تفسير سورة الكهف

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
سورة الكهف
مكية وآياتها ١١٠
هذه السورة مكية في قول جميع المفسرين، وروي عن قتادة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله ﴿ جرزا ﴾ والأول أصح وهي من أفضل سور القرآن وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ألا أخبركم بسورة عظمها ما بين السماوات والأرض ولمن جاء بها من الأجر مثل ذلك، قالوا أي سورة هي يا رسول الله ؟ قال : سورة الكهف من قرأ بها يوم الجمعة غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ) وفي رواية أنس ( من قرأ بها أعطي نور بين السماء والأرض ووقي بها فتنة القبر ).
وعن البراء بن عازب قال : كان رجل يقرا سورة الكهف وإلى جانبه فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة فجعلت تدنو وتدنو وجعل فرسه مع ينفر فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال ( تلك السكينة نزلت بالقرآن ) رواه البخاري واللفظ له ومسلم والترمذي والنسائي والرجل المبهم في الحديث هو أسيد بن حضير.
وفي الحديث الصحيح من طريق النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم ( فمن أدرك الدجال منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ) وذكر الحديث رواه مسلم وغيره زاد أبو داود فإنها جواركم من فتنته.
وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من قرأ عشرة آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال ) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي واللفظ لمسلم.
وفي رواية لمسلم وأبي داود ( من آخر الكهف وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت له نور من مقامه إلى مكة، ومن قرأ بعشر آيات من آخرها فخرج الدجال لم يسلط عليه ) رواه الترمذي والحاكم في " المستدرك " والنسائي وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم.
وله في رواية من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين وقال صحيح الإسناد وأخرجه الدارمي في مسنده موقوفا ورواته متفق على الاحتجاج بهم إلا أبا هاشم يحيى ابن دينار الرماني وقد وثقه أحمد ويحي وأبو زرعة وأبو حاتم، انتهى من " السلاح ".

لمسلم، وفي رواية لمسلم وأبي داود: «من آخر الكهف»، وعن أبي سعيد الخدريّ، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من قرأ سورة الكهف كما أنزلت، كانت له نورا من مقامه إلى مكّة، ومن قرأ بعشر آيات من آخرها، فخرج الدّجّال، لم يسلّط عليه «١» رواه الترمذيّ والحاكم في «المستدرك» والنسائيّ، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وله في رواية: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النّور ما بين الجمعتين» «٢»، وقال: صحيح الإسناد، وأخرجه الدّارميّ في مسنده موقوفا ورواته «٣» متّفق على الاحتجاج بهم إلا أبا هاشم يحيى بن دينار الرّمّاني وقد وثّقه أحمد ويحيى وأبو زرعة وأبو حاتم. انتهى من «السلاح».
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (٤)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥)
قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ كان حفْصٌ عن عاصم «٤» يَسْكُتُ عند قوله: عِوَجاً سكتةً خفيفة، وعند مَرْقَدِنا في يس [يس: ٥٢] وسبب هذه البداءة في هذه السورة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما سألته قريشٌ عن المسائِلِ الثَّلاثِ: الرُّوحِ، وأصحابِ الكهف، وذِي القَرْنَيْنِ، حسب ما أمرتهم به يهود- قال لهم صلّى الله عليه وسلّم: «غَداً أُخْبِرُكُمْ بِجَوَابِ مَا سَأَلْتُمْ» ولم يقلْ: إِن شاء اللَّه، فعاتَبَهُ اللَّه عزَّ وجلَّ، وأمسك عنه الوحْيَ خَمْسَةَ عَشَرَ يوماً، وأرجف به كُفَّار قريشٍ، وشَقَّ ذلك على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وبلَغَ منه، فلما انقضى الأمَدُ الذي أراد اللَّهُ عِتَابَ نبيِّه، جاءه الوحْيُ بجوابِ ما سألوه، وغير ذلك، فافتتح الوحْي ب الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ، وهو القرآن.
وقوله: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً، أي: لم ينزله عن طريق الاستقامة، «والعِوَج» فَقُدُ الاستقامة، ومعنى قَيِّماً، أي: مستقيماً قاله ابن «٥» عباس وغيره، وقيل: معناه أنه قيّم
(١) أخرجه النسائي في «عمل اليوم والليلة» برقم: (٩٥٢، ٩٥٤)، والحاكم (٢/ ٣٦٨)، والبيهقي (٣/ ٢٤٩)، عن أبي سعيد مرفوعا، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وأخرجه الدارمي (٢/ ٤٥٤) عن أبي سعيد موقوفا.
(٢) أخرجه الحاكم (٢/ ٣٦٨).
(٣) ينظر: «سنن الدارمي» (٢/ ٤٥٤).
(٤) ينظر: «العنوان» (١٢٢)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٣)، و «شرح شعلة» (٤٦٨)، و «إتحاف» (٢/ ٢٠٨).
(٥) ذكره الطبري (٨/ ١٧٣- ١٧٤)، وابن عطية (٣/ ٤٩٥)، والبغوي (٣/ ١٤٤)، بلفظ عدلا، والسيوطي
على سائر الكتب بتصديقها، ولم يرتضه ع «١»، قال: ويصح أن يكون معنى «قيِّم» قيامَهُ بأمر اللَّه على العَالَمِ وهذا معنى يؤيِّده ما بعْده من النِّذارة والبشارة اللتَيْن عمتا العالَمَ، «والبأس الشديد» عذاب الآخرة، ويحتملُ أنْ يندرج معه في النِّذارة عذابُ الدنيا ببَدْرٍ وغيرها، «ومِنْ لَدُنْهُ»، أي: من عنده، والمعنى: لينذر العالَمَ و «الأجر الحسن» نعيمُ الجنة، ويتقدَّمه خير الدنيا.
وقوله تعالى: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً، أي: ما يقولون، فهي النافية.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦ الى ٨]
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨)
وقوله سبحانه: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ هذه الآية تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والباخِعُ نَفْسَه هو مهلكها.
قال ص: «لعلَّ» للترجِّي في المحبوب، وللإِشفاق في المحذور، وهي هنا للإِشفاق. انتهى.
وقوله: عَلى آثارِهِمْ: استعارة فصيحةٌ من حيثُ لهم إِدبارٌ وتباعُدٌ عن الإِيمان فكأنهم من فرط إِدبارهم قَدْ بَعُدُوا، فهو في آثارهم يحزَنُ عليهم.
وقوله: بِهذَا/ الْحَدِيثِ، أي: بالقرآن، «والأسف» المبالغة في حزنٍ أو غضبٍ، وهو في هذا الموضع الحزنُ لأنه على مَنْ لا يملك، ولا هو تحت يدِ الآسِفِ، ولو كان الأَسَفُ من مقتدرٍ على من هو في قبضته ومِلْكه، لكان غضباً، كقوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا [الزخرف: ٥٥] أي: أغضبونا. قال قتادة: أَسَفاً: حُزْناً «٢».
وقوله سبحانه: إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها... الآية: بسط في التسلية، أي: لا تهتمَّ بالدنيا وأهلها، فإن أمرها وأمرهم أقلُّ لفناء ذلك وذهابه، فإِنا إِنما جعلنا ما على الأرض زينةً وامتحاناً واختباراً، وفي معنى هذه الآية قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الدّنيا حلوة خضرة،
- (٤/ ٣٨١- ٣٨٢) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق علي.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز»
(٣/ ٤٩٥).
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ١٧٧- ١٧٨) برقم: (٢٢٨٧٣)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٩٦)، وابن كثير (٣/ ٧٢)، والسيوطي (٤/ ٣٨٢)، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالى مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيا واتقوا النِّسَاءَ» «١» لِنَبْلُوَهُمْ أي: لنختبرهم، وفي هذا وعيدٌ مَّا.
قال سفيانُ الثَّوْريُّ: أحسنهم عملاً: أزهدهم فيها «٢»، وقال أبو عاصم العَسْقَلاَنِيُّ:
أَحْسَنُ عَمَلًا. الترك لها «٣».
قال ع «٤» : وكان أبي رحمه اللَّه يقولُ: أحسن العَمَلِ: أخْذٌ بحقٍّ، وإِنفاقٌ في حقٍّ، وأداء الفرائض، واجتناب المحارِمِ، والإِكثار من المندوب إِليه.
وقوله سبحانه: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً أي: يرجع ذلك كُّله تراباً، «والجُرُز» : الأرض التي لا شيء فيها مِنْ عمارةٍ وزينةٍ، فهي البَلْقَعُ، وهذه حالة الأرض العَامِرَةِ لا بُدَّ لها من هذا في الدنيا جزءاً جزءاً من الأرض، ثم يعمُّها ذلك بأجمعها عند القيامة، و «الصعيدُ» وجْه الأرض، وقيل: «الصّعيد» : التراب خاصّة.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩ الى ١٠]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠)
وقوله سبحانه: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً، أي:
ليسوا بعجب من آياتِ اللَّهِ، أي: فلا يَعْظُمْ ذلك عليك بحسب ما عَظَّمه السائلون، فإِن سائر آيات اللَّه أعظَمُ من قصتهم، وهو قول ابن عباس «٥» وغيره، واختلف الناس في الرَّقِيمِ ما هو؟ اختلافاً كثيراً، فقيل: «الرقيم» كتابٌ في لوحِ نُحَاسٍ، وقيل: في لوحِ رَصَاصٍ، وقيل: في لوحِ حجارةٍ كتبوا فيه قصَّة أهْل الكهفِ، وقيل غير هذا، وروي عن ابن عباس
(١) أخرجه مسلم (٤/ ٢٠٩٨) كتاب «الرقائق» باب: أكثر أهل الجنة الفقراء، حديث (٩٩/ ٢٧٤٢)، والترمذي (٤/ ٤٨٣) كتاب «الفتن» باب: ما جاء ما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة، حديث (٢١٩١)، وابن ماجه (٢/ ١٣٢٥) كتاب «الفتن» باب: فتنة النساء، حديث (٤٠٠٠)، وأحمد (٣/ ١٩، ٢٢، ٤٦)، وأبو يعلى (٢/ ٣٥٢- ٣٥٣) برقم: (١١٠١)، وابن حبان (٣٢٢١) من حديث أبي سعيد الخدري.
(٢) ذكره ابن عطية (٣/ ٤٩٧)، والسيوطي (٤/ ٣٨٣)، وعزاه لابن أبي حاتم.
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ١٧٨) برقم: (٢٢٨٧٨)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٩٧). [.....]
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٩٧).
(٥) أخرجه الطبري (٨/ ١٨٠) برقم: (٢٢٨٩٠) بنحوه، وذكره ابن كثير (٣/ ٧٣)، والسيوطي (٤/ ٣٨٤) بنحوه، وعزاه لابن أبي حاتم.
508
أنه قال: ما أدْرِي مَا الرَّقِيم «١» ؟
قال ع «٢» : ويظهر من هذه الرواياتِ أنهم كانوا قوماً مؤَرِّخين، وذلك مِنْ نُبْل المملكة، وهو أمر مفيدٌ.
وقوله سبحانه: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ: الْفِتْيَةُ، فيما روي قوم من أبناء أشرافِ مدينةِ دِقْيُوس المَلِكِ الكافِرِ، ويقال فيه «دقيانوس»، وروي أنهم كانوا مُطَوَّقين مسَوَّرين بالذهب، وهم من الروم، واتبعوا دينَ عيسَى، وقيل: كانوا قبل عيسَى، واختلف الرواةُ في قصصهم، ونذْكُر من الخلافِ عُيُونَه، وما لا تستغني الآية عنه: فروي عن مجاهدٍ عن ابن عباس، أن هؤلاء الفتية كانوا في دينِ مَلِكٍ يعبد الأصنام «٣»، فوقَع للفتيةِ عِلْمٌ من بعض الحواريِّين، حَسْبما ذكره النَّقَّاش، أو من مؤمني الأمم قبلهم، فآمنوا باللَّه، ورأَوا ببصائرهم قَبِيحَ فعْل الناس، فرفع أمرهم إِلى المَلِك، فاستحضَرَهُمْ، وأمرهم بالرجُوعِ إِلى دينه، فقالوا/ له فيما روي: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ... [الكهف: ١٤] الآية، فقال لهم الملك: إِنَّكُمْ شُبَّانٌ أغْمَارٌ، لا عَقْل لكم، وأَنا لا أعْجَلُ عليكم، وضَرَبَ لهم أجلاً ثم سافر خِلاَلَ الأجَلِ، فتشاور الفتْيَةُ في الهروبِ بأديانهم، فقال لهم أحَدُهم: إِني أعْرِفُ كهْفاً في جَبَلِ كذا، فلنذهب إِليه.
وروت فرقةٌ إنَّ أمر أصحاب الكهْف إنما كان أنهم من أبناء الأشْرَافِ، فحضر عيدٌ لأهْلِ المدينة، فرأى الفتْيَةُ ما ينتحله الناسُ في ذلك العِيدِ من الكُفْرِ وعبَادة الأصنام، فوقع الإِيمانُ في قلوبهم، وأجمعوا على مفارقة دِينِ الكَفَرة، وروي أنهم خَرَجُوا، وهُمْ يلعبون بالصَّوْلَجَانِ والكَرة، وهم يدحرجونها إِلى نحو طريقهم لئلاَّ يشعر الناس بهم حتى وصلوا إِلى الكهف، وأما الكلب فرِوِيَ أنه كان كَلْبَ صيدٍ لبعضهم، وروي أنهم وجدوا في طريقهم رَاعياً له كلْبٌ، فاتبعهم الراعي على رأيهم، وذهب الكلْبُ معهم، فدخلوا الغَارَ، فروت فرقة أن اللَّه سبحانه ضَرَبَ على آذانهم عند ذلك، لما أراد مِنْ سَتْرهم وخَفِيَ على أهْل المملكة مكانُهم، وعَجِبَ الناسُ من غَرَابة فَقْدهم، فأرَّخوا ذلك ورقَّموه في لوحَيْنِ من رصاصٍ أو نحاسٍ، وجعلوه على باب المدينةِ، وقيل على الرواية: إن الملك بنى باب
(١) أخرجه الطبري (٨/ ١٨٢) برقم: (٢٢٩٠٥)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٩٨)، وابن كثير (٣/ ٧٣)، والسيوطي (٤/ ٣٨٤)، وعزاه لابن جرير من طريق ابن جريج.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٩٧- ٤٩٨).
(٣) ذكره ابن عطية (٣/ ٤٩٨).
509
الغار، وإِنهم دفنوا ذلك في بِنَاءِ الملِك على الغار، وروت فرقة، أن المَلِك لما علم بذَهَاب الفتية، أَمَرَ بقَصِّ آثارهم إِلى باب الغار، وأمر بالدخول عليهم، فهَابَ الرجالُ ذلك، فقال له بعضُ وزرائه: «أَلَسْتَ أيها المَلِكُ إِن أخرجتَهم قتلَتهم؟ قال: نعم، قال: فأيُّ قِتْلة أبلغُ من الجُوع والعَطَش، ابن عليهم باب الغارِ، ودعْهم يموتوا فيه، ففعل، وقد ضَرَبَ اللَّه على آذانهم كما تقدَّم، ثم أخبر اللَّه سبحانه عن الفتْيَة أنهم لما أَوَوْا إِلى الكَهْف، أي: دخلوه وجعلوه مأوًى لهم وموضعَ اعتصام دَعَوُا اللَّه تعالى بأن يؤتيهم من عنده رحمةً، وهي الرْزقُ فيما ذكره المفسِّرون، وأن يهيِّىء لهم من أمرهم رَشَدَاً خلاصاً جميلاً، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم، وألفاظهم تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقةٍ من رَشَدِ الآخرة ورحمتها، وينبغي لكُلِّ مؤمن أنْ يجعَلَ دعاءه في أمر دنياه بهذه الآية الكريمة فقطْ فإنها كافية، ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمر الآخرة.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١١ الى ١٣]
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣)
وقوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ... الآية: عبارةٌ عن إلقاء اللَّه تعالى النَوْمَ عليهم.
وقوله: عَدَداً نعت ل «السنين»
والقصد به العبارة عن التكثير.
وقوله: لِنَعْلَمَ: عبارة عن خروج ذلك الشيءِ إِلى الوجود، أي: لنعلم ذلك موجوداً وإِلا فقد كان سبحانه علم أيَّ الحزبَيْن أحْصَى الأمَدَ، و «الحْزَبان» : الفريقان، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية، إِذ ظنوا لبثهم قليلاً، والحزب الثاني هم أهْل المدينة الذين بعث الفتية على/ عَهْدهم حين كان عنْدَهم التاريخُ بأمْر الفتية، وهذا قولُ الجمهور من المفسِّرين، وأما قوله: أَحْصى فالظاهر الجيد فيه أنّه فعل ماض، وأَمَداً منصوبٌ به على المفعول، «والأمد» : الغاية، ويأتي عبارةً عن المدَّة، وقال الزَّجَّاج:
أَحْصى هو «أفْعَل»، ويعترض بأن «أَفْعَل» لا يكون من فعل رباعيّ إلا في «١» الشاذّ،
(١) يجوز فيه وجهان:
«أحدهما» : أنه أفعل تفضيل، وهو خبر ل «أيّهم»، و «أيّهم» استفهامية، وهذه الجملة معلقة للعلم قبلها.
ولِما لَبِثُوا حال من «أمدا»، لأنه لو تأخر عنه، لكان نعتا له، ويجوز أن تكون اللام على بابها من العلة، أي: لأجل، قاله أبو البقاء، ويجوز أن تكون زائدة، و «ما» مفعوله إما ب «أحصى» على رأي من يعمل أفعل التفضيل في المفعول به، وإما بإضمار فعل، و «أمدا» مفعول «لبثوا» أو منصوب بفعل مقدّر يدلّ عليه أفعل عند الجمهور، أو منصوب بنفس أفعل عند من يرى ذلك.
510
وأَحْصى: فعلٌ رباعيٌّ ويحتجُّ لقول الزَّجَّاج بأن «أفْعَل» من الرباعيّ قد كثر كقولك: ما
«والوجه الثاني» : أن يكون «أحصى» فعلا ماضيا. و «أمدا» مفعوله، و «لما لبثوا» متعلق به، أو حال من «أمدا» واللام فيه مزيدة، وعلى هذا ف «أمدا» منصوب ب «لبثوا»، و «ما» مصدرية، أو بمعنى الذي، واختار الأول أعني كون «أحصى» للتفضيل الزجاج، والتبريزي، واختار الثاني أبو علي، والزمخشري، وابن عطية، قال الزمخشري: فإن قلت فما تقول فيمن جعله أفعل تفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أنّ بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس، نحو: «أعدى من الجرب». و «أفلس من ابن المذلّق» شاذ، والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع، فكيف به؟ ولأن «أمدا» إما أن ينتصب بأفعل وأفعل لا يعمل، وإما أن ينتصب ب «لبثوا» فلا يسد عليه المعنى، فإن زعمت أني أنصبه بفعل مضمر، كما أضمر في قوله:
.......... وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا فقد أبعدت عن المتناول، حيث أردت أن يكون فعلا، ثم رجعت مضطرا إليه، وناقشه الشيخ، فقال: أما دعواه أنه شاذ، فمذهب سيبويه خلافه، وذلك أن أفعل فيه ثلاثة مذاهب: الجائز مطلقا، ويعزى لسيبويه. والمنع مطلقا، وهو مذهب الفارسي. والتفصيل بين أن تكون همزته للتعدية فيمتنع، وبين أن لا تكون، فيجوز، وهذا ليست الهمزة فيه للتعدية، وأما قوله: أفعل لا يعمل فليس بصحيح، لأنه لا يعمل في التمييز، و «أمدا» تمييز لا مفعولا به كما تقول: زيدا أقطع النّاس سيفا، وزيدا أقطع للهام سيفا.
«قلت: الذي أحوج الزمخشري إلى عدم جعله تمييزا مع ظهوره في بادىء الرّأي عدم صحة معناه، وذلك أنّ التمييز شرطه في هذا الباب أن يصح نسبة ذلك الوصف الذي قبله إليه، ويتصف به، ألا ترى إلى مثاله في قوله: «زيدا أقطع النّاس سيفا» كيف يصح أن يسند إليه، فيقال: «زيد أقطع سيفه، وسيفه قاطع» إلى غير ذلك، وهنا ليس الإحصاء من صفة «الأمد» ولا يصح نسبته إليه، وإنما هو من صفات الحزبين، وهو دقيق، وكان الشيخ نقل عن أبي البقاء نصبه على التمييز، وأبو البقاء لم يذكر نصبه على التمييز حال جعله «أحصى» أفعل تفضيل، وإنما ذكر ذلك حين ذكر أنه فعل ماض قال أبو البقاء: في «أحصى» وجهان:
«أحدهما» : هو فعل ماض، و «أمدا» مفعول «لبثوا». وهو خطأ، وإنما الوجه أن يكون تمييزا، والتقدير:
لما لبثوه.
«الوجه الثاني» : هو اسم، و «أمدا» منصوب بفعل دلّ عليه الاسم، فهذا تصريح بأن «أمدا» حال جعله «أحصى» اسما ليس تمييزا، بل مفعولا به بفعل مقدّر، وأنه جعله تمييزا عن «لبثوا».
ثم قال الشيخ: «وأما قوله: وأما أن ينصب ب «لبثوا» فلا يسد عليه المعنى، أي: لا يكون معناه سديدا، وقد ذهب الطبري إلى أنه منصوب ب «لبثوا». قال ابن عطية: وهو غير متّجه انتهى، وقد يتجه، وذلك أنّ الأمد هو الغاية، ويكون عبارة عن المدّة، من حيث إنّ المدة غاية في أمد المدة على الحقيقة، و «ما» بمعنى الذي و «أمدا» منصوب على إسقاط الحرف، وتقديره: لما لبثوا من أمد، أي: من مدة، ويصير «من أمد» تفسيرا لما أبهم من لفظ «ما»، كقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ- ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، ولمّا سقط الحرف، وصل إليه الفعل. قلت: يكفيه أن مثل ابن عطية جعله غير متجه، وعلى تقدير ذلك، فلا نسلم أنّ الطبري عنى نصبه ب «لبثوا»، مفعولا به، بل يجوز أن يكون عنى نصبه تمييزا، كما قاله أبو البقاء، ثم قال: وأما قوله: فإن زعمت إلى آخره، فتقول: لا نحتاج إلى ذلك، لأن لقائل ذلك أن يذهب مذهب الكوفيين، في أنه ينصب القوانس بنفس «اضرب»، ولذلك جعل بعض النحاة أنّ «أعلم»
511
أعطاه للمال، وكقوله عليه الصلاة والسلام في صفة جهنَّمِ: «أَسْود مِنَ القَارِ» وفي صفة حوضِهِ «أَبْيَض مِنَ اللَّبَنِ» «١».
ت: وقد تقَّدم أن «أسْوَد» من «سود»، وما في ذلك من النقْدِ، وقال مجاهدٌ:
أَمَداً معناه عدداً «٢»، وهذا تفسيرٌ بالمعنى.
وقوله سبحانه: وَزِدْناهُمْ هُدىً، أي: يسَّرناهم للعمل الصالحِ، والانقطاع إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، ومباعدةِ الناسِ، والزهْدِ في الدنيا، وهذه زيادات على الإيمان.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٤ الى ١٦]
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦)
وقوله سبحانه: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ: عبارة عن شدَّةِ عزمٍ، وقوةِ صبرٍ، ولما كان الفَزَعُ وخَوَرُ النفس يشبه بالتناسُب الانحلالَ، حَسُنَ في شدَّة النفْس، وقوَّة التصميمِ أنْ يُشْبِه الربْطُ، ومِنْه يقالُ: فلانٌ رَابِطُ الجأشَ إِذا كان لا تَفْرَقُ نفسه عند الفَزَعَ والحروبِ وغيرها، ومنْه الربْطُ على قَلْب أمِّ موسى.
وقوله تعالى: إِذا قامُوا
يحتمل أنْ يكون وصف قيامهم بين يَدَيِ الملك الكافِرِ، فإِنَّه مَقَامٌ يحتاج إلى الربْطِ على القَلْب، ويحتمل أن يعبر بالقيام على انبعاثهم بالعزم على
ناصب ل «من» في قوله: أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ، وذلك لأنّ أفعل مضمرة لمعنى المصدر، إذ التقدير: يريد ضربنا القوانس على ضرب غيرنا». قلت: هذا مرجوح، وأفعل التفضيل ضعيف، وإذا جعلنا «أحصى» اسما فجوّز الشيخ في «أيّ» أن تكون الموصولة، و «أحصى» خبر لمبتدأ محذوف، هو عائدها، وأنّ الضمة للبناء على مذهب سيبويه، لوجود شرط البناء، وهو إضافتها لفظا، وحذف صدر صلتها. وهذا إنما يكون على جعل العلم، بمعنى العرفان، لأنه ليس في الكلام إلّا مفعول واحد، وتقدير آخر لا حاجة إليه، إلّا أنّ إسناد «علم» بمعنى عرف إلى الله تعالى إشكالا، تقدم تحريره في الأنفال وغيرها. وإذا جعلناه فعلا امتنع أن تكون موصولة، إذ لا حاجة لبنائها حينئذ وهو حسن.
ينظر: «الدر المصون» (٤/ ٤٣٧- ٤٣٨).
(١) أخرجه البخاري (١١/ ٤٧٤) كتاب «الرقاق» باب: الحوض، حديث (٦٥٨١)، والترمذي (٥/ ٤١٩) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الكوثر، حديث (٣٣٦٠)، من حديث أنس بن مالك.
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ١٨٨) برقم: (٢٢٩١٧)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٠٠)، والبغوي (٣/ ١٥٣)، والسيوطي (٤/ ٣٨٩)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
الهُرُوب إلى اللَّه ومنابذة النَّاس كما تقول: قَامَ فُلاَنٌ إِلى أمْرِ كذا إذا اعتزم عليه بغايةِ الجِدِّ، وبهذه الألفاظ التي هي: قامُوا فَقالُوا، تعلَّقتِ الصوفيَّة في القيامِ والقَوْل، «والشَّطَط» : الجَوْر وتعدِّي الحدِّ والحقِّ بِحَسَبِ أَمْرٍ أَمْرٍ، و «السلطان» : الحجة، وقال قتادة: المعنى بعذرٍ «١» بيِّن، ثم عظموا جرم الداعين مع اللَّه غيره، وظُلُمَهم بقولهم: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، وقولهم: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ... الآية: المعنى قال بعضهم لبعضٍ، وبهذا يترجَّح أن قوله تعالى: إِذْ قامُوا فَقالُوا إنما المراد به إِذ عزموا ونَفَذُوا لأمْرهم، وفي مصحف ابن مسعود: «ومَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ»، ومضمَّن هذه الآية الكريمة أن بعضهم قال لبعض: إِذ قد فارَقْنَا الكفَّار، وانفردْنا باللَّه تعالى، فلنجعل الكَهْفَ مأوًى، ونَّتكل على اللَّهِ تعالى، فإنه سيبسُطُ علينا رحمته، وينشرها علينا ويهيِّىءُ لنا من أمرنا مرفقاً، وهذا كله دعاءٌ بحَسَب الدنيا، وهم على ثِقَة من اللَّه في أمر آخرتهم، وقرأ نافع وغيره: «مَرْفِقاً» بفتح الميم وكسر الفاء، وقرأ حمزة وغيره بكسر الميم وفتح الفاء، ويقالان معاً في الأمر، وفي الجارحة، حكاه الزَّجَّاج «٢».
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٧ الى ١٨]
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨)
وقوله سبحانه: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وتَتَزاوَرُ، أي: تميل، وتَقْرِضُهُمْ معناه/ تتركهم، والمعنى: أنهم كانوا لا تصيبهم شمْسٌ البتة، وهو قول ابن عباس «٣»، وحكى الزَّجَّاج «٤» وغيره، قال: كان بابُ الكَهْف ينْظُرُ إِلى بناتِ نَعْشٍ، وذهب الزَّجَّاج «٥» إِلى أن فعْلَ الشمس كان آيةً من اللَّه تعالى دون أنْ يكون باب الكهْفِ إِلى جهة توجِبُ ذلك، وال فَجْوَةٍ: المتَّسِعَ، قال قتادة: في فضاء منه ومنه الحديث: «فَإِذَا وَجَدَ فجوة نصّ» «٦».
(١) أخرجه الطبري (٨/ ١٩٠) برقم: (٢٢٩٢٣)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٠١).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٠٢).
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ١٩٢) برقم: (٢٢٩٢٦- ٢٢٩٢٧) بنحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٠٣)، وابن كثير (٣/ ٧٥) بنحوه، والسيوطي (٤/ ٣٩١) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه ابن عطية (٣/ ٥٠٣)، والزجاج (٣/ ٢٧٣)، والبغوي (٣/ ١٥٤). [.....]
(٥) أخرجه ابن عطية (٣/ ٥٠٣)، والزجاج (٣/ ٢٧٤).
(٦) أخرجه الطبري (٨/ ١٩٣)، برقم (٢٢٩٣٩)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٠٣).
وقوله سبحانه: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ الإِشارة إلى الأمر بجملته.
وقوله سبحانه: وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ... الآية: ذكر بعض المفسِّرين أن تقليبهم إِنما كان حفظاً من الأرض، وروي عن ابن عبَّاس، أنه قال لو مَسَّتهم الشمْسُ، لأحرقتهم، ولولا التقليبُ، لأكلتهم «١» الأرض، وظاهر كلام المفسِّرين أن التقليب كان بأمر اللَّه وفعْلِ ملائكته، ويحتمل أنْ يكون ذلك بإِقدار اللَّه إِياهم على ذلك، وهم في غَمْرة النَّوْم.
وقوله: وَكَلْبُهُمْ: أكثر المفسِّرين على أنه كَلْبٌ حقيقة.
قال ع «٢» : وحدثني أَبِي رحمه الله قال: سَمِعْتُ أبا الفضل بن الجَوْهَرِيِّ في جامِعِ مِصْرَ يقُولُ على منبر وعْظِهِ سنَةَ تسْعٍ وستِّينَ وأربعمائةٍ: مَنْ أحَبَّ أهْلَ الخير، نال مِنْ بركتهم، كَلْبٌ أحبَّ أهْل الفضل، وصَحبهم، فَذَكَره اللَّه في مُحْكَم تنزيله.
و «الوَصِيدُ» العَتَبة التي لباب الكهْفِ أو موضعها إِن لم تكنْ، وقال ابن عباس:
«الوصيد» »
الباب والأول أصحُّ، والباب المُوَصَدُ هو المُغْلَق، ثم ذكر سبحانه ما حفَّهم به من الرُّعْب، واكتنفهم من الهَيْبة، حْفظاً منه سبحانه لهم، فقال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ...
الآية.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٩ الى ٢١]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١)
وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ الإِشارة ب «ذلك» إلى الأمر الذي ذكَره اللَّه في جِهَتِهِمْ، والعبرة التي فعلها فيهم، «والبَعْث» : التحريك عن سكونٍ، واللام في قوله: لِيَتَسائَلُوا لام الصيرورة، وقول القائلِ: كَمْ لَبِثْتُمْ يقتضى أنه هجس في خاطره
(١) أخرجه الطبري (٨/ ١٩٤) برقم: (٢٢٩٤٤) بنحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٠٤)، وابن كثير (٣/ ٧٦) بنحوه.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٠٤).
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ١٩٥) برقم: (٢٢٩٥٥)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٠٤)، والبغوي (٣/ ١٥٤)، وابن كثير (٣/ ٧٦)، والسيوطي (٤/ ٣٩٢)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
514
طُولُ نومهم، واستشعر أنَّ أمرهم خَرَجَ عن العادة بعضَ الخروجِ، وظاهر أمرهم أنهم انتبهوا في حالٍ منَ الوَقْت، والهواء الزمانيُّ لا يباين الحالة التي ناموا عليها، وقولهم:
فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ يروى أنهم انتبهوا، وهُمْ جيَاعٌ، وأنَّ المبعوثَ هو تَمْلِيخَا، وروي أن باب الكهف انهدَمَ بناءُ الكفَّار منه لطول السنين، ويروى أن راعياً هدمه ليدخل فيه غنمه، فأخذ تمليخا ثياباً رثَّةً منْكَرة ولبسها، وخرَجَ من الكهف، فأنكر ذلك البِنَاءَ المهدُومَ إذ لم يعرفه بالأمْسِ، ثم مَشى، فجعل يُنْكِر الطريق والمعالمَ، ويتحيَّر وهو في ذلك لا يشعر شعوراً تامًّا، بل يكذِّب ظنه فيما تغيَّر عنده حتى بَلَغَ بابَ المدينة، فرأى على بابها أمَارة الإِسلام، فزادَتْ حَيْرَتُه، وقال: كيف هَذَا بِبَلد دقْيُوس، وبالأمْسِ كنا معه تَحْتَ ما كنا، فنهض إلى بابٍ آخر، فرأى نحواً من ذلك حتى مشَى الأبوابَ كلَّها، فزادَتْ حيرته، ولم يميِّز بشراً، وسمع الناس يُقْسِمُون باسم عيسى، فاستراب بنَفْسه، وظنَّ أنه جُنَّ، أو انفسد عقله، فبقي حَيْرَان يدعو اللَّه تعالى، ثم نهض إِلى باب الطعام الذي أراد/ اشتراءه، فقال: يا عبد اللَّه، بِعْنِي من طعامك بهذه الوَرِقِ، فدفع إِليه دَرَاهِمَ، كأخْفَافِ الربع فيما ذُكِرَ، فعجب لها البائعُ ودَفَعَهَا إلى آخر يُعَجِّبُهُ، وتعاطَاهَا النَّاسُ، وقالوا له: هذه دراهِمُ عَهْدِ فلانٍ المَلِكِ، مِنْ أيْن أنْتَ؟ وكَيْفَ وجدتَّ هذا الكَنْزَ، فجعل يبهت ويعجَبُ، وقد كان بالبلد مشهوراً هو وبَيْتُهُ، فقال: ما أعرفُ غير أنِّي وأصْحَابي خَرَجْنا بالأمْس من هذه المدينةِ، فقال النَّاس: هذا مجنونٌ، اذهبوا به إِلى المَلِكِ، ففزِعَ عند ذلك، فَذُهِبَ به حتى جيءَ به إلى المَلِكِ، فلما لم يَرَ دْقيُوس الكافِرَ، تأنَّس، وكان ذلك المَلِكُ مؤمناً فاضلاً يسمَّى تبدوسِيس، فقال له المَلِكُ: أين وجدت هذا الكَنْز؟ فقال له: إِنما خرجْتُ أنا وأصْحَابي أمْس من هذه المدينة، فأوينا إِلى الكَهْف الذي في جَبَل أنجلوس، فلما سمع المَلِكُ ذلك، قال في بعض ما رُوِيَ: لعلَّ اللَّه قَدْ بعث لكُمْ أيُّها الناس آيَةً فَلْنَسِرْ إِلى الكهف، حتى نرى أصحابه، فساروا، وروي أنه أو بعض جلسائه قال: هؤلاءِ هُمُ الفتيةُ الذين ورِّخَ أمرهم على عهد دقْيُوس المَلِك، وكتب على لُوح النُّحَاس بباب المدينةِ، فسار الملك إليهم، وسار الناس معه فلما انتهوا إلى الكهف، قال تَمْليَخا: أدخُلُ عليهم لئلا يرعبوا، فدخل عليهم، فأعلمهم بالأمْر، وأن الأمة أمَّة إِسْلام، فروي أنهم سُرُّوا وخَرَجُوا إلى الملك، وعظَّموه، وعظَّمهم، ثم رجَعُوا إلى الكهف، وأكثرُ الروايات على أنهم ماتُوا حين حدَّثهم تملِيخَا، فانتظرهم النَّاسُ، فلما أبطأ خروجُهم، دَخَل الناس إليهم، فرعبَ كلُّ من دخل، ثم أقدموا فوجَدُوهم موتى، فتنازعوا بحَسَب ما يأتى، وفي هذه القصص من الاختلاف ما تَضِيقُ به الصُحفُ فاختصرته، وذكرت المهم الذي به تتفسَّر ألفاظ الآيةِ، واعتمدتُّ الأصحَّ واللَّه المعينُ برحمته، وفي هذا البعث بالورق جواز الوكالة، وصحّتها.
515
وأَزْكى معناه: أكثر فيما ذكر عكرمة «١»، وقال ابن جُبَيْر: المراد أحَلّ «٢»، وقولهم: يَرْجُمُوكُمْ قال الزجاج: بالحجارة، وهو الأصح وقال حَجَّاج: «يرجموكم» معناه: بالقول وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ: الإِشارة في قوله: وَكَذلِكَ إلى بعثهم ليتساءلوا، أي: كما بعثناهم، أعثرنا عليهم، والضمير في قوله: لِيَعْلَمُوا يحتمل أن يعود على الأمَّة المسلمة الذين بُعِثَ أهّل الكهف على عهدهم، وإلى هذا ذهب الطبريُّ «٣» وذلك أنهم فيما روي دخلتهم حينئذٍ فتنةٌ في أمْرِ الحَشْر وبَعْثِ الأجساد من القبور، فشَكَّ في ذلك بعضُ الناس، واستبعدوه، وقالوا: إِنما تُحْشَر الأرواح، فشَقَّ ذلك على مَلِكهم، وبقي حَيرَان لا يَدْرِي كيف يبيِّن أمره لهم، حتى لَبَس المُسُوح، وقعد على الرَّمَادَّ وتضرَّع إلى اللَّه في حُجَّة وبيانٍ، فأعثرهم اللَّه على أَهْل الكهف، فلما/ بعثهم اللَّه، وتبيَّن الناس أمرهم سُرَّ الملِكُ، ورَجَعَ مَنْ كان شَكَّ في بعث الأجساد إلى اليقين به، وإلى هذا وقعت الإِشارة بقوله: إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ على هذا التأويل، ويحتمل أن يعود الضميرُ في لِيَعْلَمُوا على أصحاب الكهف، وقوله: إِذْ يَتَنازَعُونَ على هذا التأويل: ابتداءُ خبرٍ عن القوم الذين بُعِثُوا على عهدهم، والتنازع على هذا التأويل إِنما هو في أمر البناء أو المسجد، لا في أمر القيامة، وقد قيل: والتنازع إِنما هو في أنْ اطلعوا عَليْهم، فقال بعضهم: هم أمواتٌ، وبعضٌ: هم أحياء، وروي أنَّ بعض القومِ ذهبوا إلى طمس الكَهْف عليهم، وترْكِهِم فيه مغيِّبين، فقالت الطائفة الغالبة على الأمر: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً، فاتخذوه، قال قتادة: الَّذِينَ غَلَبُوا هم الولاة «٤».
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٢]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢)
وقوله سبحانه: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ... الآية: الضميرُ في سَيَقُولُونَ يراد به أهْل التوراةِ من معاصري نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهْل الكهف.
(١) أخرجه الطبري (٨/ ٢٠٣) برقم: (٢٢٩٦١)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٠٦)، والبغوي (٣/ ١٥٥).
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ٢٠٣) برقم: (٢٢٩٦٣)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٠٦).
(٣) ينظر: «الطبري» (٨/ ٢٠٤).
(٤) ذكره ابن عطية (٣/ ٥٠٧)، والسيوطي (٤/ ٣٩٢) بنحوه، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي حاتم.
516
وقوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ: معناه ظَنًّا وهو مستعارٌ من الرجْمِ، كأن الإِنسان يرمي الموضع المُشْكِلَ المجهول عنده بظنه المرةَ بعد المَرَّة يرجُمُه به، عَسَى أن يصيبه، والواو في قوله: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ: طريق النحاة فيها أنها واو عَطْفٍ دخلَتْ في آخر الكلام إخباراً عن عددهم، لتفصِّل أمرهم، وتدلَّ على أن هذا نهايةُ ما قيل، ولو سقطَتْ، لصح الكلام، وتقول فرقةٌ منهم ابنُ خالَوَيْهِ: هي «١» واو الثمَانِيَةِ، وذكر ذلك الثعلبيُّ عن أبي بكر بن عَيِّاشٍ وأن قريشاً كانت تقول في عددها: ستة، سبعة وثمانية تسعةٌ، فتدخل الواو في الثمانية «٢».
قال ع «٣» : وهي في القرآن في قوله: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: ١١٢] وفي قوله: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧٣] وأما قوله: وَأَبْكاراً [التحريم: ٥] وقوله:
وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ [الحاقة: ٧] فليستْ بواو الثمانيةِ بل هي لازمة إِذ لا يستغني الكلامُ عنها، وقد أمر اللَّه سبحانه نبيَّه في هذه الآية، أنْ يرد علْمَ عدَّتهم إِليه، ثم قال: مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ يعني: مِنْ أهل الكتاب، وكان ابن عبَّاس يقولُ: أنا من ذلك القليل «٤»، وكانوا سبعة، وثامنهم كلبهم.
(١) في هذه الواو أوجه:
«أحدها» : أنها عاطفة، عطفت هذه الجملة على جملة قوله: هم سبعة، فيكونون قد أخبروا بخبرين:
«أحدهما» : أنهم سبعة رجال على البت.
«والثاني» : أن ثامنهم كلبهم، وهذا يؤذن بأن جملة قوله: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ من المتنازعين فيهم.
«والثاني» : أن الواو للاستئناف، وأنه من كلام الله تعالى أخبر عنهم بذلك، قال هذا القائل. وجيء بالواو لتعطي انقطاع هذا مما قبله.
«الثالث» : أنها الواو الداخلة على الصفة تأكيدا، ودلالة على لصوق الصفة بالموصوف، وإليه ذهب الزمخشري، ونظره بقوله: مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ.
وردّ الشيخ عليه «بأنّ أحدا من النّحاة لم يقله».
«الرابع» : أن هذه الواو تسمى واو الثمانية، وأنّ لغة قريش إذا عدوا يقولون: خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، تسعة، فيدخلون الواو على عقد الثمانية خاصة. ذكر ذلك ابن خالويه، وأبو بكر راوي عاصم.
قلت: وقد قال ذلك بعضهم، في قوله تعالى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها في الزمر، فقال: دخلت في أبواب الجنة، لأنها ثمانية، ولذلك لم يجأ بها في أبواب جهنم، لأنها سبعة.
ينظر: «الدر المصون» (٤/ ٤٤٥- ٤٤٦).
(٢) ذكره ابن عطية (٣/ ٥٠٨).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٠٨).
(٤) أخرجه الطبري (٨/ ٢٠٦) برقم: (٢٢٩٧٥)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٠٨)، والبغوي (٣/ ١٥٦- ١٥٧)، وابن كثير (٣/ ٧٨)، والسيوطي (٤/ ٣٩٣)، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وابن سعد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
517
قال ع «١» : ويدلُّ على هذا من الآية أنه سبحانه لَمَّا حكى قول من قال: ثلاثة، وخمسة، قَرَنَ بالقول أنه رَجْم بالغيب، ثم حكى هذه المقالة، ولم يقدَحْ فيها بشيء، وأيضاً فَيَقْوى ذلك على القول بواوِ الثمانية لأنها إِنما تكون حيث عدد الثمانية صحيحٌ.
وقوله سبحانه: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً معناه على بعض الأقوال: أي:
بظاهر ما أوحينا إِليك، وهو ردُّ علْمِ عدتهم إِلى اللَّه تعالى، وقيل: معنى الظاهر أنْ يقول: ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا يحتجّ هو على أمر مقرَّر في ذلك، وقال التِّبْرِيزِيُّ: ظاهِراً معناه: ذاهباً وأنشد: [الطويل]... وَتلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا «٢» ولم يبح له في هذه/ الآية أن يماري، ولكن قوله: إِلَّا مِراءً مجازٌ من حيث يماريه أهْلُ الكتاب، سمِّيت مراجعته لهم مِرَاءً، ثم قيد بأنه ظاهرٌ، ففارَقَ المراءَ الحقيقيَّ المذمومَ، و «المِرَاء» : مشتقٌّ من المِرْية، وهو الشكُّ، فكأنه المُشَاكَكَة. ت: وفي سماع ابن القاسمِ، قال: كان سليمان بن يَسَارٍ، إِذا ارتفع الصوْتُ في مجلسه، أو كانِ مَراءً، أخذ نعليه، ثم قام. قال ابنُ رُشْد: هذا مِنْ وَرَعه وفَضْله، و «المِرَاء» في العِلْم منهيٌّ عنه، فقد جاء أنه لا تُؤْمَنُ فتنته، ولا تفهم حِكْمته انتهى من «البيان».
والضمير في قوله: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ عائد على أهل الكَهْف، وفي قوله:
مِنْهُمْ عائدٌ على أهْل الكتاب.
وقوله: فَلا تُمارِ فِيهِمْ، أي: في عدّتهم.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)
وقوله سبحانه: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ قد تقدّم
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٠٨). [.....]
(٢) عجز بيت لأبي ذؤيب وصدره:
وعيّرها الواشون أني أحبّها...
وهو في ديوانه (١/ ٢١)، و «اللسان» (ظهر).
518
أن هذه الآية عتاب من اللَّه تعالى لنبيِّه حيث لم يستثْنِ، والتقدير: إِلا أنْ تقولَ إِلاَّ أنْ يشاء اللَّه أو إِلاَّ أنْ تقولَ: إِن شاء اللَّه، والمعنى: إِلا أن تذكُرَ مشيئَةَ اللَّهِ.
وقوله سبحانه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ قال ابن عباس «١» والحسن «٢» معناه:
إِلاشارة به إلى الاستثناء، أي: ولتستثْنِ بعد مدّة إذا نسيت، أو لا لِتَخْرُجَ من جُمْلة من لم يعلِّق فعله بمشيئة اللَّه، وقال عكرمة: واذكر ربَّك إِذا غَضِبْتَ «٣»، وعبارة الواحِدِيِّ:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ، أي: إِذا نسيتَ الاستثناء بمشيئة اللَّه، فاذكره وقله إذا تذكّرت.
اه.
وقوله سبحانه: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي... الآية: الجمهورُ أنَّ هذا دعاءٌ مأمورٌ به، والمعنى: عسى أنْ يرشدني ربِّي فيما أستقبل من أمري، والآية خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهي بعدُ تعمُّ جميع أمته.
وقال الواحديُّ: وقل عسى أن يهديني، أي: يعطيني ربي الآياتِ من الدلالاتِ على النبوَّة ما يكون أقرَبَ في الرشد، وأدلَّ من قصَّة أصحاب الكهف، ثم فعل اللَّه له ذلك حيثُ آتاه علْم غَيْوب المرسَلِينَ وخَبَرَهم. انتهى.
وقوله سبحانه: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ... الآية: قال قتادة وغيره:
الآية حكايةٌ عن بني إسرائيلُ «٤»، أنهم قالوا ذلك واحتجوا بقراءة «٥» ابن مسعود وفي مُصِحفه: «وقَالُوا لَبِثُوا في كَهْفِهِمْ»، ثم أمر اللَّه نبيَّه بأن يردَّ العلْم إِليه ردَّا على مقالهم وتفنيداً لهم، وقال المحقِّقون: بل قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ... الآية خبرٌ من اللَّه تعالى عن مُدَّة لبثهم، وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا، أي: فليزل اختلافكم أيها المخرِّصون، وظاهر قوله سبحانه: وَازْدَادُوا تِسْعاً أنها أعوام.
(١) أخرجه الطبري (٨/ ٢٠٨)، برقم: (٢٢٩٩٠) بنحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٠٩)، والبغوي (٣/ ١٥٧)، وابن كثير (٣/ ٧٩)، والسيوطي (٤/ ٣٩٤)، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه.
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ٢٠٨) برقم: (٢٢٩٩٢) بنحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٠٩)، والبغوي (٣/ ١٥٧).
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ٢٠٩) برقم: (٢٢٩٩٣) بلفظ: «عصيت»، وذكره البغوي (٣/ ١٥٧)، وابن كثير (٣/ ٧٩)، والسيوطي (٤/ ٣٩٥)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان».
(٤) أخرجه الطبري (٨/ ٢١٠) برقم: (٢٢٩٩٦) بنحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٥١٠)، والبغوي (٣/ ١٥٧- ١٥٨)، وابن كثير (٣/ ٧٩)، والسيوطي (٤/ ٣٩٦)، وعزاه لابن أبي حاتم.
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥١٠).
519
وقوله سبحانه: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ، أي: ما أَسْمَعَهُ سبحانه، وما أبْصَرَهُ، قال قتادة:
لا أحَدَ أبْصَرُ مِنَ اللَّه، ولا أسْمَعَ «١».
قال ع «٢» وهذه عبارةٌ عن الإِدراك، ويحتملُ أن يكون المعنى: أبْصِرْ به أي:
بوحيه وإِرشاده، هُدَاكَ، وحُجَجَكَ، والحَقَّ من الأمور، وأسْمِعْ به العَالَم، فتكون اللفظتان/ أمرين لا على وجْه التعجُّب.
وقوله سبحانه: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ: الضمير في لَهُمْ يحتمل أنْ يرجع إِلى أهْلِ الكهْفِ، ويحتمل أنَّ يرجع إلى معاصري النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الكُفَّار، ويكون في الآية تهديدٌ لهم.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨)
وقوله سبحانه: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ، أي: اتبع، وقيل: اسْرُدْ بتلاوتك ما أوحِيَ إليك من كتاب ربِك، لا نَقْضَ في قوله، ولا مُبَدِّلَ لكلماته، وليس لك سواه جَانِبٌ تميلُ إِليه، وتستند، و «المُلَتَحد» الجانب الذي يَمَالُ إِليه ومنه اللَّحْد.
ت قال النوويُّ: يستحبُّ لتالي القرآن إذا كان منفرداً أنْ يكون خَتْمُهُ في الصَّلاة، ويستحبُّ أن يكون ختمه أوَل الليلِ أو أول النهار، ورُوِّينا في مسند الإمام المُجْمَعِ على حْفظِهِ وجلالته وإِتقانه وبَرَاعته أبي محمَّدٍ الدَّارِمِيِّ رحمه اللَّه تعالى، عن سَعْدِ بنِ أبي وقَّاص رَضِيَ اللَّه عنه قَالَ: إِذَا وَافَقَ خَتْمُ القُرْآنِ أوَّلَ اللَّيّلِ، صَلَّتَ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَإِنْ وَافَقَ خَتْمُهُ أَوَّلَ النَّهَارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يُمْسِي «٣». قال الدارمي: هذا حديثٌ حسنٌ وعن طلحة بن مُطَرِّفٍ، قال: مَنْ خَتَمَ القُرْآنَ أَيَّةَ سَاعَةٍ كَانَتْ مِنَ النَّهَار، صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاَئكَةُ حَتَّى يُمْسِيَ، وأيَّةَ سَاعَةٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاِئَكَةُ حَتَّى يصبح، وعن مجاهد نحوه انتهى.
(١) أخرجه الطبري (٨/ ٢١٢) برقم: (٢٣٠٠٦)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥١٠)، وابن كثير (٣/ ٨٠)، والسيوطي (٤/ ٣٩٦)، وعزاه لابن أبي حاتم.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥١٠).
(٣) أخرجه الدارمي (٢/ ٤٧٠) كتاب «فضائل القرآن» باب: «في ختم القرآن».
وقوله سبحانه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ... الآية: تقدَّم تفسيرها.
وقوله سبحانه: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ، أي: لا تتجاوزْ عنهم إِلى أبناء الدنيا، وقرأ «١» الجمهور: «مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ» بنصب الباء على معنى جَعَلْنَاهُ غافلاً، «والفُرُط» :
يحتملُ أن يكون بمعنى التفريط، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف، وقد فسَّره المتأوّلون بالعبارتين.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٩]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩)
وقوله سبحانه: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ المعنى: وقل لهم يا محمَّد هذا القرآن هو الحقُّ، ت: وقد ذم اللَّه تعالى الغافلين عَنْ ذكره والمُعْرِضين عن آياته في غيرما آية من كتابه، فيجبُ الحذر مما وقَع فيه أولئك، ولقد أحسن العارفُ في قوله: غفلة ساعة عن ربك مكدرة لمرآة قلبك، فكيف بَغْفلتكَ جميعَ عُمُرك. وقد روي أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّه قالَ: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِساً لَمْ يَذْكُروا اللَّهَ فِيه ولَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهمْ، إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةٌ، فإنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وإِنْ شَاءَ غَفَر لَهُمْ» «٢» رواه أبو داود والترمذيّ والنسائي والحاكم وابن
(١) هذه قراءة الجمهور، وقد قرأ عمرو بن فائد، وموسى الأسواري: «من أغفلنا قلبه».
قال أبو الفتح: يقال أغفلت الرجل: وجدته غافلا... فإن قيل: فكيف يجوز أن يجد الله غافلا؟ قيل:
لما فعل أفعال من لا يرتقب ولا يخاف، صار كأن الله سبحانه غافل عنه. «المحتسب» (٢/ ٢٨)، قلت:
يعني أنه ظننا غافلين عنه.
والقراءة ذكرها ابن عطية في «المحرر» (٣/ ٥١٣)، ثم قال: وذكر أبو عمرو الداني أنها قراءة عمرو بن عبيد.
وينظر: «البحر المحيط» (٦/ ١١٤)، و «الدر المصون» (٤/ ٤٥٠).
(٢) أخرجه الترمذي (٥/ ٤٦١) كتاب «الدعاء» باب: في القوم يجلسون ولا يذكرون الله، حديث (٣٣٨٠)، والحاكم (١/ ٤٩٦)، وأحمد (٢/ ٤٤٦، ٤٨١، ٤٨٤، ٤٩٥)، وإسماعيل القاضي في «في فضل الصلاة على النبي» (٥٤)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (٤٤٣)، من طريق سفيان الثوري، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة مرفوعا، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه، عن أبي هريرة اهـ.
وأخرجه أبو داود (٢/ ٦٨٠) كتاب «الأدب» باب: كراهية أن يقوم الرجل من مجلسه ولا يذكر الله، حديث (٤٨٥٦)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (٤٠٤)، وابن حبان (٨٥٣) من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وأخرجه أحمد (٢/ ٤٣٢) من طريق إسحاق مولى عبد الله بن الحارث، عن أبي هريرة، وذكر هذا الطريق الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٨٣) وقال: وأبو إسحاق مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل لم يوثقه أحد، ولم يجرحه، وبقية رجال أحد إسنادي أحمد ثقات.
حِبَّان في «صحيحهما» وهذا لفظ الترمذيِّ، وقال: حديثٌ حَسَن، وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرط مسلم، «والتِّرَةُ» - بكسر التاء المُثَنَّاة من فوقُ وتخفيفِ الراء- النقْصُ، وقيل:
التبعة، ولفظ ابن حِبَّان: «إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، وإِنْ دَخَلَوا الجَنَّةَ» انتهى من «السلاح».
وقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ... الآية: توعُّد وتهديد، أي: فليختر كلّ امرئ لنفسه ما يجدُه غداً عند اللَّه عزَّ وجلّ، وقال الداوديّ، عن ابن عباس: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ يقول: من شاء اللَّه له الإِيمان، آمن، ومن شاء له الكفر، كفر، هو كقوله:
وَما تَشاؤُنَ/ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [التكوير: ٢٩] «١» وقال غيره: هو كقوله:
اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] بمعنى الوعيد، والقولان معاً صحيحان. انتهى وأَعْتَدْنا مأخوذٌ من العَتَاد، وهو الشيءُ المُعَدُّ الحاضر، «والسُّرادق» هو الجدار المحيطُ كالحُجْرة التي تدورُ وتحيطُ بالفسْطَاط، قد تكون من نَوْع الفُسْطَاط أديماً أو ثوباً أو نحوه، وقال الزَّجَّاج «٢» :«السُّرَادِق» : كل ما أحاط بشيء، واختلف في سُرَادِقِ النار، فقال ابن عباس: سرادقها حائطٌ من نارٍ «٣»، وقالت فرقة: سرادقها دُخَانٌ يحيطُ بالكُفَّار، وهو قوله تعالى: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات: ٣٠] وقيل غير هذا، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من طريق أبي سعيد الخدريِّ أنه قَالَ سُرَادِقُ النَّارِ أربَعَةُ جُدُر كِثَفُ عَرْض كُلِّ جَدارٍ مَسِيرَةُ أرْبَعيِنَ سَنَةً «٤» و «المهل» قال أبو سعيد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هو درديُّ الزيتِ، إِذا انتهى حَرُّه «٥»، وقال أبو سعيد وغيره: هو كلُّ ما أذيَب من ذهبٍ أو فضة، وقالت فرقةٌ:
«المُهْل» هو الصديدُ والدمُ إِذا اختلطا، ومنه قول أبي بكر رضي اللَّه عنه في الكَفَن: إِنما هو للمهلة «٦»، يريدُ لما يسيلُ من المَيِّت في قبره، ويقوى هذا بقوله سبحانه: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ [إبراهيم: ١٦] والمرتفق: الشيء الذي يطلب رفقه.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢)
(١) أخرجه الطبري (٨/ ٢١٧) برقم: (٢٣٠٣٠)، وذكره البغوي (٣/ ١٥٩)، والسيوطي (٤/ ٣٩٩) بلفظ:
«هذا تهديد ووعيد»، وعزاه لابن أبي حاتم.
(٢) ينظر: «تفسير الزجاج» (٣/ ٢٨٢).
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ٢١٧) برقم: (٢٣٠٣٤)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥١٣)، والبغوي (٣/ ١٦٠)، وابن كثير (٣/ ٨١)، والسيوطي (٤/ ٣٩٩)، وعزاه لابن جرير. [.....]
(٤) تقدم تخريجه في سورة هود.
(٥) تقدم تخريجه.
(٦) ذكره ابن عطية (٣/ ٥١٤).
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا تقدّم تفسير نظيره، والله الموفّق بفضله، وأَساوِرَ جمع «أسْوَار»، وهي ما كان من الحُلِيِّ في الذراع، وقيل: «أَسَاور» جَمْعُ أَسْوِرَة، وأَسْوِرَة جمع أسْوَارٍ، و «السُّنْدس» :
رقيق الدِّيباج «والإستبرق» ما غلظ منه، قيل: إِستبرقٌ من البَرِيقِ، والْأَرائِكِ جمع أريكة، وهي السريرُ في الحجالِ، والضمير في قوله: وَحَسُنَتْ للجنَّات، وحكى النَّقَّاش عن أبي عمران الجَوْنيِّ، أنه قالَ: «الإِستبرقُ» : الحريرُ المنسوجُ بالذهب.
وقوله سبحانه: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ...
الآية الضمير في لَهُمْ عائدٌ على الطائفة المتجبِّرة التي أرادت من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنْ يطرد فقراء المؤمنين، فالمثل مضروبٌ للطائفتين، إذ الرجل الكافر صاحِبُ الجنتين هو بإزاء متجبِّري قريشٍ، أو بني تميمٍ على الخلاف في ذلك، والرجُلُ المؤمنُ المُقِرُّ بالربوبية هو بإزاء فقراء المؤمنين، «وحففنا» بمعنى جعلنا ذلك لَهُمَا منْ كُلِّ جهة، وظاهر هذا المَثَل أنَّه بأمْرٍ وَقَعَ في الوجودِ، وعلى ذلك فَسَّره أكثر المتأوِّلين، فروي في ذلك أنهما كانا أخَويْنِ من بني إسرائيل، ورثا أربعَةَ آلاف دينارٍ، فصنع أحدهما بماله ما ذكر، واشترى عبيداً، وتزوَّج، وأثْرى، وأنفق الأخَرُ ماله في طاعة اللَّه عزَّ وجلَّ حتى افتقَرَ، والتقيا، فافتخر الغنيُّ، ووبَّخ المؤمن، فجرَتْ بينهما هذه المحاورَةُ، وروي أنهما كانا شريكَيْن حَدَّادَيْنِ كسبا مالاً كثيراً، وصَنَعَا نحو ما رُوِيَ/ في أمر الأَخَوَيْنِ، فكان من أمرهما ما قَصَّ اللَّه في كتابه.
قال السهَيْلِيُّ: وذكر أن هذَيْن الرجلَيْن هما المذكوران في «والصافات» في قوله تعالى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ إلى قوله فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ وإِلى قوله: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ [الصافات: ٥- ٥٥، ٦١] انتهى.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤)
وقوله سبحانه: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها الأَكُلُ: ثمرها الذي يؤكل وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي لم تنقص عن العُرُفِ الأتَمِّ الذي يشبه فيها، ومنه قولُ الشاعر: [الطويل]
وَيَظْلِمني مَالي كَذَا وَلَوى يَدي لَوَى يَدَهُ اللَّهُ الَّذي هُوَ غَالِبُهْ «١»
وقرأ «٢» الجمهور: «ثُمُرٌ» و «بِثُمُرِهِ» [الكهف: ٤٢]- بضم الثاء والميم- جمع «ثِمَارٍ»، وقرأ أبو عمرو- بسكون الميم «٣» - فيهما، واختلف المتأوِّلون في «الثُّمُر» - بضم الثاء والميم- فقال ابن عباس وغيره: «الثُّمُر» : جميع المال من الذهَبِ والفَّضة والحيوانِ وغير ذلك «٤»، وقال ابن زيد: هي الأصول «٥»، و «المحاورة» : مراجعةُ القولِ، وهو من «حَارَ يَحُورُ».
وقوله: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً: هذه المقالة بإزاء مقالة متجبِّري قريْشٍ، أو بني تميمٍ، على ما تقدَّم في «سورة الأنعام». ت وقوله: وَأَعَزُّ نَفَراً يضَعِّف قول من قال: «إِنهما أخوانِ» فتأمَّله، واللَّه أعلم بما صحَّ من ذلك.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧)
وقوله سبحانه: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ... الآية: أفْرَد الجنة من حيثُ الوجودُ كذلك إِذ لا يدخلهما معاً في وقت واحدٍ، وظلمه لنفسه هو كُفْره وعقائدُهُ الفاسدة في الشَّكِّ في البعث، وفي شكِّه في حدوث العالم، إن كانت إِشارته ب هذِهِ إلى الهيئة من السموات والأرض وأنواعِ المخلوقات، وإِن كانت إِشارته إِلى جنته فقط، فإِنما الكلام تساخُفٌ واغترارٌ مفْرِط، وقلَّة تحصيلٍ، كأنه من شدَّة العُجْب بها والسرور، أفرط في وصفها بهذا القول، ثم قاس أيضاً الآخرة على الدنْيَا وظنَّ أنه لم يُمْلَ له في دنياه إِلا لكرامةٍ يستوجبها في نَفْسه، فقال: فإن كان ثمّ رجوع، فستكون حالي كذا وكذا.
(١) البيت لأبي زبيد الطائي، «اللسان» (ظلم).
(٢) ويعني بهم: ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وابن عباس، ومجاهد، وجماعة قراء المدينة ومكة، وخالف عاصم، فقرأ بفتح الميم والثاء «ثمره»، و «بثمره».
ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥١٦)، و «السبعة» (٣٩٠)، و «الحجة» (٥/ ١٤٢)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٨)، و «العنوان» (١٢٣)، و «حجة القراءات» (٤١٦)، و «إتحاف» (٢/ ٢١٤).
(٣) وهي قراءة الأعمش وأبي رجاء.
ينظر: مصادر القراءة السابقة.
(٤) أخرجه الطبري (٨/ ٢٢٣) برقم: (٢٣٠٥٨) بنحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٥١٦)، وابن كثير (٣/ ٨٣) بنحوه، والسيوطي (٤/ ٤٠٣)، وعزاه لابن عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٥) أخرجه الطبري (٨/ ٢٢٣) برقم: (٢٣٠٦٣)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥١٦).
وقوله: قالَ لَهُ صاحِبُهُ يعني المؤمن.
وقوله: خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ إِشارةٌ إلى آدم عليه السلام.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
وقوله: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي معناه: لكن أنا أقول هو اللَّه ربِّي، وروى هارون عن أبي عمرو «١» «لَكِنَّهُ هُوَ اللَّهُ رُبِّي»، وباقي الآية بيِّن.
وقوله: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ... الآية: وصيَّةٌ من المؤمن للكافر، وَلَوْلا:
تحضيض بمعنى «هلا»، وما تحتمل أن تكون بمعنى «الذي» بتقدير: الذي شاء الله كائنٌ، وفي شاءَ ضميرٌ عائد على «ما»، ويحتمل أن تكون شرطيةً بتقدير: ما شَاءَ اللَّهُ كَانَ، أو خبرَ مبتدأ محذوفٍ، تقديره: هو ما شاء اللَّهُ، أو الأمر ما شاء اللَّه.
وقوله: لاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ: تسليمٌ، وضدٌّ لقول الكافِرِ: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً [الكهف: ٣٥]، وفي الحديثِ: «إِنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ، إِذَا قَالَهَا العَبْدُ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: «أَسْلَمَ/ عَبْدِيَ واستسلم»، قال النوويُّ: ورُوِّينا في «سنن أبي داود والترمذيِّ والنسائي» وغيرهما، عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مَنْ قَالَ يَعْنِي- إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتهِ- باسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: هُدِيتَ، وَكُفِيت، وَوُقِيتَ، وتَنَحَّى عَنْكَ الشِّيْطان» «٢». قال الترمذيُّ: حديث حسن، زاد أبو داود في روايته:
«فَيَقُولُ: - يَعْني الشِّيْطَانَ لِشَيْطَانٍ آخَرَ- كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِي» انتهى.
وروى الترمذيُّ عن أبي هريرة، قال: قَالَ لِي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أكْثِرْ مِنْ قَوْلَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ فإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ» «٣» انتهى.
قال المحاسبيُّ في «رعايته» : وإِذا عزم العْبدُ في القيامِ بجميعِ حقوق اللَّه سبحانَهُ،
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥١٧- ٥١٨).
(٢) أخرجه أبو داود (٢/ ٧٤٦- ٧٤٧) كتاب «الأدب» باب: ما يقول إذا خرج من بيته، حديث (٥٠٩٥)، والترمذي (٥/ ٤٩٠) كتاب «الدعوات» باب: ما يقول إذا خرج من بيته، حديث (٣٤٢٦)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة»، حديث (٨٩)، وابن السني (١٧٨)، وابن حبان (٢٣٧٥- موارد) من حديث أنس. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وصححه ابن حبان.
(٣) تقدم تخريجه.
فليرغَبْ إِليه في المَعُونَةِ مِنْ عِنْدِه على أداء حقوقه، ورعايتها، وناجاه بقَلْب راغِبٍ راهبٍ أني أَنْسَى إِن لم تذكِّرني، وأعْجِزُ أُنْ لم تُقَوِّني، وأجْزَعُ إِنْ لم تصِّبرني، وعَزَم وتوكَّل، واستغاث واستعان، وتبرَّأ من الحَوْل والقوَّة إِلا بربِّه، وقطع رجاءه مِنْ نفسه، ووَجَّه رجاءه كلَّه إِلى خالقه، فإِنه سيجدُ اللَّه عزَّ وجلَّ قريباً مجيباً متفضِّلاً متحِّنناً. انتهى.
قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «١» قال مالكٌ: ينبغي لكلِّ مَنْ دَخَل منزله أنْ يقول كما قال اللَّه تعالى: مَا شاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ انتهى.
وقوله: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ هذا الترجِّي ب «عَسَى» يحتملُ أن يريد به في الدنيا، ويحتمل أن يريد به في الآخِرَةِ، وتمنِّي ذلك في الآخرة أشرَفُ وأذهَبُ مع الخير والصلاح، وأنْ يكونَ ذلك يرادُ به الدنيا- أذْهَبُ في نِكَاية هذا المخاطَب، و «الحُسْبان» العذاب كالبردِ والصِّرِّ ونحوه، و «الصَّعيد» وجه الأرض، «والزَّلَق» : الذي لا تثبت فيه قَدَم، يعني: تذهب منافعها حتى منفعةُ المشْيِ فهي وَحَلٌ لا تثبُتُ فيه قَدَمٌ.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
وقوله سبحانه: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ... الآية: هذا خبر من اللَّه عزَّ وجل عن إِحاطة العذابِ بحال هذا الممثّل به، ويُقَلِّبُ كَفَّيْهِ: يريد يضَعُ بطْن إِحداهما على ظهر الأخرى، وذلك فعل المتلهِّف المتأسِّف.
وقوله: خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها يريد أن السقوف وَقَعَتْ، وهي العروش، ثم تهدَّمت الحيطانُ عليها فهي خاوية والحيطان على العُرُوشِ.
ت: فسرَّ ع «٢» رحمه اللَّه لفظ خاوِيَةٌ في «سورة الحَجِّ والنَّمْل» ب «خالية»، والأحسن أن تفسَّر هنا وفي الحجِّ ب «ساقطة»، وأما التي في «النْمل»، فيتَّجه أن تفسَّر ب «خالية» وب «ساقطة» قال الزبيدِيُّ في «مختصر العَيْن» خَوَتِ الدَّارُ: باد أهلها، وخَوتْ: تهدَّمت انتهى، وقال الْجَوْهَرِيُّ في كتابه المسمَّى ب «تاج اللُّغِة وصِحَاحِ العَرَبِيَّةِ» :
خَوَتِ النجومُ خَيًّا: أمحَلَتْ، وذلك إِذا سقطَتْ ولم تُمْطِرْ في نَوْئِهَا، وأَخْوَتْ مثله، وخوت
(١) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٢٤٠).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥١٩).
الدارُ خُوَاءً ممدوداً: / أقْوَتْ وكذلك إِذا سقطَتْ، ومنه قوله تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل: ٥٢] أي: خاليةً، ويقال: ساقطة كما قال: فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [الحج: ٤٥] أي ساقطة على سقوفها. انتهى وهو تفسيرٌ بارعٌ، وبه أقولُ، وقد تقدَّم إِيضاحُ هذا المعنى في «سورة البقرة».
وقوله: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً قال بعض المفسِّرين: هي حكايةٌ عن مقالة هذا الكافِرِ في الآخرة، ويحتملُ أن يكون قالها في الدنيا على جهة التوبة بعد حلولِ المُصيبة، ويكون فيها زَجْرٌ لكَفَرة قريشٍ وغيرهم، «والفئة» : الجماعة التي يُلْجأُ إِلى نَصْرها.
وقوله سبحانه: هُنالِكَ يحتمل أنْ تكون ظرفاً لقوله: مُنْتَصِراً ويحتمل أن يكون الْوَلايَةُ مبتدأ، وهُنالِكَ: خبره، وقرأ حمزة «١» والكسائيُّ: «الوِلاَيَةُ- بكسر الواو-، وهي بمعنى الرِّيَاسَة ونحوه، وقرأ الباقون: «الوَلاَيَة» - بفتح الواو- وهي بمعنى المُوَالاَة والصِّلة ونحوه، وقرأ أبو عمرو «٢» والكَسائيُّ: «الْحَقُّ» بالرفع على النعت ل «الولايةُ» وقرأ الباقون بالخفضِ على النعت لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وقرأ الجمهور: «عُقُباً» - بضم العين والقاف- وقرأ حمزة وعاصم- بسكون «٣» القاف- والعقب- والعقب: بمعنى العاقبة.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا يريد حياة الإنسان، كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
(١) ينظر: «السبعة» (٣٩٢)، و «الحجة» (٥/ ١٤٩)، و «إعراب القراءات» (١/ ٣٩٦)، و «معاني القراءات» (٢/ ١١١)، و «حجة القراءات» (٤١٨)، و «العنوان» (١٢٣)، و «إتحاف» (٢/ ٢١٦). [.....]
(٢) ينظر: «السبعة» (٣٩٢)، و «الحجة» (٥/ ١٤٩)، و «إعراب القراءات» (١/ ٢٩٦)، و «معاني القراءات» (٢/ ١١١)، و «العنوان» (١٢٣)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١٠)، و «شرح شعلة» (٤٧٣)، و «حجة القراءات» (٤١٩) و «إتحاف» (٢/ ٢١٦).
(٣) ينظر: «السبعة» (٣٩٢)، و «الحجة» (٥/ ١٥٠)، و «إعراب القراءات» (١/ ٣٩٧)، و «معاني القراءات» (٢/ ١١٢)، و «شرح شعلة» (٤٧٣)، و «العنوان» (١٢٣)، و «إتحاف» (٢/ ٢١٦)، و «حجة القراءات» (٤١٩).
527
، أي: فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب النماءِ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً أصبح عبارة عن صيرورته إِلى ذلك، و «الهَشِيم» المتفتِّت من يابس العُشْب، وتَذْرُوهُ بمعنى تفرِّقه، فمعنى هذا المَثَل تشبيهُ حالِ المَرْء في حياته ومالِهِ وعزَّته وبَطَره، بالنَّبات الذي له خُضْرة ونَضْرة عن الماءِ النازل، ثم يعودُ بعد ذلك هشيماً، ويصير إِلى عُدْم، فمن كان له عَمَلٌ صالح يبقى في الآخرةِ، فهو الفَائِزُ.
وقوله سبحانه: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا لفظه الخبر، لكنْ معه قرينة الصِّفة للمال والبنين لأنه في المَثَلِ قَبْلُ حَقَّر أمْرَ الدنيا وبيَّنه فكأنه يقول: المال والبنون زينةُ هذه الحياة الدنيا المحقّرة، فلا تتبعوها نفوسكم، والجمهور أنّ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ. هي الكلماتُ المذكورُ فضْلُها في الأحاديث: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ»، وقد جاء ذلك مصرّحا به من لفظ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «وَهُنَّ البَاقِيَاتُ الصَّالحَاتُ».
وقوله سبحانه: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا أي: صاحبها ينتظرُ الثَّواب، وينبسطُ أمله، فهو خَيْرٌ من حال ذي المَالِ والبنينَ، دون عَمَلٍ صالحٍ، وعن أبي سعيد الخدريِّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ» قيلَ: وَمَا هُنَّ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: «التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ والتَّسْبِيحُ وَالحَمْدُ للَّهِ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّة/ إِلاَّ باللَّه» «١» رواه النسائيُّ وابنُ حِبَّان في «صحيحه» انتهى من «السلاح».
وفي «صحيح مسلم» عن سمرة بن جندب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أحَبُّ الكَلاَمِ إِلى اللَّهِ تَعَالى أَرْبَعٌ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّهُ، واللَّهُ أكْبُرُ، لاَ يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ» «٢» وفي «صحيح مُسْلِم»، عن أبي مالِكٍ الأشعريِّ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «الطُّهوُرُ شَطْرُ الإِيمَانِ والحَمْدُ للَّهِ تَمْلأُ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأن أو تَمُلأُ مَا بَيْنَ السموات والأَرْضِ... » «٣» الحديث انتهى.
قال ابن العربيِّ في «أحكامه» : وروى مالكٌ عن سعيد بن المسيَّب، أنَّ الباقيات الصالحات قولُ العبْدِ: اللَّهُ أكْبَرُ، وسبحانَ اللَّهِ، والحمدُ للَّهِ، ولا إِله إِلا اللَّه، ولا حَوْلَ
(١) أخرجه أبو يعلى (٢/ ٥٢٤) برقم: (١٣٨٤)، وابن حبان (٢٣٣٢- موارد)، والحاكم (١/ ٥١٢)، والطبري (١٥/ ٢٥٥)، وأحمد (٣/ ٧٥).
وقال الحاكم: هذا أصح إسناد للمصريين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان.
(٢) أخرجه مسلم (٣/ ١٦٨٥) كتاب «الآداب» باب: كراهية التسمية بالأسماء القبيحة، ونحوه حديث (١٢/ ٢١٣٧)، وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى مسلم.
(٣) تقدم تخريجه.
528
ولاَ قوَّة إِلا باللَّه» «١» وروي عن ابْنِ عباس وغيره أن الباقياتِ الصَّالحات الصَّلواتُ الخَمْس «٢». انتهى.
ت: وما تقدَّم أولى، ومن كلام الشيْخِ الوليِّ العارف أبي الحَسن الشَّاذِليِّ رضي اللَّه عنه قال: عليك بالمطهرِّات الخمس في الأقوال والمطهِّرات الخمس في الأفعال، والتبرِّي من الحول والقَّوة في جميع الأحوال، وغُصْ بعقلك إِلى المعاني القائمة بالقَلْب، واخرج عنها وعنه إِلى الرَّبّ واحفظِ اللَّه يحفظْك، واحفظ اللَّه تجدْهُ أمامك واعبد اللَّه بها، وكُنْ من الشاكرين، فالمطهِّراتُ الخمس في الأقوالِ: سُبْحَانَ اللَّه، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلا بالله، والمطهِّراتُ الخَمْسُ في الأفعال: الصلواتُ الخمْسُ، والتبرِّي من الحول والقوة: هو قولُكَ: لا حَوْلَ ولا قوة إلا بالله. انتهى.
وقوله سبحانه: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً: يحتمل أن الأرض لِذَهَابِ الجبال، والضِّرابِ والشَّجَرِ- بَرَزَتْ، وانكشفَتْ ويحتملُ أن يريد بُرُوزَ أهلها من بطنها للحِشَرْ، و «المغادرة» : الترك، عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
، أي: صفوفاً وفي الحديث الصحيح:
«يَجْمَعُ اللَّهُ الأَوَّلينَ والآخِرِينَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ صُفُوفاً يُسْمِعُهُمُ الدَّاعي، ويَنْفُذُهُمُ البَصَرُ... » الحديث «٣» بطوله، وفي حديثٍ آخَرَ: «أَهْلُ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِائَةٌ وعِشْرُونَ صَفًّا، أنْتُمْ مِنْهَا ثَمَانُونَ صفّا» «٤».
وقوله سبحانه: قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
: يفسِّره قولُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنكُمْ تُحْشَرُونَ إِلى اللَّه حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ «٥» نُعِيدُهُ [الأنبياء: ١٠٤] ».
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠)
وقوله سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ... الآية:
(١) أخرجه الطبري (٨/ ٢٣١) برقم: (٢٣٠٩٤)، وذكره ابن كثير (٣/ ٨٥)، والسيوطي (٤/ ٤٠٩) بنحوه، وعزاه لابن أبي شيبة، وأحمد في «الزهد».
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ٢٢٩- ٢٣٠) برقم: (٢٣٠٨٢) وبرقم: (٢٣٠٨٥)، ذكره ابن عطية (٣/ ٥٢٠)، وابن كثير (٣/ ٨٥)، والسيوطي (٤/ ٤١٠)، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٣) تقدم تخريجه.
(٤) تقدم تخريجه.
(٥) تقدم تخريجه.
الْكِتابُ اسم جنس يراد به كُتُب النَّاس التي أحصتها الحَفَظة لواحدٍ واحدٍ، ويحتمل أن يكون الموضوع كتاباً واحداً حاضراً، وباقي الآية بيِّن.
وقوله سبحانه: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ قالت فرقة: إبليسُ لم يكُنْ من الملائكَةِ، بل هو من الجِنِّ، وهم الشياطينُ المخلوقون من مَارِجٍ من نارٍ، وجميعُ الملائكة إنما خلقوا من نورٍ، واختلَفَتْ هذه الفرقةُ، فقال بعضهم: إِبليس من الجنِّ، وهو أولهم وبَدْأَتُهم، كآدمَ من الإِنس، وقالت فرقة: بل كان إِبليس وقبيلُهْ جِنًّا، لكن جميع الشياطين اليَوْمَ من ذريته، فهو كُنوح في الإنس، واحتجُّوا بهذه الآية.
وقوله: فَفَسَقَ معناه فخرج عن أمر ربِّه وطاعته.
وقوله عزَّ وجلَّ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ يريد: أَفتَتَّخِذُونَ إِبليس.
وقوله: وَذُرِّيَّتَهُ: ظاهر اللفظ يقتضي المُوَسْوِسين من الشياطين، الذين يأمْرُون بالمنْكَر، ويحملون على الأباطيل.
وقوله تعالى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أي: بدل ولايةِ اللَّه عزَّ وجلَّ بولاية إِبليس وذريته، وذلك هو التعوُّض من الحقّ بالباطل.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣)
وقوله سبحانه: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ... الآية: الضمير في أَشْهَدْتُهُمْ عائدٌ على الكُفَّار، وعلى النَّاس بالجملة/ فتتضمَّن الآية الرَّدَّ على طوائف من المنجِّمِين وأهْل الطبائعِ والمتحكِّمين من الأطبَّاء، وسواهم مِنْ كل من يتخرَّص في هذه الأشياء، وقيل: عائدٌ على ذرية إِبليس، فالآية على هذا تتضمَّن تحقيرَهُم، والقولُ الأول أعظم فائدةً، وأقول: إنَّ الغرض أولاً بالآية هُمْ إِبليس وذريته، وبهذا الوجْه يتَّجه الردُّ على الطوائف المذكورة، وعلى الكُهَّان والعربِ المصدِّقين لهم، والمعظِّمين للجنِّ، حين يقولون: أعُوذُ بِعَزِيز هذا الوَادِي، إِذ الجميع من هذه الفِرَقِ متعلِّقون بإِبليس وذريته، وهم أضلُّ الجميع، فهم المرادُ الأول ب الْمُضِلِّينَ، وتندرج هذه الطوائفُ في معناهم، وقرأ الجمهور «١» :«ومَا كُنْتُ»، وقرأ أبو جعفر «٢» والجحْدَرِيُّ والحسن، بخلافٍ «وَمَا كُنْت»، «والعَضُد» : استعارة للمعين والمؤازر، وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ أي: على جهة
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٢٣)، و «البحر المحيط» (٦/ ١٣٠)، و «الدر المصون» (٤/ ٤٦٤).
(٢) ينظر: مصادر القراءة السابقة.
الاستغاثة بهم، واختلف في قوله: مَوْبِقاً، فقال ابن عباس: معناه مهلكاً «١»، وقال عبد اللَّه بن عمر وأنس بن مالك ومجاهد: مَوْبِقاً هو وادٍ في جهنَّم يجري بدَمٍ وصديدٍ «٢». قال أنس: يحجز بين أهل النار وبَيْن المؤمنين «٣».
وقوله سبحانه: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، أي: مباشروها، وأطلق الناس أنَّ الظنَّ هنا بمعنى اليقين.
قال ع «٤» : والعبارة بالظَّنِّ لا تجيء أبداً في موضع يقينٍ تامِّ قد قَالَهُ الحَسَن «٥» بل أعظم درجاته أن يجيء، في موضع متحقِّق، لكنه لم يقع ذلك المظْنُونُ، والاَّ فمذْ يقع ويُحَسُّ لا يكادُ توجَدُ في كلامِ العربِ العبارةُ عنه بالظَّنِّ، وتأمَّل هذه الآية، وتأمَّل كلام العرب، وروي أبو سعيد الخدريّ، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ الكَافِرَ لَيَرى جَهَنَّمَ، ويَظُنُّ أَنَّهَا مُوَاقِعَتُهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً» «٦»، و «المَصْرِف» : المَعْدِل والمَرَاغ، وهو مأخوذ من الانصرافِ من شيء إلى شيء.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٤ الى ٥٩]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩)
(١) أخرجه الطبري (٨/ ٢٣٩) برقم: (٢٣١٤٢)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٢٤)، وابن كثير (٣/ ٩٠)، والسيوطي (٤/ ٤١٤)، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ٢٤٠) برقم: (٢٣١٤٩)، وذكره الطبري (٨/ ٢٤١)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٢٣)، وذكره البغوي (٣/ ١٦٨)، وذكره ابن كثير (٣/ ٩٠) نحوه، والسيوطي في «الدر» (٤/ ٤١٤). [.....]
(٣) ذكره ابن عطية (٣/ ٥٢٣).
(٤) ينظر: «المحرر» (٣/ ٥٢٤).
(٥) ذكره ابن عطية (٣/ ٥٢٤).
(٦) أخرجه أحمد (٣/ ٧٥)، وابن حبان (٢٥٨١- موارد)، والطبري (١٥/ ٢٦٥)، والحاكم (٤/ ٥٩٧)، من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا الْإِنْسانُ هنا يراد به الجنْس، وقد استعمل صلّى الله عليه وسلّم الآية على العمومِ في مروره بِعَلِيٍّ لَيْلاً، وأمْرِه له بالصلاة بالليل، فقال عليٌّ: إنما أنفُسُنَا يا رَسُولِ اللَّهِ بِيَدِ اللَّهِ، أو كما قال، فخرج صلّى الله عليه وسلّم، وهو يضربُ فَخِذَه بيده، ويقول: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا «١».
وقوله سبحانه: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى... الآية: النَّاسَ، هنا يراد بهم كفَّار عصر النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وسُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، هي عذاب الأمم المذكورة في القرآن، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا، أي: مقابلةً عياناً، والمعنى: عذاباً غير المعهود، فتظهر فائدة التقسيمِ، وقد وقَعَ ذلك بهم يَوْمَ بدرٍ، وكأنَّ حالهم تقتضي التأسُّف عليهم، وعلى ضلالهم ومصيرهم بآرائهم إِلى الخُسْران- عافانا اللَّه من ذلك-.
ولِيُدْحِضُوا معناه: يُزْهِقوا، «والدَّحَض» : الطين.
وقوله: فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً: لفظ عامٌّ يراد به الخاصُّ ممن حتم اللَّه عليه أنه لا يِؤمن، ولا يهتدي أبداً، كأبي جهل وغيره.
وقوله: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ قالت فرقة: هو أَجَلُ الموتِ، وقالت فرقة: هو عذاب الآخرة، وقال الطبري «٢» هو يَوْمَ بَدْرٍ والحَشْر.
وقوله سبحانه: لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا، أي: لا يجدون عنه منجًى، يقال:
وَأَلَ الرَّجُلُ يَئِلُ إِذ نجا، ثم عقَّب سبحانه توعُّدهم بذكْر الأمثلة من القَرى التي نَزَلَ بها ما تُوُعِّدَ هؤلاء بمثله، والْقُرى: المدن، والإِشارة إِلى عادٍ وثمود وغيرهم، وباقي الآية بيِّن.
قال ص: وقوله: لَمَّا ظَلَمُوا في لَمَّا ظَلَمُوا: إِشعارٌ بعلَّة الإِهلاك وبهذا استدلَّ ابن عُصْفُور على حرفية «لَمَّا» لأن الظرف لا دلالة فيه على العلّيّة.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٦٠]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠)
وقوله سبحانه: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ... الآية: مُوسى هو ابنُ عمرانَ، وفتاة هو يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وفي الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أن موسى عليه السلام جَلَسَ يَوْماً في مَجْلِسٍ لَبني إِسْرَائيلَ، وخَطَبَ، فأَبْلَغَ، فَقِيلَ لَهُ: هل تعلم أحدا أعلم
(١) أخرجه البخاري (٨/ ٢٦٠) كتاب «التفسير» باب: «وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا»، حديث (٤٧٢٤).
(٢) ينظر: «الطبري» (٨/ ٢٤٣)
532
مِنْكَ؟ قَالَ: لاَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، دُلَّنِي عَلَى السَّبِيلِ إِلى لقيه، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ بطُوِلِ سَيْفِ البَحْرِ، حَتَّى يَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ، فَإِذَا فَقَدَ الحُوتَ، فإِنَّهُ هُنَالِكَ، وأُمِرَ أَنْ يَتَزَوَّدَ حُوتاً، وَيَرْتَقِبَ زَوَالَهُ عَنْهُ، فَفَعَلَ مُوسى ذَلِكَ، وَقَالَ لِفَتَاهُ على جِهَةِ إِمْضَاءِ العَزِيمَةِ: لاَ أَبْرَحُ أَسِيرُ، أي: لاَ أَزَالُ، وإِنما قال هذه المقالَةَ، وهو سائرٌ، قال السُّهَيْليُّ: كان موسى عليه السلام أعلَمَ بعلْمِ الظاهر، وكان الخَضِرُ أعلم بعلْم الباطنِ، وأسرارِ المَلَكُوتِ، فكانا بَحْرَيْن اجتمعا بمجْمَعِ البَحْرَيْن، والخضرُ شَرِبَ من عَيْن الحَيَاةِ، فَهوَ حَيٌّ إِلى أن يخرج الدَّجَّال، وأنَّه الرجُلُ الذي يقتله الدَّجَّال، وقال البخاريُّ وطائفة من أهْل الحديث، منهم شيخُنا أبو بَكْرِ بْنُ العَرَبيِّ رحمه اللَّه: مات الخَضِرُ قبل انقضاء المِائَةِ من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن إلى رأس مائة عَامٍ مِنْهَا لا يَبْقَى عَلَى الأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا أَحَدُ» «١» يعني من كان حيًّا حين قال هذه المقالَةَ، وأما اجتماع الخِضَرِ مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتعزيته لأهْل بيته، فمرويٌّ من طرقٍ صِحَاحٍ، وصحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِنَّمَا سُمِّيَ الخَضِرَ لأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خضراء» «٢».
قال الخطابي: الفروة «٣» وجه الأرض، ثم أنشد على ذلك شاهدا انتهى.
(١) أخرجه البخاري (٢/ ٥٤) كتاب «مواقيت الصلاة» باب: ذكر العشاء والعتمة، حديث (٥٦٤)، من حديث عبد الله بن عمر.
(٢) أخرجه البخاري (٦/ ٤٩٩) كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: حديث الخضر مع موسى، حديث (٣٤٠٢)، والترمذي (٥/ ٣١٣) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الكهف، حديث (٣١٥١)، وأحمد (٢/ ٣١٨)، وابن حبان (١٤/ ١٠٨- ١٠٩) برقم: (٦٢٢٢)، والبغوي في «معالم التنزيل» (٣/ ١٧٢)، كلهم من طريق همام بن منبه، عن أبي هريرة به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٤٢٤)، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
تنبيه: وهم الحافظ نور الدين الهيثمي فأورد هذا الحديث في كتابه «موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان» رقم: (٢٠٩٢)، وشرط كتابه كما هو معروف أنه أورد ما هو زائد على «الصحيحين» من «صحيح ابن حبان». وللحديث شاهد من حديث ابن عباس، ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٤٢٤)، وعزاه إلى ابن عساكر.
(٣) الفرو الحشيش الأبيض وما أشبهه، وقال الحربي: الفروة من الأرض قطعة يابسة من حشيش. وعن ابن الأعرابي: الفروة أرض بيضاء ليس فيها نبات، وبهذا جزم الخطابي ومن تبعه، وحكي عن مجاهد أنه قيل له الخضر لأنه كان إذا صلّى اخضر ما حوله. والخضر قد اختلف في اسمه قبل ذلك وفي اسم أبيه وفي نسبه وفي نبوته وفي تعميره، فقال وهب بن منبه: هو بليا بفتح الموحدة وسكون اللام وبعدها تحتانية، ووجد بخط الدمياطي في أول الاسم بنقطتين، وقيل: كالأول بزيادة ألف بعد الباء، وقيل:
533
واختلف الناس في «مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ»، فقال مجاهد وقتادة هو مَجْمَعُ بَحْر فارس وبَحْر الروم «١»، وقالت فرقة مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ: هو عند طَنْجَة، وقيل غير هذا، واختلف في «الحُقُب»، فقال ابن عباس وغيره: الحُقُب: أزمانٌ غير محدودة «٢»، وقال عبد اللَّه بن عمرو ثمانون «٣» سنة، وقال مجاهد: سبعون «٤»، وقيل: سنة.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦١ الى ٧٤]
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥)
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠)
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لاَ تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤)
وقوله سبحانه: فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما الضمير في بَيْنِهِما: للبحرين، قاله
اسمه الياس، وقيل: اليسع، وقيل: عامر، وقيل: خضرون- والأول أثبت- ابن مكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فعلى هذا فمولده قبل إبراهيم الخليل لأنه يكون ابن عم جد إبراهيم، وقد حكى الثعلبي قولين في أنه كان قبل الخليل أو بعده، وقال وهب وكنيته أبو العباس، وروى الدارقطني في «الأفراد» من طريق مقاتل عن الضحاك، عن ابن عباس قال: هو ابن آدم لصلبه، وهو ضعيف منقطع، وذكر أبو حاتم السجستاني في «المعمرين» أنه ابن قابيل بن آدم رواه عن أبي عبيدة وغيره، وقيل: اسمه ارميا بن طيفاء حكاه ابن إسحاق، عن وهب، وارميا بكسر أوله وقيل: بضمه وأشبعها بعضهم واوا، واختلف في اسم أبيه فقيل: ملكان، وقيل: كليان، وقيل: عاميل وقيل: قابل والأول أشهر، وعن إسماعيل بن أبي أويس: هو العمر بن مالك بن عبد الله بن نصر بن الأزد.
ينظر: «فتح الباري» (٧/ ٩٣- ٩٤).
(١) أخرجه الطبري (٨/ ٢٤٦) برقم: (٢٣١٧٠)، (٨/ ٢٤٥)، برقم: (٢٣١٦٩)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٢٧)، وابن كثير (٣/ ٩٢).
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ٢٤٦) برقم: (٢٣١٧٦) بنحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٢٨)، وابن كثير (٣/ ٩٢).
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ٢٤٦) برقم: (٢٣١٧٣)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٢٨)، والبغوي (٣/ ١٧١)، وابن كثير (٣/ ٩٢).
(٤) أخرجه الطبري (٨/ ٢٤٦) برقم: (٢٣١٧٤)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٢٨)، وابن كثير (٣/ ٩٢) بنحوه. [.....]
534
مجاهد «١»، وفي الحديث الصحيح: «ثُمَّ انْطَلَقَ، وانْطَلَقَ مَعَهُ/ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، حَتَّى أَتيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رُؤُوَسَهُما، فَنَامَا، واضْطَربَ الحُوتُ في المكتلِ، فَخَرجَ مِنْهُ فَسَقَط في البَحْرِ، واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ سَرَباً، أي: مسلكاً في جوفِ الماءِ، وأمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الحُوتِ جَرْيَةَ المَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ، نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخبَرَهُ بالحُوتِ، فانْطَلَقَا بَقَّيِة يَوْمِهَما، ولَيْلَتِهِما حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الغَدِ قال موسى لِفَتَاهُ: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً ويعني ب «النصب» تعب الطريق، قال: ولم يجدْ موسى النَّصَبَ حتَّى جاوَزَ المَكَان الذي أمره اللَّه به، قال له فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، يريد: ذكر ما جرى فيه، وَما أَنْسانِيهُ، أي أن أذكره إِلَّا الشَّيْطانُ، واتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً قال: فكان للحوتِ سَرَباً ولموسى وفتاه عَجَباً، فقال موسَى: ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً، قال: فرجعا يَقُصَّان آثارهما حَتَّى انتهيا إلى الصخرة، فإِذا رجُلٌ مُسَجَّى بثوبٍ، فسَلَّم عليه موسى، فقال الخَضِرُ: وأَنَّى بأرضِكَ السَّلاَمَ قال: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسُرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعْم، أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَني ممَّا عُلِّمْتَ رُشْداً، قالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً يعني: لا تطيق أن تصبر على ما تراه من عملي لأن الظواهر التي هي عِلْمُكَ لا تعطيه، وكيف تُصْبِرُ على ما تراه خطأً، ولم تُخْبَرْ بوجه الحكمة فيه؟ يا موسى، إني على علْمٍ من علْمِ اللَّه، علَّمنيه لا تَعْلَمُه، يريد: علْم الباطنِ، وأنْتَ على علْمٍ من علمِ اللَّه علَّمكه اللَّه، لا أعلمه، يريد: علْمَ الظاهرِ، فقال له موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً، فقال له الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً، أي: حتى أشرح لك ما ينبغي شرْحُه، فانطلقا يمشيَانِ على ساحل البَحْرِ، فمرت بهم سفينةٌ، فكلَّموهم أنْ يحملوهم، فعرفوا الخَضِرَ، فحملوهم بغَيْر نَوْلٍ، يقول: بغير أجْر، فلما ركبا في السفينة، لم يُفْجَأْ موسى إِلاَّ والخَضِرُ قد قلع لَوْحاً من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى قومٌ حملونا بغير نَوْلٍ، عَمِدْتَّ إلى سفينتهم، فخرقْتَها لتغرق أهلها، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً، أي شنيعاً من الأمور، وقال مجاهد: الإِمْرُ المُنْكَر «٢»، قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لاَ تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً قال أَبَيُّ بْنُ كعب، قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: فكانَتِ الأُولى مِنْ مُوسَى نِسْيَاناً، قال: وَجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ على حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ في البَحْرِ نُقْرَةً، فَقَالَ لَهُ الخَضِرُ: ما عِلْمِي وعلْمُكَ مِنْ عِلْم اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ مَا نقص هذا العصفور من هذا البحر»،
(١) أخرجه الطبري (٨/ ٢٤٧) برقم: (٢٣١٧٩)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٢٨).
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ٢٥٧) برقم: (٢٣٢١٨)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٣١)، وابن كثير (٣/ ٩٧).
535
وفي رواية: «واللَّهِ، مَا عِلْمِي وعِلْمُكَ في جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كما أَخَذَ/ هَذَا الطَّائِرُ بِمنْقَارِهِ من البَحْر»، وفي رواية: «مَا عِلْمي وعِلْمُكَ وعِلْمُ الخَلاَئِقِ في عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ مِقْدَارُ مَا غَمَسَ هذا العُصْفُورُ منقاره» «١».
قال «٢» ع: وهذا التشبيهُ فيه تجوُّز إِذ لا يوجد في المحْسُوسَات أقوى في القِلَّة من نقطة بالإِضافة إلى البحر، فكأنها لا شَيْءَ، ولم يتعرَّض الخَضِرُ لتحرير موازَنَةٍ بين المِثَال وبَيْنَ عِلْم اللَّه تعالى، إِذ علمه سبحانه غير متناهٍ، ونُقَطُ البحر متناهيةٌ، ثم خَرَجَ من السفينة، فبينما هما يَمْشِيَانِ على السَّاحل، إذ أبصر الخضرُ غُلاَماً يَلْعَبُ مع الغْلمَان، فأخذ الخَضِرُ رَأْسَهُ بيده، فاقتلعه فَقَتَلَهُ، فقال له موسى: أقتلت نفساً زاكية.
قال «٣» ع: قيل: كان هذا الغلامُ لم يبْلُغ الحُلْم، فلهذا قال موسى: نَفْساً زاكية، وقالت فرقة: بل كان بالغاً.
وقوله: بِغَيْرِ نَفْسٍ يقتضي أنه لو كان عَنْ قَتْلِ نفْسٍ، لم يكن به بأْسٌ، وهذا يدلُّ على كِبَرِ الغلامِ، وإِلا فلو كان لم يحتلم، لم يجبْ قتله بَنَفْس ولا بغير نفْس. ت:
وهذا إِذا كان شَرْعُهم كَشَرْعنا، وقد يكونُ شرعهم أنَّ النفْسَ بالنفْسِ عموماً في البالغ وغيره، وفي العَمْد والخطأ فلا يلزم من الآية ما ذَكَرَ.
وقوله: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً معناه: شيئاً ينكر.
قال ع «٤» : ونصف القرآن بِعَدِّ الحروف. انتهى إلى النون من قوله: نُكْراً.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧٥ الى ٨٢]
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩)
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)
(١) أخرجه الحاكم (٢/ ٣٦٩) من حديث أبي بن كعب، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٣١).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٣٢).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٣٢).
536
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قال: وهذه أشدُّ من الأولى- قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، قال:
مائل، فقال الخَضِرُ بيده هكذا، فأقامه، فقال موسى: قومٌ أتيناهم، فلم يطعمونا، ولم يضيّفونا لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قال سعيدُ بنُ جُبَيْر: أجراً نأكله «١» - «قال هذا فراق بيني وبينك» إِلى قوله: ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرَهِمَا» «٢» قال سعيد: فكان ابن عباس يَقْرأُ: «وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سفينة [صالحة] غصبا»، وكان يقرأ: «وأَمَّا الغُلاَمُ [فَكَانَ كَافِراً] وكَانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ»، وفي رواية للبخاريِّ: يزعمون عن غَيْر سعيدِ بْنِ جُبَيْر أنَّ اسم المَلِكِ: هُدَدُ بْنُ بُدَدٍ، والغلام المقتولُ اسمه يزعمون حَيْسُورُ، ويقال: جَيْسُورَ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً، فأردتُّ إِذا هِيَ مَرَّتْ به أنْ يَدَعَها لِعَيْبها «٣»، فإِذا جَاوَزُوا أصْلَحُوها، فانتفعوا بها، ومنهم من يقول: سَدُّوها بقَارُورة، ومنهم من يقول بالقار، كان أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ، وكان كافراً، فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً أنْ يحملهما حبُّه على أنْ يتابعاه على دينه، فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً لقوله: «أقتلْتَ نفساً زاكية»، وَأَقْرَبَ رُحْماً هما به أرحم منهما بالأول الذي قتله خَضِر، وزعم غير سعيد أنهما أُبْدلا جاريةً، وأما داوُدُ بن أبي عاصِمٍ، فقال عن غير واحدٍ: إنها جاريةٌ. انتهى لفظُ البخاريِّ.
ت: وقد تحرَّينا/ في هذا المختصر بحَمْد اللَّه التحقيقَ فيما علَّقناه جُهْد الاستطاعة، واللَّه المستعان، وهو المسئول أن ينفع به بجُوده وكَرَمِهِ.
قال ع «٤» : ويشبه أنْ تكون هذه القصَّة أيضاً أصلاً للآجال في الأحكام التي هي
(١) ذكره ابن عطية (٣/ ٥٣٤)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٢٠)، وعزاه لعبد بن حميد، ومسلم، وابن مردويه.
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) أخرجه البخاري (٨/ ٢٦٢، ٢٧٧) كتاب «التفسير»، حديث (٤٧٢٥- ٤٧٢٦- ٤٧٢٧) من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٣٢).
537
ثَلاَثَةٌ، وأيام التلوم ثلاثةٌ، فتأمَّله.
وقوله سبحانه: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما وفي الحديث: «أَنَّهُمَا كَانَا يَمْشِيَانِ عَلَى مَجَالِسِ أُولَئِكَ القَومِ يَسْتَطْعمَانِهِمْ».
قال ع «١» : وهذه عبرة مصرِّحة بهوان الدنيا على اللَّه عزَّ وجلَّ. ص:
وقوله: فِراقُ بَيْنِي الجمهور «٢» بإضافة «فراق»، أبو البقاء، تفريقُ وَصْلِنا، وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ «فِراقٌ» بالتنوين «٣»، أبو البقاء و «بَيْنَ» : منصوبٌ على الظرف انتهى.
قال «٤» ع: ووَراءَهُمْ هو عندي على بابه، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعًى بها الزمانُ، وذلك أنَّ الحادث المقدَّم الوُجُودِ هو الأمامُ، والذي يأتي بَعْدُ هو الوَرَاء، وتأمَّل هذه الألفاظ في مواضِعِها حيْثُ وردَتْ تجدها تَطَّرد، ومِن قرأ «٥» :
«أَمامَهُمْ»، أراد في المكان.
قال «٦» ع: وفي الحديث، «أنَّ هَذَا الغُلاَمَ طُبِعَ يَوْمَ طُبعَ كافِراً»، والضمير في «خشينا» للخضِرِ، قال الداوديُّ: قوله: فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما، أي: علمنا انتهى.
«والزَكَاةُ» شرف الخُلُق والوقارُ والسكينةُ المنطويةُ على خَيْرٍ ونيَّة، «والرُّحْم» الرحمة، وروي عن ابن جُرَيْج، أنهما بُدِّلا غلاماً مسْلِماً «٧»، وروي عنه أنهما بُدِّلا جاريةً، وحكى النَّقَّاش أنها وَلَدَتْ هي وَذُرِّيَّتُها سبعين نبيًّا، وذكره المهدويُّ عن ابن عباس «٨»، وهذا بعيدٌ، ولا تُعْرَف كثرة الأنبياءِ إِلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكُنْ فيهم، واختلف النَّاسُ في هذا الكنز المذكور هنا، فقال ابن عباس: كان عِلْماً في صُحُف مدفونةٍ «٩»، وقال عمر مولى غَفْرَة: كان لَوْحاً من ذَهَبٍ قد كُتِبَ فيه: «عجباً للموقِنِ بالرِّزْقِ كيف يَتْعَبُ، وعجباً للموقِنِ بالحسابِ كيف يَغْفَلُ، وعجباً للموقِنِ بالمَوْتِ كيف يَفُرَحُ»، وروي نحو هذا مما هو في
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٣٣).
(٢) ينظر: «البحر المحيط» (٦/ ١٤٤)، و «الدر المصون» (٤/ ٤٧٦).
(٣) ينظر: «الكشاف» (٢/ ٧٤٠)، و «البحر المحيط» (٦/ ١٤٤)، و «الدر المصون» (٤/ ٤٧٦).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٣٥). [.....]
(٥) وقرأ بها ابن عباس، وابن جبير، كما في «الجامع لأحكام القرآن» (١١/ ٢٤).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٣٦).
(٧) أخرجه الطبري (٨/ ٢٦٧) برقم: (٢٣٢٥٠) بنحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٣٦)، والبغوي (٣/ ١٧٧)، وابن كثير (٣/ ٩٨).
(٨) ذكره ابن عطية (٣/ ٥٣٦).
(٩) أخرجه الطبري (٨/ ٢٦٨) برقم: (٢٣٢٥٦)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٣٧)، وابن كثير (٣/ ٩٨).
538
معناه، وقال الداوديّ: كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ذَهَبٌ وفِضَّة» انتهى، فإِن صحَّ هذا الحديثُ، فلا نظرَ لأحَدٍ معه، فاللَّه أعلم أيَّ ذلك كَانَ.
وقوله سبحانه: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً ظاهر اللفظِ، والسابقُ منه إِلى الذهنِ أنه والدهما دِنْيَةً «١»، وقيل: هو الأب السابعُ، وقيل: العاشر، فَحُفِظَا فيه، وفي الحديثِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْفَظُ الرَّجُلَ الصَّالِحَ في ذُريتِهِ»، وقول الخضر: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، يقتضي أنه نَبِيٌّ، وقد اختلف فيه، فقيل: هو نبيٌّ، وقيل: عَبْدٌ صالح، وليس بنبيٍّ وكذلك اختلف في موته وحياته، واللَّه أعلم بجميع ذلك، ومما يقضي بموت الخضر قوله صلّى الله عليه وسلّم:
«أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن إلى رأس مائة مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ اليَوْمَ على ظَهْرِ الأَرضِ أحد» «٢».
قال القرطبيُّ في «تذكرته» : وذكر عن عمرو بن دِينَارٍ: الخَضِرُ وإِلياسُ عليهما السلام حَيَّانِ، فإِذا رفع القرآن ماتا/ قال القرطبيُّ: وهذا هو الصحيحُ انتهى، وحكاياتُ مَنْ رأَى الخَضِرَ من الأولياء لا تحصَى كثرةٍ فلا نطيلُ بَسْردها، وانظر «لطائِفَ المِنَن» لابن عطاء اللَّه.
وقوله: ذلِكَ تَأْوِيلُ: أي مآل، وحكى السُّهَيْليُّ أنه لما حان للخَضِر وموسى أن يفترقا، قال له الخَضر: لو صَبَرْتَ، لأَتَيْتَ عَلَى أَلْفِ عَجَبٍ، كلُّها أعجبُ ممَّا رأَيْتَ، فبكى موسى، وقالَ للخَضِر: أوْصِنِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فقال: يا مُوسَى، اجْعَلْ همَّك في معادِكَ، ولا تَخُضْ فيما لا يَعْنِيك، ولا تأمَنْ مِنَ الخوفِ في أمْنِكَ، ولا تَيْئَس من الأمن في خوفك، وتدَّبر الأمورَ في علانيتِكَ، ولا تَذَر الإحسانَ في قُدْرتك، فقال له موسى: زِدْنِي يرحمك اللَّه، فقال له الخَضِر: يا مَوسَى، إِياكَ واللَّجَاجَةُ، ولا تَمْش في غير حَاجَةٍ، ولا تَضْحَكْ من غَيْر عَجَبٍ، ولا تعير أحداً، وابكِ على خطيئتك يا بن عمران. انتهى.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٣ الى ٩٢]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢)
(١) يقال: هو ابن عمي دنية، إذا كان ابن عمه لحّا.
ينظر: «لسان العرب» (١٤٣٦).
(٢) تقدم تخريجه.
539
وقوله سبحانه: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ... الآية: «ذو القرنين»، هو المَلِكُ الإسْكَنْدَرُ اليُونَانِيُّ، واختلف في وَجْه تسميته ب «ذي القَرْنَيْنِ» وأحسنُ ما قيل فيه: أنه كان ذا ظفيرتين، من شَعْرهما قرناه، والتمكينُ له في الأرض: أنه مَلَكَ الدنيا، ودانَتْ له الملوك كلها، وروي أن جميع من مَلَكَ الدنيا كلَّها أربعَةٌ، مُؤْمِنَانِ وكافران فالمُؤْمِنَانِ: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام، والإسْكَنْدَرُ، والكافِرَانِ: نُمْرُود، وبُخْتَ نَصَّرَ.
وقوله سبحانه: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً معناه: علْماً في كل أمْرٍ، وأقيسةً يتوصَّل بها إِلى معرفة الأشياء، وقوله: كُلِّ شَيْءٍ عمومٌ معناه الخصوص في كلِّ ما يمكنه أنْ يعلمه ويحتاجُ إلَيْه، وقوله: فَأَتْبَعَ سَبَباً، أي: طريقاً مسلوكةً، وقرأ نافع وابن كثير «١» :
وحفص عن عاصم: «في عَيْنٍ حِمِئَة»، أي: ذاتِ حَمْأة، وقرأ الباقون: «في عَيْنٍ حَامِيَةٍ»، أي: حارَّة، وذهب «٢» الطبريُّ إلى الجمع بين الأمرين، فقال: يحتملُ أن تكون العين حارَّة ذاتَ حَمْأة واستدلَّ بعضُ الناس على أن ذا القرنين نبيّ بقوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ، ومن قال: إنه ليس بنبيٍّ، قال كانت هذه المقالةُ مِنَ اللَّهِ له بإِلهامِ.
قال ع «٣» : والقول بأنه نبيّ ضعيف، وإِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ معناه: بالقَتْلِ على الكُفْر، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً، أي: إِن آمنوا، وذهب الطبري «٤» إِلى أنَّ اتخاذه الحُسْن هو الأسْرُ مع كُفْرهم، ويحتمل أنْ يكون الاتخاذ ضَرْبَ الجزية، ولكنْ تقسيم ذي القرنين بعد هذا الأمْر إِلى كفر وإيمان يردُّ هذا القول بعض الردّ، وظَلَمَ في هذه الآية:
بمعنى كَفَر، وقوله: عَذاباً نُكْراً، أي: تنكره الأوهام، لعظمه، وتستهوله، والْحُسْنى يراد بها الجَنَّة.
وقوله تعالى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً المعنى: ثم سلك ذو القرنين الطُّرُق المؤدِّية إِلى مَقْصِده، وكان ذو القرنَيْن، على ما وقع في كُتُب التاريخ يَدُوسُ الأرض بالجيوش الثّقال،
(١) ينظر: «السبعة» (٣٩٨)، و «الحجة» (٥/ ١٦٩)، و «إعراب القراءات» (١/ ٤١٢)، و «معاني القراءات» (٢/ ١٢١)، و «حجة القراءات» (٤٢٨)، و «العنوان» (١٢٤)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١٨)، و «شرح شعلة» (٤٧٨)، و «إتحاف» (٢/ ٢٢٣).
(٢) ينظر: «الطبري» (٨/ ٢٧٤).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٣٩).
(٤) ينظر: «تفسير الطبري» (٨/ ٢٧٥).
540
والسّيرة الحميدة، والحزم المستيقظ، والتأييد المتواصِلِ، وتقوى اللَّه عزَّ وجلَّ، فما لقي أمّة، ولا مرّ بمدينةٍ إِلا ذَلَّتْ ودَخَلَتْ في طاعته، وكُلُّ من/ عارضه أوْ توقَّف عن أمْره، جعله عظةً وآيةً لغيره، وله في هذا المعنى أخبارٌ كثيرةٌ وغرائبُ، مَحَلُّ ذكرها كُتُبُ التاريخ.
وقوله: وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ المراد ب «القوم» الزَّنْج، قاله قتادة «١»، وهم الهنود وما وراءهم، وقال الناس في قوله سبحانه: لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً معناه: أنهم ليس لهم بنيانٌ، إِذ لا تحتمل أرضهم البناءَ وإِنما يدخلون مِنْ حَرِّ الشمس في أسْرَابٍ، وقيل: يدخلون في مَاءِ البَحْر قاله الحسن «٢» وغيره، وأكْثَرَ المفسِّرون في هذا المعنى، والظاهر من اللفظ أنها عبارة بَلِيغَةٌ عن قُرْب الشمس منهم، ولو كان لهم أسرابٌ تغني لكان سِتْراً كثيفاً.
وقوله: كَذلِكَ معناه: فَعَلَ معهم كَفِعْله مع الأولين أهْلِ المَغْرب، فأوجز بقوله:
كَذلِكَ.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٣ الى ٩٥]
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥)
وقوله: حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ... الآية: «السَّدَّان»، فيما ذكر أهل التفسير:
جبلان سَدَّا مسالك تلك الناحية، وبَيْنَ طَرَفيِ الجبلين فَتْحٌ هو موضع الرَّدْم، وهذان الجَبَلان في طَرَفِ الأرضِ ممَّا يلي المَشْرِق، ويظهر من ألفاظ التواريخُ أنهما إلى ناحية الشمال.
وقوله تعالى: وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً: قال السُّهَيْليُّ: هم أهل جابلَص، ويقال لها بالسُّرْيانية «جَرْجيسَا» يسكنها قومٌ مِنْ نَسْل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح.
وقوله تعالى: وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ هم: أهلُ جابَلَقَ، وهم من نسل مؤمني قوم عاد الذين آمنوا بهود، ويقال لها بالسُّرْيانيَّة: «مَرْقِيِسيَا» ولكل واحدةٍ من المديَنتْينِ عَشَرة آلاف بابٍ، بين كلِّ بابين فرسَخٌ، ومر بهم نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ليلةَ الإسراء، فدعاهم، فأجابوه، وآمنوا به، ودعا من ورائهم من الأمم، فلم يجيبوه في حديثٍ طويلٍ رواه الطبريُّ عن مقاتل بن حَيَّان، عن عكرمة عن ابن عباس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والله أعلم. انتهى،
(١) أخرجه الطبري (٨/ ٢٧٧) برقم: (٢٣٣١٧)، وابن عطية (٣/ ٥٤٠)، وابن كثير (٣/ ١٠٣)، والسيوطي (٤/ ٤٤٨)، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ٢٧٦) برقم: (٢٣٣١٤) بنحوه، والبغوي (٣/ ١٧٩).
والله أعلم بصّحته.
ويَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ: قبيلان من بني آدم، لكنَّهم ينقسمون أنواعاً كثيرةً، اختلف الناس في عددها، واختلف في إفسادهم الذي وصَفُوهم به، فقيل: أكْلُ بَني آدم، وقالت فرقة: إفسادهم: هو الظُّلْم والغَشْم وسائرُ وجوه الإِفساد المعلومِ من البَشَر، وهذا أظهر الأقوال، وقولهم: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً: استفهامٌ على جهة حُسْن الأدبِ، «والخْرجُ» :
المُجْبَى، وهو الخراج، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: «١» «خَرَاجاً»، وروي في أمر يأجوج ومأجوج أنَّ أرزاقهم هِيَ من التِّنِّينِ يُمْطَرُونَ به، ونحو هذا مما لم يَصِحَّ، وروي أيضاً أنَّ الذَّكَر منهم لا يَمُوتُ حتى يولَدَ له ألْفٌ والأنثى كذلك، وروي أنهم يتسافَدُونَ في الطُّرُق كالبهائِمِ، وأخبارُهُم تضيقُ بها الصُّحُف، فاختصرْتُ ذلك لعَدَمِ صحَّته.
ت: والذي يصحُّ من ذلك كثْرَةُ عددهم على الجُمْلة، على ما هو معلوم من حديثِ: «أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ» وغيره من الأحاديث.
وقوله: مَا مَكَّنِّي/ فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ المعنى: قال لهم ذُو القَرْنَيْنِ: ما بسطه اللَّه لي من القُدْرة والمُلْك خَيْرٌ من خَرَاجكم، ولكن أعينوني بُقَّوة الأبدان، وهذا من تأييد اللَّه تعالى له، فإِنه تهَدَّى في هذه المحاورة إِلى الأنفع الأَنْزَه، فإِنَّ القوم لو جمعوا له الخَرَاجَ الذي هو المالُ، لم يُعِنْهُ منهم أحدٌ، ولَوَكَّلُوه إلى البنيان، ومعونتهم بالقوّة أجمل به.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٦ الى ٩٩]
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩)
وقوله: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ... الآية: قرأ حمزة «٢» وغيره: «ائْتُوني» بمعنى «جيئوني»، وقرأ نافع وغيره: «آتوني» بمعنى «أعْطُوني»، وهذا كله إِنما هو استدعاء
(١) الثابت أن الأخوين حسب من السبعة قرآ هذا الحرف هكذا، وإنما تابع المصنف ابن عطية في ذكره عاصما.
ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٤٢)، و «السبعة» (٤٠٠)، و «الحجة» (٥/ ١٧٤)، و «إعراب القراءات» (١/ ٤١٩)، و «معاني القراءات» (٢/ ١٢٤)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٢٢)، و «العنوان» (١٢٤)، و «حجة القراءات» (٤٣٣)، و «شرح شعلة» (٤٨٠)، و «إتحاف» (٢/ ٢٢٥- ٢٢٦). [.....]
(٢) والمقصود أن حمزة قرأ: «ائتوني» الثانية من الآية هكذا، وإلا فإن الأولى قرأها أبو بكر، عن عاصم «ائتوني»، دون حمزة، فلم يقرأها هكذا.
542
المناولة، وإِعمالُ القوَّة «والزُّبَر» جمع زُبْرة، وهي القطعة العظيمة منه، والمعنى: فرَصَفَه وبنَاه حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، وهما الجبلان، وقوله: قالَ انْفُخُوا... إلى آخر الآية، معناه: أنه كان يأمر بوَضْع طاقة من الزُّبَر والحجارةِ، ثم يوقد عليها حَتَّى تحمَى ثم يؤتَى بالنُّحَاس المُذَاب أو بالرصاص أو بالحديد بحسب الخلافِ في «القِطْر»، فيفرغه على تلك الطاقة المنضَّدة، فإِذا التأم واشتدَّ، استأنَفَ رَصْفَ طاقةٍ أخرى إلى أن استوَى العَمَلُ، وقال أكثر المفسِّرين: «القِطْر» : النُّحَاس المُذَابُ، ويؤيِّد هذا ما روي أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، إِنِّي رَأَيْتُ سَدَّ يُأْجُوجُ ومَأْجُوجَ، فَقَالَ: كَيْفَ رَأْيْتَهُ؟ قَالَ:
رَأَيْتُهُ كَالبُرُدِ المُحَبَّر طَريقَةٌ صَفْرَاءُ، وَطَرِيقَةٌ حمراء، وطريقة سوداء، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «قد رأيته» «١» ويَظْهَرُوهُ ومعناه: يعلونه بُصعُودٍ فيه ومنه قوله في «الموطّإ»، و «الشمس في حجرِتها قَبْل أَنْ تَظْهَرَ»، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً لبُعْد عَرْضه وقوَّته، ولا سبِيلَ سَوى هذين: إما ارتقاءٌ، وإِما نَقْب، وروي أن في طُولَه ما بَيْنَ طرفَيِ الجبلَيْنِ مِائَة فَرْسَخِ، وفي عَرْضه خمسينَ فرسخاً، وروي غير هذا مما لم نَقِفْ على صحَّته، فاختصرناه، إِذ لا غاية للتخرُّص وقوله في الآية انْفُخُوا يريد بالأَكْيَار.
وقوله: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي... الآية: القائل ذو القرنين، وأشار ب هذا إِلى الرَّدْمِ والقوةِ عليه، والانتفاعِ به، والوعدُ يحتملُ أنْ يريد به يوم القيامة، ويحتمل أنْ يريد به وقْتَ خروجِ يأجُوجَ ومأجوج، وقرأ «٢» نافع وغيره: «دَكًّا» مصدر «دَكَّ يَدُكُ»، إِذا هدم ورض، ونَاقةٌ دَكَّاء لا سَنَام لها، والضمير في تَرَكْنا للَّه عزَّ وجلَّ.
وقوله: يَوْمَئِذٍ يحتمل أنْ يريد به يوم القيامة، ويحتمل أنْ يريد به يَوْمَ كمالِ السَّدِّ، والضميرُ في قوله: بَعْضَهُمْ على هذا ليأجوجَ ومأجُوجَ، واستعارة المَوْج لهم عبارةٌ عن الحَيْرة، وتردُّدِ بعضهم في بَعْضٍ، كالمُوَلَّهينَ مِنْ هَمٍّ وخوفٍ ونحوه، فشبَّههم بموجِ البَحْر الذي يضطرب بعضُه في بعض.
وقوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ... إلى آخر الآية: يعني به يومَ القيامة بلا احتمال
ينظر: «إتحاف» (٢/ ٢٢٧)، و «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٤٣)، و «الحجة للقراء السبعة» (٥/ ١٧٧- ١٧٨)، و «معاني القراءات» (٢/ ١٢٦)، و «شرح شعلة» (٤٨٢).
(١) ينظر: «تفسير القرطبي» (١١/ ٦٢).
(٢) وقرأ بها أبو عمرو، وابن عامر.
ينظر: «السبعة» (٤٠٢)، و «الحجة» (٥/ ١٨٢)، و «إعراب القراءات» (١/ ٤٢٢)، و «حجة القراءات» (٤٣٥)، و «العنوان» (١٢٥)، و «إتحاف» (٢/ ٢٢٨).
543
لغيره، والصُّورِ في قول الجمهور وظاهر الأحاديثِ الصِّحَاحِ: هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل للقيامة «١».
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٦]
وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤)
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦)
وقوله سبحانه: وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً معناه/ أبرزناها لَهُمْ لتجمعهم وتحطِّمهم، ثم أكَّد بالمصدر عبارةً عن شدَّة الحال.
وقوله: أَعْيُنُهُمْ كنايةٌ عن البصائر، والمعنى: الذين كانَتْ فِكَرُهم بينها، وبَيْن ذكري والنَّظَرِ في شَرْعِي- حجابٌ، وعليها غطاءٌ وَكانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً يريد لإِعراضهم ونِفارهم عن دعوة الحق، وقرأ الجمهور «٢»، «أفَحِسِبَ الَّذِين كَفَرُوا» - بكسر السين- بمعنى «أظَنُّوا» وقرأ علي بن أبي طالب «٣» وغيره وابنُ كَثِير، بخلافٍ عنه:
«أَفَحَسْبُ» بسكون السين وضمِّ الباء، بمعنى «أَكافِيهِمْ ومنتهى غرضهم»، وفي مصحف ابن مسعود «٤» :«أَفَظَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» وهذه حجة لقراءة الجمهور.
وقوله: أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي قال جمهور المفسِّرين: يريد كلَّ مَنْ عُبِدَ من دون اللَّه كالملائكة وعزير وعيسى، والمعنى: أن الأمر ليس كما ظَنُّوا، بل ليس لهم من ولاية هؤلاءِ المذكُورين شيء، ولا يجدون عندهم منتفعا وأَعْتَدْنا معناه: يَسَّرنا، و «النُّزُل» موضع النزول، و «النُّزُل» أيضاً: ما يُقدَّم للضْيفِ أو القادم من الطَّعام عند نزوله، ويحتملُ أنْ يريد بالآية هذا المعنى: أنَّ المعدَّ لهؤلاء بَدَلَ النُّزُلِ جهنَّم، والآية تحتملُ الوجهِينِ، ثم قال
(١) تقدم تخريجه.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٤٥)، و «الدر المصون» (٤/ ٤٨٤).
(٣) وقرأ بها ابن عباس، وابن يعمر، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، ونعيم بن ميسرة، والضحاك، ويعقوب، وابن أبي ليلى.
ينظر: «المحتسب» (٢/ ٣٤)، و «الكشاف» (٢/ ٧٤٩)، و «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٤٥)، و «البحر المحيط» (٦/ ١٥٧)، وزاد نسبتها إلى ابن محيصن، وأبي حيوة، والشافعي، ومسعود بن صالح، وينظر: «الدر المصون» (٤/ ٤٨٤)، و «الشواذ» ص: (٨٥).
(٤) ينظر: «الكشاف» (٢/ ٧٤٩)، و «المحرر الوجيز» (٣/ ٥٤٥)، و «البحر المحيط» (٦/ ١٥٧).
تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الآية: المعنى قل لهؤلاء الكفرة على جهة التوبيخ: هل نخبركم بالذين خَسِرَ عَمَلُهم، وضَلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم مع ذلك يظنُّون أنهم يحسنون فيما يصنعوه، فإِذا طلبوا ذلك، فقل لهم: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ، وعن سعد بن أبي وقَّاص في معنى قوله تعالى: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً قال: هُمْ عُبَّاد اليهودِ والنصارى، وأهْلُ الصوامع والدِّياراتِ وعن عَلِيٍّ:
هم الخوارجُ ويضعِّف هذا كلَّه قولُهُ تعالى بعْدَ ذلك: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ، وليس هذه الطوائف ممن يكفر باللَّه ولقائه، وإِنما هذه صفة مشركي عَبَدَةِ الأوثان، وعليٌّ وسعْدٌ رضي اللَّه عنهما، ذكَرا قوماً أَخَذُوا بحظِّهم من صدر الآية «١».
وقوله سبحانه: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً يريد أنهم لا حسنَةَ لهم تُوزَنْ لأن أعمالهم قد حَبِطَتْ، أي: بَطَلَتْ، ويحتمل المجاز والاستعارة، كأنه قال: فلا قَدْرَ لهم عندنا يومئذ، وهذا معنى الآية عندي، وروى أبو هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «يُؤَتَى بالأكُولِ الشَّرُوبِ الطَّوِيل فَلاَ يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ثم قَرَأَ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» «٢» وقوله:
ذلِكَ اشارة الى ترك إقامة الوزن.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٧ الى ١٠٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨)
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ:
اختلف المفسِّرون في «الفِرْدَوسِ» فقال قتادة: إِنه أعلى الجَنَّةَ وَرَبْوتها «٣»، وقال أبو هريرة:
إِنه جَبَلٌ تتفجَّر منه أنهارُ الجَنَّة «٤»، وقال أبو أُمَامَةِ: إِنه سُرَّة الجنة ووسطها «٥»، وروى أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ، أنه تتفجَّر منه أنهار الجَنَّة «٦»، وروي عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، أنَّهُ قَالَ: «إِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فاسألوه الفِرْدَوْس» «٧».
(١) ذكره ابن عطية (٣/ ٥٤٥).
(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٤٥٧)، وعزاه إلى ابن عدي، والبيهقي في «شعب الإيمان».
(٣) أخرجه الطبري (٣/ ٢٩٦) برقم: (٢٣٤٠٠)، وذكره البغوي (٣/ ١٨٦)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٤٦).
(٤) أخرجه الطبري (٣/ ٢٩٧) برقم: (٢٣٤٠٩)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٤٦).
(٥) ذكره ابن عطية (٣/ ٥٤٦)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٥٧)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه.
(٦) أخرجه الطبري (٣/ ٢٩٧) برقم: (٢٣٤٠٩)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٤٦). [.....]
(٧) ينظر: الحديث الآتي:
ت: ففي «البخاريِّ» من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم/ قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجَنَّةِ» «١» انتهى.
وقوله تعالى: لاَ يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا «الحِوَلُ» بمعنى المتحوَّل.
قال مجاهدٌ: متحوَّلاً «٢» :
[سورة الكهف (١٨) : آية ١٠٩]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩)
وأما قوله سبحانه: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي... الآية: فروي أن سبب الآية أنّ اليهود قالت للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: كَيْفَ تَزْعُمُ أنَّكَ نَبِيُّ الأُمَمِ كُلَّها وأنَّكَ أُعُطِيتَ مَا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ مِنَ الْعِلْمِ، وأَنْتَ مُقَصِّرٌ، قَدْ سُئِلْتَ عَنْ الرُّوحِ، فَلَمْ تُجِبْ فيهِ؟، ونحو هذا من القول فأنزل اللَّه الآية مُعْلِمَةً باتساع معلوماتِ اللَّه عزَّ وجلَّ، وأنها غير متناهية، وأن الوقوف دونها ليس ببدْعٍ، فالمعنى: لو كان البحْرُ مداداً تكتب به معلوماته تعالى، لنَفِدَ قبل أنْ يستوفيها، «وكلمات ربِّي» هي المعاني القائمة بالنَّفْس، وهي المعلوماتُ، ومعلوماتُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لا تتناهى والبحر متناهٍ ضرورةً، وذكر الغَزَّالِيُّ في آخر «المنهاج» أن المفسِّرين يقولون في قوله تعالى: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، أن هذه هي الكلماتُ التي يقولُ اللَّه عزَّ وجلَّ لأهْلِ الجَنَّةِ في الجَنَّة باللُّطْفِ والإِكرام، مما لا تكيِّفه الأوهام، ولا يِحُيطُ به عِلْمُ مخْلوقِ، وحُقَّ أنْ يكون ذلك كذلك، وهو عطِاءُ العزيز العليم على مقتضى الفَضْل العظيم، والجود الكريمِ، أَلاَ لِمِثْلِ هذا فليعملِ العَامِلُونَ. انتهى.
وقوله: مَدَداً، أي زيادة. ت: وكذا فسَّره الهَرَوِيُّ ولفظه: وقوله تعالى:
وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً، أي زيادة انتهى.
[سورة الكهف (١٨) : آية ١١٠]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)
(١) أخرجه البخاري (٦/ ١٤) كتاب «الجهاد» باب: درجات المجاهدين في سبيل الله، حديث (٢٧٩٠) من حديث أبي هريرة.
(٢) أخرجه الطبري (٣/ ٢٩٨) برقم: (٢٣٤١٨)، وذكره ابن عطية (٣/ ٥٤٦)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٤٥٨)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
546
وقوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي: أنا بشرٌ ينتهي علْمي إلى حيثُ يوحى إليّ، ومما يوحَى إِليَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وباقي الآية بيِّن في الشرك باللَّه تعالى، وقال ابن جُبَيْر في تفسيرها لا يرائي في عمله، وقد ورد حديثٌ أنها نزلَتْ في الرياء.
ت: وروى ابن المبارك في «رقائقه»، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن زَيْد بن أسْلَمُ، عن أبيه، أنه كَانَ يَصِفُ أمْرَ الرياء، فيقول: ما كَانَ مِنْ نَفْسِكَ فَرَضِيَتْهُ نَفْسُكَ لها، فإِنه مِنْ نَفْسِكَ فعاتْبها، وما كان مِنْ نَفْسِك، فكرهَتْه نَفْسُك لها، فإنه من الشيطان فتعوَّذْ باللَّه منه، وكان أبو حَازِمٍ يقول ذلك «١»، وأسند ابنُ المبارك عن عبْدِ الرحمن بنِ أبي أُمَيَّة، قال: كُلُّ ما كَرِهَه العَبْد فليس منْه «٢» انتهى، وخرَّج الترمذيُّ عن أبي سعيد بْنِ أبي فَضَالَة الأنصاريِّ، وكان من الصحابة، قال: سَمِعْتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كان أشرك في عمل عَمِلَهُ للَّهِ أحَداً، فَلْيَطْلُبْ ثَوابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّركَاءِ عَنِ الشِّرْكِ» «٣»، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ انتهى، وقد خرَّج مسلم معناه.
ت: ومما جَّربته، وصحَّ من خواصِّ هذه السورة، أنَّ من أراد أن يستيقظ أيَّ وقتٍ شاء من الليل، فليقرأ عند نومه قولَهُ سبحانه: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي/ مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ... إلى آخر السورة، فإنه يستيقظُ بإِذن اللَّه في الوقْت الذي نَوَاهُ، ولتكُنْ قراءته عند آخر ما يَغْلِبُ عليه النُّعَاس بحيث لا يتجدَّد له عقب القراءة خواطِرُ، هذا مما لا شَكَّ فيه، وهو من عجائب القرآن المقطوعِ بها، واللَّه الموفِّق بفضله.
تنبيهٌ: رُوِّينا في «صحيح مسلم»، عن جابر رضي اللَّه عنه قال: سَمِعْتُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «إِنَّ في اللَّيلِ لسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلَ اللَّهَ خَيْراً مِنْ أَمْر الدُّنْيَا والآخِرَةِ إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» «٤»، وذلِكَ كُلَّ لَيَلةٍ، فإِن أردتَّ أن تعرف هذه الساعة، فاقرأ عند نومك من قوله
(١) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص: (٢٨٧) برقم: (٨٣١).
(٢) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص: (٢٨٧) برقم: (٨٣٢).
(٣) أخرجه الترمذي (٥/ ٣١٤) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الكهف، حديث (٣١٥٤)، وابن ماجه (٢/ ١٤٠٦) كتاب «الزهد» باب: الرياء والسمعة، حديث (٤٢٠٣)، وأحمد (٣/ ٤٦٦)، وابن حبان (٢٤٩٩- موارد)، والدولابي في «الكنى» (١/ ٣٥)، والطبراني في «الكبير» (٢٢/ ٣٠٧) برقم: (٧٧٨).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه ابن حبان.
(٤) أخرجه مسلم (٣/ ٨٤- الأبي) كتاب «صلاة المسافرين» باب: في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء، حديث (١٦٦- ١٧٦/ ٧٥٧) من حديث جابر، وأخرجه أحمد (٣/ ٣١٣).
547
تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ إلى آخر السورة، فإِنك تستيقظ في تلك الساعة- إن شاء اللَّه تعالى- بفضله، ويتكرَّر تَيَقُّظَكَ، ومهما استيقظْتَ، فادْعُ لي ولك، وهذا مما ألهمنيه اللَّهُ سبحانه، فاستفِدْه، وما كتبته إلاّ بَعْدَ استخارة، وإِياك أن تدعُوَ هنا على مُسْلِمٍ، ولو كان ظالماً، فإن خالفتَني، فاللَّه حَسِيبُكَ وبَيْن يديه أكونُ خصيمَكَ، وأنا أرغَبُ إِليك أنْ تشركني في دعائِكَ، إِذ أفدتُّكَ هذه الفائدةَ العظيمةَ وكُنْتُ شيخَكَ فيها، وللقرآن العظيم أسرارٌ يُطْلِعُ اللَّه عليها من يشاء مِنْ أوليائه، جَعَلَنَا اللَّه منْهم بفَضْله، وصلَّى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.
تم بحمد الله وحسن توفيقه الجزء الثالث من تفسير الثعالبي ويليه الجزء الرابع وأوله:
سورة مريم ولله الحمد والمنه
548
محتوى الجزء الثالث من تفسير الثعالبي
الأعراف ٥ الأنفال ١١٢ التوبة ١٦١ يونس ٢٣٣ هود ٢٧١ يوسف ٣١٠ الرعد ٣٥٨ إبراهيم ٣٧٤ الحجر ٣٩٣ النحل ٤١٠ الإسراء ٤٤٩ الكهف ٥٠٥
549
Icon