٢ وهي الآية رقم (١٣) من السورة..
٣ أرعد فلان: أخذته الرعدة. وقف شعره: قام من الفزع..
٤ أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو يعلى، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي، كلاهما في الدلائل، وابن عساكر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وفيه كما ذكره في الدر المنثور: (اجتمعت قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة، قالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع لك... الخ)- وفي آخره أيضا- كما رواه أبو بكر بن الأنباري-: (فانصرف عتبة إلى قريش في ناديها، فقالوا: والله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي مضى به من عندكم، ثم قالوا: ما وراءك أبا الوليد؟ قال: والله لقد سمعت كلاما من محمد ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالكهانة، فأطيعوني في هذه وأنزلوها بي، خلوا محمدا شأنه واعتزلوه، فوالله ليكونن لما سمعت من كلامه نبأ، فإن أصابته العرب كفيتموه بأيدي غيركم، وإن كان ملكا أو نبيا كنتم أسعد الناس به، لأن ملكه ملككم وشرفه شرفكم، فقالوا: هيهات، سحرك محمد يا أبا الوليد، وقال: هذا رأيي لكم، فاصنعوا ما شئتم)..
ﰡ
[المجلد الخامس]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة فصّلتهذه السورة مكية بإجماع من المفسرين، ويروى أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله ﷺ ليبين عليه أمر مخالفته لقومه وليحتج عليه فيما بينه وبينه وليبعد ما جاء به، فلما تكلم عتبة، قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: حم ومر في صدر هذه السورة حتى انتهى إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١٣] فأرعد الشيخ وقفّ شعره وأمسك على فم رسول الله ﷺ بيده وناشده بالرحم أن يمسك، وقال حين فارقه: والله لقد سمعت شيئا ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤)وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧)
تقدم القول في أوائل السور مما يختص به الحواميم، وأمال الأعمش حم [فصلت: ١، الشورى: ١، الدخان: ١، الزخرف: ١، الجاثية: ١، الأحقاف: ١] في كلها. و: تَنْزِيلٌ خبر الابتداء، إما على أن يقدر الابتداء، إما على أن يقدر الابتداء في: حم على ما تقتضيه بعض الأقوال إذا جعلت اسما للسورة أو للقرآن أو إشارة إلى حروف المعجم، وإما على أن يكون التقدير: هذا تنزيل، ويجوز أن يكون تَنْزِيلٌ ابتداء وخبره في قوله: كِتابٌ فُصِّلَتْ على معنى ذو تنزيل. و: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ صفتا رجاء ورحمة لله تعالى. و: فُصِّلَتْ معناه بينت آياته، أي فسرت معانيه ففصل بين حلاله وحرامه وزجره وأمره ووعده ووعيده، وقيل فُصِّلَتْ في التنزيل، أي نزل نجوما، لم ينزل مرة واحدة، وقيل فُصِّلَتْ بالمواقف وأنواع أواخر الآي، ولم يكن يرجع إلى قافية ونحوها كالشعر والسجع.
و: قُرْآناً نصب على الحال عند قوم، وهي مؤكدة، لأن هذه الحال ليست مما تنتقل. وقالت فرقة: هو
وقوله تعالى: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قالت فرقة: معناه يعلمون الأشياء ويعقلون الدلائل وينظرون على طريق نظر، فكأن القرآن فصلت آياته لهؤلاء، إذ هم أهل الانتفاع بها، فخصوا بالذكر تشريفا، ومن لم ينتفع بالتفصيل فكأنه لم يفصل له. وقالت فرقة: يَعْلَمُونَ متعلق في المعنى بقوله: عَرَبِيًّا أي جعلناه بكلام العرب لقوم يعلمون ألفاظه ويتحققون أنها لم يخرج شيء منها عن كلام العرب، وكأن الآية رادة على من زعم أن في كتاب الله ما ليس في كلام العرب، فالعلم على هذا التأويل أخص من العلم على التأويل الأول، والأول أشرف معنى، وبين أنه ليس في القرآن إلا ما هو من كلام العرب إما من أصل لغتها وإما عربته من لغة غيرها ثم ذكر في القرآن وهو معرب مستعمل.
وقوله: بَشِيراً وَنَذِيراً نعت للقرآن، أي يبشر من آمن بالجنة، وينذر من كفر بالنار. والضمير في:
أَكْثَرُهُمْ عائد على القوم المذكورين.
وقوله: فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ نفي لسمعهم النافع الذي يعتد به سمعا، ثم حكى عنهم مقالتهم التي باعدوا فيها كل المباعدة وأرادوا أن يؤيسوهم من قبولهم دينهم وهي قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ جمع كنان وهو باب فعال وأفعلة. والكنان: ما يجمع الشيء ويضمه ويحول بينه وبين غيره، ومنه: الكن ومنه: كنانة النبل، وبها فسر مجاهد هذه الآية. و «من» في قوله: مِمَّا لابتداء الغاية وكذلك هي في قوله: وَمِنْ بَيْنِنا مؤكدة ولابتداء الغاية. والوقر: الثقل في الأذن الذي يمنع السمع.
وقرأ ابن مصرف: «وقر» بكسر الواو.
والحجاب: الذي أشاروا إليه: هو مخالفته إياهم ودعوته إلى الله دون أصنامهم، أي هذا أمر يحجبنا عنك، وهذه مقالة تحتمل أن تكون معها قرينة الجد في المحاورة وتتضمن المباعدة، ويحتمل أن تكون معها قرينة الهزل والاستخفاف، وكذلك قوله: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ يحتمل أن يكون القول تهديدا، ويحتمل أن يكون متاركة محضة.
وقرأ الجمهور: «قل إنما» على الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش:
«قل إنما» على المضي والخبر عنه، وهذا هو الصدع بالتوحيد والرسالة.
وقوله: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ قال الحسن: علمه الله تعالى التواضع، و «إن» في قوله: إِنَّما رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله.
وقوله: فَاسْتَقِيمُوا أي على محجة الهدى وطريق الشرع والتوحيد، وهذا المعنى مضمن قوله:
إِلَيْهِ. والويل: الحزن والثبور، وفسره الطبري وغيره في هذه الآية بقبح أهل النار وما يسيل منهم.
وقوله تعالى: الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ قال الحسن وقتادة وغيره: هي زكاة المال. وروي: الزكاة قنطرة الإسلام، من قطعها نجا، ومن جانبها هلك. واحتج لهذا التأويل بقول أبي بكر في الزكاة وقت
هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: ١٨] ويرجح هذا التأويل أن الآية من أول المكي، وزكاة المال إنما نزلت بالمدينة، وإنما هذه زكاة القلب والبدن، أي تطهيره من الشرك والمعاصي، وقاله مجاهد والربيع.
وقال الضحاك ومقاتل: معنى الزَّكاةَ هنا: النفقة في الطاعة، وأعاد الضمير في قوله: هُمْ كافِرُونَ توكيدا.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٨ الى ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠)
ذكر عز وجل حالة الذين آمنوا معادلا بذلك حالة الكافرين المذكورين ليبين الفرق.
وقوله: غَيْرُ مَمْنُونٍ قال ابن عباس معناه: غير منقوص. وقالت فرقة معناه: غير مقطوع، يقال مننت الحبل: إذا قطعته. وقال مجاهد معناه: غير محسوب، لأن كل محسوب محصور، فهو معد لأن يمن به، فيظهر في الآية أنه وصفه بعدم المن والأذى من حيث هو من جهة الله تعالى، فهو شريف لا من فيه، وأعطيات البشر هي التي يدخلها المن. وقال السدي: نزلت هذه الآية من المرضى والزمنى، إذا عجزوا عن إكمال الطاعات كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون، ثم أمر تعالى نبيه أن يوقفهم موبخا على كفرهم بخالق الأرض والسماوات ومخترعها، ووصف صورة خلقها ومدته، والحكمة في خلقه هذه المخلوقات في مدة ممتدة مع قدرة الله على إيجادها في حين واحد. وهي إظهار القدرة في ذلك حسب شرف الإيجاد أولا أولا. قال قوم: وليعلّم عباده التأني في الأمور والمهل، وقد تقدم القول غير مرة في نظير قوله: أَإِنَّكُمْ.
واختلف رواة الحديث في اليوم الذي ابتدأ الله تعالى فيه خلق الأرض، فروي عن ابن عباس وغيره:
أن أول يوم هو الأحد، وأن الله تعالى خلق فيه وفي الاثنين: الأرض، ثم خلق الجبال ونحوها يوم الثلاثاء.
قال ابن عباس فمن هنا قيل: هو يوم ثقيل. ثم خلق الشجر والثمار والأنهار يوم الأربعاء، ومن هنا قيل: هو يوم راحة وتفكر في هذه التي خلقت فيه. ثم خلق السماوات وما فيها يوم الخميس ويوم الجمعة، وفي آخر ساعة من يوم الجمعة: خلق آدم. وقال السدي: وسمي يوم الجمعة لاجتماع المخلوقات فيه وتكاملها، فهذه رواية فيها أحاديث مشهورة. ولما لم يخلق تعالى في يوم السبت شيئا امتنع فيه بنو إسرائيل عن الشغل.
ووقع في كتاب مسلم بن الحجاج: أن أول يوم خلق الله فيه التربة يوم السبت، ثم رتب المخلوقات على ستة أيام، وجعل الجمعة عاريا من المخلوقات على ستة أيام إلا من آدم وحده. والظاهر من القصص في طينة آدم أن الجمعة التي خلق فيها آدم قد تقدمتها أيام وجمع كثيرة، وأن هذه الأيام التي خلق الله فيها هذه
وقوله تعالى: وَبارَكَ فِيها أي جعلها منبتة للطيبات والأطعمة، وجعلها طهورا إلى غير ذلك من وجوه البركة. وفي قراءة ابن مسعود: «وقسم فيها أقواتها». وفي مصحف عثمان رضي الله عنه: «وقدر» واختلف الناس في معنى قوله: أَقْواتَها فقال السدي: هي أقوات البشر وأرزاقهم، وأضافها إلى الأرض من حيث هي فيها وعنها. وقال قتادة: هي أقوات الأرض من الجبال والأنهار والأشجار والصخور والمعادن والأشياء التي بها قوام الأرض ومصالحها. وروى ابن عباس رضي الله عنه في هذا المعنى حديثا مرفوعا فشبهها بالقوت الذي به قوام الحيوان. وقال مجاهد: أراد أَقْواتَها من المطر والمياه. وقال عكرمة والضحاك ومجاهد أيضا: أراد بقوله: أَقْواتَها خصائصها التي قسمها في البلاد، فجعل في اليمن أشياء ليست في غيره، وكذلك في العراق والشام والأندلس وغيرها من الأقطار ليحتاج بعضها إلى بعض ويتقوت من هذه في هذه الملابس والمطعوم، وهذا نحو القول الأول، إلا أنه بوجه أعم منه.
وقوله تعالى: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يريد باليومين الأولين، وهذا كما تقول: بنيت جدار داري في يوم وأكملت جميعها في يومين، أي بالأول.
وقرأ الحسن البصري وأبو جعفر وجمهور الناس: «سواء» بالنصب على الحال، أي سواء هي وما انقضى فيها. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «سواء» بالرفع، أي هي سواء. وقرأ الحسن وعيسى وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد: «سواء» بالخفض على نعت الأيام.
واختلف المتأولون في معنى: لِلسَّائِلِينَ فقال قتادة والسدي معناه: سواء لمن سأل عن الأمر واستفهم عن حقيقة وقوعه وأراد العبرة فيه فإنه يجده كما قال عز وجل. وقال ابن زيد وجماعة معناه: مستو مهيأ أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر، فعبر عنهم ب «السائلين» بمعنى الطالبين، لأنهم من شأنهم ولا بد طلب ما ينتفعون به، فهم في حكم من سأل هذه الأشياء إذ هم أهل حاجة إليها، ولفظة سَواءً تجري مجرى عدل وزور في أن ترد على المفرد والمذكر والمؤنث.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١١ الى ١٢]
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)
اسْتَوى إِلَى السَّماءِ معناه بقدرته واختراعه أي إلى خلق السماء وإيجادها.
وقرأ الجمهور: «إيتيا» من أتى يأتي «قالتا أتينا» على وزن فعلنا، وذلك بمعنى إيتيا وإرادتي فيكما، وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد: «آتيا» من آتى يؤتى «قالتا آتينا» على وزن أفعلنا، وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما، والإشارة بهذا كله إلى تسخيره وما قدره الله من أعمالها.
وقوله: أَوْ كَرْهاً فيه محذوف ومقتضب، والتقدير: ائْتِيا طَوْعاً وإلا أتيتما كَرْهاً. وقوله:
قالَتا أراد الفرقتين المذكورتين، وجعل السماوات سماء والأرضين أرضا، ونحو هذا قول الشاعر:
[الوافر]
ألم يحزنك أن حبال قومي | وقومك قد تباينتا انقطاعا |
وقوله: طائِعِينَ لما كانت ممن يقول وهي حالة عقل جرى الضمير في طائِعِينَ ذلك المجرى، وهذا كقوله: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: ٤] ونحوه.
واختلف الناس في هذه المقالة من السماء والأرض، فقالت فرقة: نطقت حقيقة، وجعل الله تعالى لها حياة وإدراكا يقتضي نطقها. وقالت فرقة: هذا مجاز، وإنما المعنى أنها ظهر منها من اختيار الطاعة والخضوع والتذلل ما هو بمنزلة القول أَتَيْنا طائِعِينَ والقول الأول أحسن، لأنه لا شيء يدفعه وإنما العبرة به أتم والقدرة فيه أظهر.
وقوله تعالى: فَقَضاهُنَّ معناه: صنعهن وأوجدهن، ومنه قول أبي ذؤيب: [الكامل]
وعليهما مسرودتان قضاهما | داود أو صنع السوابغ تبع |
وقوله تعالى: وَحِفْظاً منصوب بإضمار فعل، أي وحفظناها حفظا.
وقوله: ذلِكَ إشارة إلى جميع ما ذكر، أو أوجده، بقدرته وعزته، وأحكمه بعلمه.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٣ الى ١٥]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥)
وقرأ جمهور الناس: «صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود» وقرأ النخعي وأبو عبد الرحمن وابن محيصن «صعقة مثل صعقة»، فأما هذه القراءة الأخيرة فبينة المعنى، لأن الصعقة: الهلاك يكون معها في الأحيان قطعة نار، فشبهت هنا وقعة العذاب بها، لأن عادا لم تعذب إلا بريح، وإنما هذا تشبيه واستعارة، وبالوقيعة فسر هنا «الصاعقة»، قاله قتادة وغيره. وخص عادا وثمود بالذكر لوقوف قريش على بلادها في اليمن وفي الحجر في طريق الشام.
وقوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أي قد تقدموا في الزمن واتصلت نذارتهم إلى أعمار عاد وثمود، وبهذا الاتصال قامت الحجة.
وقوله: مِنْ خَلْفِهِمْ أي جاءهم رسول بعد اكتمال أعمارهم وبعد تقدم وجودهم في الزمن، فلذلك قال: وَمِنْ خَلْفِهِمْ وجاء من مجموع العبارة إقامة الحجة عليهم في أن الرسالة والنذارة عمّتهم خبرا ومباشرة، ولا يتوجه أن يجعل وَمِنْ خَلْفِهِمْ عبارة عما أتى بعدهم في الزمن، لأن ذلك لا يلحقهم منه تقصير، وأما الطبري فقال: الضمير في قوله: وَمِنْ خَلْفِهِمْ عائد على الرسل، والضمير في قوله:
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ على الأمم، وتابعه الثعلبي، وهذا غير قوي لأنه يفرق الضمائر ويشعب المعنى.
و (أن) في قوله: أَلَّا تَعْبُدُوا نصب على إسقاط الخافض، التقدير: «بأن». وتَعْبُدُوا مجزوم على النهي، ويتوجه أن يكون منصوبا على أن تكون (لا) نافية، وفيه بعد. وكان من تلك الأمم إنكار بعثة البشر واستدعاء الملائكة، وهذه أيضا كانت من مقالات قريش.
وقوله: فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ليس على جهة الإقرار بأنهم أرسلوا بشيء، وإنما معناه على زعمكم ودعواكم. ثم وصف حالة القوم، وأن عادا طلبوا التكبر ووضعوا أنفسهم فيه بغير حق، بل بالكفر والمعاصي وغوتهم قوتهم وعظم أبدانهم والنعم فقالوا على جهة التقرير: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً فعرض الله تعالى موضع النظر بقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا الآية، وهذا بين في العقل، فإن للشيء المخترع له المذهب متى شاء هو أقوى منه، وأخبر تعالى عنهم بجحودهم بآياته المنصوبة للنظر والمنزلة من عنده، إذ لفظ الآيات يعم ذلك كله في المعنى.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٦ الى ١٨]
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)روي في الحديث أن الله تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا على عاد منها مقدار حلقة الخاتم، ولو فتحوا مقدار منخر الثور لهلكت الدنيا: وروي أن الريح كانت ترفع العير بأوقارها فتطيرها حتى تطرحها في البحر.
وقال جابر بن عبد الله والتيمي: حبس عنهم المطر ثلاثة أعوام، وإذا أراد الله بقوم شرا حبس عنهم المطر وأرسل عليهم الرياح.
واختلف الناس في الصرصر، فقال قتادة والسدي والضحاك: هو مأخوذ من الصر، وهو البرد، والمعنى: ريحا باردة لها صوت. وقال مجاهد: صرصر: شديدة السموم. وقال الطبري وجماعة من المفسرين: هو من صريصر إذا صوت صوتا يشبه الصاد والراء، وكذلك يجيء صوت الريح في كثير من الأوقات بحسب ما تلقى.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والأعرج وعيسى والنخعي: بسكون الحاء وهو جمع نحس، يقال يوم نحس، فهو مصدر يوصف به أحيانا وعلى الصفة به جمع في هذه الآية، واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله: يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر: ١٩]. وقال النخعي: نَحِساتٍ وليست ب «نحسات» بكسر. وقرأ الباقون وأبو جعفر وشيبة وأبو رجاء وقتادة والجحدري والأعمش: «نحسات» بكسر الحاء، وهي جمع لنحس على وزن حذر، فهو صفة لليوم مأخوذ من النحس. وقال الطبري: نحس ونحس لغتان، وليس كذلك، بل اللغة الواحدة تجمعهما، أحدهما مصدر، والآخر من أمثلة اسم الفاعل، وأنشد الفراء: [البسيط]
أبلغ جذاما ولخما أن إخوتهم | طيا وبهراء قوم نصرهم نحس |
كأن سلافة عرضت بنحس | يحيل شفيفها الماء الزلالا |
وقرأ جمهور الناس: «ثمود» بغير حرف، وهذا على إرادة القبيلة. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وبكر بن حبيب: «ثمود» بالتنوين والإجراء، وهذا على إرادة الحي، وبالصرف كان الأعمش يقرأ في جميع القرآن إلا في قوله: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء: ٥٩] لأنه في المصحف بغير ألف. وقرأ ابن أبي إسحاق والأعرج بخلاف، والأعمش وعاصم «ثمود» بالنصب، وهذا على إضمار فعل يدل عليه قوله:
وقوله تعالى: فَهَدَيْناهُمْ معناه: بينّا لهم، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد، وليس الهدى هنا بمعنى الإرشاد، وهذا كما هي الآن شريعة الإسلام مبينة لليهود والنصارى المختلطين لنا ولكنهم يعرضون ويشتغلون بالصد، فذلك استحباب العمى على الهدى.
وقوله تعالى: فَاسْتَحَبُّوا عبارة عن تكسبهم في العمى، وإلا فهو بالاختراع لله تعالى، ويدلك على أنها إشارة إلى تكسبهم قوله تعالى: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
وقوله تعالى: الْعَذابِ الْهُونِ وصف بالمصدر، والمعنى الذي معه هوان وإذلال، ثم قرن تعالى بذكرهم ذكر من آمن واتقى ونجاته ليبين الفرق.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢)
قوله تعالى: وَيَوْمَ نصب بإضمار فعل تقديره: واذكر يوم.
وقرأ نافع وحده والأعرج وأهل المدينة: «نحشر» بالنون «أعداء» بالنصب، إلا أن الأعرج كسر الشين. وقرأ الباقون: «يحشر» بالياء المرفوعة، «أعداء» رفعا، وهي قراءة الأعمش والحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وقتادة وعيسى وطلحة ونافع فيما روي عنه، وحجتها يُوزَعُونَ، و: أَعْداءُ اللَّهِ هم الكفار المخالفون لأمره.
و: يُوزَعُونَ قال قتادة والسدي وأهل اللغة، معناه: يكف أولهم حبسا على آخرتهم، وفي حديث أبي قحافة يوم الفتح: ذلك الوازع. وقال الحسن البصري: لا بد للقاضي من وزعة. وقال أبو بكر: إني لا أقيد من وزعة الله تعالى. و: حَتَّى غاية لهذا الحشر المذكور، وهذا وصف حال من أحوالهم في بعض أوقات القيامة، وذلك عند وصولهم إلى جهنم فإن الله تعالى يستقرهم عند ذلك على أنفسهم ويسألون سؤال توبيخ عن كفرهم فينكرون ذلك ويحسبون أن لا شاهد عليهم، ويظنون السؤال سؤال استفهام واستخبار، فينطق الله تعالى جوارحهم بالشهادة عليهم، فروي عن النبي عليه السلام أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه الأيسر ثم تنطق الجوارح، فيقول الكافر: تبا لك أيها الأعضاء، فعنك كنت أدافع. وفي حديث آخر:
واختلف الناس ما المراد بالجلود؟ فقال جمهور الناس: هي الجلود المعروفة. وقال عبد الله بن أبي جعفر: كنى بالجلود عن الفروج، وإياها أراد. وأخبر تعالى أن الجلود ترد جوابهم بأن الله الخالق المبدئ المعيد هو الذي أنطقهم.
وقوله: أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ يريد كل ناطق مما هي فيه عادة أو خرق عادة.
قوله عز وجل: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ يحتمل أن يكون من كلام الجلود ومحاورتها، ويحتمل أن يكون من كلام الله عز وجل لهم، أو من كلام ملك يأمره تعالى. وأما المعنى فيحتمل وجهين أحدهما أن يريد: وما كنتم تتصاونون وتحجزون أنفسكم عن المعاصي والكفر خوف أن يشهد، أو لأجل أن يشهد، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم فانهملتم وجاهرتم، وهذا هو منحى مجاهد. والستر قد يتصرف على هذا المعنى ونحوه، ومنه قول الشاعر: [الكامل]
والستر دون الفاحشات وما | يلقاك دون الخير من ستر |
وما كنتم تدفعون بالاختفاء والستر أن يشهد، لأن الجوارح لزيمة لكم، وفي إلزامه إياهم الظن بأن الله تعالى لا يعلم، هو إلزامهم الكفر والجهل بالله وهذا المعتقد يؤدي بصاحبه إلى تكذيب أمر الرسل واحتقار قدرة الإله، لا رب غيره. وفي مصحف ابن مسعود: «ولكن زعمتم أن الله». وحكى الطبري عن قتادة أنه عبر عن تَسْتَتِرُونَ ب «تبطنون»، وذلك تفسير لم ينظر فيه إلى اللفظ ولا ارتباط فيه معه. وذكر الطبري وغيره حديثا عن عبد الله بن مسعود قال: إني لمستتر بأستار الكعبة إذ دخل ثلاثة نفر قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم، فتحدثوا بحديث، فقال أحدهم: أترى الله يسمع ما قلنا؟
قال الآخر إنه يسمع إذا رفعنا، ولا يسمع إذا أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع منه شيئا فإنه يسمعه كله، فجئت رسول الله ﷺ فأخبرته بذلك، فنزلت هذه الآية: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ الآية، فقرأ حتى بلغ: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت: ٢٨]. وذكر النقاش أن الثلاثة: صفوان بن أمية وفرقد بن ثمامة وأبو فاطمة. وذكر الثعلبي أن الثقفي: عبد ياليل، والقرشيان: ختناه ربيعة وصفوان ابنا أمية بن خلف، ويشبه أن يكون هذا بعد فتح مكة فالآية مدنية، ويشبه أن رسول الله ﷺ قرأ الآية متمثلا بها عند إخبار عبد الله إياه، والله أعلم.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦)
قال القاضي أبو محمد: فالمنجي: هو أن يظن الموحد العارف بربه أن الله يرحمه والمهلك: ظنون الكفرة الجاهلين على اختلافها، وفي هذا المعنى ليحيى بن أكثم رؤيا حسنة مؤنسة. وظَنُّكُمُ خبر ابتداء.
وقوله: أَرْداكُمْ يصح أن يكون خبرا بعد خبر، وجوز الكوفيون أن يكون في موضع الحال، والبصريون لا يجيزون وقوع الماضي حالا إذا اقترن ب «قد»، تقول رأيت زيدا قد قام، وقد يجوز تقديرها عندهم وإن لم تظهر. ومعنى: أَرْداكُمْ أهلككم. والردى: الهلاك.
وقوله تعالى: فَإِنْ يَصْبِرُوا مخاطبة لمحمد عليه السلام، والمعنى: فإن يصبروا أو لا يصبروا، واقتصر لدلالة الظاهر على ما ترك. والمثوى: موضع الإقامة.
وقرأ جمهور الناس: «وإن يستعتبوا» بفتح الياء وكسر التاء الأخيرة على إسناد الفعل إليهم. «فما هم من المعتبين» بفتح التاء على معنى: وإن طلبوا العتبى وهي الرضى فما هم ممن يعطوها ويستوجبها. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وموسى الأسواري: «وإن يستعتبوا» بضم الياء وفتح التاء. «فما هم من المعتبين» بكسر التاء على معنى: وإن طلب منهم خير أو إصلاح فما هم ممن يوجد عنده، لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال كما قال عليه السلام: «ليس بعد الموت مستعتب» ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: ٢٨].
ثم وصف عز وجل حالهم في الدنيا وما أصابهم به حين أعرضوا، فختم عليهم فقال: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ أي يسرنا لهم قُرَناءَ سوء من الشياطين وغواة الإنس.
وقوله: فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي علموهم وقرروا في نفوسهم معتقدات سوء في الأمور التي تقدمتهم من أمر الرسل والنبوات، ومدح عبادة الأصنام واتباع فعل الآباء إلى غير ذلك مما يقال إنه بين أيديهم، وذلك كل ما تقدمهم في الزمان واتصل إليهم أثره أو خبره، وكذلك أعطوهم معتقدات سوء فيما خلفهم وهو كل ما يأتي بعدهم من القيامة والبعث ونحو ذلك مما يقال فيه إنه خلف الإنسان، فزينوا لهم في هذين كل ما يرديهم ويفضي بهم إلى عذاب جهنم.
وقوله: وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي سبق القضاء الحتم، وأمر الله بتعذيبهم في جملة أمم معذبين كفار مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وقالت فرقة: فِي بمعنى: مع، أي مع أمم، والمعنى يتأدى بالحرفين، ولا نحتاج أن نجعل حرفا بمعنى حرف إذ قد أبى ذلك رؤساء البصريين.
حكاية لما فعله بعض قريش كأبي جهل، وذلك أن رسول الله ﷺ كان يقرأ القرآن في المسجد الحرام ويصغي إليه الناس من مؤمن وكافر، فخشي الكفار استمالة القلوب بذلك، فقالوا: متى قرأ محمد فلنلغط نحن بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والإرجاز حتى يخفى صوته ولا يقع الاستماع منه، وهذا الفعل منهم هو اللغو. وقال أبو العالية أرادوا: قعوا فيه وعيبوه. واللغو في اللغة: سقط القول الذي لا معنى له، وهو من الخساسة والبطول في حكم لا معنى له.
وقرأ جمهور الناس: «والغوا» بفتح الغين وجزم الواو. وقرأ بكر بن حبيب السهمي: «الغوا» بضم الغين وسكون الواو، ورويت عن عيسى وابن أبي إسحاق بخلاف عنهما وهما لغتان، يقال لغا يلغو، ويقال لغى يلغي، ويقال أيضا لغى يلغى، أصله يفعل بكسر العين، فرده حرف الحلق إلى الفتح، فالقراءة الأولى من يلغى، والقراءة الثانية من يلغو، قاله الأخفش.
وقوله: لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أي تطمسون أمر محمد عليه السلام وتميتون ذكره وتصرفون القلوب عنه، فهذه الغاية التي تمنوها.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠)
وقوله تعالى: فَلَنُذِيقَنَّ الفاء دخلت على لام القسم، وهي آية وعيد لقريش. والعذاب الشديد:
هو عذاب الدنيا في بدر وغيرها. والجزاء بأسوأ أعمالهم: هو عذاب الآخرة.
وقوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى الجزاء المتقدم.. و: جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ خبر الابتداء.
و: النَّارُ بدل من قوله: جَزاءُ أَعْداءِ ويجوز أن يكون: ذلِكَ خبر ابتداء تقديره: الأمر ذلك، ويكون قوله: جَزاءُ أَعْداءِ ابتداء، و: النَّارُ خبره.
وقوله: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ أي موضع البقاء ومسكن العذاب الدائم، فالظرفية في قوله: فِيها متمكنة على هذا التأويل، ويحتمل أن يكون المعنى: هب لهم دار الخلد، ففي قوله: فِيها معنى التجريد كما قال الشاعر:
وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل
ثم ذكر عز وجل مقالة كفار يوم القيامة إذا دخلوا النار فإنهم يرون عظيم ما حل بهم وسوء منقلبهم فتجول أفكارهم فيمن كان سبب غوايتهم وبادي ضلالتهم فيعظم غيظهم وحنقهم عليه ويودون أن يحصل في أشد عذاب فحينئذ يقولون رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا، وظاهر اللفظ يقتضي أن الذي في قولهم:
الَّذِينَ إنما هو للجنس، أي أَرِنَا كل مغو ومضل مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وهذا قول جماعة من المفسرين. وقال علي بن أبي طالب وقتادة. وطلبوا ولد آدم الذي سن القتل والمعصية من البشر وإبليس الأبالسة من الجن.
قال القاضي أبو محمد: وتأمل هل يصح هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لأن ولد آدم مؤمن عاص، وهؤلاء إنما طلبوا المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود، وإنما القوي أنهم طلبوا النوعين، وقد أصلح بعضهم هذا القول بأن قال: يطلب ولد آدم كل عاص دخل النار من أهل الكبائر، ويطلب إبليس كل كافر، ولفظ الآية يزحم هذا التأويل، لأنه يقتضي أن الكفرة إنما طلبوا اللذين أضلا.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «أرنا» بكسر الراء، وهي رؤية عين، ولذلك فهو فعل يتعدى إلى مفعولين. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: «أرنا» بسكون الراء، فقال هشام بن عمار: هو خطأ. وقال أبو علي: هي مخففة من: أَرِنَا كما قالوا: ضحك وفخذ. وقرأ أبو عمرو: بإشمام الراء الكسر، ورويت عن أهل مكة.
وقوله: نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا يريدون في أسفل طبقة من النار، وهي أشد عذابا. وهي درك المنافقين.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا آية وعد للمؤمنين، قال سفيان بن عبد الله الثقفي، قلت للنبي عليه السلام: أخبرني بأمر أعتصم به، فقال: قل ربي الله ثم استقم، قلت فما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله ﷺ بلسان نفسه فقال: هذا.
واختلف الناس في مقتضى قوله: ثُمَّ اسْتَقامُوا فذهب الحسن وقتادة وجماعة إلى أن معناه:
استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي، وتلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية على المنبر ثم قال:
استقاموا والله لله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب.
قال القاضي أبو محمد: ذهب رضي الله عنه إلى حمل الناس على الأتم الأفضل، وإلا فلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب ألا تنزل الملائكة عند الموت على غير مستقيم على الطاعة وذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجماعة معه إلى أن المعنى ثُمَّ اسْتَقامُوا على قولهم: رَبُّنَا اللَّهُ، فلم يختل توحيدهم ولا اضطرب إيمانهم. وروى أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية وقال: قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام. المعنى فهو في أول درجات الاستقامة من الخلود، فهذا كقوله عليه السلام: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة»، وهذا هو
وقوله تعالى: أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا أمنة عامة في كل هم مستأنف، وتسلية تامة عن كل فائت ماض. وقال مجاهد: المعنى لا تخافون ما تقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم. وفي قراءة ابن مسعود: «الملائكة لا تخافوا» بإسقاط الألف، بمعنى يقولون لا تخافوا.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣١ الى ٣٥]
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)
المتكلم ب نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ
هم الملائكة القائلون: «لا تخافوا ولا تحزنوا» أي يقولون للمؤمنين عند الموت وعند مشاهدة الحق نحن كنا أولياءكم في الدنيا ونحن هم في الآخرة. قال السدي المعنى: نحن حفظتكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة، والضمير في قوله: فِيها
عائد على الآخرة. و: تَدَّعُونَ
معناه: تطلبون. و: نُزُلًا نصب على المصدر. وقراءة الجمهور: بضم الواو. وقرأ أبو حيوة: بإسكانها.
وقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا الآية ابتداء توصية محمد عليه السلام، وهو لفظ يعم كل من دعا قديما وحديثا إلى الله تعالى وإلى طاعته من الأنبياء والمؤمنين، والمعنى: لا أحد أحسن قولا ممن هذه حاله، وإلى العموم ذهب الحسن ومقاتل وجماعة، وبين أن حالة محمد عليه السلام كانت كذلك مبرزة إلى تخصيصه بالآية ذهب السدي وابن زيد وابن سيرين. وقال قيس بن أبي حازم وعائشة أم المؤمنين وعكرمة:
نزلت هذه الآية في المؤذنين. قال قيس: وَعَمِلَ صالِحاً هو الصلاة بين الآذان والإقامة. وذكر النقاش
وقرأ الجمهور: «إنني» بنونين. وقرأ ابن أبي عبلة: «إني» بنون واحدة.
وقال فضيل بن رفيدة: كنت مؤذنا في أصحاب ابن مسعود، فقال لي عاصم بن هبيرة: إذا أكملت الآذان فقل: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثم تلا هذه الآية.
ثم وعظ تعالى نبيه عليه السلام ونبهه على أحسن مخاطبة، فقرر أن الحسنة والسيئة لا تستوي، أي فالحسنة أفضل، وكرر في قوله: وَلَا السَّيِّئَةُ تأكيدا ليدل على أن المراد: ولا تستوي الحسنة والسيئة ولا السيئة والحسنة، فحذف اختصارا ودلت لا على هذا الحذف.
وقوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ آية جمعت مكارم الأخلاق وأنواع الحلم، والمعنى: ادفع أمورك وما يعرضك مع الناس ومخالطتك لهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي أحسن السير والفعلات، فمن ذلك بذل السلام، وحسن الأدب، وكظم الغيظ، والسماحة في القضاء والاقتضاء وغير ذلك. قال ابن عباس:
إذا فعل المؤمن هذه الفضائل عصمه الله من الشيطان وخضع له عدوه، وفسر مجاهد وعطاء هذه الآية بالسلام عند اللقاء، ولا شك أن السلام هو مبدأ الدفع بالتي هي أحسن وهو جزء منه، ثم قال تعالى:
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ فدخل كاف التشبيه لأن الذي عنده عداوة لا يعود وليا حميما، وإنما يحسن ظاهره فيشبه بذلك الولي الحميم. والحميم: هو القريب الذي يحتمّ للإنسان. والضمير في قوله: يُلَقَّاها عائد على هذه الخلق التي يتضمنها قوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وقالت فرقة: المراد: وما يلقى لا إله إلا الله، وهذا تفسير لا يقتضيه اللفظ.
وقوله: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا مدح بليغ للصبر، وذلك بينّ للمتأمل، لأن الصبر للطاعات وعن الشهوات جامع لخصال الخير كلها. والحظ العظيم: يحتمل أن يريد من العقل والفضل، فتكون الآية مدحا. وروي أن رجلا شتم أبا بكر الصديق بحضرة النبي ﷺ فسكت أبو بكر ساعة، ثم جاش به الغضب فرد على الرجل، فقام النبي عليه السلام فاتبعه أبو بكر وقال: يا رسول الله قمت حين انتصرت، فقال إنه كان يرد عنك ملك، فلما قربت تنتصر، ذهب الملك وجاء الشيطان، فما كنت لأجالسه، ويحتمل أن يريد: ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الجنة وثواب الآخرة، فتكون الآية وعدا، وبالجنة فسر فتادة الحظ هنا.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٦ الى ٣٩]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
وندب تعالى في هذه الآية المتقدمة إلى مكارم الخلق في الدفع بالتي هي أحسن، ثم أثنى على من لقيها ووعده، وعلم أن خلقة البشر تغلب أحيانا وتثور بهم سورة الغضب ونزغ الشيطان فدلهم على مذهب ذلك وهي الاستعاذة به عز وجل.
ثم عدد آياته لتعبر فيها من صدق عن التوحيد بذكر اللَّيْلُ وَالنَّهارُ، وذكرهما يتضمن ما فيهما من القصر والطول والتداخل والاستواء في مواضع وسائر عبرهما، وكذلك الشمس والقمر متضمن عجائبهما وحكمة الله فيهما ونفعه عباده بهما. ثم قال تعالى: لا تَسْجُدُوا لهذه المخلوقات وإن كانت تنفعكم، لأن النفع منهما إنما هو بتسخير الله إياهما، فهو الذي ينبغي أن يسجد له. والضمير في: خَلَقَهُنَّ قالت فرقة: هو عائد على الأيام المتقدم ذكرها. وقالت فرقة: الضمير عائد على الشمس والقمر، والاثنان جمع، وجمع ما لا يعقل يؤنث، فلذلك قال: خَلَقَهُنَّ.
قال القاضي أبو محمد: ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام، ساغ أن يعود الضمير مجموعا.
وقالت فرقة: هو عائد على الأربعة المذكورة، وشأن ضمير ما لا يعقل إذا كان العدد أقل من العشرة أن يجيء هكذا، فإذا زاد أفرد مؤنثا، تقول الأجذاع انكسرن، والجذوع انكسرت، ومنه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ [التوبة: ٣٦]، ومنه قول حسان بن ثابت:
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما وقال السموأل: [الطويل]
ولا عيب فينا غير أن سيوفنا | بها من قراع الدارعين فلول |
وقرأ الجمهور: «وربت». وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «وربأت» : بألف مهموزة، ورواها الرؤاسي عن أبي عمرو، وهو أيضا بمعنى: علت وارتفعت، ومنه الربيئة، وهو الذي يرتفع حتى يرصد للقوم ثم ذكر تعالى بالأمر الذي ينبغي أن يقاس على هذه الآية والعبرة، وذلك إحياء الموتى.
وقوله تعالى: إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عموم، والشيء في اللغة: الموجود.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣)
هذه آية وعيد. والإلحاد: الميل، وهو هاهنا عن الحق، ومن الإلحاد: لحد الميت، لأنه في جانب، يقال لحد الرجل وألحد بمعنى.
وقرأ الجمهور: «يلحدون» بضم الياء من ألحد. وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش: «يلحدون» بفتح الياء والحاء من لحد.
واختلف المفسرون في الإلحاد الذي أشير إليه ما هو؟ فقال قتادة وغيره: الإلحاد بالتكذيب. وقال مجاهد وغيره: الإلحاد بالمكاء والصفير واللغو الذي ذهبوا إليه. وقال ابن عباس: إلحادهم هو أن يوضع الكلام غير موضعه، ولفظة الإلحاد تعم هذا كله.
وقوله: لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أي فنحن بالمرصاد لهم وسنعذبهم، ثم قرر على هذين القسمين أنهما خير، وهذا التقرير هم المراد به، أي فقل لهم يا محمد أَفَمَنْ. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي جهل وعثمان بن عفان، وقيل في عمار بن ياسر، وحسن التفضيل هنا بين الإلقاء في النار والأمن يوم القيامة وإن كانا لا يشتركان في صفة الخير من حيث كان الكلام تقريرا لا مجرد خبر، لأن المقرر قد يقرر خصمه
وقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ وعيد في صيغة الأمر بإجماع من أهل العلم، ودليل الوعيد ومبينه قوله: إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ. يريد قريشا. و «الذكر» : القرآن بإجماع.
واختلف الناس في الخبر عنهم أين هو؟ فقالت فرقة: هو في قوله: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: ٤٤] ذكر النقاش أن بلال بن أبي بردة سأل عن هذا في مجلسه وقال: لم أجد لها نفاذا، فقال له أبو عمرو بن العلاء: إنه منك لقريب أُولئِكَ يُنادَوْنَ [فصلت: ٤٤]. ويرد هذا النظر كثرة الحائل، وإن هنالك قوما قد ذكروا بحسن رد قوله: أُولئِكَ يُنادَوْنَ [فصلت: ٤٤] عليهم. وقالت فرقة:
الخبر مضمر تقديره: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ هلكوا أو ضلوا. وقال بعض نحويي الكوفة الجواب في قوله: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ حكى ذلك الطبري، وهو ضعيف لا يتجه، وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن هذا، فقال عمرو معناه في التفسير: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ كفروا به وَإِنَّهُ لَكِتابٌ، فقال عيسى بن عمر: أجدت يا أبا عثمان.
قال القاضي أبو محمد: والذي يحسن في هذا هو إضمار الخبر، ولكنه عند قوم في غير هذا الموضع الذي قدره هؤلاء فيه، وإنما هو بعد حَكِيمٍ حَمِيدٍ وهو أشد إظهارا لمذمة الكفار به، وذلك أن قوله:
وَإِنَّهُ لَكِتابٌ داخل في صفة الذكر المكذب به، فلم يتم ذكر المخبر عنه إلا بعد استيفاء وصفه، وهذا كما تقول: تخالف زيدا وهو العالم الودود الذي من شأنه ومن أمره، فهذه كلها أوصاف.
ووصف تعالى الكتاب بالعزة، لأنه بصحة معانيه ممتنع الطعن فيه والإزراء عليه، وهو محفوظ من الله تعالى، قال ابن عباس: معناه كريم على الله تعالى، قال مقاتل: منيع من الشيطان. قال السدي: غير مخلوق.
وقوله: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ قال قتادة والسدي: يريد الشيطان، وظاهر اللفظ يعم الشيطان وأن يجيء أمر يبطل منه شيئا.
وقوله: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ معناه ليس فيما تقدمه من الكتب ما يبطل شيئا منه. وقوله: وَلا مِنْ خَلْفِهِ أي ليس يأتي بعده من نظر ناظر وفكرة عاقل ما يبطل أشياء منه، والمراد باللفظ على الجملة: لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات. وقوله: تَنْزِيلٌ خبر ابتداء، أي هو تنزيل.
وقوله: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون تسلية للنبي عليه السلام عن مقالات قومه، أي ما تلقى يا محمد من المكروه منهم، ولا يقولون لك من الأقوال المؤلمة إلا ما قد قيل ولقي به من تقدمك من الرسل، فلتتأسّ بهم ولتمض لأمر الله ولا يهمنك شأنهم. والمعنى
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)
الأعجمي: هو الذي لا يفصح عربيا كان أو غير عربي، والعجمي: الذي ليس من العرب فصيحا كان أو غير فصيح، وهذه الآية نزلت بسبب تخليط كان من قريش في أقوالهم من أجل الحروف التي وقعت في القرآن، وهي مما عرّب من كلام العجم: كالسجين والإستبرق ونحوه، فقال عز وجل: ولو جعلنا هذا القرآن أعجميا لا يبين لقالوا واعترضوا لولا بينت آياته.
واختلف القراء في قوله: أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ فقراءة الجمهور على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش: «أأعجمي» بهمزتين، وكأنهم كانوا ينكرون ذلك فيقولون: لولا بين أأعجمي وعربي مختلط هذا لا يحسن، وتأول ابن جبير أن معنى قولهم: أتجيئنا عجمة ونحن عرب؟ ما لنا وللعجمة؟ وقرأ الحسن البصري وأبو الأسود والجحدري وسلام والضحاك وابن عباس وابن عامر بخلاف عنهما: «أعجمي وعربي» دون استفهام وبسكون العين، كأنهم قالوا عجمة وإعراب، إن هذا لشاذ، أو كأنهم قالوا لولا فصل فصلين، فكان بعضه أعجميا يفهمه العجم، وبعضه عربيا يفهمه العرب، وهذا تأويل لابن جبير أيضا. وقرأ عمرو بن ميمون: «أعجمي» بهمزة واحدة دون مد وبفتح العين، فأخبر الله تعالى عنهم أنه لو كان على أي وجه تخيل لكان لهم قول واعتراض فاسد، هذا مقصد الكلام.
وأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يقول لهم: إن القرآن هُدىً وَشِفاءٌ للمؤمنين المبصرين للحقائق، وأنه على الذين لا يؤمنون ولا يصرفون نظرهم وحواسهم في المصنوعات عمي، لأنهم فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وعلى قلوبهم أقفال وعلى أعينهم غشاوة.
واختلف الناس في قوله: وَهُوَ عَلَيْهِمْ فقالت فرقة: يريد ب هُوَ القرآن. وقالت فرقة: وَهُوَ يريد به الوقر. والوقر: الثقل في الأذن المانع من السمع، وهذه كلها استعارات، أي هم لما لم يفهموا ولا حصلوا كالأعمى وصاحب الوقر.
وهذه القراءة أيضا فيها استعارة، وكذلك قوله تعالى: أُولئِكَ يُنادَوْنَ يحتمل معنيين، وكلاهما مفعول للمفسرين: أحدهما أنها استعارة لقلة فهمهم، شبههم بالرجل ينادى على بعد يسمع منه الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه، وهذا تأويل مجاهد، والآخر أن الكلام على الحقيقة وأن معناه أنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف، فتعظم السمعة عليهم ويحل المصاب، وهذا تأويل الضحاك بن مزاحم. ثم ضرب تعالى أمر موسى مثلا للنبي عليه السلام ولقريش، أي فعل أولئك كأفعال هؤلاء حين جاءهم مثل ما جاء هؤلاء، والكلمة السابقة هي: حتم الله تعالى بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة، والضمير في قولهم: لَفِي شَكٍّ مِنْهُ يحتمل أن يعود على موسى أو على كتابه.
وقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً الآية نصيحة بينة للعالم وتحذير وترجية وصدع بين الله تعالى لا يجعل شيئا من عقوبات عبيده في غير موضعها، بل هو العادل المتفضل الذي يجازي كل عبد بتكسبه.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠)
المعنى: أن وقت علم الساعة ومجيئها يرده كل مؤمن متكلم فيه إلى الله عز وجل. وذكر تعالى الثمار وخروجها من الأكمام وحمل الإناث مثالا لجميع الأشياء، إذ كل شيء خفي فهو في حكم هذين.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي والحسن وطلحة والأعمش: «من ثمرة» بالإفراد على أنه اسم جنس. وقرأ نافع وابن عامر: «ثمرات» بالجمع، واختلف عن عاصم وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والأعرج والحسن بخلاف، وفي مصحف عبد الله: «في ثمرة من أكمامها». والأكمام: جمع كم، وهو غلاف التمر قبل ظهوره.
وقوله تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ تقديره: واذكر يوم يناديهم والضمير في: يُنادِيهِمْ ظاهره والأسبق فيه أنه يريد به الكفار عبدة الأوثان. ويحتمل أن يريد به كل من عبد من دون الله من إنسان وغيره، وفي هذا
وقوله: وَظَنُّوا يحتمل أن يكون متصلا بما قبله ويكون الوقف عليه، ويكون قوله: ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ استئناف نفي أن يكون لهم منجى أو موضع روغان، يقول: حاص الرجل: إذا راغ يطلب النجاة من شيء، ومنه الحديث: فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، ويكون الظن على هذا التأويل على بابه، أي ظنوا أن هذه المقالة: ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ منجاة لهم، أو أمر يموهون به، ويحتمل أن يكون الوقف في قوله: مِنْ قَبْلُ، ويكون: وَظَنُّوا متصلا بقوله: ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي ظنوا ذلك، ويكون الظن على هذا التأويل بمعنى اليقين وبه فسر السدي، وهذه عبارة يطلقها أهل اللسان على الظن، ولست تجد ذلك إلا فيما علم علما قويا وتقرر في النفس ولم يتلبس به بعد، وإلا فمتى تلبس بالشيء وحصل تحت إدراك الحواس فلست تجدهم يوقعون عليه لفظة الظن.
وقوله تعالى: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ آيات نزلت في كفار قريش، قيل في الوليد بن المغيرة، وقيل في عتبة بن ربيعة، وجل الآية يعطي أنها نزلت في كفار وإن كان أولها يتضمن خلقا ربما شارك فيه بعض المؤمنين. و: دُعاءِ الْخَيْرِ إضافته المصدر إلى المفعول، والفاعل محذوف تقديره: من دعاء الخير هو.
وفي مصحف ابن مسعود: «من دعاء بالخير». والْخَيْرِ في هذه الآية: المال والصحة، وبذلك تليق الآية بالكافر، وإن قدرناه خير الآخرة فهي للمؤمن، وأما اليأس والقنط على الإطلاق فمن صفة الكافر وحده.
وقوله تعالى: لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي بعلمي وبما سعيت، ولا يرى أن النعم إنما هي بتفضل من الله تعالى: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً قول بيّن فيه الجحد والكفر. ثم يقول هذا الكافر، ولئن كان ثم رجوع كما تقولون، لتكونن لي حال ترضيني من غنى ومال وبنين، فتوعدهم الله تعالى بأنه سيعرفهم بأعمالهم الخبيثة مع إذاقتهم العذاب عليها، فهذا عذاب وخزي. وغلظ العذاب شدته وصعوبته. وقال الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: للكافر أمنيتان، أما في دنياه فهذه:
إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى. وأما في آخرته: فا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ: ٤٠].
قال القاضي أبو محمد: والأماني على الله تعالى وترك الجد في الطاعة مذموم لكل أحد، فقد قال عليه السلام: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)
وقرأ جمهور والناس: «ونأى بجانبه» الهمزة عين الفعل. وقرأ ابن عامر: «وناء» الهمزة لام الفعل، وهي قراءة أبي جعفر، والمعنى فيهما واحد. قال أبو علي: ناء قلب ابن آدم فعل فلع، ومنه قول الشاعر [كثير] :[الطويل]
وكل خليل راءني فهو قائل | من أجلك هذا هامة اليوم أو غد |
وقوله: فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أي طويل أيضا، فاستغنى بالصفة الواحدة عن لزيمتها، إذ العرض يقتضي الطول ويتضمنه، ولم يقل طويل، لأن الطويل قد لا يكون عريضا، ف عَرِيضٍ أدل على الكثرة.
ثم أمر تعالى نبيه أن يقف قريشا على هذا الاحتجاج وموضع تغريرهم بأنفسهم فقال: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ هذا الشرع مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وبأمره وخالفتموه أنتم، ألستم على هلكة من قبل الله تعالى، فمن أضل ممن يبقى على مثل هذا الغرر مع الله، وهذا هو الشقاق، ثم وعد تعالى نبيه عليه السلام بأنه سيري الكفار آياته.
واختلف المتأولون في معنى قوله: فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ فقال المنهال والسدي وجماعة: هو وعد بما يفتحه الله تعالى على رسوله من الأقطار حول مكة، وفي غير ذلك من الأرض كخيبر ونحوها. وَفِي أَنْفُسِهِمْ أراد به فتح مكة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل حسن ينتظم الإعلام بغيب ظهر وجوده بعد كذلك ويجري معه لفظ الاستئناف الذي في الفعل.
وقال الضحاك وقتادة: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ هو ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديما وَفِي أَنْفُسِهِمْ يوم بدر، وقال ابن زيد وعطاء: الْآفاقِ: آفاق السماء. وأراد: الآيات: في الشمس والقمر والرياح وغير ذلك. وَفِي أَنْفُسِهِمْ عبرة الإنسان بجسمه وحواسه وغريب خلقته وتدريجه في البطن ونحو ذلك، وهذه آيات قد كانت مرئية، فليس هذا المعنى يجري مع قوله: «سنري» والتأويل الأول أرجحها، والله أعلم. والضمير في قوله تعالى: أَنَّهُ الْحَقُّ عائد على الشرع والقرآن، فبإظهار الله إياه وفتح البلاد عليه تبين لهم أنه الحق.
وقرأ الجمهور: «أنه» بفتح الألف، وقرأ بعض الناس «إنه» بكسرها على الاعتراض أثناء القول.
وقوله: أَلا استفتاح يقتضي إقبال السامع على ما يقال له، فاستفتح الإخبار على أنهم في شك وريب وضلال أداهم إلى الشك في البعث.
وقرأ جمهور الناس: «في مرية» بكسر الميم. وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن: «في مرية» بضم الميم، والمعنى واحد، ثم استفتح الإخبار بإحاطته بكل شيء على معنى الوعيد لهم، وإحاطته تعالى هي بالقدرة والسلطان، لا إله إلا هو، العزيز الحكيم.
نجز تفسير سورة حم السجدة، والحمد لله رب العالمين.