تفسير سورة يس

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة يس من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية كلها، وفيها من جليل المعاني والأمثال وألوان التذكير والتحذير والعبر ما فيه للناس من بالغ المزدجر وما به ينبهر أولو النُُّهى ويزداد به النابهون الذاكرون يقينا بأن هذا القرآن معجز وأنه منزّل من لدن حكيم خبير مقتدر.
وتعْرضُ هذه السورة لفيض من الحقائق والمشاهد والعبر المختلفة التي تلتئم فيما بينها وتنسجم لتتكون من مجموعها هذه السورة المباركة الفضلى وهي سورة تفيض بالبركة والعظة والنور، وفيها من بالغ المواعظ ما يمسُّ الحس والوجدان أوقع حس.
وفي بركة هذه السورة وعظيم شأنها أخرج أبو يعلى عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ يس في ليلة، أصبح مغفورا له " وروى الإمام أحمد عن معقل بن يسار ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرؤوها على موتاكم " يعني يس. والمراد قراءتها عند الاحتضار تسهيلا لخروج الروح ؛ ولهذا قال بعض العلماء : إن من خصائص سورة يس أن لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسَّره الله تعالى ؛ وذلك لأن قراءتها عند الميت تتنزل بها الرحمة والبركة، فيسهل عليه خروج الروح.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿ يس ( ١ ) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ ( ٢ ) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٣ ) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( ٤ ) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ( ٥ ) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ( ٦ ) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ﴾.
اختلفوا في المراد بقوله :﴿ يس ﴾ على عدة أقوال منها : أن هذا قسم أقسمه الله، وهو من أسماء الله تعالى. ومنها : أن ﴿ يس ﴾ يعني : يا إنسان بلسان الحبشة، أو يا رجل. ومنها : أنه كنّى به النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له : يا ياسين. أي يا سيد. ومنها : أنه اسم من أسماء القرآن. ومنها : أنه مفتاح كلام افتتح الله به كلامه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
قوله :﴿ وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ ﴾ ذلك قسم من الله جل جلاله بقرآنه الحكيم ؛ أي المحكم في بيناته ودلائله وأحكامه، فلا يأتي عليه بطلان ولا وهن ولا تناقض. وإنما هو الكلام المتفق الرصين القوي في معناه ومبناه، العجيب في لفظه وما حواه من بالغ الحكمة وكمال المضمون.
قوله :﴿ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ يُقسم الله بقرآنه الحكيم على أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد أرسله للناس بشيرا ومبلغا للعالمين. فهو أحد النبيين المرسلين الذين نطت بهم وجيبة النبوة وتبليغ الناس دعوة الله.
قوله :﴿ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ هذه شهادة إلهية جليلة قدسية بأن محمدا صلى الله عليه وسلم مبعوث من ربه هداية للعالمين، وأنه على طريق الله الحق المبين الذي لا زيغ فيه ولا اعوجاج. وذلكم هو طريق الإسلام، دين الله القويم.
قوله :﴿ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴾ ﴿ تَنْزِيلَ ﴾، منصوب على المصدر. وهو مصدر نزَّل، بالتشديد. يقال : نزَّل تنزيلا. مثل رتّل ترتيلا، وقتَّل تقتيلا. وهو مضاف إلى الفاعل. وقرئ ( تنزيلُ ) بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : هو تنزيل١
قال الإمام الطبري رحمه الله في ذلك : والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ، فمصيب الصواب.
والمعنى : أن هذا الصراط المستقيم، وهو دين الله المتين ومنهجه الحق للعالمين الذي جاءك يا محمد، لهو تنزيل من الله ﴿ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴾ أي القوي المنتقم من العصاة والظالمين، الرءوف بالتائبين المنيبين.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٩٠.
قوله :﴿ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ﴾ المراد بالقوم في أظهر الأقوال، هذه الأمة ؛ فإنهم كانوا أهل فترة ولم يأتهم نذير حتى بعث الله إليهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم مبشر ونذيرا.
وقوله :﴿ فَهُمْ غَافِلُونَ ﴾ أي كانوا أهل فترة لم يأتهم فيها رسول فكانوا في غفلة عن الهدى وملة التوحيد، وكانوا سادرين في الشرك والضلال.
قوله :﴿ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ ﴾ ﴿ حَقَّ الْقَوْلُ ﴾ ؛ أي وجب العقاب من الله على أكثر الناس ؛ لأنهم لا يؤمنون. فقد علم الله أنهم غير مؤمنين به وحده، وأنهم غير مصدقي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بل إنهم ضالون مكذبون سادرون في ضلالة الجاهلية والوثنية.
قال تعالى :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ( ٨ ) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ( ٩ ) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( ١٠ ) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ( ١١ ) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾.
الأغلال جمع غل بالضم وهو الطوق من الحديد في العنق١ فالأغلال بمعنى القيود والأصفاد. والأذقان جمع ذقن وهي مجمع اللحيين. و ﴿ مُقْمَحُونَ ﴾، جمع مقمح من الإقماح وهو رفع الرأس وغض البصر. أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من ضيقه٢، والمعنى : أن هؤلاء الضالين المشركين الذين ختم الله على قلوبهم مبعدون من الإيمان والرحمة مغلولون عن كل خير فهم كمن جُعل في عنقه غُل فجُمعت به يداه في عنقه تحت ذقنه فصار رأسه مُقحما أي مرتفعا. وهذا مثل ضربه الله لهؤلاء المشركين المكذبين، في امتناعهم من الهدى كامتناع المغلول من بسط يديه بخير.
١ المصباح المنير ج ٢ ص ١٠٥.
٢ مختار الصحاح ص ٥٥٠.
قوله :﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ﴾ السدّ، معناه الحاجز. فقد جعل الله من أمام هؤلاء الضالين حاجزا ومن خلفهم حاجزا. والمراد به الضلالات. فهم مترددون في الضلالات، زائغون بها عن الحق.
قوله :﴿ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ﴾ يعني أغشينا أبصارهم أي غطيناها وجعلنا عليها غشاوة فلا ترى شيئا. أو ألبسنا أبصارهم غشاوة كيلا يروا.
وقيل : جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل وأمية بن خلف يراصدون النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغوا من أذاه. فخرج عليهم الصلاة والسلام وهو يقرأ ﴿ يس ﴾ وفي يده تراب فرماهم به وقرأ ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ﴾ فأطرقوا حتى مر عليهم عليه السلام.
وذكر محمد بن إسحق في السيرة عن محمد بن كعب قال : قال أبو جهل وهم جلوس : إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكا فإذا متم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن. وإنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تعذبون بها، وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وفي يده حفنة من تراب وقد أخذ الله تعالى على أعينهم دون فجعل يذرّها على رؤوسهم ويقرأ ﴿ يس ( ١ ) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ ﴾ حتى انتهى إلى قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ﴾ وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته وباتوا رصداء على بابه حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار فقال : ما لكم ؟ قالوا : ننتظر محمدا. قال : وقد خرج عليكم، فما بقي منكم من رجل إلا وضع على رأسه ترابا ثم ذهب لحاجته. فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب.
قوله :﴿ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ﴾ أي ختم الله على قلوب الكافرين بالضلالة فما ينفعهم الإنذار ولا يؤثر فيهم. بل إن الإنذار وعدمه سيان في عدم وقوع الإيمان منهم
﴿ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ﴾ يعني إنما ينتفع بإنذارك أولو الطبائع السليمة والفِطر المستقيمة الذين آمنوا بالقرآن وأيقنوا بأنه حق وعملوا بما فيه. وهم الذين يخشون الله حين غيابهم عن أبصار الناظرين، عندما لا يراهم أحد إلا الله سبحانه، أولئك هم المؤمنون الذين تنفعهم الذكرى وتؤثر فيهم الموعظة.
قوله :﴿ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴾ أي بشر هؤلاء المتقين الذين يخشون ربهم بالغيب بأن الله غافر لهم ذنوبهم فساترها وأنه مجزيهم حسن الثواب من في الآخرة.
قوله :﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ ﴾ ذلك واحد من المعاني العظيمة المكررة في الكتاب الحكيم التي يؤكد الله فيها على إحياء الموتى، وبعثهم من قبورهم ليلاقوا الحساب يوم القيامة.
أما قوله :﴿ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا ﴾ أي أن الله يحصي عليهم أعمالهم من خير أو شر فيكتبها جميعا.
أما قوله :﴿ وَآَثَارَهُمْ ﴾ أي آثار خطاهم بأرجلهم ؛ فقد روي عن أبي سعد الخدري قال : كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ ﴾ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " إن آثاركم تكتب فلم تنتقلون ؟ " ١
وقيل : تكتب لهم أعمالهم بأنفسهم، وما ترتب عليها من آثار بقيت من بعدهم ؛ فإن الله مجازيهم عنها إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ. وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم : " من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن يُنقَصَ من أوزارهم شيء ".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم اقطع عمله من ثلاث : من علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده ".
قوله :﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ ﴿ وَكُلَّ ﴾، منصوب بفعل مضمر دلَّ عليه الفعل بعده ﴿ أحْصَيْنَاهُ ﴾ والتقدير : وأحصينا كل شيء أحصيناه. والإمام المبين ههنا يراد به أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ وفيه علم الله وعلمه محيط بكل شيء. فما من كائن ولا حدث إلا علمه مسطور في هذا الكتاب. وقيل : المراد بالإمام هنا صحائف الأعمال. وذلك هو كتاب أعمالهم يشهد عليهم بما عملوه من خير أو شر٢.
١ أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٤٥.
٢ تفسير القرطبي ج ١٥ ص ١٠-١٣ وتفسير الرازي ج ٢٦ ص ٤٦ والكشاف ج ٣ ص ٣١٦ وتفسير الطبري ج ٢٢ ص ٩٩-١٠٠.
قوله تعالى :﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ( ١٣ ) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ( ١٤ ) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ( ١٥ ) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ( ١٦ ) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( ١٧ ) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ١٨ ) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴾.
﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً ﴾ أي مثل لهم. وذلك من قولهم : عندي من هذا الضرب كذا. أي من هذا المثال. وهذه الأشياء على ضرب واحد، أي على مثال واحد.
والمعنى : ومَثِّلْ لهؤلاء المشركين يا محمد مثلا مثل أصحاب القرية. و ﴿ أَصْحَابَ ﴾، منصوب على البدل من قوله :﴿ مثلاً ﴾ أو منصوب على أنه مفعول ثان للفعل اضرب١ والمراد بالقرية : أنطاكية ؛ فقد كان فيها ملك ظالم مشرك ؛ إذ كان يعبد الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل فكذبهم هو وقومه المشركون. ومن هؤلاء الرسل اثنان أرسلهما الله إلى أهل أنطاكية فكذبوهما ﴿ فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ﴾ أي قوّيناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث أرسلناه إليهم ﴿ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴾ قال المرسلون لأهل أنطاكية : أرسلنا الله إليكم لهدايتكم، ولإبلاغكم دعوة ربكم، دعوة الحق والتوحيد. لكن المشركين بادروهم بالجحود والتكذيب ؛ إذ ﴿ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾ كيف نؤمن لكم وأنتم بشر كالبشر، ليس لكم مزية علينا تقتضي اختصاصكم بما تزعمونه من النبوة ﴿ وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ لم ينزل الله من وحي على أحد من الناس. ويفهم من ذلك إقرارهم بالألوهية، وإن كانوا ينكرون الرسالة ويكذبون النبيين ويعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى ﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ﴾ أي ما أنتم إلا كَذَبَة فيما تدعونه وتزعمونه من النبوة.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٩٢.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:قوله تعالى :﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ( ١٣ ) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ( ١٤ ) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ( ١٥ ) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ( ١٦ ) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( ١٧ ) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ١٨ ) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴾.
﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً ﴾ أي مثل لهم. وذلك من قولهم : عندي من هذا الضرب كذا. أي من هذا المثال. وهذه الأشياء على ضرب واحد، أي على مثال واحد.
والمعنى : ومَثِّلْ لهؤلاء المشركين يا محمد مثلا مثل أصحاب القرية. و ﴿ أَصْحَابَ ﴾، منصوب على البدل من قوله :﴿ مثلاً ﴾ أو منصوب على أنه مفعول ثان للفعل اضرب١ والمراد بالقرية : أنطاكية ؛ فقد كان فيها ملك ظالم مشرك ؛ إذ كان يعبد الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل فكذبهم هو وقومه المشركون. ومن هؤلاء الرسل اثنان أرسلهما الله إلى أهل أنطاكية فكذبوهما ﴿ فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ﴾ أي قوّيناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث أرسلناه إليهم ﴿ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴾ قال المرسلون لأهل أنطاكية : أرسلنا الله إليكم لهدايتكم، ولإبلاغكم دعوة ربكم، دعوة الحق والتوحيد. لكن المشركين بادروهم بالجحود والتكذيب ؛ إذ ﴿ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾ كيف نؤمن لكم وأنتم بشر كالبشر، ليس لكم مزية علينا تقتضي اختصاصكم بما تزعمونه من النبوة ﴿ وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ لم ينزل الله من وحي على أحد من الناس. ويفهم من ذلك إقرارهم بالألوهية، وإن كانوا ينكرون الرسالة ويكذبون النبيين ويعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى ﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ﴾ أي ما أنتم إلا كَذَبَة فيما تدعونه وتزعمونه من النبوة.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٩٢.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:قوله تعالى :﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ( ١٣ ) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ( ١٤ ) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ( ١٥ ) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ( ١٦ ) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( ١٧ ) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ١٨ ) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴾.
﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً ﴾ أي مثل لهم. وذلك من قولهم : عندي من هذا الضرب كذا. أي من هذا المثال. وهذه الأشياء على ضرب واحد، أي على مثال واحد.
والمعنى : ومَثِّلْ لهؤلاء المشركين يا محمد مثلا مثل أصحاب القرية. و ﴿ أَصْحَابَ ﴾، منصوب على البدل من قوله :﴿ مثلاً ﴾ أو منصوب على أنه مفعول ثان للفعل اضرب١ والمراد بالقرية : أنطاكية ؛ فقد كان فيها ملك ظالم مشرك ؛ إذ كان يعبد الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل فكذبهم هو وقومه المشركون. ومن هؤلاء الرسل اثنان أرسلهما الله إلى أهل أنطاكية فكذبوهما ﴿ فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ﴾ أي قوّيناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث أرسلناه إليهم ﴿ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴾ قال المرسلون لأهل أنطاكية : أرسلنا الله إليكم لهدايتكم، ولإبلاغكم دعوة ربكم، دعوة الحق والتوحيد. لكن المشركين بادروهم بالجحود والتكذيب ؛ إذ ﴿ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾ كيف نؤمن لكم وأنتم بشر كالبشر، ليس لكم مزية علينا تقتضي اختصاصكم بما تزعمونه من النبوة ﴿ وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ لم ينزل الله من وحي على أحد من الناس. ويفهم من ذلك إقرارهم بالألوهية، وإن كانوا ينكرون الرسالة ويكذبون النبيين ويعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى ﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ﴾ أي ما أنتم إلا كَذَبَة فيما تدعونه وتزعمونه من النبوة.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٩٢.

قوله :﴿ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ﴾ استشهد المرسلون بعلم الله على صدقهم فيما جاءوهم به، وأنهم مرسلون من الله إليهم. وذلك تأكيد على حقيقة رسالتهم وصدق ما دعوهم إليه من عقيدة التوحيد وإفراد الله وحده بالإلهية دون غيره من المخاليق.
قوله :﴿ وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ﴾ أي ليس علينا إلا تبليغكم دعوة الله الظاهرة المكشوفة المعززة بالأدلة والحجج والبينات على صدقها وصحتها.
قوله :﴿ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ﴾ ﴿ تَطَيَّرْنَا ﴾ من الطيرة. وهي ما يُتشاءم به من الفأل الرديء١ وأصل التطير التفاؤل بالطير البارح والسانح ثم عم. فقد قال هؤلاء المشركون الضالون لرسلهم لما جاءوهم بدعوة التوحيد : تشاءمنا بكم، جريا على عادة الجاهلين والسفهاء ؛ إذ يتيمنون ( من اليُمن ) بكل شيء قبلته طباعهم ومالت إليه نفوسهم، ويتشاءمون بما لا يوافق أهواءهم وشهواتهم وإن كان مستتبعا للخير فيما بعد. فكانوا بذلك إذا أصابهم بلاء أو نقمة قالوا : هذا بشؤم كذا. وإن أصابهم خير ونعمة، قالوا هذا ببركة كذا. وذلك هو ديدن المغفّلين الواهمين من أهل الضلال في كل زمان إذ يركنون إلى التطير، ويغفلون عن حقيقة القدر المسطور في علم الله، وأنه ما من شيء قلَّ أو كثر، صغر أو كبر إلا وهو مقدور مسطور في كتاب الله٢
قوله :﴿ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ﴾ قالوا لهم متوعدين : لئن لم تكفوا عن مقالتكم وعن دينكم الذي جئتمونا به لنقتلنكم أو لنشتمنكم أو لنطردنكم. والرجم في اللغة معناه القتل والقذف والظن والغيب واللعن والشتم والطرد والرمي بالحجارة فقد هددوهم بقتلهم رجما بالحجارة أو بضربهم بها، أو بطردهم وشتمهم أو غير ذلك من احتمالات الرجم.
قوله :﴿ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أرادوا بالعذاب الأليم التحريق في النار وهو أشد العذاب.
١ القاموس المحيط ص ٥٥٥.
٢ القاموس المحيط ص ١٤٣٥
.

قوله :﴿ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ﴾ ردّت الرسل مقالتهم مجيبين : سبب شؤمكم معكم، وهو كفركم وضلالكم، وليس من قبلنا نحن كما تزعمون بل هو سوء عقيدتكم وفساد أعمالكم.
قوله :﴿ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ ﴾ الهمزة الأولى للاستفهام. والثانية همزة ( إن ) الشرطية. يعني : أئن دعيتم إلى الإسلام، ووعظتم بما في منجاتكم وسعادتكم تطيرتم وتوعدتم. وهذا جواب الشرط المقدر.
قوله :﴿ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴾ بل أنتم متجاوزون الحد في ضلالكم وعصيانكم. ومن هنا أتاكم الشؤم وليس من قبل رسل الله الذين يدعونكم إلى السعادة والسداد والنجاة١.
١ تفسير النسفي ج ٤ ص ٥ وروح المعاني ج ٢٢ ص ٢٢٤-٢٢٥.
قوله تعالى :﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ( ٢٠ ) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ( ٢١ ) وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ٢٢ ) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ ( ٢٣ ) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( ٢٤ ) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴾.
ذكر أهل القرية وهي أنطاكية قد همّوا بقتل الرسل الثلاثة فجاءهم رجل مؤمن من أقصى مواضع المدينة ﴿ يسعى ﴾ أي يعدو عدوا ويسرع الخُطا حرصا على هداية قومه ولكي يذب عن أنبياء الله ويدفع عنهم الأذى والشر.
وما ينبغي الإعباء كثيرا بمعرفة من هو هذا الرجل وما هو اسمه ؛ فقد ذكره الله بصيغة التنكير منونا، وذلك للتعظيم. فكفى بذكره على أنه رجل مؤمن غيور على دين الله وعلى أنبيائه. إذا فزع فزعا مما سمعه أو علم به من تمالؤ قومه على رسل الله فخفَّ مسرعا لاستنقاذهم ولنصح قومه بتصديقهم وعدم إيذائهم. وهو قوله تعالى :﴿ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ( ٢٠ ) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾.
﴿ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ دعا الرجل المؤمن قومه إلى اتباع الرسل الذين لا يسألونهم على التبليغ أجرا ولا غيره من ضروب الجاه والمنزلة. وهو دليل صدقهم وإخلاصهم. فهم إنما يبتغون بذلك هدايتكم وسعادتكم ﴿ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ الجملة في موضع نصب على الحال ؛ أي وهم ثابتون على صراط الله الحق المستقيم وعلى الاهتداء إلى خير الدنيا وسعادة الآخرة.
قوله :﴿ وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ﴾ الأصل في قوله :﴿ وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ ﴾ وما لكم لا تعبدون. فقد صرف الكلام عنهم ليكون ذلك أبلغ في نفوسهم وأشد تأثيرا فيهم١ ؛ إذ تلطف في إرشادهم بما أراهم أنه اختار لهم ما اختاره لنفسه. ثم حذرهم بأس الله وخوَّفهم من شديد عقابه وبقوله :﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي إلى الله مرجعكم فاخشوه واجتنبوا عصيانه ومخالفة أمره فتنجوا.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٢٥٤.
قوله :﴿ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً ﴾ الاستفهام للإنكار، والنفي لاتخاذ جنس الآلهة من دون الله إطلاقا. وفي ذلك من تحميق من يعبد الأصنام ما لا يخفى.
قوله :﴿ إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا ﴾ أي ما تعبدون من آلهة مزعومة فإنها قاصرة عن كل شيء، وهي لا تنفع ولا تضر. ولئن أرادكم الله بضُر فإن آلهتكم هذه لا تغنيكم من عذاب الله شيئا، إذ لا تملك أن تؤدي لكم نفعا أو تدرأ عنكم شيئا منن العذاب إن حلَّ بكم ﴿ وَلا يُنْقِذُونِ ﴾ أي لا تستطيع أصنامكم وآلهتكم الموهومة أن تستنقذكم مما يحيق بكم من البلاء.
قوله :﴿ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ إذا لم أعبد الله وحده واتخذت من دونه آلهة فإني إذا في حيرة واضحة وعمه ظاهر لا يخفى على كل ذي عقل سليم.
قوله :﴿ إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴾ صَدَعَ الرجل المؤمن بالحق ولم يخش فيه لومة لائم ؛ إذ جهر بالإيمان وكلمة التوحيد والإخلاص ظاهرة مكشوفة، معلنا أنه قد آمن بالله وحده لا شريك له ﴿ فَاسْمَعُونِ ﴾ أي فاسمعوا قولي ؛ فإني لا أبالي يما يحيق بي منكم مما تبتغونه لي من مكروه. وقيل : أراد بذلك إغضابهم لينشغلوا به عن الرسل كيلا يؤذوهم أو يمسوهم بسوء وذلك لما رآهم لم يؤثر فيهم الوعظ والتذكير، وقد عزموا على الإيقاع برسل الله١
١ البحر المحيط ج ٧ ص ٣١٤ وروح المعاني ج ٢٢ ص ٢٢٨.
قوله تعالى :﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ( ٢٦ ) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ( ٢٧ ) *وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ ( ٢٨ ) إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ﴾.
لقد طغى الظالمون المجرمون من أهل أنطاكية فقتلوا ولي الله الذي نصح لهم ودعاهم إلى عقيدة التوحيد مبتغيا بذلك سعادتهم ونجاتهم وصلاح حالهم. قتلوه رحمه الله فكان جزاؤه عند الله عظيما ؛ إذ أدخله الجنة وهو قوله تعالى له :﴿ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ﴾ فلما عاين نعيمها وما فيها من أوجه الخير والرخاء والهناء والسعادة قال ﴿ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ( ٢٦ ) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ﴾.
﴿ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ﴾ ﴿ بِمَا غَفَرَ لِي ﴾ ما مصدرية ؛ أي يعملون بغفران ربي١. فبعد أن رأى ما أعدّه الله له من جزيل النعم وحسن الثواب وعظيم الكرامة في الجنة، تمنى أن يعلمَ قومه بما أسبغ الله عليه من هذه النعم ؛ ليحملهم ذلك على التوبة والطاعة ومجانبة الكفر والإشراك بالله.
وذلك يشير إلى مبلغ إخلاص هذا المؤمن وحسن سيرته وقصده ؛ إذ تمنى لهم الهداية والنجاة بعد قتلهم له، والتحاقه بالرفيق الأعلى، مثل تمنيه لهم في الدنيا من الإيمان والطاعة والاستقامة. وذلك هو شأن المؤمنين الذين يدعون الناس إلى منهج الإسلام ؛ فإنهم يبتغون للبشرية الهداية والتوفيق والسعادة في الدارين ويتمنون لهم كل وجوه الخير والسلامة والنجاة، لا يبتغون بذلك من أحد ثناءً ولا شكورا إلا الجزاء الكريم من الله.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٢٥٦.
قوله :﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ ما : نافية، وذلك إخبار من الله – عز وعلا – أنه قد انتقم لعبده المؤمن من هؤلاء الطغاة الظالمين، الذين كذبوا رسله وقتلوا وليه. وأخبر أيضا أنه لم ينزل عليهم ملائكته من السماء لإهلاكهم وتدميرهم ؛ فقد اقتضت حكمة الله البالغة أن يعذب مختلف الأمم من المشركين بمختلف الوجوه من العذاب. وقد أخذ الله هؤلاء المجرمين من أهل أنطاكية بالصيحة، وهو قوله : تعالى :﴿ إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾.
﴿ إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾ أي : صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة واحدة فأخذهم الله بها أخذا شديدا، ﴿ فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ﴾ من الخمود. كنّى به عن سكوتهم بعد حياتهم، كالنار تخمد بعد توقدها. كذلك يأخذ الله الظالمين المجرمين الذين يحادون الله ورسوله، ويتمالئون على الإسلام لاجتثاثه من الأذهان والقلوب، أو يأتمرون بالمسلمين ليبيدوهم إبادة أو يقتّلوهم تقتيلا. وليس الله بغافل عن أفاعيل الظالمين المجرمين ظ، ولكنه يُملي لهم ويمدُّ لهم من وجوه الخير والمنعة والسلطان والملذات ما يتنعّمون به، ويتيهون خيلاء وغرورا، حتى إذا حان القدر، وحق عليهم القول بالعذاب أخذهم الله شر أخده، كما فعل بأهل أنطاكية. وفي ذلك تخويف لمشركي قريش وتلويح لهم بالانتقام والعقاب الأليم، إنْ لم يبادروا بالإيمان والطاعة والتحرر من إسار الوثنية والضلال. ١
١ البحر المحيط ج ٧ ص ٣١٧-٣١٨ وتفسير ابن كثير ص ٥٦٨-٥٦٩.
قوله تعالى :﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٣٠ ) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ( ٣١ ) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾ الحسرة : شدة الندم والتحسُّر : بمعنى التلهف.
والتحسير معناه : الإيقاع في الحسرة١. وحسرة منصوبة على المصدر، والمنادى محذوف، وتقديره : يا هؤلاء تحسَّروا حسرة٢ وهذا نداء للحسرة على هؤلاء الظالمين الخاسرين فهم كأنهم أحقّاءُ بأن يَتَحسَّر عليهم المتحسِّرون، ويتلهّف عليهم المتلهفون لما يصيرون إليه من شديد الوبال وسوء المآل.
قوله :﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ الظالمون الخاسرون أحقاء بالتحسُّر عليهم بما ضيعوا من أمر الله وبما فرَّطوا في جنبه. ويدل على تقصيرهم الشديد، وتفريطهم البالغ أنهم ما كان يأتيهم من رسول يدعوهم إلى الهدى إلا سخروا منه وأذوه وكادوا له أشد الكيد.
١ القاموس المحيط ص ٤٨٠.
٢ الدر المصون ج ٩ ص ٢٥٩.
قوله :﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ﴾ ﴿ كمْ ﴾ ههنا خبرية، فهي مفعول به للفعل ﴿ أَهْلَكْنَا ﴾. والتقدير : كثيرا من القرون أهلكنا. وقوله :﴿ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ﴾ بدل من قوله :﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا ﴾ ١
والمعنى : ألم ير هؤلاء المشركون كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم. فقد زعم كثير من جهلة العرب المشركين أنهم راجعون إلى الدنيا. فردَّ الله مقالتهم وافتراءهم بهذه الآية ليبين لهم أنهم ليس لهم أيما كرَّةٍ أو رجعة إلى هذه الدنيا، وإنما هم راجعون إلى الله يوم القيامة حيث الحساب والجزاء.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٢٦٠.
قوله :﴿ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾ ﴿ إنْ ﴾، نافية، و ﴿ لمّا ﴾، بالتشديد بمعنى : إلا، و ﴿ كلٌّ ﴾ مبتدأ، وخبره ﴿ جَمِيعٌ ﴾، و ﴿ مُحْضَرُونَ ﴾ خبر ثان١.
والمعنى : ما كلٌّ إلا جميع لدينا محضرون. أي : محشورون مجموعون للحساب.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٢٦٤.
قوله تعالى :﴿ وََآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ( ٣٣ ) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ( ٣٤ ) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ ( ٣٥ ) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ﴾.
﴿ وََآَيَةٌ ﴾ مبتدأ، وخبره ﴿ لهم ﴾ ويجوز أن تكون ﴿ وآية ﴾ مبتدأ، و ﴿ لهم ﴾ صفتها. وخبرها ﴿ الأرض ﴾ والآية بمعنى : الدلالة. فتلك دلالة لهم على وجود الصانع جل جلاله، وعلى قدرته العظيمة وأنه محيي الموتى. وهي ﴿ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا ﴾ الأرض اليابسة القفر يأتيها المطر من السماء فتسري فيها الحياة بإنبات النبات على اختلاف أصنافه.
قوله :﴿ وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴾ : أخرج الله من النبات حبّا مختلف الأنواع والألوان والطعوم، ليكون ذلك رزقا لهم فمنه يأكلون، وتأكل منه أنعامهم.
قوله :﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ : جعل الله في الأرض بساتين فيها من أصناف الثمرات كالنخيل والأعناب وغيرهما بعد أن كانت الأرض مجدبة مقفرة ﴿ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ﴾ أي : جعلنا فيها أنهارا جارية سائحة ﴿ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ﴾.
﴿ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ﴾ الضمير في ثمره، عائد إلى الله، فهو مالك الخيرات والثمرات وكل شيء، فقد أنبت الله لهم ذلك ليأكلوا مما خلقه لهم من نعيم الزرع والثمر. وقيل : الضمير عائد على النخيل ؛ لأنه أقرب مذكور. وقيل : عائد على جنات.
قوله :﴿ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ﴾ ما : اسم موصول ؛ أي ومن الذي عملته أيديهم من الغرس والحصاد والقطاف والمعاجلة.
وقيل : ما، هنا نافية ؛ أي : لم يعملوه هم، بل الفاعل له هو الله تعالى١.
قوله :﴿ أَفَلا يَشْكُرُونَ ﴾ ذلك تحضيض لهم من الله تعالى على شكر أنعُمه.
والمعنى : فهلا يشكرون الله على ما امتنَّ به عليهم من هذه النعم الكثيرة المختلفة التي تزجي بالدليل الظاهر الساطع على أن الله حق وأنه خالق كل شيء ؟
١ الدر المصون ج ٩ ص ٢٦٧-٢٦٨.
قوله :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ﴾ : تجلّى الله في عليائه وكماله وتنزه في جلال قدْره عن النقائص والعيوب ؛ فقد خلق الأصناف جميعا مما تنبته الأرض من الزروع والثمار والأشجار على اختلاف أصنافها ﴿ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ أي : وخلق الأولاد من أنفسهم ؛ ذكورا وإناثا.
قوله :﴿ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ﴾ أي : وخلق الله من أصناف الخلائق والأحياء ما لم تطّلعوا عليه ولم تتوصلوا إلى معرفته مما يستكنّ في جوف الأرض وفي أعماق البحار. ١
١ تفسير النسفي ج ٤ ص ٧-٨ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٧ والبحر المحيط ج ٧ ص ٣٢٠-٣٢١.
قوله :﴿ وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ( ٣٧ ) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( ٣٨ ) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ( ٣٩ ) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾.
هذه جملة بينات كبريات، ودلائل عظيمات على وجود الصانع العليم المقتدر. وهي آيات من الكون والطبيعة تزجي بالبرهان المستبين على أن الله حق، وأنه موجد الوجود وصانع الأشياء جميعا. يتجلّى ذلك في هذه الآيات القليلة ذات النظْم الرصين المعجز في عظيم إيقاعه وبالغ تأثيره، وفي مضمونه العجيب مما انطوى عليه من حقائق كونية ما كانت تتصوره الأذهان الماضية ولا كانت تحلم به الأمم الخالية. لكن القرآن سبق الأجيال والأدهار والأذهان وسائر التصورات في التنبيه على مثل هذه الحقائق العظيمة المركوزة في سن هذا الكون الحافل المنتظم، الكون المعمور الرتيب. لا جرم أن القرآن معجز، وأنه من لدن إله قادر حكيم.
قوله :﴿ وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ﴾ ﴿ نَسْلَخُ ﴾، استعارة بديعة ؛ شبَّه فيها انكشاف ظلمة الليل بكشط الجلد عن الشاة١، والسلخ معناه الكشط والنزع. سلخ الله الليل من النهار ؛ أي استله فانسلخ. ٢
والمعنى : وعلامة لهم على عظمة الصانع الحكيم، أنه يخرج النهار من الليل إخراجا حتى لا يبقى مع شيء من ضوء النهار. وذلك كبيت بسراج فإذا غاب السراج أو انطفأ أظلم البيت.
وقوله :﴿ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ﴾ أي : داخلون في الظلام. نقول : أعتمنا وأسحرنا، يعني دخلنا في العتمة وفي السَّحَر.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٢٦٩.
٢ القاموس المحيط ص ٣٢٣.
قوله :﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ﴾ اللام بمعنى إلى. يعني إلى مستقر لها وفي قراءة بعضهم ( إلى مستقر ) ١ والمراد : مستقر الشمس المكاني وهو تحت العرش، إذ تخرّ الشمس ساجدة لله في كل ليلة بعد غروبها. وقيل : المراد بمستقرها : منتهى سيرها وذلك يوم القيامة ؛ إذ ينقطع جريها وتسكن حركتها وتكوَّر ثم ينتهي هذا العالم إلى غايته. وهذا هو مستقرها الزماني.
قوله :﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ الإشارة بذلك عائدة إلى جري الشمس ؛ أي ذلك الجري على ذلك التقدير المحكم والحساب الدقيق، المنضبط الذي لا يتخلف ولا يتبدل ﴿ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ ﴿ العزيز ﴾، أي القوي القاهر الذي يغلب بقدرته كل شيء. وهو سبحانه محيط علمه بكل شيء.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٢٦٩.
قوله :﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ﴾ ﴿ القمر ﴾ منصوب على الاشتغال. وذلك بفعل يفسره قوله :﴿ قَدَّرْنَاهُ ﴾ و ﴿ مَنَازِلَ ﴾ منصوب على أنه مفعول ثان لقدرناه، بمعنى صيرناه. وقيل : منصوب على الحال١ أي صيرنا القمر ذا منازل. ومنازله ثمانية وعشرون منزلا. ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتجاوزه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستوٍ ليس فيه تفاوت. فإذا كان في آخر منازله دقَّ واستقوس واصفرَّ. ولذلك شبهه بالعرجون القديم وهو قوله :﴿ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴾ ذلك أنه يطلع القمر في أول ليلة من الشهر، ضئيلا قليل النور ثم يأخذ نوره في الازدياد حتى يتكامل في الليلة الرابعة عشرة ثم يأخذ في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير ﴿ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴾ والعرجون عود الشمراخ أو العذق وهو القنو من النخلة، والعنقود من العنب. والمراد به هنا العِذق إذا يبس واعوجّ. وهو من الانعراج، أي الانعطاف٢ قال ابن عباس : العرجون القديم، أصل العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى. وقد شبه به القمر في ثلاثة أشياء وهي : دقته، واستقواسه، واصفراره.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٢٧٠.
٢ القاموس المحيط ص ١١٧١ والدر المصون ج ٩ ص ٢٧١.
قوله :﴿ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ﴾ أي لا يستقيم للشمس ولا يتسهَّل لها ولا يصح أن تلحق القمر فتجتمع معه في وقت واحد، أو تُداخله في مجاله وسلطانه فتطمس نوره ؛ فإن كل واحد منهما له سلطان على حياله فسلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل.
قوله :﴿ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ﴾ لا يسبق الليلُ النهارَ. ويُفهم من ذلك أن الليل مسبوق وليس سابقا. وقيل المراد من الليل هنا سلطان الليل وهو القمر وهو لا يستبق الشمس بالحركة اليومية السريعة، ويُفهم أيضا أنه لا فترة بين الليل والنهار بل كل منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخ. فهما مسخران، دائبين إلى قيام الساعة وحينئذ تفضي الكائنات والأجرام وسائر الخلائق إلى نهايتها المحتومة وهي الفناء والانهيار أو الانقلاب الكوني الشامل.
قوله :﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ ﴿ وكلّ ﴾، أي وكلهم. والتنوين عوض المضاف إليه. والضمير للشموس والأقمار. فإن اختلاف الأحوال يوجب تعددا في الذات. أو للكواكب، أو الليل والنهار والشمس والقمر، فكلهم ﴿ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ أي يسيرون أو يدورون في فلك السماء. وهو مدار النجوم وجمعه أفلاك. والفلك من كل شيء : مستداره ومعظمه. وتفلَّكَ أي استدار. ومنه فَلْكةُ المغزل١ قال ابن عباس وغيره من السلف : كل يدور في فلِكةٍ كفلكة المغزل٢.
هذه دلائل ظاهرة وآيات بينات تشهد بأن هذا القرآن حق وأنه معجز فلا يقوى على معارضته بشر. وهو بما حواه من مثل هذه الحقائق الكونية التي ما كانت الأذهان في غابر الأزمان لتتصورها – يكشف إعجازه البالغ وعن سمو مستواه الرفيع الذي يفوق الأزمان والأذهان والأحوال. إن هذه الآيات العظيمة التي تتجلى فيها مَزِيَّة الجِدّةِ والنضارة والنصوع وانتفاء البِلى والخُلوق حتى لكأنما أُنزلت الساعة – لهي دليل مجلجل على أن القرآن منزل من لدن إله مقتدر حكيم.
١ القاموس المحيط ص ١٢٢٧.
٢ تفسير النسفي ج ٤ ص ٨-٩ وتفسير البيضاوي ص ٥٨٥ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٧٣.
قوله تعالى :﴿ وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ( ٤١ ) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ( ٤٢ ) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ( ٤٣ ) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴾.
﴿ وَآَيَةٌ ﴾ خبر مقدم للمبتدأ ﴿ أَنَّا حَمَلْنَا ﴾ ١ وهذا دليل آخر من ظواهر الطبيعة ومكوِّناتها، يسوقه الله لعباده مبينا عظيم قدرته، وهو تسخيره البحر ليحمل على ظهره السفائن المشحونة بالبضائع والأمتعة والأناسي. وقد كان أول السفائن سفينة نوح عليه السلام، التي أنجاه الله فيها وأنجى الذين معه من المؤمنين، وهو قوله :﴿ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ والمراد بذريتهم آباؤهم المحمولون في سفينة نوح عليه السلام. وقيل : ذريات جنسهم، على حذف مضاف. وأريد بالذرية كل محتاج للركوب غير مطيق للمشي. وبذلك يمنُّ الله على عباده بما يسَّرهُ لهم من ركوب السفن التي تجري على سطح الماء بقدرته سبحانه ؛ وذلك فضل عظيم من الله خوَّل عباده إياه تسهيلا لهم وتيسيرا عليهم في التنقل والأسفار إلى بلاد الله الواسعة من أجل التجارات أو الزيارات أو غير ذلك من مختلف الحاجات.
قوله :﴿ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾ أي السفن الحافلة بالناس والموقرة بمختلف الأمتعة والأشياء.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٢٧١.
قوله :﴿ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ أي خلقنا لهم سفنا من مثل سفينة نوح ليركبوها. وقيل : المراد بذلك سفن البر من الإبل وغيرها من البهائم مما يركبونها ويحملون عليها أثقالهم وأمتعتهم.
ويستفاد من عدم تخصيص المراد بالسفن البر والبحر، أن يتسع المراد ب ﴿ مثله ﴾ ليعم كل أنواع الحوافل التي تمخر البحار، أو تقطع البراري والأمصار أو تجوب أجواز الفضاء. كل ذلك من فضل الله ومن تيسيره لعباده ؛ إذ سخَّر لهم صناعة ذلك. والله تعالى أعلم.
قوله :﴿ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ﴾ الصريخ، المغيث١. أي إن يشأ الله إغراق السفن ومن عليها في البحر فإنه لا راد لمشيئته ؛ إذْ لا ينفعهم معين ولا مجير. وهو قوله :﴿ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ﴾ أي لا مغيث لهم ولا إغاثة ﴿ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ﴾ ليس من أحد يستنقذهم أو ينجيهم من الغرق ﴿ إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا ﴾
١ القاموس المحيط ص ٣٢٦.
﴿ إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا ﴾ ﴿ رحمةً ﴾ منصوب على أنه مفعول له، وهو استثناء منقطع، وقيل : منصوب على المصدر بفعل مقدر ؛ أي : إلا برحمة. وكذلك ﴿ ومتاعا ﴾ ١.
والمعنى : إذا ركبوا البحر أحاطت بهم أهواله وأخطاره فإنهم لا ينجون من الغرق إلا لرحمة ما ﴿ وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴾ أي : وليتمتعوا بالحياة إلى انقضاء الأجل٢.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٢٧٢.
٢ البحر المحيط ج ٧ ص ٣٢٤ وتفسير النسفي ج ٤ ص ٩.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٤٥ ) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( ٤٦ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾.
ذلك إخبار من الله عن إعراض المشركين وعن تماديهم في الكفر والضلال وما كانوا عليه من العُتوّ والتمرد. وهو قوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ ﴾ أي إذا قيل لهؤلاء المشركين الضالين : اتقوا ما حلّ بالأمم السابقة من أنواع العقاب وما أعده الله لكم من عذاب أليم منتظر ينزل بكم يوم تقوم الساعة بسبب شرككم وعصيانكم. وقيل : المراد نوازل السماء ونوائب الأرض. والأظهر عموم أنواع البلاء من الله سواء في الدنيا أو في الآخرة. فإن – الله عز وعلا – يخوفهم عقابه في كل الأحوال ويحذرهم سوء المصير يوم القيامة إذا لم يتعظوا ويزدجروا.
قوله :﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ أي اتقوا الله واعبدوه وحده وأطيعوه واجتنبوا معصيته ومخالفة أمره لعله يرحمكم برحمته الواسعة فينجيكم من نوازل الدنيا وأهوال يوم القيامة.
والظاهر أنهم لجوا في الإعراض والضلالة ولم ينتهوا عن الكفر والباطل. ويفهم ذلك من قوله :﴿ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾.
﴿ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾ أي : ما تأتيهم آية منزلة من عند الله فيها خيرهم وهدايتهم وصلاحهم إلا بادروا بالإعراض والجحود والمخالفة. فكأن دأبُهم أن يُعرضوا عن كل آية تأتيهم.
قوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾ إذا أمر المؤمنون المشركين بالإنفاق من أموالهم على الفقراء والمحتاجين، بخلوا واستنكفوا، وأجابوا – وهم يُغلِّفُ قلوبهم الشحُّ واللؤم والخسة وقَسْوةُ الطبع – قائلين ﴿ أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ ﴾ أي أنعطي من حرمه الله. فلو شاء الله لأعطاهم من رزقه فلأغناهم عن صدقتنا وإنفاقنا. فكيف نعطي من لم يعطه الله ؟. وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : كان بمكة زنادقة فإذا أُمروا بالصدقة على المساكين قالوا : لا والله، أيُفقرهُ الله ونطعمه نحن ؟.
قوله :﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ ذلك من جملة جوابهم للمؤمنين ؛ إذ قالوا : ما أنتم إلا في ضلال ظاهر مكشوف إذ تأمروننا أن نخالف مشيئة الله في إفقار هؤلاء. وقيل : ذلك من قول الله لهم. وهو أنكم بشُحّكم وضَنّكم بالتصدق والإنفاق على الفقراء فإنكم تائهون في الباطل، بعيدون عن الحق والسداد. والمعنى الأول أظهر لموافقته السياق١.
١ تفسير النسفي ج ٤ ص ٩ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٧٤.
قوله تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( ٤٨ ) مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ( ٤٩ ) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴾.
يحكي الله ما يقوله المشركون مستهزئين مستعجلين الوعد بالبعث وقيام الساعة وهو قولهم ﴿ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي : متى تقوم الساعة التي تتوعدوننا بها، أو متى هذا العذاب الذي تخوفوننا منه ﴿ إن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي صادقين فيما تقولونه وتزعمونه. وهم يخاطبون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التكذيب والاستسخار والتهكم.
قوله :﴿ مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾ وهذا جواب من الله لهم فيه وعيد لهم وتهديد ؛ أي وما ينتظرون إلا صيحة واحدة، وهي النفخة الأولى، وهي نفخة الفزع ؛ إذ ينفخ الملك العظيم في الصور نفخة الفزع الأكبر والناس في أسواقهم ومعايشهم وتجاراتهم يختصمون ويتشاجرون في أموالهم ومصالحهم. نواكل ذ
وقيل : هذه نفخة الصَّعْق ؛ إذ يهلك الناس والأحياء جميعا ولم يبق إلا الله الواحد القهار. ويعزز الله هذا قوله تعالى :﴿ تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ﴾ أي تهلكهم صرعى وهم يخصم بعضهم بعضا في معاملاتهم وبياعاتهم.
قوله :﴿ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ﴾ لا يملكون التوصية بشيء ؛ فهم مشغولون بما دهمهم من فزع فظيع مرعب، أو صَعْق أفضى إلى الموت والخمود.
قوله :﴿ وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴾ لا يستطيعون الرجوع إلى منازلهم بل إن الموت قد غشيهم بمجرد النفخة الرعيبة ليظلوا جاثمين في قبورهم حتى تؤزهم نفخة البعث للقيام. فنسأل الله النجاة.
قوله تعالى :﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ( ٥١ ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ( ٥٢ ) إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( ٥٣ ) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
الصور معناه البوق أو القرْن الذي ينفخ فيه إسرافيل إيذانا بالبعث وقيام الساعة. و ﴿ الْأَجْدَاثِ ﴾ جمع جدث وهو القبر. و ﴿ يَنْسِلُونَ ﴾ أي يسرعون١.
الله جل جلاله يخبر عن قيام الساعة عقيب النفخة الثانية أو الأخيرة وهي نفخة الإحياء والبعث، فإذا نفخ إسرافيل في القرن وهو الصور المعَدّ للنفخ أحيا الله العباد من قبورهم ﴿ يَنْسِلُونَ ﴾ أي يعْدون مسرعي لمواجهة الحساب في يوم حافل رعيب مشهود، يجمع الله فيه الخلائق وقد غشيهم من الذعر والفزع والجزع ما غشيهم. وفي هذا الحال من الدهش والذهول والحيرة. يتساءل الناس قائلين ﴿ يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ﴾.
١ القاموس المحيط ص ١٣٧٢.
﴿ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ﴾ المرقد : مصدر، أي من رقادنا. وهو استعارة عن مضجع البيت، أي ينادون حائرين مذعورين مدهوشين : يا ويلنا من أنشرنا من قبورنا بعد أن كنا فيها رفاتا. ﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾ ذلك من كلام الملائكة لهم أو المتقين، أو الكافرين ؛ إذ يتذكَّرون ما كانوا سمعوه من الرسل فيجيب بعضهم بعضا بذلك. و ﴿ هذا ﴾، مبتدأ، وخبره ما بعده. و ﴿ ما ﴾ مصدرية. والمعنى : هذا وعدُ الرحمن والذي صدق فيه المرسلون.
قوله :﴿ إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾ أي ما كانت هذه النفخة الأخيرة إلا صيحة واحدة يصيحها إسرافيل في الصور فإذا العباد كلهم مجموعون محشورون لرب العالمين ليلاقوا الحساب.
قوله :﴿ فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ﴾ اليوم منصوب على الظرفية. واليوم هو يوم القيامة. و ﴿ شيئا ﴾ مفعول به ثان١ والخطاب من الله للعالمين وهو أهم لا يصيبهم ظلم في هذا اليوم المشهود ﴿ وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ لا يُجازى العباد إلا بما قدموه من أعمال، فإن خيرا فخير، وإن شرا فشرٌّ. ولا يظلم الله أحدا من العالمين٢.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٢٧٦.
٢ تفسير النسفي ج ٤ ص ١٠ وتفسير البيضاوي ٥٨٦.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ( ٥٥ ) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ( ٥٦ ) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ( ٥٧ ) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾.
﴿ فِي شُغُلٍ ﴾ خبر إن. و ﴿ فَاكِهُونَ ﴾ خبر ثان. و ﴿ فَاكِهُونَ ﴾ أي طربون فرحو متنعمون بأنواع اللذائذ والطيبات. والفاكه والفكه بمعنى المتلذذ المتنعم١.
الله جل جلاله يصف حال المؤمنين الذين ارتحلوا عن أرض المحشر حيث الأهوال والعرصات الشداد. فقد فازوا بمرضاة الله وحسن جزائه بدخولهم جنات النعيم ؛ فهم حينئذ في روضات الجنات في شغل عما فيه أهل النار. أو شغلهم النعيم عن كل ما يخطر بالبال فهم مشغولون بالبهجة والنعيم المقيم. وهم فيه ﴿ فَاكِهُونَ ﴾ أي مبتهجون محبورون متنعمون.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٢٧٧.
قوله :﴿ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ﴾ ﴿ هم ﴾ في موضع مبتدأ، و ﴿ أَزْوَاجُهُمْ ﴾ معطوف عليه. وفي ﴿ فِي ظِلالٍ ﴾ خبره. أو ﴿ مُتَّكِئُونَ ﴾ خبره١ و ﴿ الأرائك ﴾ جمع أريكة وهي السرير. وذلك وصف من الله للنعيم الذي يقيم في المؤمنون وأزواجهم ؛ فهم جميعا مبتهجون سعداء في ظلال الجنة حيث الأرائك التي يتكئون عليها وغير ذلك من أسباب السعادة والرخاء والاستقرار ﴿ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ﴾
١ الدر امصون ج ٩ ص ٢٧٧.
﴿ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ﴾ يتلذذون بنعيم الجنة ذات الفواكه والثمرات والطيبات ﴿ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ﴾ أي لهم في الجنة كل ما يطلبونه ويتمنون من أصناف الملذات والخيرات.
قوله :﴿ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ ﴿ سلام ﴾، بدل من قوله :﴿ مَا يَدَّعُونَ ﴾ وقيل : خبر لمبتدأ مضمر، أي هو سلام. و ﴿ قوْلاً ﴾، منصوب على أنه مصدر يُسلِّمون سلام. وقيل : منصوب على الاختصاص١.
والمعنى : أن الله جل جلاله يسلِّم على أهل الجنة بواسطة الملائكة أو يسلم عليهم من غير واسطة، تعظيما لهم وتكريما. قال ابن عباس : الملائكة يدخلون على أهل الجنة بالتحية من رب العالمين٢.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٢٧٩-٢٨٠.
٢ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٧٦ وتفسير النسفي ج ٤ ص ١١.
قوله تعالى :﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ( ٥٩ ) * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( ٦٠ ) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( ٦١ ) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ﴾
يخبر الله عن حال الظالمين الخاسرين يوم القيامة، إذ يصيبهم من المهانة والإذلال والترعيب ما يصيبهم. ثم يأمرهم الله بالانفصال عن المؤمنين ؛ فقد كانوا هم وإياهم مجتمعين في المحشر دون تمييز. وهو قوله :﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴾ أي انفردوا عن المؤمنين وكونوا على حدة. وذلك حين يساق المؤمنون إلى الجنة ويبقى الكافرون وحدهم فيزدادون بذلك ذعرا وخشية ويغشاهم مزيد من اليأس والابتئاس فتتقطع قلوبهم من فرط الذعر والفزع واشتداد الكرب.
قوله :﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ﴾ ذلك تقريع من الله لهؤلاء المجرمين الخاسرين. و ﴿ أَعْهَدْ ﴾ من العهد وهو الوصية. وعهد إليه أي أوصاه. وعهدُ اللهِ إليهم، ما نَصَبَهُ لهم من الحجج العقلية والسمعية التي تأمر بعبادته دون سواه، والزاجرة عن عبادة الشيطان ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ الشيطان عدو للإنسان، سواء في ذلك شيطان الجن وهو الكائن الخفي المستور الذي لا يراه البشر بحاسة البصر. وهو كائن شقي آيِسٌ من فضل الله، مبعد من رحمته. وهو على الدوام يوحي للإنسان بوساوسه الخفية فيزيّن له الكفر والمعاصي. وكذلك شيطا الإنس وهو كنود ومنكود وأثيم يجهدُ بغير انقطاع منن أجل إضلال الإنسان وإفساده فيزين له الشرك وفعل المنكرات والرذائل.
وينفِّرُه تنفيرا من الإيمان الصحيح وفعل الصالحات لينأى به بذلك عن الهداية والاستقامة والخير فيبوء معه بالخسران ثم يهويان معا في جهنم. لا جرم أن الشيطان على اختلاف صوره عدو ماكر وخبيث للإنسان وهو ظاهر مستبين يعرفه كل ذي عقل.
قوله :﴿ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ ﴿ وَأَنِ اعْبُدُونِي ﴾ معطوف على قوله :﴿ أَنْ لا تَعْبُدُوا ﴾ أي أطيعوني فيما أمرتكم به من توحيدي في العبادة، وإفرادي بالألوهية والربوبية، واجتنبوا ما نهيتكم عن فعله من المناهي ﴿ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ الإشارة، ﴿ هذا ﴾ عائدة إلى ما عهد الله إليهم، أو إلى عبادته. فهذا طريق الله القويم الحق وما دون من السبل فهو الزيغ والاعوجاج.
قوله :﴿ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا ﴾ الجبل والجبلة، بكسرين وتشديد، بمعنى الجماعة أو الأمة من الناس١
لقد أغوى الشيطان خلْقا عظيما من ذرية آدم، إذْ أضلهم واجتالهم عن دين الله وأفسدهم أيَّما إفساد. وذلك بمختلف أساليبه من الإيحاءات والوسوسات وكل أسباب الفتة والإغراء والإغواء والتغرير والخداع.
قوله :﴿ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ﴾ استفهام توبيخ وتقريع ؛ أي أفلم تنتفعوا بعقولكم ؛ إذْ خوَّلكم الله إياها لتكشفوا عن وجه الصواب وتميزوا بين الحق والباطل.
١ القاموس المحيط ص ١٢٥٩.
قوله تعالى :﴿ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( ٦٣ ) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( ٦٤ ) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( ٦٥ ) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ( ٦٦ ) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ﴾.
إذا بُرِّزت الجحيم يوم القيامة للمجرمين الخاسرين من الكافرين والمنافقين فنظروا إليها وهي تتوقد وتتأجج مضطرمة مستعرة، حينئذ يخاطبهم الله مقرِّعا موبِّخا زيادة لهم في التنكيل والتعذيب ﴿ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ هذه النار التي وُعدتُموها من قبل وأنتم في الدنيا، وقد حذرناكم بالغ التحذير من أهوالها وويلاتها.
قوله :﴿ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ أي ادخلوا النار بسبب كفركم وعصيانكم وما قارفتموه من الخطايا والمنكرات.
قوله :﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ﴾ ﴿ اليوم ﴾ مصوب على الظرفية ؛ أي في يوم القيامة يساق المجرمون إلى جهنم زُمَرًا ليلاقوا جزاءهم الأليم، فينكرون ما اكتسبوه في الدنيا من المعاصي والآثام فيختم الله على أفواههم فلا تنطق، ثم يستنطق الله جوارحهم بما عملته من سوء الفعال والآثام. وهو قوله :﴿ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ بعد أن ينكر المجرمون ما فعلوه في دنياهم يُنطِقُ الله جوارحهم من الأيدي والأرجل وغيرها لتكشف عما فعلوه واجترحوه ؛ وتلك شهادة من نفس المجرمين ومن أعضائهم وجوارحهم حتى لا تبقى لهم بعد ذلك حجة. وحينئذ يستيقن المجرمون أنهم الأخْسَرون وأنهم الأذلون.
قوله :﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ ﴾ طمسنا : من الطمس، والطُّموس بمعنى الإمِّحاء والدُّروس. ويطمس يعني يمحو. وانطمس : امّحى واندرس. وطمست الشيء أي محوته واستأصلت أثره١.
والمعنى : لو شاء الله لأعمى هؤلاء المجرمين فأذهب أبصارهم ﴿ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ ﴾ أي فاستبقوه إلى الصراط وهو طريقهم الذي اعتادوا أن يسلكوه.
قوله :﴿ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ﴾ أي فكيف يبصرون الطريق وقد ذهبت أبصارهم وعموا.
١ القاموس المحيط ص ٧١٥.
قوله :﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ ﴾ أي لو شاء الله أن يمسخهم بتغيير صورهم أو بجعلهم قردة أو خنازير أو حجارة ﴿ عَلَى مَكَانَتِهِمْ ﴾ أي على مكانهم لمسخناهم في منازلهم وأمكنتهم التي يجترحون فيها المآثم والمنكرات ﴿ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ﴾ أي لم يقدروا على ذهاب أو مجيء. أو ما استطاعوا ذهابا أو رجوعا١
١ تفسير النسفي ج ٤ ص ١١-١٢ وتفسير البيضاوي ص ٥٨٧.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ( ٦٨ ) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ ( ٦٩ ) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾.
﴿ نُنَكِّسْهُ ﴾ من التنكيس وهو القلب. أو جعل الشيء أعلاه أسفله. نكسه، أي قلبه على رأسه. ويقرأ القرآن منكوسا : أي يبتدئ به منن آخره ويختم بالفاتحة، أو من آخر السورة فيقرأها إلى أولها مقلوبا١
ذلك بيان من الله عن بالغ إرادته وعظيم قدرته في الخلق، وهو هنا تنكيس المعمَّر، وهو قلبه وجعله على عكس ما خلقه أولا ؛ وذلك أن الله – عز وعلا – خلق الإنسان ضعيفا في الجسد خُلوا من العقل والفهم والعلم. ثم جعله يمر في أطوار وينتقل من حال إلى حال حتى يبلغ أشده ويستكمل قوته من بسطة الجسم والعقل ثم يأخذ في تنكيسه في الخلق فيأخذ في التناقص والضعف شيئا فشيئا حتى يعود إلى حال شبيهة بحاله في الصبا من حيث الضعف في الجسد وهوان العقل وبساطة الفهم.
إن ذلك كله دليل ظاهر على أن الله – جلا وعلا – هو القوي المقتدر وأنه الصانع الحكيم الذي يفعل ما يشاء. وهو قوله :﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ﴾ أي من نطلْ عمره ﴿ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ﴾ يعني نقلبه فلا يزاد ضعفه في تزايد، وقواه في انتقاص حتى يُفْضي إلى الهرم الشديد ثم الموت المحتوم.
قوله :﴿ أَفَلا يَعْقِلُونَ ﴾ أفلا يتدبرون هذه الظاهرة ليعلموا أن الله قادر على كل شيء، وأنهم مخلوقون للحياة الآخرة وهي دار القرار والبقاء عقب رحيلهم عن هذه الدار وهي دار الزوال والفناء.
١ القاموس المحيط ص ٧٤٦.
قوله :﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ﴾ ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعرا وما يستقيم له ولا يليق به أن يكون كذلك ؛ فأغراض الشعر جلُّها مذموم، كالغزل والهجاء والافتخار ووصف الخمر والعورات وغير ذلك من وجوه الشعر وأغراضه المستهجنة. ولئن جرى على لسانه صلى الله عليه وسلم من الكلام ما كان موزونا فإنما ذلك من جنس كلامه الذي كان يتكلم به على طبيعته من غير صنعة فيه ولا تكلف ولا قصد لوزن. وذلك كما كان يتفق في خطب الناس ورسائلهم ومحاوراتهم في أحاديث موزونة ولا يسميها الناس شعرا. وبذلك فإن فِرية المشركين بأن محمدا صلى الله عليه وسلم شاعر لهي محض باطل وظلم. وهم بذلك إنما يقولون زورا ؛ لأنهم أعرف الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأنه لم يَقْرِض الشعر، ولو تكلف قَََََرْضَه لما استطاع ؛ لأنه غير مطبوع على قرض الشعر ولا الشعر من سجيته أو طبعه. والافتراء عليه بأنه شاعر لا يقل زورا ونكرا عن الافتراء عليه بأنه كاهن وساحر.
أما القرآن العظيم نفسه فهو من حيث النَّظْمُ والمعنى فذو شأن عجيب ومميز ؛ فإنه من حيث النَّظْمْ ليس بالشعر ؛ لأنه في مزايا نظمه وأسلوبه مختلف تماما عن الشعر ذي الكلام الموزون المقفى، وليس القرآن كذلك بل إن القرآن لذو أسلوب خاص ليس له في أصناف الكلام نظير. وما عرفت العربية له مثيلا من قبل ولا من بعد. وفي ذلك يذهب فريق من أقطاب البيان والبلاغة ومصاقع الخطابة والفصاحة من أفذاذ العربية إلى أن القرآن ليس على ضرب من ضروب النظم في لغة العرب. فليس هو بالشعر ولا بالنثر ولا بالسجع ولا بالخطابة ولا بالرسالة. وما يستقيم له شيء من ذلك، إنْ هو إلا القرآن وكفى.
أما القرآن من حيث المعنى فإن فيه من روائع الأغراض والمقاصد، ومن عجائب المعاني والأحكام والعبر ما يستثير الخواطر والأذهان، ويشدَهُ الوجدان والجنان لبالغ حججه ودلالاته، وبما حواه من عظيم المشاهد والأخبار والأسرار والحكم، فأين ذلك كله من الشعر في أغراضه المعلومة من الهجاء والرثاء والإطراء والفخر ووصف النساء والخمر ؟ ! وذلك كله تأويل قوله :﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ﴾ أي لا يستقيم له ولا يليق به ولا يتأتى له إن أراد قرضه. وقد عرفتموه وأخبرتم طبعه ؛ إذ لبث فيكم أربعين سنة فما كان ليقرض الشعر ولا الشعر بمتسهِّل له.
قوله :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ ﴾ أي ليس القرآن إلا عظة بالغة وإرشادا ونورا تهتدون به إلى سواء السبيل ﴿ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ ﴾ أي ليس هو بالشعر ولا غيره من ضروب البيان بل إنه قرآن ظاهر ومعلوم بأسلوبه الخاص ونظمه الفريد، وطريقته المميزة.
قوله :﴿ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ﴾ الضمير في قوله :﴿ لِيُنْذِرَ ﴾ عائد على القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم ١ وعَوْدهُ على القرآن أظهر فهو أقرب مذكور. والقرآن أنزله الله نذيرا لكل ذي عقل وفطنة ؛ فإنما يتعظ به من كان ذا بصر وتأمل فهو الحي. أما معدوم البصيرة والبصر، الذي لا يتدبر ولا يتذكّر ولا يتعظ فإنه أشبهُ بالموتى الذين لا تنفعهم الموعظة ولا تؤزُّهم الذكرى.
قوله :﴿ وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ أي يجب العذاب على المكذبين الغافلين الذين لا يتعظون ولا يتفكرون في آيات الله كأنهم ميتون خامدون٢.
١ الدر المصون ج ٩ ص ٢٨٥.
٢ تفسير المحيط ج ٧ ص ٣٣٠ وتفسير النسفي ج ٤ ص ١٢ وتفسير البيضاوي ص ٥٨٧.
قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ( ٧١ ) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ( ٧٢ ) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ ﴾.
ذلك توبيخ لمشركي قريش والذين على شاكلتهم من الكافرين والمنافقين. وهؤلاء جميعا يقول لهم الله جل جلاله : أو لم يعلم هؤلاء المكذبون الغافلون ما خوَّلناهم من النعم وما مننّا به عليهم من مختلف الأرزاق والمنافع. وهو قوله :﴿ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا ﴾ أي خلقنا لهم مما تولينا إحداثه ولم يقدر غيرنا أن يُحْدِثه ﴿ أَنْعَامًا ﴾ أي خلقنا لهم الأنعام من إبل وبقر وغنم ﴿ فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ﴾ أي خولناهم امتلاكها والتصرف فيها تصرّف الملاك. وقد خصّ الأنعام بالذكر ؛ لأنها كانت جلَّ أموالهم.
قوله :﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ﴾ أي سخرناها لحاجاتهم ومنافعهم وصيرناها منقادة لهم فلا تمتنع منهم. بل لو جاء صغير إلى بعير كبير لأناخه ولو شاء أن يقيمه لأقامه وساقه فهو بذلك مذلل منقاد له.
قوله :﴿ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾ ﴿ رَكُوبُهُمْ ﴾ أي مركوبهم. يعني : من هذه الأنعام ما يصلح للركوب فتحملهم وتحمل أثقالهم في أسفارهم إلى مختلف الجهات. وكذلك يأكلون مما خلق الله لهم من هذه الأنعام. فإن شاءوا نحروا وأكلوا حلالا طيبا.
قوله :﴿ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ﴾ أي ينتفعون من أصوافها وأوبارها وأشعارها فيتخذون منها اللباس والأثاث والزينة وكذلك يشربون من ألبانها شرابا سائغا مستطابا.
قوله :﴿ أَفَلا يَشْكُرُونَ ﴾ يعني أفلا يعبدون الله وحده دون غيره من الأنداد والشركاء، فيذكروا أنعُمَهُ عليم وما منَّ به عليهم من وجوه الرزق والفضل١
١ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٨٠ وتفسير النسفي ج ٤ ص ١٣.
قوله تعالى :﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ( ٧٤ ) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ( ٧٥ ) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾.
ذلك تنديد بالمشركين السفهاء الذي ركبوا الضلالة وسدروا في العماية والتيه وذلك بعبادتهم أصناما جامدة خاوية لا ترى ولا تسمع ولا تفقه، فاتخذوها من دون الله آلهة لهم لتنصرهم إذا حزبتهم الشداد، ولتدرأ عنهم النوازل والنائبات.
قوله :﴿ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ﴾ لا تملك الأصنام نصر أحد ؛ بل لا تقدر أن تدفع عن نفسها الشر والأذى ؛ فهي أعجز وأحقر من اقتدارها على صنع شيء.
قوله :﴿ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ﴾ ما كان يعبده المشركون من أصنام وأوثان، كل أولئك مُحضرون يوم القيامة ليتبرؤوا ممن عبدوهم من الضالين والسفهاء، زيادة في تعذيبهم واستيئاسهم والتنكيل بهم.
قوله :﴿ فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ﴾ أي لا تبتئس ولا تحزن بتكذيبهم وجحودهم ونكولهم عن عقيدة التوحيد.
قوله :﴿ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ ذلك تهديد من الله للضالين المكذبين في كل زمان، مبينا لهم أنهم لا يخفون عليه ؛ بل إنه سبحانه عليم بما يخفونه في قلوبهم من مقاصد السوء ونوايا الشر والظلم. وعليم بما يظهرونه من الأفعال والأقوال، والله جلت قدرته يستوي عنده الباطن والظاهر، والسر والعلن.
قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ( ٧٧ ) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ( ٧٨ ) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ( ٧٩ ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ﴾.
جاء أبيّ بن خلف وفي يده عظم رميم وهو يفُتّهُ ويذروه في الهواء ويقول : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رمّ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم ويبعثك ويدخلك جهنم " فنزلت الآية ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ ﴾ أي من ماء قليل مستقذر خارج من الإحليل وهو قناة النجاسة ﴿ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴾ أي فإذا هو ظاهر الخصومة بالرغم من مهانة أصله وقذارة أوله، ويجترئ على الجحود وإنكار البعث وإحياء الموتى بعد أن صاروا رفاتا، وقد أتى عليهم البلى وهو قوله :﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾.
﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ﴾ المراد بالمثل المضروب، تفتيت العظام. فقد فتّه بيده وذَراهُ في الهواء مستنكرا مكذبا وقد نسي أن خَلْقَهُ من ماء مهين مستقذر لهو أشدُّ هوانا من العظام النَّخِرة البالية، وهو يسأل ﴿ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ الرميم، اسم لما بَلِيَ من العظام ؛ أي يسأل الإنسان الجاحد في تكذيب واستسخار : من ذا الذي يحيي هذه العظام بعد أن رمَّت وصارت رفاتا.
قوله :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ الذي يرد الناس أحياء بعد أن ينشر فيهم أرواحهم فيجمعهم ليوم الحساب، لهو الله جلت قدرته ؛ فإنه خالق قاهر مقتدر لا يعز عليه فعل أي شيء. وهو من صفاته البالغة والخَلْق المطلق، فهو الذي بدأ خلْق الإنسان من طين ثم خلق نسله من ماء مستقذر مستهجن، فهو بكماله وبالغ اقتداره لا يستعصي عليه أن يعيد الإنسان حيا مكتملا بعد أن صار رميما مختلطا بالتراب.
قوله :﴿ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ الله يعلم تفاصيل المخلوقات، ويعلم أجزاءها المتفتتة المبعثرة في ذرات الثرى، ويعلم كيفية خلقها من جديد.
قوله :﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا ﴾ خلق الله الشجر وجعله خضرا ذا نُضْرة وينْعٍ ثم يصير حطبا يابسا توقد به النار. إن هذه الصفة الكامنة في الشجر طبيعة مقدورة فيه، وهي من صنع الله وقدرته، إذْ خلقَ الأشياءَ وما يُجلِّيها من صفات. والصفة المقصودة هنا هي الاشتغال والتوقد أو الاحتراق. وهذه ظاهرة من ظواهر الطبيعة تتجلى فيها قدرة الصانع الحكيم.
وقيل : المراد بذلك شجر المرْخ١ والعفار٢، ينبت في أرض الحجاز فيأتي من أراد قدح نار وليس معه نار فيأخذ منه عودين مثل السِّواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيَسْحَقُ أحدهما الآخر فتتولد النار من بينهما بإذن الله. فمن قدر على جمع الماء والنار في الشجر قادر على إحياء الموتى وبعثهم من جديد.
١ المرْخ: شجر سريع الورْي. أي النار. وهو من شجر النار. انظر القاموس المحيط ص ٣٣٢.
٢ العَفار: شجر يُتخذ منه الزناد. أو تقدح منه النار. انظر القاموس المحيط ص ٥٦٨.
قوله تعالى :﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ( ٨١ ) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( ٨٢ ) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾.
ذلك برهان من الله للمشركين والمرتابين والمنافقين الذين يكذبون بيوم القيامة، وما فيها من بعث للموتى وتلاقيهم في الحشر للحساب. برهان ظاهر ومعقول تعيه القلوب والفِطَر وتستيقنه الأذهان والمدارك. برهان ساطع وميسور لا لبس فيه ولا تعسير ﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ﴾ ومعلوم لكل ذي عقل أن السماوات والأرض شيء عظيم. بل إنهما في غاية السعة والضخامة وذلك بما فيهما وما بينهما من خلائق وكائنات وأشياء لا تحصى عددا. وكذلك ما يشدهما ويجمعهما ويؤلف بينهما من نظام كوني مذهل ونواميس أساسية مركوزة لا تتخلف. كل أولئك يدل على عظمة السماوات والأرض وأن خلقهما يفوق تصور البشر. أفليس الذي خلق ذلك بقادر على خلق الإنسان من جديد، وإعادته كرة ثانية بعد الموت. بل إن خلْقَ الإنسان مرة أخرى وإحياؤه من الرميم والرفات يوم المعاد لهو أهون وأصغر من خلْق هذا الكون الهائل الشامل المديد.
قوله :﴿ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ﴾ ذلك جواب من الله يدفع فيه تخريص الكافرين المكذبين بيوم الدين، ويؤكد فيه قدرته على الإعادة في يوم المعاد. فهو سبحانه ﴿ الْخَلاَّقُ ﴾ صيغة مبالغة لكثرة مخلوقاته ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ عليم بكل شيء وعليم بخلق الكائنات وخلْق الإنسان ولا يفوت علمه من ذلك شيء.
قوله :﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا ﴾ المراد بأمره : شأنه العظيم ؛ فإنه إن أراد أن يخلُق شيئا ﴿ أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ ﴾ أي تكوَّن ﴿ فَيَكُونُ ﴾ أي فيحدث. فأمر الله سبحانه نافذ لا يُرد، وحصول المأمور واقع لا محالة دون امتناع.
قوله :﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ يُنزّه الله نفسه عن سائر العيوب والنقائص فله وحده الكمال وبالغ الجلال. وهو الخلاق المقتدر العليم ﴿ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ ﴿ مَلَكُوتُ ﴾ بمعنى ملك، وزيادة الواو والتاء للمبالغة. مثل رحمة ورحموت، ورهبة ورهبوت، وجبر وجبروت ؛ فالملك والملكوت واحد في المعنى ؛ أي أن الله مالك كل شيء وبيده مقاليد السماوات والأرض. وما من شيء في الكون إلا وهو مملوك لله، مندرج في ملكوته وتحت قهره وسلطانه.
قوله :﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ كل شيء هالك إلى الله الواحد القهار. والناس حين تقوم الساعة صائرون إلى البعث والحشر من بعد ممات فهم جميعا عائدون إلى الله لملاقاة الحساب والجزاء، وحينئذ ينجو المؤمنون المصدقون، ويبوء المكذبون الجاحدون بالوبال والخسران١.
١ تفسير النسفي ج ٤ ص ١٥ وتفسير البيضاوي ص ٥٨٨ والبحر المحيط ج ٧ ص ٣٣٢-٣٣٣.
Icon