيلَ إنَّكَ مَحْبُوسٌ ومَقْتُولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِثَرَاءِ الأرْضِ مُخْدَرُهُ بِبَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
و «رَهْبَةً» تمييز.
600

فصل في معنى الآية


المعنى: لأنتم يا معشر المسلمين ﴿أَشَدُّ رَهْبَةً﴾ أي خوفاً وخشية في صدورهم من الله، يعني صدور بني النضير.
وقيل: صدور المنافقين، ويحتمل أن يرجع إلى الفريقين، أي: يخافون منكم أكثر مما يخافون من ربهم، «ذَلِكَ» إشارة إلى الخوف أي ذلك الخوف ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ قدر عظمة الله وقدرته حتى يخشوه حقَّ خشيته.
قوله تعالى: ﴿لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً﴾ يعني اليهود والمنافقين لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين «إلاَّ» إذا كانوا ﴿فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ﴾ بالخنادق والدُّروب والحيطان [يظنُّون] أنها تمنعهم منكم، ﴿أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ﴾ أي: من خلف حيطانٍ يستترون بها لجبنهم ورهبتهم.
قوله: «جَمِيعاً» حال، و ﴿إِلاَّ فِي قُرًى﴾ متعلق ب «يُقَاتِلُونَكُمْ».
وقوله: «جُدُرٍ».
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «جدار» بالإفراد. وفيه أوجه:
أحدها: أنه السُّورُ، والسُّورُ الواحد يعم الجميع من المقاتلة ويسترهم.
والثاني: أنه واحد في معنى الجمع لدلالة السياق عليه.
والثالث: أن كل فرقة منهم وراء جدار لا أنهم كلهم وراء جدار.
والباقون قرأوا: «جُدُر» - بضمتين - اعتباراً بأن كل فرقة وراء جدار، فجمع لذلك.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن وثاب والأعمش، ويروى عن ابن كثير وعاصم: بضمة وسكون؛ وهي تخفيف الأولى، وقرأ ابن كثير - أيضاً - في رواية هارون عنه، وهي قراءة كثير من المكيين: «جَدْر» بفتحة وسكون.
فقيل: هي لغة في الجدار.
وقال ابن عطية: معناه أصل بنيات كالسور ونحوه: قال: ويحتمل أن يكون من
601
جَدْر النخيل أي من وراء نخيلهم. يقال: أجدر النخل إذا طلعت رءوسه أول الربيع. والجدر: نبت، واحده جدرة.
وقرىء: «جَدَرٌ» - بفتحتين - حكاها الزمخشري.
وهي لغة في الجدار أيضاً.
وقرىء: «جُدْر» - بضم الجيم وإسكان الدَّال - جمع الجدار.
قال القرطبي: ويجوز أن تكون الألف في الواحد كألف «كتاب» وفي الجمع كألف «ظِراف» ومثله «ناقة هجان، ونوق هجان» لأنك تقول في التثنية «هجانان»، فصار لفظ الواحد والجمع مشتبهين في اللفظ مختلفين في المعنى.
قاله ابن جني.
قوله: ﴿بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾.
«بَيْنَهُمْ» متعلق ب «شديد» و «جميعاً» مفعول ثانٍ، أي: مجتمعين.
وقوله: ﴿وَقُلُوبُهُمْ شتى﴾. جملة حالية، أو مستأنفة للإخبار بذلك.
والعامة على «شتى» بلا تنوين، لأنها ألف تأنيث.
ومن كلامهم: «شَتَّى تئوب الحلبة» أي متفرقين.
وقال آخر: [الطويل]
٤٧٥٣ - إلَى اللَّهِ أشْكُو نِيَّةً شَقَّتِ العَصَا هِيَ اليَوْمَ شَتَّى، وهيَ أمْسِ جَمِيعُ
وقرأ مبشر بن عبيد: «شَتًّى» منونة، كأنه جعلها ألف الإلحاق.
وفي قراءة ابن مسعود: «وقُلُوبُهُمْ أشتُّ» يعني أشد تشتيتاً أي أشد اختلافاً.

فصل في معنى الآية


معنى ﴿بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ أي: عداوة بعضهم لبعض. قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: ﴿بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ بالكلام والوعيد لنفعلن كذا.
602
وقال السُّدي: المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحدٍ.
وقيل: ﴿بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ إذا لم يلقوا عدوًّا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، وإذا لقوا العدو انهزموا.
﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى﴾.
يعني اليهود والمنافقين. قاله مجاهد. وعنه أيضاً: يعني المنافقين.
وقال الثوري: هم المشركون وأهل الكتاب.
وقال قتادة: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً﴾ أي: مجتمعين على أمْر ورأي. ﴿وَقُلُوبُهُمْ شتى﴾ : أي: متفرقة فأهل الباطل مختلفة آراؤهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق.
وعن مجاهد أيضاً: أراد أن دين المنافقين مخالف لدين اليهود، وهذا يقوي أنفس المؤمنين عليهم ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ﴾ أي: ذلك التشتيت والكفر بأنهم قوم لا يعقلون أمر الله.
وقيل: لا يعقلون ما فيه الحظ لهم.
وقيل: لا يعقلون أن تشتيت القلوب مما يوهن قواهم.
قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾.
خبر مبتدأ مضمر، أي: مثلهم مثل هؤلاء.
و «قريباً» فيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب بالتشبيه المتقدم، أي: يشبهونهم في زمن قريب سيقع لا يتأخر، ثم بين ذلك بقوله: ﴿ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾.
والثاني: أنه منصوب ب «ذاقوا» أي: ذاقوا في زمن قريب.
أي: ذاقوه في زمن قريب سيقع ولم يتأخّر.
وانتصابه في وجهيه على ظرف الزَّمان.

فصل في معنى الآية


يعني مثل هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم.
603
قال ابن عباس: يعني به بني قينقاع أمكن الله منهم قبل بني النضير.
وقال قتادة: يعني بني النضير أمكن الله منهم قبل قريظة، وكان بينهما سنتان.
وقال مجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يعني كفَّار قريش يوم بدر، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير قاله مجاهد.
وكانت غزوة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، فلذلك قال: «قَرِيباً».
وقيل: هو عامٌّ في كل من انتقم منه على كفره قبل بني النضير من نوح إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
«وَبَالَ أمرهم» أي: جزاء كفرهم. ومن قال: هم بنو قريظة جعل «وبَالَ أمْرِهِمْ» نزولهم على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي [الذرية]. وهو قول الضحاك. ومن قال: المراد بنو النضير، قال: «وبَالَ أمْرِهِمْ» الجلاء والنفي، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الآخرة.
قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر﴾.
هذا مثل ضربه الله للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الرجاء في نصرتهم، وحذف حرف العطف ولم يقل: وكمثل الشيطان، لأن حذف حرف العطف كثير، كقولك: أنت عاقل، أنت كريم، أنت عالم.
وقوله: ﴿كَمَثَلِ الشيطان﴾ كالبيان لقوله ﴿كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾.

فصل


روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أن الإنسان الذي قال له الشيطان: اكفر؛ راهب، نزلت عنده امرأة أصابها لممٌ ليدعو لها فزيّن له الشيطان فوطئها فحملت، ثم قتلها خوفاً أن يفتضح، فدلّ الشيطان قومها على موضعها، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه، فجاء الشيطان فوعده إن سجد له أنجاه من هذه الورطة منهم فسجد فتبرّأ منه فأسلمه، ذكره القاضي إسماعيل، وعلي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عروة بن عامر، عن عبيد بن رفاعة الزرقي، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذكر خبره طويلاً.
وذكر ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما في قوله: ﴿كَمَثَلِ الشيطان﴾ أنه كان راهب في
604
الفترة يقال له: برصيصا، قد تعبد في صومعته سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين حتى أعيا إبليس، وذكر خبر برصيصا بتمامه.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: فضرب الله ذلك مثلاً للمنافقين مع اليهود، وذلك أن الله - تعالى - أمر نبيه أن يُجلِيَ بني النضير من «المدينة»، فدس إليهم المنافقون ألاَّ تخرجوا من دياركم، فإن قاتلوكم قاتلنا معكم، وإن أخرجوكم كنا معكم، فحاربوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فخذلهم المنافقون وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا العابد.
وقيل: المعنى مثل المنافقين في غدرهم لبني النضير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش: ﴿لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٨] الآية.
وقال مجاهد: المراد بالإنسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم.
ومعنى قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر﴾.
أي: أغواه حتى قال: إنِّي كافر، وليس قول الشيطان: ﴿إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين﴾ حقيقة، إنما هو على وجه التبرُّؤ من الإنسان، فهو تأكيد لقوله تعالى: ﴿إِنِّي برياء مِّنكَ﴾.
وفتح الياء من «إني» نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأسكن الباقون.
605
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ﴾. للتبليغ فقط بخلاف قوله عز وجل :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ [ العنكبوت : ١٢ ] فإنها تحتمل ذلك وتحتمل العلة.

فصل


قال القرطبي رحمه الله١ : هذه الآية سبب التعجب من اغترار اليهود لما وعدهم المنافقون من النصر معهم مع علمهم بأنهم لا يعتقدون ديناً ولا كتاباً.
قال المقاتلان٢ : يعني عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وعبد الله بن نبتل، ورفاعة بن زيد، وقيل : رفاعة بن تابوت، وأوس بن قيظي، كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا، ومالوا ليهود قريظة والنضير.
والإخوان : هم الإخوة، وهي هنا تحتمل وجوهاً٣ :
أحدها : الأخوّة في الكفر ؛ لأن اليهود والمنافقين اشتركوا في عموم الكفرِ بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وثانيها : الأخوّة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة.
وثالثها : الأخوّة بسبب اشتراكهم في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فقالوا لليهود :﴿ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ ﴾ من المدينة ﴿ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ ﴾.
وقيل : هذا من قول بني النضير لقريظة، وقولهم :﴿ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً ﴾ يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم قالوا : لا نطيعه في قتالكم.
وفيه دليل على صحة نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من جهة علم الغيب ؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا معهم، وقوتلوا فلم ينصروهم كما قال سبحانه وتعالى :﴿ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ في قولهم وفعلهم٤.
فقولهم :﴿ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً ﴾ أي : في قتالكم أو في خذلانكم٥.
قوله تعالى :﴿ وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ ﴾.
أجيب القسم المقدر، لأن قبل «إن » لام موطئة حذفت للعلم بمكانها، فإنَّ الأكثر الإتيان بها، ومثله قوله :﴿ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ﴾ [ المائدة : ٧٣ ] وقد تقدم.
١ السابق..
٢ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٥١..
٣ السابق..
٤ ينظر: القرطبي ١٨/٢٣..
٥ ينظر: الدر المصون ٦/٢٩٧..
قوله تعالى :﴿ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾.
أجيب القسم لسبقه، ولذلك رفعت الأفعال ولم تجزم، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً١.
وقال أبو البقاء٢ رحمه الله : قوله تعالى :﴿ لاَ يَنصُرُونَهُمْ ﴾ لما كان الشرط ماضياً ترك جزم الجواب انتهى. وهو غلط ؛ لأن ﴿ لاَ يَنصُرُونَهُمْ ﴾ ليس جواباً للشرط بل جواب القسم، وجواب الشرط محذوف كما تقدم وكأنه توهم أنه من باب قوله :[ البسيط ]
وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ *** يَقولُ : لا غَائِبٌ مَالِي ولا حَرِمُ٣.
وقد سبق أبا البقاء ابنُ عطية إلى ما يوهم شيئاً من ذلك، ولكنه صرح بأنه جواب القسم، فقال :«جاءت الأفعال غير مجزومة في «لا يخرجون ولا ينصرون » ؛ لأنها راجعة على حكم القسم٤ لا على حكم الشرط، وفي هذا نظر ».
فقوله :«وفي هذا نظر » يوهم أنه جاء على خلاف ما يقتضيه القياس وليس كذلك، بل جاء على ما يقتضيه القياس.
وفي هذه الضمائر قولان٥ :
أحدهما : أنها كلها للمنافقين.
والثاني : أنها مختلفة بعضها لهؤلاء، وبعضها لهؤلاء.

فصل :


اعلم أنه - تعالى - عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها٦، وقد أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا، فهؤلاء المنافقون لا يخرجون معهم، وكان الأمر كذلك ؛ لأن بني النضير لما خرجوا لم يخرج معهم المنافقون، وقاتلوا أيضاً فما نصروهم، وهذا كما يقول المعترض الطاعن في كلام الغير : لا نسلم أن الأمر كما تقول، ولئن سلمنا أن الأمر كما تقول إلا أنه لا يفيد ذلك فائدة فكذا هاهنا ذكر تعالى أنهم لا يخرجون معهم، وبتقدير أن ينصروهم إلا أنهم لا بد وأن يتركوا النُّصرة وينهزموا، ويتركوا أولئك المنصورين في أيدي أعدائهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿ وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ [ الأنفال : ٢٣ ].
[ وقيل٧ : معنى لا ينصرونهم : لا يدومون على نصرهم، هذا على أن الضميرين متفقان على اختلاف الضميرين، فالمعنى : لئن أخرج اليهود لا يخرج معهم المنافقون، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ﴿ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ ﴾ أي : ولئن نصر اليهود المنافقين ليولُّنَّ الأدبار ]٨.
١ ينظر: السابق ٦/٢٩٧..
٢ ينظر الإملاء ٢/١٢١٦..
٣ تقدم..
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٢٨٩..
٥ ينظر: الدر المصون ٦/٢٩٧..
٦ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٥١..
٧ ينظر: القرطبي ١٨/٢٣..
٨ سقط من: أ..
قوله تعالى :﴿ لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً ﴾.
مصدر من «رُهِبَ » المبني للمفعول، فالرهبة واقعة من المنافقين لا من المخاطبين، كأنه قيل : لأنتم أشد رهوبية في صدورهم من الله، فالمخاطبون مُرْهِبُونَ وهو قول كعب بن زهير - رضي الله عنه - في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ البسيط ]
فَلَهْوَ أخْوَفُ عِنْدِي إذْ أكَلِّمُهُ وقِيلَ إنَّكَ مَحْبُوسٌ ومَقْتُولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِثَرَاءِ الأرْضِ مُخْدَرُهُ بِبَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ١
و«رَهْبَةً » تمييز٢.

فصل في معنى الآية


المعنى٣ : لأنتم يا معشر المسلمين ﴿ أَشَدُّ رَهْبَةً ﴾ أي خوفاً وخشية في صدورهم من الله، يعني صدور بني النضير.
وقيل : صدور المنافقين، ويحتمل أن يرجع إلى الفريقين، أي : يخافون منكم أكثر مما يخافون من ربهم، «ذَلِكَ » إشارة إلى الخوف أي ذلك الخوف ﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾ قدر عظمة الله وقدرته حتى يخشوه حقَّ خشيته.
١ البيتان لكعب بن زهير من قصيدته المشهورة (بانت سعاد). ينظر: ديوانه (٢٠)، والمقرب لابن عصفور ١/٧١، ٧٢، واللسان (عثر)، والدر المصون ٦/٢٩٨..
٢ ينظر الدر المصون ٦/٢٩٧، ٢٩٨..
٣ ينظر: القرطبي ١٨/٢٤..
قوله تعالى :﴿ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً ﴾ يعني اليهود والمنافقين لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين «إلاَّ » إذا كانوا ﴿ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ ﴾ بالخنادق والدُّروب١ والحيطان [ يظنُّون ]٢ أنها تمنعهم منكم، ﴿ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ﴾ أي : من خلف حيطانٍ يستترون بها لجبنهم ورهبتهم٣.
قوله :«جَمِيعاً » حال، و﴿ إِلاَّ فِي قُرًى ﴾ متعلق ب «يُقَاتِلُونَكُمْ »٤.
وقوله :«جُدُرٍ ».
قرأ ابن كثير٥ وأبو عمرو :«جدار » بالإفراد. وفيه أوجه٦ :
أحدها : أنه السُّورُ، والسُّورُ الواحد يعم الجميع من المقاتلة ويسترهم.
والثاني : أنه واحد في معنى الجمع لدلالة السياق عليه.
والثالث : أن كل فرقة منهم وراء جدار لا أنهم كلهم وراء جدار.
والباقون قرأوا :«جُدُر » - بضمتين - اعتباراً بأن كل فرقة وراء جدار، فجمع لذلك.
وقرأ الحسن وأبو٧ رجاء وابن وثاب والأعمش، ويروى عن ابن كثير وعاصم : بضمة وسكون ؛ وهي تخفيف الأولى، وقرأ ابن كثير - أيضاً٨ - في رواية هارون عنه، وهي قراءة كثير من المكيين :«جَدْر » بفتحة وسكون.
فقيل : هي لغة في الجدار.
وقال ابن عطية٩ : معناه أصل بنيات كالسور ونحوه : قال : ويحتمل أن يكون من جَدْر النخيل أي من وراء نخيلهم. يقال : أجدر النخل إذا طلعت رءوسه أول الربيع. والجدر : نبت، واحده جدرة.
وقرئ١٠ :«جَدَرٌ » - بفتحتين - حكاها الزمخشري.
وهي لغة في الجدار أيضاً.
وقرئ :«جُدْر » - بضم الجيم وإسكان الدَّال - جمع الجدار.
قال القرطبي١١ : ويجوز أن تكون الألف في الواحد كألف «كتاب » وفي الجمع كألف «ظِراف » ومثله «ناقة هجان، ونوق هجان » لأنك تقول في التثنية «هجانان »، فصار لفظ الواحد والجمع مشتبهين في اللفظ مختلفين في المعنى.
قاله ابن جني١٢.
قوله :﴿ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ﴾، «بَيْنَهُمْ » متعلق ب «شديد » و«جميعاً » مفعول ثانٍ، أي : مجتمعين.
وقوله :﴿ وَقُلُوبُهُمْ شتّى ﴾. جملة حالية، أو مستأنفة للإخبار بذلك. والعامة على «شتى » بلا تنوين، لأنها ألف تأنيث.
ومن كلامهم :«شَتَّى تئوب الحلبة » أي متفرقين١٣.
وقال آخر :[ الطويل ]
إلَى اللَّهِ أشْكُو نِيَّةً شَقَّتِ العَصَا هِيَ اليَوْمَ شَتَّى، وهيَ أمْسِ جَمِيعُ١٤
وقرأ مبشر١٥ بن عبيد :«شَتًّى » منونة، كأنه جعلها ألف الإلحاق.
وفي قراءة ابن مسعود :«وقُلُوبُهُمْ أشتُّ »١٦ يعني أشد تشتيتاً أي أشد اختلافاً.

فصل في معنى الآية١٧


معنى ﴿ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ﴾ أي : عداوة بعضهم لبعض. قاله ابن عباس.
وقال مجاهد :﴿ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ﴾ بالكلام والوعيد لنفعلن كذا١٨.
وقال السُّدي : المراد اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحدٍ١٩.
وقيل :﴿ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ﴾ إذا لم يلقوا عدوًّا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، وإذا لقوا العدو انهزموا.
﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى ﴾، يعني اليهود والمنافقين. قاله مجاهد. وعنه أيضاً : يعني المنافقين.
وقال الثوري : هم المشركون وأهل الكتاب.
وقال قتادة :﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً ﴾ أي : مجتمعين على أمْر ورأي. ﴿ وَقُلُوبُهُمْ شتّى ﴾ : أي : متفرقة فأهل الباطل مختلفة آراؤهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق٢٠.
وعن مجاهد أيضاً : أراد أن دين المنافقين مخالف لدين اليهود، وهذا يقوي أنفس المؤمنين عليهم٢١ ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾ أي : ذلك التشتيت والكفر بأنهم قوم لا يعقلون أمر الله.
وقيل : لا يعقلون ما فيه الحظ لهم. وقيل : لا يعقلون أن تشتيت القلوب مما يوهن قواهم٢٢.
١ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٥٢..
٢ سقط من: أ..
٣ ينظر: القرطبي ١٨/٢٤..
٤ ينظر: الدر المصون ٦/٢٩٨..
٥ ينظر: الحجة ٦/٢٨٣، وإعراب القراءات ٢/٢٥٧، وحجة القراءات ٧٠٥، والعنوان ١٨٨، وشرح الطيبة ٦/٤٩، وشرح شعلة ٦٠١، وإتحاف ٢/٥٣١..
٦ ينظر: الدر المصون ٦/٢٩٨..
٧ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٢٨٩، والبحر المحيط ٨/٢٤٧، والدر المصون ٦/٢٩٨..
٨ السابق..
٩ المحرر الوجيز ٥/٢٨٩..
١٠ ينظر: الكشاف ٤/٥٠٧، والدر المصون ٦/٢٩٧..
١١ الجامع لأحكام القرآن ١٨/٢٤..
١٢ ينظر: المحتسب ٢/٣١٧..
١٣ ينظر: الدر المصون ٦/٢٩٨..
١٤ ينظر: القرطبي ١٨/٢٥، والبحر ٨/٢٤٨، والدر المصون ٦/٢٩٨..
١٥ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٤٨، والدر المصون ٦/٢٩٨..
١٦ ينظر: السابق، والقرطبي ١٨/٢٥..
١٧ ينظر: القرطبي ١٨/٢٤..
١٨ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/٢٤)..
١٩ ينظر المصدر السابق..
٢٠ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٥)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٢٩٥)، وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٢١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٦)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٢٩٥)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٢٢ ينظر القرطبي ١٨/٢٤، والرازي ٢٩/٢٥٢..
قوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾.
خبر مبتدأ مضمر، أي : مثلهم مثل هؤلاء.
و«قريباً » فيه وجهان١ :
أحدهما : أنه منصوب بالتشبيه المتقدم، أي : يشبهونهم في زمن قريب سيقع لا يتأخر، ثم بين ذلك بقوله :﴿ ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ ﴾.
والثاني : أنه منصوب ب «ذاقوا » أي : ذاقوا في زمن قريب.
أي : ذاقوه في زمن قريب سيقع ولم يتأخّر.
وانتصابه في وجهيه على ظرف الزَّمان.

فصل في معنى الآية :


يعني مثل هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم.
قال ابن عباس : يعني به بني قينقاع أمكن الله منهم قبل بني النضير٢.
وقال قتادة : يعني بني النضير أمكن الله منهم قبل قريظة، وكان بينهما سنتان٣.
وقال مجاهد رضي الله عنه : يعني كفَّار قريش يوم بدر، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير قاله مجاهد٤.
وكانت غزوة بدر قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، فلذلك قال :«قَرِيباً »٥.
وقيل : هو عامٌّ في كل من انتقم منه على كفره قبل بني النضير من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
«وَبَالَ أمرهم » أي : جزاء كفرهم. ومن قال : هم بنو قريظة جعل «وبَالَ أمْرِهِمْ » نزولهم على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي [ الذرية ]٦. وهو قول الضحاك. ومن قال : المراد بنو النضير، قال :«وبَالَ أمْرِهِمْ » الجلاء والنفي، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ في الآخرة.
١ ينظر: الدر المصون ٦/٢٩٨..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٦)، من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس..
٣ ذكره البغوي في "تفسيره" (٤/٣٢٢)..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٦)، عن مجاهد..
٥ ينظر: القرطبي ١٨/٢٥..
٦ في أ: الذراري..
قوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفُر ﴾.
هذا مثل ضربه الله للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الرجاء في نصرتهم، وحذف حرف العطف ولم يقل : وكمثل الشيطان، لأن حذف حرف العطف كثير، كقولك : أنت عاقل، أنت كريم، أنت عالم١.
وقوله :﴿ كَمَثَلِ الشيطان ﴾ كالبيان لقوله ﴿ كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾.

فصل :


روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الإنسان الذي قال له الشيطان : اكفر ؛ راهب، نزلت عنده امرأة أصابها لممٌ ليدعو لها فزيّن له الشيطان فوطئها فحملت، ثم قتلها خوفاً أن يفتضح، فدلّ الشيطان قومها على موضعها، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه، فجاء الشيطان فوعده إن سجد له أنجاه من هذه الورطة منهم فسجد فتبرّأ منه فأسلمه، ذكره٢ القاضي إسماعيل، وعلي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عروة بن عامر، عن عبيد بن رفاعة الزرقي، عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر خبره طويلاً.
وذكر ابن عباس رضي الله عنهما في قوله :﴿ كَمَثَلِ الشيطان ﴾ أنه كان راهب في الفترة يقال له : برصيصا، قد تعبد في صومعته سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين حتى أعيا إبليس، وذكر خبر برصيصا بتمامه٣.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : فضرب الله ذلك مثلاً للمنافقين مع اليهود، وذلك أن الله - تعالى - أمر نبيه أن يُجلِيَ بني النضير من «المدينة »، فدس إليهم المنافقون ألاَّ تخرجوا من دياركم، فإن قاتلوكم قاتلنا معكم، وإن أخرجوكم كنا معكم، فحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم فخذلهم المنافقون وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا العابد٤.
وقيل٥ : المعنى مثل المنافقين في غدرهم لبني النضير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش :﴿ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ﴾ [ الأنفال : ٤٨ ] الآية.
وقال مجاهد : المراد بالإنسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم٦.
ومعنى٧ قوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفُر ﴾.
أي : أغواه حتى قال : إنِّي كافر، وليس قول الشيطان :﴿ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين ﴾ حقيقة، إنما هو على وجه التبرُّؤ من الإنسان، فهو تأكيد لقوله تعالى :﴿ إِنِّي بريءٌ مِّنكَ ﴾.
وفتح الياء من «إني » نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأسكن الباقون٨.
١ السابق..
٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٢٩٦)، وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في "مكايد الشيطان" والبيهقي في "شعب الإيمان"..
٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٢٩٦)، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن ابن عباس..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/٢٨)، عن ابن عباس..
٥ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٥٣، والقرطبي ١٨/٢٨..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٩)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٢٩٧)، وعزاه إلى عبد بن حميد..
٧ القرطبي ١٨/٢٨، ٢٩..
٨ ينظر: السبعة ٦٣٢، والحجة ٦/٢٨٤، والعنوان ١٨٨، وشرح الطيبة ٦/٤٩، وشرح شعلة ٦٠١، وإتحاف ٢/٥٣١..
قوله تعالى: ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار﴾.
العامة على نصب «عَاقِبتَهُمَا» والاسم «أن» وما في حيزها، لأن الاسم أعرف من ﴿عاقبتهما أنهما في النار﴾. وقد تقدم تحرير هذا في «آل عمران» و «الأنعام».
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن أرقم: برفعها، على جعلها اسماً، و «أن» وما في حيزها خبر كقراءة: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ﴾ [الأنعام: ٢٣].
قوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾.
العامة على نصبه، حالاً من الضمير المستكن في الجار لوقوعه خبراً.
والتثنية ظاهرة فيمن جعل الآية مخصوصة في الراهب والشيطان، ومن جعلها في الجنس فالمعنى فكان عاقبة الفريقين أو الصنفين.
قال مقاتل: يعني المنافقين واليهود.
ونصب «عَاقِبتَهُمَا» على أنه خبر «كان» والاسم ﴿أَنَّهُمَا فِي النار﴾.
وقرأ عبد الله، وزيد بن علي، والأعمش، وابن أبي عبلة: برفعه خبراً، والظرف ملغى، فيتعلق بالخبر، وعلى هذا فيكون تأكيداً لفظيًّا للحرف، وأعيد معه ضمير ما دخل عليه كقوله: ﴿فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [هود: ١٠٨].
وهذا على مذهب سيبويه، فإنه يجيز إلغاء الظرف وإن أكد.
والكوفيون يمنعونه، وهذا حجة عليهم، وقد يجيبون بأنا لا نسلم أن الظرف في هذه القراءة ملغى بل نجعله خبراً ل «أن» و «خالدان» خبر ثان، وهو محتمل لما قالوا إلا أن الظاهر خلافه.
قال القرطبي: وهذه القراءة خلاف المرسوم.
وقوله: ﴿وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين﴾ أي: المشركين، كقوله: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣].
606
قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله﴾ في أوامره ونواهيه، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه. ﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ يعني يوم القيامة، والعرب تكني عن المستقبل بالغد.
وقيل: ذكر الغد تنبيهاً على أن الساعة قريبة؛ كقوله: [الطويل]
٤٧٥٤ - وإنَّ غَداً للنَّاظرينَ قريبُ... وقال الحسن وقتادة: قرب الساعة حتى جعلت كغد؛ لأن كل آت قريب، والموت لا محالة آت. ومعنى «ما قدَّمتْ» أي: من خير أو شرّ.
ونكر النفس لاستقلال النفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة، كأنه قال: فلتنظر نفس واحدة في ذلك، ونكر الغد، لتعظيمه وإبهام أمره، كأنه قيل: الغد لا يعرف كنهه لعظمه.
وقرأ العامة بسكون لام الأمر في قوله: «ولتنظر».
وأبو حيوة ويحيى بن الحارث بكسرها على الأصل.
والحسن: بكسرها ونصب الفعل، جعلها لام «كي»، ويكون المعلل مقدّراً، أي: ولتنظر نفس حذركم وأعمالكم.
قوله تعالى: ﴿واتقوا الله﴾ تأكيد.
وقيل: كرر لتغاير متعلق التقويين فمتعلق الأولى: أداء الفرائض لاقترانه بالعمل، والثانية: ترك المعاصي لاقترانه بالتهديد والوعيد، قال معناه الزمخشري.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
قال سعيد بن جبير: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي: بما يكون منكم.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ﴾.
607
العامة: على الخطاب، وأبو حيوة: على الغيبة، على الالتفات.
﴿نَسُواْ الله﴾ أي: تركوه ﴿فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ أن يعملوا لها خيراً. قاله المقاتلان.
وقيل: نسوا حق الله، فأنساهم حق أنفسهم. قاله سفيان.
وقيل: «نسُوا اللَّه» بترك ذكره وتعظيمه «فأنساهم أنفسَهُمْ» بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضاً. حكاه ابن عيسى.
وقيل: قال سهل بن عبد الله: «نَسُوا اللَّهَ» عند الذنوب «فَأنسَاهُم أنفُسهُمْ» عند التوبة.
وقيل: «أنْسَاهُمْ أنفسَهُمْ» أي: أراهم يوم القيامة من الأحوال ما نسوا فيه أنفسهم، كقوله تعالى: ﴿لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ﴾ [إبراهيم: ٤٣]، ﴿وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ﴾ [الحج: ٢].
ونسب تعالى الفعل إلى نفسه في «أنسَاهُمْ» إذ كان ذلك بسبب أمره ونهيه، كقولك: أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً.
وقيل: «نَسُوا اللَّهَ» في الرخاء «فأنَساهُمْ أنفُسُهمْ» في الشدائد.
﴿أولئك هُمُ الفاسقون﴾. قال ابن جبير: العاصون.
وقال ابن زيد: الكاذبون، وأصل الفِسْق الخروج، أي: الذين خرجوا عن طاعة الله.
قوله تعالى: ﴿لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة﴾ أي: في الفضل والرتبة، لما أرشد المؤمنين إلى ما هو مصلحتهم يوم القيامة، بقوله: ﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ وهدّد الكافرين بقوله: ﴿كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ بين بهذه الآية الفرق بين الفريقين. واعلم أن الفرق بينهما معلوم بالضرورة، وإنما ذكر الفرق في هذا الموضع للتنبيه على عظم ذلك الفرق، ثم [قال: ﴿أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون﴾.
وهذا كالتفسير لنفي تساويهما.
و «هم» يجوز أن يكون فصلاً، وأن يكون مبتدأ، فعلى الأول: الإخبار بمفرد، وعلى الثاني: بجملة.
608
ومعنى «الفَائِزُونَ» المقربون المكرمون.
وقيل: الناجون من النار، ونظير هذه الآية قوله: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب﴾ [المائدة: ١٠٠]، وقوله: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة: ١٨]، وقوله: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار] ﴾ [ص: ٢٨].

فصل


احتجّت المعتزلة بهذه الآية على أن صاحب الكبيرة لا يدخل الجنة بهذه الآية، قالوا: لأن الآية دلت على أن أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يستويان، [فلو دخل صاحب الكبيرة الجنة لكان أصحاب الجنة وأصحاب النار يستويان]، وهو غير جائز وجوابه معلوم.

فصل في أن المسلم لا يقتل بالذمي


دلت هذه الآية على أن المسلم لا يقتلُ بالذمي كما هو مذكور في كتب الفقه. قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله﴾.
وهذا حثّ على تأمل مواعظ القرآن، وبيّن أنه لا عذر في ترك التدبر، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبالُ مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ورأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة، أي: متشققة من خشية الله.
والخاشع: الذَّليل. والمتصدّع: المتشقق.
وقيل: «خاشعاً» لله بما كلفه من طاعته، «متصدعاً» من خشية الله أن يعصيه فيعاقبه.
وقيل: هو على وجه المثل للكفار.
قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾.
609
أي: أنه لو أنزل القرآن على الجبل لخشع لوعده، وتصدع لوعيده، وأنتم أيها المقهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده، ولا ترهبون من وعيده.
والغرض من هذا الكلام التنبيه على فساد قلوب هؤلاء الكفار وغلظ طباعهم، ونظيره قوله: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤].
وقيل: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت وتصدع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له، فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لم يثبت عليه الجبال.
وقيل: إنه خطاب للأمة، وأن الله - تعالى - لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدّعت من خشية الله، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً، فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على ردّه إن عصى؛ لأنه موعود بالثواب، ومزجُور بالعقاب.
قوله: «خاشعاً» حال؛ لأن الرؤية بصرية.
وقرأ طلحة: «مصّدعاً» بإدغام التاء في الصاد.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾.
لما وصف القرآن بالعظم، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف، أتبع ذلك بشرح عظمة الله تعالى، فقال: ﴿هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمن الرحيم﴾.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: معناه: عالم السر والعلانية.
وقيل: ما كان وما يكون.
وقال سهل: عالم بالآخرة والدنيا.
وقيل: «الغيب» ما لم يعلمه العباد ولا عاينوه، و «الشَّهَادة» ما علموا وشهدوا.
وقوله: ﴿الرحمن الرحيم﴾. تقدم مثله.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس﴾.
قرأ أبو دينار وأبو السمال: «القَدُّوس» بفتح القاف.
610
[قال الحسن: هو الذي كثرت بركاته].
والعامة: بضمها، وهو المنزّه عن كل نقص، والطَّاهر عن كل عيبٍ.
والقدَس - بالتحريك - السّطل بلغة أهل الحجاز، لأنه يتطهر منه.
ومنه «القادوس» لواحد الأواني الذي يستخرج به الماء من البئر بالسانية.
وكان سيبويه يقول: «قَدُّوس، وسبُّوح» بفتح أولهما.
وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابياً فصيحاً يكنى أبا الدينار يقرأ: «القَدُّوس» بفتح القاف.
قال ثعلب: كل اسم على «فَعُّول» فهو مفتوح الأول، مثل: سَفُّود، وكَلُّوب، وتَنُّور، وسَمُّور، وشَبُّوط، إلا السُّبُّوح والقُدُّوس، فإنَّ الضم فيهما أكثر، وقد يفتحان، وكذلك: الذروح بالضم.
قوله: «السَّلامُ». أي: ذو السلامة من النقائص.
قال ابن العربي: اتفق العلماء على أنّ قوله: «السَّلامُ» النسبة، تقديره: ذو السلامة، ثم اختلفوا في ترجمة النسبة.
فقيل: معناه الذي سَلِمَ من كل عيب، وبَرِىءَ من كل نقص.
وقيل: المسلم على عباده في الجنّة، كما قال: ﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨].
وقيل: معناه الذي سلم الخلق من ظلمه. وهذا قول الخطابي.
قال القرطبي: وعلى هذا والذي قبله يكون صفة فعل، وعلى الأول يكون صفة ذات.
وقيل: معناه: المسلم لعباده.
قوله: «المُؤمِنُ».
أي: الذي أمن أولياؤه عذابهُ، يقال: أمنه يؤمنه فهو مؤمن.
وقيل: المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم، ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب، ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب.
وقال مجاهد: المؤمن الذي وحَّد نفسه بقوله: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨].
611
وقرأ العامة: «المُؤمِن - بكسر الميم - اسم فاعل من آمن بمعنى أمن».
وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين، وقيل ابن القعقاع: بفتحها.
فقال الزمخشري: بمعنى المؤمن به، على حذف حرف الجر، كقوله: ﴿واختار موسى قَوْمَهُ﴾ [الأعراف: ١٥٥] المختارون.
وقال أبو حاتم: لا يجوز ذلك، أي: هذه القراءة؛ لأنه لو كان كذلك لكان المؤمن به، وكان جائزاً، لكن المؤمن المطلق بلا حرف جر يكون من كان خائفاً فأمن، فقد ردّ ما قاله الزَّمخشري.

فصل


قال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار، وأول من يخرج من وافقه اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبقَ فيها من يوافق اسمه اسم نبي، قال الله تعالى لباقيهم: أنتم المسلمون وأنا السلام، وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين.
قوله: ﴿المهيمن العزيز﴾.
قيل: معنى المهيمن «الشاهد» الذي لا يغيب عنه شيء. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ومقاتل.
قال الخليل وأبو عبيدة: هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فهو مُهَيْمِنٌ، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله: ﴿وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٤٨].
وقال ابن الأنباري: «المُهَيْمِنُ» : القائم على خَلْقِه بقدرته.
وأنشد: [الطويل]
٤٧٥٥ - ألاَ إنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِ مُهَيْمِنُهُ التَّاليهِ في العُرْفِ والنُّكْرِ
وقيل هو في الأصل: مُؤيمن فقلبت الهمزة هاء، كقوله: «أرَقْت وهرقت» ومعناه: المؤمن. نقله البغوي.
وتقدم الكلام على «العَزِيز».
612
قوله: «الجبَّارُ».
استدل به من يقول: إن أمثلة المبالغة تأتي من المزيد على الثلاثة، فإنه من «أجبره على كذا»، أي قهره.
قال الفرَّاء: ولم أسمع «فعّالاً» من «أفعل» إلا في «جبَّار ودرَّاك» من أدرك انتهى واستدرك عليه: أسأر، فهو سَئّار.
وقيل: هو من الجبر، وهو الإصلاح.
وقيل: هو من قولهم: نخلة جبَّارة إذا لم ينلْها الجُناة.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
٤٧٥٦ - سَوَامِقَ جَبَّارٍ أثيثٍ فُرُوعُهُ وعَالَيْنَ قِنْوَاناً من البُسْرِ أحْمَرا
يعني النَّخْل التي فاتت اليد.
قال ابن الخطيب: فيه وجوه:
أحدها: أنه «فعّال» من جبر، إذا أغنى الفقير وأصلح الكسير.
قال الأزهري: «هو لعمري جابرٌ لكل كسيرٍ وفقير، وهو جابر دينه الذي ارتضاه».
قال العجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: [الرجز]
٤٧٥٧ - قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلَهُ فَجَبَرْ... الثاني: أن يكون من جبره إذا أكرهه على ما أراده.
قال السديُّ: إنه هو الذي يقهر الناس، ويجبرهم على ما أراده.
قال الأزهري: «هي لغة» تميم «، وكثير من الحجازيين يقولونها».
وكان الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: جبره السلطان على كذا، بغير ألف.
الثالث: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: الجبَّار هو الملك العظيم.
وقيل: الجبار الذي لا تُطاق سطوته.
قال الواحدي: هذا الذي ذكرنا من معاني الجبار في صفة الله تعالى، وأما معاني الجبار في صفة الخلق فلها معان:
613
أحدها: المُسَلَّط، كقوله: ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ﴾ [ق: ٤٥].
الثاني: العظيم الجسم، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ﴾ [المائدة: ٢٢].
والثالث: المتمرّد عن عبادة الله كقوله: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً﴾ [مريم: ٣٢].
الرابع: القتال كقوله: ﴿بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٠] وقوله: ﴿إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض﴾ [القصص: ١٩].
قوله: ﴿المتكبر﴾.
قال ابن عباس: الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله.
وقيل: المتكبر عن كل سوء، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدوث والذم.
وأصل الكبر والكبرياء الامتناع وقلّة الانقياد.
قال حميد بن ثور: [الطويل]
٤٧٥٨ - عَفَتْ مِثْلَ مَا يَعْفُو الفَصِيلُ فأصْبَحَتْ بِهَا كِبْرِيَاءُ الصَّعْبِ وهي ذَلُولُ
قال الزجَّاج: وهو الذي تعظَّم عن ظلم عباده.
وقال ابن الأنباري: «المتكبر» ذو الكبرياء.
والكبرياء عند العرب الملك، قال تعالى: ﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض﴾ [يونس: ٧٨] واعلم أن المتكبر في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم.
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يرويه عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قصمته ثم قذفته في النار».
وقيل: المتكبر معناه العالي.
وقيل: الكبير، لأنه أجل من أن يتكلف كبراً.
وقد يقال: تظلّم بمعنى ظلم، وتشتّم بمعنى شتم، واستقر بمعنى قرّ، كذلك المتكبر بمعنى الكبير، وليس كما يوصف به المخلوق إذا وصف ب «تفعل» إذا نسب إلى ما لم يكن منه، ثم نزّه نفسه فقال: ﴿سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
كأنه قال: إن المخلوقين قد يتكبرون، ويدّعون مشاركة الله في هذا الوصف،
614
لكنه سبحانه منزَّهٌ عن التكبر الذي هو حاصل للخلق؛ لأنهم ناقصون بحسب ذواتهم، فادعاؤهم الكبر يكون ضم نقصان الكذب إلى النقصان الذاتي، وأما الله - سبحانه وتعالى - فله العلو والعزّ، فإذا أظهره كان ذلك ضمَّ كمال إلى كمال، فسبُحانَ اللَّهِ عمَّا يشركُون في إثبات صفة المتكبريَّة للخلق.
قوله: ﴿هُوَ الله الخالق البارىء﴾.
«الخَالقُ» هنا المقدر، و «البَارِىءُ» المنشىء المخترع، وقدم ذكر الخالق على البارىء؛ لأن الإرادة مقدمة على تأثير القدرة.
قوله: «المُصَوِّرُ».
العامة: على كسر الواو ورفع الراء، إما صفة وإما خبر.
وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والحسن بن السميفع، وحاطب بن أبي بلتعة: بفتح الواو ونصب الراء. وتخريجها على أن يكون منصوباً ب «البَارِىءُ».
و «المصوَّر» هو الإنسان إما آدم، وإما هو وبنوه.
وعلى هذه القراءة يحرم الوقفُ على المصور، بل يجب الوصل ليظهر النَّصب في الراء، وإلا فقد يتوهم منه في الوقف ما لا يجوز.
وروي عن أمير المؤمنين أيضاً: فتح الواو وجرّ الراء، وهي كالأولى في المعنى إلا أنه أضاف اسم الفاعل لمعموله مخففاً نحو: «الضارب الرجل».
والوقف على «المصوّر» في هذه القراءة أيضاً حرام، وقد نبَّه عليه بعضهم.
وقال مكي: «ويجوز نصبه في الكلام، ولا بد من فتح الواو فتنصبه ب» البارىء «، أي: هو الله الخالق المصور، يعني: آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وبنيه». انتهى. وكأنه لم يطلع على هذه القراءة.
وقال أيضاً: «ولا يجوز نصبه مع كسر الواو، ويروى عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه».
يعني أنه إذا كسرت الواو، وكان من صفات الله تعالى، وحينئذ لا يستقيم نصبه عنده؛ لأن نصبه باسم الفاعل قبله.
وقوله: «ويروى» أي: كسر الواو ونصب الراء، وإذا صح هذا عن أمير المؤمنين،
615
فيتخرج على أنه من القطع، كأنه قال: أمدح المصور، كقولهم: «الحَمْدُ للَّه أهل الحمد» بنصب أهل؛ وقراءة من قرأ: ﴿اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ﴾ بنصب «رب».
قال مكي: و «المصور» مُفَعِّل «من» صَوّر يُصَوّر «، ولا يحسن أن يكون من» صار يصير «، لأنه يلزم منه أن يقال: المصير، بالياء».
وقيل: هذا من الواضحات ولا يقبله المعنى أيضاً.
وقدم «البارىء» على «المصور» لأن إيجاد الذوات مقدّم على إيجاد الصفات، فالتصوير مرتب على الخلق والبراية وتابع لهما، ومعنى التصوير: التخطيط والتشكيل، وخلق الله الإنسان في بطن أمه ثلاثَ خلق، جعله علقة ثم مضغة ثم جعله صورة، وهو التشكيل الذي يكون به ذا صورة يعرف بها ويتميز عن غيره، فتبارك الله أحسنُ الخالقين.
قوله: ﴿لَهُ الأسمآء الحسنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ تقدم نظيره.
روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قال:
«سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن اسم الله الأعظم، فقال:» عليْكَ بأواخر سُورةِ الحَشْرِ، فأكثر قراءتهَا «فأعَدْتُ عليْهِ فأعَادَ عليَّ».
وقال جابر بن زيدٍ: إنَّ اسم الله الأعظم هو الله لمكان هذه الآية.
وعن أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنَ قَرَأ سُورَة الحَشْرِ غُفِرَ الله لَهُ ما تقدَّمَ من ذَنبه ومَا تأخَّر».
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنَ قَرَأ خَواتِيمَ سُورة الحَشْرِ في لَيلٍ أو نهارٍ، فقبضهُ اللَّهُ في تلْكَ اللَّيلةِ أو ذلِكَ اليَوْمِ فَقَدْ أوْجَبَ اللَّهُ لَهُ الجنَّة».
616

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الممتحنة
مدنية، وتسمى " الممتحنة " - بكسر الحاء - أي: المختبرة، وأضيف الفعل إليها مجازا، كما سميت سورة " براءة " المبعثرة والفاضحة والكاشفة لما كشفت من عيوب المنافقين.
ومن قال " بفتح الحاء " فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، قال تعالى: ﴿فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن﴾ [الممتحنة: ١٠].
3
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله ﴾ في أوامره ونواهيه، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه. ﴿ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ يعني يوم القيامة، والعرب تكني عن المستقبل بالغد.
وقيل : ذكر الغد تنبيهاً على أن الساعة قريبة ؛ كقوله :[ الطويل ]
وإنَّ غَداً للنَّاظرينَ قريبُ١ ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الحسن وقتادة : قرب الساعة حتى جعلت كغد ؛ لأن كل آت قريب، والموت لا محالة آت٢. ومعنى «ما قدَّمتْ » أي : من خير أو شرّ.
ونكر النفس لاستقلال النفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة، كأنه قال : فلتنظر نفس واحدة في ذلك، ونكر الغد، لتعظيمه وإبهام أمره، كأنه قيل : الغد لا يعرف كنهه لعظمه٣.
وقرأ العامة بسكون لام الأمر في قوله :«ولتنظر »، وأبو حيوة ويحيى٤ بن الحارث بكسرها على الأصل.
والحسن٥ : بكسرها ونصب الفعل، جعلها لام «كي »، ويكون المعلل مقدّراً، أي : ولتنظر نفس حذركم وأعمالكم.
قوله تعالى :﴿ واتقوا الله ﴾ تأكيد، وقيل : كرر لتغاير متعلق التقويين فمتعلق الأولى : أداء الفرائض لاقترانه بالعمل، والثانية : ترك المعاصي لاقترانه بالتهديد والوعيد، قال معناه الزمخشري٦.
ثم قال :﴿ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾، قال سعيد بن جبير :﴿ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ أي : بما يكون منكم٧.
١ قائله هو ضرار بن أجدع يخاطب النعمان بن المنذر، ولفظ البيت:
فإن يكُ صدر هذا اليوم ولّى *** فإن غدا لناظره قريب
ينظر القرطبي ١٨/٢٩..

٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٠)، عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٢٩٨)، وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٥٣..
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٢٩١، والبحر المحيط ٨/٢٤٩، والدر المصون ٦/٢٩٩..
٥ ينظر: المصدر السابق..
٦ ينظر: الكشاف ٤/٥٠٨، والدر المصون ٦/٢٩٩..
٧ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/٢٩)..
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ ﴾.
العامة : على الخطاب، وأبو حيوة : على الغيبة١، على الالتفات.
﴿ نَسُواْ الله ﴾ أي : تركوه ﴿ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾ أن يعملوا لها خيراً. قاله المقاتلان٢.
وقيل : نسوا حق الله، فأنساهم حق أنفسهم. قاله سفيان.
وقيل :«نسُوا اللَّه » بترك ذكره وتعظيمه «فأنساهم أنفسَهُمْ » بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضاً. حكاه ابن عيسى٣.
وقيل : قال سهل بن عبد الله :«نَسُوا اللَّهَ » عند الذنوب «فَأنسَاهُم أنفُسهُمْ » عند التوبة.
وقيل :«أنْسَاهُمْ أنفسَهُمْ » أي : أراهم يوم القيامة من الأحوال ما نسوا فيه أنفسهم، كقوله تعالى :﴿ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾ [ إبراهيم : ٤٣ ]، ﴿ وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ ﴾[ الحج : ٢ ].
ونسب تعالى الفعل إلى نفسه في «أنسَاهُمْ » إذ كان ذلك بسبب أمره ونهيه، كقولك : أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً.
وقيل :«نَسُوا اللَّهَ » في الرخاء «فأنَساهُمْ أنفُسُهمْ » في الشدائد.
﴿ أولئك هُمُ الفاسقون ﴾. قال ابن جبير : العاصون٤.
وقال ابن زيد : الكاذبون٥، وأصل الفِسْق الخروج، أي : الذين خرجوا عن طاعة الله٦.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٢٩١، والبحر المحيط ٨/٢٤٩، والدر المصون ٦/٢٩٩..
٢ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٥٣..
٣ ينظر: القرطبي ١٨/٢٩..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/٢٩)..
٥ ينظر المصدر السابق..
٦ ينظر: القرطبي ١٨/٢٩..
قوله تعالى :﴿ لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة ﴾ أي : في الفضل والرتبة١، لما أرشد المؤمنين إلى ما هو مصلحتهم يوم القيامة٢، بقوله :﴿ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ وهدّد الكافرين بقوله :﴿ كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾ بين بهذه الآية الفرق بين الفريقين. واعلم أن الفرق بينهما معلوم بالضرورة، وإنما ذكر الفرق في هذا الموضع للتنبيه على عظم ذلك الفرق٣، ثم [ قال :﴿ أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفائزون ﴾. وهذا كالتفسير لنفي تساويهما، و«هم » يجوز أن يكون فصلاً، وأن يكون مبتدأ، فعلى الأول : الإخبار بمفرد، وعلى الثاني : بجملة٤.
ومعنى «الفَائِزُونَ » المقربون المكرمون٥، وقيل : الناجون من النار، ونظير هذه الآية قوله :﴿ لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب ﴾ [ المائدة : ١٠٠ ]، وقوله :﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ﴾ [ السجدة : ١٨ ]، وقوله :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجّار ] ﴾ ٦ [ ص : ٢٨ ].

فصل :


احتجّت المعتزلة بهذه الآية على أن صاحب الكبيرة لا يدخل الجنة بهذه الآية٧، قالوا : لأن الآية دلت على أن أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يستويان، [ فلو دخل صاحب الكبيرة الجنة لكان أصحاب الجنة وأصحاب النار يستويان ] ٨، وهو غير جائز وجوابه معلوم.

فصل في أن المسلم لا يقتل بالذمي :


دلت هذه الآية على أن المسلم لا يقتلُ بالذمي كما هو مذكور في كتب الفقه٩.
١ ينظر القرطبي ١٨/٣٠..
٢ ينظر الفخر الرازي ٢٩/١٥٣..
٣ ينظر: السابق ٢٩/٢٥٤..
٤ ينظر: الدر المصون ٦/٢٩٩..
٥ ينظر: القرطبي ١٨/٣٠..
٦ سقط من: أ..
٧ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٥٤..
٨ سقط من: أ..
٩ لا يجوز قتل مسلم بكافر وهو مذهب عمر بن عبد العزيز والأوزاعي والثوري وابن شبرمة والشافعي ومالك وأحمد وأبي ثور. واحتج هؤلاء بما أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب: العاقلة ١٢/٢٥٦ (٦٩٣)، عن أبي جحيفة أنه قال: سألت عليا هل عندكم شيء ليس في القرآن؟ فقال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهماً يعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة. قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر. عمدة القارئ ١٩/٣٤٩، فتح الباري ١٢/٢٧٢، روضة الطالبين ٩/١٥٠..
قوله تعالى :﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله ﴾.
وهذا حثّ على تأمل مواعظ القرآن، وبيّن أنه لا عذر في ترك التدبر، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبالُ مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ورأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة، أي : متشققة من خشية الله.
والخاشع : الذَّليل. والمتصدّع : المتشقق.
وقيل :«خاشعاً » لله بما كلفه من طاعته، «متصدعاً » من خشية الله أن يعصيه فيعاقبه.
وقيل : هو على وجه المثل للكفار١.
قوله تعالى :﴿ وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ﴾.
أي : أنه لو أنزل القرآن على الجبل لخشع لوعده، وتصدع لوعيده، وأنتم أيها المقهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده، ولا ترهبون من وعيده٢.
والغرض من هذا الكلام التنبيه على فساد قلوب هؤلاء الكفار وغلظ طباعهم٣، ونظيره قوله :﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾[ البقرة : ٧٤ ].
وقيل٤ : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي : لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت وتصدع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له، فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لم يثبت عليه الجبال.
وقيل : إنه خطاب للأمة، وأن الله - تعالى - لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدّعت من خشية الله، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً، فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على ردّه إن عصى ؛ لأنه موعود بالثواب، ومزجُور بالعقاب٥.
قوله :«خاشعاً » حال ؛ لأن الرؤية بصرية.
وقرأ طلحة٦ :«مصّدعاً » بإدغام التاء في الصاد.
١ ينظر: القرطبي ١٨/٣٠..
٢ ينظر السابق..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٥٤..
٤ ينظر: القرطبي ١٨/٣٠..
٥ السابق..
٦ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٢٩١، والبحر المحيط، ٨/٢٤٩، والدر المصون ٦/٢٩٩..
قوله تعالى :﴿ هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾.
لما وصف القرآن بالعظم، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف، أتبع ذلك بشرح عظمة الله تعالى، فقال :﴿ هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمان الرحيم ﴾.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه : عالم السر والعلانية١.
وقيل : ما كان وما يكون.
وقال سهل : عالم بالآخرة والدنيا.
وقيل :«الغيب » ما لم يعلمه العباد ولا عاينوه، و«الشَّهَادة » ما علموا وشهدوا.
وقوله :﴿ الرحمان الرحيم ﴾. تقدم مثله.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/٣٠)، عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٣٠٠)، وعزاه إلى ابن أبي حاتم..
قوله تعالى :﴿ هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القُدّوس ﴾.
قرأ أبو دينار وأبو السمال١ :«القَدُّوس » بفتح القاف.
[ قال الحسن : هو الذي كثرت بركاته٢ ] ٣. والعامة : بضمها، وهو المنزّه عن كل نقص، والطَّاهر عن كل عيبٍ٤.
والقدَس - بالتحريك - السّطل بلغة أهل الحجاز، لأنه يتطهر منه.
ومنه «القادوس » لواحد الأواني الذي يستخرج به الماء من البئر بالسانية.
وكان سيبويه يقول :«قَدُّوس، وسبُّوح » بفتح أولهما.
وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابياً فصيحاً يكنى أبا الدينار يقرأ :«القَدُّوس » بفتح القاف.
قال ثعلب : كل اسم على «فَعُّول » فهو مفتوح الأول، مثل : سَفُّود، وكَلُّوب، وتَنُّور، وسَمُّور، وشَبُّوط، إلا السُّبُّوح والقُدُّوس، فإنَّ الضم فيهما أكثر، وقد يفتحان، وكذلك : الذروح بالضم٥.
قوله :«السَّلامُ ». أي : ذو السلامة من النقائص. قال ابن العربي : اتفق العلماء على أنّ قوله :«السَّلامُ » النسبة، تقديره : ذو السلامة، ثم اختلفوا في ترجمة النسبة.
فقيل : معناه الذي سَلِمَ من كل عيب، وبَرِئَ من كل نقص. وقيل : المسلم على عباده في الجنّة، كما قال :﴿ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾ [ يس : ٥٨ ]. وقيل : معناه الذي سلم الخلق من ظلمه. وهذا قول الخطابي. قال القرطبي :٦ وعلى هذا والذي قبله يكون صفة فعل، وعلى الأول يكون صفة ذات.
وقيل : معناه : المسلم لعباده.
قوله :«المُؤمِنُ »، أي : الذي أمن أولياؤه عذابهُ، يقال : أمنه يؤمنه فهو مؤمن، وقيل٧ : المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم، ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب، ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب. وقال مجاهد : المؤمن الذي وحَّد نفسه بقوله :﴿ شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾٨. وقرأ العامة :«المُؤمِن - بكسر الميم - اسم فاعل من آمن بمعنى أمن »، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين، وقيل ابن القعقاع : بفتحها٩، فقال الزمخشري١٠ : بمعنى المؤمن به، على حذف حرف الجر، كقوله :﴿ واختار موسى قَوْمَهُ ﴾ [ الأعراف : ١٥٥ ] المختارون.
وقال أبو حاتم : لا يجوز ذلك، أي : هذه القراءة ؛ لأنه لو كان كذلك لكان المؤمن به، وكان جائزاً، لكن المؤمن المطلق بلا حرف جر يكون من كان خائفاً فأمن، فقد ردّ ما قاله الزَّمخشري١١.

فصل :


قال ابن عباس : إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار، وأول من يخرج من وافقه اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبقَ فيها من يوافق اسمه اسم نبي، قال الله تعالى لباقيهم : أنتم المسلمون وأنا السلام، وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين١٢.
قوله :﴿ المهيمن العزيز ﴾، قيل : معنى المهيمن «الشاهد » الذي لا يغيب عنه شيء١٣. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ومقاتل.
قال الخليل وأبو عبيدة : هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فهو مُهَيْمِنٌ، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله :﴿ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾ [ المائدة : ٤٨ ]. وقال ابن الأنباري :«المُهَيْمِنُ » : القائم على خَلْقِه بقدرته.
وأنشد :[ الطويل ]
ألاَ إنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِ مُهَيْمِنُهُ التَّاليهِ في العُرْفِ والنُّكْرِ١٤.
وقيل هو في الأصل : مُؤيمن فقلبت الهمزة هاء، كقوله :«أرَقْت وهرقت » ومعناه : المؤمن. نقله البغوي١٥.
وتقدم الكلام على «العَزِيز ».
قوله :«الجبَّارُ ».
استدل به من يقول : إن أمثلة المبالغة تأتي من المزيد على الثلاثة، فإنه من «أجبره على كذا »، أي قهره١٦.
قال الفرَّاء : ولم أسمع «فعّالاً » من «أفعل » إلا في «جبَّار ودرَّاك » من أدرك انتهى واستدرك عليه : أسأر، فهو سَئّار، وقيل : هو من الجبر، وهو الإصلاح، وقيل : هو من قولهم : نخلة جبَّارة إذا لم ينلْها الجُناة.
قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
سَوَامِقَ جَبَّارٍ أثيثٍ فُرُوعُهُ وعَالَيْنَ قِنْوَاناً من البُسْرِ أحْمَرا١٧
يعني النَّخْل التي فاتت اليد.
قال ابن الخطيب١٨ : فيه وجوه :
أحدها : أنه «فعّال » من جبر، إذا أغنى الفقير وأصلح الكسير.
قال الأزهري١٩ :«هو لعمري جابرٌ لكل كسيرٍ وفقير، وهو جابر دينه الذي ارتضاه ».
قال العجاج - رحمه الله - :[ الرجز ]
قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلَهُ فَجَبَرْ٢٠ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الثاني : أن يكون من جبره إذا أكرهه على ما أراده.
قال السديُّ : إنه هو الذي يقهر الناس، ويجبرهم على ما أراده.
قال الأزهري :«هي لغة «تميم »، وكثير من الحجازيين يقولونها ».
وكان الشافعي - رحمه الله - يقول : جبره السلطان على كذا، بغير ألف.
الثالث : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الجبَّار هو الملك العظيم.
وقيل : الجبار الذي لا تُطاق سطوته٢١.
قال الواحدي٢٢ : هذا الذي ذكرنا من معاني الجبار في صفة الله تعالى، وأما معاني الجبار في صفة الخلق فلها معان :
أحدها : المُسَلَّط، كقوله :﴿ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ﴾ [ ق : ٤٥ ].
الثاني : العظيم الجسم، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ ﴾ [ المائدة : ٢٢ ].
والثالث : المتمرّد عن عبادة الله كقوله :﴿ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً ﴾ [ مريم : ٣٢ ].
الرابع : القتال كقوله :﴿ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٣٠ ] وقوله :﴿ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض ﴾ [ القصص : ١٩ ].
قوله :﴿ المتكبر ﴾، قال ابن عباس : الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله٢٣، وقيل : المتكبر عن كل سوء، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدوث والذم.
وأصل الكبر والكبرياء الامتناع وقلّة الانقياد٢٤.
قال حميد بن ثور :[ الطويل ]
عَفَتْ مِثْلَ مَا يَعْفُو الفَصِيلُ فأصْبَحَتْ بِهَا كِبْرِيَاءُ الصَّعْبِ وهي ذَلُولُ٢٥.
قال الزجَّاج٢٦ : وهو الذي تعظَّم عن ظلم عباده. وقال ابن الأنباري :«المتكبر » ذو الكبرياء.
والكبرياء عند العرب الملك، قال تعالى :﴿ وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياءُ فِي الأرض ﴾ [ يونس : ٧٨ ] واعلم أن المتكبر في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم٢٧.
قال - عليه الصلاة والسلام - يرويه عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال :«الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قصمته ثم قذفته في النار »٢٨، وقيل : المتكبر معناه العالي٢٩، وقيل : الكبير، لأنه أجل من أن يتكلف كبراً.
وقد يقال : تظلّم بمعنى ظلم، وتشتّم بمعنى شتم، واستقر بمعنى قرّ، كذلك المتكبر بمعنى الكبير، وليس كما يوصف به المخلوق إذا وصف ب «تفعل » إذا نسب إلى ما لم يكن منه٣٠، ثم نزّه نفسه فقال :﴿ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾، كأنه قال٣١ : إن المخلوقين قد يتكبرون، ويدّعون مشاركة الله في هذا الوصف، لكنه سبحانه منزَّهٌ عن التكبر الذي هو حاصل للخلق ؛ لأنهم ناقصون بحسب ذواتهم، فادعاؤهم الكبر يكون ضم نقصان الكذب إلى النقصان الذاتي، وأما الله - سبحانه وتعالى - فله العلو والعزّ، فإذا أظهره كان ذلك ضمَّ كمال إلى كمال، فسبُحانَ اللَّهِ عمَّا يشركُون في إثبات صفة المتكبريَّة للخلق.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٢٩٢، والبحر المحيط ٨/٢٤٩، والدر المصون ٦/٣٠٠، والقرطبي ١٨/٣١..
٢ ذكره الرازي في تفسيره (٢٩/٢٥٤)، عن الحسن..
٣ سقط من: أ..
٤ ينظر القرطبي ١٨/٣١..
٥ ينظر: القرطبي ١٨/٣١..
٦ الجامع لأحكام القرآن ١٨/٣١..
٧ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٥٥، والقرطبي ١٨/٣١..
٨ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/٣١)..
٩ ينظر: البحر المحيط ٨/٢٤٩، والدر المصون ٦/٣٠٠..
١٠ ينظر: الكشاف ٤/٥٠٩..
١١ ينظر: الدر المصون ٦/٣٠٠..
١٢ ينظر: القرطبي (١٨/٣١)..
١٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٢)، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة..
١٤ ينظر اللسان (همن)، والتفسير الكبير ٢٩/١٩٤..
١٥ ينظر: معالم التنزيل ٤/٣٢٦..
١٦ ينظر: الدر المصون ٦/٣٠٠..
١٧ تقدم..
١٨ ينظر: التفسير الكبير ٢٩/٢٥٥..
١٩ ينظر: تهذيب اللغة ١١/٦٠. مادة (جبر)..
٢٠ وبعده:
وعوّر الرحمان من ولّى العوَر ...................
ينظر ديوان العجاج ص ٤٠، والخصائص ٢/٢٦٣، والأشموني ٤/٢١٤، والاقتضاب ص ٤٠٧، واللسان (جبر)، وتهذيب اللغة للأزهري ١١/٦٠ (جبر)..

٢١ ينظر تفسير القرطبي (١٨/٣١)..
٢٢ الرازي ٢٩/٢٥٥..
٢٣ ينظر القرطبي (١٨/٣١)..
٢٤ ينظر القرطبي (١٨/٣٢)..
٢٥ في الديوان يروى الطليح مكان الفصيل، ينظر ديوانه ص ٥٨، واللسان (عفا)، والقرطبي ١٨/٣٢..
٢٦ ينظر: معاني القرآن للزجاج ٥/١٥١..
٢٧ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٥٦..
٢٨ تقدم..
٢٩ في أ: الباقي..
٣٠ ينظر: القرطبي ١٨/٣٢..
٣١ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٥٦..
قوله :﴿ هُوَ الله الخالق البارئُ ﴾.
«الخَالقُ » هنا المقدر، و«البَارِئُ » المنشئ المخترع، وقدم ذكر الخالق على البارئ ؛ لأن الإرادة مقدمة على تأثير القدرة١.
قوله :«المُصَوِّرُ ».
العامة : على كسر الواو ورفع الراء، إما صفة وإما خبر.
وقرأ أمير المؤمنين٢ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والحسن بن السميفع، وحاطب بن أبي بلتعة : بفتح الواو ونصب الراء. وتخريجها على أن يكون منصوباً ب «البَارِئُ ».
و«المصوَّر » هو الإنسان إما آدم، وإما هو وبنوه.
وعلى هذه القراءة يحرم الوقفُ على المصور، بل يجب الوصل ليظهر النَّصب في الراء، وإلا فقد يتوهم منه في الوقف ما لا يجوز٣.
وروي عن أمير المؤمنين أيضاً : فتح الواو وجرّ الراء، وهي كالأولى في المعنى إلا أنه أضاف اسم الفاعل لمعموله مخففاً نحو :«الضارب الرجل ».
والوقف على «المصوّر » في هذه القراءة أيضاً حرام، وقد نبَّه عليه بعضهم.
وقال مكي٤ :«ويجوز نصبه في الكلام، ولا بد من فتح الواو فتنصبه ب «البارئ »، أي : هو الله الخالق المصور، يعني : آدم - عليه الصلاة والسلام - وبنيه ». انتهى. وكأنه لم يطلع على هذه القراءة.
وقال أيضاً :«ولا يجوز نصبه مع كسر الواو، ويروى عن علي رضي الله عنه ».
يعني أنه إذا كسرت الواو، وكان من صفات الله تعالى، وحينئذ لا يستقيم نصبه عنده ؛ لأن نصبه باسم الفاعل قبله.
وقوله :«ويروى » أي : كسر الواو ونصب الراء، وإذا صح هذا عن أمير المؤمنين، فيتخرج على أنه من القطع، كأنه قال : أمدح المصور، كقولهم :«الحَمْدُ للَّه أهل الحمد » بنصب أهل ؛ وقراءة من قرأ :﴿ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ ﴾ بنصب «رب »٥.
قال مكي٦ : و«المصور » «مُفَعِّل » من «صَوّر يُصَوّر »، ولا يحسن أن يكون من «صار يصير »، لأنه يلزم منه أن يقال : المصير، بالياء ».
وقيل : هذا من الواضحات ولا يقبله المعنى أيضاً.
وقدم «البارئ » على «المصور » لأن إيجاد الذوات مقدّم على إيجاد الصفات٧، فالتصوير مرتب على الخلق والبراية وتابع لهما، ومعنى التصوير٨ : التخطيط والتشكيل، وخلق الله الإنسان في بطن أمه ثلاثَ خلق، جعله علقة ثم مضغة ثم جعله صورة، وهو التشكيل الذي يكون به ذا صورة يعرف بها ويتميز عن غيره، فتبارك الله أحسنُ الخالقين.
قوله :﴿ لَهُ الأسماء الحسنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم ﴾ تقدم نظيره.
روى أبو هريرة - رضي الله عنه - : قال : سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم، فقال :«عليْكَ بأواخر سُورةِ الحَشْرِ، فأكثر قراءتهَا » فأعَدْتُ عليْهِ فأعَادَ عليَّ٩. وقال جابر بن زيدٍ : إنَّ اسم الله الأعظم هو الله لمكان هذه الآية١٠.
١ ينظر: التفسير الكبير ٢٩/٢٥٦..
٢ ينظر: المحور الوجيز ٥/٢٩٢، والبحر المحيط ٨/٢٤٩، والدر المصون ٦/٣٠٠، والقرطبي ١٨/٣٢..
٣ ينظر: الدر المصون ٦/٣٠٠..
٤ ينظر: المشكل ٢/٧٢٧..
٥ ينظر: الدر المصون ٦/٣٠٠..
٦ ينظر: المشكل ٢/٧٢٧..
٧ ينظر: الفخر الرازي ٢٩/٢٥٦..
٨ ينظر: القرطبي ١٨/٣٢..
٩ ذكره الحافظ ابن حجر في "تخريج الكشاف" (٤/٥١٠)، وقال: أخرجه الثعلبي من رواية علي بن رزيق عن هشام بن سعد عن يزيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة.
وفي الواحدي من حديث ابن عباس رفعه بلفظ: اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر..

١٠ ذكره القرطبي في تفسيره" (١٨/٣٣)..
Icon