تفسير سورة فاطر

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحدادي اليمني .

﴿ الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي خالِقُهما، مُبتَدِئاً من غيرِ مثالٍ سبقَ، قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا :(مَا كُنْتُ أعْرِفُ مَا مَعْنَى فَاطِرِ حَتَّى اخْتَصَمَ إلَيَّ أعْرَابيَّانِ فِي بئْرٍ، فَقَالَ أحَدُهُمَا : أنَا فَطَرْتُهَا ؛ أيْ بَدَأتُهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً ﴾ ؛ قال بعضُهم : أرادَ به بالملائكةَ كلَّهم، فإنَّهم كلُّهم رسُلُ اللهِ بعضُهم إلى بعضٍ وبعضُهم إلى الإنسِ، وقالَ بعضُهم : أرادَ بذلك جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ وملَكُ الموتِ والحفَظَةَ، يرسلُهم إلى النبيِّين وإلى ما شاءَ من الأُمور.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلِي أَجْنِحَةٍ ﴾ ؛ صفةُ الملائكةِ أي ذوي أجنحةٍ، ﴿ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾، منهم مَن له جَناحَان، ومنهم مَن له ثلاثةٌ، ومنهم من له أربعةٌ، اختارَهم الله تعالى لرِسالَتهِ من حيث عَلِمَ أنَّهم لا يُبدِّلون.
وقولهُ تعالى :﴿ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ ﴾ ؛ أي يزيدُ في أجنحةِ الملائكة ما يشاءُ، فمِنهُم من له مائةُ ألفِ جَناحٍ، ومنهم من له أكثرُ، وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ؛ قال :" رَأى النَّبيُّ ﷺ جِبْرِيلَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ ".
وعن ابنِ شِهَابٍ قال :" سَأَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أنْ يَتَرَاءَى لَهُ فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : إنَّكَ لَنْ تُطِيقَ ذلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ :" إنِّي أُحِبُّ أنْ تَفْعَلَ " فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلَى الْمُصَلَّى فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فِي صُورَتِهِ، فَغَشِيَ عَلَى النَّبيِّ ﷺ حِينَ رَآهُ، ثُمَّ أفَاقَ وَجِبْرِيلُ مُسْنِدُهُ إلَيْهِ وَاضِعٌ إحْدَى يَدَيْهِ عَلَى صَدْرهِ وَالأُخْرَى بَيْنَ كَتِفَيْهِ. فَقَالَ النَّبيُّ ﷺ :" سُبْحَانَ اللهِ مَا كُنْتُ أرَى شَيْئاً مِنَ الْخَلْقِ هَكَذا " فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام : كَيْفَ لَوْ رَأيْتَ إسْرَافِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! لَهُ اثْنَا عَشَرَ جَنَاحاً، جَنَاحٌ بالْمَشْرِقِ وَجَنَاحٌ بالْمَغْرِب وَالْعَرْضُ عَلَى كَاهِلِهِ ".
وعن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قالَ :(إنَّ للهِ تَعَالَى مَلَكاً يَسَعُ الْبحَارَ كُلُّهَا فِي نَقْرَةِ إبْهَامِهِ). وَقِيْلَ : معنى قولهِ ﴿ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ ﴾ يعني حُسنَ الصَّوتِ، كذلك قال الزهريُّ، وقال قتادةُ :(هِيَ الْمَلاَحَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ وَالشَّعْرِ الْحَسَنِ وَالْوَجْهِ الْحَسَنِ وَالْخَطِّ الْحَسَنِ).
وقولهُ تعالى ﴿ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾ في موضعِ خفضٍ ؛ لأنه لا يتصرَّفُ. وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؛ أي قادرٌ على ما يزيدُ على الزيادةِ والنُّقصانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا ﴾ ؛ أي ما يُرسِلِ اللهُ إلى الناسِ من رسوُلٍ فلا مانعَ له، وذلك لأن إرسالَ الرسُولِ من اللهِ تعالى رحمةٌ لعبادهِ كما قالَ تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾[الأنبياء : ١٠٧].
وَقِيْلَ : أرادَ بالرحمةِ ها هنا المطرَ والرزقَ والعافية وجميعَ النِّعَمِ، ما يفتحِ اللهُ من ذلك فلا مانعَ له، ولا يستطيعُ أحدٌ من الخلقِ حبسَهُ ولا إمساكَهُ، وقولهُ تعالى :﴿ وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ﴾ ؛ أي وما يُمسِكِ اللهُ من ذلك فلا يقدِرُ أحدٌ على إرسالهِ، ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ ؛ أي العزيزُ فيما أمسكَ، الحكيمُ فيما أرسلَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ ؛ يعني أهلَ مكَّة اذكرُوا نعمةَ الله عليكم إذ أسكنَكم الحرَمَ ومنعَكم من الغاراتِ، ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ﴾ ؛ هذا استفهامٌ، ومعناهُ التوبيخ ؛ أي لا خالقَ سواهُ. وقولهُ تعالى :﴿ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي مِن السَّماءِ بإنزالِ المطر ومِن الأرض بإخراجِ النبات، ﴿ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ ؛ أي فأنَّى تُصرَفون عن الإلهِ الذي هذه صفتهُ إلى معبودٍ لا يقدرُ على شيءٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ﴾ ؛ في هذه الآيةِ تسليةٌ للنبيِّ ﷺ لئَلاَّ يجزعَ على تكذيب قومه، ويصبرُ كما صَبَرَ على تكذيب الأمُمِ الرسلُ، ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ ﴾ ؛ عواقبُ ﴿ الأُمُورُ ﴾ ؛ في مجازاةِ المكذِّبين ونُصرَةِ المسلمين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ ؛ معناهُ إن الذي وعدَهُ اللهُ المجازاةَ والبعثَ بعد الموتِ حقٌّ كائن، ﴿ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ ؛ بزِينَتِها وزَهرتِها حتى تشتَغِلوا بها عن أمرِ دينكم، ﴿ وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ ؛ أي ولا يستزِلَّكم عن طاعةِ الله الشيطانُ الذي مِن عادته الغرورُ. وقرأ ابنُ سماك العدويّ :(الْغُرُورُ) بضمِّ الغينِ، وهو أباطيلُ الدنيا، وأما (الْغَرُورُ) بفتح الغينِ فيه، الشَّيطانُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ﴾ ؛ أي احتَرِزُوا من كَيدهِ، ولا تقبلُوا منه وتطيعوهُ، ﴿ إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ ﴾ ؛ أي أهلَ طاعتهِ ليكون معه، ﴿ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ ؛ أي ليَسُوقَهم إلى النار، ﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ﴾ ؛ نَزَلْنَ في أبي جهلٍ ومُشرِكي مكَّة. وَقِيْلَ : نزلت في أصحاب الأهوَاءِ والمِلَلِ التي خالَفت الْهُدَى، والمعنى : أفمَن زُيِّنَ له سوءُ عملهِ فرآهُ حسناً كمَن هداهُ الله، ويدلُّ على هذا المحذوفِ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾.
قولهُ :﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ ؛ أي لا تَغْتَمَّ، ولا تُهلِكْ نفسَكَ عليهم حَسَرَاتٍ على تركِهم الإسلامَ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ ؛ في كُفرِهم فيجازيهم بما هو أولى بهم، قرأ أبو جعفر (فَلاَ تُذْهِبْ) بضم التاء وكسر الهاء، نصب السِّين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً ﴾ ؛ معناهُ : اللهُ الذي أرسلَ الرياحَ لإثارةِ السَّحاب، ﴿ فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ ﴾، فأجريناه الى بلد ميت ليس فيه نبات ولا شجر، ﴿ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾، فأحيَا " الله " بالمطرِ الأرضَ بإخراجِ الزَّرعِ والأشجار منها بعدَ يُبسِها وذهاب النباتِ منها، ﴿ كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾ ؛ كذلك البعثُ في القيامةِ.
وهذا احتجاجٌ على مُنكرِي البعثِ، فإن موتَهم كموتِ الأرض، وذهابَ أثَرِهم كذهاب أثرِ الأشجار والزُّروعِ، والقادرُ على إخراجِ الأشجار والزروعِ من الأرضِ قادرٌ على إخراجِ الموتَى من الأرضِ.
ومعنى الآية :﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً ﴾ أي تُزعِجهُ من حيث هو ﴿ فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ ﴾ أي مكانٍ ليس فيه نباتٌ ﴿ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ أي أنبَتنا فيها الزرعَ والكلأَ بعدَ أن لم يكن، ﴿ كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾ أي الإحياءُ والبعث.
وعن أبي رُزَينِ العقيليِّ قالَ :" قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يُحييِ اللهُ الْمَوْتَى ؟ " أوَمَا مَرَرْتَ بوَادِي قَوْمِكَ مُمَحَّلاً ثُمَّ مَرَرْتَ بهِ خَضِراً ؟ " قُلْتُ : بَلَى، قَالَ :" فَكَذلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى " وَقَالَ :" كَذلِكَ النُّشُورُ " ".
قَوُلَهُ تَعَالَى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ﴾ ؛ أي مَن كان يطلبُ العزَّةَ بعبادةِ الأصنام فليطلُبْها بطاعةِ الله تعالى وطاعةِ رسوله ﷺ، العزيزُ مَن أعزَّهُ اللهُ. وذلك أنَّ الكفارَ كانوا يعبدُونَ الأصنامَ طَمَعاً في العزَّةِ كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً ﴾[مريم : ٨١]. أو قِيْلَ : معناهُ : مَن كان يريدُ أن يعلمَ العزَّةَ لِمَن هي فليعلَمْ أنَّها للهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾ ؛ إلى اللهِ تصعدُ كلمةُ التوحيدِ وهو قولهُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، ومعنى ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ﴾ أي يعلمُ ذلك كما يقالُ : ارتفعَ الأمرُ إلى القاضِي والسُّلطان أي عَلِمَهُ. وَقِيْلَ : صعودُ الكَلِمِ الطيِّب أن يُرفَعَ ذلك مَكتُوباً أو مَقبُولاً إلى حيث لا مالِكُ إلاَّ اللهُ ؛ أي إلى سَمائهِ يصعدُ الكَلِمُ الطيِّبُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ ؛ قال الحسنُ :(مَعْنَاهُ : ذُو الْعَمَلِ الصَّالِحِ يُرْفَعُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ إلَى اللهِ تَعَالَى بعَرْضِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ، فَإنْ وَافَقَ الْقَوْلُ الْفِعْلَ قُبلَ، وَإنْ خَالَفَ رُدَّ، لأنَّ الْعَبْدَ إذا وَحَّدَ اللهَ وَأخْلَصَ فِي عَمَلِهِ ارْتَفَعَ الْعَمَلُ إلَى اللهِ تَعَالَى). قال :(لَيْسَ الإيْمَانُ بالتَّحَلِّي وَلاَ بالتَّمَنِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْب وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ، مَنْْ قَالَ حُسْناً وَعَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ رَدَّهُ اللهُ تَعَالَى، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً رَفَعَهُ الْعَمَلُ).
وقرأ أبو عبدِالرحمن (الْكَلاَمُ الطَّيِّبُ). وعن أبي هريرةَ عن النبيِّ صلى الله علي وسلم في قولهِ ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ ﴾ :" هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ : سُبْحَانَ اللهِ ؛ وَالْحَمْدُ للهِ ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ، إذا قَالَهَا الْعَبْدُ عَرَجَ بهَا مَلَكٌّ إلَى السَّمَاءِ ".
وَقِيْلَ : الكلامُ الطيب : لا إلهَ إلاَّ اللهُ، والعملُ الصالِحُ : أداءُ فرائضهِ، ومَن لا يؤدِّي فرضَهُ رُدَّ كلامهُ. وجاءَ في الخبرِ :" طَلَبُ الْجَنَّةِ بلاَ عَمَلٍ ذنْبٌ مِنَ الذُّنُوب "، وقال النبيُّ ﷺ :" لاَ يَقْبَلُ اللهُ قَوْلاً بلاَ عَمَلٍ "، وعلى هذا المعنَى قولُ الشاعرِ : لاَ تَرْضَ مِنْ رَجُلٍ حَلاَوَةَ قَوْلِهِ حَتَّى يُصَدِّقَ مَا يَقُولُ فَعَالُفَإذا وَزَنْتَ فَعَالَهُ بمَقَالِهِ فَتَوَازَنَا فَإخَاءُ ذاكَ جَمَالُوقال ابنُ المقفَّع :(قَولٌ بلاَ عَمَلٍ كَثَرِيدٍ بلاَ دَسَمٍ، وَسَحَابٍ بلاَ مَطَرٍ، وَقَوْسٍ بلاَ وَتَرٍ). وَقِيْلَ : معناهُ : والعملُ الصالِحُ يرفعهُ اللهُ ؛ أي يَقبَلهُ.
قَوُلَهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ ؛ أي يَفعلُونَها على وجهِ المخادَعة كما كان الكفارُ يَمكُرون بالنبيِّ ﷺ في دار النَّدوةِ. وَقِيْلَ : معناهُ : الذين يُشرِكون باللهِ وبعملِ السيِّئات لَهم عذابٌ شديد في الآخرةِ. وَقِيْلَ : أرادَ بقولهِ ﴿ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ ﴾ يعمَلون عمَلاً على وجهِ الرِّياءِ.
" كما رُوي أنَّ رجُلاً قالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ فِيمَ النَّجَاةُ غَداً ؟ فَقَالَ :" لاَ تُخَادِعِ اللهَ، فَإنَّهُ مَنْ يُخَادِعِ اللهَ يَخْدَعُهُ وَيَخْلَعُهُ مِنَ الإيْمَانِ ". فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ فَكَيْفَ يُخَادَعُ اللهُ ؟ فَقَالَ :" أنْ تَعْمَلَ بمَا أمَرَكَ اللهُ، لاَ يُقْبَلُ مَعَ الرِّيَاءِ عَمَلٌ، فَإنَّ الْمُرَائِي يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ بأرْبَعَةِ أسْمَاءٍ : يَا كَافِرُ ؛ يَا فَاجِرُ ؛ يَا غَادِرُ ؛ يَا خَاسِرُ ؛ ضَلَّ عَمَلُكَ " قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾ ؛ أي يفسَدُ ويهلَكُ ويكسَرُ ولا يكون شيئاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ ؛ أي خلَقَ أصلَكم وأبَاكم آدمَ من ترابٍ، ﴿ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ ؛ أي ثم خلقَ نسلَ آدم من نُطفةٍ، ﴿ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً ﴾ ؛ يعني ذُكرَاناً وإنَاثاً، ﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ﴾ ؛ أو تَلِدُ لتمامٍ وغيرِ تَمام، ﴿ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ﴾ ؛ أي ما يَطُولُ عمُر أحدٍٍ، ولا يَنقصُ من عمُرِ أحدٍ إلاَّ وهو مُثْبَتٌ في اللوحِ المحفوظ، وقوله :﴿ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ ؛ أي كتابةُ الآجالِ والأعمالِ وحِفظُها من غيرِ كتابةٍ على الله هيِّنٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَـاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾ ؛ قِيْلَ : هذه مثلٌ ضربَهُ اللهُ، يقولُ : كما لا يستوِي البحرَان أحدُهما عَذْبٌ في غايةِ العذُوبَةِ هنِيءٌ شرابهُ مَرِيءٌ، والآخَرُ مرٌّ زُعَافٌ لا يستطاعُ شرابه، فكذلك لا يستوِي المؤمنُ والكافر، والتقيُّ والفاسقُ. والسائغُ : هو السالكُ في الحلْقِ. والأُجَاجُ : شديدُ الْمُلُوحَةِ. وقرأ عيسى (سَيِّغٌ شَرَابُهُ) مثل ميِّتٍ وسَيِّد.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً ﴾ ؛ أي ومِن كلِّ البحرَين تأكلُون السمكَ لا يختلفُ طَعْمُ السَّمكِ لاختلاف ماءِ البحرَين، فكذلك قد يولَدُ للكافرِ ولدٌ مسلم مثلَ خالدِ بن الوليد وعكرمةَ بن أبي جهلٍ وغيرِهما.
وقولهُ تعالى :﴿ وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ ؛ قِيْلَ : أرادَ به إخراجَ اللُّؤلُؤِ والمرجان من أحدِهما خاصَّة وهو الملحُ. والمعنى : تَستَخرِجُونَ من الملحِ دون العَذْب. قِيْلَ : إن اللؤلؤَ قطرُ المطرِ يقعُ في جوفِ الصَّدَفِ فيكون منه اللؤلؤُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ﴾ ؛ أي ترَى السفُنَ جواري في البحرِ، قال مقاتلُ :(هُوَ أنْ تَرَى سَفِينَتَيْنِ، أحَدُهُمَا مُقْبلَةً وَالأُخْرَى مُدْبرَةً، وَهَذِهِ تَسْتَقْبِلُ تِلْكَ، وَتِلْكَ تَسْتَدْبرُ هَذِهِ، تَجْرِيَانِ برِيحٍ وَاحِدَةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ ؛ لتَطلبُوا من رزقهِ التجارةَ، فتحملُ النِّعَمُ فيها من بلدٍ إلى بلدٍ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ ؛ أي فَعَلَ ذلك لتعلَمُوا أنَّ هذه النعَمَ من اللهِ، ولكي تشكرونَهُ عليها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
وقولهُ تعالى :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ﴾ ؛ أي الذي يفعلُ هذه الأشياءَ هو اللهُ ربُّكم، و ؛ ﴿ لَهُ الْمُلْكُ ﴾ ؛ الدائمُ الذي لا يزولُ، ﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾ ؛ من الأصنامِ، ﴿ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾ ؛ لا يقدِرون على أنْ ينفعُوكم بقدر قِطْمِيرٍ، وهو القشرةُ الدَّقيقة الملتزِقَةُ بنواةِ الثَّمرة كاللفَّافَةِ عليها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ ﴾ ؛ ولو كانُوا سَامِعين ما أجَابُوكم بإغاثةٍ ولا نُصرةٍ، والمعنى : إنْ تدعُوهم لكشفِ ضُرٍّ لا يَسمَعُوا دعاءَكم لأنَّها جمادٌ لا تنفعُ ولا تضرُّ، ﴿ وَلَوْ سَمِعُواْ ﴾ ؛ بأنَّ الله خَلَقَ فيهم السمعَ، ﴿ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ ﴾ ؛ أي يتبرَّؤُن منكم ومِن عبادِتكم كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ﴾[البقرة : ١٦٦] والمعنى بقولهِ :﴿ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ ﴾ أي يتبرَّؤن من عبادتِكم، يقولون : ما كُنتم إيَّانا تعبُدون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ ؛ معناهُ : لا يُخبرُكَ بحقائقِ الأمُور وعواقبها إلاَّ اللهُ ؛ لأنه عالِمٌ بكلِّ الأشياءِ، لا يخفَى عليه منها شيءٌ، ولا تلحقهُ المضَارُّ والمنافعُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ ﴾ ؛ أي الْمُحتَاجُونَ إليه وإلى نِعَمِهِ ومغفرتهِ حالاً بعد حالٍ، ﴿ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ ﴾ ؛ عن إيمانِكم وطاعتكم، ﴿ الْحَمِيدُ ﴾ ؛ أي المحمودُ في أفعالهِ عند خَلقهِ. وإنَّما أمرَكم بطاعتهِ لتنتَفِعوا بها لا حاجةَ به إليها، ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ ﴾ ؛ أي إنْ يشأ يهلككم، ﴿ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾، ويأتِ بخلقٍ أطوعَ منكم، ﴿ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ ؛ أي ليس إهلاكُكم وإتيانهِ بمثلِكم على اللهِ ممتنعٌ.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ ؛ أي لا تحملُ يومَ القيامةِ حمل حاملةٍ أُخرى ؛ أي لا تؤخذُ نفسٌ بذنب غيرِها، ﴿ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ ﴾ ؛ بالذُّنوب، ﴿ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ﴾، إلى أن يُحمَلَ عنها شيءٌ من ذنوبها لا تُحمَلُ مِن ذنوبها شيءٌ، ﴿ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾، ولو كانت المدعوَّةُ ذاتَ قرابةٍ من الداعيةِ لِمَا في ذلك مِن غِلَطِ حملِ الآثام، ولو تحمَّلتْهُ لا يُقبَلُ حملها ؛ لأن كلَّ نفسٍ بما كسبَتْ رهينةٌ، فلا يؤخَذُ أحدٌ بذنب غيرهِ.
وسُئل الحسنُ بن الفضلِ عن الجمعِ بين هذه الآيةِ وبين قولهِ﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾[العنكبوت : ١٣] فقالَ (قَوْلُهُ ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ يَعْنِي طَوْعاً، وَقَوْلُهُ﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾[العنكبوت : ١٣] يَعْنِي كَرْهاً). قال ابنُ عبَّاس : في قولهِ ﴿ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ﴾ قال :(يَقُولُ الأَبُ وَالأُمُّ : يَا بُنَيَّ احْمِلْ عَنِّي، فَيَقُولُ : حَسْبي مَا عَلَيَّ).
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ﴾ ؛ يقولُ : إنما ينتفعُ بإنذارِكَ ووَعْظِكَ الذين يُطيعون ربَّهم في السرِّ، ﴿ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ ﴾ ؛ المفروضةَ، ولأن مَن خَشِيَ اللهَ واجتنبَ المعاصي في السرِّ مِن خشيةِ الله تعالى، اجتنبَها لا محالةَ في العَلانيةِ.
ويقال : إنَّ الخشيةَ في السرِّ، والإقدامَ على الطاعةِ في السرِّ، واجتنابَ المعصيةِ في السرِّ، أعظمُ عندَ اللهِ ثواباً، كما قالَ النبيُّ ﷺ :" مَا تَقَرَّبَ امْرِئٌ بشَيْءٍ أفْضَلَ مِنْ سُجُودٍ خَفِيٍّ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ " وأما عطفُ الماضِي في قولهِ تعالى ﴿ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ ﴾ على المستقبَلِ في قولهِ ﴿ يَخْشَوْنَ ﴾، ففائدةُ ذلك أنَّ وجوبَ خشيةِ الله لا تختصُّ بزمانٍ دون زمانٍ ولا بمكان دون مكانٍ، ووجوبُ إقامةِ الصَّلاة يختصُّ ببعضِ الأوقاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ﴾ ؛ أي ومَن تطَهَّرَ من دَنَسِ الذُّنوب والشِّركِ ليكون عند ربه زكيّاً، فإن منفعةَ تطَهُّرهِ راجعةٌ إلى نفسهِ، ﴿ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ ؛ أي إليه يرجعُ الخلق كلُّهم في الآخرةِ، ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾ ؛ يعني الْمُشرِكُ والمؤمنُ، ﴿ وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ ﴾ ؛ أي ولا الشِّركُ ولا الضَّلالُ كالنور والهدى والإيمان.
وقولهُ تعالى :﴿ وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ ﴾ ؛ ولا الجنَّةُ ولا النارُ. وقال عطاءُ :(يَعْنِي ظِلَّ اللَّيْلِ وَسَمُومَ النَّهَار)، ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ ﴾ ؛ يعني المؤمنين والكافرينَ، وهذه أمثالٌ ضربَهَا اللهُ تعالى، كما لا تستوِي هذه الأشياءُ، كذلك لا يستوِي الكافرُ والمؤمن.
وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ ﴾ ؛ أي يسمعُ كلامَهُ مَن يشاءُ ؛ أي يتَّعِظُ ويهتدِي، قال عطاءُ :(يَعْنِي أوْلِيَاءَهُ الَّذِينَ خَلَقَهُمْ لِجَنَّتِهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ﴾ ؛ أي كمَا لا تقدرُ تسمِعُ مَن في القبور، فكذلكَ لا تقدرُ أن تُسمِعَ الكفارَ، شبَّهَهم بالموتَى لأنَّهم لا ينتفَعُون كالموتَى.
وقرأ أبو رُزَين العقيليِّ (مَا أنْتَ بمُسْمِعِ مَنْ فِي الْقُبُور) بلا تنوينٍ بالإضافة، وقولهُ تعالى :﴿ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ﴾ ؛ أي ما أنتَ إلاَّ رسولٌ تُنذِرُهم النارَ وتخوِّفُهم، وليس عليك غيرُ ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ ؛ أي ما مِن أُمَّة إلاَّ سَلَفَ فيها نبيٌّ، ﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ ﴾ ؛ فلستَ بأوَّلِ رسولٍ كُذِّبَ، ﴿ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ ؛ الواضحاتِ، ﴿ وَبِالزُّبُرِ ﴾ ؛ وهِي الكتُب، وقولهُ تعالى :﴿ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾ ؛ يعني التوراةَ. وَقِيْلَ : إنَّما كرَّرَ الزبورَ هي الكتُب أيضاً لاختلافِ صفات الكتاب ؛ لأن الزبورَ هو الكتابةُ الثابتة كالنَّقرَةِ في الصخرةِ، ثم قالَ ﴿ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾ الموصوف واحدٌ والصفات مختلفةٌ. وقولهُ تعالى :﴿ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ؛ أي أخذتُهم بالعقوبةِ، ﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ ؛ أي إنكاري عليهم وتعذيبي لَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً ﴾ ؛ يعني المطرَ، ﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا ﴾ ؛ وطعمُها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ ؛ أي وخلَقنا من الجبالِ (جُدَدٌ بيضٌ) أي طرُق يكون في الجبالِ كالعرُوقِ بيضٌ وسود وحُمْرٌ، واحدها جُدَّة، قال المبرِّد :(جُدَدٌ : طُرْقٌ وَخُطُوطٌ وَنَحْوُ هَذا، وَالْجُدَدُ الْجُدَّةُ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ كَالْمُدَّةِ وَالْمُدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْعُدَدِ، وَأمَّا الْجُدُدُ بضَمَّتَيْنِ فَهِيَ جَمْعُ الْجَدِيدِ مِثْلُ سَرِيرٍ وَسُرُرٍ).
وقوله تعالى ﴿ وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ يجوز أن يكون الغرَابيبُ هي الجبالُ السُّود، كأنَّه قالَ : ومن الجبالِ غرابيبُ، والغَرَابيبُ الذي لَونهُ كَلَونِ الغُرَاب، ولذلك حَسُنَ أن يقال سُودٌ، وقال الفرَّاء :(هَذا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، تَقْدِيرُهُ : وَسُودٌ غَرَابيبُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ﴾ ؛ كاختلافِ الثِّمار والجبالِ، وتَمَّ الكلامُ على، ﴿ كَذَلِكَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَاهُ : إنَّما يَخَافُونَ مِنْ خَلْقِي مَنْ عَلِمَ جَبَرُوتِي وَعِزَّتِي وَسُلْطَانِي)، وقال مقاتلُ :(أشَدُّ الناسِ للهِ خِشْيَةً أعْلَمُهُمْ بهِ)، وقال مسروقُ :(كَفَى بخِشْيَةِ اللهِ عِلْماً، وَكَفَى بالاغْتِرَار باللهِ جَهْلاً). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ﴾ ؛ أي عزيزٌ قاهر وغالبٌ في مُلكهِ، ﴿ غَفُورٌ ﴾ ؛ لذنوب المؤمنين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ ﴾ ؛ يعني القرآنَ في الصَّلاةِ وغيرِها، ﴿ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ ﴾ ؛ المفروضةَ، ﴿ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾ ؛ أي وأنفَقُوا مما أعطَيناهم من الأموالِ تطوُّعاً سِرّاً فيَسلَمُوا بذلك عن تُهمَةِ الرِّياءِ، وفريضةً جَهْراً فيَسلَمُون بذلك عن تُهمةِ المنعِ، ويقالُ أرادَ بذلك النفقةَ في الجهادِ، ﴿ يَرْجُونَ ﴾ ؛ بذلك، ﴿ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ﴾ ؛ أي لن تَكْسَدَ ولا يَرِدُ عليها الفسادُ والبُطلان.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ ﴾ ؛ ليُعطِيَهم أجرَ أعمالِهم كاملةً، ﴿ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ ؛ فوق ما يستحقُّوهُ، قال ابنُ عبَّاس :(يَعْنِي سِوَى الثَّوَاب)، وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ ؛ إنه غفورٌ لذنوبهم، شكورٌ يعامِلُ بالأحسنِ معاملةَ الشاكرِ، قال ابنُ عبَّاس :(غَفَرَ الْعَظِيمَ مِنْ ذُنُوبهِمْ، وَشَكَرَ الْيَسِيرَ مِنْ أعْمَالِهِمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ ؛ أي مُوافِقاً لِمَا قبلَهُ من الكتُب، لأن كتبَ اللهِ تعالى كلُّها دالَّة على توحيدهِ وإنِ اختلفتْ بالشرائعِ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ ؛ أي خبيرٌ بأقوالِهم وأفعالِهم ونيَّاتِهم فيَجزِيهم بما يستحقُّون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ ؛ قال مقاتلُ :(يَعْنِي الْقُرْآنَ)، وقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ يريد أُمَّة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
ثم قسَّمَهم ورتَّبَهم فقالَ تعالى :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ﴾ ؛ وهو الذي ماتَ على كِبْرِه ولم يَتُبْ عنها، ﴿ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾ ؛ وهو الذي لَمْ يُصِبْ كبيرةً، ﴿ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ﴾ ؛ يعني المقرَّبين الذين سبَقُوا إلى أعمالٍ، وقال الحسنُ :(الظَّالِمُ : الَّذِي تَرَجَّحَ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ : الَّذِي اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتُهُ، وَالسَّابقُ : مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ).
وعن عُمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قالَ :" سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" سَابقُنا سَابقٌ " أي إلى الجنَّة أو إلى رحمةِ الله تعالى بالخيراتِ ؛ أي بالأعمال الصالحة، ﴿ بِإِذُنِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي بإرادةِ الله، ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ ؛ معناهُ : إيراثُهم الكتابَ هو الفضلُ الكبير، وسُمي إعطاءُ الكتاب إيْرَاثاً لأنَّهم أُعْطُوهُ بغيرِ مسألةٍ ولا اكتساب.
وعن رسولِ اللهِ ﷺ أنَّهُمْ قَالُواْ :" السَّابقُونَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْمُقْتَصِدُونَ يُحَاسَبُونَ حِسَاباً يَسِيراً ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَالظَّالِمُونَ يُحَاسَبُو مَا شَاءَ اللهُ أنْ يُحَاسَبُواْ، ثُمَّ يَرْحَمُهُمُ اللهُ تَعَالَى فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْحَمْدُ للهِ الَّّذِي أذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ... " إلى آخرِ الآيتَين.
وعن الحسنِ أنه قالَ :(السَّابقُ الَّذِي تَرَكَ الدُّنْيَا، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي أخَذ الْحَلاَلَ، وَالظَّالِمُ الَّذِي لاَ يُبَالِي مِنْ أيْنَ أخَذ). ويقالُ : الظالِمُ صاحبُ الكبائرِ، والمقتصدُ صاحبُ الصَّغائرِ، والسَّابقُ الذي اتقى سيئاته.
فإنْ قيلَ ما الحكمةُ في تقديمِ الظالِم وتأخيرِ السابق ؟ قِيْلَ : الواوُ لا توجِبُ الترتيبَ كما قالَ تعالى﴿ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾[التغابن : ٢]. وَقِيْلَ : قدَّمَ الظالِمَ لئَلاَّ ييأسَ من رحمتهِ، وأخَّرَ السابقَ لئَلا يُعجَبَ بنفسهِ. وَقِيْلَ : قدَّمَ الظالِمَ فإذا لَم يكن له شيءٌ يتَّكِلُ عليه إلاَّ رحمةُ الله تعالى، وثَنَّى بالمقتصدِ لِحُسنِ ظنِّهِ بربه. وَقِيْلَ : لأنه بين الخوفِ والرَّجاءِ، وأخَّرَ السابقَ لأنه اتَّكَلَ على حسَناتهِ. وَقِيْلَ : لئلا يأمَنَ أحدٌ مَكْرَهُ، وكلُّهم في الجنَّة بُحرَمِة كلمةِ الإخلاصِ.
وعن عُقبة بن صَهبان قال :(سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ﴾ فَقَالَتْ : يَا بُنَيَّ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَأمَّا السَّابقُ فَمَنْ مَضَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ شَهِدَ لَهُ النَّبيُّ ﷺ بالْجَنَّةِ، وَأمَّا الْمُقْتَصِدُ فَمَنْ تَبعَ أثَرَهُ مِنْ أصْحَابهِ حَتَّى لَحِقَ بهِ، وَأمَّا الظَّالِمُ فَمِثْلِي وَمِثْلَكَ). وقال سهلُ بن عبدِالله :(السَّابقُ الْعَالِمُ، وَالْمُقْتَصِدُ الْمُتَعَلِّمُ، وَالظَّالِمُ الْجَاهِلُ).
وَقِيْلَ : السابقُ الذي اشتغلَ بمَعادهِ، والمقتصدُ بمعَادهِ ومعاشهِ، والظالِمُ الذي اشتغلَ بمعاشهِ عن معادهِ. وَقِيْلَ : الظالِمُ طالِبُ الدُّنيا، والمقتصدُ طالبُُ العُقبَى، والسابقُ طالب المولَى. وَقِيْلَ : الظالِمُ الْمُرائِي في جميعِ أفعالهِ، والمقتصدُ المرائِي في بعضِ أفعالهِ دون بعضٍ، والسابقُ المخلِصُ في أفعالهِ كلِّها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾ ؛ يعني الأصنافَ الثلاثةَ : الظالِمُ ؛ والمقتصدُ ؛ والسابقُ. ومعنى الآيةِ :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ أي بساتينُ إقامةٍ لا تزولُ، ﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ ﴾ ؛ أي يُلبَسُونَ أقُلْبُةً من ذهبٍ وسِوَارُ القُلْبِ. وقولهُ تعالى :﴿ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ ؛ مَن قرأ بالكسرِ فالمعنى مِن ذهبٍ ومن لؤلؤٍ، ومَن قرأ بالنصب فمعناهُ : ويحلَّونَ لُؤلُؤاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ﴾ ؛ أي يقولون بعدَ دُخولِهم الجنَّةَ :﴿ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ﴾ أي حَزَنَ الموتِ وأهوالَ يومِ القيامة، وَقِيْلَ : حَزَنَ المعاشِ وهمومَ الدُّنيا، فإنَّ الدنيا سجنُ المؤمنِ. وقال عكرمةُ :(حَزَنَ الذُّنُوب وَالسَّيِّئَاتِ)،
وعن ابنِ عُمر رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" لَيْسَ عَلَى أهْلِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْشَةٌ فِي قُبُورهِمْ، وَلاَ فِي مَحْشَرِهِمْ، كَأَنِّي بأَهْلِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورهِمْ وَهُمْ يَنْفُضُونَ التُّرَابَ عَنْ رُؤُوسِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ : الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ ؛ أي متجاوزٌ عن الذنوب، يقبَلُ اليسيرَ من العملِ، ويعطِي الجزيلَ من الثواب. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ ﴾ ؛ أي دارَ المقامِ وهي الجنةُ، ﴿ مِن فَضْلِهِ ﴾، بتفَضُّلهِ لا بالأعمالِ. وسُمي دارَ المقامةِ لأن مَن دخلَها يخلدُ لا يموت، ويقيمُ فيها لا يحوَّلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ ﴾ ؛ أي لا يَمسُّنا فيها تعبٌ ؛ ﴿ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ ؛ أي مشَقَّةٌ وتعبٌ وإعياء وقبورٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ ﴾ ؛ أي الذين كفَروا بمُحَمَّدٍ ﷺ والقُرآنِ لَهم في الآخرةِ نارُ جهنم، ﴿ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ ﴾ ؛ فلا يُقضى عليهم بمَوتٍ فيستريحونَ من العذاب، ﴿ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا ﴾ ؛ من عذاب النار طُرفةَ عَينٍ. قرأ الحسنُ :(فَيَمُوتُونَ) بالنُّون ولا يكون حينئذٍ جَواباً للنفيِّ، والمعنى : لا يُقضَى عليهم ولا يَموتُونَ كقولهِ﴿ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾[المرسلات : ٣٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴾ ؛ أي هكذا يُجزَى في الآخرةِ كلُّ كفورٍ بنِعَمِ الله تعالى. قرأ العامَّة (نَجْزِي) بالنون ونصب اللام، وقرأ أبو عمرٍو وحده بضم الياءِ وفتح الزاي على ما لَم يسمَّ فاعلهُ ورفعَ اللامَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا ﴾ ؛ أي يستَغِيثُونَ في النار وهو افتعالٌ من الصُّراخِ يقولون :﴿ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا ﴾ ؛ من النار، ﴿ نَعْمَلْ صَالِحاً ﴾ ؛ أي بقَولُ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وقولهُ تعالى :﴿ غَيْرَ الَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ ﴾ ؛ أي غيرَ الشِّركِ. فوبَّخَهم اللهُ تعالى فقالَ :﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ﴾، معناهُ : أوَلَمْ نُعمِّركُم مقدارَ ما يتَّعِظُ فيه مَن كان يريدُ أن يتَّعظَّ ويؤمِنَ. قال عطاءُ :(يُرِيدُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَنَةً)، وقال الحسنُ :(أرْبَعِينَ سَنَةً)، وقال ابنُ عبَّاس :(سِتِّينَ سَنَةً).
قَالَ :(هُوَ الْعُمْرُ الَّذِي أعْذرَ اللهُ إلَى ابْنِ آدَمَ، قَالَ النَّبيُّ ﷺ :" مَنْ عَمَّرَهُ اللهُ تَعَالَى سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أعْذرَ اللهُ إلَيْهِ فِي الْعُمُرِ " ). وعن أبي هُريرةَ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" أعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِين، وَأقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذلِكَ " قَالَ النَّبيُّ ﷺ :" مَنْزِلُ مَنَايَا أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ ﴾ ؛ قال جمهورُ المفسِّرين : يريدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم. ورُوي عن عكرمةَ وسُفيان بن عُيينة :(الْمُرَادُ مِنَ النَّذِيرِ الشَّيْبُ) وَمَعْنَاهُ : أوَلَمْ نُعَمِّركُم حتى شِبتُم؟. وعن رسولِ الله ﷺ أنه قَالَ :" مَنْ أنَافَ سِنُّهُ عَلَى أرْبَعِينَ سَنَةً وَلَمْ تَغْلِبْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَلْيَتَجَهَّزْ إلَى النَّار ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾ ؛ أي فذُوقوا العذابَ فما للمُشرِكين من مانعٍ يَمنعُهم من العذاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ ؛ أي عالِمُ سِرِّ أهلِ السمواتِ والأرض، إنه عليمٌ بما في القُلوب من الخيرِ والشرِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ أي جعلَكم خُلفاءَ عن مَن كان قبلَكم أُمَّةً بعد أُمةٍ، وقَرناً بعد قرنٍ، ﴿ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً ﴾ ؛ أي إلاَّ نَقصاً، ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ ﴾ ؛ أي خَبرُونِي عن شُركائِكم الذين أشرَكتُموهم مع اللهِ في العبادةِ ؛ بأَيِّ شيءٍ أوجَبْتُهم لَهم شركاءَ مع اللهِ تعالى ؟ بخلقِ خلَقوهُ من الأرضِ ؛ أم لَهم نصيبٌ في خلقِ السَّمواتِ ؛ أم أعطينَاهم كِتَاباً فيه ما يدَّعُونَهُ فهُم على بيِّنةٍ منه. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً ﴾ ؛ ولكن ما يَعِدُ الظالمون بعضَهم بعضاً إلاّ خِدَاعاً وأباطيلَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ ﴾ ؛ أي مَنَعهما من الزَّوالِ والذهاب، ﴿ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ﴾ ؛ أي ولَو زالَتا عن أماكنِها لَمْ يُمسِكْهُما أحدٌ غيرُ اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾ ؛ أي حَليماً عن مقالةِ الكفَّار، غَفُوراً لِمَن تابَ منهم، والحكيمُ هو القادرُ الذي لا يعجِّلُ بالعقوبةِ، والغفورُ كثيرُ الغُفرانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ ؛ أي حَلَفَ كفارُ مكَّة باللهِ غايةَ أيْمانِهم قبلَ أنْ يأتيهم مُحَمَّداً ﷺ، ﴿ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ ﴾ ؛ أي رسولٌ، ﴿ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ ﴾ ؛ أي ليكونُنَّ أسرعَ إجابةً وأصوبَ دِيناً من إحدَى الأُمم، اليهودُ والنصارَى والصَّابئين وغيرهم، ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ ﴾ ؛ يعني مُحَمَّداً ﷺ، ﴿ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ﴾ ؛ عن الحقِّ وتباعداً عن الهدى، وقولهُ تعالى :﴿ اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ منصوبٌ على أنه مفعولٌ له (أيْ مَا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُوراً). الاستكبارُ في الأرضِ عُتُوّاً على اللهِ وتكَبُّراً عن الإيمانِ، وَقِيْلَ : على البدلِ مِن قوله (نُفُوراً). وَقِيْلَ : على المصدر.
وقولهُ تعالى :﴿ وَمَكْرَ السَّيِّىءِ ﴾ ؛ أي القصدَ أي الإضرارَ بالنبيِّ ﷺ وأصحابهِ من حيث لا يشعُرون. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ ؛ أي لا يحيقُ ضرَرُ المكرِ السيِّ إلاَّ بفاعلهِ، فقُتِلُوا يومَ بدرٍ، والمكرُ السيِّء هو العملُ القبيح، وقولهُ تعالى ﴿ وَلاَ يَحِيقُ ﴾ أي ولا يحِلُّ ولا ينْزِلُ إلاَّ بأهلهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ ﴾ ؛ أي ما ينظرُ أهل مكَّة إلا أن ينْزِلَ بهم العذابُ مثلَ ما نزلَ بمَن قبلَهم من الأُمَم السَّالفة المكذِّبة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ ؛ أي لا يقدرُ أحدٌ أن يُحوِّلَ العذابَ عنهم إلى غيرِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ معناهُ : أوَلَمْ يُسافِروا في الأرضِ فينظُروا كيفَ صارَ آخرُ أمرِ الَّذين من قبلِهم عند تكذيبهم الرسُلَ كيف فعلَ اللهُ بهم ؟ ﴿ وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ ﴾ ؛ من أهلِ مكَّة، ﴿ قُوَّةً ﴾ ؛ ومكَّن لَهم ما لم يُُمكِّن لهؤلاء. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ أي لن يُعجزَهُ أحدٌ من الخلقِ في السَّموات ولا في الأرض، ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ﴾ ؛ أي عَليماً بخلقهِ، قادراً عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ﴾ ؛ أي لو يُؤاخِذُهم بما كسَبوا من المعاصِي ما تركَ على ظهرِ الأرض من دابَّة، ﴿ وَلَـاكِن يُؤَخِّرُهُمْ ﴾ ؛ بفضلهِ، ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ ؛ إلى وقتٍ معلوم، ﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ ﴾ ؛ فإذا جاءَ ذلك الوقتُ، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ﴾ ؛ يفعلُ به ما يستحقُّونَهُ من ثوابٍ وعقابٍ.
Icon