تفسير سورة هود

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة هود من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٩]
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)
قف عند جريان أحكامنا، وانسلخ عن مرادك بالكلية، ليجرى عليك ما يريد، والله أعلم بالصواب.
السورة التي يذكر فيها هود عليه السلام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذه كلمة استولت على عقول قوم فبصّرتها، وعلى قلوب آخرين فجّردتها، فالتى بصّرتها فبنور برهانه، والتي جرّدتها فبقهر سلطانه.. فعالم سلك سبيل بحثه واستدلاله فسكن لمّا طلعت نجوم عقله تحت ظلال إقباله، وعارف تعرّض إلى وصاله فطاح لمّا لاحت لمعة ممن تقدّس بالإعلام باستحقاق جلاله.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١)
الألف إشارة إلى انفراده بالربوبية.
واللام إشارة إلى لطفه بأهل التوحيد.
والراء إشارة إلى رحمته بكافة البريّة.
وهى فى معنى القسم: أي أقسم بانفرادى بالربوبية ولطفى بمن عرفنى بالأحدية، ورحمتى على كافة البرية- إنّ هذا الكتاب أحكمت آياته.
ومعنى «أُحْكِمَتْ آياتُهُ» : أي حفظت عن التبديل والتغيير، ثم فصّلت ببيان نعوت الحقّ فيما يتصف به من جلال الصمدية، وتعبّد به الخلق من أحكام العبودية، ثم مالاح لقلوب الموحّدين والمحبين من لطائف القربة، فى عاجلهم البشرى بما وعدهم به من عزيز لقائه فى آجلهم، وخصائصهم التي امتازوا بها عمّن سواهم.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٢]
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢)
أي فصلت آياته بألا تعبدوا إلا الله.
ويقال معناه فى هذا الكتاب ألا تعبدوا إلا الله، إنى لكم منه «نَذِيرٌ» مبين بالفرقة، «وَبَشِيرٌ» بدوام الوصلة، (فالفرقة بل فى عاجله واحدا) «١».
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٣]
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣)
استغفروا ربّكم أولا ثم توبوا إليه بعده.
والاستغفار طلب المغفرة، يعنى قبل أن تتوبوا اطلبوا منه المغفرة بحسن النّظرة، وحمل الرجاء والثقة بأنه لا يخلّد العاصي فى النار، فلا محالة يخرجه منها.. فابتدئوا باستغفاركم، ثم توبوا بترك أوزاركم، والتنقّى عن إصراركم.
ويقال استغفروا فى الحال مما سلف، ثم إن الممتم بزلّة أخرى فتوبوا.
ويقال استغفروا فى الحال ثم لا تعودوا إلى ارتكاب الزلة فاستديموا التوبة- إلى مآلكم- مما أسلفتم من قبيح أعمالكم.
ويقال «اسْتَغْفِرُوا» : الاستغفار هو التوبة، والتنقى من جميع الذنوب، ثم «تُوبُوا» من توهّم أنكم تجابون بتوبتكم، بل اعلموا أنه يجيبكم بكرمه لا بأعمالكم.
ويقال «الاستغفار» : طلب حظوظكم من عفونا.. فإذا فعلتم هذا فتوبوا عن طلب كل حظ ونصيب، وارجعوا إلينا، واكتفوا بنا، راضين بما تحوزونه من التجاوز عنكم أو غير ذلك مما يخرجكم به.
قوله جل ذكره: يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي نعيّشكم عيشا طيبا حسنا مباركا.
ويقال هو إعطاء الكفاية مع زوال الحرص.
ويقال هو القناعة بالموجود.
(١) هذه عبارة إما أنها زائدة نتيجة خطأ فى النسخ، أو أن بها اضطرابا فى الكتابة أفقدها المعنى.
ويقال هو ألا يخرجه إلى مخلوق، ولا يجعل لأحد عليه منّة (لا سيما للئيم «١» ).
ويقال هو أن يوفقه (لاصطناع المعروف إلى المستحقين.
ويقال هو أن تقضى على يديه) «٢» حوائج الناس.
ويقال هو ألا يلمّ فى حال شبابه بزلّة، وألا يتصف بأنه عن الله فى غفلة.
ويقال هو أن يكون راضيا بما يجرى عليه من نوعى العسر و، اليسر.
قوله جل ذكره: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ من زادت حسناته على سيئاته أعطاه جزاء ما فضل له من الطاعات، ومن زادت سيئاته على حسناته كافأه بما يستوجبه من زيادة السيئات... هذا بيان التفسير.
ويقال من فضّله بحسن توفيقه أوصله إلى ما يستوجبه من لطفه ويزيده..
ويقال هو أن يستر عليه فضله حتى لا يلاحظ حاله ومقامه، بل ينظر إلى نفسه، وما منه وما له.. بعين الاستحقار والاستصغار.
ويقال هو أن يرقيه عن التعريج فى أوطان البشرية إلى طاعات شهود الأحدية، وينقّيه عن (....) «٣» البشرية، والتكدر بما يبدو من مفاجآت التقدير.
ويقال هو ألا يوحشه شىء بما يجرى فى الوقت.
ويقال هو أن يحقّق له ما تسموا إليه همّته، ويبلغّه فوق ما يستوجبه محلّه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٤]
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)
(١) ما بين القوسين فى أعلى الصفحة ومكتوب بخط ردئ جدا.
(٢) ما بين القوسين فى هامش الصفحة بخط حسن ومن هذا وذاك يتضح أن النسخة قيض لها أن تراجع بواسطة قارئين مختلفين.
(٣) مشتبهة.
تنقطع الدعاوى عند الرجوع إلى الله، وتنتفى الظنون، ويحصل اليأس من غير الله بكل وجه، ويبقى العبد بنعت الاضطرار، والحقّ يجرى عليه ما سبقت به القسمة من أنواع الأقدار.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٥]
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥)
أي يسترون ما تنطوى عليه عقائدهم، ويضمرون للرسول- عليه السلام- وللمؤمنين خلاف ما يظهرون، والحقّ- سبحانه- مطّلع على قلوبهم، ويعلم خفايا صدورهم، فتلبيسهم لا يغني عنهم من الله شيئا، وكان الله- سبحانه- يطلع رسوله- عليه السلام- على ما أخفوه إمّا بتعريف الوحى، أو بإشهاد لقوّة نور، وكذلك المؤمنون كانوا مخصوصين بالفراسة، فكل مؤمن له بقدر حاله من الله هداية، قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإن المؤمن ينظر بنور الله» «١» ولقد قال قائلهم.
أبعيني أراك أم بفؤادى؟... كلّ ما فى الفؤاد للعين باد
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٦]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦)
أراح القلوب من حيرة التقسيم، والأفكار من نصب التفكير فى باب الرزق حيث قال:
«إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» فسكنت القلوب لمّا تحقّقت أنّ الرزق على الله.
ويقال إذا كان الرزق على الله فصاحب الحانوت فى غلط من حسبانه. ثم إن الله سبحانه
(١) رواه الترمذي والطبراني.
ورواه القشيري فى رسالته (ص ١١٥) هكذا: أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمى قال أخبرنا أحمد ابن على الرازي قال أخبرنا محمد بن أحمد بن السكن قال حدثنا موسى بن داود قال حدثنا محمد بن كثير الكوفي قال حدثنا عمرو بن قيس عن عطية عن أبى سعيد قال قال رسول الله (ص) :«واتقوا... »
بيّن أنّ الرزق الذي «عليه» ما حاله فقال: «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ»، وما كان فى السماء لا يوجد فى السوق، ولا فى التّطواف فى الغرب والشرق «١».
ويقال الأرزاق مختلفة فرزق كل حيوان على ما يليق بصفته.
ويقال للنفوس رزق هو غذاء طريقه الخلق، وللقلوب رزق وهو ضياء موجده الحق.
ويقال لم يقل ما يشتهيه أو مقدار ما يكفيه بل هو موكول إلى مشيئته فمن موسّع عليه ومن مقتّر.
قوله جل ذكره: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ قيل أراد به أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، أو الدنيا والآخرة. ويقال مستقرّ المريد بباب شيخه كمستقرّ الصبيّ بباب والديه. ويقال مستقر العابدين المساجد، ومستقر العارفين المشاهد، فالمساجد مستقرّ نفوس العابدين، والمشاهد مستقرّ قلوب العارفين.
ويقال مستقرّ المحب رأس سكّة محبوبه لعلّه يشهده عند عبوره.
ويقال المساجد للعابدين مستقرّ القدم، والمشاهد للعارفين مستقرّ الهمم، والفقراء مستقرهم سدّة الكرم.
ويقال الكلّ له مثوى ومستقر، أما الموحّد فإنه لا مأوى له ولا مستقر ولا مثوى ولا منزل.
ويقال النفوس مستودع التوفيق من الله، والقلوب مستودع التحقيق من قبل الله.
ويقال القلوب مستودع المعرفة فالمعرفة وديعة فيها. والأرواح مستودع المحبة فالمحاب ودائع فيها. والأسرار مستودع المشاهدات فالمشاهدات ودائع فيها.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٧]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
(١) قد يبدو للوهلة الأولى أن كلام القشيري لا ينتظم مع قوله تعالى: «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» ولكن الواقع أنه يقصد بذلك رزق السرائر لا رزق الظواهر. [.....]
وأحسن الأعمال موافقة الأمر، ولم يقل أكثر عملا.
ويقال أحسن الأعمال ما كان صاحبه أشدّ إخلاصا فيه.
ويقال أحسنهم عملا أبعدهم عن ملاحظة أعماله.
ويقال أحسن الأعمال ما ينظر إليه صاحبه بعين الاستصغار.
ويقال أحسن الأعمال ما لا يطلب صاحبه عليه عوضا.
ويقال أحسن الأعمال ما غاب عنه صاحبه لاستغراقه فى شهود المعبود.
قوله: «لِيَبْلُوَكُمْ» الابتلاء من قبله تعريف الملائكة حال من يبتليه فى الشكر عند اليسر والصبر عند العسر.
قوله جل ذكره: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ استبعدوا النّشر لتقاصر علومهم عن التحقّق بكمال قدرة الحق، ولو عرفوا ذلك لأيقنوا أن البعث ليس بمعتاص فى الإيجاد ولا بمستحيل فى التقدير.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٨]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨)
يقول:
إنّ أمهلنا، وأخّرنا عليهم العذاب لا يرعوون، بل يستعجلون العقوبة. ولئن عجّلنا لهم العقوبة لا يتوبون ولا يستغفرون استولى عليهم الجهل فى الحالين، وعميت بصائرهم عن شهود التقدير والإيمان بالغيب فى النوعين. ويوم يأتيهم العذاب فلا مناص ولا منجاة ولا مراح لهم منه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٩]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩)
تكدّر ما صفا من النّعم، وتغيّر ما أتيح من الإحسان والمنن حال معهودة وخطّة عامة، فلا أحد إلا وله منها خطّة «١» فمن لم يرجع بالتأسّف قلبه، ولم يتضاعف فى كل نفس تلهفه وكربه ففى ديوان النسيان، وأثبت اسمه فى جملة أهل الهجران. ومن استمسك بعروة التضرع، واعتكف بعقوة التذلل، احتسى كاسات الحسرة عللا بعد نهل طاعته للحق بنعت الرحمة، وجدّد له ما اندرس من أحوال القربة، وأطلع عليه شمس الإقبال بعد الأفول والغيبة، كما قيل
تقشّع غيم الهجر عن قمر الحبّ... وأشرق نور الصبح فى ظلمة الغيب
وليس للأحوال الدنيوية خطر فى التحقيق، ولا يعدّ زوالها وتكدرها من جملة المحن عند أرباب التحصيل، لكنّ المحنة الكبرى والرزية العظمى ذبول غصن الوصال وتكدر مشرب القرب، وأفول شوارق الأنس، ورمد بصائر أرباب الشهود... فعند ذلك تقوم قيامتهم، وهناك تسكب العبرات. ويقال إذا نعق فى ساحات هؤلاء غراب البين ارتفع إلى السماء نواح أسرارهم بالويل، ومن جملة ما يبثون من نحييهم ما قلت.
قولا لمن سلب الفؤاد فراقه... ولقد عهدنا أن يباح عتاقه
بعد الفراق... فبالذى هو بينا... هلّا رحمتم من دنا إزهاقه؟
عهدى بمن جحد الهوى أزمان ك... نّا بالصبابة- لا يضيق نطاقه.
والآن مذ بخل الزمان بوصلنا... ضاق البسيطة. حين دام فراقه.
هل ترتجى من وصل عزّك رجعة... تحنو على قمر يذوم محاقه؟
إن كان ذاك كما تروم فأخبروا... أنّى له أن يعود شروقه «٢» ؟
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٠]
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠)
(١) (الخطة) بضم الخاء الأمر والحالة، و (والخطة) بكسر الخاء ما يختطه الإنسان لنفسه من قدر معلوم من الأرض ونحوها.
(٢) الأبيات فى هذا النص وصلتنا مضطربة الوزن سيئة الخط. مطموسة الكلمات فى كثير من المواضع وقد تدخلنا فيها بقدر يسمح بإظهار المعنى وتناسق السياق.
إذا كشفنا الضرّ عنهم رحمة منّا عادوا إلى تهتكهم بدلا من أن يتقربوا إلينا، وأساءوا يخلع عذارهم بدل أن يقوموا بشكرنا، وكلما أتحنا لهم من إمهالنا أمنوا لمكرنا، ولم يخافوا أن نأخذهم فجأة بقهرنا.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١١]
إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)
الإنسان فى الآية السابقة اسم جنس.
وإلا للاستثناء منه، وقيل بمعنى «لكن»، يريد إذا أذقناهم نعمة بعد الشدة بطروا، إلا المؤمنين فإنهم بخلاف ذلك، أي لكنّ الذين آمنوا بخلاف ذلك، فإنهم لصبرهم على على ما به أمروا، وعما عنه زجروا، ولمعانقتهم للطاعات ومفارقتهم الزّلات.. فلهم مغفرة وأجر، مغفرة لعصيانهم، وأجر على إحسانهم. والفريقان لا يستويان، قال قائلهم.
أحبابنا شتّان واف وناقص ولا يستوى قطّ محبّ وباغض
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٢]
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢)
اقترحوا عليه أن يأتى بكتاب ليس فيه سبّ آلهتهم، وبيّن الله- سبحانه- له ألا يترك تبليغ ما أنزل عليه لأجل كراهتهم، ولا يبدّل ما يوحى إليه.
قوله جل ذكره: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.
وهذا على وجه الاستبعاد أي لا يكون منك ترك ما أوحى إليك، ولا يضيق صدرك
بما يبدو من الغيب.. ومن شرح الله بالتوحيد صدره، ونوّر بشهود التقدير سرّه- متى يلحقه ضيق صدر أو استكراه أمر؟ ثم قال: «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» :
أي أنت بالإرسال منصوب، وأحكام التقدير عليك مجراة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٣]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣)
فى الآية بيان أنّ المكلّف مزاح العلّة لما أقيم له من البرهان وأهّل له من التحقيق.
وأنّ الإيمان بالواسطة- ﷺ وآله- واجب لما خصّ به من المعجزات التي أوضحها الكتاب المنزل والقرآن المفصّل الذي عجز الكفار عن معارضته.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٤]
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)
يعنى فإن لم يستجيبوا لكم يعنى إلى الإتيان بمثله- وهم أهل بلاغة- فتحققوا أنه من قبل الله، وليس على سنة التحقيق (....) «١» إنما العمى فى بصائر من ضلّوا عن الحقّ، وتاهوا فى صدفة الحيرة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٥]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥)
من قنع منهم بدنيا الدناءة صفتها وسّعنا عليه فى الاستمتاع بأيام فيها، ولكن عقب اكتمالها سيرى زوالها، ويذوق بعد غسلها حنظلها.
(١) مشتبهة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)
أولئك الذين خابت آمالهم، وظهرت لهم- بخلاف ما احتسبوا- آلامهم، حبطت أعمالهم، وحاق بهم سوء حالهم.
قوله جل ذكره
[سورة هود (١١) : آية ١٧]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)
فيه إضمار «١» ومعناه أفمن كان على بينة كمن ليس على بينة.. لا يستويان.
والبيّنة لأقوام برهان العلم، ولآخرين بيان الأمر بالقطع والجزم يشهدهم الحقّ مالا يطلع عليه غيرهم، كما قلت:
ليلى من وجهك شمس الضحى...... فالناس فى الظلمة من ليلهم
ونحن من وجهك فى الضوء والشاهد
فالذى يتولاه فهو مشاهد، وفى الخبر «أولياء الله الذين إذا أرادوا ذكر الله....» «٢».
قال تعالى: «وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ».
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٨]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨)
(١) إضمار هنا مستعملة لما يسمى فى علم البلاغة بإيجاز الحذف.
(٢) سقطت بقية الخبر من الناسخ.
من ادّعى على الله حالا لم يكن متحققا بها فقد افترى على الله كذبا، واستوجب المقت، وعقوبته ألّا يرزق بركة فى أحواله، ثم إنه يكشف للشهداء عيوبه، فيفضحه بين الخلق، والشهداء قلوب الأولياء، ومن شهدت القلوب عليه بالردّ فهو غير مقبول عند الحقّ قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٩]
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩)
الآية.
هذا من جملة صفات المفترين على الله الكذب، ومن صدّهم عن السبيل أن يظهروا من أنفسهم أحوالا تخلّ بأحكام الشريعة، ولا يرون ذلك كبيرة فى الطريقة، ويوهمون المستضعفين من أهل الاعتراض عليهم أنّ لهم فى ذلك رخصة، فيضلّون ويضلّون. ومن جملة صدّهم عن السبيل تغريرهم بالناس، وإيقاعهم فى الغلط، ويرتفقون بشىء مما فى أيديهم من حطام الدنيا، ولا يستحيون من أخذ شىء لا يستوجبونه بأى وجه حقّ، ويداهنون فى دين الله.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١)
الآية.
من هذه صفتهم لا يربحون فى تجارتهم، ولا يلحقون غاية طلبوها فيبقون عن الحق، ولا يبارك لهم فيما اعتاضوا من صحبة الخلق.. خسرت صفقتهم، وبارت بضاعتهم، لقوا الهوان، وذاقوا اليأس والحرمان.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٢٢]
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)
لا محالة أنهم فى الآخرة أشدّ خسرانا، وأوفر- من الخيرات- نقصانا.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٢٣]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣)
الإخبات التخشع لله بالقلب بدوام الانكسار، ومن علامته الذبول تحت جريان المقادير بدوام الاستغاثة بالسر.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٢٤]
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)
الآية مثل الكافر فى كفره كالأعمى والأصم، ومثل المؤمن فى إيمانه كالسميع والبصير- هذا بيان التفسير.
والإشارة فيه أن الأعمى من عمى عن الإبصار بسرّه، والأصمّ الذي طرش بسمع قلبه فلا باستدلاله شهد سر تقديره فى أفعاله، ولا بنور فراسة توهم ما وقف عليه من مكاشفات الغيب لقلبه، ولا بسمع القبول استجاب لدواعى الشريعة، ولا بحكم الإنصاف انقاد لما يتوجّب عليه من مطالبات الوقت مما يلوح لسرّه من تلويحات الحقيقة.
وأما البصير فهو الذي يشهد من الحق أفعاله بعلم اليقين، ويشهد صفاته بعين اليقين، ويشهد ذاته بحق اليقين، والغائبات له حضور، والمستورات له كشف. فالذى يسمع فصفته ألا يسمع هواجس النّفس ولا وساوس الشيطان فيسمع من دواعى العلم شرعا، ثم من خواطر التعريف قدرا، ثم يكاشف بخطاب من الحق سرّا «١» فهؤلاء لا يستويان، ولا فى طريق يلتقيان:
راحت مشرّقة ورحت مغرّبا فمتى التقاء مشرّق ومغرّب؟!
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦)
كان نوح عليه السلام أطول الأنبياء عمرا وأشدّهم بلاء، وسمى نوحا لكثرة نوحه على نفسه.. وسبب ذلك أنه مرّ بكلب فقال: ما أقبحه! فأوحى الله إليه أن اخلق أنت أحسن من هذا. فأخذ يبكى وينوح على نفسه كلّ ذلك النّوح. فكيف بحال من لم يذكر يوما مما مضى من عمره فى مدة تكليفه- ولم يحصل منه لله كثير من ولاية!؟
(١) تفيد هذه الإشارة فى بيان أحكام «السماع» عند الصوفية.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٢٧]
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧)
أنكروا صحة كونه نبيّا لمشاكلته إياهم فى الصورة، ولم يعلموا أن المباينة بالسريرة لا بالصورة.
ثم قال: «وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ» : نظروا إلى أتباعه نظرة استصغار، ونسبوهم إلى قلّة التحصيل.. وما استصغر أحد أحدا من حيث رؤية الفضل عليه إلا سلّط الله عليه، وأذاقه ذلّ صغاره، فبالمعانى يحصل الامتياز لا بالمباني:
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفى أثوابه أسد هصور
فإن أك فى شراركم قليلا فإنى فى خياركم كثير
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٢٨]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨)
الصّبح لا خلل فى ضيائه لكون الناظرين عميانا، والسيف لا خلل فى مضائه لكون الضاربين صبيانا وكيف لبشر من قدرة على هداية من أضلّه الله- ولو كان نبيّا؟ «١».
هيهات لا ينفع مع الجاهل نصح، ولا ينحح فى المصرّ وعظ!
(١) الأفضل أن تكون (ولو كان نبيا) جملة اعتراضية تلى (لبشر) حتى يستقيم التركيب، ولكننا أثبتنا ما جاء في (ص).
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٢٩]
وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩)
سنّة الأنبياء- عليهم السلام- ألا يطلبوا على رسالتهم أجرا، وألّا يؤملوا لأنفسهم عند الخلق قدرا، وعملهم لله لا يطلبون شيئا من غير الله. فمن سلك من العلماء سبيلهم حشر فى زمرتهم، ومن أخذ على صلاحه من أحد عوضا، أو اكتسب بسداده جاها لم ير من الله إلا هوانا وصغارا.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٣٠]
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠)
مجالسة الفقراء اليوم- وهم جلساء الحقّ غدا- أجدى من مجالسة قوم من الأغنياء هم من أهل الردّ.
ومن طرد من قرّبه الله وأدناه استوجب الخزي فى دنياه، والصّغار فى عقباه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٣١]
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١)
لا أتخطّى خطّى عما أبلغت مما حملت من رسالتى، ولا أتعدّى ما كلّفت به، ولا أزيد عما أمرت، ولن أخرج عن الذي أنبئوني، بل أنتصب بشاهدى فيما أقامونى.
قوله جل ذكره: وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً، اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ إن أولياء الله سبحانه فى أثوابهم ولا يراهم إلا من قاربهم فى معناهم. الله أعلم بأحوالهم، وفى الجملة: طير السماء على ألّافها تقع.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٣٢]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢)
أوضح لهم من البراهين مالوا أمعنوا النظر فيه لتمّ لهم اليقين، ولكنهم أصروا على الجحود، ولم يقنعوا من الموعود بغير المشهود.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٣٣]
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣)
أقرّ بالعبودية، وتبرّأ عن الحول والقوة، وأحال الأمر على المشيئة. ولقد أنصف من لم يجاوز حدّه فى الدعوى. والأنبياء عليهم السلام- وإن كانوا أصحاب التحدي للناس بمعجزاتهم فهم معترفون بأنهم موقوفون عند حدودهم.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٣٤]
وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)
من لم يساعده تعريف الحقّ- بما له بحكم العناية- لم ينفعه نصح الخلق فى النهاية.
ويقال من لم يوصّله الحقّ للوصال فى آزاله «١» لم ينفعه نصح الخلق فى حاله ويقال من سبق الحكم له بالضلالة أنّى ينفعه النصح وبسط الدلالة؟
ويقال من لم تساعده قسمة السوابق لم ينفعه نصح الخلائق.
قوله: «إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ» : من المحال اجتماع الهداية والغواية فإذا أراد الله بقوم الغواية لم يصح أن يقال إنهم من أهل الهداية.
ثم بيّن المعنى فى ذلك بأن قال «هُوَ رَبُّكُمْ» ليعلم العالمون أنّ الربّ تعالى له أن يفعل بعباده ما شاء بحكم الربوبية.
(١) أي بما سبقت به القسمة- حسب تعبير القشيري فى مواضع أخرى.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٣٥]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)
ومهما وصفتمونى فإنى أجيب الله.. وكلّ مطالب بفعله دون فعل صاحبه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٣٦]
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
عرّفه الحقّ أنّه غنيّ عن إيمانهم، فكشف له أحكامهم، وأنّ من لم يؤمن منهم قد سبق الحكم بشقائهم، فعند ذلك دعا عليهم نوح- عليه السلام- بالإهلاك.
ويقال لم يدع عليهم ما دام للمطمع فى إيمانهم مساغ، فلما حصل العكس نطق بالتماس هلاكهم.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٣٧]
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)
أي قم- بشرط العبودية- بصنع السفينة بأمرنا، وتحقق بشهودنا، وأنّك بمرأى منا. ومن علم اطلاعه عليه لم يلاحظ نفسه ولا غيره، لا سيما وقد تحقق بأنّ المجرى هو سبحانه.
وقال له: راع حدّ الأدب، فما لم يكن لك إذن منا فى الشفاعة لأحد فلا تخاطبنا فيهم.
ويقال سبق لهم الحكم بالغرق- وأمواج بحر التقدير تتلاطم- فكلّ فى بحار القدرة مغرقون إلا من أهّله الحقّ بحكمه فحمله فى سفينة العناية.
ويقال كان قوم نوح من الغرقى فى بحار القطرة، ومن قبل كانوا غرقى فى بحار القدرة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٣٨]
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨)
لما تحقّق بما أمر الله به لم يأبه عند إمضاء ما كلّف به بما سمع من القيل، ونظر إلى الموعود بطرف التصديق فكان كالمشاهد له قبل الوجود.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٣٩]
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩)
لا طاعة لمخلوق فى مقاساة تقديره- سبحانه- إلا من تحمل عنه بفضله ما يحمله بحكمه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٤٠]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)
طال انتظارهم لما كان يتوعّدهم به نوح عليه السلام على وجه الاستبعاد، ولم يزدهم تطاول الأيام إلا كفرا، وصمّموا على عقد تكذيبهم.
ثم لمّا أتاهم الموعود إياهم بغتة، وظهر من الوضع الذي لم يحبّوه فار الماء من التنور المسجور، وجادت السماء بالمطر المعبور «١».
«قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» : استبقاء للتناسل.
ويقال: قد يؤتى الحذر من مأمنه فإن إبليس جاء إلى نوح- عليه السلام-.
وقال: احملني فى السفينة فأبى نوح عليه السلام، فقال له إبليس: أما علمت أنى من المنظرين إلى يوم معلوم، ولا مكان لى اليوم إلا فى سفينتك؟
فأوحى الله إلى نوح أن يحمله معه.
ويقال لم يكن لابن نوح معه مكان، وأمر بحمل إبليس وهو أصعب الأعداء! وفى هذا إشارة إلى أن أسرار التقدير لا تجرى على قياس الخلق كأنه قيل له: يا نوح..
ابنك لا تحمله، وعدوك فأدخله، فالله سبحانه فعّال لما يريد «٢».
(١) أي الجاري.
(٢) فى هذه الإشارة تلميح إلى قاعدة فى مذهب القشيري أن أفعال الله لا تخضع لما ألف الناس من مقاييس نسبية.
قوله جل ذكره: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ» بالشقاوة. وفيه تعريف بأن حكم الأزل لا يردّ، والحقّ- سبحانه- لا ينازع، والجبّار لا يخاصم، وأن من أقصاه ربّه لم يدنه تنبيه ولا برّ ولا وعظ.
«وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» ولكن بارك الحقّ- سبحانه- فى الذين نجّاهم من نسله، ولم يدخل خلل فى الكون بعد هلاك من أهلك من قومه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٤١]
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)
عرف أنّ نجاته من القطرة لمّا تقاطرت ليست بالحيل- وإن تنوّعت وكثرت، فباسم الله سلامته، وبتوكله على الله نجاته وراحته، وبتفضله- سبحانه- صلاحه وعافيته.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٤٢]
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢)
وكان فى معزل بظاهره، وكان فى سرّ تقديره أيضا بمعزل عما سبق لنوح وقومه من سابق فضله. فحينما نطق بلسان الشفقة وقال: «يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ» - لم يقل له: ولا تكن من الكافرين لأن حالته كانت ملتبسة على نوح إذ كان ابنه ينافقه- فقيل له: يا نوح إنه مع الكافرين لأنه فى سابق حكمنا من الكافرين.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٤٣]
قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣)
أخطأ من وجهين: رأى الهلاك من الماء وكان من الله، ورأى النجاة والعصمة من الجبل وهما من الله، فقال له نوح: لا عاصم اليوم من أمر الله، قيل أراد لا معصوم اليوم من الله.
وقيل لا أحد يعصم أحدا من أمر الله، لكن من رحمه ربّه فهو معصوم من ذلك، وله عاصم وهو الله.
ولقد كان نوح- عليه السلام- مع ابنه فى هذه المخاطبات فجاءت أمواج الماء وحالت بينهما وصار من المغرقين، فلا وعظه ونصحه نفعاه، ولا قوله وتذكيره نجيّاه وخلّصاه.
ويقال احتمل أن لو قيل له يا نوح عرّفنا العالم بدعائك ولا عليك إن عرف.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٤٤]
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)
فلما غرق ابن نوح سكن الموج ونضب «١» الماء وأقلعت السماء، وكأنه كان المقصود من الطوفان أن يغرق ابن نوح- عليه السلام- وقيل:
عجبت لسعى الدهر بينى وبينها فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦)
(١) وردت (نصب) بالصاد، وهى خطأ فى النسخ، والمراد (نضب) الماء أي غار وانحسر، فهى ملائمة لإقلاع السماء أي إمساكها عن المطر.
خاطب الحقّ- سبحانه- فى باب ابنه، واستعطف فى السؤال فقال:
«إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» : فقال له: إنّه ليست من أهل الوصلة قسمته- وإن كان من أهلك نسبا ولحمة، وإنّ خطابك فى بابه عمل غير صالح، أو إنه أيضا عمل غير صالح «١».
«فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» : أي سترت غيبى فى حال أوليائى وأعدائى، فلا يعلم سرّ تقديرى.
قوله: «إِنِّي أَعِظُكَ» : وذلك لحرمة شيخوخته وكبره، ولأنه لم يستجب له فى ولده، فتدارك بحسن الخطاب قلبه.
وقيل إن ابن نوح بنى من الزجاج بيتا وقت اشتغال أبيه باتخاذ السفينة، فلما ركب نوح السفينة دخل ابنه فى البيت الذي اتخذه من الزجاج، ثم إن الله تعالى سلّط عليه البول حتى امتلأ بيت الزجاج من بوله فغرق الكلّ فى ماء البحر، وغرق ابن نوح فى بوله! ليعلم أنه لا مفرّ من القدر.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٤٧]
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧)
نسى نوح- عليه السلام- حديث ابنه فى حديث نفسه، فاستعاذ بفضله واستجار بلطفه، فوجد السلامة من ربّه فى قوله جل ذكره
[سورة هود (١١) : آية ٤٨]
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨)
طهّر وجه الأرض من أعدائه، وحفظ نوحا عليه السلام من بلائه، هو ومن معه من أصدقائه وأقربائه.
(١) وعلى هذا الرأى تكون نجاة قوم نوح بسبب عملهم الصالح لا بسبب قرابتهم له.
والأمم التي أخبر أنه سيمتّعهم ثم يمسّهم العذاب هم الذين ليسوا من أهل السعادة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٤٩]
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)
أعلمناك بهذه الجملة، وأنبأناك بهذه القصص لما خصصناك من غير أن تتعلمه من شخص، أو من قراءة كتاب فإن قابلك قومك بالتكذيب فاصبر، فعن قريب تنقلب هذه الأمور.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٥٠]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠)
كلّف الأنبياء- عليهم السلام- بالذهاب إلى الخلق لا سيما وقد عاينوا- بالحق- من تقدّمهم من فترة الملأ، ولكنهم تحمّلوا ذلك حين أمرهم الحقّ بالتوجّه إليهم فرضوا، وأظهروا الدلالة، وأدّوا الرسالة، ولكن ما زاد الناس إلا نفرة على نفرة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)
لم يأت نبىّ من الأنبياء- عليهم السلام- إلّا وأخبر أنه ليس له أن يطلب فى الجملة أجرا إلّا من الله لا من غير الله.
قوله جل ذكره: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ.
استغفروا ربكم ثم توبوا إليه بعد الاستغفار، من توهمكم أن نجاتكم باستغفاركم.
بل تحقّقوا بأنكم لا تجدون نجاتكم إلا بفضل ربّكم فبفضله وبتوفيقه توصّلتم إلى استغفاركم لا باستغفاركم، وصلتم إلى نجاتكم، وبرحمته أهلكم إلى استغفاركم، وإلّا لما وصلتم إلى توبتكم ولا إلى استغفاركم.
والاستغفار قرع باب الرزق، فإذا رجع العبد إلى الله بحسن تضرعه، فتح عليه أبواب رحمته، ويسّر له أسباب نعمته.
ويقال ينزّل على ظواهركم أمطار النّعمة، وعلى ضمائركم وسرائركم ينزّل أنواع المنّة، ويزيدكم قوة على قوة قوة تحصلون بها توسعة أنواع الرزق، وقوة تحصلون بها تحسبن أصناف الخلق.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٥٣]
قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣)
ما زادهم هود عليه السلام بسطا فى الآية وإيضاحا فى المعجزة إلا زادهم الله تعالى عمى على عمى، ولم يرزقهم بصيرة ولا هدى، ولم يزيدوا فى خطابهم إلا بما دلّوا على فرط جهالتهم، وشدة ضلالتهم بعد إطنابهم وانتهابهم «١»، وقالوا:
[سورة هود (١١) : آية ٥٤]
إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤)
وكيف ظنّوا أنّ آلهتهم تمسّ أعداءهم بسوء وهى لا تضرّ أعداءها ولا تنفع أولياءها؟
فهؤلاء الغواية عليهم مستولية. ثم إن هودا عليه السلام أفصح عن فضل ربّه عليه وصرّح بإخلاصه وحسن يقينه فقال: إنى برىء مما تشركون، ثم قال:
[سورة هود (١١) : آية ٥٥]
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥).
(١) يقال نهب فلانا أي تناوله بلسانه وأغلظ له القول.
فلم يحتج معهم إلى تضرع واستخذاء، ولا راودهم فى سلم واستمهال، ولم يتّصف فى ذلك بركون إلى حوله وملّته، ولم يستند إلى جده وقوّته بل قال:
[سورة هود (١١) : آية ٥٦]
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)
أخبر أنه بموعود الله له بنصرته واثق، وأنه فى خلوص طاعته لربّه وفى صفاء معرفته (غير مفارق) «١».
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٥٧]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧)
أوحينا إليه أن قل لهم: إن تولّوا ولم تؤمنوا بي فقد بلّغت ما حمّلت من رسالتى، وإنى واثق بأنّ الله إذا أهلككم يأت بأقوام آخرين سواكم أطوع له منكم، وإن أفناكم ما اختلّ ملكه إذ الحقّ- سبحانه- بوجود الأغيار لا يلحقه زين- وإن وحدوا، وبفقدهم لا يمّسه شين- وإن جحدوا وألحدوا.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٥٨]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨)
ولما جاء أمرنا بإهلاكهم نجيّنا هودا والذين آمنوا برحمتنا، ولم يقل باستحقاقه النجاة بوسيلة نبوته، أو لجسامة طاعته ورسالته بل قال: «بِرَحْمَةٍ مِنَّا» ليعلم الكافة أنّ
(١) بعد (معرفته) يوجد بياض مما يدل على سقوط خبر أن وقد أكملنا النقص بكلمة ملائمة من عندنا تنفق مع السياق والنسق حسبما نعلم من طريقة القشيري. [.....]
الأنبياء- عليهم السلام- ومن دونهم عتيق رحمته، وغريق منته، لا لاستحقاق أحد ولا لواجب على الله فى شىء.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٥٩]
وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩)
فى إنزال قصصهم تسلية للرسول- ﷺ وآله- فيما كان يقاسى من العناء، وللمؤمنين فيما بذلوا من حسن البلاء، والعدة بتبديل- ما كانوا يلقونه من الشدّة- بالرجاء.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٦٠]
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)
أخبر أنهم خسروا الدنيا والآخرة، أمّا فى هذه الدنيا فبالاستئصال بأليم الشدة وما تبعه من اللّعنة، ثم ما يلقونه فى الآخرة من تأبيد العقوبة. وبقاؤهم عن رحمة الله أصعب من صنوف كل تلك المحنة «١»، وكما قيل:
تبدّلت وتبدلنا وا حسرتا لمن ابتغى عوضا لسلمى فلم يجد
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : الآيات ٦١ الى ٦٨]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨)
(١) وردت (المحبة) وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح.
143
عقيب ما مضى من قصة عاد ذكر قصة ثمود، وثمودهم قوم صالح، وقد انخرطوا فى الغىّ فى سلك من سبقهم، فلحقت العقوبة بجميعهم. ثم أخبر أنهم قابلوا نبيّهم- عليه السلام- بالتكذيب، ولم يقفوا على ما نبّههم عليه من التوبة والتصديق، وأصرّوا على الإقرار أنهم فى شأنه لفى شك مريب.
ثم بيّن أنّ صالحا لم يعرّج- فى التبليغ- على تقصير.
وبعد تمرّدهم وامتناعهم عن الإنابة، وإصرارهم على ترك الإجابة حقّ عليهم
144
ما توعدهم به من عذاب غير مكذوب، ونجّى نبيّهم- عليه السلام-، ونجّى من اتّبعه من كل عقوبة.. سنّة منه- سبحانه- فى إنجاء أوليائه أمضاها، وعادة فى تلطفه ورحمته بالمستحقين أجراها.
قوله جل ذكره
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠)
أخبر أن الملائكة أتوا إبراهيم- عليه السلام- بالبشارة، وأخبر أن إبراهيم- عليه السلام- أنكرهم، ولم يعرف أنهم ملائكة. فيحتمل أنّه- سبحانه- أراد أن تكون تلك البشارة فجأة من غير تنبيه لتكون أتمّ وأبلغ فى إيجاد السرور، ولا سيما وقد كانت بعد خوف لأنه قال: فأوجس منهم خيفة.
ويقال إن إبراهيم- عليه السلام- كان صاحب النبوة والخلّة والرسالة فلا بدّ أن تكون فراسته أعلى من فراسة كلّ أحد، ولكنه فى هذه الحالة لم يعرف الملائكة ليعلم أنّ الحقّ- سبحانه وتعالى- إذا أراد إمضاء حكم يدّ على من أراد عيون الفراسة، وإن كان صاحب الفراسة هو (خليل) «١» الله، كما سدّ الفراسة على نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- فى قصة الإفك إلى الوقت الذي نزل فيه الوحى، وكذلك التبس على لوط- عليه السلام- إلى أن تبيّن له الأمر.
وتكلموا في هذه «البشرى» ما كانت فقيل كانت البشارة بإسحاق، وبأنّه سيولد له ولد من نسله وسلالته قال تعالى: «وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ».
ويقال بعلامة قومه- حيث كانوا مرسلين بإهلاك قوم لوط- عليه السلام.
(١) سقطت كلمة (خليل) فأثبتناها لحاجة السياق إليها.
ويقال بشارة بالخلّة وتمام الوصلة.
ويقال إن الخلّة والمحبة بناؤهما كتمان السّرّ فيعلم أنهم أرسلوا ببشارة ما ولم يكن للغير اطلاع، قال قائلهم:
بين المحبين قول لست أفهمه
ويقال إن تلك البشارة هى قولهم: «سَلاماً» وأن ذلك كان من الله، وأىّ بشارة أتمّ من سلام الحبيب؟ وأىّ صباح يكون مفتتحا بسلام الحبيب فصباح مبارك، وكذلك المبيت بسلام الحبيب فهو مبارك.
قوله: «فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ» : لمّا توهمهم أضيافا قام بحقّ الضيافة، فقدّم خير ما عنده ما شكره الحقّ عليه حيث قال فى موضع آخر: جاء بعجل سمين «١». والمحبة توجب استكثار القليل من الحبيب واستقلال ما منك للحبيب، وفى هذا إشارة إلى أنه إذا نزل الضيف فالواجب المبادرة إلى تقديم السّفرة «٢» ممّا حضر فى الوقت.
قوله: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ تمام إحسان الضيف أن تتناول يده ما يقدّم إليه من الطعام، والامتناع عن أكل ما يقدّم إليه معدود فى جملة الجفاء فى مذهب أهل الظّرف «٣». والأكل فى الدعوة واجب على أحد الوجهين.
«وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» : أي خاف أنه وقع له خلل فى حاله حيث امتنع الضّيفان عن أكل طعامه فأوجس الخيفة لهم لا منهم.
وقيل إن الملائكة فى ذلك الوقت ما كانوا ينزلون جهرا إلا لعقوبة فلمّا امتنعوا عن الأكل، وعلم أنهم ملائكة خلف أن يكونوا قد أرسلوا لعقوبة قومه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)
(١) آية ٢٦ سورة الذاريات.
(٢) السفرة- طعام يصنع للمسافر، أو المائدة وما عليها من طعام (الوسيط).
(٣) الظرف: (يقال ظرف فلان ظرفا كان كيسا حاذقا، والظرف فى اللسان البلاغة، وفى الوجه الحسن، وفى القلب الذكاء) الوسيط.
كانت امرأته قائمة يخدمة الأضياف، فضحكت تعّجبا من أن يكون لمثلها فى هذه السّنّ ولد.
وقيل كان سرورها بالسلامة. ويحتمل أنها ضحكت تعجّبا من امتناع الضّيفان عن الأكل. أو تعجبت من كون الملائكة فى صورة البشر لمّا علمت أنهم ملائكة. ويحتمل أنها ضحكت لاستبشارها بالولد وقد بشّرت باستحقاقه ومن ورائه يعقوب، ثم أفصحت عما ينطوى عليه قلبها من التعجب فقالت: «أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ» ! فأحال الملائكة خلق الولد على التقدير: «قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ؟» فزال موضع التعجب، وقالوا: «رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» فبقى الدعاء فى شريعتنا بآخر الآية حيث يقول الداعي: كما صلّيت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
والبركة الزيادة فقد اتصل النّسل من الخليل، وبنو إسرائيل منهم- وهم خلق كثير، والعرب من أولاد إسماعيل- وهم الجمّ الغفير.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٧٤]
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤)
لما كانت مراجعته مع الله فى أمر قوم لوط بحقّ الله لا لحظّ نفسه سلم له الجدال، وهذا يدلّ على علوّ شأنه حيث تجاوز عنه ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)
والإشارة فيه أنه كان يقابل ما ورد على ماله ونفسه وولده بالاحتمال، ولمّا كان حقّ الحقّ فى حديث قوم لوط أخذ فى الجدال إلى أن أبان له سلامة لوط- عليه السلام- وقال الله سبحانه: - يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ يا إبراهيم أعرض عن هذا فإنّ الحكم بعذابهم قد نزل، ووقت الانتقام منهم قد حصل.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٧٧]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧)
أي أنه حزن بسبب خوفه عليهم أن يجرى عليهم من قومه ما لا يجوز فى دين الله فذلك الحزن كان لحقّ الله لا لنصيب له أو حظّ لنفسه، ولذلك حمد عليه لأنّ مقاساة الحزن لحقّ الله محمودة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٧٨]
وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨)
قوله «هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ» : قيل إنه أراد به نساء أمته، فنبىّ كلّ أمة مثل الوالد لأولاده فى الشفقة والنصيحة.
ويقال إنه أراد بناته من صلبه.
«أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ» يرتدى جلبات الحشمة، ويؤثر حقّ الله على ما هو مقتضى البشرية، ويرعى حق الضيافة، ويترك معصية الله؟
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٧٩]
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩)
أصرّوا على عصيانهم، وزهدوا فى المأذون لهم شرعا، وانجرّوا إلى ما قادهم إليه الهوى طبعا، وهذه صفة البهائم لا يردعها عقل، قال تعالى: «أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ»
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٨٠]
قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠)
لو أن لى قوة فأمنعكم عن ارتكاب المعصية فإنّ أهمّ «١» الأشياء على الأولياء ألا يجرى من العصاة ما ليس لله فيه رضاء.
ويقال: لو كان لى قدرة لإيصال الرحمة إليكم- مع ارتكابكم المعاصي- لرحمتكم وتجاوزت عنكم.
ويقال لو أنّ لى قوة لهديتكم إلى الدّين، ولعصمتكم عن ارتكاب المخالفات.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٨١]
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١)
«٢» لّما ضاق به الأمر كشف الله عنه الضرّ فعرّف إليه الملائكة وقالوا: لا عليك فإنهم لا يصلون إليك بسوء، وإنّا رسل ربك جئنا لإهلاكهم، فاخرج أنت وقومك من بينهم، واعلم أنّ من شاركهم فى عملهم بنوع فله من العذاب حصّة. ومن جملتهم امرأتك التي كانت تدل القوم على الملك لفعلة الفاحشة، وإن العقوبة لاحقة بها، مدركة لها.
والإشارة منه أن الجسارة على الزّلة وخيمة العاقبة- ولو بعد حين، ولا ينفع المرء اتصاله بالأنبياء والأولياء إذا كان فى الحكم والقضاء من جملة الأشقياء.
(١) أفعل التفضيل هنا مأخوذ من الهم، أي (فإن أكثر ما يسبب الهم للأولياء).
(٢) مستثنى من (فأسر بأهلك) منصوب.
قوله جل ذكره: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ.
ما هو كائن فقريب، والبعيد ما لا يكون. وإنّ من أقدم على محظور ثم حوسب عليه- ولو بعد دهور خالية وأعوام غير محصورة ماضية- تصور له الحال كأنه وقت مباشرته لتلك الزّلة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٨٢]
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢)
سنّة الله فى عباده قلب الأحوال عليهم، والانقلاب من سمات الحدوث، أمّا الذي لا يزول، ولا يحول فهو الذي لم يزل ولا يزال بنعوته الصمدية.
وإنّ من عاش فى السرور دهرا ثم تبدل يسره عسرا فكمن لم ير قطّ خيرا، والذي قاسى طول عمره ثم أعطى يسرّا فكمن لم ير عسرا.
قال تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ» «١».
قوله جل ذكره
[سورة هود (١١) : آية ٨٣]
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)
ذكر سبحانه ما نالهم من العقوبة على عصيانهم، ثم أخبر أنّ تلك العقوبة لاحقة بمن سلك سبيلهم تحذيرا لمن لم يعتبر بهم إذا عرف طريقهم، كما قيل:
ومن يرنى ولم يعتبر بعدي فإنّ لكلّ معصية عقابا
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥)
(١) آية ١١٠ سورة الأنعام.
أخبر سبحانه عن قصتهم، وما أصابهم من العذاب الأليم، وما نالهم من البلاء العظيم.
وفى الظاهر لهم كانت أجرامهم كاليسيرة، ولعدم الفهم يعدون أمثالها صغيرة، ولا يقولون إنها كبيرة، وإن ذلك تطفيف فى المكيال.
وليس قدر الأجرام «١» لأعيانها، ولكن لمخالفة الجبار عظم شأنها، قال تعالى:
[سورة هود (١١) : آية ٨٦]
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦)
«٢» ولما أن قال لهم شعيب:
«بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ».
يعنى القليل من الحلال أجدى من الكثير المعقب للوبال لم يقابلوا نصيحته لهم إلا بالعناد والتمادي فيما هو دائم من الجحد والكنود.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٨٧]
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧)
استوطئوا مركب الجهل، واستحلبوا مشرب التقليد، وأعفوا قلوبهم من استعمال الفكر، واستبصار طريق الرّشد.
(١) جمع (جرم) وهو الذنب.
(٢) آية ١٥ سورة النور.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٨٨]
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨)
البيّنة نور تستبصر به ما خفى عليك تحت غطاء الغفلة.
والرزق الحسن ما به دوام الاستقلال، وما ذلك إلا مقتضى عنايته الأزلية، وحسن توليه لشأنك- فى جميع ما فيه صلاحك- من إتمام النعمة ودوام العصمة.
وقيل الرزق الحسن ما تعنّي صاحبه لطلبه، ولم يصبه نصب بسببه.
وقيل الرزق الحسن ما يستوفيه بشهود الرزق ويحفظه عند التنعم بوجود الرّزّاق.
ويقال الرزق الحسن ما لا ينسى الرزّاق، ويحمل صاحبه على التوسعة والإنفاق.
قوله جل ذكره: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ.
يمكن للواعظ أو الناصح أن يساهل المأمور فى كل ما يأمره به، ولكن يجب ألا يجيز له ما ينهاه عنه فإنّ الإتيان بجميع الطاعات غير ممكن، ولكنّ التجرّد عن جميع المحرّمات واجب.
ويقال من لم يكن له حكم على نفسه فى المنع عن الهوى لم يكن له حكم على غيره فيما يرشده إليه من الهدى.
قوله جل ذكره: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ.
مدار الأمر على الأغراض المقضية حسن القصد بالإصلاح فيقرن الله به حسن التيسير، ومن انطوى على قصد بالسوء وكل الحقّ بشأنه التعويق.
قوله جل ذكره: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ.
حقيقة التوفيق ما ينفق به الشيء، وفى الشريعة التوفيق ما تنفق به الطاعة، وهو قدرة الطاعة، ثم كل ما تقرب العبد به من الطاعة من توفير الدواعي وفنون المنهيات يعدّ من جملة التوفيق- على التوسّع.
والتوفيق بالله ومن الله، وهو- سبحانه- بإعطائه متفضّل.
قوله جل ذكره: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
التوكل تفويض الأمر إلى الله، وأمارته ترك التدبير بشهود التقدير، والثقة بالموعود عند عدم الموجود. ويتبين ذلك بانتفاء الاضطراب عند عدم الأسباب.
ويقال التوكل السكون، والثقة بالمضمون.
ويقال التوكل سكون القلب بمضمون الرّبّ.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٨٩]
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩)
تورثكم مخالفتكم إياى فيما أدعوكم إليه من طاعة الله أن يلحقكم من أليم العقوبة ما أصاب من تقدّمكم من الذين سرتم على منهاجهم، وما عهدكم ببعيد بمن تحققتم كيف حلّت بهم العقوبة، وكيف أنهم ما زادتهم كثرة النصيحة إلّا غلوّا فى ضلالتهم، وعتوّا في جهالتهم، وكما قيل.
وكم صغت فى آثاركم من نصيحة وقد يستفيد البغضة المتنصّح
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٩٠]
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠)
الاستغفار هو التوبة.
ومعنى قوله «ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» أي توبوا ثم لا تنقضوا توبتكم فهو أمر باستدامة التوبة فإذا لم يتصل وفاء المآل بصفاء الحال لم يحصل قبول، وكأن لم يكن لما سلف حصول.
«إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ» : يرحم العصاة ويودّهم.
ويقال يرحمهم ولذلك يودونه فالودود يكون بمعنى المودود كحلوب بمعنى محلوب. والرحمة
تكون للعاصى لأنّ المطيع بوصف استحقاقه للثواب على طاعاته، ثم ليس كلّ من يحبّ السلطان فى محلّ الأكابر، فالأصاغر من الجند قد يحبون الملك، وأنشدوا:
ألا ربّ من يدنو ويزعم أنه يودّك، والنائى أودّ وأقرب
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢)
لاحظوا شعيبا بعين الاستصغار فحرموا فهم معانى الخطاب، وأقرّوا على أنفسهم بالجهل، وأحالوا إعفاءهم إياه من الأذى على حشمتهم من رهطه وعشيرته، فعاتبهم عليه: - قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ أترون من حقّ رهطى مالا ترون من حقّ ربى وإنّ ربى يكافئكم على أعمالكم بما تستوجبون فى جميع أحوالكم.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٣ الى ٩٥]
وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)
أرخى لهم ستر الإمهال فلمّا أصرّوا على تماديهم فى الغواية حلّت بهم العقوبة، وصاروا وكأن لم يكن بينهم نافخ نار، ولا فى ديار الظالمين ديّار، قال تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨)
كرّر قصة موسى عليه السلام تفخيما لشأنه، وتعظيما لأمره، وتنبيها على علوّ قدره عند الله وعلى مكانة الآيات التي أرسله بها، ومعجزاته الباهرة، وبراهينه القاهرة..
ويقال أصعب عدوّ قهره أولا نفسه، وقد دله- سبحانه- على ذلك لمّا قال: إلهى! كيف أطلبك؟
فقال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلى.
فنبّهه إلى استصغاره لنفسه، وانكساره لله بقلبه، فزادت صولته لما صار معصوما عن شهود فضل لنفسه والسلطان الذي خصّه به استولى على قلوب من رآه، كما قال: «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» «١» فما رآه أحد إلا أحبّه، ثم إنه لم يأخذه فى الله ضعف، مثلما لطم وجه فرعون- وهو رضيع- كما فى القصة، ولطم وجه ملك الموت لمّا طالبه بقبض روحه..
كما فى الخبر، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه لمّا رجع من سماع الخطاب عند المعاتبة، وأقدم بالجسارة على سؤال الرؤية، وقتل القبطىّ لما استعان به من وافقه فى العقيدة، وقال لله «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ» «٢» لمّا أخبره الحق بما عمله قومه من عبادة العجل بحكم الضلالة... ففى جميع هذا تجاوز الله عنه لما أعطاه من السلطان والقوة.
قوله جل ذكره: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ
(١) آية ٣٩ سورة طه.
(٢) آية ١٥٥ سورة الأعراف.
رضوا بمتابعة فرعون، فاستحقوا ما استحقه. لم يشعروا بخطئهم، وكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وإذا ما أوردهم النار فهو إمامهم، وسيعلمون ما أصابهم من الخسران حين لا ينفع تضرعهم وبكاؤهم ولا ينقطع عذابهم وعناؤهم، وتغلب خسارتهم وشقاؤهم- وذلك جزاء من كفر بمعبوده، وأسرف فى مجاوزة حدوده.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ٩٩]
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)
بعدوا فى عاجلهم من الإيمان، وفى آجلهم من الغفران والجنان. والذي لهم فى الحال من الفرقة أعظم- فى التحقيق- من الذي لهم فى المآل من الحرقة، وهذه صفة من امتحنه الله باللعنة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٠٠]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠)
لم يكن فى جملة من قصّ عليه من الأنبياء- عليهم السلام- من أكثر منه تبجيلا، ولا فيمن ذكره من الأمم أعظم من أمته تفضيلا، فكما تقدّم على الأنبياء- عليهم السلام تقدّمت أمته على الأمم، قال تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» «١» قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٠١]
وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١)
لا يجوز الظلم فى وصفه فتصرّفه فى ملكه بحقّ إلهيته- مطلق يحكم بحسب إرادته ومشيئته، ولا يتوجه حقّ عليه، فكيف يجوز الظلم فى وصفه؟
ويقال هذا الخطاب لو كان من مخلوق مع مخلوق لأشبه العذر، ولكن فى صفته لا يجوز العذر إذ الخلق خلقه، والملك ملكه، والحكم حكمه.
(١) الآية ١١٠ سورة آل عمران.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٠٢]
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢)
إنّ الحقّ- سبحانه- يمهل ولكن لا يهمل، ويحكم ولكن لا يعجّل، وهو لا يسأل عمّا يفعل.
وقيل إذا أخذ النفوس بالتوفيق فلا سبيل للخذلان إليها، وإذا أخذ القلوب بالتحقيق فلا طريق للحرمان عليها. قال تعالى: «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» «١».
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٠٣]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣)
مشهود يشهده من حشر من جميع الخلائق فى ذلك اليوم.
ويقال الأيام ثلاثة: يوم مفقود وهو أمس ليس بيدك منه شىء، ويوم مقصود وهو غد لا تدرى أتدركه أم لا، ويوم مشهود وهو اليوم الذي أنت فيه فالمفقود لا يرجع، والمقصود ربما لا تبلغ، والمشهود وقتك وهو معرّض للزوال... فاستغله فيما ينفع.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٠٤]
وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤)
الأجل لا يتقدّم ولا يتأخر لكل (... ) «٢»، والآجال على ما علمها الحقّ- سبحانه- وأرادها جارية فلا طلب يقدّم أو يؤخر وقتا إذا جاء أجله، وكذلك للوصول وقت، فلا طلب مع رجاء الوصول، ولا طلب مع خوف الزوال، ولقد قيل:
عيب السلامة أنّ صاحبها... متوقّع لقواصم الظّهر
وفضيلة البلوى ترقب أهلها... عقب البلاء- مسرّة الدهر
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٠٥]
يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥)
(١) آية ١٢ سورة البروج. [.....]
(٢) مشتبهة.
الشقىّ من قسم له الحرمان فى حاله، والسعيد من رزق الإيمان فى مآله.
ويقال الشقاء على قسمين: قوم شقاؤهم غير مؤيد، وقوم شقاؤهم على التأبيد، وكذلك القول فى السعادة. الشقىّ من هو فى أسر التدبير ونسيان جريان التقدير، والسعيد من رجع من ظلمات التدبير، وحصل على وصف شهود التقدير.
ويقال الشقىّ من كان فى رق العبودية ظانّا أنّ منه طاعاته، والسعيد من تحرر عن رقّ البشرية وعلم أن الحادثات كلها لله سبحانه.
وأمّا الأشقياء- على التأبيد- فهم أهل الخلود فى مقتضى الوعيد، والسعداء- على التأبيد- من قال الله تعالى فى صفتهم: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ».
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٧]
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧)
«إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» أن يزيد على مدّة السماوات والأرض.
«إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» أن ينقلهم إلى نوع آخر من العذاب غير الزفير والشهيق.
«إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» ألا تلحقهم تلك العقوبة قبل أن يدخلهم النار فلا استثناء لبعض أوقاتهم من العقوبة لا قبل إدخالهم فيها ولا بعده.
«إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» من إخراج أهل التوحيد من النار فيكون شقاؤهم غير مؤبّد.
قوله جل ذكره: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ فيه إشارة إلى أن الذي يحصل لهم يحصل بمشيئته لا باستحقاق عمل.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٠٨]
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)
لهم اليوم جنّات القربة، ولهم غدا جنّات المثوبة.
والكفار اليوم فى عقوبة الفرقة، وغدا فى عقوبة الحرقة.
«فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» فلا استثناء لبعض أوقات أهل الجنة من أول أمرهم قبل دخولهم الجنّة أو بعده. أو يحتمل أنه يزيد على مدة السماوات والأرض.
وفى قوله «عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» - أي عطاء غير مقطوع- دليل على أن تلك النعم غير مقطوعة ولا ممنوعة.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٠٩]
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)
لا يريد أنّه عليه السلام فى شك، ولكنه أراد به تحقيق كونهم مضاهين لآبائهم، كما تقول: لا شكّ أنّ هذا نهار.
ويقال الخطاب له والمراد به لأمّته.
«وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ» : نجازيهم على الخير بخير وعلى الشر بضر «١» قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١١٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠)
اختلفوا فى الكتاب الذي أوتى، وهو التوراة.
واختلفوا فى كونه رسولا، فمن مصدّق ومن مكذّب.
ثم أخبر أنه- سبحانه- حكم بتأخير العقوبة، ولولا حكمته لعجّل لهم العقوبة.
وفائدة الآية من هذا التعريف التخفيف على المصطفى- صلى الله عليه وسلم- فيما كان
(١) لم يقل القشيري: وعلى الشر بشر، وإنما استعمل (الضر) تأدبا من نأحية، ولأنه- حسب مذهبه الكلامى- لا ينسب (الشر) لله، من ناحية أخرى، وكما سنرى بعد قليل فى تفسيره للحسنة وللسيئة
يلقاه من قومه من التكذيب، ففى سماع قصة الأشكال- وبعضهم من بعض- سلوة، ولقد قيل:
أجارتنا إنّا غريبان هاهنا وكلّ غريب للغريب نسيب
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١١١]
وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)
أعاد ذكر الجزاء على الأعمال بالثواب والعقاب، وكرّر ذلك فى القرآن فى كثير من المواضع إبلاغا فى التحذير، وتنبيها على طريق الاعتبار بحسن التفكير.
ثم إن الجزاء على الأعمال معجّل ومؤجّل، وكلّ من أعرض عن الغفلة وجنح إلى وصف التيقظ وجد فى معاملاته- عاجلا- الربح لا الخسران، وآجلا الزيادة لا النقصان، وما يجده المرء فى نفسه أتمّ مما يدركه بعلمه بشواهد برهانه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١١٢]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)
يحتمل أن تكون السين فى الاستقامة سين الطلب أي سل من الله الإقامة لك على الحقّ.
ويحتمل أن تكون الإقامة فى الأمر بمعنى أقام عليه.
وحقيقة الاستقامة على الطاعة المداومة على القيام بحقّها من غير إخلال بها، فلا يكون فى سلوك نهج الوفاق انحراف عنه.
ويقال المستقيم من لا ينصرف عن طريقه، يواصل سيره بمسراه، وورعه بتقواه، ويتابع فى ترك هواه.
ويقال استقامة النفوس فى نفى الزّلّة، واستقامة القلوب فى نفى الغفلة، واستقامة الأرواح بنفي العلاقة، واستقامة الأسرار بنفي الملاحظة «١».
استقامة العابدين ألا يدخروا نفوسهم عن العبادة وألا يخلّوا بأدائها، ويقضون عسيرها ويسيرها. واستقامة الزاهدين ألا يرجوا من دنياهم قليلها ولا كثيرها. واستقامة التائبين
(١) تهمنا هذه العبارة عند تحديد الآفات التي تصيب الملكات الباطنة حسب مذهب القشيري.
ألا يلمّوا بعقوبة زلة فيدعون صغيرها وكبيرها... وعلى هذا النحو استقامة كلّ أحد.
قوله «وَمَنْ تابَ مَعَكَ» : أي فليستقم أيضا من معك.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١١٣]
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣)
لا تعملوا أعمالهم، ولا ترضوا بأعمالهم، ولا تمدحوهم على أعمالهم، ولا تتركوا الأمر بالمعروف لهم، ولا تأخذوا شيئا من حرام أموالهم، ولا تساكنوهم بقلوبكم، ولا تخالطوهم، ولا تعاشروهم... كل هذا يحتمله الأمر، ويدخل تحت الخطاب.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١١٤]
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤)
أي استغرق جميع الأوقات بالعبادات، فإنّ إخلالك لحظة من الزمان بفرض تؤديه، أو نفل تأتيه حسرة عظيمة وخسران مبين.
قوله «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» الحسنات ما يجود بها الحق، والسيئات ما يذنبها العبد، فإذا دخلت حسناته على قبائح العبد محتها وأبطلتها.
ويقال حسنات القربة تذهب بسيئات الزّلّة.
ويقال حسنات الندم تذهب بسيئات الجرم.
ويقال (انسكاب) «١» العبرة تذهب العثرة «٢».
ويقال حسنات العرفان تذهب سيئات العصيان.
ويقال حسنات الاستغفار تذهب سيئات الإصرار.
ويقال حسنات العناية تذهب سيئات الجناية.
ويقال حسنات العفو عن الإخوان تذهب الحقد عليهم.
ويقال حسنات الكرم تذهب سيئات الخدم.
(١) هكذا مصوبة فى الهامش وهى أصوب مما جاء فى المتن (ارتكاب).
(٢) وردت (العسرة) بالسين والأصوب (العثرة) لأنها تنسجم مع السياق.
ويقال حسن الظنّ بالناس يذهب سوأتهم بكم «١».
ويقال حسنات الفضل من الله تذهب سيئات حسبان الطاعة من أنفسكم.
ويقال حسنات الصدق تذهب بسيئات الإعجاب.
ويقال حسنات الإخلاص تذهب بسيئات الرياء.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١١٥]
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)
الصبر تجرّع كاسات التقدير من غير تعبيس.
ويقال الصبر حسن الإقبال على معانقة الأمر ومفارقة الزجر.
«فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» المحسن: العامل الذي يعلم أنّ الأجر على الصبر والطاعة بفضله- سبحانه- لا باستحقاق عمل.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١١٦]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦)
معناه لم يكن فيكم من هؤلاء الذين كانوا ينهون عن القبائح إلا قليل.
وقيل معناه لم يكن فيمن قبلكم من الأمم من ينهى عن الفساد، ويحفظ الدّين، ويطيعون أنبياءهم- إلا قليل.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١١٧]
وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)
أي لم يهلك الله أحدا كان مصلحا وإنما أهلك من كان ظالما.
(١) ربما يقصد القشيري من هذه العبارة الحث على الصفح عن عثرات الناس.
ويقال معناه: لو أهلك الله أهل القرى وهم مصلحون لم يكن ذلك ظلما من الله لأن الملك ملكه، والخلق عبيده.
ويقال «الْمُصْلِحِ» من قام بحقّ ربّه دون طلب حظّه.
ويقال: «الْمُصْلِحِ» من آثر نجاته على هلاكه.
ويقال مصلح تصلح نفسه طاعته، ومصلح تصلح قلبه معرفة سيّده، ومصلح تصلح سرّه مشاهدة سيّده.
قوله جل ذكره
[سورة هود (١١) : الآيات ١١٨ الى ١١٩]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)
لو شاء لجعلهم أرباب الوفاق ثم لا يوجبون لملكه زينّا، ولو شاء لجعلهم أرباب الخلاف ثم لا يوجبون لملكه شينا.
ثم قال: «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ» لأنه كذلك أراد بهم.
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ فى سابق حكمه فعصمهم عن الخلاف فى حاصل أمورهم، وأقامهم به، ونصبهم له، وأثبتهم فى الوفاق والمحبة والتوحيد.
قوله جل ذكره وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي لا تبديل لقوله، ولا تحويل لحكمه.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٢٠]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)
سكّن قلبه بما قصّ عليه من أنباء المرسلين، وعرّفه أنه لم يرقّ أحدا إلى المحلّ الذي رقّاه إليه، ولم ينعم على أحد بمثل ما أنعم عليه.
ويقال قصّ عليه قصص الجميع، ولم يذكر قصته لأحد تعريفا له وتخصيصا. ويقال لم يكن ثبات قلبه بما قصّ عليه ولكن لاستقلال قلبه بمن كان يقص عليه، وفرق بين من يعقل بما يسمع وبين من يستقل بمن منه يسمع، وأنشدوا:
وحدّثتنى يا سعد عنها فزدتنى حنينا فزدنى من حديثك يا سعد
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٢١ الى ١٢٢]
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢)
إن الذين يجحدون التوحيد، ويؤثرون على الحقّ غير الحق، ولم يصدّقوا الوعيد، يوشك أن ينصبّ عليهم الانتقام فيغرقون فى بحار العقوبة، ويسقطون فى وهاد الهوان، فلا لويلهم انتهاء، ولا لذلّهم انقضاء.
قوله جل ذكره:
[سورة هود (١١) : آية ١٢٣]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)
عمّى عن قلوبهم العواقب، وأخفى دونهم السوابق، وألزمهم القيام بما كلّفهم فى الحال، فقال: «فَاعْبُدْهُ» فإن تقسّم القلب وترجّم الظّنّ وخيف سوء العاقبة.. فتوكّل عليه أي استدفع البلاء عنك بحسن الظّنّ، وجميل الأمل، ودوام الرجاء.
«وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» : أحاط بكل شىء علما، وأمضى فى كل أمر حكما.
السورة التي يذكر فيها يوسف عليه السلام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الاسم «١» من وسم فمن وسم ظاهره بالعبودية، وسرائره بمشاهدة الربوبية فقد سمت همّته إلى المراتب العليّة، وأزلفت رتبته من المنازل السنيّة.
أو أن الاسم مشتق من السّمة أو من السموّ
(١) ربما كان القشيري فى شرحه لمعنى (الاسم) متأثرا بالجو العام للسورة، وما حدث لكل من يوسف وإخوته من أحداث.
Icon