تفسير سورة إبراهيم

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ (٣) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥)
شرح الكلمات:
آلر: هذا أحد الحروف المقطعة تكتب آلر وتقرأ ألف لاَمْ رَا والتفويض فيها أسلم وهو قول الله أعلم بمراده بذلك١.
كتاب: أي هذا كتاب عظيم.
أنزلناه إليك: يا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
من الظلمات: أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
العزيز الحميد: أي المحمود بآلائه.
عن سبيل الله: أي الإسلام.
عوجاً: أي معوجَّة.
بآياتنا: أي المعجزات التسع: العصا، اليد، الطوفان، الجراد، القمل،
١ هذا مذهب السلف وهو: تفويض لهم معناها إلى الله تعالى منزلها ويعدونها من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل. وهو أسلم من القول بالإجهاد الفكري.
39
الضفادع، الدم، والطمس والسنين ونقص الثمرات.
وذكرهم بأيام الله: أي ببلائه ونعمائه.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿آلر﴾ الله أعلم بمراده وقوله: ﴿كتاب أنزلناه﴾ أي هذا كتاب عظم القدر أنزلناه إليك يا رسولنا لتخرج الناس١ من الظلمات أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم الشرعي، وذلك ﴿بإذن ربهم﴾ أي بتوفيقه ومعونته ﴿إلى صراط العزيز الحميد﴾ أي إلى طريق العزيز٢ الغالب الحميد أي المحمود بآلائه وافضالاته على عباده وسائر مخلوقاته ﴿الله٣ الذي له ما في السموات وما في الأرض﴾ خلقا وملكا وتصريفا وتدبيرا، هذا هو الله صاحب الصراط الموصل إلى الإسعاد والإكمال البشرى، والكافرون معرضون بل ويصدون عنه فويل لهم من عذاب شديد، الكافرون ﴿الذين يستحبون الحياة الدنيا﴾ ٤ أي يفضلون الحياة الدنيا فيعملون للدنيا ويتركون العمل للآخرة لعدم إيمانهم بها ﴿ويصدون﴾ أنفسهم وغيرهم أيضاً ﴿عن سبيل الله﴾ أي الإسلام ﴿ويبغونها عوجاً﴾ أي معوجة إنهم يريدون من الإسلام أن يوافقهم في أهوائهم وما يشتهون حتى يقبلوه ويرضوا به دينا قال تعالى: ﴿أولئك في ضلال بعيد﴾ إنهم بهذا السلوك المتمثل في إيثار الدنيا على الآخرة والصد عن الإسلام، ومحاولة تسخير الإسلام لتحقيق أطماعهم وشهواتهم في ضلال بعيد لا يمكن لصاحبه أن يرجع منه إلى الهدى، وقوله تعالى في الآية (٤) من هذا السياق ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه﴾ ٥ أي بلغتهم التي يتخاطبون بها ويتفاهمون لحكمة أن يبين لهم، والله بعد ذلك يضل من يشاء إضلاله
١ لتخرج الناس: أي: بالقرآن العظيم الذي أنزلناه عليك.
٢ الطريق هو الإسلام دين الله الذي لا يقل دينا غيره.
٣ قرأ نافع برفع اسم الجلالة، وقرأ الجمهور بالجر، واستجب بعضهم الجر إذا وصل والرفع إذا وقف وهو حسن ومن وصل وقف على وما في الأرض.
٤ قال ابن عباس وغيره: كل من آثر الدنيا وزهرتها واستحب البقاء في نعيمها على نعيم الآخرة وصد عن سبيل الله أي: صرف نفسه وغيره عن طاعة الله ورسوله فهو داخل في هذه الآية، وهي ذات وعيد شديد.
٥ لا حجة لغير العرب في هذه الآية إذ كل من ترجم له الإسلام بلغته وجب عليه الدخول فيه والحمل بشرائعه ليكمل ويسعد، وقد استعمرت برطانيا نصف العالم فتكلم الناس بلغتها وتعاملوا بها وهي لغة دنيا لا غير. فالواجب على غير العربي أن يتعلم لغة الإسلام ما أمكنه ذلك.
40
حسب سنته في الإضلال ويهدي من يشاء كذلك ﴿وهو العزيز﴾ الغالب الذي لا يمانع في شيء أراده ﴿الحكيم١﴾ الذي يضع كل شيء في موضعه فلذا هو لا يضل إلا من رغب في الإضلال وتكلف له وأحبه وآثره، وتنكر للهدى وحارب المهتدين والداعين إلى الهدى، وليس من حكمته تعالى أن يضل من يطلب الهدى ويسعى إليه ويلتزم طريقه. ويحبه ويحب أهله، وقوله تعالى: ﴿ولقد أرسلنا موسى﴾ أي موسى نبي بني إسرائيل ﴿بآياتنا﴾ أي بحججنا وأدلتنا الدالة على رسالته والهادية إلى ما يدعو إليه وهي تسع آيات منها اليد والعصى ﴿أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور﴾ ٢ أي أخرج قومك من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ﴿وذكرهم بأيام الله﴾ ٣ أي وقلنا له: ذكرهم بأيام الله وهي بلاؤه ونعمه إذ أنجاهم من عذاب آل فرعون وأنعم عليهم بمثل المن والسلوى، وذلك ليحملهم على الشكر لله بطاعته وطاعة رسوله، وقوله تعالى: ﴿إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور﴾ أي إن في ذلك التذكير بالبلاء والنعماء لدلالات يستدل بها على إفضال الله وإنعامه الموجب للشكر، ولكن الذين يجدون تلك الدلالات في التذكير هم أهل الصبر والشكر بل هم الكثيروا الصبر٤ والشكر، وأما غيرهم فلا يرى في ذلك دلالة ولا علامة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- إقامة الحجة على المكذبين بالقرآن الكريم، إذ هو مؤلف من الحروف المقطعة مثل آلر وطسم وآلم وحم، ولم يستطيعوا أن يأتوا بمثله بل بسورة مثله.
٢- بيان أن الكفر ظلام والإيمان نور.
٣- بيان الحكمة في إرسال الله تعالى الرسل بلغات أقوامهم.
١ من مظاهر حكمته أنه ختم الرسالة برسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وواجب على البشرية كلها الإيمان به ويما جاء به ومن أبى دخل النار، فقد روى مسلم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار". فوحد بذلك البشرية توحيداً روحياً واجتماعياً وسياسياً لو أنها آمنت بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذت بهدايته لحصل لها من الكمال والإسعاد ما لم يخطر على بال.
٢ أن: تفسيرية فسرت الإرسال لأنه فيه معنى القول.
٣ التذكير إزالة نسيان شيء، ويكون بتعليم مجهول كان شأنه أن يعلم، ولما ضمّن التذكير معنى الإنذار والوعظ عدي بالباء أي: ذكرهم تذكير عظة بأيام الله.
٤ الصبر مع البلاء، والشكر مع الرخاء، وخير الناس من إذا ابتلى صبر وإذا أعطي شكر ولا يكون كذلك إلاّ ذو علم وبصيرة.
41
٤- تقرير أن الذي يخلق الهداية هو الله وأما العبد فليس له أكثر من الكسب.
٥- فضيلة التذكير بالخير والشر ليشكر الله ويتقى.
٦- فضيلة الصبر والشكر.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)
شرح الكلمات:
وإذ قال موسى: أي اذكر إذ قال موسى.
يسومونكم: يذيقونكم.
ويستحيون نساءكم: أي يستبقونهنَّ.
42
بلاء من ربكم عظيم: أي ابتلاء واختبار، ويكون بالخير والشر.
وإذ تأذن ربكم: أي أعلم ربكم.
بالبينات: بالحجج الواضحة على صدقهم في دعوة النبوة والتوحيد والبعث الآخر.
فردوا أيديهم في أفواههم: أي فرد الأمم أيديهم في أفواههم أي أشاروا إليهم أن اسكتوا.
مريب: موقع في الريبة.
معنى الآيات:
﴿وإذ قال موسى لقومه﴾ أي اذكر يا رسولنا إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل ﴿اذكروا نعمة الله عليكم﴾ أي لتشكروها بتوحيده وطاعته، فإن من ذكر شكر وبين لهم نوع النعمة وهي إنجاؤهم من فرعون وملائه إذ كانوا يعذبونهم بالاضطهاد والاستعباد، فقال: ﴿يسومونكم سوء العذاب﴾ أي يذيقونكم سوء العذاب وهو أسوأه وأشده، ﴿ويذبحون أبناءكم﴾ أي الأطفال المولودين، لأن الكهنة أو رجال السياسة قالوا لفرعون: لا يبعد أن يسقط عرشك وتزول دولتك على أيدي رجل من بني إسرائيل قامر بقتل المواليد فور ولادتهم فيقتلون الذكور ويستبقون الإناث للخدمة ولعدم الخوف منهن وهو معنى قوله: ﴿ويستحيون نساءكم﴾ وقوله تعالى: ﴿وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم﴾ فهو بالنظر إلى كونه عذابا بلاء بالشر، وفي كونه نجاة منه، بلاء بالخير، وقوله تعالى: ﴿وإذ تأذن١ ربكم﴾ هذا من قول موسى لبني إسرائيل أي أذكر لهم إذ أعلم ربكم مقسماً لكم ﴿لئن شكرتم﴾ ٢ نعمي بعبادتي وتوحيدي فيها وطاعتي وطاعة رسولي بامتثال الأوامر واجتناب النواهي ﴿لأزيدنكم﴾ في الإنعام والإسعاد ﴿ولئن كفرتم﴾ فلم تشكروا نعمي فعصيتموني وعصيتم رسولي أي لأسلبنها منكم وأعذبكم بسلبها من أيديكم {إن عذابي
١ أي: تكلم تكلماً علناً وهو يناجي موسى عليه السلام بجبل الطور وأذّن وتأذن أعلم، ومنه الأذان للصلاة، قال الشاعر:
فلم نشعر بضوء الصبح حتى
سمعنا في مجالسنا الأذينا
٢ سئل بعض الصالحين عن الشكر لله تعالى فقال: ألاّ تتقوى بنعمه على معاصيه وحكي أن داود عليه السلام أنه قال: أي ربي كيف أشكرك وشكري لك نعمة متجددة منك عليّ؟ قال: "يا داود: الآن شكرتني"، وعيه فالشكر الاعتراف بالنعمة للمنعم ولا يصرفها في غير طاعته.
43
لشديد} فاحذروه واخشوني فيه، وقوله تعالى: ﴿وقال موسى﴾ أي لبني إسرائيل ﴿إن تكفروا أنتم﴾ نعم الله فلم تشكروها بطاعته ﴿ومن في الأرض جميعاً﴾ وكفرها من في الأرض جميعاً ﴿فإن الله لغني﴾ عن سائر خلقه لا يفتقر إلى أحد منهم١ ﴿حميد﴾ أي محمود بنعمه على سائر خلفه، وقوله: ﴿ألم يأتكم﴾ هذا قول موسى لقومه وهو يعظهم ويذكرهم: ﴿ألم يأتكم٢ نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم﴾ أي لا يعلم عددهم ولا يحصيهم٣ ﴿إلا الله﴾ ﴿جاءتهم رسلهم بالبينات﴾ أي بالحجج والبراهين على صدق دعوتهم وما جاء به من الدين الحق ليعبد الله وحده ويطاع وتطاع رسله فيكمل الناس بذلك ويسعدوا، وقوله: ﴿فردوا أيديهم﴾ أي ردت الأمم المرسل إليهم أيديهم إلى أفواههم تغيظاً على أنبيائهم وحنقاً، أو أشاروا إليهم بالسكوت فأسكتوهم رداً لدعوة الحق التي جاؤوا بها، وقالوا لهم: ﴿إنا كفرنا بما أرسلتم به﴾ أي بما جئتم به من الدين الإسلامي والدعوة إليه، ﴿وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب﴾ أي موقع في الريبة التي هي قلق النفس واضطرابها لعدم سكونها للخبر الذي يلقى إليها، هذا وما زال السياق طويلاً وينتهي بقوله تعالى: ﴿واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- مشروعية التذكير بنعم الله لنشكر ولا نكفر.
٢- وعد الله تعالى بالمزيد من النعم لمن شكر نعم الله عليه.
٣- كفر النعم سبب زوالها.
٤- بيان غنى الله تعالى المطلق على سائر خلقه فالناس إن شكروا شكروا لأنفسهم وإن كفروا كفروا على أنفسهم أي شكرهم ككفرهم عائد على أنفسهم.
٥- التذكير بقصص السابقين وأحوال الغابرين مشروع وفيه فوائد عظيمة.
١ أي: لا يلحقه نقص بكفر الناس ولو كفروا أجمعون.
٢ صالح لأن يكون من قول موسى عليه السلام، ومن قول الله تعالى تعليماً لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٣ ولا يعرف أنسابهم كذلك إلاّ الله وفي الحديث: " كذب النسابون إن الله يقول لا يعلمهم إلا الله" قاله لمّا زاد النسابون على معد بن عدنان، وقال: "لا ترفعوني فوق عدنان".
44
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (١٠) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (١٤)
شرح الكلمات:
أفي الله شك: أي لا شك في وجود الله ولا في توحيده، إذ الاستفهام إنكاري.
إلى أجل مسمى: أي إلى أجل الموت.
بسلطان مبين: بحجة ظاهرة تدل على صدقكم.
45
يمن على من يشاء: أي بالنبوة والرسالة على من يشاء لذلك.
وقد هدانا سبلنا: أي طرقه التي عرفناه بها وعرفنا عظيم قدرته وعز سلطانه.
لنخرجنكم من أرضنا: أي من ديارنا أو لتعودون في ديننا.
لمن خاف مقامي: أي وقوفه بين يدي يوم القيامة للحساب الجزاء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ما ذكر به موسى قومه بقوله: ﴿ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح.....﴾ فقوله تعالى: ﴿قالت رسلهم﴾ أي قالت الرسل إلى أولئك الأمم الكافرة ﴿أفي الله شك١﴾ ؟ أي كيف يكون في توحيد الله شك وهو فاطر السموات٢ والأرض، فخالق السموات والأرض وحده لا يعقل أن يكون له شريك في عبادته، انه لا إله إلا هو وقوله: ﴿يدعوكم﴾ إلى الإيمان والعمل الصالح الخالي من الشرك ﴿ليغفر لكم من٣ ذنوبكم﴾ وهو كل ذنب بينكم وبين ربكم من كبائر الذنوب وصغائرها أما مظالم الناس فردوها إليهم تغفر لكم وقوله: ﴿ويؤخركم إلى أجل مسمى﴾ أي يؤخر العذاب عنكم لتموتوا بآجالكم المقدرة لكم، وقوله: ﴿قالوا﴾ أي قالت الأمم الكافرة لرسلهم ﴿إن أنتم إلا بشر مثلنا﴾ أي٤ ما أنتم إلا بشر مثلنا، ﴿تريدون أن تصدونا﴾ أي تصرفونا ﴿عما كان يعبد آباؤنا﴾ من آلهتنا أي أصنامهم وأوثانهم التي يدَّعون أنها آلهة، وقولهم: ﴿فأتونا بسلطان مبين﴾ قال الكافرون للرسل ائتونا بسلطان مبين أي بحجة ظاهرة تدل على صدقكم أنكم رسل الله إلينا فأجابت الرسل قائلة ما أخبر تعالى به عنهم بقوله: ﴿قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم﴾ أي ما نحن إلا بشر مثلكم فمالا تستطيعونه أنتم لا نستطيعه نحن ﴿ولكن الله يمن على من٥ يشاء﴾ أي إلا أن الله يمن على من يشاء بالنبوة
١ الاستفهام إنكاري أي: لا شك في الله، أي في وجوده، وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة لألوهيته، وهي عبادته وحده لا شريك له.
٢ هذا الوصف الكامل لله وهو مقتضى وجوده وألوهيته عزّ وجل.
٣ على ما في التفسير (من) للتبعيض، ويصح أن تكون زائدة، والمغفرة لكل الذنوب لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله من سائر الذنوب.
٤ أي: في الهيئة تأكلون كما نأكل وتشربون كما نشرب، وتمرضون، وتصحون مثلنا ولستم ملائكة.
٥ ومما منّ الله به عليهم، الحكمة والمعرفة والهداية إلى ما يوجب رضاه ومحبّته؟ وقيل: إنّ أعظم ما يمن به الله تعالى على عبده ذكره بأسمائه وصفاته.
46
فمن علينا بها فنحن ننبئكم بما أمرنا الله ربنا وربكم أن ننبئكم به كما نأمركم وندعوكم لا من تلقاء أنفسنا ولكن بما أمرنا أن نأمركم به وندعوكم إليه، ﴿وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله﴾ أي بإرادته وقدرته فهو ذو الإرادة التي لا تحد والقدرة التي لا يعجزها شيء ولذا توكلنا عليه وحده وعليه ﴿فليتوكل المؤمنون﴾ فإنه يكفيهم كل ما يهمهم، ثم قالت الرسل وهي تعظ أقوامها بما تقدم: ﴿وما لنا ألا نتوكل١ على الله وقد هدانا سبلنا﴾ أي طرقنا التي عرفناه بها وعرفنا عظمته وعزة سلطانه فأي شيء يجعلنا لا نتوكل عليه وهو القوي العزيز ﴿ولنصبرن على ما آذيتمونا﴾ بألسنتكم وأيديكم متوكلين على الله حتى ينتقم الله تعالى لنا منكم، ﴿وعلى الله فليتوكل المتوكلون﴾ إذ هو الكافل لكل من يثق فيه ويفوض أمره إليه متوكلا عليه وحده دون سواه، وقوله تعالى: ﴿وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا﴾ هذا إخبار منه تعالى على ما قالت الأمم الكافرة لرسلها: قالوا موعدين مهددين بالنفي والإبعاد من البلاد لكل من يرغب عن دينهم ويعبد غير آلهتهم: ﴿لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا﴾ أي ديننا الذي نحن عليه وهنا أوحى الله تعالى إلى رسله بما أخبر تعالى به: ﴿فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم﴾ قال لنهلكن الظالمين ولم يقل لنهلكنهم إشارة إلى علة الهلاك وهي الظلم الذي هو الشرك والإفساد ليكون ذلك عظة للعالمين، وقوله تعالى: ﴿ذلك﴾ أي الإنجاء للمؤمنين والإهلاك للظالمين جزاءً٢ ﴿لمن خاف مقامي٣﴾ أي الوقوف بين يدي يوم القيامة ﴿وخاف وعيد﴾ على ألسنة رسلي بالعذاب لمن كفر بي وأشرك في عبادتي ومات على غير توبة إلىَّ من كفره وشركه وظلمه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بطلان الشك في وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته ووجوب عبادته وحده وذلك لكثرة
١ وما: اسم استفهام مبتدأ، وما بعدها في موضع الحال، والتقدير: أي شيء لنا في ترك التوكل على الله؟ والاستفهام إنكاري.
٢ وإسكان الصالحين الأرض بعد إهلاك الظالمين.
٣ المقام: مصدر ميمي وقوله ﴿مقامي﴾ : أي قيامه بين يديّ للحساب، والوعيد هو عذاب النار، وقيل: مقامي: أي قيامي عليه، ومراقبتي له والمعنى إذاً خافني وراقبني، وهو معنى صحيح، والخوف من الله ومراقبته موجبة للصلاح المورث للأرض والدولة لقوله تعالى: ﴿إن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾.
47
الأدلة وقوة الحجج، وسطوع البراهين.
٢- بيان ما كان أهل الكفر يقابلون به رسل الله والدعاة إليه سبحانه وتعالى وما كانت الرسل ترد به عليهم.
٣- وجوب التوكل على الله تعالى، وعدم صحة التوكل على غيره إذ لا كافي إلا الله.
٤- وجوب الصبر على الأذى في سبيل الله وانتظار الفرج بأخذ الظالمين.
٥- عاقبة الظلم وهي الخسران والدمار لا تتبدل ولا تتخلف وإن طال الزمن.
وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠)
شرح الكلمات:
واستفتحوا: أي طلب الرسل الفتح لهم أي النصر على أقوامهم الظالمين.
وخاب: أي خسر وهلك.
48
كل جبار عنيد: أي ظالم يجبر الناس على مراده عنيد كثير العناد.
من ماء صديد: أي هو ما يخرج سائلاً من أجواف أهل النار مختلطاً من قيح ودم وعرق.
يتجرعه ولا يكاد يسيغه: أي يبتلعه مرة بعد مرة لمرارته ولا يقارب ازدراده لقبحه ومراراته.
ويأتيه الموت من كل مكان: أي لشدة ما يحيط به من العذاب فكل أسباب الموت حاصلة ولكن لا يموت.
أعمالهم كرماد: أي الصالحة منها كصلة الرحم وبر الوالدين وإقراء الضيف وفك الأسير والفاسدة كعبادة الأصنام بالذبح لها والنذر والحلف والعكوف حولها كرماد.
لا يقدرون مما كسبوا على شيء: أي لا يحصلون من أعمالهم التي كسبوها على ثواب وإن قل لأنها باطلة بالشرك.
وما ذلك على الله بعزيز: أي بصعب ممتنع عليه.
معنى الآيات:
هذا آخر حديث ما ذكر به موسى قومه من أنباء الأمم السابقة على بنى إسرائيل، قال تعالى في الإخبار عنهم: ﴿واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد﴾ أي واستفتح الرسل أي طلبوا من الله تعالى أن يفتح عليهم١ بنصر على أعدائه وأعدائهم واستجاب الله لهم، ﴿وخاب كل جبار عنيد١﴾ أي خسر وهلك كل ظالم طاغ معاند للحق وأهله، وقوله٢: ﴿من ورائه جهنم٣﴾ أي أمامه جهنم تنتظره سيدخلها بعد هلاكه ويعطش ويطلب الماء
١ كقولهم: ﴿ربنا افتح بينا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين﴾ قالها شعيب والمؤمنون معه، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو طالباً نصره وهزيمة أعدائه.
٢ العنيد: المعاند للحق، والجبار: المتعاظم الشديد التكبر، وقيل هو من يجبر الناس على مراده، وهو وصف مذموم لغير الله تعالى.
٣ لفظ وراء يطلق على ما كان خلفاً وما كان أماماً، لأنّ كل ما ووري أي: استتر فهو وراء. وقوله: ﴿من ورائه جهنم﴾ : صفة لجبار عنيد، والوراء مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من بعد، قال الشاعر:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
أي بعده.
49
فتسقيه الزبانية ﴿من ماء صديد١﴾ أي وهو صديد أهل النار وهو ما يخرج من قيح ودم وعرق، ﴿يتجرعه﴾ أي يبتلعه جرعة بعد أخرى لمرارته٢ ﴿ولا يكاد يسيغه﴾ أي يدخله جوفه الملتهب عطشاً لقبحه ونتنه ومرارته وحرارته، وقوله تعالى: ﴿ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت﴾ أي ويأتي هذا الجبار العنيد والذي هو في جهنم يقتله الظمأ فيسقى بالماء الصديد يأتيه الموت لوجود أسبابه وتوفرها من كل مكان إذ العذاب محيط به من فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وما هو بميت لأن الله تعالى لم يشأ ذلك قال تعالى: ﴿لا يموت فيها ولا يحيا﴾ وقال: ﴿لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها﴾ ومن وراء ذلك العذاب الذي هو فيه ﴿عذاب﴾ أي لون آخر من العذاب ﴿غليظ﴾ أي شديد لا يطاق، وقوله تعالى: ﴿مثل٣ الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد٤ اشتدت به الريح في يوم عاصف﴾ أي من شديد هبوب الريح فيه ﴿لا يقدرون مما كسبوا﴾ أي من أعمال في الدنيا ﴿على شيء﴾ أي من الثواب والجزاء الحسن عليها، هذا مثل أعمالهم الصالحة كأنواع الخير والبر والطالحة كالشرك والكفر وعبادة غير الله مما كانوا يرجون نفعه، الكل يذهب ذهاب رماد حملته الريح وذهبت به، مشتدة في يوم عاصف شديد هبوب الريح فيه.
وقوله تعالى: ﴿ذلك هو الضلال البعيد﴾ أي ذلك الذي دل عليه المثل هو الضلال البعيد لمن وقع فيه إذ ذهب كل عمله سدى بغير طائل فلم ينتفع بشيء منه وأصبح من الخاسرين.
وقوله تعالى: ﴿ألم٥ تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق﴾ أي ألم تعلم أيها الرسول أن الله خلق السموات والأرض بالحق أي من أجل الإنسان ليذكر الله تعالى ويشكره فإذا تنكر لربه فكفر به وأشرك غيره في عبادته عذبه بالعذاب الأليم الذي تقدم
١ الصديد: المهلة، أي مثل الماء يسيل من الدمل ونحوه والتجرّع: تكلّف الجرع والجرع: بلع الماء.
٢ روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال قوله تعالى ﴿يسقى من ماء صديد يتجرّعه..﴾ قال: "يقرّب إلى فيه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره.." الخ رواه الترمذي واستغربه.
٣ المثل: الحال العجيبة أي حال أعمالهم كرماد.
٤ الرماد: ما يبقى من احتراق الحطب والفحم، ضرب الله في هذه الآية مثلاً لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف.
٥ الرؤية هنا: رؤية القلب وهي العلمية.
50
وصفه في هذا السياق لأن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض عبثاً وباطلاً بل خلقهما وخلق ما فيهما من أجل أن يذكر فيهما ويشكر فمن ترك الذكر والشكر عذبه أشد العذاب وأدومه وأبقاه، وقوله تعالى: ﴿إن يشأ يذهبكم﴾ أيها الناس المتمردون على طاعته المشركون به ﴿ويأت بخلق جديد١﴾ غيركم يعبدونه ويوحدونه ﴿وما ذلك على الله بعزيز﴾ أي بممتنع ولا متعذر لأن الله على كل شيء قدير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- إنجاز وعد الله لرسله في قوله: ﴿فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين﴾ الآية.
٢- خيبة وخسران عامة أهل الشرك والكفر والظلم.
٣- عظم عذاب يوم القيامة وشدته.
٤- بطلان أعمال المشركين والكافرين وخيبتهم فيها إذ لا ينتفعون بشيء منها.
٥- عذاب أهل الكفر والشرك والظلم لازم لأنهم لم يذكروا ولم يشكروا والذكر والشكر علة الوجود كله فلما عبثوا بالحياة استحقوا عذاباً أبدياً.
وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (٢١) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ
١ أي: أفضل منكم وأطوع وما في التفسير أدل على المقصود.
51
بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ (٢٣)
شرح الكلمات:
وبرزوا لله جميعاً ١: أي برزت الخلائق كلها لله وذلك يوم القيامة.
إنا كنا لكم تبعاً: أي تابعين لكم فيما تعقتدون وتعملون.
فهل أنتم مغنون عنا: أي دافعون عنا بعض العذاب.
ما لنا من محيص.: أي من ملجأ ومهرب أو منجا.
لما قضي الأمر: بإدخال أهل الجنة، الجنة وأهل النار النار.
ما أنا بمصرخكم: أي بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب والكرب.
تجري من تحتها الأنهار: أي من تحت قصورها وأشجارها الأنهار الأربعة: الماء واللبن والخمر والعسل.
معنى الآيات:
في هذه الآيات عرض سريع للموقف وما بعده من استقرار أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة يقرر مبدأ الوحي والتوحيد والبعث الآخر بأدلة لا ترد، قال تعالى: ﴿وبرزوا لله جميعاً﴾ أي خرجت البشرية من قبورها مؤمنوها وكافروها صالحوها وفاسدوها ﴿فقال الضعفاء﴾ أي الأتباع ﴿للذين استكبروا﴾ أي الرؤساء والموجهون للناس بما لديهم من قوة وسلطان ﴿إنا كنا لكم تبعا٢﴾ أي أتباعاً في عقائدكم وما تدينون به، ﴿فهل
١ البروز: الظهور، وهو هنا الخروج من القبور والظهور خارجها للحشر حيث فصل القضاء، ومن هذا قولهم: امرأة برزة أي تظهر للناس.
٢ {تبعاً﴾ : يصح أن يكون مصدرا أي: ذوي. تبع، ويجوز أن يكون جمع تابع مثل: حرس وحارس، وخدم وخادم.
52
أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء} ؟ أي فهل يمكنكم أن ترفعوا عنا بعض العذاب بحكم تبعيتنا لكم فأجابوهم بما أخبر تعالى به عنهم؟ ﴿قالوا لو هدانا الله لهديناكم﴾ ١ اعترفوا الآن أن الهداية بيد الله وأقروا بذلك، ولكنا ضللنا فأضللناكم ﴿سواء علينا أجزعنا﴾ اليوم ﴿أم صبرنا مالنا من محيص﴾ ٢ أي من مخرج من هذا العذاب ولا مهرب، وهنا يقوم إبليس خطيبا فيهم٣ بما أخبر تعالى عنه بقوله: ﴿وقال الشيطان﴾ أي إبليس عدو بنى آدم ﴿لما قضي الأمر﴾ بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأدخل أهل النار النار ﴿إن الله وعدكم عد الحق٤﴾ بأن مم آمن وعمل صالحاً مبتعدا عن الشرك والمعاصي أدخله جنته وأكرمه في جواره، وأن من كفر وأشرك وعصى أدخله النار وعذبه عذاب الهون في دار البوار ﴿ووعدتكم﴾ بأن وعد الله ووعيده ليس بحق ولا واقع ﴿فأخلفتكم﴾ فيما وعدتكم به، وكنت في ذلك كاذباً عليكم مغرراً بكم، ﴿وما كان لي عليكم من سلطان﴾ أي من قوة مادية أكرهتكم بها على اتباعي ولا معنوية ذات تأثير خارق للعادة أجبرتكم بها على قبول دعوتي ﴿إلا أن دعوتكم﴾ أي لكن دعوتكم ﴿فاستجبتم لي﴾ إذاً ﴿فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم﴾ أي بمزيل صراخكم بما أغيثكم به من نصر وخلاص من هذا العذاب ﴿وما أنتم﴾ أيضاً ﴿بمصرخي٥﴾، أي بمغيثيَّ ﴿إني كفرت بما أشركتمون من٦ قبل﴾ إذ كل عابد لغير الله في الواقع هو عابد للشيطان إذ هو الذي زين له ذلك ودعاه إليه، و ﴿إن الظالمين لهم عذاب أليم﴾ أي المشركين لهم عذاب أليم موجع، وقوله تعالى: ﴿وأدخل٧ الذين آمنوا﴾ أي وأدخل الله الذين آمنوا أي صدَّقوا بالله وبرسوله وبما جاء به رسوله ﴿وعملوا الصالحات﴾ وهي العبادات التي تَعَبَّدَ الله بها عباده فشرعها
١ أي: لو هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه أو لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها.
٢ المحيص: مصدر ميمي كالمغيث والمشيب من غاب وشاب، وكذلك حاص يحيص حيصاً عن كذا: هرب ونجا، ويجوز أن يكون المحيص هنا اسم مكان أي: ما لنا من مكان نلجأ إليه وننجو فيه.
٣ أي: على منبر من نار.
٤ ﴿وعد الحق﴾ : يعني البعث والجنة والنار، وثواب المطيع وعقاب العاصي. فصدقكم وعده، ووعدتكم ألا بعث ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب. فأخلفتكم.
(الصارخ) : والمستصرخ هو الذي يطلب النصر والمعاونة، المصرخ هو المغيث قال الشاعر:
ولا تجزعوا إني لكم غير مصرخ
وليس لكم عندي غَنَاء ولا نصر
٦ ﴿بما أشركتمونِ﴾ : الميم مصدرية والتقدير كفرت بإشراككم إيّاي مع الله تعالى.
٧ لمّا أخبر تعالى بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة وهو أسلوب الترغيب والترهيب الذي امتاز به القرآن الكريم لأته كتاب هداية وإصلاح.
53
في كتابه وعلى لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿جنات﴾ ١ بساتين ﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ أي من خلال قصورها وأشجارها أنهار الماء واللبن والخمر والعسل ﴿خالدين فيها﴾ لا يخرجون منها ولا يبغون عنها حولاً، وقوله تعالى: ﴿بإذن ربهم﴾ ٢ أي أن ربهم هو الذي أذن لهم بدخولها والبقاء فيها أبداً، وقوله: ﴿تحيتهم فيها سلام﴾ أي السلام عليكم يحييهم ربهم وتحييهم الملائكة ويحيى بعضهم بعضا بالسلام وهي كلمة دعاء بالسلامة من كل العاهات والمنغصات وتحية بطلب الحياة الأبدية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان أن التقليد والتبعية لا تكون عذراً لصاحبها عند الله تعالى.
٢- بيان أن الشيطان هو المعبود من دون الله تعالى إذ هو الذي دعا إلى عبادة غير الله وزينها للناس.
٣- تقرير لعلم الله بما لم يكن كيف يكون إذ ما جاء في الآيات من حوار لم يكن بعد ولكنه في علم الله كائن كما هو وسوف يكون كما جاء في الآيات لا يتخلف منه حرف واحد.
٤- وعيد الظالمين بأليم العذاب.
٥- العمل لا يدخل الجنة إلا بوصفه سبباً لا غير، وإلا فدخول الجنة يكون بإذن الله تعالى ورضاه.
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (٢٤)
١ ﴿جنات﴾ : جمع جنة، وجنات: منصوب على نزع الخافض أي: في جنات لأنّ دخل كخرج لا يتعدى إلا بحرف الجر.
٢ أي: بمشيئته وتيسيره.
54
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاء (٢٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (٢٩) وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠)
شرح الكلمات:
كلمة طيبة: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كشجرة طيبة: هي النخلة.
كلمة خبيثة: هي كلمة الكفر.
كشجرة خبيثة: هي الحنظل.
اجتثت: أي اقتلعت جثتها أي جسمها وذاتها.
بالقول الثابت: هو لا إله إلا الله.
وفي الآخرة: أي في القبر فيجيب الملكين عما يسألانه عنه حيث يسألانه عن ربه ودينه ونبيه.
بدلوا نعمة الله كفراً: أي بدلوا التوحيد والإسلام بالجحود والشرك.
دار البوار: أي جهنم.
وجعلوا لله أندادا: أي شركاء.
55
معنى الآيات:
الآيات في تقرير التوحيد والبعث والجزاء، قوله تعالى: ﴿ألم تر﴾ أيها الرسول أي ألم تعلم ﴿كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة﴾ ١ هي كلمة الإيمان يقولها المؤمن ﴿كشجرة طيبة﴾ وهي النخلة٢ ﴿أصلها ثابت﴾ في الأرض ﴿وفرعها﴾ عال ﴿في السماء﴾، ﴿تؤتي أكلها﴾ تعطي أكلها أي ثمرها الذي يؤكل منها كل حين بلحا وبسراً ومنصَّفاً ورطباً وتمراً وفي الصباح والمساء ﴿بإذن ربها﴾ أي بقدرته وتسخيره فكلمة الإيمان لا إله إلا الله محمد رسول الله تثمر للعبد أعمالاً صالحة كل حين فهي في قلبه والأعمال الصالحة الناتجة عنها ترفع إلى الله عز وجل، وقوله تعالى: ﴿ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون﴾ أي كما ضرب هذا المثال للمؤمن والكافر في هذا السياق يضرب الأمثال للناس مؤمنهم وكافرهم لعلهم يتذكرون أي رجاء أن يتذكروا فيتعظوا فيؤمنوا ويعملوا الصالحات فينجوا من عذاب الله، وقوله: ﴿ومثل كلمة خبيثة﴾ هي كلمة الكفر في قلب الكافر ﴿كشجرة خبيثة﴾ هي الحنظل مُرَّة ولا خير فيها ولا أصل لها ثابت ولا فرع لها في السماء ﴿اجتثت﴾ أي اقتلعت واستؤصلت ﴿من فوق الأرض مالها من قرار﴾ أي لا ثبات لها ولا تثمر إلا ما فيها من مرارة وسوء طعم وعدم بركة وقوله تعالى: ﴿يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة﴾ هذا وعد من الله تعالى لعباده المؤمنين الصادقين بأنه يثبتهم على الإيمان مهما كانت الفتن والمحن حتى يموتوا على الإيمان ﴿وفي الآخرة﴾ أي في القبر إذ هو عتبة الدار الآخرة عندما يسألهم٣ الملكان عن الله وعن الدين والنبي من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيثبتهم بالقول الثابت وهو الإيمان وأصله لا إله إلا الله محمد رسول الله والعمل الصالح الذي هو الإسلام وقوله تعالى: ﴿ويضل الله الظالمين﴾ مقابل هداية المؤمنين فلا يوفقهم للقول الثابت حتى يموتوا على الكفر فيهلكوا ويخسروا، وذلك
١ الكلمة الطيبة هي لا إله إلا الله، والشجرة الطيبة هي المؤمن، والشجرة المضروب بها المثل في النخلة، وفي الحديث الصحيح: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المؤمن خبروني ما هي؟ قال: هي النخلة" وورد: "مثل المؤمن كالنخلة إن صاحبته نفعك، دان جالسته نفعك، وإن شاورته نفعك كالنخلة كل شيء منها ينتفع به".
٢ وورد أكرموا عمتكم النخلة، ومن وجه شبهها بالمؤمن أنها برأسها تبقى وبقلبها تحيا وفي اللقاح ورائحة طلع ذكرها كرائحة المني، وقيل: إنها خلقت من فضلة طينة آدم التي خلق منها، فهي لذا عمة بني آدم.
٣ روى النسائي عن البراء قال: ﴿يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة﴾ نزلت في عذاب القبر، يقال: من ربك فيقول ربي الله وديني دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
56
لإصرارهم على الشرك ودعوتهم إليه وظلم المؤمنين وأذيتهم من أجل إيمانهم، وقوله تعالى: ﴿ويفعل الله ما يشاء﴾ تقرير لإرادته الحرة فهو عز وجل يثبت من يشاء ويضل من يشاء فلا اعتراض عليه ولا نكير مع العلم أنه يهدي ويضل بحكم عالية تجعل هدايته كإضلاله رحمة وعدلاً.
وقوله تعالى: ﴿ألم تر﴾ أي ألم ينته إلى علمك أيها الرسول ﴿إلى الذين بدلوا نعمة الله﴾ إلتي هي الإسلام الذي جاءهم به رسول الله بما فيه من الهدى والخير فكذبوا رسول الله وكذبوا بما جاء به ورضوا بالكفر وأنزلوا بذلك قومهم الذين يحثونهم على الكفر ويشجعونهم على التكذيب أنزلوهم١ ﴿دار البوار٢﴾ فهلك من هلك في بدر كافراً إلى جهنم، ودار البوار هي جهنم يصلونها أي يحترقون بحرها ولهيبها ﴿وبئس القرار﴾ أي المقر الذي أحلوا قومهم فيه، وقوله تعالى: ﴿وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله﴾ أي جعل أولئك الذين بدلوا نعمة الله كفراً وهم كفار مكة لله أنداداً أي شركاء عبدوها وهي اللات والعُزَّى وهُبل ومَناة وغيرها من آلهتهم الباطلة، جعلوا هذه الأنداد ودعوا إلى عبادتها ليضلوا ويضلوا غيرهم عن سبيل الله التي هي الإسلام الموصل إلى رضا الله تعالى وجواره الكريم، وقوله تعالى: ﴿قل تمتعوا﴾ ٣ أي بما أنتم فيه من متاع الحياة الدنيا ﴿فإن مصيركم﴾ أي نهاية أمركم ﴿إلى النار﴾ حيث تصيرون إليها بعد موتكم إن أصررتم على الشرك والكفر حتى متم على ذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
٢- المقارنة بين الإيمان والكفر، وكلمة التوحيد وكلمة الكفر وما يثمره كل واحد من هذه الأصناف من خير وشر.
١ هذه الآية نزلت في قريش، وقيل: في هلكى بدر، وقيل: في متنصِّرة العرب: جبلة بن الأيهم وأصحابه، والظاهر أنها عامة في كل من كفر بالله ورسوله وحاد عن سبيلهما، وقال الحسن: إنها عامة في جميع المشركين.
٢ ﴿البوار﴾ : الهلاك.
٣ الأمر للتهديد والوعيد، وفي اللفظ إشارة إلى قلّة ما في الدنيا من ملاذ مع سرعة زوالها ولزوم انقطاعها.
57
٣- بشرى المؤمن بتثبيت الله تعالى له على إيمانه حتى يموت مؤمناً وبالنجاة من عذاب القبر حيث يجيب منكراً ونكيراً على سؤالهما إياه بتثبيت الله تعالى له.
٤- الأمر في قوله تعالى تمتعوا ليس للإباحة ولا للوجوب وإنما هو للتهديد والوعيد.
قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (٣٢) وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (٣٣) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
شرح الكلمات:
لا بيع فيه ولا خلال: هذا يوم القيامة لا بيع فيه ولا فداء ولا مخالة تنفع ولا صداقة.
الفلك: أي السفن فلفظ الفلك دال على متعدد ويذكَّر ويؤنث.
دائبين: جاريين في فلكهما لا يفتران أبداً حتى نهاية الحياة الدنيا.
لظلوم كفار: كثير الظلم لنفسه ولغيره، كفار عظيم الكفر هذا ما لم يؤمن ويهتد فإن آمن واهتدى سلب هذا الوصف منه.
معنى الآيات:
لما أمر تعالى رسوله أن يقول لأولئك الذين بدلوا نعمة الله كفراً {قل تمتعوا فإن
58
مصيركم إلى النار} أمر رسوله أيضاً أن يقول للمؤمنين أن يقيموا الصلاة وينفقوا من أموالهم سراً وعلانية ليتقوا بذلك عذاب يوم القيامة الذي توعد به الكافرين فقال: ﴿قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة١﴾ أي يؤدوها على الوجه الذي شرعت عليه فيتموا ركوعها وسجودها ويؤدوها في أوقاتها المعينة لها وفي جماعة وعلى طهارة كاملة مستقبلين بها القبلة حتى تثمر لهم زكاة أنفسهم وطهارة أرواحهم، ﴿وينفقوا٢﴾ ويوالوا الإنفاق في كل الأحيان ﴿سراً وعلانية﴾، ﴿من قبل أن يأتي يوم﴾ وهو يوم القيامة ﴿لا بيع فيه ولا خلال٣﴾ لا شراء فيحصل المرء على ما يفدي به نفسه من طريق البيع، ولا خلة أي صداقة تنفعه ولا شفاعة إلا بإذن الله تعالى.
وقوله تعالى: ﴿الله٤ الذي خلق السماوات والأرض﴾ أي انشأهما وابتدأ خلقهما ﴿وأنزل من السماء ماء﴾ هو ماء الأمطار ﴿فأخرج به من الثمرات﴾ والحبوب ﴿رزقاً لكم﴾ ٥ تعيشون به وتتم حياتكم عليه ﴿وسخر لكم الفلك﴾ ٦ أي السفن ﴿لتجري في البحر بأمره﴾ أي بإذنه وتسخيره تحملون عليها البضائع والسلع من إقليم إلى إقليم وتركبونها كذلك ﴿وسخر لكم الأنهار﴾ الجارية بالمياه العذبة لتشربوا وتسقوا مزارعكم وحقولكم ﴿وسخر لكم الشمس والقمر دائبين٧﴾ لا يفتران أبداً في جريهما وتنقلهما في بروجهما لمنافعكم التي لا تتم إلا على ضوء الشمس وحرارتها ونور القمر وتنقله في منازله ﴿وسخر لكم الليل والنهار﴾ الليل لتسكنوا فيه وتستريحوا والنهار لتعملوا فيه وتكسبوا أرزاقكم ﴿وآتاكم من كل ما سألتموه﴾ ٨ مما أنتم في حاجة إليه لقوام حياتكم، هذا هو الله المستحق لعبادتكم
١ هي الصلوات الخمس: الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.
٢ هي الزكاة ويدخل معها صدقة التطوع، إذ الكلّ انفاق، والسرية غالباً هي صدقة التطوع والعلانية هي الزكاة المفروضة.
٣ ﴿الخلال﴾ جمع خلُة كقُلة وقلال، وهي المودة والصداقة والمنفي هنا هو آثارها بالنفع بالإرفاد والإسعاف بالثواب.
٤ هذا استئناف واقع موقع الاستدلال على بطلان الشرك ووجوب التوحيد وما يترتب على ذلك من سعادة الموحدين وشقاء المشركين.
٥ الرزق: القوت، وهو كل ما يقتات به من أنواع الحبوب والخضر والفواكه واللحوم.
٦ التسخير هو التذليل والتطويع، وهو كناية عن كون الشيء قابلاً للتصرف فيه.
٧ الدّؤوب: مرور الشيء في العمل على عادة جارية لا تختلف وفعله: دأب يدأب دؤوبا على الشر: إذا استمر عليه ولم يقطعه.
٨ ﴿من كل ما سألتموه﴾ أي: من كل مسؤول سألتموه شيئاً فحذف مسؤول لدلالة الكلام عليه، والمقابل محذوف أي: ومن كل ما لم تسألوه، فإن هناك أشياء لم يسألها الإنسان، وأعطاه الله تعالى إيّاها، وهذا الحذف كقوله: ﴿سرابيل تقيكم الحر..﴾ وسرابيل تقيكم البرد: فحذف.
59
رغبة فيه ورهبة منه، هذا هو المعبود الحق الذي يجب أن يعبد وحده لا شريك له وليس تلك الأصنام والأوثان التي تعبدونها وتدعون إلى عبادتها حتى حملكم ذلك على الكفر والعناد بل والظلم والشر والفساد.
وقوله تعالى: ﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ أي بعد أن عدد الكثير من نعمه أخبر أنه لا يمكن للإنسان أن يعد نعم الله عليه ولا أن يحصيها عداً بحال من الأحوال، وقرر حقيقة في آخر هذه الموعظة والذكرى وهي أن الإنسان إذا حرم الإيمان والهداية الربانية ﴿ظلوم﴾ أي كثير الظلم كفور كثير الكفر عظيمه، والعياذ بالله تعالى من ذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإكثار من الصدقات لاتقاء عذاب النار.
٢- جواز صدقة العلن كصدقة السر وإن كانت الأخيرة أفضل.
٣- التعريف بالله عز وجل إذ معرفة الله تعالى هي التي تثمر الخشية منه تعالى.
٤- وجوب عبادة الله تعالى وبطلان عبادة غيره.
٥- وصف الإنسان بالظلم والكفر وشدتهما ما لم يؤمن ويستقيم على منهج الإسلام.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٣٦) رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ
60
تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (٣٨) الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (٤١)
شرح الكلمات:
هذا البلد آمنا: أي اجعل مكة بلداً آمناً يأمن كل من دخله.
واجنبني: بعِّدْني.
أن نعبد الأصنام: عن أن نعبد الأصنام.
أضللن كثيراً من الناس: أي بعبادتهم لها.
من تبعني فإنه مني: أي من اتبعني على التوحيد فهو من أهل ملتي وديني.
من ذريتي: أي من بعض ذريتي وهو إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر.
بواد غير ذي زرع.: أي مكة إذ لا مزارع فيها ولا حولها يومئذ.
تهوي إليهم: تَحِنُّ إليهم وتميل رغبة في الحج والعمرة.
على الكبر إسماعيل واسحق: أي مع الكبر إذ كانت سنه يومئذ تسعاً وتسعين سنه وولد له إسحق وسنه مائة واثنتا عشرة سنة.
ولوالدي: هذا قبل أن يعرف موت والده على الشرك.
يوم يقوم الحساب: أي يوم يقوم الناس للحساب.
معنى الآيات:
مازال السياق في تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وقد تضمنت هذه الآيات ذلك،
61
فقوله تعالى: ﴿وإذ قال إبراهيم﴾ أي اذكر إذ قال إبراهيم فكيف يذكر ما لم يوح الله تعالى إليه بذلك ففسر هذا نبوة رسول الله ونزول الوحي إليه، وقوله: ﴿رب اجعل هذا البلد آمنا﴾ إي ذا أمن فيأمن من دخله على نفسه وماله والمراد من البلد مكة.
وقوله: ﴿واجنبني١ وبني أن نعبد الأصنام﴾ فيه تقرير للتوحيد الذي هو عبادة الله وحده ومعنى أجنبني أبعدني أنا وأولادي وأحفادي وقد استجاب الله تعالى له فلم يكن في أولاده وأولاد أولاده مشرك، وقوله: ﴿رب إنهن أضللن كثيراً من الناس﴾ ٢ تعليل لسؤاله ربه أن يجنبه وبنيه عبادتها، وإضلال الناس كان بعبادتهم لها فضلوا في أودية الشرك، وقوله: ﴿فمن تبعني﴾ أي من أولادي ﴿فإنه مني﴾ أي على ملتي وديني، ﴿ومن عصاني﴾ فلم يتبعني على ملة الإسلام إن تعذبه فذاك وإن تغفر له ولم تعذبه ﴿فإنك غفور٣ رحيم﴾، وقوله: ﴿ربنا إني اسكنت من ذريتي﴾ ٤ أي من بعض ذريتي وهو إسماعيل مع أمه هاجر ﴿بواد غير ذي زرع﴾ هو مكة إذ ليس فيها ولا حولها زراعة يومئذ وإلى آماد بعيدة وأزمنة عديدة ﴿عند بيتك المحرم﴾ قال هذا بإعلام من الله تعالى له أنه سيكون له بيت في هذا الوادي ومعنى المحرم أي الحرام وقد حرمه تعالى فمكة حرام إلى يوم القيامة لا يُصاد صيدها ولا يُختلي خلاها ولا تُسفك فيها دماء ولا يحل فيها قتال، وقوله: ﴿ربنا ليقيموا الصلاة٥ فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم﴾ هذا دعاء بأن ييسر الله تعالى عيش سكان مكة ليعبدوا الله تعالى فيها بإقام الصلاة، فإن قلوب بعض الناس عندما تهفوا إلى مكة وتميل إلى الحج والعمرة تكون سبباً في نقل الأرزاق والخيرات إلى مكة، وقوله: ﴿وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون﴾ دعاء آخر بأن يرزق الله بنيه من الثمرات ليشكروا الله تعالى على ذلك فوجود الأرزاق والثمرات موجبة للشكر، إذ النعم تقتضي
١ أي: اجعلني جانباً عن عبادتها، وبنيه من صلبه وكانوا ثمانية: فما عبد منهم أحد صنماً قط. كان إبراهيم التميمي يقول: من يأمن البلاء بعد الخليل حتى يقول: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام.
٢ نسب الإضلال إليهن وهن جمادات لا يفعلن شيئاً: لأنهن السبب في الإضلال.
٣ فوّض الأمر لربه إن شاء غفر لمن عصاه رحمة، وإن شاء عذّبه. وقيل: قال إبراهيم هذا قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك لأصحابه.
٤ ذكر البخاري قصّة إسكان إبراهيم عليه السلام هاجر مكة، بالتفصيل فليرجع إليها ومن في قوله: ﴿من ذريتي﴾ للتبعيض إذ لم يسكن مكة إلا إسماعيل وباقي أولاده كانوا بالشام.
٥ خص الصلاة بالذكر لأنها العبادة التي تشتمل على الذكر والشكر، وهي علّة الحياة وسرّ هذا الوجود والكلام في قوله ﴿ليقيموا الصلاة﴾ لام كي: التعليلية والفعل متعلق بأسكنت أي: أسكنتهم بمكة ليقيموا الصلاة فيها.
62
شكراً، وقوله: ﴿ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء﴾ أراد به أن ما سأل ربه فيه من كل ما سأل إنما هو من باب إظهار العبودية لله والتخشع لعظمته والتذلل لعزته والافتقار إلى ما عنده، وإلا فالله أعلم بحاله وما يصلحه هو وبنيه، وما هم في حاجة إليه لأنه تعالى يعلم كل شيء ولا يخفي١ عنه شيء في الأرض ولا في السماء.. وقوله: ﴿الحمد الله الذي وهب لي على الكبر٢ إسماعيل واسحق إن ربي لسميع الدعاء﴾ أراد به حمد الله وشكره على ما أنعم به عليه حيث رزقه إسماعيل واسحق على كبر سنه، والإعلام بأن الله تعالى سميع دعاء من يدعوه وينيب إليه، وقوله: ﴿رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي﴾ أيضاً من يقيم الصلاة، لأن الصلاة هي علة الحياة كلها إذ هي الذكر والشكر فمتى أقام العبد الصلاة فأداها بشروطها وأركانها كان من الذاكرين الشاكرين، ومتى تركها العبد كان من الناسين الغافلين وكان من الكافرين، وأخيراً ألحَّ على ربه في قبول دعائه وسأل المغفرة له ولوالديه٣ وللمؤمنين يوم يقوم٤ الناس للحساب وذلك يوم القيامة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- فضل مكة وشرفها وأنها حرم آمن أي ذو أمن.
٢- الخوف من الشرك لخطره وسؤال الله تعالى الحفظ من ذلك.
٣- علاقة الإيمان والتوحيد أولى من علاقة الرحم والنسب.
٤- أهمية إقام الصلاة وأن من لم يرد أن يصلي لا حق له في الغذاء ولذا يعدم إن أصر على ترك الصلاة.
١ قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿إنك تعلم ما نخفي وما نعلن﴾ أي: من الوجد بإسماعيل وأمّه حيث أُسكنا بواد غير ذي زرع، والوجد: الحزن.
٢ قيل: ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له اسحق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
٣ استغفر عليه السلام لوالديه قبل أن يتبين له عداوة أبيه آزر لله تعالى فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، كما تقدم في سورة التوبة، كما جاء فيها: ﴿فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه﴾ فلذا لا يجوز الاستغفار لمن مات مشركاً، كما لا يجوز الصلاة عليه إذا مات إجماعاً.
٤ نسبة القيام إلى الحساب كقولهم: قامت الحرب على ساق: يعنون اشتداد الأمر، وصعوبة الحال.
63
٥- بيان استجابة دعاء إبراهيم عليه السلام فيما سال ربه تعالى فيه.
٦- وجوب حمد الله وشكره على ما ينعم به على عبده.
٧- مشروعية الاستغفار للنفس وللمؤمنين والمؤمنات.
٨- تقرير عقيدة البعث والحساب والجزاء.
وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء (٤٣) وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ (٤٤) وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (٤٦)
شرح الكلمات:
عما يعمل الظالمون: أي المشركون من أهل مكة وغيرهم.
ليوم تشخص فيه الأبصار: أي تنفتح فلا تغمض لشدة ما ترى من الأهوال.
مهطعين مقنعي رؤوسهم: أي مسرعين إلى الداعي الذي دعاهم إلى الحشر، رافعي رؤوسهم.
64
وأفئدتهم هواء: أي فارغة من العقل لشدة الخوف والفزع.
نجب دعوتك.: أي على لسان رسولك فنعبدك ونوحدك ونتبع الرسل.
ما لكم من زوال: أي عن الدنيا إلى الآخرة.
وقد مكروا مكرهم: أي مكرت قريش بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث أرادوا قتله أو حبسه أو نفيه.
وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال: أي لم يكن مكرهم بالذي تزول منه الجبال فإنه تافه لا قيمة له فلا تعبأ به ولا تلتفت إليه.
معنى الآيات:
في هذا السياق الكريم تقوية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحمله على الصبر ليواصل دعوته إلى ربه إلى أن ينصرها الله تعالى وتبلغ المدى المحدد لها والأيام كانت صعبة على رسول الله وأصحابه لتكالب المشركين على أذاهم، وازدياد ظلمهم لهم فقال تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون﴾ من قومك إنه إن لم ينزل بهم نقمته ولم يحل عذابه إنما يريد أن يؤخرهم ﴿ليوم تشخص١ فيه الأبصار﴾ أي تنفتح فلا تغمض ولا تطرف لشدة الأهوال وصعوبة الأحوال، ﴿مهطعين٢﴾ أي مسرعين ﴿مقنعي رؤوسهم٣﴾ أي حال كونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم أي رافعين رؤوسهم مسرعين للداعي الذي دعاهم إلى المحشر، قال تعالى: ﴿واستمع يوم يناد المنادي من مكان قريب﴾ ﴿لا يريد إليهم طرفهم٤﴾ أي لا تغمض أعينهم من الخوف ﴿وأفئدتهم﴾ أي قلوبهم ﴿هواء﴾ أي٥
١ قال ابن عباس رضي الله عنهما: تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يرمضون، وفعل الشخوص: شخص يشخص البصر: إذا سما وطمح من الخوف.
٢ ﴿مهطعين﴾ اسم فاعل من أهطع يهطع إهطاعاً فهو مهطع إذا أسرع ومنه قوله تعالى: ﴿مهطعين إلى الداع﴾ أي: مسرعين، قال الشاعر:
بدجلة دارهم ولقد أراهم
بدجلة مهطعين إلى السماع
والمهطع أيضاً من ينظر في ذل وخشوع.
٣ ﴿مقنعي﴾ الإقناع: رفع الرأس ومنه الإقناع في الصلاة وهو مكروه وقد يطلق الإقناع أيضاً على تنكيس الرأس، يقال: أقنع رأسه: إذا طأطأه أو رفعه، واللفظ يحتمل الوجهين.
٤ الطرف: العين، قال الشاعر:
وأغمض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي ماواها
يقال: طرف يطرف طرفاً إذا أطبق جفنه على الآخر، ولم يطرف: إذا فتح عينه ولم يغمضها.
٥ هي كالهواء في الخلو من الإدراك لشدة الهول، والهواء: الخلاء.
65
فارغة من الوعي والإدراك لما أصابها من الفزع والخوف ثم أمر تعالى رسوله في الآية (٤٤) بإنذار الناس مخوفاً لهم من عاقبة أمرهم إذا استمروا على الشرك بالله والكفر برسوله وشرعه، ﴿يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا﴾ أي أشركوا بربهم، وآذوا عباده المؤمنين ﴿ربنا أخرنا إلى أجل قريب﴾ أي يطلبون الإنظار والإمهال ﴿نجب دعوتك﴾ أي نوحدك ونطيعك ونطيع رسولك، فيقال لهم: توييخاً وتقريعاً وتكذيباً لهم: ﴿أو لم تكونوا أقسمتم﴾ أي حلفتم ﴿من قبل ما لكم من زوال﴾ أي أطلبتم الآن التأخير ولم تطلبوه عندما قلتم ما لنا من زوال ولا ارتحال من الدنيا إلى الآخرة، ﴿وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم﴾ بالشرك والمعاصي ﴿وتبين لكم﴾ أي عرفتم ﴿كيف فعلنا بهم﴾ أي بإهلاكنا لهم وضربنا لكم الأمثال في كتبنا وعلى ألسنة رسلنا فيوبخون هذا التوبيخ ولا يجابون لطلبهم ويقذفون في الجحيم، وقوله تعالى: ﴿وقد مكروا مكرهم﴾ أي وقد مكر كفار قريش برسول الله في حيث قرروا حبسه مغللاً في السجن حتى الموت أو قتله، أو نفيه وعزموا على القتل ولم يستطيعوه ﴿وعند الله مكرهم﴾ أي علمه وما أرادوا به، وجزاؤهم عليه، وقوله: ﴿وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال١﴾ أي ولم يكن مكرهم لتزول منه الجبال فإنه تافه لا وزن له ولا اعتبار فلا تحفل به أيها الرسول ولا تلتفت، فإنه لا يحدث منه شيء، وفعلاً قد خابوا فيه أشد الخيبة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تأخير العذاب عن الظلمة في كل زمان ومكان لم يكن غفلة عنهم، وإنما هو تأخيرهم إلى يوم القيامة أو إلى أن يحين الوقت المحدد لأخذهم.
٢- بيان أهوال يوم القيامة وصعوبة الموقف فيه حتى يتمنى الظالمون الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا ويوحدوا ربهم في عبادته.
٣- التنديد بالظلم وبيان عقاب الظالمين بذكر أحوالهم.
١ قرىء: ﴿لتزول﴾ بفتح اللام الأولى وضم الآخرة لتزول، وإن مخففة من الثقيلة، واللام لام الابتداء، ومعنى الآية. استعظام مكرهم حتى لتكاد الجبال تزول منه، وما في التفسير من قراءة وتوجيه هو الذي رجّحه ابن جرير الطبري. هنا ذكر القرطبي بإسهاب قصّة النمرود الجبار الذي حاج إبراهيم عليه السلام، ولا طائل تحتها.
66
٤ – تقرير جريمة قريش في ائتمارها على قتل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (٤٩) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِي اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٥١) هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (٥٢)
شرح الكلمات:
إن الله عزيز: أي غالب لا يحال بينه وبين مراده بحال هن الأحوال.
ذو انتقام: أي صاحب انتقام ممن عصاه وعصى رسوله.
يوم تبدل الأرض: أي اذكر يا رسولنا للظالمين يوم تبدل الأرض.
وبرزوا لله: أي خرجوا من القبور لله ليحاسبهم ويجزيهم.
مقرنين: أي مشدودة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم.
في الأصفاد: الأصفاد جمع صفد وهو الوثاق من حبل وغيره.
سرابيلهم: أي قمصهم التي يلبسونها من قطران.
هذا بلاغ: أي هذا القرآن بلاغ للناس.
أولوا الألباب: أصحاب العقول.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين وهم يعانون من صلف المشركين
67
وظلمهم وطغيانهم فيقول تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله١﴾ إنه كما لم يخلف رسله الأولين لا يخلفك أنت، إنه لابد منجز لك ما وعدك من النصر على أعدائك فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم. ﴿إن الله عزيز٢﴾ أي غالب لا يغلب غالب على أمره ما يريده لا بد واقع ﴿ذو انتقام﴾ شديد ممن عصاه وتمرد على طاعته وحارب أولياءه، واذكر ﴿يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات٣﴾ كذلك ﴿وبرزوا﴾ أي ظهروا بعد خروجهم من قبورهم في طريقهم إلى المحشر إجابة منهم لدعوة الداعي وقد برزوا ﴿لله الواحد القهار﴾، ﴿وترى المجرمين يومئذ﴾ يا رسولنا تراهم ﴿مقرنين في الأصفاد﴾ ٤ مشدودة أيديهم وأرجلهم إلى أعناقهم، هؤلاء هم المجرمون اليوم بالشرك والظلم والشر والفساد أجرموا على أنفسهم أولاً ثم على غيرهم ثانياً سواء ممن ظلموهم وآذوهم أو ممن دعوهم إلى الشرك وحملوهم عليه، الجميع قد أجرموا في حقهم، ﴿سرابيلهم٥﴾ قمصانهم التي على أجسامهم ﴿من قطران﴾ وهو ما تدهن به الإبل: مادة سوداء محرقة للجسم أو من نحاس إذْ قرئ من قِطرآن أي من نحاس أُحمي عليه حتى بلغ المنتهى في الحرارة ﴿وتغشى وجوههم النار﴾ أي وتغطي وجوههم النار بلهبها، هؤلاء هم المجرمون في الدنيا بالشرك والمعاصي، وهذا هو جزاؤهم يوم القيامة، فعل تعالى هذا بهم ﴿ليجزي الله كل نفس بما كسبت إن الله سريع الحساب﴾ فما بين أن وجدوا في الدنيا وبين أن انتهوا إلى نار جهنم واستقروا في أتون جحيمها إلا كمن دخل
١ ﴿مخلف﴾ مفعول ثان لحسب، ووعده: مجرور بالإضافة، ورسله: معمول لمخلف مؤخر، والأصل: مخلف رسله. وعده، وقدّم الوعد للاهتمام به.
٢ جملة تعليلية للنهي عن حسبان خلف وعده تعالى.
٣ الآية نصّ صريح في كون الأرض والسموات تتبدل في ذاتها وسائر صفاتها وتزول تماماً ويخلق الله تعالى أرضاً غير ذي وسماء غير هذه، وفي الحديثين الآتيين ما يقرر ذلك:
أ- حديث مسلم، وفيه: "إنّ يهوديا سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلاً: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال: في الظلمة دون الجسر".
ب- حديث ابن ماجه بإسناد مسلم قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله تعالى: ﴿يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات﴾ فأين يكون الناس يومئذ؟ قال: على الصراط".
٤ الأصفاد: جمع صفد بفتح كل من الصاد والفاء، وهو الغلّ والقيد يشد به ويربط الجاني قال الشاعر:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا
وأُبنا بالملوك مصفدين
٥ واحد السرابيل: سربال، وهو القميص، يقال: تسربل، إذا لبس السربال وكونها من قطران لشدّة حرارتها، واشتعال النار فيها.
68
مع باب وخرج مع آخر، وأخيراً يقول تعالى: ﴿هذا بلاغ للناس١ وليذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب﴾ أي هذا القرآن بلاغ للناس من رب الناس قد بلغه إليهم رسول رب الناس ﴿ولينذروا به﴾ أي بما فيه من العظات والعبر والعرض لألوان العذاب وصنوف الشقاء لأهل الإجرام والشر والفساد، ﴿وليعلموا﴾ أي بما فيه من الحجج والدلائل والبراهين ﴿أنما هو إله واحد﴾ أي معبود واحد لا ثاني له وهو الله جل جلاله، فلا يعبدوا معه غيره إذ هو وحده الرب والإله الحق، وما عداه فباطل، ﴿وليذكر أولوا الألباب﴾ أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول المدركة الواعية فيعملوا على إنجاء أنفسهم من غضب الله وعذابه، وليفوزوا برحمته ورضوانه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان صدق وعد الله من وعدهم من رسله وأوليائه.
٢- بيان أحوال المجرمين في العرض وفي جهنم.
٣- بيان العلة في المعاد الآخر وهو الجزاء على الكسب في الدنيا.
٤- قوله تعالى في آخر آية من هذه السورة: ﴿هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب﴾ هذه الآية صالحة لأن تكون عنواناً٢ للقرآن الكريم إذ دلت على مضمونه كاملاً مع وجازة اللفظ وجمال العبارة، والحمد لله أولاً وآخراً.
١ ﴿بلاغ﴾ أي: تبليغ للناس يقوم به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢ قال هذا: العلامة الشيخ، البشير الإبراهيمي الجزائري، وظننا أنّه إلهام من الله تعالى له، د إذا بنا نعثر في كلام الأولين على من قاله، وسبق به وجائز أن يكون الشيخ ألهمه والآخر كذلك، وتوارد الخواطر معروف ولا مانع من النقل والسكوت على من نقل عنه، إذ العلم مشاع كالماء والهواء لا غنى لأحد عنهما، ولذا فلا بأس أن ينقل العلم ولا ينسب إلى قائله لكن لا ينسب إلى غير قائله، فتلك سرقة ممنوعة.
69
Icon