هذه السورة مكية، وعدد آياتها أربع وخمسون. وهي سورة عظيمة تمتاز بكثرة ما حوته من صور الوعيد والتهديد والتخويف والتنذير ؛ فهي ما يتدبرها القارئ ويتملاها حتى تأخذه غمرة من الرهبة والادِّكار والوجل، من شدة ما حوته مع بليغ الآيات والعظات والأخبار، وصور التنبيه والتذكير التي تستديم في الذهن والخيال دوام الترقب والخشوع والحذر.
ويشير إلى هذه الحقيقة أبلغ إشارة قصة ذلك العربي القرشي اللسِنِ عتبة بن ربيعة، وهو من أفذاذ البلاغة والبيان ؛ فإنه لدى سماع بضع آيات من مطلع هذه السورة، غشيه من الذهول والفزع ما غشيه حتى مكث ساكتا مضطربا يتلعثم، مع أنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم جاحدا ومنددا ومحذرا. ثم تولى مدبرا مذعورا من هول ما سمع.
وفي السورة، يقص الله عن نبأ قوم عاد، إذ أعرضوا وجحدوا فأخذهم الله بريح قاصف عاصف مدمِّر. وكذلك قوم ثمود الذين ظلموا وطغوا وعقروا ناقة الله فأخذتهم الصيحة والرجفة حتى زلزلوا وهلكوا.
وفي السور إخبار عن شهادة جلود الظالمين الخاسرين، إذ تشهد عليهم بما فعلوه من المعاصي والسيئات، إذ أنطقها الله الذي أنطق كل شيء.
ويبينُ اللهُ لنا في السورة تمالؤ المشركين على كتابه الحكيم باللغو فيه إذا سمعوه يُتلى كيلا يفهموه ولا يتدبروه. إلى غير ذلك من ألوان التبشير والتنذير والتحذير والوعيد والترشيد مما حوته هذه السورة الحافلة العجيبة.
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى :﴿ حم ( ١ ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( ٢ ) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٣ ) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( ٤ ) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾.تتضمن هذه الآيات وما بعدها تقريعا وتوبيخا وتهديدا للمشركين الذين أعرضوا عن عقيدة التوحيد وأدبروا عن سماع القرآن وما فيه من العظات والحجج والشواهد والمعاني. مع أنه كتاب نزل ميسورا مفصلا بلغتهم، يدعوهم إلى الخير وينهاهم عن الشر والظلم والباطل ويبشرهم بخير الدنيا والآخرة ﴿ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾.
وقد روي عن جابر بن عبد الله ( رضي الله عنه ) قال : اجتمعت قريش يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرَّق جماعتنا وشتَّت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ماذا يرد عليه فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة فقالوا : أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أن عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتَ. وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، وإنّا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرَّقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب ؛ حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، والله ما ننظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى. أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فرغت ؟ " قال نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ حم ( ١ ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ حتى بلغ ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ فقال عتبة : حسبك حسبك ما عندهم غير هذا ؟ وفي رواية عن جابر بن عبد الله ؛ إذا ذكر الحديث إلى قوله :﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم فقال أبو جهل : يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمدا أبدا، وقال : والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله تعالى :﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخشيت أن ينزل بكم العذاب.
وأورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق في كتاب السيرة عن محمد بن كعب القرظي قال : حُدِّثتُ أن عتبة بن ربيعة – وكان سيدا – قال يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش، ألا أقوم على محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكفَّ عنا ؟ - وذلك حين أسلم حمزة ( رضي الله عنه ) ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون – فقالوا : بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمهُ. فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قل يا أبا الوليد أسمع ". قال : يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا. وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك. وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده على نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال : " أفرغت يا أبا الوليد ؟ " قال : نعم، قال " فاستمع مني " قال : أفعل، قال :﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ( ١ ) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( ٢ ) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٣ ) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه، فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال : " قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك " فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ؛ فو الله ليكون لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبهُ العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزَّهُ عزكم وكنتم أسعد الناس به. قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ؟ قال : هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم١.
قوله :﴿ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ ﴿ قرآنا ﴾ منصوب على الحال. ويجوز نصبه على المدح. وتقديره : أمدحُ قرآنا عربيا١ والمعنى : أن هذا الكتاب المنزل من عند الله وُضِّحَتْ آياته قرآنا عربيا لقوم عرب يعلمون اللسان العربي فيعجزون عن معارضته. ولو كان غير عربي لما علموه.
قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا القرآن :﴿ قُلُوبُنا غُلْفٌ ﴾ أي في غلاف فهي مغطاة لا يصل إليها كلامك ولا نفقه ما تقول ﴿ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ ﴾ أي صمم، أو ثقل فلا نسمع ما تدعونا إليه، وذلك لفرط كراهيتهم للحق ونفورهم من عقيدة التوحيد.
قوله :﴿ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ أي بيننا وبينك ساتر أو مانع يحول دون تلاقينا أو اجتماعنا معا. والمراد بالحجاب، اختلافهم في الدين، فدينُ رسول الله صلى الله عليه وسلم التوحيد الخالص لله، وإفراد الله وحده بالإلهية والعبادة والإذعان، ودين الكافرين الإشراك بالله واتخاذ الآلهة الموهومة المفتراة أربابا من دون الله.
قوله :﴿ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ أي اعمل على طريقتك ونحن نعمل على طريقتنا. أو اعمل بما يقتضيه دينك فإنا عاملون بما يقتضيه ديننا٢.
٢ تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٣٧-٣٣٨ وتفسير الطبري ج ٢٤ ص ٥٩.
أي قل لهؤلاء المشركين من قومك : إني لست بملك بل أنا بشر من بني آدم فأنا مثلكم في الجنس والصورة ﴿ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ أي أوحى إلي ربي عن طريق الملائكة أنه واحد لا شريك له وأنه المعبود وحده دون سواه من المخاليق ﴿ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ ﴾ أي توجهوا إليه بوجوهكم وقلوبكم ومقاصدكم، بالطاعة والعبادة والدعاء، فهو الخالق المقتدر الموصوف بصفات الكمال فما تنبغي الألوهية إلا لجلاله وحده ﴿ وَاسْتَغْفِرُوهُ ﴾ أي اسألوه أن يغفر لكم خطاياكم وما سلف من شرككم، وأن يعفو عن سيئاتكم ومعاصيكم.
همزة الاستفهام للتوبيخ ؛ فقد أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتوبيخ المشركين والتعجب من فعلهم ؛ إذْ يكفرون بالله البارئ المقتدر الذي ﴿ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ أي تكفرون بالله وهو الإله القادر الذي خلق الأرض في يومين، وهو سبحانه أعلم بحقيقة هذين اليومين من حيث مداهما ومدتهما ﴿ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ﴾ الواو، في قوله :﴿ ويجعلون ﴾ واو الحال من ضمير خلق١. أي وتشركون معه آلة أخرى وهي أنداد مصطنعة وأرباب موهومة، والله وحده خالقهم ومالكهم وبيده مقاليد كل شيء ﴿ ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾.
قوله :﴿ وَبَارَكَ فِيهَا ﴾ أي بارك الله في هذه الأرض ؛ إذ جعلها دائمة الخير والمنافع لأهلها فقد أخرج منها الماء وأنبت فيها الشجر وجعل فيها الهواء والغذاء وكل أسباب العيش والاستقرار.
قوله :﴿ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ﴾ أقواتها تعني أرزاق العباد ومعاشهم وما يصلحهم، وما يقتضيه ذلك من الأمطار والأنهار وصلوح الأرض للسعي والزرع، والمراد بأربعة أيام : أي اليومين الأولين المذكورين وبذلك بارك في الأرض وقدّر فيها أقواتها من الأرزاق والخيرات والمعايش في تتمة أربعة أيام. قال القرطبي مثالا على ذلك : ومثاله، قول القائل : خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وإلى الكوفة في خمسة عشرة يوما. أي في تتمة خمسة عشرة يوما.
قوله :﴿ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ ﴿ سواء ﴾ منصوب على لمصدر بمعنى استواء وتقديره : استوت استواءً، ويقرأ مرفوعا، على أنه خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : هي سواءٌ. والقراءة المشهورة هي النصب. ٢
والمعنى : في أربعة أيام مستوية تامة. وقيل : قدّر أقواتها سواء للمحتاجين. وقيل : خلق الأرض وما فيها لمن سأل ولمن لم يسأل.
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٣٣٧.
قوله :﴿ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ﴾ أمر الله السماء والأرض أن يجيئا بما خلقه فيهما، ﴿ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ﴾، أي طائعين أو مكرهتين، فالسماء تجيء بما خلق فيها من شمس وقمر ونجوم وكواكب، والأرض تجيء بما خلق فيها من خيرات وثمرات ونباتات وأنهار وجبال وسهول ؛ فقد أمرهما الله أن يجيئا بما خلق فيهما من أسباب الرزق والعيش ومن كمال الصورة والهيئة وتمام الاتساق والانسجام طائعتين أو مكرهتين ﴿ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ جمعهما جمع من يعقل ؛ لأنه وصفهما بالقول والطاعة وذلك من صفات من يعقل١ فقد بادرت الأرض والسماء الجواب قائلين ﴿ أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ أي أعطينا طائعين من غير إكراه، أو أتينا أمرك طائعين. والمراد بالقول منهما : ظهور الطاعة منهما ؛ إذ انقادا وامتثلا للأمر فقم ذلك مقام قولهما.
وقيل : كان ذلك قولا منطوقا تكلمتا به بتقدير الله.
قوله :﴿ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ﴾ خلق كل سماء خَلْقَها من الملائكة ومختلف الأجرام من شموس وأقمار وكواكب ونجوم وأفلاك.
قوله :﴿ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ﴾ جعل الله في كل سماء ما يزينها من الكواكب المضيئة التي تفيض عليها بالجمال والبهاء والإشراق ﴿ وَحِفْظًا ﴾ أي وحفظها الله حفظا من الشياطين أن يسترقوا السمع فيستمعوا إلى الملأ الأعلى.
قوله :﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ أي ما تقدم ذكره من جلال الخَلْق وعظمة الصنع والبناء لهو تقدير الله ذي القوة البالغة والاقتدار العظيم الذي يحيط علمه بكل شيء٢.
٢ تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٤٣ وفتح القدير ج ٤ ص ٥٠٧- ٥٠٨ وتفسير الطبري ج ٢٤ ص ٦٤
.
يتوعد الله المشركين الظالمين على لسان رسول الله صلى الله علي وسلم، لئن أعرضوا عما جاءهم به من عند الله من الحق المبين فإنه منتقم منهم أشد انتقام، وهو قوله سبحانه :﴿ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ أي فقد خوفتكم نقمة الله بكم كالذي حلَّ بالأمم السابقة من قبلكم، قوم عاد وثمود أولئك الذين استكبروا وأعرضوا عن دين الله وتولوا جاحدين مدبرين.
قوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ استفهام توبيخ وتعنيف لهؤلاء الضالين المغرورين. أفلا يعلمون أن الله الذي يبارزونه بالعداوة والاستكبار لهو أشد قوة من قوتهم ؛ فهو خالقهم ومالكهم وإن شاء أهلكهم ودمّر عليهم بعد أن تمردوا وولوا معاندين جاحدين بآيات الله وهي دلائله وحججه ومعجزاته.
قوله :﴿ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ دمر الله عليهم بالريح العقيم، أتت عليهم فأهلكوا عن آخرهم.
قوله :﴿ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى ﴾ عذاب الله يوم القيامة أعظم وأنكى وأشد خزيا وإذلالا لهم ﴿ وَهُمْ لاَ يُنْصَرُونَ ﴾ أي ليس لهم في الآخرة من أحد ينصرهم أو يدفع عنهم البلاء وشديد الهوان.
يبين الله للناس في هذه الآيات ما يصير إليه الظالمون المكذبون من سوء العاقبة حيث الأهوال الجسام والنكال الشديد والذل والهوان، ويكشف عن فظاعة ذلك كله بقوله سبحانه :﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ ﴾ أي واذكر لهؤلاء المشركين المكذبين يوم يحشرهم الله ﴿ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ أي ساقون إلى النار ثم يدعون إليها دعّا. أو يُحبس أولهم على آخرهم حتى إذا اجتمعوا وتكامل عددهم بدئوا بإلقائهم في النار، أولهم الكبراء والرؤساء ثم الذين دونهم من المشركين والخاسرين.
قوله :﴿ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ﴾ أي إن يطلبوا الرجوع إلى الدنيا لا يجابوا ولا هم براجعين، والاسم العُتْبى، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يُرضي العاتب، واستعتب وأعتب بمعنى، أي طلب أن يُعْتب، تقول : استعْتَبْتَه فأعْتَبه، أي استرضاه فأرضاه١.
وعلى هذا فإن المعنى ﴿ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا ﴾ أي إن يطلبوا الرضا لم ينفعهم ذلك بل إن مصيرهم إلى النار لا محالة٢.
٢ تفسير الطبري ج ٢٤ ص ٧٠ وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ٩٦-٩٧.
قيض أي أتاح١ والمعنى : أن الله هيأ للكافرين والعصاة قرناءهم الشياطين، أو سلطهم عليهم تسليطا، والمراد بهم شياطين الجن والإنس الذين يفتنون الناس عن دينهم ويُغْرونَهم بكل وجوه الإغراء والفتنة ليضلوهم عن منهج الله وعن سبيله المستقيم.
قوله :﴿ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ أي زينوا لهم الدنيا وما فيها من متاع ولذائد وزخرف فآثروا ذلك على الآخرة، وكذلك زينوا لهم ما بعد الممات ؛ إذ دعوهم إلى التكذيب باليوم الآخر وأنّ من هلك منهم فلن يبعث وأنه لا ثواب ولا عقاب، فصدَّقوهم على ذلك فضلوا وفعلوا الفواحش والمنكرات وتلبَّسوا بالشر والباطل.
وقيل : زينوا لم ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء، وما خلفهم من أمر الدنيا فزينوا لهم أن الدنيا قديمة وأنها لا تفنى ولا تزول.
قوله :﴿ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴾ أي وجب على هؤلاء المشركين المكذبين من العذاب مثل الذي وجب على الأمم السابقة من قبلهم من الكافرين من الجن والإنس أي أنهم داخلون في الكفر مع الذين من قبلهم من مشركي الجن والإنس، فكانوا جميعا في العذاب سواء بسبب كفرهم ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴾ لقد خسروا أنفسهم يوم القيامة فكانوا من الهالكين المعذبين.
لقد كان العرب مستيقنين في أعماقهم أن القرآن معجز وأنهم عاجزون عن معارضته البتة لكنهم بالرغم من ذلك غُلاة في العناد والاستكبار والتكذيب فأبوا إلا التمرد والجحود، ولما كان القرآن قد ملك فيهم القلوب والألباب واستحوذ على مشاعرهم وأذهانهم أيَّما استحواذ، بادروا التمالؤ عليه فيما بينهم بأن لا يسمعوا القرآن وأن يثيروا من حوله التشويش واللغط كيلا يسمعه أحد من العرب فينبهر أو يستجيب، وهو قوله :﴿ لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ ﴾ من اللغو وهو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته، أي صيحُوا لدى سماعه كيلا يدري به أحد. وقيل : تصايحوا بالمكاء ( الصفير ) والتصفيق، والتخليط في الكلام ليصير لغوا. وقيل : أكثروا الكلام لدى سماع القرآن ليختلط على محمد ما يقول، أو عارضوه بكلام لا يفهم.
قال الرازي في ذلك : قال بعضهم لبعض : إذا قرئ وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والأشعار الفاسدة والكلمات الباطلة حتى تخلطوا على القارئ وتشوِّشوا عليه وتغلبوا على قراءته، كانت قريش يوصي بذلك بعضهم بعضا. والمراد، افعلوا عند تلاوة القرآن ما يكون لغوا وباطلا لتخرجوا قراءة القرآن عن أن تصير مفهومة للناس فبهذا الطريق تغلبون محمدا صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ أي لتكونوا أنتم الغالبين فلا يظهر عليكم محمد بقرآنه الذي يستميل القلوب.
أولئك يجازيهم ربهم في مقابلة ذلك أسوأ الجزاء يوم القيامة.
أو خبر لمبتدأ محذوف وتقديره هو النار١ يعني هذا الجزاء الذي يجزون به هو جزاء أعداء الله، ثم بيَّن جزاءهم على أنه النار ﴿ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ ﴾ أي لهؤلاء المشركين المكذبين دار الخلد في النار فهم ماكثون لابثون لا يبرحون ﴿ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ أي فعلنا بهم ما فعلناه من مجازاتهم النار جزاء منا بجحودهم وتكذيبهم بما جاءهم من الآيات والحجج.
ذُكر عن ابن عباس قوله : نزلت هذه الآية الكريمة في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وذلك أن المشركين قالوا ربنا الله، والملائكة بناته، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله فلم يستقيموا. وقال أبو بكر : ربنا الله وحده لا شريك له ومحمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله فاستقام. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي معنى ﴿ اسْتَقَامُوا ﴾ ففي صحيح مسلم عن سفيان ابن عبد الله الثقفي قال : قلت : يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال : " قل : آمنت بالله ثم استقم " وروي عن أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) أنه قال :﴿ ثم استقاموا ﴾ لم يشركوا بالله شيئا. وقيل : استقاموا على أداء فرائضه وأخلصوا له الدين والعمل.
قوله :﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ﴾ أي تتنزل عليهم عند الموت، وقيل : إذا قاموا من قبورهم. وقيل : البشرى للمؤمنين في ثلاثة مواطن : عند الموت، وفي القبر، وعند البعث.
قوله :﴿ أَلاَّ تَخَافُوا ﴾ تقول لهم الملائكة على سبيل البشرى لهم : لا تخافوا الموت. أو لا تخافوا ما أنتم قادمون عليه في الآخرة. أي لا تخافوا ما أمامكم ﴿ وَلاَ تَحْزَنُوا ﴾ على ما بعدكم، أو على ما خلَّفتموه في دنياكم من الأهل والولد والمال، فإنا نخلفكم فيه.
قوله :﴿ وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ تبشرهم الملائكة بما وعدهم الله به في الآخرة من النعيم المقيم في الجنة جزاءً بما عملوا في الدنيا من أوْجُه الطاعة والاستقامة.
٢ تفسير الرازي ج٢٧ ص ١٢٤ وتفسير الطبري ج ٢٤ ص ٧٤ تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٣٥٨..
تتضمن هذه الآية تنديدا بالمشركين الذين تواصوا باللغو في القرآن، وتوبيخا لهم فيقول الله لهم مُوبخا معنِّفا : أي الكلام أحسن من القرآن ؛ وهو الكلام الرباني الفذ الذي يهدي الناس إلى سواء السبيل ويستنقذهم من الضلال والعثار والباطل إلى نور الهداية والاستقامة والحق ؛ إذ قال سبحانه :﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ والمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد دعا الناس إلى دين الحق وعقيدة التوحيد والتبرؤ من الوثنية والأباطيل، وكان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول : هذا رسول الله، هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا والله أحب أهل الأرض إلى الله، وقيل : نزلت في المؤذنين. والصحيح أنها عامة في كل من دعا إلى الله فدعا الناس إلى عبادة ربهم وحده ومجانبة الأنداد والشركاء دونه، والإذعان له بالطاعة والخضوع.
قوله :﴿ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ أي أدى الفرائض وفعل الواجبات والمندوبات واجتنب المحرمات والمحظورات ﴿ وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ أعلن مجاهرا بأنني من المستسلمين لأمر الله، المذعنين له بتمام الخضوع والطاعة، المقرين له بالوحدانية فلا نعبد إلا إياه ولا نذعن لشيء من الملل أو المناهج أو الأناسي سواه، فهو الإله الذي تخرُّ له الجباهُ والنواصي، وتلين له القلوب والمشاعر وتَضْرع إليه البصائر خاشعة متذللة.
قوله :﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ قال ابن عباس : ادفع بحلمك جهل من جهل عليك، وقال : أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم. وعنه أيضا : هو الرجل يسبُّ الرجل فيقول الآخر : إن كنت صادقا فغفر الله لي، وإن كننت كاذبا فغفر الله لك، وروي في الأثر : أن أبا بكر قال ذلك لرجل نال منع شرا. أي عفا عنه وقال له خيرا، وقيل : التي هي أحسن، يعني السلام إذا لقي من يعاديه. وقال ابن العربي : المراد به المصافحة، وفي الأثر : " تصافحوا يذهب الغلُّ " وقد صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا حين قدم من أرض الحبشة. وبذلك فإن المصافحة ثابتة ولا وجه لإنكارها، وقد سئل أنس : هل كانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم. وفي الأثر : من تمام المحبة، الأخذ باليد، ومن حديث محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجرُّ ثوبه، فاعتنقه وقَبَّله.
وعن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبهما بينهما ".
قوله :﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ يعني : بهذا الذي أمرتك به من دفع الإساءة بالعفو والإحسان يصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة، كأنه قريب صديق، وهذه معلومة لا شك فيها، وهي أن العفو والصفح عن المسيء ثم الإحسان إليه يسوقه – طواعية – إلى الندم ومراجعة النفس ليبادر خصمه المودة والملاطفة بعد ضغينة وجفاء، وهذه حقيقة تتجلى ظاهرة مكشوفة في المتخاصمين المتباغضين من الناس إذا بادر أحدهم الآخر، الإحسان والصفح. لا جرم أن الإحسان للآخرين من الخصوم وملاطفتهم بالمودة والرحمة يفجِّر في أعماقهم نوازع الخير التي جُبل عليها الناس، على تفاوت بينهم.
وتلكم هي طبيعة الإنسان المشحونة بنوازع الخير والرحمة والجنوح للندامة والحياء، ظواهر إنسانية كريمة تثيرها وتهيجها بواعث كثيرة وفي طليعتها العفو ومقابلة الإساءة بالإحسان ؛ على أن ذلك يقال في الأسوياء من البشر أولي الطبائع السليمة والفِطر السَّوية المستقيمة، أما الجانحون للخسَّة والإيذاء والشر، أولو الطبائع المعوجة، والفطر المنحرفة السقيمة، والنفوس التي استحوذ عليها الرانُ والشذوذ والانحراف، فإنها أبعد الخلق عن التأثر بالإحسان والاستجابة لخصال اللين والرأفة والتسامح.
وقيل : المراد بالضمير في قوله :﴿ يُلَقَّاهَا ﴾ الجنة.
قوله :﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ أي لا يلقى ذلك إلا من كان ذا نصيب عظيم من الخير والمبرات وسلامة السريرة والفطرة، وقيل : الحظ العظيم معناه الجنة.
قوله :﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ الله يسمع تعوذك من وسوسة الشيطان والتجاءك إليه، وهو سبحانه يعلم بما ينزغه الشيطان في قلوب العباد وما يحدِّث به أنفُسَهم، والله جل وعلا يعصم المستجبرين بالله المستعيذين به من همز الشيطان ومن نفخه ونفثه.
ومن لطيف ما ذكره الإمام ابن كثير رحمه الله في هذا الصدد – وهو يبين أن شيطان الجن لهو أشد بلاء وخطرا على الإنسان من شيطان الإنس – إذْ قال في تأويل هذه الآية : إن شيطان الإنس ربما ينخدع بالإحسان إليه – أي بالحيلة – وأما شيطان الجن فإنه لا حيلة للمرء فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقه الذي سلطه عليك، فإذا استعذت بالله والتجأت إليه كفه عنك ورد كيده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يقول : " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه " ١.
﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ ﴾ في موضع رفع خبر مقدم، و ﴿ الليل ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾ عطف على الليل. ١
يبين الله حججه على خلقه وما ذكره لهم من البراهين الظاهرة الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته وسلطانه وتفرده في الخلق، وهو قوله :﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾ وهاتان آيتان من آيات الله الدالة على عظيم صنعه وعلى قدرته البالغة في الخلْق والتكوين، فالليل بسكونه الصامت الوادع، والنهار وما يدور فيه من أوجه الحركة والجدِّ والنشاط والكسب لتحقيق المصالح والمعايش والحاجات في كل مناحي الحياة، وكذلك الشمس والقمر آيتان أخريان من آيات الله تُزْجي بقاطع الدلالة والبرهان على عظمة الخالق الصانع المقتدر، فالشمس بلهيبها المتأجج المضطرم، وجُرمها الهائل الكبير ذي الحرارة والدفء والضياء، وكذلك القمر هذا الكوكب القريب العجيب الأخّاذ، الكوكب الساطع المشرق السيَّار، الذي يبهر القلوب والألباب بعجيب إشراقه وضيائه وجماله المنسكب على وجه الأرض فيثير فيها البهجة والحبور والإيناس، لا جرم أن ذلك يكشف عن عظمة الصانع الحكيم وعن بالغ قدرته التي تهونُ دونها كل القدرات والطاقات.
قوله :﴿ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ ﴾ لا ينبغي لأحد أن يعبد هذين الجُرمين فيسجد لهما من دون الله اغترارا وضلالا بما أذهله من جمال الصورة وروعة المنظر. لا ينبغي أن تثير هذه الصفات في الناس أيَّما اغترار من فرط الإعجاب فتنفتل قلوبهم وعقولهم عن ذكر الله إلى عبادة هذين الجرمين، فهما ليسا إلا مخلوقين من مخلوقات الله الكثيرة، وما من أحد يستحق العبادة والطاعة والإذعان سوى الله الواحد الخالق، وهو قوله سبحانه :﴿ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ يعني إن كنتم تُخلِصون لله العبادة ولا تشركون في عبادته شيئا، فإن أناسا كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لله فنُهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن لا يسجدوا إلا لله الذي خلق هذه المعبودات المصطنعة وخلق كل شيء. ٢
٢ تفسير الرازي ج ٢٧ ص ١٣٠ وتفسير الطبري ج ٢٤ ص ٧٦.
﴿ يُلْحِدُونَ ﴾ يميلون إلى الحق، من الإلحاد وهو الميل والعدول، ومنه اللحد في القبر وهو الحفر في شق، وألحدَ في دين الله أي أحاد عنه وعدل، ويراد بالملحد المنحرف عن الحق إلى الباطل. ١ وذلك تهديد من الله للمشركين الذين يميلون عن الإيمان بالله ورسوله ويجتنبون عقيدة التوحيد الخالص وُحادُّون الله ورسوله والمؤمنين ويتمالئون على كتاب الله بالتشكيك والتكذيب والتشويش ؛ أولئك يتوعدهم الله بقوله :﴿ لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ﴾ الله يعلمهم، ويعلم كيدهم ومكرهم ؛ إذْ لا يخفى منم أحد على الله الذي لا يخفى عليه شيء، وهو لهم بالمرصاد، ثم أخبر تعالى عما هو فاعل بهم مما تهددهم به من سوء العذاب فقال :﴿ أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ استفهام تقرير ينبِّهُ الله به إلى أن الجاحدين المكذبين الذي يكيدون لدين الله ولكتابه الحكيم صائرون إلى النار ؛ إذ يلقون فيها على وجوههم لينالوا فيها العذاب الأليم، وذلك بخلاف المؤمنين المخبتين الذين استسلموا لأمر الله واخلصوا له الطاعة والعبادة فإنهم يأتون يوم القيامة آمنين مطمئنين فلا يمسهم العذاب ولا هم يحزنون.
على أن المراد بذلك العموم، فالآية تعم سائر المكذبين الجاحدين الذين يُلْحِدُون في آيات الله بالتكذيب والصدِّ والإعراض، وكذلك تعم سائر المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله والتزموا شرع الله ومنهجه العظيم وهو الإسلام.
قوله :﴿ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ﴾ وهذا وعيد آخر لهؤلاء المكذبين الذين يُشاقّون الله ورسوله والمؤمنين ؛ أي اعملوا ما شئتم من سوء الأعمال التي تُفْضِي بكم إلى النار ﴿ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
قوله :﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴾ ذلك تعظيم من الله لقرآنه الكريم ؛ فإنه عزيز على الله، كريم عليه ؛ إذ منعه من كل عابث ماكر خائن أن يصيبه بتغيير أو تبديل أو تحريف. لقد حفظ الله قرآنه من كل عبث أو زيف ؛ فهو باق على حاله من السلامة والنقاء منذ أنزل من السماء حتى زوال الدنيا.
قوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ ﴾ الله غفار للذنوب، فهو يغفر لمن تاب من عباده وأناب إلى الله لا يعبد إلا إياه ﴿ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ﴾ وهو سبحانه يعاقب المجرمين من عباده الذين أبوا إلا النكول والإعراض عن دين الله الحق والتلبس بالشرك والباطل. أولئك عقابهم شديد وجيع١.
أنزل الله القرآن بلغة العرب وجعله في غاية الفصاحة والبلاغة، وفي الذروة السَّامِقة من روعة النظْم وعجيب الأسلوب، فما سمعت به العرب حتى شُدِهُوا شَدْها، وغشيهم من البُهْر والذهول ما غشيهم.
على أن القرآن تتجلى فيه ظواهر الإعجاز المذهل ؛ لكونه عربيّا أنزله الله بلسان العرب فصيح جَليّا ليفهموه ويتدبروه ويعوا ما فيه من الحقائق والأحكام والمعاني. ولو جعله الله أعجميا، أي بلغة غير العرب ﴿ لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ ﴾ أي هلا بُيِّنَتْ آياته فجاء واضحا مستبينا بلغتنا ؛ لأننا عرب لا نفقه الأعجمية.
قوله :﴿ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ﴾ الأعجمي الذي لا يُفصح ولا يبين كلامه سواء كان من العرب أو من غير العرب، نقول استعجم عليه الكلام أي استبهم١ والاستفهام للإنكار، والمعنى : أقرآن أعجمي غير فصيح ولا مفهوم، والذي أنزل إليه عربي ؟
قوله :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ﴾ يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس أن القرآن هداية لهم ليرشدهم إلى الحق ويقودهم على سواء السبيل فينجون به من الشقاء والتعثر والباطل، ويسعدون بالنجاة يوم القيامة.
وكذلك فإن القرآن شفاء للناس، إنه شفاء لهم من كل الأمراض، وهو شفاء للقلوب من الرِّيب والوساوس والظنون والشبهات استبراء لها من الأدران والأمراض والمفاسد على اختلاف أنواعها وظواهرها.
إن القرآن نور إلهي مشعشع يقذفه الله في قلوب عباده المؤمنين، ليستنقذهم به من سائر الأمراض والعقابيل الأليمة والممضَّة. لا جرم أن المؤمنين الذين أخلصوا لله دينهم وأذعنوا له بكل الطاعة والخضوع، يتلذذون بسعادة الأمن والراحة في نفوسهم، وينعمون ببرد السكينة والرضى وهو على الدوام مبرئون من مختلف الأمراض النفسية التي تفتك بالمجتمعات الضالة السادرة في تيهِ الكفر وفي ظلام المادية الجاحدة، المجتمعات التي ما فتئت تتجرع كؤوس المرارة والشقاء والظلم والقلق.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ ﴾ الذين، اسم موصول في محل رفع مبتدأ وخبره، الجملة الاسمية من المبتدأ وخبره وهي ﴿ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ ﴾ ٢ الوقر – بالفتح – معناه : الثقل في الأذن، - وبالكسر – الحمل ٣. والمعنى : أن الجاحدين المكذبين في آذانهم ثقل أو صمم فلا يستمعون هذا القرآن ؛ لأنهم مفرِّطون فيه، معرضون عنه ؛ لسوء طبعهم وفساد فطرتهم وشدة عنادهم ﴿ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ أي أنهم عمي عن هذا القرآن فلا يبصرون ما فيه من دلائل وبينات أو أن قلوبهم عمياء عن هذا القرآن وما فيه من عظيم المعاني ومن ظواهر الإعجاز.
قوله :﴿ أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ يقال ذلك لمن لا يفهم، على سبيل التمثيل. فالذي يفهم يقال له : أنت تسمع من قريب. والذي لا يفهم يقال له : أنت تنادي من بعيد ؛ فهو كأنه ينادي من مكان بعيد منه، لأنه لا يسمع النداء ولا يفهمه، وقيل : من دُعي من مكان بعيد لم يسمع وإن سمع لم يفهم، وذلك حال هؤلاء المكذبين المعرضين عن القرآن.
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٣٤٢.
٣ مختار الصحاح ص ٧٣٢.
قوله :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي لولا ما سبق من قضاء الله وحكمه فيهم بإمهال عذابهم إلى يوم القيامة لعجل الله الفصل بينهم، فأخذهم العذاب.
قوله :﴿ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾ المبطلون الظالمون لم يكن تكذيبهم عن بصيرة منهم وتحقق لما يقولون بل كانوا شاكين فيما قالوه من إنكار وتكذيب، وقوله :﴿ مُرِيبٍ ﴾ أي مُوقِِعٌ لهم في الريبة ؛ لأنهم كذَّبوا بغير تثبّت، وما قالوه من تكذيب وجحود إنما كان ظنًّا١.
من أطاع الله فالتزم شرعه وانتهى عن ما نهى عنه باجتنابه المعاصي والمناهي فإنما يعود جزاء ذلك على نفسه، أما من أساء بعصيان ربه وفعل المحرمات والفواحش ؛ فإنما يعود وبالُ ذلك من سوء الجزاء عليه نفسه ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ لا يعذب الله أحدا من العباد إلا بما قدم من الخطايا والذنوب، وذلك عقب إرسال الرسول لتبليغهم ما أنزل إليهم.
قوله :﴿ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا ﴾ الأكمام، جمع كم وهو وعاء الثمرة أو وعاء الطلع١ والمعنى : ما تخرج ثمرة من أوعيتها ﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ﴾ كل ذلك علمه عند الله، ولا يقع شيء مما ذكر إلا بعلمه سبحانه فإنه لا يخفى عليه شيء.
قوله :﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي ﴾ يوم القيامة، يوم الفزع الأكبر، والإياس الرعيب، ينادي الله الظالمين الذين اتخذوا من دونه شركاء وأندادا : أين شركائي الذين عبدتموهم معي، يناديهم بذلك على رؤوس الخلائق، فيجيبون مستبئسين مذعورين ﴿ قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ﴾ ﴿ مَا ﴾ نافية. يعني : أعلمناك ما منا من أحد يشهد أن لك شريكا.
ذلك بيان من الله يكشف فيه عن حقيقة الإنسان في طبْعِهِ الجزوع، وفي جنوحه للإسراع والعجلة وإسرافه الملحّ في دعاء الخير، وذلك قوله :﴿ لاَ يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ ﴾ الإنسان دأْبُهُ الإلحاح في المسألة والاستكثار من الخير ؛ فهو على الدوام لا يمل ﴿ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ ﴾ والمراد هنا بالخير والعافية والجاه والسلطان، أما المراد بالإنسان، فقيل : الكافر، وقيل : الوليد بن المغيرة، أو عتبة بن ربيعة. والأولى بالصواب أن يراد بذلك أكثر الناس سواء منهم الكافرون والمنافقون أو ضعاف الإيمان والعقيدة من كثير المسلمين، أولئك جميعا مجبولون على الهلع والجزع والإفراط في حب الدنيا والاستكثار من زينتها ومباهجها من المال والصحة والعز وحب الشهرة والاستعلاء.
قوله :﴿ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ﴾ الإنسان الخائر على اختلاف حقيقته من الكفر أو النفاق أو الضعف أو التهافت ؛ فإنه خائر مضطرب فهو إن أصابه الشر من فقر أو مرض أو خوف أو غير ذلك من وجوه البلاء صار آيسا قانطا ؛ إذ ييأس من فرج الله ويقنط من رحمته في كشف البلاء والضرِّ عنه، وذلك هو دأب الإنسان الخاوي، الذي خلا قلبه من الإيمان أو من عقيدة الإسلام، وذلك بخلاف المؤمنين الثابتين على الحق في كل الأحوال والظروف، أولئك الذين يخشون الله، ويرجون منه العون والرحمة والمدد. ويسألونه في سائر الملابسات والتقلبات أن يشدّ أزرهم ويقوي عزائمهم ويرسِّخ فيهم القدرة على الاصطبار وأن يبدد من أمامهم المكاره والغُموم والكربات والمخاوف، وأولئك هم المؤمنون الثابتون على منهج الله، وهم على حالهم من الرسوخ والصبر والطمأنينة حتى يلقوا ربهم.
قوله :﴿ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ﴾ ذلك إعلان صريح بالكفر وإنكار القيامة عقب ما أصابه من النعمة بعد انكشاف النقمة، وذلك دأب الظالمين والغافلين والمستكبرين الذين يتيهون في الأرض غرورا وبطرا وضلالا وقد أعمتهم الغفلة وأضلهم الشيطان عن دين الله وعن لقائه يوم الحساب فأسرفوا في الكفر والتكذيب حتى جحدوا اليوم الآخر، مع أنهم موقنون أنهم ميتون وأنهم صائرون إلى الزوال والفناء لا محالة. لكنه الضلال والاستكبار والاغترار والغفلة عن سواء السبيل.
قوله :﴿ وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى ﴾ يقول الخاسر الظالم لنفسه : ما أحسبُ القيامة قائمة ؛ ولئن قامت ورددتُ إلى الله حيّا بعد الممات فإن لي عنده خيرا من المال والغنى والسعة والعافية، أو لي عنده الجنة.
قوله :﴿ فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا ﴾ ذلك وعيد من الله لهؤلاء الظالمين الخاسرين الذين يتمنون على الله الأباطيل – بأنه مُخْبِرُهم يوم القيامة بما عملوه في الدنيا من المعاصي والسيئات، وهو سبحانه مجازيهم على ذلك بما يستحقونه من سوء الجزاء وغليظ العقاب في النار.
قوله :﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾ إذا أصاب الظالم الخاسر شيء من المكاره والنقم لجَّ في التضرع والاستغاثة فهو ذو ﴿ دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾ يطيل في الدعاء إلى الله إذا حزبه البلاء أو أصابته شدة من الشدائد٢.
٢ تفسير الرازي ج ٢٧ ص ١٣٩ وتفسير الطبري ج ٢٥ ص ٣-٤.
أي قل لهؤلاء المكذبين الخاسرين يا محمد : أرأيتم إن كان هذا القرآن حقا وأنه من عند الله ثم كفرتم به، أَفَلَسْتم حينئذ مجانبين للحق، ومبتعدين عن الصواب ؟
وكيف ترون حالكم وأنتم مبطلون ظالمون ؟.
قوله :﴿ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ أي إذا كانت هذه حقيقة حالكم من المعاندة والغرور والاستكبار عن اليقين فمن إذن أشد ذهابا عن سواء السبيل، وأعظم بعدا من الطريق الحق المستقيم ؟ أو من هو أشدّ مفارقة لعقيدة التوحيد وأعظم مخالفة لمنهج الله الحكيم، وبعيدا من الرشاد والسداد ؟ إنه ليس من أحد أضل منكم. وذلك لفرط شقاقكم وعنادكم وتفريطكم فيما أنزل إليكم من الحق الساطع المستبين.
قوله :﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ الضمير في ﴿ أنّه ﴾ يرجع إلى القرآن، وقيل : إلى الله عز وجل، وقيل : إلى الإسلام، وقيل : إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. والأظهر أن المراد هو القرآن ؛ فإنه فيما ينتشر في آفاق الكون والطبيعة والنفس الإنسانية من آيات عجاب ودلائل كبريات، يزجي بقاطع البرهان على أن هذا القرآن حق وأنه منزل من عند الله ليكون هداية للناس وليستنقذ البشرية من ظلمات الباطل إلى نور الحق والعدل واليقين.
قوله :﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ الجملة مسوقة لتوبيخ الظالمين والمشركين الغافلين عن الحق، فالهمزة للإنكار والتوبيخ، والباء في قوله :﴿ بربِّك ﴾ زائدة، وربك، فاعل للفعل ﴿ يَكْفِ ﴾ ٢.
والمعنى : أو لم يكفهم ربك بما بيَّنَهُ لهم من الأدلة والحجج في الكون والطبيعة وفي أنفسهم على أن الله حق وأنه شاهد على أعمالهم وأفعالهم وعلى صدق ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، أو على أن ربك عليم بالأشياء ولا يغيب عنه منها شيء في الأرض ولا في السماء.
٢ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٣٤٣.
قوله :﴿ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ﴾ الله محيط علمه بكل شيء، أو أحاطت قدرته بكل شيء، فسائر الأشياء والخلائق في قبضته وتحت علمه وقهره وقدرته. وفي ذلك من التخويف والوعيد ما لا يخفى١.