تفسير سورة الكهف

الماوردي
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى :﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ﴾ يعني على محمد القرآن، فتمدح بإنزاله لأنه أنعم عليه خصوصاً، وعلىلخلق عموماً. ﴿ ولم يجعل له عوجاً ﴾ في ﴿ عوجاً ﴾ ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني مختلفاً، قاله مقاتل، ومنه قول الشاعر :
أدوم بودي للصديق تكرُّماً ولا خير فيمن كان في الود أعوجا
الثاني : يعني مخلوقاً، قاله ابن عباس.
الثالث : أنه العدول عن الحق الى الباطل، وعن الاستقامة إلى الفساد، وهو قول علي بن عيسى.
والفرق بين العوج بالكسر والعوج بالفتح أن العوج بكسر العين ما كان في الدين وفي الطريق وفيما ليس بقائم منتصب، والعوج بفتح العين ما كان في القناة والخشبة وفيما كان قائماً منتصباً.
﴿ قيِّماً ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه المستقيم المعتدل، وهذ قول ابن عباس والضحاك.
الثاني : أنه قيم على سائر كتب الله تعالى يصدقها وينفي الباطل عنها.
الثالث : أنه المعتمد عليه والمرجوع إليه كقيم الدار الذي يرجع إليه في أمرها، وفيه تقديم وتأخير في قول الجميع وتقديره : أنزل الكتاب على عبده قيماً ولم يجعل له عوجاً ولكن جعله قيماً.
﴿ لينذر بأساً شديداً من لدنه ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه عذاب الاستئصال في الدنيا.
الثاني : أنه عذاب جهنم في الآخرة.
قوله تعالى :﴿ فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : قاتل نفسك، ومنه قول ذي الرُّمَّةِ :
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه بشيء نحتَهُ عن يديك المقادِرُ
الثاني : أن الباخع المتحسر الأسِف، قاله ابن بحر.
﴿ على آثارهم ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : على آثار كفرهم.
الثاني : بعد موتهم.
﴿ إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً ﴾ يريد إن لم يؤمن كفار قريش بهذا الحديث يعني القرآن.
﴿ أسفاً ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أي غضباً، قاله قتادة.
الثاني : جزعاً، قاله مجاهد.
الثالث : أنه غمّاً، قاله السدي.
الرابع : حزناً، قاله الحسن، وقد قال الشاعر :
أرى رجلاً منهم أسيفاً كأنما تضُمُّ إلى كشحيه كفّاً مخضبَّا
قوله تعالى :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ﴾ فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنها الأشجار والأنهار التي زين الله الأرض بها، قاله مقاتل.
الثاني : أنهم الرجال لأنهم زينة الأرض، قاله الكلبي.
الثالث : أنهم الأنبياء والعلماء، قاله القاسم.
الرابع : أن كل ما على الأرض زينة لها، قاله مجاهد.
الخامس : أن معنى ﴿ زينة لها ﴾ أي شهوات لأهلها تزين في أعينهم وأنفسهم.
﴿ لنبلوهم أيهم أحْسَنُ عملاً ﴾ فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أيهم أحسن إعراضاً عنها وتركاً لها، قاله ابن عطاء.
الثاني : أيهم أحسن توكلاً علينا فيها، قاله سهل بن عبد الله.
الثالث : أيهم أصفى قلباً وأهدى سمتاً.
ويحتمل رابعاً : لنختبرهم أيهم أكثر اعتباراً بها.
ويحتمل خامساً : لنختبرهم في تجافي الحرام منها.
قوله تعالى :﴿ وإنّا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً ﴾ في الصعيد ثلاثة أقاويل :
أحدها : الأرض المستوية، قاله الأخفش ومقاتل.
الثاني : هو وجه الأرض لصعوده، قاله ابن قتيبة.
الثالث : أنه التراب، قاله أبان بن تغلب.
وفي الجُرُز أربعة أوجه :
أحدها : بلقعاً، قاله مجاهد.
الثاني : ملساء، وهو قول مقاتل.
الثالث : محصورة، وهو قول ابن بحر.
الرابع : أنها اليابسة التي لا نبات بها ولا زرع قال الراجز :
قد جرفتهن السُّنون الأجراز...
قوله تعالى :﴿ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً ﴾ أما الكهف فهو غار في الجبل الذي أوى إليه القوم. وأما الرقيم ففيه سبعة أقاويل :
أحدها : أنه اسم القرية التي كانوا منها، قاله ابن عباس. الثاني : أنه اسم الجبل، قاله الحسن.
الثالث : أنه اسم الوادي، قاله الضحاك. قال عطية العوفي : هو واد بالشام نحو إبلة وقد روي أن اسم جبل الكهف بناجلوس، واسم الكهف ميرم واسم المدينة أفسوس، واسم الملك وفيانوس.
الرابع : أنه اسم كلبهم. قاله سعيد بن جبير، وقيل هو اسم لكل كهف.
الخامس : أن الرقيم الكتاب الذي كتب فيه شأنهم، قاله مجاهد. ماخوذ من الرقم في الثوب. وقيل كان الكتاب لوحاً من رصاص على باب الكهف، وقيل في خزائن الملوك لعجيب أمرهم.
السادس : الرقيم الدواة بالرومية، قاله أبو صالح.
السابع : أن الرقيم قوم من أهل الشراة كانت حالهم مثل حال أصحاب الكهف، قاله سعيد بن جبير.
﴿ كانوا مِنْ آياتنا عجباً ﴾ فيه وجهان : أحدهما : معناه ما حسبت أنهم كانوا من آياتنا عجباً لولا أن أخبرناك وأوحينا إليك.
الثاني : معناه أحسبت أنهم أعجب آياتنا وليسوا بأعجب خلقنا، قاله مجاهد. قوله تعالى :﴿ إذ أوى الفتية إلى الكهف ﴾ اختلف في سبب إيوائهم إليه على قولين :
أحدهما : أنهم قوم هربوا بدينهم إلى الكهف، قاله الحسن. ﴿ فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرِنا رشداً ﴾.
الثاني : أنهم أبناء عظماء وأشراف خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد، فقال أسَنُّهم : إني أجد في نفسي شيئاً ما أظن أحداً يجده، إن ربي رب السموات والأرض، ﴿ فقالوا ﴾ جميعاً ﴿ ربُّنا ربُّ السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شَطَطَاً ﴾ ثم دخلوا الكهف فلبثوا فيه ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعاً، قاله مجاهد.
قال ابن قتيبة : هم أبناء الروم دخلوا الكهف قبل عيسى، وضرب الله تعالى على آذنهم فيه، فلما بعث الله عيسى أخبر بخبرهم، ثم بعثهم الله تعالى بعد عيسى في الفترة التي بينه وبين النبي ﷺ. وفي ﴿ شططاً ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : كذباً، قاله قتادة.
الثاني : غلوّاً، قاله الأخفش.
الثالث : جوراً، قاله الضحاك.
قوله تعالى :﴿ فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً ﴾ والضرب على الآذان هو المنع من الاستماع، فدل بهذا على أنهم لم يموتوا وكانوا نياماً، ﴿ سنين عدداً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : إحصاء.
الثاني : سنين كاملة ليس فيها شهور ولا أيام.
وإنما ضرب الله تعالى على آذانهم وإن لم يكن ذلك من أسباب النوم لئلا يسمعوا ما يوقظهم من نومهم.
قوله تعالى :﴿ ثم بعثناهم ﴾ الآية. يعني بالعبث إيقاظهم من رقدتهم. ﴿ لنِعلَم ﴾ أي لننظر ﴿ أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : عدداً، قاله مجاهد.
الثاني : أجلاً، قاله مقاتل.
الثالث : الغاية، قاله قطرب.
وفي الحزبين أربعة أقاويل :
أحدها : أن الحزبين هما المختلفان في أمرهم من قوم الفتية، قاله مجاهد. الثاني : أن أحد الحزبين الفتية،
والثاني : من حضرهم من أهل ذلك الزمان. الثالث : أن أحد الحزبين مؤمنون، والآخر كفار.
الرابع : أن أحد الحزبين الله تعالى، والآخر الخلق، وتقديره : أنتم أعلم أم الله.
قوله تعالى :﴿ وربطنا على قلوبهم.. ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ثبتناها.
الثاني : ألهمناها صبراً، قاله اليزيدي.
﴿... ولقد قلنا إذاً شططاً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : غُلواً.
الثاني : تباعداً.
قوله تعالى :﴿... لولا يأتون عليهم بسلطان بيّنٍ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : بحجة بينة، قاله مقاتل.
الثاني : بعذر بيّن، قاله قتادة.
الثالث : بكتاب بيّن، قاله الكلبي.
قوله تعالى :﴿... ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً ﴾ فيه وجهان : أحدهما : سعة.
الثاني : معاشاً.
ويحتمل ثالثاً : يعني خلاصاً، ويقرأ ﴿ مِرْفقاً ﴾ بكسر الميم وفتح الفاء ﴿ ومَرفِقاً ﴾ بفتح الميم وكسر الفاء، والفرق بينهما أنه بكسر الميم وفتح الفاء إذا وصل إليك من غيرك، وبفتح الميم وكسر الفاء إذا وصل منك إلى غيرك.
قوله تعالى :﴿ وترى الشمس إذا طَلَعَتْ تزوار عن كهفهم ذاتَ اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ﴾ فيه وجهان
أحدهما : تعرض عنه فلا تصيبه.
الثاني : تميل عن كهفهم ذات اليمين.
﴿ وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معنى تقرضهم تحاذيهم، والقرض المحاذاة، قاله الكسائي والفراء.
الثاني : معناه تقطعهم ذات الشمال أي أنها تجوزهم منحرفة عنهم، من قولك قرضته بالمقراض أي قطعته.
الثالث : معناه تعطيهم اليسير من شعاعها ثم تأخذه بانصرافها، مأخوذ من قرض الدراهم التي ترد لأنهم كانوا في مكان موحش، وقيل لأنه لم يكن عليهم سقف يظلهم ولو طلعت عليهم لأحرقتهم.
وفي انحرافها عنهم في الطلوع والغروب قولان :
أحدهما : لأن كهفهم كان بإزاء بنات نعش فلذلك كانت الشمس لا تصيبه في وقت الشروق ولا في وقت الغروب، قاله مقاتل.
الثاني : أن الله تعالى صرف الشمس عنهم لتبقى أجسامهم وتكون عبر لمن يشاهدهم أو يتصل به خبرهم.
﴿ وهم في فجوة منه ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : يعني في فضاء منه، قاله قتادة.
الثاني : داخل منه، قاله سعيد بن جبير.
الثالث : أنه المكان الموحش.
الرابع : أنه ناحية متسعة، قاله الأخفش، ومنه قول الشاعر :
قوله تعالى :﴿ وتحسبهم أيقاظاً وهم رقودٌ ﴾ الأيقاظ : المنتبهون.
قال الراجز :
ونحن ملأنا كلَّ وادٍ وفجوةٍ رجالاً وخيلاً غير ميلٍ ولا عُزْلِ
قد وجدوا إخوانهم أيقاظا والسيف غياظ لهم غياظا
والرقود : النيام. قيل إن أعينهم كانت مفتوحة ويتنفسون ولا يتكلمون.
﴿ ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ﴾ يعني تقلب النيام لأنهم لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض لطول مكثهم. وقيل إنهم كانوا يقلبون في كل عام مرتين، ستة أشهر على جنب. وستة أشهر على جنبٍ آخر، قاله ابن عباس.
قال مجاهد : إنما قلبوا تسع سنين بعد ثلاثمائة سنة لم يقلبوا فيها.
وفيما تحسبهم من أجله أيقاظاً وهم رقود قولان :
أحدهما : لانفتاح أعينهم.
الثاني : لتقليبهم ذات اليمين وذات الشمال.
﴿ وكلبهم باسِطٌ ذِراعيه بالوصيد ﴾ في ﴿ كلبهم ﴾ قولان :
أحدهما : أنه كلب من الكلاب كان معهم، وهو قول الجمهور. وقيل إن اسمه كان حمران.
الثاني : أنه إنسان من الناس كان طباخاً لهم تبعهم، وقيل بل كان راعياً. وفي ﴿ الوصيد ﴾ خمسة تأويلات :
أحدها : أنه العتبة.
الثاني : أنه الفناء قاله ابن عباس.
الثالث : أنه الحظير، حكاه اليزيدي.
الرابع : أن الوصيد والصعيد التراب، قاله سعيد بن جبير.
الخامس : أنه الباب، قاله عطية، وقال الشاعر :
بأرض فضاءَ لا يُسَدُّ وَصيدها عليَّ ومعروفي بها غيرُ مُنْكَرِ
وحكى جرير بن عبيد أنه كان كلباً ربيباً صغيراً. قال محمد بن إسحاق كان اصفر اللون.
﴿ لو أطّلعت عليهم لوليت منهم فِراراً ولملِئت منهم رُعباً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لطول أظفارهم وشعورهم يأخذه الرعب منهم فزعاً.
الثاني : لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة التي ترد عنهم الأبصار لئلا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب فيهم أجله.
حكى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : غزوت مع معاوية رضي الله عنه في بحر الروم فانتهينا إلى الكهف الذي فيه أصحاب الكهف، فقال معاوية أريد أن أدخل عليهم فأنظر إليهم، فقلت ليس هذا لك فقد منعه الله من هو خير منك، قال تعالى ﴿ لو اطعلت عليهم لوليت منهم فراراً ﴾ الآية. فأرسل جماعة إليهم دخلوا الكهف أرسل الله عليهم ريحاً أخرجتهم.
وقيل إن هذه المعجزة من قومهم كانت لنبي قيل إنه كان أحدهم وهو الرئيس الذي اتبعوه وآمنوا به.
قوله تعالى :﴿ وكذلك بعثناهم ﴾ يعني به إيقاظهم من نومهم. قال مقاتل : وأنام الله كلبهم معهم. ﴿ ليتساءلوا بينهم قال قائلٌ منهم كم لبثتم ﴾ ليعلموا قدر نومهم.
﴿ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم ﴾ كان السائل منهم أحدهم، والمجيب له غيره، فقال لبثنا يوما لأنه أطول مدة النوم المعهود، فلما رأى الشمس لم تغرب قال ﴿ أو بعض يوما ﴾ لأنهم أنيموا أول النهار ونبهوا آخره.
﴿ قالوا ربُّكم أعْلمُ بما لبثتم ﴾ وفي قائله قولان :
أحدهما : أنه حكاية عن الله تعالى أنه أعلم بمدة لبثهم.
الثاني : أنه قول كبيرهم مكسلمينا حين رأى الفتية مختلفين فيه فقال ﴿ ربكم أعلم بما لبثتم ﴾ فنطق بالصواب ورد الأمر إلى الله عالمه، وهذا قول ابن عباس.
﴿ فابعثوا أحدكم بورقكم هذه الى المدينة ﴾ قرىء بكسر الراء وبتسكينها، وهو في القراءتين جميعاً الدراهم، وأما الورَق بفتح الراء فهي الإبل والغنم، قال الشاعر :
إياك أدعو فتقبل مَلَقي كَفِّرْ خطاياي وثمِّرْ ورقي
يعني إبله وغنمه.
﴿ فلينظر أيها أزكي طعاماً ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أيها أكثر طعاماً، وهذا قول عكرمة.
الثاني : أيها أحل طعاماً، وهذا قول قتادة.
الثالث : أطيب طعاماً، قاله الكلبي.
الرابع : أرخص طعاماً.
﴿ فليأتكم برزق مِنْه ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بما ترزقون أكله.
الثاني : بما يحل لكم أكله.
﴿ وليتلطف... ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : وليسترخص.
الثاني : وليتلطف في إخفاء أمركم. وهذا يدل على جواز اشتراك الجماعة في طعامهم وإن كان بعضهم أكثر أكلاً وهي المناهدة، وكانت مستقبحة في الجاهلية فجاء الشرع بإباحتها.
قوله تعالى :﴿ إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يرجموكم بأيديهم استنكاراً لكم، قاله الحسن.
الثاني : بألسنتهم غيبة لكم وشتماً، قاله ابن جريج.
الثالث : يقتلوكم. والرجم القتل لأنه أحد أسبابه. ﴿ أو يعيدوكم في ملتهم ﴾ يعني في كفرهم.
﴿ ولن تفلحوا إذاً أبداً ﴾ إن أعادوكم في ملتهم.
قوله تعالى :﴿ وكذلك أعثرنا عليهم ﴾ فيه وجهان
أحدهما : أظهرنا أهل بلدهم عليهم.
الثاني : أطلعنا برحمتنا إليهم.
﴿ وليعلموا أن وعْدَ اللهِ حقٌّ... ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : ليعلم أهل بلدهم أن وعد الله حق في قيام الساعة وإعادة الخلق أحياء، لأن من أنامهم كالموتى هذه المدة الخارجة عن العادة ثم أيقظهم أحياء قادر على إحياء من أماته وأقبره.
الثاني : معناه ليرى أهل الكهف بعد علمهم أن وعد الله حق في إعادتهم. ﴿ إذ يتنازعون بينهم أمرهم ﴾ ذلك أنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها وطعام، استنكروا شخصه واستنكرت ورقه لبعد العهد فحمل إلى الملك وكان صالحاً قد آمن ومن معه، فلما نظر إليه قال : لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك فقد كنت أدعو الله أن يريناهم، وسأل الفتى فأخبره فانطلق والناس معه إليهم، فلما دنوا من أهل الكهف وسمع الفتية كلامهم خافوهم ووصى بعضهم بعضاً بدينهم فلما دخلوا عليهم أماتهم الله ميتة الحق، فحينئذ كان التنازع الذي ذكره الله تعالى فيهم.
وفي تنازعهم قولان :
أحدهما : أنهم تنازعوا هل هم أحياء أم موتى؛
الثاني : أنهم تنازعوا بعد العلم بموتهم هل يبنون عليهم بنياناً يعرفون به أم يتخذون عليهم مسجداً.
وقيل : إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب، فأتاه آت منهم في المنام فقال : أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود فدعْنا.
قوله تعالى :﴿ سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ﴾ فأدخل الواو على انقطاع القصة لأن الخبر قد تم.
﴿ قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل ﴾ في المختلفين في عددهم قولان :
أحدهما : أنهم أهل المدينة قبل الظهور عليهم.
الثاني : أنهم أهل الكتاب بعد طول العهد بهم. وقوله تعالى :﴿ رجماً بالغيب ﴾ قال قتادة قذفاً بالظن، قال زهير :
وما الحرب إلاَّ ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجّم.
وقال ابن عباس : أنا من القليل الذي استثنى الله تعالى : كانوا سبعة وثامنهم كلبهم.
وقال ابن جريج ومحمد بن إسحاق : كانوا ثمانية، وجعلا قوله تعالى :
﴿ وثامنهم كلبهم ﴾ أي صاحب كلبهم.
وكتب قومهم أسماءهم حين غابوا، فلما بان أمرهم كتبت أسماؤهم على باب الكهف. قال ابن جريج : أسماؤهم مكسلمينا ويمليخا وهو الذي مضى بالورق يشتري به الطعام، ومطرونس، ومحسيميلنينا، وكشوطوش، وبطلنوس ويوطونس وبيرونس.
قال مقاتل : وكان الكلب لمكسلمينا وكان أسنهم وكان صاحب غنم. ﴿ فلا تمار فيهم إلاّ مراءً ظاهراً ﴾ فيه خمسة أوجه :
أحدها : إلا ما قد أظهرنا لك من أمرهم، قاله مجاهد.
الثاني : حسبك ما قصصا عليك من شأنهم، فلا تسألني عن إظهار غيره، قاله قتادة.
الثالث : إلا مِراء ظاهراً يعني بحجة واضحة وخبر صادق، قاله علي بن عيسى.
الرابع : لا تجادل فيهم أحداً ألا أن تحدثهم به حديثاً، قاله ابن عباس.
الخامس : هو أن تشهد الناس عليهم. ﴿ ولا تستفت فيهم منهم أحداً ﴾ فيه وجهان : أحدهما : ولا تستفت يا محمد فيهم أحداً من أهل الكتاب، قاله ابن عباس. ومجاهد وقتادة.
الثاني : أنه خطاب للنبي ﷺ ونهي لأمته.
قوله تعالى :﴿ ولا تقولن لشيءإني فاعلٌ ذلك غداً ﴾ ﴿ إلا إن يشاء الله ﴾ قال الأخفش : فيه إضمار وتقديره : إلا أن تقول إن شاء الله، وهذا وإن كان أمراً فهو على وجه التأديب والإرشاد أن لا تعزم على أمر إلا أن تقرنه بمشيئة الله تعالى لأمرين :
أحدهما : أن العزم ربما صد عنه بمانع فيصير في وعده مخلفاً في قوله كاذباً، قال موسى عليه السلام ﴿ ستجدني إن شاء الله صابراً ﴾ [ الكهف : ٧٠ ] ولم يصبر ولم يكن كاذباً لوجود الاستثناء في كلامه.
الثاني : إذعاناً لقدرة الله تعالى، وإنه مدبر في أفعاله بمعونة الله وقدرته.
الثالث : يختص بيمينه إن حلف وهو سقوط الكفارة عنه إذا حنث.
﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنك إذا نسيت الشيء فاذكرالله ليذكرك إياه، فإن فعل فقد أراد منك ما ذكرك، وإلا فسيدلك على ما هو أرشد لك مما نسيته، قاله بعض المتكلمين.
الثاني : واذكر ربك إذا غضبت، قاله عكرمة، ليزول عنك الغضب عند ذكره.
الثالث : واذكر ربك إذا نسيت الاستثناء بمشيئة الله في يمينك. وفي الذكر المأمور به قولان :
أحدهما : أنه ما ذكره في بقية الآية ﴿ وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً ﴾
الثاني : أنه قول إن شاء الله الذي كان نسيه عند يمينه.
واختلفوا في ثبوت الاستثناء بعد اليمين على خمسة أقاويل :
أحدها : أنه يصح الاستثناء بها إلى سنة، فيكون كالاستثناء بها مع اليمين في سقوط الكفارة ولا يصح بعد السنة، قاله ابن عباس.
الثاني : يصح الاستثناء بها في مجلس يمينه، ولا يصح بعد فراقه، قاله الحسن وعطاء.
الثالث : يصح الاستثناء بها ما لم يأخذ في كلام غيره.
الرابع : يصح الاستثناء بها مع قرب الزمان، ولا يصح مع بعده.
الخامس : أنه لا يصح الاستثناء بها إلا متصلاً بيمينه وهو الظاهر من مذهب مالك والشافعي رحمهما الله.
قوله تعالى :﴿ ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً ﴾ في قراءة ابن مسعود قالوا لبثوا في كهفهم. وفيه قولان :
أحدهما : أن هذا قول اليهود، وقيل بل نصارى نجران أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، فرد الله تعالى عليهم قولهم وقال لنبيه ﴿ قل الله أعلم بما لبثوا ﴾
واتلقول الثاني : أن هذا إخبار من الله تعالى بهذا العدد عن مدة بقائهم في الكهف من حين دخلوه إلى ما ماتوا فيه.
﴿ وازدادوا تسعاً ﴾ هو ما بين السنين الشمسية والسنين القمرية.
﴿ قل الله أعلم بما لبثوا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بما لبثوا بعد مدتهم إلى نزول القرآن فيهم.
الثاني : الله أعلم بما لبثوا في الكهف وهي المدة التي ذكرها عن اليهود إذ ذكروا زيادة ونقصاناً.
قوله تعالى :﴿... أبصر به وأسمع ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أن الله أبصر وأسمع، أي أبصر، بما قال وأسمع لما قالوا. الثاني : معناه أبصرهم وأسمعهم، ما قال الله فيهم.
﴿ ما لهم من دونه من وَليّ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من ناصر.
الثاني : من مانع. ﴿ ولا يشرك في حكمه أحداً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ولا يشرك في علم غيبه أحداً.
الثاني : أنه لم يجعل لأحد أن يحكم بغير حكمه فيصير شريكاً له في حكمه.
قوله تعالى :﴿... ولن تجد من دونه مُلتحداً ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : ملجأ، قاله مجاهد، قال الشاعر :
لا تحفيا يا أخانا من مودّتنا فما لنا عنك في الأقوام مُلتحد
الثاني : مهرباً، قاله قطرب، قال الشاعر :
يا لهف نفسي ولهفٌ غير مغنيةٍ عني وما مِنْ قضاء الله ملتحدُ
الثالث : معدلاً، قاله الأخفش.
الرابع : ولياً، قاله قتادة. ومعانيها متقاربة.
قوله تعالى :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يريدون تعظيمه. الثاني : يريدون طاعته. قال قتادة : نزلت هذه الآية على النبي ﷺ بالمدينة فلما نزلت عليه قال :« الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر معهم
»
. ﴿ يدعون ربهم بالغداة والعشي ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يدعونه رغبة ورهبة.
الثاني : أنهم المحافظون على صلاة الجماعة، قاله الحسن.
الثالث : أنها الصلاة المكتوبة، قاله ابن عباس ومجاهد.
ويحتمل وجهاً رابعاً : أن يريد الدعاء في أول النهار وآخره ليستفتحوا يومهم بالدعاء رغبة في التوفيق، ويختموه بالدعاء طلباً للمغفرة.
﴿ يريدون وجهه ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : بدعائهم.
الثاني : بعمل نهارهم. وخص النهار بذلك دون الليل لأن عمل النهار إذا كان لله تعالى فعمل الليل أولى أن يكون له.
﴿ ولا تعد عيناك عنهم.. ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ولا تتجاوزهم بالنظر إلى غيرهم من أهل الدنيا طلباً لزينتها، حكاه اليزيدي. الثاني : ما حكاه ابن جريج أن عيينة بن حصن قال للنبي ﷺ قبل أن يسلم : لقد آذاني ريح سلمان الفارسي وأصحابه فاجعل لنا مجلساً منك لا يجامعونا فيه، واجعل لهم مجلساً لا نجامعهم فيه، فنزلت.
﴿ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذِكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً ﴾.
قوله ﴿ أغفلنا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : جعلناه غافلاً عن ذكرنا.
الثاني : وجدناه غافلاً عن ذكرنا.
وفي هذه الغفله لأصحاب الخواطر ثلاثة أوجه : أحدها : أنها إبطال الوقت بالبطالة، قاله سهل بن عبد الله.
الثاني : أنها طول الأمل.
الثالث : أنها ما يورث الغفلة.
﴿ واتبع هواه ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : في شهواته وأفعاله.
الثاني : في سؤاله وطلبه التمييز عن غيره.
﴿ وكان أمرُه فُرُطاً ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : ضيقاً، وهو قول مجاهد.
الثاني : متروكاً، قاله الفراء.
الثالث : ندماً قاله ابن قتيبة.
الرابع : سرفاً وإفراطاً، قاله مقاتل.
الخامس : سريعاً. قاله ابن بحر. يقال أفرط إذا أسرف وفرط إذا قصر.
قوله تعالى :﴿ وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾ هذا وإن كان خارجاً مخرج التخيير فهو على وجه التهديد والوعيد، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم لا ينفعون الله بإيمانهم ولا يضرونه بكفرهم.
الثاني : فمن شاء الجنة فليؤمن، ومن شاء النار فليكفر، قاله ابن عباس.
الثالث : فمن شاء فليعرِّض نفسه للجنة بالإيمان، ومن شاء فليعرض نفسه للنار بالكفر.
﴿ إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن سرادقها حائط من النار يطيف بهم، قاله ابن عباس.
الثاني : هو دخانها ولهيبها قبل وصولهم إليها، وهو الذي قال الله تعالى فيه ﴿ إلى ظلٍّ ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب ﴾ [ المرسلات : ٣٠-٣١ ]. قاله قتادة.
الثالث : أنه البحر المحيط بالدنيا. روى يعلى بن أمية قال : قال رسول الله ﷺ « البحر هو جهنم » ثم تلا ﴿ ناراً أحاط بهم سرادقها ﴾ ثم قال « والله لا أدخلها أبداً ما دمت حياً ولا يصيبني منها قطرة » والسرادق فارسي معرب، واصله سرادر.
﴿ وإن يستغيثوا يُغَاثوا بماءٍ كالمهل... ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أنه القيح والدم، قاله مجاهد.
الثاني : دردي الزيت، قاله ابن عباس.
الثالث : أنه كل شيء أذيب حتى انماع؛ قاله ابن مسعود.
الرابع : هو الذي قد انتهى حره، قاله سعيد بن جبير، قال الشاعر :
شاب بالماء منه مهلاً كريهاً ثم علّ المتون بعد النهال
وجعل ذلك إغاثة لاقترانه بذكر الاستغاثة.
﴿... بئس الشراب وساءت مرتفقاً ﴾ في المرتفق أربعة تأويلات :
أحدها : معناه مجتمعاً، قاله مجاهد، كأنه ذهب إلى معنى المرافقة.
الثاني : منزلاً قاله الكلبي، مأخوذ من الارتفاق.
الثالث : أنه من الرفق.
الرابع : أنه من المتكأ مضاف إلى المرفق، ومنه قول أبي ذؤيب :
قوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجْر من أحسن عملاً ﴾ روى البراء بن عازب أن أعرابياً قام إلى رسول الله ﷺ في حجة الوداع فقال : إني رجل متعلم فأخبرني عن هذه الآية ﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ الآية فقال رسول الله صلى عليه وسلم « يا أعرابي ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك، هم هؤلاء الأربعة الذين هم وقوف، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم
»
. قوله تعالى :﴿... ويلبسون ثياباً خُضْراً مِن سندس وإستبرق ﴾ أما السندس : ففيه قولان :
أحدهما : أنه من ألطف من الديباج، قاله الكلبي.
الثاني : ما رَقَّ من الديباج، واحده سندسة، قاله ابن قتيبة. وفي الاستبرق قولان :
أحدهما : أنه ما غلظ من الديباج، قاله ابن قتيبة، وهو فارسي معرب، أصله استبره وهو الشديد، وقد قال المرقش :
نامَ الخَلِيُّ وَبِتُّ الليْلَ مُرْتَفِقاً كَأَنَّ عَيْنِي فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ
تراهُنَّ يَلبْسنَ المشاعِرَ مرة وإسْتَبْرَقَ الديباج طوراً لباسُها
الثاني : أنه الحرير المنسوج بالذهب، قاله ابن بحر.
﴿ متكئين فيها على الأرائك ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الحجال، قاله الزجاج.
الثاني : أنها الفُرُش في الحجال.
الثالث : أنها السرر في الحجال، وقد قال الشاعر :
قوله تعالى :﴿ واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين ﴾ الجنة : البستان، فإذا جمع العنب والنخل وكان تحتها زرع فهي أجمل الجنان وأجداها نفعاً، لثمر أعاليها وزرع أسافلها، وهو معنى قوله ﴿ وجعلنا بينهما رزعاً ﴾.
﴿ كلتا الجَنتين آتت أكلُها ﴾ أي ثمرها وزرعها، وسماه أكُلاً لأنه مأكول.
﴿ ولم تظلم منه شيئاً ﴾ أي استكمل جميع ثمارها وزرعها.
﴿ وفجرنا خِلالهما نهراً ﴾ يعني أن فيهما أنهاراً من الماء، فيكون ثمرها وزرعها بدوام الماء فيهما أو في وأروى، وهذه غاية الصفات فيما يجدي ويغل.
وفي ضرب المثل في هاتين الجنتين قولان :
أحدهما : ما حكاه مقاتل بن سليمان أنه إخبار الله تعالى عن أخوين كانا في بني إسرائيل ورثا عن أبيهما مالاً جزيلاً، قال ابن عباس ثمانية آلاف دينار. فأخذ أحدهما حقه وهو مؤمن فتقرب به إلى الله تعالى، وأخذ الآخر حقه منه وهو كافر فتملك به ضياعاً منها هاتان الجنتان، ولم يتقرب إلى الله تعالى بشيء منه، فكان من حاله ما ذكره الله من بعد، فجعله الله تعالى مثلاً لهذه الأمة.
والقول الثاني : أنه مثل ضربه الله تعالى لهذه الأمة، وليس بخبر عن حال متقدمة، ليزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة، وجعله زجراً وإنذاراً.
قوله تعالى :﴿ وكان له ثمرٌ ﴾ قرأ عاصم بفتح الثاء والميم، وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم، وقرأ الباقون ثُمُر بضم الثاء والميم. وفي اختلاف هاتين القراءتين بالضم والفتح قولان :
أحدهما : معناهما واحد، فعلى هذا فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه الذهب والفضة، قاله قتادة، لأنها أموال مثمرة.
الثاني : أنه المال الكثير من صنوف الأموال، قاله ابن عباس لأن تثميره أكثر
الثالث : أنه الأصل الذي له نماء، قاله ابن زيد، لأن في النماء تثميراً.
والقول الثاني : أن معناهما بالضم وبالفتح مختلف، فعلى هذا في الفرق. بينهما، أربعة أوجه :
أحدها : أنه بالفتح جمع ثمرة، وبالضم جمع ثمار.
الثاني : أنه بالفتح ثمار النخيل خاصة، وبالضم جميع الأموال، قاله ابن بحر.
الثالث : أنه بالفتح ما كان ثماره من أصله، وبالضم ما كان ثماره من غيره.
الرابع : أن الثمر بالضم الأصل، وبالفتح الفرع، قاله ابن زيد.
وفي هذا الثمر المذكور قولان :
أحدهما : أنه ثمر الجنتين المتقدم ذكرهما، وهو قول الجمهور.
الثاني : أنه ثمر ملكه من غير جنتيه، وأصله كان لغيره كما يملك الناس ثماراً لا يملكون أصولها، قاله ابن عباس، ليجتمع في ملكه ثمار أمواله وثمار غير أمواله فيكون أعم مِلكا.
﴿ فقال لصاحبه ﴾ يعني لأخيه المسلم الذي صرف ماله في القُرب طلباً للثواب في الآخرة، وصرف هذا الكافر ماله فيما استبقاه للدنيا والمكاثرة.
﴿ وهو يحاوره ﴾ أي يناظره، وفيما يحاوره فيه وجهان :
أحدهما : في الإيمان والكفر.
الثاني : في طلب الدنيا وطلب الآخرة، فجرى بينهما ما قصة الله تعالى من قولهما.
قوله تعالى :﴿ فعسى ربّي أن يؤتين خيراً مِنْ جنتك ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : خيراً من جنتك في الدنيا فأساويك فيها.
الثاني : وهو الأشهر خيراً من جنتك في الآخرة، فأكون أفضل منك فيها.
﴿ ويرسل عليها حُسْباناً من السماء ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : يعني عذاباً، قاله ابن عباس وقتادة.
الثاني : ناراً.
الثالث : جراداً.
الرابع : عذاب حساب بما كسبت يداك، قاله الزجاج، لأنه جزاء الآخرة. والجزاء من الله تعالى بحساب.
الخامس : أنه المرامي الكثيرة، قاله الأخفش وأصله الحساب وفي السهام التي يرمى بها في طلق واحد، وكان من رَمي الأساورة.
﴿ فتصبح صعيداً زلقاً ﴾ يعني أرضاً بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم، وهي أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض.
﴿ أو يصبح ماؤها غوراً ﴾ يعني ويصبح ماؤها غوراً، فأقام أو مقام الواو، و ﴿ غوراً ﴾ يعني غائراً ذاهباً فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كان فيها.
﴿ فلن تستطيع له طلباً ﴾ ويحتمل وجهين :
أحدهما : فلن تستطيع رد الماء الغائر. الثاني : فلن تستطيع طلب غيره بدلاً منه وإلى هذا الحد انتهت مناظرة أخيه وإنذاره.
قوله تعالى :﴿ وأحيط بثمرِهِ ﴾ أي أهلك ماله، وهذا أول ما حقق الله به إنذار أخيه. ﴿ فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يقلب كفيه ندماً على ما أنفق فيها وأسفاً على ما تلف.
الثاني : يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق وهلك، لأن الملك قد يعبر عنه باليد، من قولهم في يده مال، أي في ملكه.
﴿ وهي خاويةٌ على عروشِها ﴾ أي منقلبة على عاليها فجمع عليه بين هلاك الأصل والثمر، وهذا من أعظم الجوائح مقابلة على بغيه.
قوله تعالى :﴿ ولم تكُنْ له فِئة ينصرونه منْ دونِ الله ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن الفئة الجند، قاله الكلبي.
الثاني : العشيرة، قاله مجاهد.
﴿ وما كان منتصراً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : وما كان ممتنعاً، قاله قتادة.
الثاني : وما كان مسترداً بدل ما ذهب منه.
قال ابن عباس : هما الرجلان ذكرهما الله تعالى في سورة الصافات حيث يقول :
﴿ إني كان لي قرين ﴾ إلى قوله ﴿ في سواء الجحيم ﴾ وهذا مثل قيل إنه ضرب لسلمان وخباب وصهيب مع أشراف قريش من المشركين.
قوله تعالى :﴿ هنالك الولاية لله الحق ﴾ يعني القيامة. وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أنهم يتولون الله تعالى في القيامة فلا يبقى مؤمن لا كافر إلا تولاه، قاله الكلبي.
الثاني : أن الله تعالى يتولى جزاءهم، قاله مقاتل.
الثالث : أن الولاية مصدر الولاء فكأنهم جميعاً يعترفون بأن الله تعالى هو الوليّ قاله الأخفش.
الرابع : أن الولاية النصر، قاله اليزيدي.
وفي الفرق بين الولاية بفتح الواو وبين الولاية بكسرها وجهان :
أحدهما : أنها بفتح الواو : للخالق، وبكسرها : للمخلوقين، قاله أبو عبيدة.
الثاني : أنها بالفتح في الدين، وبكسرها في السلطان.
قوله تعالى :﴿ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نباتُ الأرض ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الماء اختلط بالنبات حين استوى.
الثاني : أن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء حتى نما.
﴿ فأصبح هشيماً تذروهُ الرياحُ ﴾ يعني بامتناع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازاً لدلالة الكلام عليه، والهشيم ما تفتت بعد اليبس من أوراق الشجر والزرع، قال الشاعر :
خدوداً جفت في السير حتى كأنما يباشرْن بالمعزاء مَسَّ الأرائكِ
فأصبحت نيّماً أجسادهم يشبهها من رآها الهشيما
واختلف في المقصود بضرب هذا المثل على قولين :
أحدهما : أن الله تعالى ضربه مثلاً للدنيا ليدل به على زوالها بعد حسنها وابتهاجها :
الثاني : أن الله تعالى ضربه مثلاُ لأحوال أهل الدنيا أن مع كل نعمة نقمة ومع كل فرحة ترحة.
قوله تعالى :﴿ المال والبنون زينة الحياة الدنيا ﴾ لأن في المال جمالاً ونفعاً وفي ﴿ البنين ﴾ قوة ودفعاً فصارا زينة الحياة الدنيا.
﴿ والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً ﴾ فيها أربعة تأويلات :
أحدها : أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير.
الثاني : أنها الأعمال الصالحة، قاله ابن زيد.
الثالث : هي الكلام الطيب. وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً، وقاله عطية العوفي.
الرابع : هو قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هي الباقيات الصالحات
»
. وفي ﴿ الصالحات ﴾ وجهان :
أحدهما : أنها بمعنى الصالحين لأن الصالح هو فاعل الصلاح.
الثاني : أنها بمعنى النافعات فعبر عن المنفعة بالصلاح لأن المنفعة مصلحة. وروي عن النبي ﷺ أنه قال :« لما عُرج بي إلى السماء أريت إبراهيم فقال : مر أمتك أن يكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة، فقلت وما غراس الجنة؟ قال : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
»
. ﴿ خير عند ربك ثواباً ﴾ يعني في الآخرة، ﴿ وخير أملاً ﴾ يعني عند نفسك في الدنيا، ويكون معنى قوله ﴿ وخيرٌ أملاً ﴾ يعني أصدق أملاً، لأن من الأمل كواذب وهذا أمل لا يكذب.
قوله تعالى :﴿ ويوم نُسَيِّر الجبال ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يسيرها من السير حتى تنتقل عن مكانها لما فيه من ظهور الآية وعظم الإعتبار.
الثاني : يسيرها أي يقللها حتى يصير كثيرها قليلاً يسيراً.
الثالث : بأن يجعلها هباء منثوراً.
﴿ وترى الأرض بارزة ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه بروز ما في بطنها من الأموات بخروجهم من قبورهم.
الثاني : أنها فضاء لا يسترها جبل ولا نبات.
﴿ وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً ﴾ فيه ثلاثة تأويلات.
أحدها : يعني فلم نخلف منهم أحداً، قاله ابن قتيبة، قال ومنه سمي الغدير لأنه ما تخلفه السيول.
الثاني : فلم نستخلف منهم أحداً، قاله الكلبي.
الثالث : معناه فلم نترك منهم أحداً، حكاه مقاتل.
قوله تعالى :﴿ وعُرِضوا على ربِّك صَفّاً ﴾ قيل إنهم يُعرضون صفاً بعد صف كالصفوف في الصلاة، وقيل إنهم يحشرون عراة حفاة غرلاً، فقالت عائشة رضي الله عنها فما يحتشمون يومئذ؟ فقال النبي ﷺ « ﴿ لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه ﴾ » [ عبس : ٣٧ ].
قوله تعالى :﴿ ووضع الكتابُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنها كتب الأعمال في أيدي العباد، قاله مقاتل.
الثاني : أنه وضع الحساب، قاله الكلبي، فعبر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة.
﴿ فترى المجرمين مشفقين مما فيه ﴾ لأنه أحصاه الله ونسوه.
﴿ ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يُغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها ﴾
وفي الصغيرة تأويلان :
أحدهما : أنه الضحك، قاله ابن عباس.
الثاني : أنها صغائر الذنوب التي تغفر باجتناب كبائرها.
وأما الكبيرة ففيها قولان :
أحدهما : ما جاء النص بتحريمه.
الثاني : ما قرن بالوعيد والحَدِّ.
ويحتمل قولاً ثالثاً : أن الصغيرة الشهوة، والكبيرة العمل.
قال قتادة : اشتكى القوم الإحْصاء وما اشتكى أحد ظلماً، وإياكم المحقرات من الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه.
﴿ ووجَدوا ما عَملوا حاضِراً ﴾ يحتمل تأويلين :
أحدهما : ووجدوا إحصاء ما عملوا حاضراً في الكتاب.
الثاني : ووجدوا جزاء ما عملوا عاجلاً في القيامة.
﴿ ولا يظلم ربك أحداً ﴾ يعني من طائع في نقصان ثوابه، أو عاص في زيادة عقابه.
قوله تعالى :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجُدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجنِّ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه كان من الجن على ما ذكره الله تعالى. ومنع قائل هذا بعد ذلك أن يكون من الملائكة لأمرين :
أحدهما : أن له ذرية، والملائكة لا ذرية لهم.
الثاني : أن الملائكة رسل الله سبحانه ولا يجوز عليهم الكفر، وإبليس قد كفر، قال الحسن : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس.
الثاني : أنه من الملائكة، ومن قالوا بهذا اختلفوا في معنى قوله تعالى ﴿ كان من الجن ﴾ على ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما قاله قتادة أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجن.
الثاني : ما قاله ابن عباس، أنه كان من الملائكة من خزان الجنة ومدبر أمر السماء الدنيا فلذلك قيل من الجن لخزانة الجنة، كما يقال مكي وبصري.
الثالث : أن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم، وخلق سائر الملائكة من نور، قاله سعيد من جبير، قاله الحسن : خلق إبليس من نار وإلى النار يعود.
الثالث : أن إبليس لم يكن من الإنس ولا من الجن، ولكن كان من الجان، وقد مضى من ذكره واشتقاق اسمه ما أغنى.
﴿ ففسق عن أمر ربه... ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن الفسق الاتساع ومعناه اتسع في محارم الله تعالى :
الثاني : أن الفسق الخروج أي خرج من طاعة ربه، من قولهم فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من حجرها قال رؤبة بن العجاج :
يهوين من نجدٍ وغورٍ غائرا فواسقاً عن قصدها جوائرا
وفي قوله تعالى :﴿... بئس للظالمين بدلاً ﴾ وجهان :
أحدهما : بئس ما استبدلوا بطاعة الله طاعة إبليس، قاله قتادة.
الثاني : بئس ما استبدلوا بالجنة النار.
قوله تعالى :﴿ ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ما أشهدت إبليس وذريته.
الثاني : ما أشهدت جميع الخلق خلق السموات والأرض.
وفيه وجهان :
أحدهما : ما أشهدتهم إياها استعانة بهم في خلقها.
الثاني : ما أشهدتهم خلقها فيعلموا من قدرتي ما لا يكفرون معه.
ويحتمل ثالثاً : ما أشهدتهم خلقها فيحيطون علماً بغيبها لاختصاص الله بعلم الغيب دونه خلقه.
﴿ ولا خلق أنفسهم ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ما استعنت ببعضهم على خلق بعض.
الثاني : ما أشهدت بعضهم خلق بعض.
ويحتمل ثالثاً : ما أعلمتم خلق أنفسهم فكيف يعلمون خلق غيرهم.
﴿ وما كنت متخذ المضلين عضدا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني أولياء.
الثاني : أعواناً، ووجدته منقولاً عن الكلبي.
وفيما أراد أنه لم يتخذهم فيه أعواناً وجهان :
أحدهما : أعواناً في خلق السموات والأرض.
الثاني : أعواناً لعبدة الأوثان، قاله الكلبي.
وفي هؤلاء المضلين قولان :
أحدهما : إبليس وذريته.
الثاني : كل مضل من الخلائق كلهم.
قال بعض السلف : إذا كان ذنب المرء من قبل الشهوة فارْجُه، وإذا كان من قبل الكبر فلا ترْجه، لأن إبليس كان ذنبه من قبل الكبر فلم تقبل توبته، وكان ذنب آدم من قبل الشهوة فتاب الله عليه. وقد أشار بعض الشعراء إلى هذا المعنى فقال :
قوله تعالى :﴿... وجعلنا بينهم موبقاً ﴾ فيه ستة أقاويل :
أحدها : مجلساً، قاله الربيع.
الثاني : مهلكاً، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك، قال الشاعر :
إذا ما الفتى طاح في غيّه فَرَجِّ الفتى للتُّقى رَجّه
فقد يغلط الركب نهج الط ريق ثم يعود إلى نهجه
استغفر الله أعمالي التي سلفت من عثرةٍ إن تؤاخذني بها أبق
أي أهلك، ومثله قول زهير :
ومن يشتري حسن الثناء بماله يصن عرضَه من كل شنعاء موبق
قال الفراء : جعل تواصلهم في الدنيا مهلكاً في الآخرة.
الثالث : موعداً، قاله أبو عبيدة.
الرابع : عداوة، قاله الحسن.
الخامس : أنه واد في جهنم، قاله أنس بن مالك.
السادس : أنه واد يفصل بين الجنة والنار، حكاه بعض المتأخرين.
قوله تعالى :﴿ ورأى المجرمون النّار ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنهم عاينوا في المحشر.
الثاني : أنهم علموا بها عند العرض.
﴿ فظنُّوا أنهم مُواقعوها ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنهم أمّلوا العفو قبل دخولها فلذلك ظنوا أنهم مواقعوها
الثاني : علموا أنهم مواقعوها لأنهم قد حصلوا في دار اليقين وقد يعبر عن العلم بالظن لأن الظن مقدمة العلم.
﴿ ولم يجدوا عنها مصرفاً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ملجأ، قاله الكلبي.
الثاني : معدلاً ينصرفون إليه، قاله ابن قتيبة، ومنه قول أبي كبير الهذلي :
أزهير هل عن شيبةٍ من مصرِف أم لا خلود لباذل متكلفِ
وفي المراد وجهان :
أحدهما : ولم يجد المشركون عن النار مصرفاً.
الثاني : ولم تجد الأصنام مصرفاً للنار عن المشركين.
قوله تعالى :﴿ ولقد صرَّفنا في هذا القرآن للناس من كلِّ مثَل ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : ما ذكره لهم من العبر في القرون الخالية.
الثاني : ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية، فيكون على الوجه الأول جزاء، وعلى الثاني بياناً.
﴿ وكان الإنسان أكثر شيءٍ جَدلاً ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : عناداً، وهو مقتضى الوجه الأول.
الثاني : حجاجاً وهو مقتضى القول الثاني. روي أن النبي ﷺ دخل على عليّ وفاطمة رضي الله عنهما وهما نائمان فقال :« الصلاة، ألا تصليان » فقال علي رضي الله عنه : إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثها بعثها، فانصرف النبي ﷺ وهو يقول ﴿ وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً ﴾ [ الكهف : ٥٤ ].
قوله تعالى :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءَهم الهُدى ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : وما منع الناس أنفسهم أن يؤمنوا.
الثاني : ما منع الشيطان الناس أن يؤمنوا.
وفي هذا الهدي وجهان :
أحدهما : حجج الله الدالة على وحدانيته ووجوب طاعته.
الثاني : رسول الله ﷺ المبعوث لهداية الخلق.
﴿ إلاّ أن تأتيهم سنةُ الأولين ﴾ أي عادة الأولين في عذاب الإستئصال.
﴿ أو يأتيهم العذاب قبلاً ﴾ قرأ عاصم وحمزة والكسائي ﴿ قُبُلاً ﴾ بضم القاف والباء وفيه وجهان :
أحدهما : تجاه، قاله مجاهد.
الثاني : أنه جمع قبيل معناه ضروب العذاب.
ويحتمل ثالثاً : أن يريد : من أمامهم مستقبلاً لهم فيشتد عليهم هول مشاهدته.
وقرأ الباقون قِبَلاً بكسر القاف، وفيه وجهان :
أحدهما : مقابلة.
الثاني : معاينة.
ويحتمل ثالثاً : من قبل الله تعالى بعذاب من السماء، لا من قبل المخلوقين، لأنه يعم ولا يبقى فهو أشد وأعظم.
قوله تعالى :﴿.. ليُدحضوا به الحقَّ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ليذهبوا به الحق، ويزيلوه، قاله الأخفش.
الثاني : ليبطلوا به القرآن ويبدلوه، قاله الكلبي.
الثالث : ليهلكوا به الحق.
والداحض الهالك،
مأخوذ من الدحض وهو الموضع المزلق من الأرض الذي لا يثبت عليه خف ولا حافر ولا قدم، قال الشاعر :
ردَيت ونجَى اليشكري حِذارُه وحادَ كما حادَ البعير عن الدحض
﴿ واتخدوا آياتي وما أنذروا هُزُواً ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الآية البرهان، وما أنذروا القرآن.
الثاني : الآيات القرآن وما أنذروا الناس.
ويحتمل قوله :﴿ هزواً ﴾ وجهين :
أحدهما : لعباً.
الثاني : باطلاً.
قوله تعالى :﴿ وربُّكَ الغفور ﴾ يعني للذنوب وهذا يختص به أهل الإيمان دون الكفرة.
﴿ ذو الرّحمة... ﴾ فيها أربعة أوجه :
أحدها : ذو العفو.
الثاني : ذو الثواب، وهو على هذين الوجهين مختص بأهل الإيمان دون الكفرة.
الثالث : ذو النعمة.
الرابع : ذو الهدى، وهو على هذين الوجهين يعم أهل الإيمان وأهل الكفر لأنه ينعم في الدنيا على الكافر كإنعامه على المؤمن، وقد أوضح هذه للكافر كما أوضحه للمؤمن، وإن اهتدى به المؤمن دون الكافر.
﴿ بل لهم موعدٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أجل مقدر يؤخرون إليه.
الثاني : جزاء واجب يحاسبون عليه.
﴿ لن يجدوا مِن دونه مَوْئلاً ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : ملجأ، قاله ابن عباس وابن زيد.
الثاني : محرزاً، قاله مجاهد.
الثالث : ولياً، قاله قتادة.
الرابع : منجى، قاله أبو عبيدة. قال والعرب تقول : لا وألَت نفسه، أي لا نجت، ومنه قول الشاعر :
لا وألت نفسك خلّيْتها للعامريّين ولم تُكْلَمِ
أحدهما : أهلكناهم بالعذاب لما ظلموا بالكفر.
الثاني : أهلكناهم بأن وكلناهم إلى سوء تدبيرهم لما ظلموا بترك الشكر.
﴿ وجعلنا لمهلكهم مَوْعِداً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أجلا يؤخرون إليه، قاله مجاهد.
الثاني : وقتاً يهلكون فيه. وقرىء بضم الميم وفتحها، فهي بالضم من أُهلك وبالفتح من هَلَك.
قوله تعالى :﴿ وإذا قال موسى لفتاه ﴾ يعني يوشع بن نون وهو ابن أخت موسى وسمي فتاهُ لملازمته إياه، قيل في العلم، وقيل في الخدمة، وهو خليفة موسى على قومه من بعده.
وقال محمد بن إسحاق : إن موسى الذي طلب الخضر هو موسى بن منشى بن يوسف، وكان نبياً في بني إسرائيل قبل موسى بن عمران.
والذي عليه جمهور المسلمين أنه موسى بن عمران.
﴿ لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني بحر الروم وبحر فارس، أحدهما قبل المشرق، والآخر قبل المغرب وحكى الطبري أنه ليس في الأرض مكان أكثر ماء منه.
والقول الثاني : هو بحر أرمينية مما يلي الأبواب.
الثالث : الخضرُ وإلياس، وهما بحران في العلم، حكاه السدي.
﴿ أو أمضي حُقباً ﴾ فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن الحقب ثمانون سنة، قاله عبد الله بن عمر.
الثاني : سبعون سنة، قاله مجاهد.
الثالث : أن الحقب الزمان، قاله قتادة.
الرابع : أنه الدهر، قاله ابن عباس، ومنه قول امرىء القيس :
نحن الملوك وأبناء الملوك، لنا مِلكٌ به عاش هذا الناس أحقابا
الخامس : أنه سنة بلغة قيس، قاله الكلبي. وفي قوله ﴿ لا أبْرحُ ﴾ تأويلان :
أحدهما : لا أفارقك، ومنه قول الشاعر :
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانةً وتحمل أُخرى أثقلتك الودائع
الثاني : لا أزال، قاله الفراء، ومنه قول الشاعر :
وأبرح ما أدام اللهُ قومي بحمد الله منتطقاً مجيداً
أي لا أزال. وقيل إنه قال ﴿ لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ﴾ لأنه وعد أن يلقى عنده الخضر عليه السلام.
﴿ فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حُوتَهما ﴾ قيل إنهما تزودا حوتاً مملوحاً وتركاه حين جلسا، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه ضل عنهما حتى اتخذ سبيله في البحر سرباً، فسمي ضلاله عنهما نسياناً منهما.
الثاني : أنه من النسيان له والسهو عنه.
ثم فيه وجهان :
أحدهما : أن الناسي له أحدهما وهو يوشع بن نون وحده وإن أضيف النسيان إليهما، كما يقال نسي القوم زادهم إذا نسيه أحدهم.
الثاني : أن يوشع نسي أن يحمل الحوت ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء، فصار كل واحد منهما ناسياً لغير ما نسيه الآخر.
﴿ فاتّخذ سبيله في البحر سَرَباً ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : مسلكاً، قاله مجاهد وابن زيد.
الثاني : يبساً، قاله الكلبي.
الثالث : عجباً، قاله مقاتل.
قوله تعالى :﴿ فلما جاوَزا ﴾ يعني مكان الحوت.
﴿ قال لفَتاهُ ﴾ يعني موسى قال لفتاه يوشع بن نون.
﴿ آتِنا غداءَنا ﴾ والغداء الطعام بالغداة كما أن العشاء طعام العشي والإنسان إلى الغداء أشد حاجة منه إلى العشاء.
﴿ لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه التعب.
الثاني : الوهن.
﴿ قال أرأيت إذ أوينا الى الصخرة ﴾ فيه قولان :
أحدهما : قاله مقاتل، إن الصخرة بأرض تسمى شره ان على ساحل بحر أيلة، وعندها عين تسمى عين الحياة.
487
الثاني : أنها الصخرة التي دون نهر الزيت على الطريق.
﴿ فإني نسيت الحُوت ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : فإني نسيت حمل الحوت.
الثاني : فإني نسيت أن أخبرك بأمر الحوت.
﴿ وما أنسانيه إلاّ الشيطان أن اذكُره ﴾ أي أنسانية بوسوسته إليّ وشغله لقلبي.
﴿ واتخذ سبيله في البحر عجباً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : انه كان لا يسلك طريقاً في البحر إلا صار ماؤه صخراً فلما رآه موسى عجب من مصير الماء صخراً.
الثاني : أن موسى لما أخبره يوشع بأمر الحوت رجع إلى مكانه فرأى أثر الحوت في البحر ودائرته التي يجري فيها فعجب من عود الحوت حياً.
﴿ قال ذلك ما كُنّا نبغِ ﴾ أي نطلب، وذلك أنه قيل لموسى إنك تلقى الخضر في موضع تنسى فيه متاعك، فعلم أن الخضر بموضع الحوت.
﴿ فارتدَّا على آثارهما قَصصاً ﴾ أي خرجا إلى آثارهما يقصان أثر الحوت ويتبعانه.
﴿ فَوَجداَ عبْداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : النبوة، قاله مقاتل :
الثاني : النعمة.
الثالث : الطاعة.
الرابع : طول الحياة.
﴿ وعلّمناه من لدُنا عِلْماً ﴾ قال ابن عباس لما اقتفى موسى أثر الحوت انتهى إلى رجل راقد وقد سجي عليه ثوبه، فسلم عليه موسى، فكشف ثوبه عن وجهه وردّ عليه السلام وقال : من أنت؟ قال : موسى. قال صاحب بني إسرائيل؟ قال : نعم. قال : وما لك في بني إسرائيل شغل، قال : أمرت أن آتيك وأصحبك.
واختلفوا في الخضر هل كان مَلَكاً أو بشراً على قولين :
أحدهما : أنه كان ملكاً أمر الله تعالى موسى أن يأخذ عنه مما حمّله إياه من علم الباطن.
الثاني : أنه كان بشراً من الإنس.
واختلف من قال هذا على قولين :
أحدهما : كان نبياً لأن الإنسان لا يتعلم ولا يتبع إلا من هو فوقه؛ ولا يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي، قال مقاتل : هو ليسع لأنه وسع علمه ست سموات وست أرضين.
الثاني : أنه لم يكن نبياً وإنما كان عبداً صالحاً أودعه الله تعالى مِن علْم باطن الأمور ما لم يودع غيره، لأن النبي هو الداعي، والخضر كان مطلوباً ولم يكن داعياً طالباً، وقد ذكرأن سبب تسميته بالخضر لأنه كانه إذا صلى في مكان اخضرّ ما حوله.
488
قوله تعالى :﴿ قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمنِ مما علمت رُشْداً ﴾ في الرشد هنا ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه العلم، قاله مقاتل ويكون تقديره على أن تعلمني مما علمت علماً.
الثاني : معناه على أن تعلمني مما علمت لإرشاد الله لك.
الثالث : ما يرى في علم الخضر رشداً يفعله وغياً يجتنبه، فسأله موسى أن يعلمه من الرشد الذي يفعله، ولم يسأله أن يعلمه الغيّ الذي يجتنبه لأنه عرف الغي الذي يجتنبه ولم يعرف ذلك الرشد.
﴿ قال إنك لن تستطيع معي صبراً ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : صبراً عن السؤال.
الثاني : صبراً عن الإنكار.
﴿ وكيف تصبر على ما لم تُحِطْ به خُبراً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لم تجد له سبباً.
الثاني : لم تعرف له علماً، لأن الخضر علم أن موسى لا يصبر إذا رأى ما بنكر ظاهره.
﴿ قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً ﴾ فوعد بالصبر والطاعة ثم استثنى بمشيئة الله تعالى حذراً مما يلي فأطاع ولم يصبر. وفي قوله :﴿ ولا أعصي لك أمراً ﴾ وجهان :
أحدهما : لا ابتدىء بالإنكار حتى تبدأ بالإخبار.
الثاني : لا أفشي لك سراً ولا أدل عليك بشراً. فعلى الوجه الأول يكون مخالفاً. على الوجه الثاني : يكون موافقاً.
قوله تعالى :﴿ فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها ﴾ لأنه أراد أن يعبر في البحر إلى أرض أخرى فركب في السفينة وفيها ركاب، فأخذ الخضر فأساً ومنقاراً فخرق السفينة حتى دخلها الماء وقيل إنه قلع منها لوحين فضج ركابها من الغرق.
ف ﴿ قال ﴾ له موسى ﴿ أخرقتها لتغرق أهلها ﴾ وإن كان في غرقها غرق جميعهم لكنه أشفق على القوم أكثر من إشفاقه على نفسه لأنها عادة الأنبياء.
ثم قال بعد تعجبه وإكباره ﴿ لقد جئت شيئاً إمْراً ﴾ فأكبر ثم أنكر، وفي الإمر ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني منكراً، قاله مجاهد.
الثاني : عجباً، قاله مقاتل.
الثالث : أن الإمر الداهية العظيمة، قاله أبو عبيدة وأنشد :
قد لقي الأقران مِنّي نُكْرا داهيةً دهياء إدّاً إمْرا
وهو مأخوذ من الإمر وهو الفاسد الذي يحتاج إلى الصلاح، ومنه رجل إمر إذا كان ضعيف الرأي لأنه يحتاج أن يؤمر حتى يقوى رأيه، ومنه أمِر القومُ إذا أكثروا لأنهم يحتاجون إلى من يأمرهم وينهاهم.
قوله تعالى :﴿ قال لا تؤاخذني بما نسيتُ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بما نسيته وغفلت عنه فلم أذكره، وقد رفعه أبي بن كعب.
الثاني : بما كأني نسيته، ولم أنسه في الحقيقة. حكى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : لم ينس ولكنها معاريض الكلام.
الثالث : بما تركته من عهدك، قاله ابن عباس، مأخوذ من النسيان الذي هو الترك لا من النسيان الذي هو من السهو.
﴿ ولا تُرهقني مِنْ أمري عُسْراً ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : لا تعنفني على ما تركت من وصيتك، قاله الضحاك.
الثاني : لا يغشني منك العسر، من قولهم غلام مراهق إذا قارب أن يغشاه البلوغ، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال :« ارهقوا القبلة » أي اغشوها واقربوا منها.
الثالث : لا تكلفني ما لا أقدر عليه من التحفظ عن السهو والنسيان، وهو معنى قول مقاتل :
الرابع : لا يلحقني منك طردي عنك.
قوله تعالى :﴿ فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله ﴾ يعني انطلق موسى والخضر فاحتمل أن يكون يوشع تأخر عنهما، لأن المذكور انطلاق اثنين وهو الأظهر لاختصاص موسى بالنبوة واجتماعه مع الخضر عن وحي، واحتمل أن يكون معهما ولم يذكر لأنه تابع لموسى، فاقتصر على ذكر المتبوع دون التابع لقول موسى :﴿ ذلك ما كنا نبغي ﴾ فكان ذلك منه إشارة إلى فتاه يوشع.
واختلف في الغلام المقتول هل كان بالغاً، فقال ابن عباس : كان رجلاً شاباً قد قبض على لحيته لأن غير البالغ لا يجري عليه القلم بما يستحق به القتل، وقد يسمى الرجل غلاماً، قالت ليلى الأخيلية في الحجّاج :
شفاها من الداء العُضال الذي بها غُلامٌ إذا هزَّ القَناةَ سقاها
وقال الأكثرون : كان صغيراً غير بالغ وكان يلعب مع الصبيان، حتى مر به الخضر فقتله.
490
وفي سبب قتله قولان :
أحدهما : لأنه طبع على الكفر.
الثاني : لأنه أصلح بقتله حال أبويه. وفي صفة قتله قولان :
أحدهما : أنه أخذه من بين الصبيان فأضجعه وذبحه بالسكين، قاله سعيد بن جبير.
الثاني : أنه أخذ حجراً فقتل به الغلام، قاله مقاتل فاستعظم موسى ما فعله الخضر من قتل الغلام من غير سبب.
ف ﴿ قال أقتلت نَفْساً زَكيةً بغير نفْسٍ ﴾ فاختلف هل قاله استخباراً أو إنكاراً على قولين :
أحدهما : أنه قال ذلك استخباراً عنه لعلمه بأنه لا يتعدى في حقوق الله تعالى.
الثاني : أنه قاله إنكاراً عليه لأنه قال ﴿ لقد جئت شيئاً نُكراً ﴾
قرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير ﴿ زاكية ﴾ وقرأ حمزة وابن عامر وعاصم والكسائي زكيّة بغير ألف.
واختلف في زاكية - وزكية على قولين : أحدهما : وهو قول الأكثرين أن معناهما واحد، فعلى هذا اختلف في تأويل ذلك على ستة أوجه :
أحدها : أن الزاكية التائبة، قاله قتادة.
الثاني : أنها الطاهرة، حكاه ابن عيسى.
الثالث : أنها النامية الزائدة، قاله كثير من المفسرين، قال نابغة بني ذبيان :
وما أخرتَ من دُنياك نقص وإن قدّمْتَ عادَ لَك الزّكاءُ
يعني الزيادة.
الرابع : الزاكية المسلمة، قاله ابن عباس لأن عنده أن الغلام المقتول رجل.
الخامس : أن الزاكية التي لم يحل دمها، قاله أبو عمرو بن العلاء.
السادس : أنها التي لم تعمل الخطايا، قاله سعيد بن جبير. والقول الثاني : أن بين الزاكية والزكية فرقاً، وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن الزاكية في البدن، والزكية في الدين، وهذا قول أبي عبيدة.
الثاني : أن الزكية أشد مبالغة من الزاكية، قاله ثعلب.
الثالث : أن الزاكية التي لم تذنب، والزكية التي أذنبت ثم تابت فغفر لها،
قاله أبو عمرو بن العلاء.
﴿ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : شيئاً منكراً، قاله الكلبي.
الثاني : أمراً فظيعاً قبيحاً، وهذا معنى قول مقاتل.
الثالث : أنه الذي يجب أن ينكر ولا يفعل.
الرابع : أنه أشد من الإِمْر، قاله قتادة.
491
قوله تعالى :﴿ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : فلا تتابعني.
الثاني : فلا تتركني أصحبك، قاله الكسائي.
الثالث : فلا تصحبني.
الرابع : فلا تساعدني على ما أريد.
﴿ قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذراً ﴾ قد اعتذرت حين أنذرت.
﴿ فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا ﴾ اختلف في هذه القرية على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها أنطاكية، قاله الكلبي.
الثاني : أنها الأبُلة، قاله قتادة.
الثالث : أنها باجروان بإرمينية، قاله مقاتل.
﴿ فَأَبَوْا إِن يُضَيِّفُوهُمَا ﴾ يقال أضفت الرجل إذا نزل عليك فأنت مضيف. وضفت الرجل إذا نزلت عليه فأنت ضيف. وكان الطلب منهما الفاقة عُذراً فيهما. والمنع من أهل القرية لشحٍ أثموا به.
﴿ فَوَجَدَا فِيها جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ ﴾ أي كاد أن ينقض؛ ذلك على التشبيه بحال من يريد أن يفعل في التالي، كقول الشاعر :
يريد الرمح صدر أبي براءٍ.. . ويرغب عن دماءِ بني عقيل
ومعنى ينقض يسقط بسرعة، ويناقض ينشق طولاً. وقرأ يحيى بن يعمر ﴿ يُرِيدُ أَن يَنقَصَّ ﴾ بالصاد غير المعجمة، من النقصان.
﴿ فَأَقَامَهُ ﴾ قال سعيد بن جبير : أقام الجدار بيده فاستقام، وأصل الجدر الظهور ومنه الجدري لظهوره.
وعجب موسى عليه السلام وقد ﴿ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا ﴾ فأقام لهم الجدار ف ﴿ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ قال قتادة : شر القرى لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه.
قوله تعالى :﴿ قَالَ هَذا فِرَاقٌ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : هذا الذي قلته ﴿ فِرَاقٌ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ﴾
الثاني : هذا الوقت ﴿ فِرَاقٌ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ﴾
﴿ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لم تستطع على المشاهدة له صبراً.
الثاني : لم تستطع على الإِمساك عن السؤال عنه صبراً. فروى ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال :« رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى لَو صَبَرَ لاَقْتَبَسَ مِنْهُ أَلْفَ بَابٍ
»
.
قوله تعالى :﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ ﴾ وفي تسميتهم مساكين أربعة أوجه :
أحدها : لفقرهم وحاجتهم.
الثاني : لشدة ما يعانونه في البحر، كما يقال لمن عانى شدة قد لقي هذا المسكين جهداً.
الثالث : لزمانة كانت بهم وعلل.
الرابع : لقلة حيلتهم وعجزهم عن الدفع عن أنفسهم، كما قال النبي ﷺ « مِسْكِينٌ رَجُلٌ لاَ امرأة له » فسماه مسكيناً لقلة حيلته وعجزه عن القيام بنفسه لا لفقره ومسكنته.
وقرأ بعض أئمة القراء « لِمَسَّاكِينَ » بتشديد السين، والمساكون هم الممسكون، وفي تأويل ذلك وجهان :
أَحدهما : لممسكون لسفينتهم للعمل فيها بأنفسهم.
الثاني : الممسكون لأموالهم شحاً فلا ينفقونها.
﴿ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾ أي أن أُحْدِثَ فيها عيباً.
﴿ وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ ﴾ في قوله ﴿ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ ﴾ وجهان :
أحدهما : أنه خلفهم، وكان رجوعهم عليه ولم يعلموا به، قاله الزجاج.
الثاني : أنه كان أمامهم. وكان ابن عباس يقرأ :﴿ وَكَانَ أَمَامَمُم مَّلِكٌ ﴾
واختلف أهل العربية في استعمال وراء موضع أمام على ثلاثة أقاويل :
أحدها : يجوز استعماله بكل حال وفي كل مكان وهو من الأضداد، قال الله تعالى ﴿ مِن وَرَائِهِم جَهَنَّمُ ﴾ أي من أمامهم وقدامهم جهنم قال الشاعر :
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
يعني أمامي.
الثاني : أن وراء يجوز أن يستعمل في موضع أمام في المواقيت والأزمان لأن الإنسان قد يجوزها فتصير وراءه ولا يجوز في غيرها.
الثالث : أنه يجوز في الأجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر، ولا يجوز في غيره قاله ابن عيسى.
﴿ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ﴾ قرأ ابن مسعود : يأخذ كل سفينة صالحة غصباً. وهكذا كان الملك يأخذ كل سفينة جيدة غصباً، فلذلك عباها الخضر لتسلم من الملك. وقيل إن اسم الملك هُدَد بن بُدَد، وقال مقاتل : كان اسمه مندلة بن جلندى بن سعد الأزدي.
قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنَ فَخَشِينآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾ قال سعيد بن جبير : وجد الخضر غلماناً يلعبون فأخذ غلاماً ظريفاً فأضجعه وذبحه، وقيل كان الغلام سداسياً وقيل أنه أراد بالسداسي ابن ست عشرة سنة، وقيل بل أراد أن طوله ستة أشبار، قاله الكلبي : وكان الغلام لصاً يقطع الطريق بين قرية أبيه وقرية أمه فينصره أهل القريتين ويمنعون منه.
قال قتادة : فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما. قيل كان اسم الغلام جيسور. قال مقاتل وكان اسم أبيه كازير، واسم أمه سهوى.
﴿ فَخَشِينآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْياناً وَكُفْراً ﴾ فيه ثلاة أوجه :
أحدهما : علم الخضر أن الغلام يرهق أبويه طغياناً وكفراً لأن الغلام كان كافراً قال قتادة : وفي قراءة أُبي ﴿ وَأَمَّا الغُلامُ فَكَانَ كَافِراً وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ﴾ فعبر عن العلم بالخشية.
الثاني : معناه فخاف ربك أن يرهق الغلام أبويه طغياناً وكفراً، فعبر عن الخوف بالخشية قال مقاتل : في قراءة أبي ﴿ فَخَافَ رَبُّكَ ﴾ والخوف ها هنا استعارة لانتفائه عن الله تعالى.
الثالث : وكره الخضر أن يرهق الغلام أبويه بطغيانه وكفره إثماً وظلماً فصار في الخشية ها هنا ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها العلم.
الثاني : أنها الخوف.
الثالث : الكراهة.
وفي ﴿ يُرْهِقَهُمَا ﴾ وجهان :
أحدهما : يكفلهما، قاله ابن زيد.
الثاني : يحملهما على الرهق وهو الجهد. ﴿ فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا ربهما خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : خيراً منه إسلاماً، قاله ابن جريج.
الثاني : خيراً منه علماً، قاله مقاتل.
الثالث : خيراً منه ولداً.
وكانت أمه حبلى فولدت، وفي الذي ولدته قولان :
أحدهما : ولدت غلاماً صالحاً مسلماً، قاله ابن جريج.
الثاني : ولدت جارية تزوجها نبي فولدت نبياً هدى الله على يديه أمة من الأمم.
﴿ وَأَقْرَبَ رُحْماً ﴾ فيه ثلاثة أوجه : أحدها : يعني أكثر براً بوالديه من المقتول، قاله قتادة، وجعل الرحم البر، ومنه قول الشاعر :
طريدٌ تلافاه يزيد برحمةٍ... فلم يُلْف من نعمائه يتعذَّرُ
الثاني : أعجل نفعاً وتعطفاً، قال أبو يونس النحوي وجعل الرحم المنفعة والتعطف، ومنه قول الشاعر :
وكيف بظلم جارية...... ومنها اللين والرحم
الثالث : أقرب أن يرحما به، والرُّحم الرحمة، قاله أبو عَمْرو بن العلاء، ومنه قول الشاعر :
أحنى وأرحمُ مِن أمٍّ بواحدِها... رُحْماً وأشجع من ذي لبدةٍ ضاري
قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الَْمَدِينَةِ ﴾ زعم مقاتل أن اسم الغلامين صرم وصريم، واسم أبيهما كاشخ، واسم أمهما رهنا، وأن المدينة قرية تسمى عيدشى.
وحقيقة الجدار ما أحاط بالدار حتى يمنع منها ويحفظ بنيانها، ويستعمل في غيرها من حيطانها مجازاً.
﴿ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا ﴾ وفي هذا الكنز ثلاثة أقاويل : أحدها : صحف علم، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد.
الثاني : لوح من ذهب مكتوب فيه حِكَم، قاله الحسن، وروى ابن الكلبي عن أنس قال : قال رسول الله ﷺ :« ﴿ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا ﴾، كَانَ الكَنزُ لَوحاً مِن ذَهَبٍ مَكْتُوباً فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ عَجَبٌ لِّمِنَ يُؤِمِنُ بِالمَوتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، عَجَبٌ لِّمَن يُوقِنُ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَحْزَنُ، عَجَبٌ لِّمَن يُوقِنُ بِزَوالِ الدُّنيَا وَتَقَلُّبِهَا بِأَهْلِهَا كَيفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا، لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
»
. الثالث : كنز : مال مذخور من ذهب وفضة، قاله عكرمة وقتادة.
﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ﴾ قيل إنهما حفظا لصلاح أبيهما السابع، قال محمد بن المنكدر : إن الله تعالى يحفظ عبده المؤمن في ولده وولد ولده وفي ذريته وفي الدويرات حوله. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي ﷺ مثله.
واختلف أهل العلم في بقاء الخضر عليه السلام إلى يوم، فذهب قوم إلى بقائه لأنه شرب من عين الحياة. وذهب آخرون إلى أنه غير باقٍ لأنه لو كان باقياً لعرف، ولأنه لا يجوز أن يكون بعد نبينا ﷺ نبي وهذا قول من زعم أن الخضر نبي.
قوله تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ﴾ اختلف فيه هل كان نبياً؟ فذهب قوم إلى أنه نبي مبعوث فتح الله على يده الأرض وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن نبياً ولا ملكاً، ولكنه كان عبداً صالحاً أحب الله وأحبه الله، وناصح لله فناصحه الله، وضربوه على قرنه فمكث ما شاء الله ثم دعاهم إلى الهدى فضربوه على قرنه الآخر، ولم يكن له قرنان كقرني الثور.
واختلف في تسميته بذي القرنين على أربعة أقاويل :
أحدها : لقرنين في جانبي رأسه على ما حكى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
الثاني : لأنه كانت له ضفيرتان فَسُمِّيَ بهما ذو القرنين، قاله الحسن.
الثالث : لأنه بلغ طرفي الأرض من المشرق والمغرب، فَسُمِّيَ لاستيلائه. على قرني الأرض ذو القرنين، قاله الزهري.
الرابع : لأنه رأى في منامه أنه دنا من الشمس حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها، فقص رؤياه على قومه فَسُمِّيَ ذو القرنين، قال وهب بن منبه.
وحكى بن عباس أن ذا القرنين هو عبد الله بن الضحاك بن معد، وحكى محمد بن إسحاق أنه رجل من إهل مصر اسمه مرزبان بن مردبة اليوناني ولد يونان بن يافث بن نوح. وقال معاذ بن جبل : كان رومياً اسمه الاسكندروس. قال ابن هشام : هو الإِسكندر وهو الذي بنى الإسكندرية.
قوله تعالى :﴿ إِنَّا مَكَنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : باستيلائه على ملكها.
الثاني : بقيامه بمصالحها.
﴿ وَأَتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من كل شيء علماً ينتسب به إلى إرادته، قاله ابن عباس وقتادة.
الثاني : ما يستعين به على لقاء الملوك وقتل الأعداء وفتح البلاد.
ويحتمل وجهاً ثالثاً : وجعلنا له من كل أرض وليها سلطاناً وهيبة.
قوله تعالى :﴿ فَأَتْبَعَ سَبَاً ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : منازل الأرض ومعالمها.
الثاني : يعني طرقاً بين المشرق والمغرب، قاله مجاهد، وقتادة.
الثالث : طريقاً إلى ما أريد منه.
الرابع : قفا الأثر، حكاه ابن الأنباري.
﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص ﴿ حَمِئَةٍ ﴾ وفيها وجهان :
أحدهما : عين ماء ذات حمأة، قاله مجاهد، وقتادة.
الثاني : يعني طينة سوداء، قاله كعب.
وقرأ بن الزبير، والحسن :﴿ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ ﴾ وهي قراءة الباقين يعني حارة.
فصار قولاً ثالثاً : وليس بممتنع أن يكون ذلك صفة للعين أن تكون حمئة سوداء حامية، وقد نقل مأثوراً في شعر تُبَّع وقد وصف ذا القرنين بما يوافق هذا فقال :
قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً.. ملكاً تدين له الملوك وتسجد
بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسباب أمرٍ من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خُلُبٍ وثاطٍ حرمد
الخُلُب : الطين. والثأط : الحمأة. والحرمد : الأسود.
ثم فيها وجهان : أحدهما : أنها تغرب في نفس العين.
الثاني : أنه وجدها تغرب وراء العين حتى كأنها تغيب في نفس العين.
﴿ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه خيره في عقابهم أو العفو عنهم.
الثاني : إما أن تعذب بالقتل لمقامهم على الشرك وإما أن تتخذ فيهم حُسناً بأن تمسكهم بعد الأسر لتعلمهم الهدى وتستنقذهم من العَمَى، فحكى مقاتل أنه لم يؤمن منهم إلا رجل واحد.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ﴾ قرىء بقطع الألف، وقرىء بوصلها وفيها وجهان :
أحدهما : معناهما واحد.
الثاني : مختلف. قال الأصمعي : بالقطع إذا لحق، وبالوصل إذا كان على الأثر، وإن لم يلحق.
﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ﴾ قرىء بكسر اللام، وقرىء بفتح اللام، وفي اختلافهما وجهان :
أحدهما : معناهما واحد.
الثاني : معناهما مختلف. وهي بفتح اللام الطلوع، وبكسرها الموضع الذي تطلع منه. والمراد بمطلع الشمس ومغربها ابتداء العمارة وانتهاؤها.
﴿ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً ﴾ يعني من دون الشمس ما يسترهم منها من بناء أو شجر أو لباس. وكانوا يأوون إذا طلعت عليهم إلى أسراب لهم، فإذا زالت عنهم خرجوا لصيد ما يقتاتونه من وحش وسمك.
قال ابن الكلبي : وهم تاريس وتأويل ومنسك.
وهذه الأسماء والنعوت التي نذكرها ونحكيها عمن سلف إن لم تؤخذ من صحف النبوة السليمة لم يوثق بها، ولكن ذكرت فذكرتها. وقال قتادة. هم الزنج.
قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ﴾ بالفتح قرأ ابن كثير وابو عمرو وعاصم في رواية حفص. وقرأ الباقون بين السُّدين وبالضم، واختلف فيهما على قولين.
أحدهما : أنهما لغتان معناهما واحد.
الثاني : أن معناهما مختلف.
وفي الفرق بينهما ثلاثة أوجه :
أحدها : أن السد بالضم من فعل الله تعالى وبالفتح من فعل الآدميين.
الثاني : أنه بالضم الاسم، وبالفتح المصدر، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك. والسدان جبلان، قيل إنه جعل الروم بينهما، وفي موضعهما قولان :
أحدهما : فيما بين إرمينية وأذربيجان.
الثاني : في منقطع الترك مما يلي المشرق.
﴿ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ﴾ أي من دون السدين، وفي ﴿ يَفْقَهُونَ ﴾ قراءتان :
إحداهما : بفتح الياء والقاف يعني أنهم لا يفهمون كلام غيرهم.
والقراءة الثانية : بضم الياء وكسر القاف، أي لا يفهم كلامهم غيرهم.
قوله تعالى :﴿ قَالُواْ يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ﴾ وهما من ولد يافث بن نوح، واسمهما مأخوذ من أجت النار إذا تأججت، ومنه قول جرير :
وأيام أتين على المطايا كأن سمومهن أجيج نارٍ
واسمها في الصحف الأولى ياطغ وماطغ. وكان أبو سعيد الخدري يقول أن النبي ﷺ قال :« لاَ يَمُوتُ الرَّجُلُ منهُمْ حتى يُولَدُ لِصُلْبِهِ أَلْفُ رَجُلٍ
»
. واختلف في تكليفهم على قولين :
أحدهما : أنهم مكلفون لتمييزهم.
الثاني : أنهم غير مكلفين لأنهم لو كلفوا لما جاز ألاَّ تبلغهم دعوة الإسلام.
﴿ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً ﴾ قرأ حمزة والكسائي :﴿ خَرَاجاً ﴾ وقرأ الباقون ﴿ خَرْجاً ﴾ وفي اختلاف القراءتين ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الخراج الغلة، والخرج الأجرة.
الثاني : أن الخراج اسم لما يخرج من الأرض، والخرج ما يؤخذ عن الرقاب، قاله أبو عمرو بن العلاء.
الثالث : أن الخرج ما يؤخذ دفعة، والخراج ثابت مأخوذ في كل سنة، قاله ثعلب.
قوله تعالى :﴿ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ﴾ يعني خير من الأجر الذي تبذلونه لي.
﴿ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بآلة، قاله الكلبي.
الثاني : برجال، قاله مقاتل.
﴿ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه الحجاب الشديد.
الثاني : أنه السد المتراكب بعضه على بعض فهو أكبر من السد.
﴿ ءاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها قطع الحديد، قاله ابن عباس ومجاهد.
الثاني : أنه فلق الحديد، قاله قتادة.
الثالث : أنه الحديد المجتمع، ومنه الزَّبور لاجتماع حروفه في الكتابة، قال تبع اليماني :
ولقد صبرت ليعلموه وحولهم زبر الحديد عشيةً ونهاراً
﴿ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ﴾ قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : الصدفان : جبلان، قال عمرو بن شاش :
كلا الصدفين ينفذه سناها توقد مثل مصباح الظلام
وفيهما وجهان :
أحدهما : أن كل واحد منهما محاذ لصاحبه، مأخوذ من المصادفة في اللقاء، قاله الأزهري.
الثاني : قاله ابن عيسى، هما جبلان كل واحد منهما منعزل عن الآخر كأنه قد صدف عنه.
500
ثم فيه وجهان :
أحدهما :: أن الصدفين اسم لرأسي الجبلين
الثاني : اسم لما بين الجبلين.
ومعنى قوله :﴿ سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ﴾ أي بما جعل بينهما حتى وارى رؤوسهما وسوّى بينهما.
﴿ قَالَ انفُخُوا ﴾ يعني أي في نار الحديد.
﴿ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً ﴾ يعني ليناً كالنار في الحر واللهب.
﴿ قَالَ ءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن القطر النحاس، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك.
الثاني : أنه الرصاص حكاه ابن الأنباري.
الثالث : أنه الصفر المذاب، قاله مقاتل، ومنه قول الحطيئة :
وألقى في مراجل من حديد قدور الصُّفر ليس من البُرام
الرابع : أنه الحديد المذاب، قاله أبو عبيدة وأنشد :
حُساماً كلون الملح صار حديده حراراً من أقطار الحديد المثقب
وكان حجارته الحديد وطينه النحاس.
1
قوله تعالى :﴿ فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ ﴾ أي يعلوه. ﴿ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً ﴾ يعني من أسفله، قاله قتادة، وقيل إن السد وراء بحر الروم بين جبلين هناك يلي مؤخرهما البحر المحيط. وقيل : ارتفاع السد مقدار مائتي ذراع، وعرضه نحو خمسين ذراعاً وأنه من حديد شبه المصمت. ورُوي أن رجلاً قال لرسول الله ﷺ : إِنِّي رَأَيتُ السَّدَّ :« قَالَ : انعَتهُ » قَالَ : هُوَ كَالبَرَدِ المُحَبَّر، طَريقُه سَودَاءُ وَطَريقُه حَمْرَاءُ، « قَالَ قَدْ رَأَيتَهُ
»
. قوله تعالى :﴿ قَالَ هَذا رَحْمَةٌ مِن رَّبِّي ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن عمله رحمة من الله تعالى لعباده.
الثاني : أن قدرته على عمله رحمة من الله تعالى له.
﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ﴾ قال ابن مسعود : وذلك يكون بعد قتل عيسى عليه السلام الدجال في حديث مرفوع. وروي أن النبي ﷺ قال :« إِنَّهُم يَدْأَبُونَ فِي حَفْرِهِم نَهَارُهُم حَتَّى إِذَا أَمْسَوْا وَكَادُواْ يُبْصِرُونَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالُوا نَرْجِعُ غَداً فَنَحْفُرُ بَقِيَّتَهُ، فَيَعُودُونَ مِنَ الغَدِ وَقَدِ اسْتَوَى كَمَا كَانَ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قَالُواْ : غَداً إِنْ شَاءَ اللَّهُ نَنْقُبُ بَقيَّتَهُ، فَيَرْجِعُونَ إِلَيهِ فَيَنْقُبُونَهُ فِإِذِنِ اللَّهِ، فَيَخْرُجُونَ مِنهُ عَلَى النَّاسِ مِن حُصُونِهِم، ثُمَّ يَرْمُونَ نبلاً إِلَى السَّمَاءِ فِيَرْجِعُ إِلَيهِم فِيهَا أَمْثَالُ الدِّمَاءِ، فَيَقُولُونَ قَدْ ظَفَرْنَا عَلَى أَهْلِ ألأَرْضِ وَقَهَرْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيُرْسِلُ اللَّهُ تَعالَى عَلَيهِم مَّا يَهْلِكُهُم
»
. ﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يوم القيامة، قاله ابن بحر.
الثاني : هو الأجل الذي يخرجون فيه.
﴿ جَعَلَهُ دَكَّآءَ ﴾ يعني السد، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أرضاً، قاله قطرب.
الثاني : قطعاً، قاله الكلبي.
الثالث : هدماً حتى اندك بالأرض فاستوى معها، قاله الأخفشس، ومنه قول الأغلب :
هل غيرغادٍ غاراً فانهدم... قوله تعالى :﴿ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم القوم الذين ذكرهم ذو القرنين يوم فتح السد يموج بعضهم في بعض.
الثاني : الكفار في يوم القيامة يموج بعضهم في بعض.
الثالث : أنهم الإِنس والجن عند فتح السد.
وفيه وجهان :
أحدهما : يختلط بعضهم ببعض.
الثاني : يدفع بعضهم بعضاً، مأخوذ من موج البحر.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الضلال كالمغطي لأعينهم عن تَذَكُّر الانتقام.
الثاني : أنهم غفلوا عن الاعتبار بقدرته الموجبة لذكره.
﴿ وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن المراد بالسمع ها هنا العقل، ومعناه لا يعقلون الثاني : أنه معمول على ظاهره في سمع الآذان. وفيه وجهان :
أحدهما : لا يستطيعونه استثقالاً.
الثاني : مقتاً.
قوله تعالى :﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أن النزل الطعام، فجعل جهنم طعاماً لهم، قاله قتادة.
الثاني : أنه المنزل، قاله الزجاج.
قوله تعالى :﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾ فيهم خسمة أقاويل :
أحدها : أنهم القسيسون والرهبان، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
الثاني : أنهم الكتابيون اليهود والنصارى، قاله سعد بن أبي وقاص.
الثالث : هم أهل حروراء من الخوارج، وهذا مروي عن علي رضي الله عنه.
الرابع : هم أهل الأهواء.
الخامس : أنهم من يصطنع المعروف ويمن عليه.
ويحتمل سادساً : أنهم المنافقون بأعمالهم المخالفون باعتقادهم.
ويحتمل سابعاً : أنهم طالبو الدنيا وتاركو الآخرة.
قوله تعالى :﴿... فَلاَ نُقِيمُ لهُمْ يَوْمَ الْقيَامَةِ وَزْناً ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : لهوانهم على الله تعالى بمعاصيهم التي ارتكبوها يصيرون محقورين لا وزن لهم.
الثاني : أنهم لخفتهم بالجهل وطيشهم بالسفه صاروا كمن لا وزن لهم. الثالث : أن المعاصي تذهب بوزنهم حتى لا يوازنوا من خفتهم شيئاً. روي عن كعب أنه قال : يجاء بالرجل يوم القيامة. فيوزن بالحبة فلا يزنها، يوزن بجناح البعوضة فلا يزنها، ثم قرأ :﴿ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ﴾
الرابع : أن حسناتهم تُحبَط بالكفر فتبقى سيئاتهم. فيكون الوزن عليهم لا لهم.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُم جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ﴾ في ﴿ الْفِرْدَوْسِ ﴾ خمسة أقاويل :
أحدها : أن الفردوس وسط الجنة وأطيب موضع فيها، قاله قتادة.
الثاني : أنه أعلى الجنة وأحسنها، رواه ضمرة مرفوعاً.
الثالث : أنه البستان بالرومية، قاله مجاهد.
الرابع : أنه البستان الذي جمع محاسن كل بستان، قاله الزجاج.
الخامس : أنه البستان الذي فيه الأعناب، قاله كعب.
واختلف في لفظه على أربعة أقاويل :
أحدها : أنه عربي وقد ذكرته العرب في شعرها، قاله ثعلب.
الثاني : أنه بالرومية، قاله مجاهد.
الثالث : انه بالنبطية، فرداساً، قاله السدي.
الرابع : بالسريانية، قاله أبو صالح.
قوله تعالى :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ﴾ أي متحولاً وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بدلاً، قاله الضحاك.
الثاني : تحويلاً، قاله مقاتل.
الثالث : حيلة، أي لا يحتالون منزلاً غيرها.
وقيل إنه يقول أولهم دخولاً إنما أدخلني الله أولهم لأنه ليس أحد أفضل مني، ويقول آخرهم دخولاً إنما أخرني الله لأنه ليس أحد أعطاه الله مثل ما أعطاني.
قوله تعالى :﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه وعد بالثواب لمن أطاعه، ووعيد بالعقاب لمن عصاه، قاله ابن بحر ومثله ﴿ لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ﴾
الثاني : أنه العلم بالقرآن، قاله مجاهد.
الثالث : وهذا إنما قاله الله تعالى تبعيداً على خلقه أن يُحصواْ أفعاله ومعلوماته، وإن كانت عنده ثابتة محصية.
قوله تعالى :﴿... فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلُ عَمَلاً صَالِحاً ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني فمن كان يخاف لقاء ربه، قاله مقاتل، وقطرب.
الثاني : من كان يأمل لقاء ربه.
الثالث : من كان يصدّق بلقاء ربه، قاله الكلبي.
وفي لقاء ربه وجهان :
أحدهما : معناه ثواب ربه، قاله سعيد بن جبير.
الثاني : من كان يرجو لقاء ربه إقراراً منه بالعبث إليه والوقوف بين يديه.
﴿ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الخالص من الرياء، قاله ذو النون المصري.
الثاني : أن يلقى الله به فلا يستحي منه، قاله يحيى بن معاذ.
الثالث : أن يجتنب المعاصي ويعمل بالطاعات.
﴿ وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن الشرك بعباته الكفر، ومعناه لا يُعْبَد معه غيرُه، قاله الحسن.
الثاني : أنه الرياء، ومعناه ولا يرائي بعمله أحداً، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد.
روي عن النبي ﷺ أنه قال :« أَخْوَفُ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الخَفِيَّةَ » قيل : أتشرك أمتك بعدك؟ قال :« لاَ، أَمَّا أَنَّهُم لاَ يَعْبُدونَ شَمْساً وَلاَ قَمَراً وَلاَ حَجراً وَلاَ وَثَناً وَلكِنّهُم يُرَاءُونَ بِعَمَلِهِم » فقيل : يا رسول الله وذلك شرك؟ فقال :« نَعَم ». قيل : وما الشهوة الخفية، قال :« يُصْبِحُ أَحَدُهُم صَائِماً فَتَعْرِضُ لَهُ الشَّهْوَةُ مِن شَهَواتِ الدُّنْيَا فَيُفْطِرَ لَهَا وَيَتْرُكَ صَوْمَهُ
»
. وحكى الكلبي ومقاتل : أن هذه الآية نزلت في جندب بن زهير العامري أتى رسول الله ﷺ فقال له : إنا لنعمل العمل نريد به وجه الله فيثنى به علينا فيعجبنا، وأني لأصلي الصلاة فأطولها رجاء أن يثنى بها عليّ، فقال رسول الله ﷺ :« إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ أَنَا خَيرُ شَرِيكٍ فَمَنْ أَشَرَكَنِي فِي عَمَلٍ يَعْمَلُهُ لِي أَحَداً مِن خَلْقِي تَرَكْتُهُ وذلِكَ الشَّرِيكَ » ونزلت فيه هذه الآية :﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾ فتلاها عليه رسول الله ﷺ، وقيل إنها آخر آية نزلت من القرآن.
Icon