بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية كلها، وآياتها تسع وثمانون. وهي تتضمن فيضا من المعاني الجليلة الخيرة، والأخبار العظيمة المؤثرة. ومن جملة ذلك الإخبار عن تكذيب أكثر الأمم السابقة الذين أعرضوا وتولوا عن عقيدة التوحيد، ولجوا في الكفرمعاندين متلبسين بالوثنية والشرك وغير ذلك من ضلالات الآباء والأجداد فكان جزاؤهم الإهلاك والاستئصال، ويوم القيامة يردون إلى الناروبئس القرار.
وفي السورة كثير من الأدلة والبينات على عظيم قدرة الله وأنه الإله الموجد الحق. وفيها تنديد شديد بالمشركين السفهاء الذين زعموا أن الملائكة بنات الله مستأثرين لأنفسهم بالبنين. تعالى الله عن افتراء الظالمين علوا كبيرا.
وتبين السورة أن الله رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات تبعا لاختلاف طبائعهم وتفاوت طاقاتهم وقدراتهم واستعداداتهم البدنية والعقلية. وبناء على هذه القاعدة سيتخذ الناس بعضهم بعضا سخريا وهو ما لا بأس فيه ولا غرابة.
وفي السورة إخبار عن نبي الله موسى عليه السلام، إذ دعا فرعون وقومه إلى دين الله ومجانبة الظلم والطغيان والغرور. لكن فرعون طغى وبغى، وتجبر واستكبر فأخذه الله بالتغريق نكال كفره وعتوه وطغيانه.
وفي السورة إخبار عن المسيح ابن مريم عليه السلام. وأن ولادته وبعثه إيذان للساعة وإعلام من الله بدنو قيامها.
وفيها بيان بأحوال الظالمين الخاسرين في النار وما يلاقونه فيها من شديد الأهوال وفظاعة التحريق والاصطراخ والاستيئاس.
إلى غير ذلك من ضروب الأخبار والأفكار والمعاني وألوان التحذير والتهديد والتخويف.
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ حم١ والكتاب المبين٢ إنا جعلناه قرآنان عربيا لعلكم تعقلون٣ وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ٤ أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين ٥ وكم أرسلنا من نبي في الأولين ٦ وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزءون٧ فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين ﴾
تقدم الكلام عن بعض فواتح السور من حروف التهجي المقطعة مثل ﴿ حم ﴾ وخير ما قيل في المراد بها، إن ذلك مرده إلى الله فهو سبحانه العليم بما أراد.
قوله :﴿ والكتاب المبين ﴾ الواو للقسم، فالله جل جلاله يقسم بكتابه المبين، وهو قرآنه الواضح في معانيه، الظاهر في مقاصده وأخباره ومراميه، على إنزال هذا القرآن عربيا ليتدبره الناس. وهو قوله :﴿ إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ﴾
﴿ إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ﴾ أي سميناه أو أنزلناه ﴿ قرآنا عربيا ﴾ فقد نزل القرآن بلسان العرب، لا جرم أن لغة العرب كريمة وعذبة ومميزة، فهي لسان أهل السماء، ولسان أهل الجنة في الجنة. فضلا عما يتجلى في لغة العرب من حلاوة النظم والأسلوب، وجمال الإيقاع والنغم، وجرس الألفاظ والحروف، وسرعة التأثير والنفاذ إلى الأذهان والقلوب. كل هاتيك الحقائق والمزايا التي تجلّي اللغة العربية، قد خولتها أن تتصدر اللغات جميعا في مدى الصلوح للتخاطب والتبليغ والتذكير.
ولئن باتت لغة العرب في عصرنا الراهن هذا مسبوقة بكثير من اللغات الأجنبية الأخرى من حيث الشيوع والتقدم والاهتمام فمرد ذلك إلى التسلط أو الهيمنة التي جعلت لدول الظالمين في هذا الزمان ليعبأوا بلغاتهم دون غيرها فتكون لغاتهم هي السائدة والشائعة وموضع الاهتمام والإكبار خلافا للغة القرآن. اللغة الرفيقة الفضلى التي تصدى لها الظالمون من المشركين الماكرين، والمنافقين الأتباع، بالإزراء والغض والتناسي.
قوله :﴿ لعلكم تعقلون ﴾ أي تتفكرون فيه وتتدبرون أحكامه ومعانيه.
قوله :﴿ وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ﴾ الضمير في ﴿ وإنه ﴾ عائد إلى الكتاب وهو القرآن، فهو ﴿ في أم الكتاب ﴾ وهو اللوح المحفوظ وهو أصل الكتاب ( القرآن ) وأصل كل شيء، أي أن هذا الكتاب وهو القرآن في أصل الكتاب الذي نسخ منه هذا الكتاب ﴿ لدينا لعليّ حكيم ﴾ أي إنه عندنا لذو منزلة رفيعة وقد أحكمت آياته فكان محكما لا اختلاف فيه ولا تناقض في معاينه ولا اضطراب في نظمه ولا خلل.
قوله :﴿ أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين ﴾ ﴿ صفحا ﴾ منصوب على المصدر. والتقدير : أفنصفح عنكم صفحا. أو لأن معنى ﴿ أفنضرب ﴾ أفنصفح والصفح معناه الإعراض. صفح عنه : أعرض عنه : أعرض عن ذنبه، وضرب عنه صفحا أي أعرض عنه وتركه.
وفي تأويل هذه الآية أقوال كثيرة لعل أصوبها قول ابن عباس وآخرين وهو : أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم ولم تفعلوا ما أمرتم به. وقيل : تكذبون بالقرآن ثم لا تعاقبون عليه. وقيل : أفنضرب عنكم العذاب فنترككم ونعرض عنكم لأنكم كنتم قوما مسرفين لا تؤمنون بربكم. وفي ذلك وعيد من الله للمخاطبين به من المشركين، إذ سلكوا في تكذيب رسولهم مسلك الغابرين، قبلهم، أولئك الذين عصوا رسل ربهم ونكلوا عن دين الله فأخذهم الله بنكولهم وإعراضهم.
قوله :﴿ وكم أرسلنا من نبيّ في الأوّلين ﴾ كم، هنا الخبرية ويراد بها التكثير، أي ما أكثر ما أرسلنا من النبيين في الأمم السابقة.
قوله :﴿ وما يأتيهم من نبيّ إلاّ كانوا به يستهزءون ﴾ أي ما كان يأتيهم نبي من النبيين إلا استهزأوا به كما استهزأ بك قومك هؤلاء. وفي ذلك تأنيس من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وتسلية، كيلا يبتئس أو يحزن.
قوله :﴿ فأهلكنا أشدّ منهم بطشا ﴾ ﴿ بطشا ﴾ منصوب على التمييز أو الحال، أي باطشين. والمعنى : أننا أخذنا بالإهلاك والتدمير من كان أقوى من هؤلاء المشركين، وهم أضعف من الكافرين السابقين، أحرى ألا يقدروا على الامتناع من عقابنا وانتقامنا.
قوله :﴿ ومضى مثل الأوّلين ﴾ المثل، معناه الوصف والخبر. ومثل الشيء صفته والمعنى : ومضت سنة المشركين السابقين في انتقامنا منهم فليتوقع هؤلاء المشركون المستهزئون أن يحل بهم من العقاب ما أحللناه بأولئك السابقين.
قوله تعالى :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ خلقهنّ العزيز العليم ٩ الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلّكم تهتدون ١٠ والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة مّيتا كذلك تخرجون ١١ والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ١٢ لتستوا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ١٣ وإنا إلى ربنا لمنقلبون ﴾.
يتبين من آيات الله هذه أن المشركين الأولين ما كانوا ينكرون وجود الله، بل كانوا موقنين بهذه الحقيقة الكبرى، وهي أن الله حق وأنه الخالق الموجد، فهم بذلك لم يأت على فطرتهم من المسخ والإفساد مثل الذي أتى على كثير من الكافرين الملحدين الذين ينكرون وجود الله ويجحدون الإلهية كليّا، كالشيوعيين والوجوديين وآخرين غيرهم من مناكيد البشر وأشقيائهم، أولئك الذين انمسخت فيهم الفطرة الإنسانية انمساخا وانقلبت فيهم الطبائع الأساسية رأسا على عقب، وانتكست نفوسهم وأذهانهم أشنع انتكاس فصاروا يجترون مقالة الإلحاد اجترار الأشقياء المماسيخ، خلافا للمشركين السابقين الذين كانوا يقرون بوجود الله الخالق البارئ بالرغم من اتخاذهم الشركاء والأرباب مع الله. وذلك يستبين من قوله سبحانه :﴿ ولئن سألتهم مّن خلق السّماوات والأرض ليقولنّ خلقهنّ العزيز العليم ﴾ أي لئن سألت هؤلاء المشركين يا محمد عمن خلق السماوات والأرض لسوف يجيبونك مقرين بأن خالقهن الله العزيز العليم، فهم بذلك مقرون لله بالخلق والإيجاد بالرغم من اتخاذهم مع الله شركاء وأندادا جهلا منهم وضلالا.
قوله :﴿ الّذي جعل لكم الأرض مهدا ﴾ وهذا إخبار من الله عن نفسه بأنه جعل الأرض لعباده مهادا، أي فراشا وقرارا ثابتة، فتقومون عليها وتنامون وتتصرفون في قضاء أموركم ومعايشكم ﴿ وجعل لكم فيها سبلا لعلّكم تهتدون ﴾ أي جعل لكم في الأرض طرقا ومسالك مختلفة، وذلك في السهول والجبال والوديان لكي تهتدوا في سيركم وأسفاركم فلا تضلوا.
قوله :﴿ والذي نزل من السماء ماء بقدر ﴾ أي يحسب حاجتكم وما يكفيكم لشربكم وسقي أنعامكم وزروعكم وثماركم، فهو بذلك غير مغرق ولا قاصر عن الحاجة بل هو بقدر حاجتكم.
قوله :﴿ فأنشرنا به بلدة مّيتا ﴾ أي أحيينا الأرض بماء المطر بعد أن كانت ميتة مقفرة لا نبات فيها ﴿ كذلك تخرجون ﴾ أي مثل هذا الإنشار أو الأحياء يحييكم الله بعد مماتكم فيبثعكم من قبوركم للحساب. أو كما أخرجنا بهذا الماء المنزّل من السماء النبات والزرع من هذه البلدة الميتة بجدوبها وقحوطها كذلك نخرج الناس من بعد مصيرهم في الأرض رفاتا، فإن القادر على مثل هذا الإحياء قادر على كل إحياء، ومنه إحياء الموتى وبعثهم يوم القيامة.
قوله :﴿ والذي خلق الأزواج كلها ﴾ أي خلق الله سائر الأصناف مما تنبت الأرض ومن الحيوانات على اختلاف أجناسها وأصنافها. وقال ابن عباس :﴿ الأزواج ﴾، الضروب والأنواع كالحلو والحامض، والأبيض والأسود، والذكر والأنثى.
قوله :﴿ وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ﴾ أي سخر الله لكم السفن لتركبوها في البحر وسخّر لكم من الأنعام ما يصلح للركوب في البر، كالإبل.
قوله :﴿ لتستوا على ظهوره ﴾ أي لتستعلوا متمكنين على ظهور ما تركبون من الفلك والأنعام.
قوله :﴿ ثم تذكروا نعمة ربّكم إذا استويتم عليه ﴾ إذا استعليتم راكبين على ظهور السفائن في البحر، أو الأنعام في البر، فإنه ينبغي أن تذكروا الله بدوام شكره وذكر نعمته عليكم بما ذلله لكم من أسباب الركوب والسفر ﴿ وتقولوا سبحان الذي سخّر لنا هذا ﴾ أي تذكرون الله وتسبحونه بتنزيهه عن النقائص والعيوب، وتقرون له بكامل المنّة، إذ ذلل لكم هذه الأسباب أو الركائب ﴿ وما كنّا له مقرنين ﴾ أي ما كنا مطيقين له في القوة. نقول : قرنت كذا وكذا إذا ربطته به وجعلته قرينه. وأقرنت كذا بكذا إذ أطقته وحكمته، كأنه جعله في قرن وهو الحبل فأوثقه به وشده فيه. وأقرن له : أي أطاقه وقوي عليه. والمعنى : لا نطيق هذا إلا بك ولولا أنت ما قوينا عليه ولا أطقناه. أو لولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه. قال الرازي : المعنى أنه ليس عندنا من القوة والطاقة أن نقرن هذه الدابة والفلك وأن نضبطها، فسبحان من سخرها لنا بعلمه وحكمته وكمال قدرته.
وقوله :﴿ وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون ﴾ أي لصائرون إلى الله بعد الممات.
ويسن للراكب دابته أو غيرها من وسائل الركوب والمطايا أن يدعو بهذا الدعاء إذا ركب، وخاصة في السفر. وفي ذلك روى الإمام مالك عن عبد الله بن عمر ( رضي الله عنهما ) قال : إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا ركب راحلته كبّر ثلاثا ثم قال :﴿ سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين ١٣ وإنّا إلى ربنا لمنقلبون ﴾ ثم يقول :" اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى. اللهم هوّن علينا السفر واطو لنا البعيد. اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل. اللهم أصبحنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا " وكان صلى الله عليه وسلم إذا رجع إلى أهله قال :" آيبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون " .
قوله تعالى :﴿ وجعلوا له من عباده جزءا إنّ الإنسان لكفور مبين ١٥ أم اتّخذ ممّا يخلق بنات وأصفاكم بالبنين ١٦ وإذا بشّر أحدهم بما ضرب للرّحمان مثلا ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم ١٧ أومن ينشّؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين ١٨ وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمان إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون ١٩ وقالوا لو شاء الرّحمان ما عبدناهم مّا لهم بذلك من علم إن هم إلاّ يخرصون ﴾.
ذلك تنديد شديد بالمشركين السفهاء الذين اتخذوا مع الله آلهة من عباده كالملائكة وزعموا أنها بنات الله. وهو قوله سبحانه :﴿ وجعلوا له من عباده جزءا ﴾ والمراد بالجزء الولد، فقد أثبت المشركون الولد لله. وبيان ذلك : أو ولد الرجل جزء منه. وفي الخبر :" فاطمة بضعة مني " فالولد ينفصل عن الوالد فهو جزء من أجزائه. فيكون المعنى : أنهم أثبتوا أو حكموا أن لله جزءا وذلك الجزء هو عبد من عباده وقصدوا به البنات. وهذا الزعم الفاسد الذي يهذي به الجاهليون السفهاء متصل بقوله :﴿ ولئن سألتهم مّن خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ﴾ أي لئن سألت هؤلاء المشركين عمن خلق السموات والأرض ليعترفن بأنه الله، فهم يقرون بأن الله الخالق. ومع ذلك جعلوا له جزءا، أي ولدا أو شريكا لله أفلا يعلمون أن خالق السماوات والأرض غير محتاج لشيء يتقوّى به أو يستأنس به ؟ لأن هذا من صفات النقص والله منزه عن صفات النقص.
قوله :﴿ إنّ الإنسان لكفور ﴾ المراد بالإنسان ههنا المشرك الموغل في الضلال والوهم والباطل، فإنه شديد الجحد لنعم الله التي أنعمها عليه ﴿ مّبين ﴾ أي ظاهر الكفران لما منّ الله به عليه من النعم.
قوله :﴿ أم اتخذ ممّا يخلق بنات وأصفاكم بالبنين ﴾ ﴿ أم ﴾ المنقطعة بمعنى بل والهمزة. وتقديره : بل أأتخذ مما يخلق بنات. ولا يجوز أن يكون بمعنى بل وحدها والاستفهام للإنكار والتوبيخ. والمعنى : أأتخذ ربكم لنفسه البنات واختصكم أنتم بالبنين فجعل بذلك لنفسه ما تكرهون، ولكم أنتم ما تحبون، كقوله تعالى :﴿ ألكم الذكر وله الأنثى ٢١ تلك إذا قسمة ضيزى ﴾ وذلك تعجيب من إضافتهم البنات إلى الله وهن مكروهات لديهم.
قوله :﴿ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرّحمان مثلا ظل وجهه مسودّا وهو كظيم ﴾ أي إذا بشر أحد هؤلاء الجاهليين السفهاء بما جعله لله من البنات اغتمّ واربدّ وجهه ﴿ وهو كظيم ﴾ أي مكروب و مكتئب من فرط ما يخفيه في نفسه من التغيظ والسخط.
﴿ أومن ينشّؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين ﴾ من، في موضع نصب بتقدير فعل. وتقديره : أجعلتم من ينشّأ. وقيل : في موضع رفع مبتدأ، وخبره محذوف يعني : أو يجعلون لله من يربّى وينشّأ في الزينة من الذهب والحرير وغير ذلك مما تتزين به النساء ﴿ وهو في الخصام غير مبين ﴾ أي وهو في المجادلة والاحتجاج عند من يخاصمه عاجز عن التحاج أو الإدلاء بالبرهان لضعفه. أفتجعلون من هذه صفاتهن بنات لله وأنتم تستهجنوهم وتأنفون أن يكن لكم.
وقد يتساءل معترض قائلا : إن في النساء من تقدر على المخاصمة، والمواجهة والتحاجّ أمام الرجال. والجواب أن المراد في المسألة ههنا، الأغلب، فلا شك أن غالب النساء أضعف من غالب الرجال في ظواهر شتى منها : شدة البأس، وقوة العزيمة، وصلابة الإرادة والأعصاب، وسعة الأفق في امتداد البصيرة والتفكير، والقدرة على المحاجّة والتحيّل، فالنساء في هذه الأوصاف أضعف من الرجال في الغالب. وهن في معظمهن أشد جنوحا للرقة واللين والنعومة والتلبّس بمظاهر الزينة خلافا لأغلب الرجال فهم أميل للغلظة والصلابة والخشونة وأقدر على الخصام.
قوله :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرّحمان إناثا أشهدوا خلقهم ﴾ أي اعتقد المشركون الجهلة أن الملائكة بنات فهم بذلك إناث فأنكر الله عليهم هذا الزعم المستهجن فقال :﴿ أشهدوا خلقهم ﴾ الاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي أشاهدوهم، إذ خلقهم الله إناثا أو أحضروا خلق الله إياهم، لأن قوله :﴿ أشهدوا ﴾ من الشهادة وهي الحضور.
قوله :﴿ ستكتب شهادتهم ﴾ وذلك وعيد من الله لهم وتهديد. وهو أن هذه الشهادة الظالمة التي شهدوا بها سيكتبها الله في أعمالهم ليجازيهم عليها يوم الجزاء ﴿ ويسئلون ﴾ أي يسألون يوم القيامة عما كانوا يفترون ويزعمون من الأباطيل.
قوله :﴿ وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ﴾ قال المشركون الضالون : لو أراد الله أن لا نعبد هذه التماثيل التي هي على صورة الملائكة لما عبدناها، ولكان قد حال بيننا وبين أن نعبدها، أو لأنزل بنا عقابه بعبادتها. وإنما لم ينزل بنا عقابه لرضاه بعبادتنا إياها.
تلك كانت حجة المشركين السفهاء فرد الله احتجاجهم الباطل بقوله :﴿ مّا لهم بذلك من علم ﴾ أي ليس لهم فيما قالوه من أن الله لو شاء أن لا يعبدوا الملائكة ما عبدوها، من علم، بل قالوا ذلك جهلا وسفها بغير علم وهو قوله :﴿ إن هم إلاّ يخرصون ﴾ أي ما قالوا ذلك إلا تقولا وافتراء وتخريصا.
قوله تعالى :﴿ أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون ٢١ بل قالوا إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ٢٢ وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مقتدون ٢٣ قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنّا بما أرسلتم به كافرون ٢٤ فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين ﴾.
ذلك إنكار من الله على المشركين إشراكهم معه آلهة أخرى، وزعمهم أن الملائكة بنات الله، فقال عز من قائل :﴿ أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون ﴾ ﴿ أم ﴾ المنقطعة، وهي بل وهمزة الاستفهام، أي بل أعطيناهم كتابا من قبل هذا القرآن فيه عبادة غير الله فيجعلونه لهم دليلا يحتجون به على صدق إشراكهم بربهم ؟ !
قوله :﴿ بل قالوا إنّا وجدنا آباءنا على أمّة ﴾ الأمة، الطريقة والنحلة والدين. وذلك إقرار منهم بأنهم لا يملكون لقولهم برهانا ولا حجة. وليس لهم في إشراكهم مع الله أوثانا، وزعمهم أن الملائكة بنات الله إلا التقليد الفاسد الأعمى. تقليد الآباء الغابرين، فقد وجد هؤلاء آباءهم الأقدمين على ملة الوثنية والشرك وتقديس الأصنام فاتبعوهم وهو قوله :﴿ وإنّا على آثارهم مهتدون ﴾ أي ونحن في ذلك نقتفي آثارهم ونتبعهم في عبادتهم وما كانوا به يدينون.
قوله :﴿ وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها إنّا وجدنا آباءنا على أمّة ﴾ أي مثل الذي فعله هؤلاء المشركون من قومك فعل من كان قبلهم من المشركين السابقين وقالوا مثل قولهم. وبيان ذلك : أننا ما أرسلنا إلى أهل قرية من رسول ينذرهم سوء العذاب ويحذرهم عقاب الله وغضبه إلا قال لهم المترفون وهم ههنا أشراف القوم وسادتهم وكبراؤهم في الكفر والضلال –قالوا : إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين ونحن مقتفون آثارهم في ذلك ومتبعوهم في منهاجهم وطريقتهم فنفعل كما فعلوا ونعبد ما كانوا يعبدون، فهم بذلك مقلدون في الباطل لا ينفكون عن اتباع الآباء والأجداد في مللهم وعبادتهم وليس لهم في ذلك من حجة ولا برهان.
قوله :﴿ قال أولو جئتكم بأهدى ممّا وجدّتم عليه آباءكم ﴾ قال النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين من قومه الذين يقتدون بأسلافهم من عبدة الأوثان ويمضون على خطاهم في الضلال والشرك وتعظيم الأصنام – قال لهم : أو لو جئتكم من عند الله بما هو أصوب لكم أهدى إلى طريق الحق وأصدق لكم في الدلالة على الطريق المستقيم مما وجدتم عليه آباءكم من الملل الضالة الخاطئة ﴿ قالوا إنّا بما أرسلتم به كافرون ﴾ يعني إننا بالذي جئتمونا به من دين جاحدون مكذبون. وهي مقالة الكافرين السابقين الذين آذوا رسل الله وكذبوا بما أرسلوا به وأعلنوا لهم الكفر بدعوة التوحيد. أعلنوا ذلك في اجتراء ظالم وفي غاية العتو والاستكبار.
قوله :﴿ فانتقمنا منهم ﴾ لقد انتقم الله من الظالمين المجرمين السابقين الذين كذبوا رسل الله وتولوا عن دين الله عصاة مدبرين فأنزل الله بهم عقابه الأليم. قوله :﴿ فانظر كيف كان عاقبة المكذّبين ﴾ أي انظر يا محمد ما صار إليه السابقون الظالمون من سوء العاقبة، إذ أهلكناهم إهلاكا جزاء كفرهم وتكذيبهم فكانوا عبرة للمعتبرين .
قوله تعالى :﴿ وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنّني براء مما تعبدون ٢٦ إلاّ الذي فطرني فإنّه سيهدين ٢٧ وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلّهم يرجعون ٢٨ بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جآءهم الحق ورسول مبين ٢٩ ولماّ جاءهم الحقّ قالوا هذا سحر وإنّا به كافرون ٣٠ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ٣١ أهم يقسمون رحمت ربّك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتّخذ بعضهم بعضا سخريّا ورحمت ربّك خير ممّا يجمعون ٣٢ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرّحمان لبيوتهم سقفا من فضّة ومعارج عليها يظهرون ٣٣ ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتّكئون ٣٤ وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربّك للمتّقين ﴾.
يبين الله للناس صدق هذا النبي العظيم وجرأته العظيمة في الصدع بقول الحق، وهو خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد أعلن لأبيه وقومه الضالين براءته من شركهم وما هم موغلون فيه من الضلال والباطل وهو قول سبحانه :﴿ وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون ﴾ أي واذكر حين قال إبراهيم لأبيه وقومه المشركين إنه براء من عبادتهم وشركهم. و ﴿ براء ﴾ مصدر وضع موضع النعت فلا يثنى ولا يجمع لا يؤنث وهو يستعمل للواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث. لقد أعلن إبراهيم براءته من عبادة قومه المشركين ومما هم سادرون فيه من الضلال والغواية.
قوله :﴿ إلاّ الّذي فطرني فإنّه سيهدين ﴾ أي إنني أتبرأ من شرككم وما تعبدون، إلا من الله عز وعلا، فيكون استثناء بذلك متصلا، لأنهم كانوا يعبدون الأصنام مع عبادتهم لله. ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا فتكون إلا بمعنى لكن. ويكون المعنى بذلك : لكن الذي فطرني فإنه سيهديني، أي سيرشدني لدينه القويم وطريقه الحق المستقيم.
قوله :﴿ وجعلها كلمة باقية في عقبه ﴾ الضمير في قوله :﴿ وجعلها ﴾ عائد على قوله :﴿ إلاّ الّذي فطرني ﴾ وتعني التوحيد. يعني وجعل كلمة التوحيد ﴿ باقية في عقبه ﴾ وهم ذريته. وفاعل قوله :﴿ وجعلها ﴾ عائد إلى الله عز وجل، أي وجعل الله كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم وهم ولده وولد ولده. والمراد بالكلمة ههنا : توحيد الله جل وعلا، أو شهادة لا إله إلا الله. وقيل : المراد بالكلمة الإسلام. وقيل : النبوة، فلم تزل باقية في ذرية إبراهيم. والمعنى : أن مقالة الحق والتوحيد وإفراد الله بالعبادة والإلهية دون غيره من الأنداد، باقية في عقب إبراهيم وهم خلفه من بعده، فقد توارثوا البراءة من عبادة غير الله وأوصى بعضهم بعضا بذلك.
قوله :﴿ لعلّهم يرجعون ﴾ أي يرجعون إلى طاعة الله وعبادته وحده ويتبرأون من الشرك واتخاذ الآلهة والأنداد.
قوله :﴿ بل متعت هؤلاء وآباءهم ﴾ متّع الله هؤلاء المشركين والذين من قبلهم من السالفين الذين عبدوا من دون الله آلهة- متعهم جميعا بالحياة والأهل والأولاد والأموال وضروب النعم ولم يعاجلهم بالعقاب ﴿ حتّى جاءهم الحقّ ورسول مبين ﴾ أي متّعهم الله بما ذكر حتى نزّل عليهم القرآن وهو الحق من ربهم وجاءهم من عند الله رسول كريم يدعوهم إلى دين الله ويبين سبيل السعادة والنجاة.
قوله :﴿ ولماّ جآءهم الحق قالوا هذا سحر ﴾ لما جاء القرآن قريشا قالوا في عتوّ واستكبار واستسخار : هلا أنزل هذا القرآن على رجل عظيم من أهل إحدى القريتين وهما مكة والطائف المراد بالرجلين الوليد بن المغيرة عم أبي جهل وهو من مكة. أما الذي من الطائف فهو أبو مسعود، عروة بن مسعود الثقفي. وكان ابن المغيرة يقول في اغترار وصلف : لو كان ما يقوله محمد حقّا لنزل علي أو على أبي مسعود. لا جرم أن ما يقولونه باطل وهم يعلمون في أنفسهم أنهم مبطلون. وما كانت أمنيتهم هذه إلا هراء وضربا من الثرثرة الفارغة واللغط الأعمى. وهم في أعماقهم موقنون أن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه وأنه الصادق الأمين الذي ما كذب طيلة حياته البتة. فما قاله المشركون إن هو إلا زور ومنكر أفرزته قلوبهم المضطغنة الغلف.
قوله :﴿ أهم يقسمون رحمت ربّك ﴾ الاستفهام للإنكار. وذلك رد لاعتراض المشركين على بعث محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله وحده الذي يصطفي من عباده من يشاء لحمل الرسالة، وليكون للناس بشيرا ونذيرا، و الله جل وعلا أعلم حيث يجعل رسالته، فليس ذلك من شأن هؤلاء المشركين الجاهلين.
قوله :﴿ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدّنيا ﴾ أي كما قسم الله رحمته وكرامته بين من شاء من عباده الأخيار ليكونوا نبيين ومرسلين كذلك قسم الله بين العباد معيشتهم في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأموال ومختلف أنواع النعم، فيكون فيهم الكيّس والخامل، والغبي والفطن، والعيي واللّسن، والأغنياء والفقراء. فكان الناس بذلك مختلفين في الطاقات والقدرات، والمواهب والاستعدادات، ليكونوا بذلك متفاوتين في الدرجات. وهو قوله سبحانه :﴿ ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ﴾ أي فاضل الله بين عباده فجعل بعضهم أفضل من بعض في حاجات الدنيا وفي مظاهرها ومتاعها، كالرزق والرياسة والعلم والفهم، فهم في ذلك كله متفاوتون متباينون، فإن فيهم الغني والفقير، والذكي والغبي، والعالم والجاهل، والناشط والعاجز، ، والشجاع والخائر. وفيهم ذو الهمة المترفع والصفيق المتبلّد. وهكذا الناس جميعا مختلفون في جبلاتهم وطبائعهم واستعدادتهم. وذلك يفضي بالضرورة إلى الاختلاف والتفاوت في أرزاق العباد، وفي درجاتهم في الحياة الدنيا ﴿ ليتّخذ بعضهم بعضا سخريّا ﴾ أي ليستخدم بعضهم بعضا، فيستخدم الغني الفقير، والرئيس المرءوس، والقوي الضعيف، والعالم الجاهل، والذكي من دونه من أولي الغباوة وهوان العقل.
قوله :﴿ ورحمت ربّك خير مما يجمعون ﴾ المراد بالرحمة ما كتبه الله لعباده الصالحين من وجوه النعم وعظيم الجزاء في الآخرة. لا جرم أن ذلك خير مما يجمعه الغافلون من الأموال وأوجه المتاع في حياتهم الدنيا.
قوله :﴿ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرّحمان لبيوتهم سقفا من فضّة ﴾ ﴿ أمة ﴾، بمعنى دين أو ملة. و ﴿ لبيوتهم ﴾، بدل اشتمال من الموصول ﴿ لمن ﴾ وسقف بالضم جمع سقف ﴿ ومعارج ﴾، جمع معراج وهو السلم أو الدرج. والمعارج بمعنى المراقي والسلاليم. وعليها يظهرون، أي يرتقون ويصعدون على المراقي والسلاليم.
وهذه الآية تدل على هوان الدنيا على الله وأنها لبالغ حقارتها وبساطتها لا تزن عند الله جناح بعوضة. ولولا اغترار الناس بزينة الحياة الدنيا وشدة تلبسهم بها وبشهواتها، وإدبارهم عن الله والدار الآخرة وفرط جنوحهم للكفر طمعا في نعيم الدنيا ولذائذها لأفاض الله على الكافرين من وافر الخيرات والنعم، فلجعل سقف بيوتهم ومراقيهم ومتكئاتهم من الفضة والذهب مبالغة في إسباغ الخير والزينة عليهم. فإذا رأى الناس ذلك سارعوا في الكفر ولجوا في الطغيان والضلال والفسق عن دين الله طلبا لزهرة الحياة الدنيا ومتاعها مما حظي به الكافرون. وحينئذ يصير الناس جميعا إلى ملة واحدة، وهي ملة الكفر. قال المفسرون في معنى الآية : لولا أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطى الله الكافرين في الدنيا ما وصفه في الآية، وذلك لهوان الدنيا عند الله، فقد ذكر الله حقارة الدنيا وهوانها بحيث كان يجعل بيوت الكفرة ودرجها ذهبا وفضة لولا غلبة حب الدنيا على الآخرة فيحمل ذلك على الكفر، قال الرازي في معنى الآية : لولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكافر في سعة من الخير والرزق لأعطيتهم أكثر الأسباب المفيدة للتنعم.
وقال صاحب الكشاف : لولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر ويطبقوا عليه لجعلنا لحقارة زهرة الحياة الدنيا عندنا للكفار سقوفا ومصاعد وأبوابا وسررا كلها من فضة وجعلنا لهم زخرفا، أي زينة من كل شيء. والزخرف : الزينة والذهب. فإن قلت : فحين لم يوسع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدي إليها التوسعة عليهم من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها فهلا وسّع على المسلمين ليطبق الناس على الإسلام ؟ قلت : التوسعة عليهم مفسدة أيضا لما تؤدي إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا، والدخول في الدين لأجل الدنيا من دين المنافقين.
قوله :﴿ ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتّكئون ﴾ وهذه الآية تدل على هوان الدنيا على الله وأنها لبالغ حقارتها وبساطتها لا تزن عند الله جناح بعوضة. ولولا اغترار الناس بزينة الحياة الدنيا وشدة تلبسهم بها وبشهواتها، وإدبارهم عن الله والدار الآخرة وفرط جنوحهم للكفر طمعا في نعيم الدنيا ولذائذها لأفاض الله على الكافرين من وافر الخيرات والنعم، فلجعل سقف بيوتهم ومراقيهم ومتكئاتهم من الفضة والذهب مبالغة في إسباغ الخير والزينة عليهم. فإذا رأى الناس ذلك سارعوا في الكفر ولجوا في الطغيان والضلال والفسق عن دين الله طلبا لزهرة الحياة الدنيا ومتاعها مما حظي به الكافرون. وحينئذ يصير الناس جميعا إلى ملة واحدة، وهي ملة الكفر. قال المفسرون في معنى الآية : لولا أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطى الله الكافرين في الدنيا ما وصفه في الآية، وذلك لهوان الدنيا عند الله، فقد ذكر الله حقارة الدنيا وهوانها بحيث كان يجعل بيوت الكفرة ودرجها ذهبا وفضة لولا غلبة حب الدنيا على الآخرة فيحمل ذلك على الكفر، قال الرازي في معنى الآية : لولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكافر في سعة من الخير والرزق لأعطيتهم أكثر الأسباب المفيدة للتنعم.
وقال صاحب الكشاف : لولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر ويطبقوا عليه لجعلنا لحقارة زهرة الحياة الدنيا عندنا للكفار سقوفا ومصاعد وأبوابا وسررا كلها من فضة وجعلنا لهم زخرفا، أي زينة من كل شيء. والزخرف : الزينة والذهب. فإن قلت : فحين لم يوسع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدي إليها التوسعة عليهم من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها فهلا وسّع على المسلمين ليطبق الناس على الإسلام ؟ قلت : التوسعة عليهم مفسدة أيضا لما تؤدي إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا، والدخول في الدين لأجل الدنيا من دين المنافقين.
قوله :﴿ وزخرفا ﴾ منصوب بفعل مقدر، وتقديره : وجعلنا لهم زخرفا والزخرف الذهب. ثم يشبّه به كل مموه مزور. والمزخرف معناه المزين وقال ابن العربي " معنى الآية : أن الدنيا عند الله تعالى من الهوان بحيث كان يجعل بيوت الكفار ودرجها وأبوابها ذهبا وفضة لولا غلبة حب الدنيا على القلوب فيحمل ذلك على الكفر. قوله :﴿ وإن كل ذلك لماّ متاع الحياة الدنيا ﴾ ﴿ إن ﴾، المخففة بمعنى ما. و ﴿ لماّ ﴾ المشددة بمعنى إلا. يعني : وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا.
قوله :﴿ والآخرة عند ربّك للمتّقين ﴾ جعل الله الجزاء العظيم في الآخرة للمؤمنين المتقين الذين اجتنبوا الشرك والمعاصي وأخلصوا دينهم لله، فأطاعوه وأنابوا إليه خاشعين مذعنين والتزموا شرعه ومنهاجه. لا جرم أن الدار الآخرة لهي دار البقاء والقرار. الدار التي لا يفنى نعيمها ولا يزول.
قوله تعالى :﴿ ومن يعش عن ذكر الرّحمان نقيّض له شيطانا فهو له قرين ٣٦ وإنّهم ليصدّونهم عن السّبيل ويحسبون أنّهم مهتدون ٣٧ حتّى إذا جآءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ٣٨ ولن ينفعكم اليوم إذ ظّلمتم أنّكم في العذاب مشتركون ٣٩ أفأنت تسمع الصّمّ أو تهدي العمى ومن كان في ضلال مبين ٤٠ فإمّا نذهبنّ بك فإنّا منهم مّنتقمون ٤١ أو نرينّك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون ٤٢ فاستمسك بالذي أوحى إليك إنك على صراط مستقيم ٤٣ وإنّه لذكر لّك ولقومك وسوف تسئلون ٤٤ وسأل من أرسلنا من قبلك من رّسلنا أجعلنا من دون الرّحمان آلهة يعبدون ﴾.
﴿ يعش ﴾ بمعنى يعمى، ومنه عشا عشا إذا عمي. والعشا مصدر الأعشى وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار. والمرأة عشواء، وعشا عنه أي أعرض ومعنى الآية : من يعرض عن القرآن وما فيه من جليل المعاني والأحكام والعبر فيعتاض عن ذلك بالأباطيل والضلالات يعاقبه الله بشيطان يقيضه له. وهو قوله :﴿ نقيّض له شيطانا ﴾ ﴿ نقيّض له ﴾، أي نقدر له ونسبب. نقول : قيّض الله فلانا بفلان، أي جاء به وأتاحه له. ﴿ وقيّضنا لهم قرنآء ﴾ أي سبّبنا لهم من حيث لا يحتسبون .
فالله جل وعلا يتوعد من أعرض عن دينه وقرآنه بعقابه بشيطان يقيضه له فيلازمه ويضله ﴿ فهو له قرين ﴾ أي ملازم له ومصاحب، فهو يتبعه في الدنيا ولا يفارقه ليوحي إليه الكفر وفعل المعاصي والسيئات، ويكرّه إليه الإيمان والطاعات. وهو كذلك قرينه في الآخرة. فإذا خرج من قبره فإنه يشفع بشيطان لا يزال معه حتى يدخلا النار معا بخلاف المؤمن، فإنه يشفع بملك حتى يقضي الله بين العباد.
قوله :﴿ وإنهم ليصدّونهم عن السبيل ﴾ الشياطين الذين يلازمون أتباعهم من فسقة الإنس يوحون إليهم دائما حب الكفر والعصيان ويزينون لهم فعل المعاصي والموبقات، فهم بذلك يصدونهم عن التوحيد وعن دين الله وما فيه من الأحكام والأوامر والعبر ﴿ ويحسبون أنهم مّهتدون ﴾ وذلك هو ديدن الظالمين الفاسقين عن أمر الله في كل زمان فإنهم مما غشيهم من الغرور وفرط الجهالة والضلال يحسبون أنهم على حق وأنهم على الصراط السوي المستقيم. وهم في الحقيقة ضالون تائهون موغلون في العصيان والباطل.
قوله :﴿ حتّى إذا جآءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين ﴾ هذا الغافل عن دين الله، السادر في الكفر والباطل إذ جاء ربه يوم القيامة ومعه قرينه الشيطان يلازمه ولا يفارقه تمنى لو أن بينه وبين قرينه الشيطان بعد المشرقين، أي بعد ما بين المشرق والمغرب. أو ما بين مشرق الشتاء ومشرق الصيف.
قوله :﴿ فبئس القرين ﴾ أي بئس الصاحب أنت، فهو ملازمه ومصاحبه يوم القيامة دون مفارقة حتى يصير به إلى النار.
قوله :﴿ ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ﴾ ﴿ أنكم ﴾ في
محل رفع على الفاعلية، يعني : ولن ينفعكم اليوم كونكم مشتركين في العذاب والسبب في ذلك أن الناس يقولون : إن المصيبة إذا عمت طابت لتعاون الجميع في حمل أعبائها. فالصحيح أن كل واحد منهم به من العذاب مالا يطيقه. وقرأ بعضهم ( إنكم ) بالكسر.
قوله :﴿ أفأنت تسمع الصّمّ أو تهدي العمي ﴾ الهمزة لإنكار التعجب، وفي ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإخبار له بأنه لا يملك القدرة على إسماع من سلبه الله الاستطاعة لسماع الحجج والدلائل، ولا هداية من أعمى الله قلبه عن إبصار الحق والهدى، فإنه لا يقدر على ذلك إلا الله الخالق. فما ينبغي أن يضيق صدرك يا محمد بضلال هؤلاء المشركين وعدم اهتدائهم للحق وشدة جموحهم نحو الباطل ﴿ ومن كان في ضلال مبين ﴾ معطوف على ما قبله، أي إنك لا تهدي من حاد عن صراط الله أو سلك غير سبيل الحق. إن هؤلاء الكافرين جميعا أشبه بالصّم الذين لا يعقلون ما جئتهم به، وأشبه بالعمي الذين لا يبصرون الحق والنور لإفراطهم في الضلالة وإيغالهم في الجهالة.
قوله :﴿ فإمّا نذهبنّ بك فإنّا منهم مّنتقمون ﴾ يعني إن نذهب بك يا محمد من بين أظهر هؤلاء المشركين فنخرجك من بينهم فإنا منتقمون منهم كما فعلنا ذلك بغيرهم من الأقوام السابقين الذين كذبوا رسلهم.
قوله تعالى :﴿ أو نرينّك الّذي وعدناهم فإنّا عليهم مّقتدرون ﴾ يعني نريك ما وعدناهم من ظفرك بهم وانتصارك عليهم، فإنا مقتدرون على إعلاء شأنك وإظهار دينك عليهم. قال ابن عباس : قد أراه الله ذلك يوم بدر. فقد أظهر الله فيه الإسلام والمسلمين، وأعز الله دينه وأعلى من شأن رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿ فاستمسك بالذي أوحى إليك إنك على صراط مستقيم ﴾ ذلك تأنيس من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وتثبيت لقلبه، كيلا يعبأ أو يبتئس أو يتزعزع من كيد الكافرين وإعراضهم وصدهم عن دينه فيقول له : تمسّك بما أوحي إليك يا محمد وهو القرآن فإنك على الصراط الحق صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام العظيم.
قوله :﴿ وإنّه لذكر لك ولقومك ﴾ يعني القرآن، فهو شرف لك يا محمد ولقومك من قريش، فقد نزل القرآن بلسان قريش فاحتاجت العرب على اختلاف قبائلها إلى أن تتعلم لسان قريش ليتدبروا معاني القرآن فيقفوا على بلاغته وروائع إعجازه وظواهر كماله، وبذلك شرفت قريش على سائر أهل اللغات.
قوله :﴿ وسوف تسئلون ﴾ يعني سوف يسألك الله وإياهم عما عملتم في هذا الكتاب الحكيم الذي فيه ذكركم، هل التزمتم أحكامه وأوامره وازدجرتم عن زواجره، وتجنبتم مناهيه ومحاذيره، وهل عملتم على إشاعة معانيه وأفكاره ومقاصده بين العباد ترغيبا لهم فيه.
قوله :﴿ وسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرّحمان آلهة يعبدون ﴾ يعني سل المؤمنين من أهل الكتابين، التوراة والإنجيل : هل جاءتهم رسلهم إلا بالتوحيد وعبادة الله وحده. والمراد التأكيد على أن جميع الرسل قد دعوا إلى ما دعوت أنت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة الأصنام والأنداد.
قوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فقال إنّي رسول ربّ العالمين ٤٦ فلمّا جآءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون ٤٧ وما نريهم من آية إلاّ هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلّهم يرجعون ٤٨ وقالوا يآأيّه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون ٤٩ فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ﴾.
ذلك إخبار من الله عن نبيه وكليمه موسى عليه الصلاة والسلام، إذ أرسله الله ﴿ إلى فرعون وملإيه ﴾ وهم أشراف قومه وكبراؤهم وسادتهم.
أرسله إليهم بالمعجزات الخوارق وهي تسع آيات بينات يستيقنها كل ذي لب وبصر، ولا ينكرها أو يكذب بها إلا كل جحود عتلّ مستغرق في الضلالة والعتوّ ﴿ فقال إني رسول رب العالمين ﴾ نبّههم موسى إلى أنه مرسل إليهم من ربه وقد جاءهم بهذه المعجزات الخوارق التي لا يؤتى مثلها إلا نبي مبعوث من رب العالمين.
﴿ فلمّا جآءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون ﴾ ضحك فرعون ومن حوله من الأتباع والرعاع والمنافقين من قومه القبط – استهزاء وسخرية من الآيات البينات والمعجزات الباهرات التي تقرع الأذهان وتفزع القلوب إفزاعا. لكن القوم وفي رأسهم الطاغية الأكبر فرعون، قد سخروا من آيات الله ومعجزاته مكابرة وعنادا وإفراطا في التجبر والاستكبار. وهم في ذلك يبتغون إيهام شعبهم الخائر المستخفّ أن ما جاءهم به موسى من المعجزات ليس إلا ضربا من السحر والتخييل.
قوله :﴿ وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها ﴾ أتتهم الآيات الخوارق من عند الله، الواحدة تلو الأخرى. وما من آية معجزة بينة من هذه الآيات تأتيهم إلا كانت أعظم مما قبلها من المعجزات مع أن تلك المعجزات جميعا عظيمات ويشهدن بصدق نبوة موسى وأنه مرسل من ربه. لكن القوم، وفي رأسهم الطاغوت الأثيم المتجبر فرعون، موغلون في الغفلة والعناد والتمرد. وبذلك استحقوا من الله أن يأخذهم بعذاب من عنده بسبب تكذيبهم وعتوهم. ولقد كان ذلك.
وهو قوله سبحانه :﴿ وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون ﴾ أنزل الله بهم عذابا، جزاء كفرهم وظلمهم واستسخارهم بآيات الله، فقد أخذهم بالسنين ونقص من الثمرات وبالجراد والقمل والضفادع والدم، وهو ما بيناه سابقا ﴿ لعلّهم يرجعون ﴾ أي يتذكرون ويكفّون عن ظلمهم وتكذيبهم فيبادرون الإيمان والطاعة وحسن المتاب.
لقد بيّن الله ذلك لرسوله صلى الله عليه وسلم تأنيسا له وتسلية، كيلا يحزن أو يبتئس من تكذيب قومه وصدّهم عن دين الله وعن سبيله المستقيم.
قوله :﴿ وقالوا ياأيّه السّاحر ادع لنا ربّك بما عهد عندك إنّنا لمهتدون ﴾ لما عاين فرعون وقومه العذاب وكابدوا من شدة ما نزل بهم أشد المكابدة، حفوا مسرعين إلى موسى يسألونه في تكريم له وتوقير أن يتضرع إلى ربه عسى أن يكشف عنهم البلاء، فقالوا له :﴿ يآأيّه الساحر ﴾ وليس وصفه بالسحر من باب الذم بل من باب المدح له و الثناء. و المراد بالساحر في زمانهم، العالم. فقد كان الساحر عظيما وهو فيهم موضع توقير و إجلال. ثم قالوا له :﴿ ادعوا لنا ربك بما عهد عندك ﴾ أي ادع الله بعهده الذي عهد إليك أننا إن آمنا بك و اتبعناك كشف عنا الرجز ( العذاب ) فاسأل الله عسى أن يكشف عنا ما نزل بنا من البلاء { إننا لمهتدون أي لمصدقون فيما جئتنا به فمتبعوك في دينك.
قوله :﴿ فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون ﴾ ينكثون من النكث وهو النقض والمعنى : أن موسى عليه السلام دعا ربه أن يكشف العذاب عن القوم لعلهم يتوبون إلى الله فيؤمنون بدعوة للتوحيد ويصدقون بما جاءهم من الوحي. فاستجاب الله سؤال موسى، إذ كشف عنهم العذاب. لكنهم نقضوا عهدهم مع الله ولجوا في الغدر وسوء الخصام.
قوله تعالى ﴿ ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون ٥١ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ٥٢ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ٥٣ فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ٥٤ فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ٥٥ فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ﴾.
خشي فرعون أن يشيع موسى وينتشر فيميل إليه الناس، فبادر لجمع القوم فنادى فيهم قائلا ﴿ ياقوم أليس لي ملك مصر ﴾ قال فرعون متبجحا مستكبرا وهو يغشاه الغرور و الإنتفاش والصلف : أليست المالك لمصر ولا ينازعني في ذلك أحد ﴿ وهذه الأنهار تجري من تحتي ﴾ يريد بذلك أنهار النيل وقد أعماه الغرور والطر والاستكبار و يدل على ذلك قوله لهم ﴿ أفلا تبصرون ﴾ قال لهم ذلك موبخا مستعليا مستخفا. وهو : أفلا ترون عظمتي وقوتي و قدرتي على حكمكم و رعايتكم. أو أفلا ترون ما أنا فيه من النعيم والخيرو العز، وما عليه موسى من الفقر والضعف وعيّ اللسان.
قوله :﴿ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ﴾ ﴿ أم ﴾ المنقطعة وهي ها هنا بمعنى بل أي بل أنا خير من هذا الضعيف الممتهن الذي لا عز له ولا ملك ولا سلطان. ذلك هو قول الطاغوت الشقي فرعون، إذ يصف فيه نبي الله موسى بما ذكر من الوصف الباطل. وإنه كفى بموسى عليه الصلاة والسلام أن يشهد الله له بصدق النبوة الطاهرة والتكليم الرباني الرفيع المشرّف.
قوله :﴿ ولا يكاد يبين ﴾ أي لا يكاد يظهر كلامه من عيّ لسان. يسخر الطاغية الأثيم المتجبر فرعون من كليم الله موسى لعقدة في لسانه وهي خصلة خلقية قدرها الله كما قدر كل الخصال الخلقية في العباد.
قوله :﴿ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب ﴾ ( لولا ) بمعنى هلا، وهي أداة تحضيض و ﴿ أسورة ﴾ جمع سوار. وقرأ بعضهم أساور، جمع إسوار. وقرأ آخرون أساوير. وكانت الأسورة في ذلك الزمان زيّ شرف وعلامة سيادة. فكانوا إذا سودوا رجلا ألبسوه سوارين وطوقوه بطوق من ذهب علامة لسيادته. والمعنى : هلا ألقى إله موسى عليه أسورة من ذهب ليتبين بذلك صدقه ﴿ أو جآء معه الملائكة مقترنين ﴾ أي متتابعين. والمعنى : هلا جاء معه الملائكة متتابعين وقد اقترن بعضهم ببعض فيكون ذلك شهادة له بأنه صادق وأنه مرسل من ربه.
قوله :﴿ فاستخفّ قومه فأطاعوه ﴾ أي حملهم فرعون بكيده وغروره وطغيانه على السفه والخفة والجهل فاستجابوا له. وقيل : وجدهم خفاف العقول، ضعاف الأحلام فدعاهم إلى الضلالة فأطاعوه ﴿ إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾ أي خارجين عن طاعة الله.
وذلك هو ديدن الطغاة المجرمين من الساسة الظلمة في كل زمان. أولئك الذين يستخفون عقول مستخدميهم من الزبانية المتجبرين الجلادين ليحملوهم على التصدي للداعين إلى دين الإسلام بالقمع والقهر والصد والتنكيل.
إن الحكام الطغاة من جبابرة الأرض المتسلطين على رقاب المسلمين يستغلون في موظفيهم ومستخدميهم من العساكر والمستخبرين والمأمورين الجهلة تفاهة هممهم. ومروءاتهم وهوان عقولهم فضلا عن موات الضمائر في صدورهم ليسخروهم في تحطيم الدعوة إلى دين الإسلام، والقضاء على الدعاة إلى الله ليبيدوهم أو ينكلوا بهم تنكيلا.
قوله :﴿ فلما آسفونا انتقمنا منهم ﴾ أي لما أغضبونا بطغيانهم وشدة جحودهم وصدهم عن دين الحق ﴿ انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ﴾ انتقم الله من فرعون وملئه المجرمين بعذابه الشديد، إذ أغرقهم في البحر فأخذهم جميعا شر أخذة ونكل بهم أفظع تنكيل.
قوله :﴿ فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ﴾ السلف، معناه المتقدم. والمثل، العبرة والعظة، أي جعل الله فرعون وقومه المجرمين مقدمة يتقدمون كفار قريش إلى النار ﴿ ومثلا ﴾ أي وعبرة وعظة بما حل بهم من الإغراق والإهلاك لمن يتذكر أو يعتبر من الأجيال من بعدهم.
قوله تعالى :﴿ ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ٥٧ وقالوا ءآلهتنا خير أم هو ماضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ٥٨ إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ٥٩ ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ٦٠ وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم ٦١ ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين ٦٢ ولما جآء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون ٦٣ إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ٦٤ فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم ﴾
ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذه الآية نزلت في خصومة ابن الزبعري مع النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ﴾ فقال ابن الزبعري : خصمتك ورب الكعبة، أليست النصارى يعبدون المسيح، واليهود يعبدون عزيرا، وبنو مليح يعبدون الملائكة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته " فأنزل الله عز وجل قوله :﴿ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ﴾ أي المسيح وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان، وروي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش : " يامعشر قريش لا خير في أحد يعبد من دون الله " قالوا : أليس تزعم أن عيسى كان عبدا نبيا وعبدا صالحا، فإن كان كما تزعم فقد كان يعبد من دون الله فأنزل الله ﴿ ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ﴾ مريم، لا تنصرف للتعريف والعجمة. وقيل : للتعريف والتأنيثو ﴿ يصدون ﴾، بكسر الصاد يضجون. نقول : يصدون صديدا والمعنى : ولما ضرب عبد الله بن الزبعري عيسى ابن مريم مثلا وجادل رسول الله بعبادة النصارى إياه ﴿ إذا قومك ﴾ قريش من هذا المثل ﴿ يصدون ﴾ أي يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحا وجذلا وضحكا بما ظنوه واهمين سفهاء أن ابن الزبعري قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وقالوا ءآلهتنا خير أم هو ﴾.
قوله :﴿ وقالوا ءآلهتنا خير أم هو ﴾ أي : أآلهتنا خير أم المسيح. فقد خاصموا النبي قائلين : إن كان كل من عبد غير الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة. وقيل : يريدون بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم يعني : أآلهتنا خير أم محمد ؟ وقد ذكروا ذلك لأنهم قالوا : إن محمدا يدعونا إلى عبادة نفسه، وأباؤنا زعموا أنه يجب عبادة هذه الأصنام. وإذا كان لابد من أحد هذين الأمرين فعبادة هذه الأصنام أولى.
قوله :﴿ ما ضربوه لك إلا جدلا ﴾ ﴿ جدلا ﴾ منصوب على الحال، أي ما ضربوا لك هذا المثل إلا ابتغاء الجدل وبفرط جنوحهم للتخاصم ﴿ بل هم قوم خصمون ﴾ أي شديدو الخصومة واللدد.
قوله :﴿ إن هو إلا عبد أنعمنا عليه ﴾ يعني ما المسيح عيسى ابن مريم إلا عبد من عبادنا أنعمنا عليه بالإيمان والنبوة ﴿ وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ﴾ أي جعلناه آية لبني إسرائيل وحجة لنا عليهم، فقد ولد من غير أب، وخاطب الناس في المهد صبيا، ثم أرسلناه إليهم رسولا فأخرجنا على يديه معجزات كبريات، من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك.
قوله :﴿ ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ﴾ يعني لو نشاء لأهلكناكم أيها الناس ثم جعلنا بدلا منكم ملائكة في الأرض يخلفونكم فيها فيعبدون الله. كقوله عز وعلا :﴿ إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ﴾.
قوله :﴿ وإنه لعلم للساعة ﴾ المراد خروج عيسى عليه الصلاة والسلام إلى الدنيا وذلك شرط من أشراط الساعة، فإن الله ينزله من السماء إلى الأرض قبيل قيام الساعة. وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إمام عادلا وحكما مقسطا. قوله :﴿ فلا تمترن بها ﴾ أي لا تشكوا في قيامها فإنها واقعة لا محالة. قوله :﴿ واتبعون ﴾ أي فيما أمرتكم بفعله وانتهوا عما نهيتكم عنه ﴿ هذا صراط مستقيم ﴾ أي ما أدعوكم إليه من الحق والتوحيد والإذعان لله بالطاعة لهو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه والذي يفضي إلى السعادة والنجاة.
قوله :﴿ ولا يصدنكم الشيطان ﴾ أي لا يحملنكم الشيطان على العدول عما أدعوكم إليه من عبادة الله وحده وطاعته فيما أمركم به.
قوله :﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾ الشيطان شديد العداوة والكراهية لذرية آدم، فهو يحرض دون ملل أو انقطاع على إضلاكم وإهلاككم.
قوله :﴿ ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ﴾ لما جاء عيسى بني إسرائيل بالحجج الظاهرة والمعجزات الباهرة كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير من هيئته من الطين وإنزال المائدة من السماء والإخبار بالغيوب ﴿ قال قد جئتكم بالحكمة ﴾ أي جئتكم بالنبوة. وقيل : الإنجيل. وقيل : الحكمة هي المعرفة بذات الله وصفاته وأفعاله، أو هي أصول الدين.
قوله :﴿ ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ﴾ يعني لأبين لبني إسرائيل بعض ما اختلفوا فيه من أحكام التوراة. أو مما اختلفوا فيه من الأمور الدينية والدنيوية. قوله :﴿ فاتقوا الله وأطيعون ﴾ أي خافوا ربكم واعبدوه وحده واجتنبوا معاصيه وأطيعوني فيما أمربكم به ودعوتكم إليه من إفراد الله وحده بالعبادة والإذعان والخشوع.
قوله :﴿ إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه ﴾ الله رب كل شيء وخالقه ومدبر أمره، فأفردوه بالألوهية وإخلاص الطاعة له ولا تشركوا به شيئا.
قوله :﴿ هذا صراط مستقيم ﴾ أي هذا الذي أمرتكم به من إفراد الله وحده بالعبادة والاستسلام والإذعان، وطاعته فيما أمر والانتهاء عما زجر، لهو الطريق القويم الذي لا زيغ فيه ولا عوج، وهو الدين الحق المستقيم الذي فيه منجاتكم وسعادتكم وصلاحكم في الدنيا والآخرة.
قوله :﴿ فاختلف الأحزاب من بينهم ﴾ المراد بالأحزاب فرق النصارى المختلفة بعد المسيح، فقد تحزبوا واختلفوا ما بينهم في حقيقة المسيح، فكانوا فرقا ونحلا متباينة شتى وهم الملكانية إذ قالوا : ثالث ثلاثة، أحدهم الله، واليعقوبية إذ قالوا : المسيح هو الله، والنسطورية إذ قالوا : إنه ابن الله. وإن ذلكم لهو افتراء باطل وتخريص موهوم شنيع تعالى الله عما يتقوّله المشركون علوا عظيما.
قوله :﴿ فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم ﴾ ذلك وعيد شديد من الله لهؤلاء المشركين، إذ يتوعدهم بعذابه الأليم يوم القيامة بسبب ظلمهم وافترائهم على الله، إذ اصطنعوا له الشريك والولد.
قوله تعالى :﴿ هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون ٦٦ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ٦٧ ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ٦٨ الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ٦٩ ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ٧٠ يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ٨١ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ٨٢ لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون ﴾
ماذا ينتظر الظالمون والمشركون الذين أضلوا أنفسهم وباءوا بالهلاك والخسران، غير العذاب البئيس، يحيق بهم يوم القيامة فيذوقون حينئذ ألوان التنكيل والفظائع ﴿ هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون ﴾ هل ينتظر الظالمون والمشركون الخاسرون إلا أن تفجأهم الساعة بقيامها المباغت وهم لاهون ساهون غافلون. لا جرم أن قيام الساعة فجاءة والناس في غفلة لهو أشد ترويعا وتنكيلا بالخاسرين المفرّطين.
قوله :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ﴾ ذكر أن هذه الآية نزلت في أمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، فقد كانا خليلين وهما من رؤوس الطغاة والمجرمين. وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فقالت قريش : قد صبأ عقبة بن أبي معيط، فقال له أمية : وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا ولم تتفل في وجهه، ففعل عقبة ذلك، فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله فقتله يوم بدر صبرا وقتل أمية في المعركة. والصحيح أن الآية عامة في سائر الأخلاء الظالمين المتحابين في الدنيا، فإنهم يوم تأتيهم الساعة ينقلب بعضهم لبعض عدوا. أي يعادي بعضهم بعضا.
وهو قوله :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو ﴾ الأخلاء جمع خل وخليل وهو الصديق من المخالة، والخلة بالضم والفتح وهي الصداقة فهم يوم القيامة متنافرون، إذ يكره بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا بعد أن كانوا في الدنيا متحابين تجمع بينهم علائق شتى من أمور الدنيا ومصالحها وغير ذلك من قضايا الشر والظلم والباطل والإيذاء، فضلا عما كان يجمع بينهم من شديد المكائد والمؤامرات للإسلام والمسلمين، فإن اشتداد الكراهية والأحقاد المحتقنة في قلوب الظالمين على اختلاف مللهم وعقائدهم ومذاهبهم تدفعهم للتلاقي بينهم ليكونوا أخلاء متحدين من أجل التصدي للإسلام والمسلمين، والكيد لهم. أولئك المتحابون في الدنيا، المجتمعون على العدوان والكيد للإسلام والمسلمين لإضعافهم وإذلالهم وإبادتهم، إنما ينقلبون يوم القيامة متباعضين متلاعبين بعد أن انقطعت بينهم أسباب المودة والتلاقي، واشتغل كل واحد منهم بنفسه، ووجدوا ما كان يجعلهم أخلاء، أسبابا لهلاكهم وخسرانهم فصار بعضهم لبعض عدوا ﴿ إلا المتقين ﴾ فإنهم أخلاء في الدنيا والآخرة، لأن ما كان يجمعهم في الدنيا من أسباب الخير وعلائق الدين والعقيدة لم ينقطع يوم القيامة. بل بقيت خلّتهم على حالها من ثبات التوثيق ومتانة الرباط.
قوله :﴿ ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ﴾ ذلك نداء من الله يوم القيامة، يوم الفزع الأكبر حيث الأهوال المخوفة والبلايا التي تقصم القلوب- إذ ينادي به عباده المؤمنين المتقين وقد غشى الناس من الهم والترويع واليأس ما غشيهم : أن يا عبادي الذين آمنوا واتقوا وأخلصوا دينهم لربهم ﴿ لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ﴾ أي لا تخافوا مما ترونه من الأفزاع والأهوال فأنتم آمنون مطمئنون ﴿ ولا أنتم تحزنون ﴾ على فراق الدنيا وما فيها من الأصحاب والأحباب والخلان والمصالح والأموال والقربات والذكريات، فإن الذي قدمتم عليه لهو خير لكم مما فارقتموه في الدنيا.
وذكر أن الناس ينادون هذا النداء يوم القيامة فيطمع فيها من ليس من أهلها حتى يسمع قوله :﴿ الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ﴾ فييأس منها عند ذلك.
قوله :﴿ الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ﴾ ﴿ الذين ﴾ في موضع نصب على أنه نعت للمنادى المضاف ﴿ ياعباد ﴾ وقيل : في موضع رفع على أنه مبتدأ، وخبره محذوف وتقديره : هم الذين آمنوا. وقيل : خبر لمبتدأ محذوف، والأول أظهر. فيكون المعنى : يا عبادي الذين آمنوا وصدقوا بكتب الله ورسله وكانوا مذعنين لله. بخضوعهم لجلاله وطاعتهم لأوامره، أولئك يناديهم ربهم يوم القيامة ﴿ ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ﴾.
قوله :﴿ ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ﴾ ينادي الله المؤمنين المتقين، أن ادخلوا الجنة أنتم وزوجاتكم المؤمنات فأنتم جميعا في الجنة ﴿ تحبرون ﴾ أي تسرون وتفرحون وتنعمون. من الحبور، وهو السرور.
قوله :﴿ يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب ﴾ الصحاف جمع صحفة وهي إناء كالقصعة. وقال الزمخشري : الصحفة : قصعة مستطيلة والأكواب، جمع كوب وهو كوز مستدير الرأس لا أذن له. ويقال : قدح لا عروة له .
والمعنى : أن المؤمنين في الجنة يطاف عليهم بصحائف الطعام وأكواب الشراب وهم آمنون مطمئنون وفي غاية النعيم والابتهاج، لا يشقون ولا يشكون من حر ولا قر ولا شدة، ولا يؤزهم هم ولا غم ولا نصب ولا كرب، بل يجدون فيها من وجوه النعيم والراحة والهناء ما لا يتصوره بشر.
على أن الذهب والفضة يحرم استعمالها في الأكل والشرب.
فقد ثبت في الصحيحين عن حذيفة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب و الفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ".
وروى الأئمة من حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم "، وقال :" لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها ".
ويستدل من ذلك على تحريم الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة وهو مالا خلاف فيه. أما استعمالهما في غير فإنه غير ذلك جائز للرجال على الراجح، وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير :" هذان حرامان على ذكور أمتي حل لإناثها " والنهي عن الأكل والشرب فيها يدل على تحريم استعمالها، لأنه نوع من المتاع فلم يجز، ولأن العلة في ذلك استعجال أجر الآخر. ويستوي في ذلك الأكل والشرب وسائر أوجه الانتفاع.
قوله :﴿ وفيها ما تشتهيه الأنفس تلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ﴾ في الجنة من الخيرات والثمرات وأصناف النعم ما تشتهيه أنفس المؤمنين المحبورين المنعمين وما تستلذ به أعينهم أو يسعدون باشتمامه لفرط حسنه وبهائه وجماله. وهم في هذا الحال من النعم واللذائذ والمباهج قائمون دائمون لا يبرحون ولا يموتون.
قوله :﴿ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ﴾ يقال للمؤمنين الذين سعدوا بالجنة يوم القيامة : هذه الجنة التي أورثكم الله إياها عن أهل النار الذين أدخلوا جهنم. وذلك بسبب ما قدمتموه في حياتكم الدنيا من الطاعات وعمل الصالحات. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة ".
قوله :﴿ لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون ﴾ من أطيب الثمرات الفواكه. وهي في الجنة كثيرة ومختلفة ومستطابة، قد أفاض الله بها من فضله على عباده المؤمنين في الجنة ليأكلوا منها ما يشاءون.
قوله تعالى :﴿ إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون ٧٤ لا يفتّر عنهم وهم فيه مبلسون ٧٥ وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ٧٦ ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون ٧٧ لقد جئناكم بالحق ولكن أكثرهم للحق كارهون ٧٨ أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون ٧٩ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ﴾.
بعد أن ذكر أحوال أهل الجنة وما هم فيه من النعيم والحبور، ذكر أحوال أهل النار حيث التحريق والتنكيل والإياس من الرحمة. فقال سبحانه :﴿ إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون ﴾ أولئك هم المشركون الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة فباءوا بالعذاب المقيم في جهنم ليكونوا فيها لابثين مقيمين لا يخرجون.
قوله :﴿ لايفتر عنهم وهم فيه مبلسون ﴾ هؤلاء الظالمون الخاسرون يصلون النار الحامية بعذابها الأليم الدائم الذي لا يخفف عنهم ﴿ وهم فيه مبلسون ﴾ يعني آيسون من رحمة الله.
قوله :﴿ وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمون ﴾ أي لم نظلم هؤلاء المجرمين الخاسرين بتعذيبهم في جهنم ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم وجحودهم فذاقوا وبال أمرهم من سوء العذاب.
قوله :﴿ ونادوا ياملك ليقض علينا ربك ﴾ عقب دخول المجرمين الخاسرين النار واصطراخهم فيها من هول العذاب وفظاعة التنكيل، ينادون الملك الهائل المخوف، خازن النار وهو مالك، متوسلين به إلى الله عسى أن يقضي عليهم بالموت فيستريحوا، فأجابهم مالك إجابة ملؤها التيئيس والغضب ﴿ إنكم ماكثون ﴾ أي مقيمون دائمون في النار لا تبرحون ولا تخرجون.
قوله :﴿ لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون ﴾ أي أرسلنا إليكم رسلنا وأنزلنا عليهم آياتنا بينات فدعوكم إلى الحق والتوحيد والمنهج المستقيم ﴿ ولكن أكثركم للحق كارهون ﴾ أي أكثركم يكرهون ما جاءهم به الرسل من عند الله فأبوا إلا الشرك والضلال. وقيل : المراد بأكثرهم رؤساؤهم وقادتهم.
قوله :﴿ أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون ﴾ ﴿ أم ﴾ المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة، أي بل أبرموا أمرا. و ﴿ أبرموا ﴾، من الإبرام وهو الإحكام. أبرمت الشيء، أي دبرته وأحكمته والمعنى : أم أبرم المشركون أمرا من كيدهم ومكرهم برسول الله فإنا مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم. أو : أم أحكموا كيدا فإنا محكمون لهم كيدا.
وقيل : نزلت في تدبيرهم المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، حين استقر أمرهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتله فتضعف المطالبة بدمه فنزلت هذه الآية، وقتل الله جميعهم ببدر.
قوله :﴿ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ﴾ يعني : بل أيحسبون أنا لا نسمع ما يستسرونه أو يخفونه في أنفسهم أو ما يتناجون به فيما بينهم سرا ﴿ بلى ﴾ إننا نسمع ما يسرون فلا يخفى علينا من ذلك شيء ﴿ ورسلنا لديهم يكتبون ﴾ ﴿ رسلنا ﴾، الملائكة الحفظة عندهم يكتبون ما يصدر عنهم من قول أو فعل.
قوله تعالى :﴿ قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين ٨١ سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون ٨٢ فذرهم يخوضوا ويلعبون حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ٨٣ وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم ٨٤ وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون ٨٥ ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ٨٦ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون ٨٧ وقيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ٨٨ فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون ﴾. نزه الله نفسه عن اتخاذ الشركاء، فهو الإله الأحد المقتدر، خالق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما من خلائق وعجائب وكائنات، فهو سبحانه مستغن عن الشريك أو الولد، فإنه لا يحتاج لشيء من ذلك إلا من كان يعوزه الإيناس من الوحشة، أو العون من الضعف. والله عز وعلا منزه عن هاتيك النقائص. قال سبحانه ﴿ قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين ﴾ ﴿ إن ﴾، شرطية. والتقدير : إن كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده، على أنه لاولد له. وقيل : تقديره : إن كان للرحمان من ولد فأنا أول الآنفين من العبادة. وقيل :﴿ إن ﴾، بمعنى ما النافية. أي ما كان للرحمان من ولد. وكونها شرطية أظهر وأولى بالصواب.
وإيراد هذا الكلام لهو على سبيل الفرض والتمثيل لغرض المبالغة في نفي الولد. والمعنى : لو صح أن للرحمان ولدا فأنا أول من يعظم هذا الولد وأسبقكم على طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه.
قوله :﴿ سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون ﴾ ينزه الله ذاته الموصوفة بربوبية السماوات والأرض والعرش، عن اتخاذ الولد، لأن ذلك من صفات المخاليق.
قوله :﴿ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ﴾ أي دع هؤلاء المشركين الذين يفترون على الله الكذب وينسبون له الولد زورا وظلما ﴿ يخوضوا ويلعبوا ﴾ وذلك تهديد للمشركين المعرضين الناكلين عن عقيدة التوحيد. يعني قد تبينت لهم الحجة وظهر لهم البرهان على صدق ما أنزل إليهم فأبوا واستكبروا، فاتركهم يا محمد يخوضوا في أباطيلهم ويلعبوا في ضلالاتهم ﴿ حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ﴾ وهو يوم القيامة حيث الحساب الرهيب و العقاب الوجيع جزاء عصيانهم وتكذيبهم.
قوله :﴿ وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ﴾ أي أن الله الذي له الإلهية، والمتفرد بالوحدانية لهو معبود في السماء ومعبود في الأرض، فهو بذلك يعبد فيهما. ولا تتجلى هذه الصفة الكبرى لأحد سوى الله، وهي دليل عظمته البالغة وأنه الصانع الحكيم الذي لا تنبغي العبادة ولا الإذعان إلا لجلاله العظيم. ومما يقتضيه مفهوم هذه الآية أن نوقن أن الله وحده الحاكم المشرع لأهل الأرض. لا جرم أن هذه واحدة من خصائص الإلهية العظمى، فالله الذي خلق السماوت فأبدعهم إبداعا وأنشأ فيهن روعة البناء والخلق، وبث فيهن مالا يحصى من الأجرام والكائنات فكان ذلك كله في غاية القوة والاتساق والانتظام والترابط، لهو جدير به ألا يدع البشرية على الأرض مضطربة بغير نظام ولا تشريع. لقد وضع الله للبشرية تشريعها المناسب في الأرض، لأنه سبحانه الأقدر على ذلك، فهو العالم بالأحوال والحقائق والطبائع ﴿ وهو الحكيم العليم ﴾ الله الحكيم في تدبير شؤون خلقه، العليم بما يصلحهم وينفعهم في دينهم ودنياهم.
قوله :﴿ وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما ﴾ أي استقر لله السلامة من النقائص والعيوب، فهو الرب العلي الأعظم الذي بيده ملكوت السماوات والأرض ﴿ وعنده علم الساعة ﴾ الله وحده العليم بالساعة وأيان مرساها. قوله :﴿ وإليه ترجعون ﴾ الناس جميعا صائرون إلى ربهم فملاقوه يوم الحساب، يوم تقوم الساعة فتفجأ الكون بخبرها الداهم المزلزل.
قوله :﴿ ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة ﴾ يبين الله سبحانه أنه لا يملك الذين يعبدهم المشركون من دون الله، الشفاعة عنده لأحد. أو لا يملك المعبودون من دون الله أيما شفاعة لأحد عند الله. ثم استثنى بقوله :﴿ إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ﴾ أي الذين يشهدون شهادة الحق ويخلصون لله الوحدانية وهم موقنون بحقيقة ما شهدوا فأولئك يملكون الشفاعة عند الله بإذنه لهم، لقوله سبحانه :﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾ فأثبت الله الشفاعة للملائكة وعيسى وعزير وملّكهم من الشفاعة ما نفاه عن الأوثان والآلهة المزعومة.
قوله :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ﴾ أي لئن سألت هؤلاء المشركين من قومك عمن خلقهم لأجابوا بأن الله هو الذي خلقنا، أي أنهم مقرون بأن الله هو الخالق بالرغم من شركهم واتخاذهم من دون الله الخالق أندادا يعبدونهم مع الله.
قوله :﴿ فأنى يؤفكون ﴾ كيف ينقلبون عن عبادة الله وحده إلى عبادة غيره مع إقرارهم بأن الله هو الخالق ؟ فهم بذلك في غاية السفاهة والجهالة.
قوله :﴿ وقيله يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ﴾ القيل والقال، اسمان للمصدر وهو القول ويقرأ ﴿ قيله ﴾ بالنصب والرفع والجر. أما النصب : فهو أن يكون منصوبا على المصدر. وتقديره : ويقول قيله. وأما الرفع : فلكونه معطوفا على ﴿ علم ﴾، في قوله :﴿ وعنده علم الساعة ﴾ أي وعلم قبله. وأما الجر : فهو للعطف على الساعة. وتقديره :( وعند علم الساعة وقبله ) والقراءتان المشهورتان هما النصب والجر فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب. وبذلك يكون تأويل الكلام : وقال محمد قيله شاكيا إلى ربه جل وعلا قومه الذين كذبوه وآذوه : يا رب إن هؤلاء قومي الذين أنذرتهم وأبلغتهم رسالة الحق والتوحيد قوم لا يؤمنون، أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو قومه إلى الله لسوء ردهم وشديد إعراضهم وتكذيبهم.
قوله :﴿ فاصفح عنهم وقل سلام ﴾ أي أعرض عن أذاهم يا محمد ﴿ وقل سلام ﴾ ﴿ سلام ﴾ مرفوع، لأنه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره : أمري سلام، أي مسالمة منكم ومتاركة لكم، وليس من السلام بمعنى التحية.
قوله :﴿ فسوف يعلمون ﴾ وهذا تهديد من الله للمشركين، إذ يتوعدهم بالعذاب والنكال على كفرهم فضلا عما في ذلك من تأنيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم .