تفسير سورة يس

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة يس من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة يس
وهي مكية، وروى مقاتل بن حيان، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن لكل شيء قلبا، وإن قلب القرآن سورة يس، ومن قرأ سورة يس أعطاه الله ثواب قراءة القرآن عشر مرات »( ١ ).
والخبر غريب أورده أبو عيسى في جامعه، والله أعلم.
١ - رواه الترمذي (٥/١٤٩-١٥٠ رقم ٢٨٨٧)، والدارمي (٢/٥٤٨ رقم ٣٤١٦)، والخطيب في تاريخه (٤/١٦٧)، والبيهقي في الشعب (٥/٣٩٧-٣٩٨ رقم ٢٢٣٣)، والقضاعي في مسند الشهاب (٢/١٣٠ رقم ١٠٣٥) من طريق مقاتل، عن قتادة، عن أنس مرفوعا به.
وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد، وهارون شيخ مجهول.
تنبيه: وقع في النسخة المطبوعة: حسن غريب، وهو خطأ، والمثبت من تحفة الأشراف (١/٣٤٧)، وانظر السلسلة الضعيفة (١٦٩). ثم قال الترمذي: وفي الباب عن أبي بكر ولا يصح من قبل إسناده، إسناده ضعيف. وقال أبو حاتم (٢/٥٥-٥٦ رقم ١٦٥٢ العلل): هذا الحديث في أول كتاب وضعه مقاتل من سليمان، وهو حديث باطل لا أصل له..

قَوْله تَعَالَى: ﴿يس﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: قسم أقسم الله بِهِ، وَقَالَ قَتَادَة: اسْم للسورة، وَقَالَ مُجَاهِد: يس من فواتح الْقُرْآن، وَقَالَ (الْحسن) وَسَعِيد بن جُبَير وَالضَّحَّاك وَجَمَاعَة معنى قَوْله: ﴿يس﴾ يَا إِنْسَان، وَهَذَا هُوَ أشهر الْأَقَاوِيل، قَالَ ثَعْلَب: هُوَ يَا إِنْسَان بلغَة طي، وَقَالَ غَيره: بلغَة كلب، وَقَرَأَ عِيسَى بن عمر: " يسن " بِالنّصب، وَيُقَال مَعْنَاهُ: يَا مُحَمَّد.
وَقَوله: ﴿وَالْقُرْآن الْحَكِيم﴾ يَعْنِي: وَالْقُرْآن الَّذِي أحكم بِالْأَمر وَالنَّهْي وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب،
وَقَوله، ﴿إِنَّك لمن الْمُرْسلين﴾ على هَذَا وَقع الْقسم؛ فَكَأَن الله تَعَالَى أقسم بِالْقُرْآنِ أَن مُحَمَّدًا من الْمُرْسلين.
وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: سمى الله رَسُوله مُحَمَّدًا فِي
365
( ﴿٤) تَنْزِيل الْعَزِيز الرَّحِيم (٥) لتنذر قوما مَا أنذر آباؤهم فهم غافلون (٦) لقد حق القَوْل على أَكْثَرهم فهم لَا يُؤمنُونَ (٧) إِنَّا جعلنَا فِي أَعْنَاقهم أغلالا فَهِيَ إِلَى﴾ الْقُرْآن بسبعة أَسمَاء: مُحَمَّد، وَأحمد، وطه، وَيس، والمدثر، والمزمل، وَعبد الله.
367
وَقَوله: ﴿على صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنه خبر بعد خبر، وَالْآخر أَن مَعْنَاهُ: إِنَّك لمن الْمُرْسلين الَّذين هم على صِرَاط مُسْتَقِيم.
وَقَوله: ﴿تَنْزِيل الْعَزِيز الرَّحِيم﴾ أَي: هُوَ تَنْزِيل الْعَزِيز الرَّحِيم، وَقُرِئَ: " تَنْزِيل " بِنصب اللَّام أَي: أنزلهُ الله تَنْزِيل الْعَزِيز الرَّحِيم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لتنذر قوما مَا أنذر آباؤهم﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن " مَا " للنَّفْي، وَالْمعْنَى. لم ينذر آباؤهم أصلا؛ فَإِن الله تَعَالَى مَا بعث إِلَى قُرَيْش سوى النَّبِي.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن " مَا " هَا هُنَا بِمَعْنى الَّذِي، فَمَعْنَى الْآيَة على هَذَا لتنذر قوما بِالَّذِي أنذر آباؤهم.
وَقَوله: ﴿فهم غافلون﴾ أَي: عَن الْإِنْذَار، وَحكى النقاش فِي تَفْسِيره عَن النَّبِي " أَن مُضر كَانَ قد أسلم ".
وَحكى أَبُو عُبَيْدَة أَن تميما كَانَ يكنى أَبَا زيد، وَكَانَ لَهُ صنم يعبده، فَأسلم وَدفن صنمه، ثمَّ إِن ابْنه زيدا استخرج الصَّنَم من ذَلِك الْمَكَان، وَعَبده فَسمى زيد مَنَاة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لقد حق القَوْل﴾ أَي: وَجب القَوْل على أَكْثَرهم، وَمعنى وجوب القَوْل هُوَ وجوب الحكم بِالْعَذَابِ، وَقَوله: ﴿ [على أَكْثَرهم] فهم لَا يُؤمنُونَ﴾ أَي: لَا يصدقون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّا جعلنَا فِي أَعْنَاقهم أغلالا﴾ فَإِن قيل: الغل إِنَّمَا يكون على الْيَد! وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْعَادة أَن الْيَد تغل إِلَى الْعُنُق، فَذكر الْأَعْنَاق لهَذَا الْمَعْنى، وَاكْتفى
367
﴿الأذقان فهم مقحمون (٨) وَجَعَلنَا من بَين أَيْديهم سدا وَمن خَلفهم سدا فأغشيناهم﴾ بذكرها عَن ذكر الْأَيْدِي، قَالَ الْأَزْهَرِي: معنى الْآيَة: إِنَّا جعلنَا فِي أَعْنَاقهم وأيديهم أغلالا، فَهِيَ كِنَايَة عَن الْأَيْدِي.
فَإِن قيل: فَكيف يكنى عَن الْأَيْدِي وَلم يجر لَهَا ذكر؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْعَرَب تكني عَن الشَّيْء وَإِن لم تجر لَهُ ذكرا، إِذا كَانَ مَعْلُوما.
قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَا أَدْرِي إِذا يممت أَرضًا أُرِيد الْخَيْر أَيهمَا يليني)
(أألخير الَّذِي أَنا أبتغيه أم الشَّرّ الَّذِي هُوَ يبتغيني)
فقد كنى بقوله: أَيهمَا عَن الشَّرّ وَالْخَيْر، وَالشَّر غير مَذْكُور.
وَقَوله: ﴿إِلَى الأذقان﴾ مَعْنَاهُ: إِلَى الْأَعْنَاق إِلَّا أَنه ذكر الأذقان لقرب الْأَعْنَاق من الأذقان، وَقَوله: ﴿فهم مقحمون﴾ المقمح: هُوَ الَّذِي رفع رَأسه وغض طرفه، وَالْعرب تسمى الكانونين شَهْري القماح؛ لِأَن الْإِبِل ترد المَاء وتشرب، فَترفع رَأسهَا من شدَّة الْبرد، قَالَ الشَّاعِر:
(وَنحن على جوانبه قعُود نغض الطّرف كَالْإِبِلِ القماح)
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " إِنَّا جعلنَا فِي أَيْمَانهم أغلالا "، وَهِي قِرَاءَة مَعْرُوفَة عَنهُ.
368
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَجَعَلنَا من بَين أَيْديهم سدا﴾ وَقُرِئَ: " سدا " بِرَفْع السِّين.
قَالَ عِكْرِمَة: مَا كَانَ من صنع الله فَهُوَ سد، وَمَا كَانَ من صنع المخلوقين فَهُوَ سد، وَقَالَ غَيره: السد مَا يرى، والسد مَا لَا يرى، وَمِنْهُم من لم يفرق بَينهمَا، وَقَالَ هما بِمَعْنى وَاحِد.
قَالَ أهل التَّفْسِير: ذكر السد هَا هُنَا على طَرِيق ضرب الْمثل، وَكَذَلِكَ ذكر الأغلال فِي الْآيَة الأولى على قَول بَعضهم، وَالْمعْنَى من ذكر الأغلال مَنعهم عَن الْإِنْفَاق فِي
368
﴿فهم لَا يبصرون (٩) وَسَوَاء عَلَيْهِم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ (١٠) إِنَّمَا تنذر من اتبع الذّكر وخشي الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فبشره بمغفرة وَأجر كريم (١١) إِنَّا نَحن﴾ سَبِيل الله. وَالْمعْنَى من السد هُوَ الْمَنْع من الْهِدَايَة. وَذكر بَعضهم: أَن الْآيَة نزلت على سَبَب، وَهُوَ أَن قوما من بني مَخْزُوم تشاوروا فِي قتل النَّبِي، فجَاء أحدهم ليَقْتُلهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاة؛ فَجعل يسمع صَوته وَلَا يرى شخصه، وَجَاء آخر فَرَأى شَيْئا عَظِيما يَقْصِدهُ بِالْهَلَاكِ، فخاف وَرجع، وَيُقَال: إِن الثَّانِي كَانَ أَبُو جهل عَلَيْهِ لعنة الله، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة فِي هَذَا، وَهُوَ قَوْله " ﴿وَجَعَلنَا من بَين أَيْديهم سدا﴾.
وَقَوله: ﴿فأغشيناهم﴾ من التغشية والتغطية، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَعمر بن عبد الْعَزِيز " فأغشيناهم " بِالْعينِ غير الْمُعْجَمَة، من قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن نقيض لَهُ شَيْطَانا [فَهُوَ لَهُ قرين] ﴾ أَي: تعمى، فَمَعْنَى قَوْله: [ ﴿أغشيناهم﴾ ] أَي: أعميناهم.
وَقَوله: ﴿فهم لَا يبصرون﴾ أى: طَرِيق الْحق.
369
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَسَوَاء عَلَيْهِم أانذرتهم أم لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ﴾ هَذَا فِي أَقوام بأعيانهم، وَقد مضوا وَلم يُؤمنُوا على مَا قَالَ الله تَعَالَى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا تنذر من اتبع الذّكر﴾ أَي: اسْتمع الذّكر، وَهُوَ الْقُرْآن، وَاتبع مَا فِيهِ، وَقَوله: ﴿وخشي الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ﴾ أَي: خَافَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فبشره بمغفرة وَأجر كريم﴾ أَي: الْجنَّة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّا نَحن نحيي الْمَوْتَى﴾ أَي: فِي الْآخِرَة، وَيُقَال: يحيي الْقُلُوب الْميتَة بِنور الْإِيمَان، وَقَوله: ﴿ونكتب مَا قدمُوا﴾ أَي: مَا عجلوا.
وَقَوله: ﴿وآثارهم﴾ أَي: ونكتب آثَارهم، وَفِي آثَارهم قَولَانِ:
369
﴿نحيي الْمَوْتَى ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم وكل شَيْء أحصيناه فِي إِمَام مُبين (١٢) وَاضْرِبْ لَهُم مثلا أَصْحَاب الْقرْيَة إِذْ جاءها المُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أرسلنَا إِلَيْهِم اثْنَيْنِ﴾ أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهَا مَا سنوا من سنة حَسَنَة أَو سَيِّئَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿وآثارهم﴾ أَي: الخطا إِلَى الْمَسَاجِد، وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: " أَن بني سَلمَة كَانَت مَنَازِلهمْ فِي نَاحيَة من الْمَسْجِد أَي: بعيدَة؛ فأرادوا أَن يَنْتَقِلُوا إِلَى قرب الْمَسْجِد، وَقَالَ لَهُم النَّبِي: مَنَازِلكُمْ، مَنَازِلكُمْ، تكْتب آثَاركُم، فتركوا الِانْتِقَال ".
وَقد ورد فِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، لَا ينقص من أُجُورهم شَيْء، وَمن سنّ سنة سَيِّئَة فَلهُ وزرها ووزر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، لَا ينقص من أوزارهم شَيْء ".
وَقَوله: ﴿وكل شَيْء أحصيناه فِي إِمَام مُبين﴾ أَي: جمعناه فِي كتاب مُبين، وَالْإِمَام الْمُبين هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
370
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مثلا﴾ ضرب الْمثل هُوَ تَمْثِيل الْمثل، وَمعنى الْآيَة: وَاذْكُر لَهُم مثل حَالهم من قصَّة أَصْحَاب الْقرْيَة.
وَأما الْقرْيَة: فَأكْثر أهل التَّفْسِير أَن الْقرْيَة هِيَ أنطاكية، وَقَالَ بَعضهم: هِيَ بلد من بِلَاد الرّوم، وَقَوله: ﴿إِذْ جاءها المُرْسَلُونَ﴾ فِي الْقِصَّة: أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام بعث إِلَيْهِم برجلَيْن من الحواريين، ثمَّ بعث بثالث بعدهمَا، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى:
370
(فكذبوهما فعززنا بثالث فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مرسلون (١٤) قَالُوا مَا أَنْتُم إِلَّا بشر مثلنَا وَمَا أنزل الرَّحْمَن من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا تكذبون (١٥) قَالُوا رَبنَا يعلم إِنَّا إِلَيْكُم لمرسلون (١٦) وَمَا علينا إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين (١٧) قَالُوا إِنَّا تطيرنا بكم لَئِن لم تنتهوا لنرجمنكم)
371
﴿إِذا أرسلنَا إِلَيْهِم اثْنَيْنِ فكذبوهما فعززنا بثالث﴾ وَالثَّالِث كَانَ اسْمه شَمْعُون رَأس الحواريين، وَقَوله: ﴿عززنا﴾ أَي: شددنا وقوينا، وَقَرَأَ عَاصِم وَحده: " فعززنا " بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ فِي معنى الأول.
وَفِي التَّفْسِير: أَن الْقَوْم كذبُوا الرسولين الْأَوَّلين وهموا بِقَتْلِهِمَا، فجَاء هَذَا الثَّالِث وتلطف الدُّخُول على الْملك، وَكَانَت قد توفيت ابْنَته ودفنت، فَقَالَ للْملك: اطلب من [هذَيْن] الرجلَيْن أَن يحييا ابْنَتك، فَإِن أحيياها فهما [صادقان] فَطلب مِنْهُمَا الْملك ذَلِك؛ فقاما وصليا [ودعيا] الله تَعَالَى، ودعا شَمْعُون مَعَهُمَا فِي السِّرّ، فأحيا الله تَعَالَى الْمَرْأَة، وَانْشَقَّ الْقرب عَنْهَا وَخرجت، وَقَالَت للْقَوْم: أَسْلمُوا، فَإِنَّهُمَا صادقان، وَلَا أظنكم تسلمون، ثمَّ طلبت من الرسولين أَن يرادها إِلَى مَكَانهَا، فذريا تُرَابا على رَأسهَا، وعادت إِلَى قبرها كَمَا كَانَت، وَلم يُؤمن الْقَوْم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا مَا أَنْتُم إِلَّا بشر مثلنَا وَمَا أنزل الرَّحْمَن من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا تكذبون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا رَبنَا يعلم إِنَّا إِلَيْكُم لمرسلون﴾ فَإِن قيل: كَيفَ يكون علم الله تَعَالَى أَنهم رسل الله حجَّة عَلَيْهِم؟
الْجَواب عَنهُ: أَن مَعْنَاهُ: رَبنَا يعلم إِنَّا إِلَيْكُم لمرسلون بِمَا أظهر على أَيْدِينَا من الْآيَات والمعجزات؛ فَصَارَت الْحجَّة قَائِمَة بِالْآيَاتِ والمعجزات، لَا بِنَفس الْعلم.
وَقَوله: ﴿وَمَا علينا إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين﴾ أَي: الإبلاغ الْبَين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا إِنَّا تطيرنا بكم﴾ أَي: تشاءمنا بكم، وَفِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ
371
﴿وليمسنكم منا عَذَاب أَلِيم (١٨) قَالُوا طائركم مَعكُمْ أئن ذكرْتُمْ بل أَنْتُم قوم مسرفون (١٩) وَجَاء من أقصا الْمَدِينَة رجل يسْعَى قَالَ يَا قوم اتبعُوا الْمُرْسلين (٢٠) اتبعُوا من﴾ حبس عَنْهُم الْمَطَر حِين جَاءَهُم هَؤُلَاءِ الرُّسُل.
وَاخْتلف القَوْل فِي أَنهم كَانُوا رسل الله أَو رسل عِيسَى، فأحد الْقَوْلَيْنِ: انهم كَانُوا رسل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا بَينا، وَالْقَوْل الآخر: أَنهم كَانُوا رسل الله.
قَوْله: ﴿لَئِن لم تنتهوا لنرجمنكم﴾ أَي: [لنقتلنكم] بِالْحِجَارَةِ، وَقيل: نشتمنكم، وَالْأول أولى.
وَقَوله: ﴿وليمسنكم منا عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: مؤلم، والمؤلم هُوَ الموجع.
372
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا طائركم مَعكُمْ﴾ أَي: شؤمكم مَعكُمْ بكفركم وتكذيبكم الرُّسُل. وَقيل: طائركم مَعكُمْ أَي: أقداركم وَأَعْمَالكُمْ تَابِعَة إيَّاكُمْ، تَقول الْعَرَب: طَار بِمَعْنى صَار قَالَ الشَّاعِر:
(تطير غدائر الْإِشْرَاك شفعا ووترا والزعامة للغلام)
وَقيل: طائركم مَعكُمْ أَي: مَا طَار لكم من عمل خير أَو شَرّ فَهُوَ مَعكُمْ ولازم إيَّاكُمْ. وَقَوله: ﴿أئن ذكرْتُمْ﴾ مَعْنَاهُ: أئن ذكرْتُمْ بِاللَّه تطيرتم، وَقُرِئَ " أَن ذكرْتُمْ " أَي: لِأَن ذكرْتُمْ تطيرتم. وَقَوله: ﴿بل أَنْتُم قوم مسرفون﴾ أَي: مجاوزون الْحَد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَجَاء من أقْصَى الْمَدِينَة رجل يسْعَى﴾ ذهب أَكثر الْمُفَسّرين أَنه كَانَ رجل يُسمى حبيب النجار، وَقَالَ السّديّ: كَانَ قصارا. وَعَن بَعضهم: أَنه كَانَ إسكافا قَالَ قَتَادَة: كَانَ رجلا يعبد الله فِي غَار؛ فَسمع بِخَبَر الرُّسُل فَجَاءَهُمْ، وَقَالَ: أتطلبون جعلا على رسالتكم؛ قَالُوا: لَا؛ فَأقبل على قومه، وَقَالَ لَهُم مَا قَالَ الله، وَهُوَ قَوْله: ﴿يَا قوم اتبعُوا الْمُرْسلين﴾ وَالْمَدينَة: هِيَ الْقرْيَة الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَهِي الأنطاكية.
وَقَوله: ﴿اتبعُوا من لَا يسألكم أجرا وهم مهتدون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَعَن بَعضهم أَنه قَالَ: مسكن الْأَشْرَاف الْأَطْرَاف، وَاسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة، وَهُوَ قَوْله:
372
﴿لَا يسألكم أجرا وهم مهتدون (٢١) وَمَا لي لَا أعبد الَّذِي فطرني وَإِلَيْهِ ترجعون (٢٢) أأتخذ من دونه آلِهَة إِن يردن الرَّحْمَن بضر لَا تغن عني شفاعتهم شَيْئا وَلَا ينقذون (٢٣) إِنِّي إِذا لفي ضلال مُبين (٢٤) إِنِّي آمَنت بربكم فاسمعون (٢٥) قيل ادخل الْجنَّة قَالَ يَا لَيْت قومِي يعلمُونَ (٢٦) بِمَا غفر لي رَبِّي وَجَعَلَنِي من الْمُكرمين (٢٧) ﴾ ﴿وَجَاء من أقْصَى الْمَدِينَة رجل يسْعَى﴾ أَي: من أبعد مَوضِع بِالْمَدِينَةِ.
373
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا لي لَا أعبد الَّذِي فطرني﴾ مَعْنَاهُ: وَلم لَا أعبد الَّذِي فطرني ﴿وَإِلَيْهِ ترجعون﴾.
فَإِن قيل: كَيفَ أضَاف الْفطْرَة إِلَى نَفسه وَالرُّجُوع إِلَيْهِم؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه أضَاف الْفطْرَة إِلَى نَفسه؛ لِأَن النِّعْمَة كَانَت عَلَيْهِ أظهر، وأضاف الرُّجُوع إِلَيْهِم؛ لِأَن الزّجر كَانَ بهم أَحَق، وَفِي ذكر الرُّجُوع معنى الزّجر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أأتخذ من دونه آلِهَة﴾ اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِنْكَار أَي: لَا أَتَّخِذ، وَقَوله: ﴿إِن يردن الرَّحْمَن بضر﴾ أَي: بِسوء ومكروه، وَقَوله: ﴿لَا تغن عني شفاعتهم شَيْئا﴾ أَي: لَا تغني عني الْأَصْنَام شَيْئا؛ لِأَنَّهُ لَا شَفَاعَة لَهُنَّ، وَقد كَانُوا يَزْعمُونَ الْكفَّار أَنَّهَا تشفع لَهُم يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿وَلَا ينقذون﴾ أَي: لَا ينقذونني من الْعَذَاب لَو عذبني الله.
قَوْله: ﴿إِنِّي إِذا لفي ضلال مُبين﴾ أَي: فِي خطأ ظَاهر لَو فعلت هَذَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنِّي آمَنت بربكم فاسمعون﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مجازه فَاسْمَعُوا مني،
قَوْله: ﴿قيل ادخل الْجنَّة﴾ فِي التَّفْسِير: أَنه لما قَالَ هَذَا القَوْل وثب الْقَوْم عَلَيْهِ وثبة وَاحِدَة فوطئوه بأرجلهم حَتَّى قَتَلُوهُ، وَحكى هَذَا عَن ابْن مَسْعُود، وَيُقَال: وطئوه حَتَّى خرج قصبه من دبره؛ فَأدْخلهُ الله الْجنَّة، فَهُوَ ثمَّ حَيّ يرْزق، وَهُوَ معنى قَوْله: ﴿قيل ادخل الْجنَّة﴾.
وَقَوله: ﴿يَا لَيْت قومِي يعلمُونَ بِمَا غفر لي رَبِّي﴾ أَي: بمغفرة رَبِّي لي، قَالَ قَتَادَة:
373
﴿وَمَا أنزلنَا على قومه من بعده من جند من السَّمَاء وَمَا كُنَّا منزلين (٢٨) إِن كَانَت إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة فَإِذا هم خامدون (٢٩) يَا حسرة على الْعباد مَا يَأْتِيهم من رَسُول إِلَّا﴾ نصحهمْ حَيا وَمَيتًا، وَقَوله: ﴿وَجَعَلَنِي من الْمُكرمين﴾ أَي: مِمَّن دخل الْجنَّة، وَمن أَدخل الْجنَّة فقد أكْرم، وَمن أَدخل النَّار فقد أهين.
374
بما غفر لي ربي ) أي : بمغفرة ربي لي، قال قتادة : نصحهم حيا وميتا، وقوله :( وجعلني من المكرمين ) أي : ممن دخل الجنة، ومن أدخل الجنة فقد أكرم، ومن أدخل النار فقد أهين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أنزلنَا على قومه من بعده من جند من السَّمَاء﴾ أَي: من مَلَائِكَة، وَقَوله: ﴿وَمَا كُنَّا منزلين﴾ أَي: وَمَا كُنَّا لنفعل هَذَا، بل الْأَمر فِي هلاكهم كَانَ أيسر مِمَّا تظنون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن كَانَت إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة﴾ أَي: مَا كَانَت إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة. وَفِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام جَاءَ ووقف على بَاب الْمَدِينَة وَصَاح بهم صَيْحَة فَخَروا ميتين كَأَن لم يَكُونُوا، وصاروا كرماد خامدين هامدين.
وَفِي الْأَخْبَار: أَن عُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ لما أسلم اسْتَأْذن من رَسُول الله أَن يذهب لى قومه وهم ثَقِيف ويدعوهم إِلَى الْإِسْلَام، فَقَالَ رَسُول الله: " إِنِّي أخْشَى أَن يَقْتُلُوك، فَقَالَ: لَو كنت نَائِما مَا أيقظوني، ثمَّ إِنَّه ذهب إِلَيْهِم ودعاهم إِلَى الْإِسْلَام، فَرَمَاهُ رجل بِسَهْم فَأصَاب أكحله وَمَات، فَبلغ النَّبِي فَقَالَ: هُوَ فِي هَذِه الْأمة مثل صَاحب يس، وَهُوَ حبيب النجار ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا حسرة على الْعباد﴾ فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم نِدَاء الْحَسْرَة، وَالْحَسْرَة لَا تعقل شَيْئا؟ وَأَيْضًا كَيفَ يتحسر الله تَعَالَى على الْعباد الَّذين أهلكهم،
374
﴿كَانُوا بِهِ يستهزءون (٣٠) ألم يرَوا كم أهلكنا قبلهم من الْقُرُون أَنهم إِلَيْهِم لَا يرجعُونَ (٣١) وَإِن كل لما جَمِيع لدينا محضرون (٣٢) وَآيَة لَهُم الأَرْض الْميتَة أحييناها﴾ وَلَا يجوز عَلَيْهِ هَذِه الصّفة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى قَول الْقَائِل يَا حسرة مثل قَوْله: يَا عجبا، وَكَذَلِكَ قَوْله: يَا حسرتاه، مثل قَوْله: يَا عجباه، وَالْعرب تَقول هَذَا على طَرِيق الْمُبَالغَة، والنداء عِنْدهم بِمَعْنى التَّنْبِيه، فيستقيم فِيمَن يعقل وفيمن لَا يعقل، وَقَوله: يَا عجباه أبلغ من قَوْلهم: أَنا أتعجب من كَذَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَيهَا الْعجب هَذَا وقتك، وأيها الْحَسْرَة هَذَا زَمَانك، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن هَذَا الزَّمَان زمَان الْحَسْرَة والتعجب.
وَأما قَوْله: إِن الْحَسْرَة على الله لَا تجوز، قُلْنَا: نعم، وَمعنى الْآيَة: يَا حسرة على الْعباد من أنفسهم؛ وَكَأَنَّهُم يتحسرون على أنفسهم غَايَة الْحَسْرَة، وَالْحَسْرَة هِيَ التلهف على أَمر فَائت بأبلغ وجوهه حَتَّى يبْقى الرجل حسيرا مُنْقَطِعًا من شدته، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يَا حسرة الْعباد " وَجَوَاب آخر: أَنه تَعَالَى قَالَ: ﴿يَا حسرة على الْعباد﴾ لأَنهم صَارُوا بِمَنْزِلَة يتحسر عَلَيْهِم، وَيُقَال مَعْنَاهُ: يَا حسرة الرُّسُل وَالْمَلَائِكَة على الْعباد، وَالْجَوَاب الأول أحسن الْأَجْوِبَة.
وَقَوله: ﴿مَا يَأْتِيهم من رَسُول إِلَّا كَانُوا بِهِ يستهزءون﴾ أَي: استهزاء التَّكْذِيب.
375
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم يرَوا كم أهلكنا﴾ قَرَأَ ابْن مَسْعُود " ألم يرَوا من أهلكنا "، وَالْمَعْرُوف كم أهلكنا، وَهُوَ للتكثير.
وَقَوله: ﴿قبلهم من الْقُرُون﴾ اخْتلفُوا فِي مُدَّة الْقرن، وَقد بَينا من قبل، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي: أَنه قَالَ لعبد الله بن بسر الْمَازِني: " إِنَّك تعيش قرنا؛ فَعَاشَ مائَة سنة "، وَقَوله: ﴿أَنهم إِلَيْهِم لَا يرجعُونَ﴾ أَي: لَا يرجعُونَ إِلَى الدُّنْيَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن كل لما﴾ " إِن " هَا هُنَا بِمَعْنى: مَا، و " لما " بِمَعْنى: إِلَّا، فَمَعْنَى الْآيَة: وَمَا كل إِلَّا جَمِيع لدينا محضرون، وَفِي مصحف أبي بن كَعْب على هَذَا الْوَجْه.
375
﴿وأخرجنا مِنْهَا حبا فَمِنْهُ يَأْكُلُون (٣٣) وَجَعَلنَا فِيهَا جنَّات من نخيل وأعناب وفجرنا فِيهَا من الْعُيُون (٣٤) ليأكلوا من ثمره وَمَا عملته أَيْديهم أَفلا يشكرون (٣٥) سُبْحَانَ﴾
376
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَآيَة لَهُم الأَرْض الْميتَة﴾ وَقُرِئَ: " الْميتَة " بِالتَّشْدِيدِ.
وَقَوله: ﴿أحييناها﴾ أَي: بالمطر.
وَقَوله: ﴿وأخرجنا مِنْهَا حبا﴾ أَي: الْحِنْطَة وَالشعِير وَمَا أشبه هَذَا، وَقَوله: ﴿فَمِنْهُ يَأْكُلُون﴾ أَي: من الْحبّ يَأْكُلُون.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَجَعَلنَا فِيهَا جنَّات من نخيل وأعناب﴾ أَي: فِي الأَرْض جنَّات من نخيل وأعناب.
وَقَوله: ﴿وفجرنا فِيهَا من الْعُيُون ليأكلوا من ثمره﴾ أَي: وفجرنا فِيهَا الْمِيَاه من الْعُيُون؛ ليأكلوا من الثَّمر الْحَاصِل بِالْمَاءِ.
وَقَوله: ﴿وَمَا عملته أَيْديهم﴾ أَي: وليأكلوا مِمَّا عملته أَيْديهم مِمَّا يحرثون ويزرعون ويغرسون، وَقُرِئَ: " وَمَا عملت أَيْديهم " بِمَعْنى الأول.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن " مَا " للنَّفْي هَا هُنَا، وَمَعْنَاهُ: أَنا رَزَقْنَاهُمْ مِمَّا لم تعمله أَيْديهم.
وَقَوله: ﴿أَفلا يشكرون﴾ يَعْنِي: هَذِه النعم.
وقوله :﴿ وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره ﴾ أي : وفجرنا فيها المياه من العيون ؛ ليأكلوا من الثمر الحاصل بالماء.
وقوله :﴿ وما عملته أيديهم ﴾ أي : وليأكلوا مما عملته أيديهم مما يحرثون ويزرعون ويغرسون، وقرئ :﴿ وما عملت أيديهم ﴾بمعنى الأول.
والقول الثاني في الآية : أن ﴿ ما ﴾ للنفي ها هنا، ومعناه : أنا رزقناهم مما لم تعمله أيديهم.
وقوله :﴿ أفلا يشكرون ﴾ يعني : هذه النعم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿سُبْحَانَ الله الَّذِي خلق الْأزْوَاج كلهَا﴾ أى: الْأَصْنَاف كلهَا.
وَقَوله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي﴾ أَي: سبحوا الله الَّذِي خلق الْأزْوَاج كلهَا. وَقَوله: ﴿مِمَّا تنْبت الأَرْض وَمن أنفسهم وَمِمَّا لَا يعلمُونَ﴾ أَي: من النَّبَات، وَالْحَيَوَان الَّذِي لَا يعلمونه.
وَذكر بعض أهل التَّفْسِير: أَن مَا لَا يعلمُونَ هَا هُنَا هُوَ الرّوح، وَالله تَعَالَى خلق الرّوح فِي النَّفس وَلَا يُعلمهُ أحد، وَذكر بَعضهم أَن قَوْله: ﴿وَمَا عملته أَيْديهم﴾ رَاجع إِلَى الْعُيُون، وَمن الْعُيُون والأنهار مَا لم تعلمهَا أَيدي الْخلق مثل: دجلة،
376
﴿الَّذِي خلق الْأزْوَاج كلهَا مِمَّا تنْبت الأَرْض وَمن أنفسهم وَمِمَّا لَا يعلمُونَ (٣٦) وَآيَة لَهُم اللَّيْل نسلخ مِنْهُ النَّهَار فَإِذا هم مظلمون (٣٧) وَالشَّمْس تجْرِي لمستقر لَهَا ذَلِك﴾ والفرات، والنيل، وسيحان، وجيجان.
377
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَآيَة لَهُم اللَّيْل نسلخ مِنْهُ النَّهَار﴾ أَي: نكشط ونزيل، وَمَعْنَاهُ: نَذْهَب بِالنَّهَارِ، وَنَجِيء بِاللَّيْلِ، فَكَأَنَّهُ استخرج مِنْهُ، وَقَوله: ﴿فَإِذا هم مظلمون﴾ أَي: داخلون فِي الظلمَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالشَّمْس تجْرِي لمستقر لَهَا﴾ قَرَأَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا " وَالشَّمْس تجْرِي لمستقر لَهَا " أَي: تسير وتجري أبدا من غير قَرَار وَلَا وقُوف. وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة " لمستقر لَهَا " وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مستقرها هُوَ نِهَايَة دورانها إِذا قَامَت السَّاعَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مستقرها نِهَايَة ارتفاعها فِي السَّمَاء فِي الصَّيف، وَنِهَايَة هبوطها فِي الشتَاء، وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة الْأَعْمَش، عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن أَبِيه، عَن أبي ذَر أَنه قَالَ: " كنت عِنْد النَّبِي حَتَّى غَابَتْ الشَّمْس، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَر، أَتَدْرِي أَيْن تذْهب؟ قلت: الله وَرَسُوله أعلم، فَقَالَ: إِنَّهَا تذْهب وتستأذن فِي السُّجُود ". وَفِي رِوَايَة: " تذْهب إِلَى تَحت الْعَرْش وتستأذن فِي السُّجُود؛ فَيُؤذن لَهَا فِي السُّجُود، وَيُقَال لَهَا: اطلعِي من حَيْثُ كنت تطلعين، وَكَأَنَّهَا قد قيل لَهَا يَوْمًا يَا أَبَا ذَر: اطلعِي من حَيْثُ جِئْت؛ فَتَطلع من مغْرِبهَا، ثمَّ قَرَأَ النَّبِي قَوْله تَعَالَى: " وَذَلِكَ مُسْتَقر لَهَا ". قَالَ: وَفِي هَذَا الْخَبَر أَنه كَذَلِك فِي قِرَاءَة عبد الله بن مَسْعُود.
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الْخَبَر عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس الطَّحَّان، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن مَحْبُوب، أخبرنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ، أخبرنَا
377
﴿تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم (٣٨) وَالْقَمَر قدرناه منَازِل حَتَّى عَاد كالعرجون الْقَدِيم (٣٩) لَا﴾ [هناد بن السّري، أخبرنَا] أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير، عَن الْأَعْمَش.. الْخَبَر.
وَقَوله: ﴿ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَذكر البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح بِرِوَايَة أبي ذَر أَيْضا: " أَنه سَأَلَ النَّبِي عَن قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالشَّمْس تجْرِي لمستقر لَهَا﴾ قَالَ: مستقرها تَحت الْعَرْش ".
وَذكر الْأَزْهَرِي فِي قَوْله: ﴿تجْرِي لمستقر لَهَا﴾ أَي: تجْرِي للأجل الَّذِي أجل لَهَا، وَالتَّقْدِير الَّذِي قدر لَهَا.
378
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالْقَمَر قدرناه منَازِل﴾ قرئَ بِالرَّفْع، وَقُرِئَ بِالنّصب، فَأَما بِالنّصب: وقدرنا الْقَمَر منَازِل، وَأما بِالرَّفْع فَمَعْنَاه: وَآيَة لَهُم الْقَمَر قدرناه منَازِل.
وروى أَن سعيد بن الْمسيب سمع رجلا ينشد:
(وَغَابَ قمير كنت أَرْجُو أفوله وروح رعيان ونوم سمر)
فَقَالَ: قَاتله الله، لقد صغر مَا عظمه الله، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَالْقَمَر قدرناه منَازِل﴾.
وَقَوله: ﴿حَتَّى عَاد كالعرجون الْقَدِيم﴾ قَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد: كعذق النَّخْلَة الْقَدِيمَة، وَالْأَكْثَرُونَ أَن العرجون هُوَ عود الكباسة إِذا دق ويبس وتقوس.
وَقَوله: ﴿الْقَدِيم﴾ هُوَ البال، وَيُقَال الْقَدِيم هُوَ الَّذِي مضى عَلَيْهِ حول.
وَأما منَازِل الْقَمَر فَهِيَ ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ منزلا: السرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة،
378
﴿الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار وكل فِي فلك يسبحون (٤٠) ﴾ والعواء، والسماك، والغفر، والزبانا، والإكليل، وَالْقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وَسعد الذَّابِح، وَسعد بلع وَسعد السُّعُود، وَسعد الأخبية، وفزع الدَّلْو الْمُقدم وفزع الدَّلْو الْمُؤخر، وبطن الْحُوت.
فَهَذِهِ ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ منزلا للقمر ينزل كل لَيْلَة منزلا مِنْهَا، وَيكون أَرْبَعَة عشر مِنْهَا أبدا ظَاهِرَة، وَأَرْبَعَة عشر مِنْهَا غَائِبَة، كلما طلع منزل غَابَ منزل، وَيُقَال: الَّذِي يغرب رَقِيب الَّذِي يطلع، وَاثنا عشر مِنْهَا تكون فِي سَواد اللَّيْل من وَقت غرُوب الشَّمْس إِلَى وَقت طُلُوع الصُّبْح، وَاثْنَانِ مِنْهَا من عِنْد طُلُوع الصُّبْح إِلَى طُلُوع الشَّمْس.
379
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر﴾ أَي: لَا يدْخل اللَّيْل على النَّهَار قبل انقضائه، وَلَا يدْخل النَّهَار على اللَّيْل قبل انقضائه.
قَوْله: ﴿وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار﴾ أَي: يتعاقبان بِحِسَاب مَعْلُوم إِلَى أَن تَنْقَضِي الدُّنْيَا، وَيَقُول: لَا الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر، يَعْنِي: لَا تطلع الشَّمْس بِاللَّيْلِ، وَلَا يطلع الْقَمَر بِالنَّهَارِ، وَيكون لَهُ ضوء، فَلَا يدْخل وَاحِد مِنْهُمَا فِي سُلْطَان الآخر.
وَقيل: لَا يذهب وَاحِد مِنْهُمَا بِمَعْنى الآخر، وَذكر يحيى بن سَلام أَن قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر﴾ هَذَا لَيْلَة الْبَدْر خَاصَّة؛ فَإِن الشَّمْس لَا تطلع إِلَّا وَقد غَابَ الْقَمَر، فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي رُؤْيَة الْعين، وَيُقَال: لَا تُدْرِكهُ أَي: لَا يجْتَمع مَعَه فِي فلك وَاحِد؛ فَإِنَّهُم قَالُوا: إِن الشَّمْس فِي السَّمَاء الرَّابِعَة، وَالْقَمَر فِي السَّمَاء الدُّنْيَا.
وَقَوله: ﴿وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار﴾ أَي: لَا يتَّصل ليل بلَيْل لَا يكون بَينهمَا نَهَار فاصل.
وَقَوله: ﴿وكل فِي فلك يسبحون﴾ أَي: يجرونَ ويدورون.
379
﴿وَآيَة لَهُم أَنا حملنَا ذُرِّيتهمْ فِي الْفلك المشحون (٤١) وخلقنا لَهُم من مثله مَا يركبون (٤٢) وَإِن نَشأ نغرقهم فَلَا صريخ لَهُم وَلَا هم ينقذون (٤٣) إِلَّا رَحْمَة منا ومتاعا إِلَى حِين (٤٤) وَإِذا قيل لَهُم اتَّقوا مَا بَين أَيْدِيكُم وَمَا خلفكم لَعَلَّكُمْ ترحمون (٤٥) وَمَا﴾
380
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَآيَة لَهُم أَنا حملنَا ذُرِّيتهمْ﴾ أَي: آبَاءَهُم، هَكَذَا قَالَه ثَعْلَب وَغَيره، وَاسم الذُّرِّيَّة كَمَا يَقع على الْأَبْنَاء يَقع على الْآبَاء.
وَقَوله: ﴿فِي الْفلك المشحون﴾ أَي: الموفر، وَقيل: الممتلئ، وَعَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: المُرَاد بِالْآيَةِ أَنا حملناهم فِي بطُون الْأُمَّهَات، وَشبه بطُون الْأُمَّهَات بالسفن المشحونة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وخلقنا لَهُم من مثله مَا يركبون﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِهِ الزواريق الصغار والسفن الَّتِي تجْرِي فِي الْأَنْهَار، فَهِيَ فِي الْأَنْهَار كالسفن الْكِبَار فِي الْبَحْر، وَهَذَا القَوْل قَول قَتَادَة وَالضَّحَّاك وَغَيرهمَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَن معنى قَوْله: ﴿وخلقنا لَهُم من مثله مَا يركبون﴾ أَي: الْإِبِل، الْإِبِل فِي الْبَوَادِي كالسفن فِي الْبحار.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن نَشأ نغرقهم فَلَا صريخ لَهُم﴾ أى: لَا مغيث لَهُم (وَلَا هم ينقذون) أى: وَلَا هم ينجون،
وَقَوله: ﴿إِلَّا رَحْمَة منا﴾ مَعْنَاهُ: أَن إنقاذهم برحمتنا.
وَقَوله: ﴿ومتاعا إِلَى حِين﴾ وليمتعوا إِلَى مُدَّة مَعْلُومَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا قيل لَهُم اتَّقوا مَا بَين أَيْدِيكُم وَمَا خلفكم﴾ أَي: اتَّقوا مَا بَين أَيْدِيكُم أَي: الْقِيَامَة فاحذروها ﴿وَمَا خلفكم﴾ أَي: الدُّنْيَا فَلَا تغتروا بهَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: ﴿اتَّقوا مَا بَين أَيْدِيكُم﴾ أَي: اتَّقوا مثل عَذَاب الْأُمَم الَّذين كَانُوا بَين أَيْدِيكُم؛ لِئَلَّا يُصِيبكُم مثل مَا أَصَابَهُم.
وَقَوله: ﴿وَمَا خلفكم﴾ أَي: اتَّقوا عَذَاب النَّار، وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ ترحمون﴾ أَي: كونُوا على رَجَاء الرَّحْمَة.
380
﴿تأتيهم من آيَة من آيَات رَبهم إِلَّا كَانُوا عَنْهَا معرضين (٤٦) وَإِذا قيل لَهُم أَنْفقُوا مِمَّا رزقكم الله قَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا أنطعم من لَو يَشَاء الله أطْعمهُ إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ضلال مُبين (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين (٤٨) مَا ينظرُونَ إِلَّا﴾
381
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا تأتيهم من آيَة من آيَات رَبهم إِلَّا كَانُوا عَنْهَا معرضين﴾ أَي: معرضين بالجحد والتكذيب.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَإِذا قيل لَهُم أَنْفقُوا مِمَّا رزقكم الله﴾ أَي: مِمَّا أَعْطَاكُم الله.
وَقَوله: ﴿قَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا أنطعم من لَو يَشَاء الله أطْعمهُ﴾
قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ بِمَكَّة زنادقة، فَكَانَ إِذا قيل لَهُم: أَنْفقُوا على الْفُقَرَاء مِمَّا (أَعْطَاكُم) الله؛ قَالُوا هَذَا القَوْل على سَبِيل الِاسْتِهْزَاء، وَعَن الْبَصْرِيّ قَالَ: هَذَا قَول الْيَهُود، وَكَانُوا يَقُولُونَ: كَيفَ نعطيهم وَقد أفقرهم الله تَعَالَى، وَلَو شَاءَ أَن يعطيهم أَعْطَاهُم؟ وَذكر القتيبي فِي كتاب " المعارف ": أَن أَبَا الْأسود الدؤَلِي كَانَ من خلقه أغناهم، فَهَذَا حجَّة البخلاء فِي الْبُخْل، وَهِي حجَّة بَاطِلَة؛ لِأَن الله تَعَالَى منع الدُّنْيَا من الْفُقَرَاء لَا بخلا وَلَكِن ابتلاء، وَأمر الْأَغْنِيَاء بِالْإِنْفَاقِ لَا بِحكم الْحَاجة إِلَى أَمْوَالهم لَكِن ابتلاء شكرهم.
وَقَوله: ﴿إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ضلال مُبين﴾ أَي: فِي خطأ بَين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ أَي: وعد الْقِيَامَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا ينظرُونَ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة تأخذهم وهم يخصمون﴾ أَي: يختصمون، وَهَكَذَا فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب، وَيُقَال: هم يخصمون أَي: يتقاولون فِي حاجاتهم، وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي: " إِن السَّاعَة تقوم وَالرجل يسْقِي مَاشِيَته، وَتقوم وَالرجل يلط حَوْضه، وَتقوم وَالرجل يعرض سلْعَته على البيع، وَتقوم وَالرجل قد رفع لقمته ليضعها فِي فِيهِ، فتقوم قبل أَن يَضَعهَا فِي فِيهِ ".
381
﴿صَيْحَة وَاحِدَة تأخذهم وهم يخصمون (٤٩) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ توصية وَلَا إِلَى أهلهم يرجعُونَ (٥٠) وَنفخ فِي الصُّور فَإِذا همم من الأجداث إِلَى رَبهم يَنْسلونَ (٥١) قَالُوا يَا ويلنا من بعثنَا من مرقدنا هَذَا مَا وعد الرَّحْمَن وَصدق المُرْسَلُونَ (٥٢) إِن كَانَت إِلَّا﴾
382
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ توصية﴾ أَي: إيصاء وَقَوله: ﴿وَلَا إِلَى أهلهم يرجعُونَ﴾ أَي: يَنْقَلِبُون، وَالْمعْنَى: أَن السَّاعَة لَا تمهلهم بِشَيْء.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَنفخ فِي الصُّور﴾ الأول: هِيَ النفخة الأولى، وَالثَّانِي: هِيَ النفخة الْأُخْرَى، وَبَينهمَا أَرْبَعُونَ سنة.
وَقَوله: ﴿فَإِذا هم من الأجداث إِلَى رَبهم يَنْسلونَ﴾ أَي: من الْقُبُور.
وَقَوله: ﴿إِلَى رَبهم يَنْسلونَ﴾ أَي: يسرعون، قَالَ الشَّاعِر:
((عسلان) الذِّئْب أَمْسَى قاربا... برد الَّيْلِ عَلَيْهِ فنسل)
وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(فسلى ثِيَابِي من ثِيَابك تنسل... )
والنسلان فَوق الْمَشْي وَدون الْعَدو.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قَالُوا يَا ويلنا من بعثنَا من مرقدنا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: يرفع عَنْهُم الْعَذَاب مَا بَين النفختين. وَعَن أبي بن كَعْب قَالَ: ينامون نومَة قبل الْبَعْث. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: يرفع عَنْهُم الْعَذَاب فيهجعون ويرقدون.
وَعَن بَعضهم: أَن هَذَا القَوْل من الْمُؤمنِينَ. وَأظْهر الْقَوْلَيْنِ هُوَ القَوْل الأول، وَأَنه قَول الْكَافرين، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " من أهبنا من مرقدنا ".
وَقَوله: ﴿هَذَا مَا وعد الرَّحْمَن﴾ هُوَ قَول الْمُؤمنِينَ إِجَابَة للْكفَّار، وعَلى القَوْل الآخر قَول الْمُؤمنِينَ، ويجيبون بِهِ أنفسهم وَقَوله: ﴿وَصدق المُرْسَلُونَ﴾ ظَاهر.
وَقَوله: ﴿إِن كَانَت إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة فَإِذا هم جَمِيع لدينا محضرون﴾ أَي:
382
﴿صَيْحَة وَاحِدَة فَإِذا هم جَمِيع لدينا محضرون (٥٣) فاليوم لَا تظلم نفس شَيْئا وَلَا تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (٥٤) إِن أَصْحَاب الْجنَّة الْيَوْم فِي شغل فاكهون (٥٥) هم وأزواجهم فِي ظلال على الأرائك متكئون (٥٦) لَهُم فِيهَا فَاكِهَة وَلَهُم مَا يدعونَ﴾ حاضرون.
383
قَوْله تَعَالَى: ﴿فاليوم لَا تظلم نفس شَيْئا وَلَا تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن أَصْحَاب الْجنَّة الْيَوْم فِي شغل﴾ وَقُرِئَ: " فِي شغل " بِالْجَزْمِ، قَالَ ابْن عَبَّاس: فِي افتضاض الْأَبْكَار، وَعنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: فِي ضرب الأوتار، وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف بَين الْمُفَسّرين.
وَالْقَوْل الثَّالِث: فِي شغل عَن عَذَاب أهل النَّار.
وَقَوله: ﴿فاكهون﴾ وَقُرِئَ: " فكهون " فَمنهمْ من قَالَ: هما بِمَعْنى وَاحِد مثل الحذر والحاذر، وَمِنْهُم من فرق بَينهمَا، قَالَ: الفكه هُوَ طيب النَّفس معجب بِحَالهِ، والفاكه هُوَ ذُو الْفَاكِهَة. والمزاح يُسمى فكاهة، قَالَ الحطيئة:
(وَدَعَوْتنِي وَزَعَمت أَنَّك لِابْنِ بالضيف تامر)
أَي: ذُو تمر، وَذُو لبن، وَقَالَ آخر:
قَوْله تَعَالَى: ﴿هم وأزواجهم فِي ظلال﴾ الظلال: جمع الظل، وَقَوله: ﴿على الأرائك﴾ فِي التَّفْسِير: سرر من الذَّهَب مكللة بالدر والزبرجد والياقوت، عَلَيْهَا حجال.
قَالَ ثَعْلَب: لَا تكون الأرائك أريكة حَتَّى تكون تَحت حجلة.
وَقَوله: ﴿متكئون﴾ أَي: أَنهم ذَوُو اتكاة، وَذكر الاتكاء فِي الْجنَّة؛ لأَنهم لَا ينامون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَهُم فِيهَا فَاكِهَة وَلَهُم مَا يدعونَ﴾ أَي: مَا يتمنون، تَقول الْعَرَب: ادْع على مَا شِئْت أَي تمن على مَا شِئْت، قَالَ الْأَعْشَى:
383
( ﴿٥٧) سَلام قولا من رب رَحِيم (٥٨) وامتازوا الْيَوْم أَيهَا المجرمون (٥٩) ألم أَعهد إِلَيْكُم يَا بني آدم أَن لَا تعبدوا الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين (٦٠) وَأَن اعبدوني هَذَا﴾
(ركا شهي نشأة الَّذِي... سَار ملكه لَهُ مَا ادّعى)
(رَاح عَتيق مَا ادّعى... )
384
قَوْله تَعَالَى: ﴿سَلام قولا من رب رَحِيم﴾ أَكثر الْمُفَسّرين أَن مَعْنَاهُ: يسلم الله عَلَيْهِم سَلاما. وَقَوله: ﴿قولا﴾ أَي: يَقُول قولا.
وَفِي رِوَايَة جَابر عَن النَّبِي قَالَ: " بَيْنَمَا أهل الْجنَّة فِي نعيمهم إِذْ سَطَعَ لَهُم نور وأشرف عَلَيْهِم رَبهم جلّ وَعلا فَيسلم عَلَيْهِم " الْخَبَر إِلَى آخِره، وَيُقَال: تسلم عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة من رَبهم، وَقيل: يعطيهم الله السَّلامَة، وَيَقُول: اسلموا السَّلامَة الأبدية، وَقَوله: ﴿من رب رَحِيم﴾ أَي: عطوف.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وامتازوا الْيَوْم أَيهَا المجرمون﴾ أَي: امتازوا من الْمُؤمنِينَ. وَفِي التَّفْسِير: الْيَهُود قوم، وَالنَّصَارَى قوم، وَالْمَجُوس قوم، والصابئون قوم، وَالْمُشْرِكُونَ قوم، والمؤمنون قوم، وَالْمعْنَى أَن الله تَعَالَى يُمَيّز بَين أهل الصّلاح وَأهل الْفساد، وَبَين الْمُشْركين وَبَين الْمُؤمنِينَ، وَبَين الْمُنَافِقين وَبَين المخلصين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم أَعهد إِلَيْكُم﴾ أَي: ألم آمركُم ﴿يَا بني آدم أَلا تعبدوا الشَّيْطَان﴾ أَي: لَا تطيعوا الشَّيْطَان، وَعبادَة الشَّيْطَان طَاعَته، وَقَوله: ﴿إِنَّه لكم عَدو مُبين﴾ أَي: عَدو بَين الْعَدَاوَة.
وَقَوله: ﴿وَأَن اعبدوني هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ أَي: طَرِيق مُسْتَقِيم على الْحق.
384
﴿صِرَاط مُسْتَقِيم (٦١) وَلَقَد أضلّ مِنْكُم جبلا كثيرا أفلم تَكُونُوا تعقلون (٦٢) هَذِه جَهَنَّم الَّتِي كُنْتُم توعدون (٦٣) اصلوها الْيَوْم بِمَا كُنْتُم تكفرون (٦٤) الْيَوْم نختم على﴾
385
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد أضلّ مِنْكُم جبلا﴾ وَقُرِئَ: " جبلا كثيرا "، وَقُرِئَ: " جبلا " بِرَفْع الْجِيم وَالْبَاء، وَمَعْنَاهُ: خلقا كثيرا، قَالَ الضَّحَّاك: عشرَة آلَاف فَمَا زَاد، وَعَن بَعضهم: خلقا كثيرا لَا يُحْصى عَددهمْ إِلَّا الله، وَقَوله: ﴿أفلم تَكُونُوا تعقلون﴾ يَعْنِي: أفلم تعقلوا آياتي، وتنظروا فِيهَا نظر من يعقل،
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَذِه جَهَنَّم الَّتِي كُنْتُم توعدون﴾ أَي: توعدون دُخُولهَا بكفركم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿اصلوها الْيَوْم﴾ أَي: ادخلوها وقاسوا حرهَا [ ﴿بِمَا كُنْتُم تكفرون﴾
قَوْله تَعَالَى: ﴿الْيَوْم نختم على أَفْوَاههم﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذَا حِين يُنكر الْكفَّار كفرهم وتكذيبهم رسل الله، فيختم الله على أَفْوَاههم، وَيَأْذَن للجوارح فِي الشَّهَادَة بِمَا عملت، وَفِي الْمَشْهُور من الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " يَقُول العَبْد يَوْم الْقِيَامَة: يَا رب، لَا أُجِيز على نَفسِي إِلَّا شَاهدا مني، فيختم الله على فَمه، وَيَقُول لجوارحه: انْطِقِي، فتتكلم الْجَوَارِح بِمَا عملت، ثمَّ يخلي بَينه وَبَين لِسَانه، فَيَقُول لجوارحه: بعدا لَكِن وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ أُنَاضِل ".
وَفِي الْخَبَر أَيْضا أَن النَّبِي قَالَ: " يجاء بِالنَّاسِ يَوْم الْقِيَامَة مفدمة أَفْوَاههم بالفدام، وَتشهد جوارحهم بِمَا عملت، فَأول مَا يشْهد فَخذ الْإِنْسَان وكفه ".
385
﴿أَفْوَاههم وتكلمنا أَيْديهم وَتشهد أَرجُلهم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَو نشَاء لطمسنا على أَعينهم فاستبقوا الصِّرَاط فَأنى يبصرون (٦٦) وَلَو نشَاء لمسخناهم على مكانتهم فَمَا اسْتَطَاعُوا مضيا وَلَا يرجعُونَ (٦٧) وَمن نعمره ننكسه فِي الْخلق أَفلا يعْقلُونَ﴾
وَقَوله: ﴿وتكلمنا أَيْديهم وَتشهد أَرجُلهم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ قد بَينا.
وَقد أنكر بَعضهم كَلَام الْجَوَارِح، وَقَالَ: معنى الْكَلَام وجود دلَالَة تدل على أَنَّهَا قد عملت مَا عملت، وَالصَّحِيح أَنَّهَا تَتَكَلَّم حَقِيقَة، وَغير مستبعد كَلَام الْجَوَارِح فِي قدرَة الله تَعَالَى.
386
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو نشَاء لطمسنا على أَعينهم﴾ أَي: أعميناهم، وَيُقَال: أضللناهم عَن الْهدى. قَالَ الْمبرد وثعلب: المطموس والطميس هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِي عَيْنَيْهِ شقّ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فاستبقوا الصِّرَاط﴾ أى: فتبادروا الطَّرِيق، وَقَوله: ﴿فَأنى يبصرون﴾ مَعْنَاهُ: من أَيْن يبصرون؟ وَقيل: فَكيف يبصرون؟
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو نشَاء لمسخناهم على مكانتهم﴾ أَي: جعلناهم قردة وَخَنَازِير فِي مَنَازِلهمْ، وَقيل: أقعدناهم من أَرجُلهم، وَقَوله: ﴿فَمَا اسْتَطَاعُوا مضيا﴾ أَي: ذَاهِبًا، وَقَوله: ﴿وَلَا يرجعُونَ﴾ أَي: لَا يرجعُونَ إِلَى أَهَالِيهمْ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن نعمره ننكسه فِي الْخلق﴾ وقرىء: ((ننكسه فِي الْخلق)) أى: وَمن نطل عمره ننكسه فِي الْخلق أَي: نرده إِلَى أرذل الْعُمر، وَيُقَال: التنكيس فِي الْخلق هُوَ ضعف الْجَوَارِح بعد قوتها، وَقَوله: ﴿أَفلا يعْقلُونَ﴾ مَعْنَاهُ: أَفلا يعْقلُونَ آياتي؟.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ قَالُوا: كَانَ الْمُشْركُونَ يَزْعمُونَ أَن مُحَمَّدًا شَاعِر، وَأَن الْقُرْآن شعر؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: ﴿وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ أَي: لَا يسهل وَلَا يتزن لَهُ شعر، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي أنْشد
386
( ﴿٦٨) وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِن هُوَ إِلَّا ذكر وَقُرْآن مُبين (٦٩) لينذر من كَانَ حَيا ويحق القَوْل على الْكَافرين (٧٠) أَو لم يرَوا أَنا خلقنَا لَهُم مِمَّا عملت أَيْدِينَا أنعاما﴾ يَوْمًا:
(كفى الْإِسْلَام والشيب للمرء ناهيا... )
فَقَالَ أَبُو بكر: بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله هُوَ:
(كفى الشيب وَالْإِسْلَام للمرء ناهيا... )
فَقَالَ النَّبِي: " كِلَاهُمَا وَاحِد " فَقَالَ أَبُو بكر: أشهد أَنَّك لَا تَقول الشّعْر، وَلَا يَنْبَغِي لَك ".
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي أنْشد شعر طرفَة:
(ستبدي لَك الْأَيَّام مَا كنت جَاهِلا... ويأتيك بالأخبار من [لم] تزَود)
فَقَالَ النَّبِي: " ويأتيك من لم تزَود بالأخبار ".
وَقَوله: ﴿إِن هُوَ إِلَّا ذكر وَقُرْآن مُبين﴾ أَي: تذكرة وَقُرْآن بَين.
387
قَوْله تَعَالَى: ﴿لينذر من كَانَ حَيا﴾ أَي: عَاقِلا، وَقيل: مُؤمنا، وَقَالَ قَتَادَة: حَيّ الْقلب، وَقَوله: ﴿ويحق القَوْل على الْكَافرين﴾ أَي: تجب حجَّة الْعَذَاب على الْكَافرين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو لم يرَوا أَنا خلقنَا لَهُم مِمَّا عملت أَيْدِينَا﴾ أَي: مِمَّا تولينا خلقه وإبداعه، وَالْأولَى فِي الْأَيْدِي أَن يُؤمن بهَا وَلَا تفسر.
وَقَوله: ﴿أنعاما فهم لَهَا مالكون﴾ أَي: ضابطون، وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ:
387
﴿فهم لَهَا مالكون (٧١) وذللناها لَهُم فَمِنْهَا ركوبهم وَمِنْهَا يَأْكُلُون (٧٢) وَلَهُم فِيهَا مَنَافِع ومشارب أَفلا يشكرون (٧٣) وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة لَعَلَّهُم ينْصرُونَ (٧٤) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصرهم وهم لَهُم جند محضرون (٧٥) فَلَا يحزنك قَوْلهم إِنَّا نعلم مَا﴾
(فكه إِلَى جنب الخوان إِذا غَدَتْ نكبا تقلع ثَابت الْأَطْنَاب)
((لست من أجمل الْأَنَام السَّلَام وَلَا أملك رَأس الْبَعِير إِذْ نَفرا))
أَي: أضبط.
388
قَوْله تَعَالَى: ﴿وذللناها لَهُم﴾ أَي: جعلناها ذليلة لَهُم، وَقَوله: ﴿فَمِنْهَا ركوبهم﴾ الرّكُوب: مَا يركب، وَقَوله: ﴿وَمِنْهَا يَأْكُلُون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَهُم فِيهَا مَنَافِع ومشارب أَفلا يشكرون﴾ أَي: فِي الْأَنْعَام مَنَافِع من الأصواف والأوبار والأشعار، وَقَوله: ﴿ومشارب﴾ أَي: من الألبان، وَقَوله: ﴿أَفلا يشكرون﴾ يَعْنِي: هَذِه النعم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة لَعَلَّهُم ينْصرُونَ﴾ أَي: تدفع عَنْهُم الْعَذَاب،
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصرهم﴾ أَي: لَا تَسْتَطِيع الْأَصْنَام دفع الْعَذَاب عَنْهُم.
وَقَوله: ﴿وهم لَهُم جند محضرون﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وهم لَهُم جند أَي: الْكفَّار للأصنام جند وَأَتْبَاع.
القَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا فِي الْقِيَامَة، وَهُوَ أَنه يدعا بِكُل معبود عبد من دون الله، فيجاء بِهِ وَمَعَهُ أَتْبَاعه، وَالَّذين عبدوه كَأَنَّهُمْ جنده، وَقَوله: ﴿فهم محضرون﴾ أَي: يحْضرُون النَّار، وَمَعْنَاهُ: يدْخلُونَهَا.
قَوْله: ﴿فَلَا يحزنك قَوْلهم﴾ أَي: قَوْلهم فِيك إِنَّه سَاحر أَو كَاذِب أَو شَاعِر.
وَقَوله: ﴿إِنَّا نعلم﴾ هَذَا ابْتِدَاء كَلَام، وَقَوله: ﴿مَا يسرون﴾ يَعْنِي: من
388
﴿يسرون وَمَا يعلنون (٧٦) أَو لم ير الْإِنْسَان أَنا خلقناه من نُطْفَة فَإِذا هُوَ خصيم مُبين (٧٧) وَضرب لنا مثلا وَنسي خلقه قَالَ من يحيي الْعِظَام وَهِي رَمِيم (٧٨) قل يُحْيِيهَا﴾ التَّكْذِيب، وَقَوله: ﴿وَمَا يعلنون﴾ أَي: من عبَادَة الْأَصْنَام.
389
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَو لم ير الْإِنْسَان أَنا خلقناه من نُطْفَة فَإِذا هُوَ خصيم مُبين﴾ نزلت الْآيَة فِي شَأْن أبي بن خلف، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنه أَخذ عظما بَالِيًا ففتته بَين أَصَابِعه، وَقَالَ: يَا مُحَمَّد، أتزعم أَن هَذَا يحيي وَيبْعَث.
وَفِي بعض التفاسير: أَن الْقَائِل هَذَا كَانَ هُوَ الْعَاصِ بن وَائِل السَّهْمِي، وَالْأول أشهر؛ فَقَالَ رَسُول الله: " نعم، وَإِن الله تَعَالَى يُمِيتك ثمَّ يَبْعَثك ثمَّ يدْخلك نَار جَهَنَّم ".
وَقَوله: ﴿فَإِذا هُوَ خصيم مُبين﴾ أَي: مخاصم بَين الخصمومة. وَأما وَجه الْحجَّة عَلَيْهِم فِي خلق الْإِنْسَان من نُطْفَة، هُوَ أَن إِعَادَة الْخلق أَهْون فِيمَا يعقله النَّاس من إنْشَاء الْخلق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَضرب لنا مثلا وَنسي خلقه﴾ ضربه الْمثل مَا بَينا من قَوْله. وَقَوله: ﴿وَنسي خلقه﴾ أَي: وَترك النّظر فِي إنْشَاء خلقه.
وَقَوله: ﴿قَالَ من يحيي الْعِظَام وَهِي رَمِيم﴾ الرمة: من الْعِظَام هِيَ الَّتِي بليت.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أول مرّة وَهُوَ بِكُل خلق عليم﴾ أَي: عَالم.
389
﴿الَّذِي أَنْشَأَهَا أول مرّة وَهُوَ بِكُل خلق عليم (٧٩) الَّذِي جعل لكم من الشّجر الْأَخْضَر نَارا فَإِذا أَنْتُم مِنْهُ توقدون (٨٠) ﴾
390
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذِي جعل لكم من الشّجر الْأَخْضَر نَارا﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: وَالْمرَاد مِنْهُ هُوَ المرح والعفار، وهما خشبتان توري الْعَرَب مِنْهُمَا النَّار كَمَا يوري النَّاس من الْحَدِيد وَالْحجر، وَقَوله: يوري أَي: يقْدَح، تَقول الْعَرَب: فِي كل شجر نَار واستمجد المرح والعفار وَعَن أبي صَالح قَالَ: فِي الْأَشْجَار نَار سوى شَجَرَة العفار.
وَقَوله: ﴿فَإِذا أَنْتُم مِنْهُ توقدون﴾ أَي: تقدحون وتورون.
وَقَوله: ﴿أَو لَيْسَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِقَادِر على أَن يخلق مثلهم﴾ على أَن ينشىء خلقا مثلهم، وَقيل: على أَن يعيدهم يَوْم الْقِيَامَة؛ فَيَكُونُوا خلقا كَمَا كَانُوا.
وَقَوله: ﴿بلَى وَهُوَ الخلاق الْعَلِيم﴾ مَعْنَاهُ: قل: بلَى، وَهُوَ خطاب للرسول، وَقد بَينا [الْفرق] بَين بلَى وَنعم فِيمَا سبق، وَلَا يَسْتَقِيم فِي جَوَاب النَّفْي إِلَّا بِكَلِمَة بلَى، وَقيل: إِن الله تَعَالَى قَالَ مجيبا لنَفسِهِ: بلَى وَهُوَ الخلاق الْعَلِيم، والخلاق هُوَ الَّذِي يخلق مرّة بعد مرّة، والعليم هُوَ (الْعَالم) بخلقه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون﴾ قد بَينا هَذَا من قبل، قَوْله: ﴿فسبحان الَّذِي بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء﴾ أَي: ملك كل شَيْء.
وَقَوله: ﴿وَإِلَيْهِ ترجعون﴾ أَي: تردون يَوْم الْقِيَامَة.
390

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿وَالصَّافَّات صفا (١) فالزاجرات زجرا (٢) فالتاليات ذكرا (٣) إِن إِلَهكُم لوَاحِد (٤) رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَرب الْمَشَارِق (٥) إِنَّا زينا السَّمَاء الدُّنْيَا﴾
تَفْسِير سُورَة الصافات
وَهِي مَكِّيَّة
391
وقوله :( أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ) على أن ينشىء خلقا مثلهم، وقيل : على أن يعيدهم يوم القيامة ؛ فيكونوا خلقا كما كانوا.
وقوله :( بلى وهو الخلاق العليم ) معناه : قل : بلى، وهو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد بينا [ الفرق ] ( ١ ) بين بلى ونعم فيما سبق، ولا يستقيم في جواب النفي إلا بكلمة بلى، وقيل : إن الله تعالى قال مجيبا لنفسه : بلى وهو الخلاق العليم، والخلاق هو الذي يخلق مرة بعد مرة، والعليم هو ( العالم ) ( ٢ ) بخلقه.
١ - ما بين المعكوفتين من عندنا ليستقيم المعنى..
٢ - في "ك": العليم..
قوله تعالى :( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) قد بينا هذا من قبل،
قوله :( فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ) أي : ملك كل شيء.
وقوله :( وإليه ترجعون ) أي : تردون يوم القيامة.
Icon