تفسير سورة الحجرات

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

هذه آيات آدّب الله تعالى بها عباده المؤمنين، فيما يعاملون به الرسول ﷺ من التوقير والاحترام، والتبجيل والإعظام، فقال تبارك وتعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ ﴾ أي لا تسرعوا في الأشياء بين يديه أي قبله، بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور، قال ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه، وقال مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله ﷺ بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه، وقال الضحّاك : لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم، وقال الحسن البصري : لا تدعوا قبل الإمام، وقال قتادة : ذكر لنا أن ناساً كانوا يقولون : لو أنزل كذا وكذا، لو صح كذا، فكره الله تعالى ذلك، ﴿ واتقوا الله ﴾ فيما أمركم به ﴿ إِنَّ الله سَمِيعٌ ﴾ أي لأقوالكم ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بنياتكم، وقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي ﴾ هذا أدب ثان أدّب الله تعالى به المؤمنين، أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي ﷺ فوق صوته، وقد روي أنها نزلت في الشيخين ( أبي بكر ) و ( عمر ) رضي الله عنهما، روى البخاري عن ابن أبي مليكة قال :« كاد الخيّران أن يهلكا ( أبو بكر ) و ( عمر ) رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي ﷺ، حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس رضي الله عنه أخي بني مجاشع، وِأشار الآخر برجل آخر، قال نافع : لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما : ما أردت إلاّ خلافي، قال : ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾ قال ابن الزبير : فما كان عمر رضي الله عنه يسمع رسول الله ﷺ بعده هذه الآية حتى يستفهمه » وفي رواية أخرى له قال :« قدم ركب من بني تميم على النبي ﷺ فقال أبو بكر رضي الله عنه : أمرّ ( القعقاع بن معبد )، وقال عمر رضي الله عنه : بل أمرّ ( الأقرع بن حابس ) فقال أبو بكر رضي الله عنه : ما أردت إلاّ خلافي، فقال عمر رضي الله عنه ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما : فنزلت في ذلك :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ ﴾ حتى انقضت الآية ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ ﴾ [ الحجرات : ٥ ] الآية »، أخرجه البخاري.
وروى الحافظ البزار، عن أبي بكر رضي الله عنه قال :
2377
« لما نزلت هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي ﴾ قلت : يا رسول الله والله لا أكلمك إلاّ كأخي السرار » وروى البخاري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه :« أن النبي ﷺ افتقد ( ثابت بن قيس ) رضي الله عنه، فقال رجل : يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده في بيته منكساً رأسه، فقال له : ما شأنك؟ فقال : شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي ﷺ فقد حبط عمله فهو من أهل النار، فأتى الرجل النبي ﷺ فأخبره أنه قال : كذا وكذا، قال موسى : فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال :» اذهب إليه فقل له : إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة « ».
وروى الإمام أحمد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :« لما نزلت هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي ﴾ إلى قوله ﴿ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت، فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله ﷺ، أنا من أهل النار، حبط عملي، وجلس في أهله حزيناً، ففقده رسول الله ﷺ، فانطلق بعض القوم إليه، فقالوا : له : تَفقَّدك رسول الله ﷺ، مالك؟ قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي ﷺ وأجهر له بالقول، حبط عملي أنا من أهل النار، فأتوا النبي ﷺ فأخبروه بما قال، فقال النبي ﷺ :» لا، بل هو من أهل الجنة «. قال آنَس رضي الله عنه : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف، فجاء ثابت بن قيس بن شماس، وقد تحنط ولبس كفنه، فقال : بئسما تعوّدون أقرانكم، فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه. وفي رواية : فقال له النبي ﷺ :» أما ترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة؟ « فقال : رضيت ببشرى الله تعالى ورسوله ﷺ، ولا أرفع صوتي أبداً على صوت رسول الله ﷺ »، قال : وأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى ﴾ الآية.
وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين، كذلك فقد نهى الله عزَّ وجلَّ عن رفع الأصوات بحضرة رسول الله ﷺ، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي ﷺ قد ارتفعت أصواتهما فجاء، فقال : أتدريان أين أنتما؟ ثم قال : من أين أنتما؟ قال : من أهل الطائف، فقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً.
2378
وقال العلماء : يكره رفع الصوت عند قبره ﷺ كما كان يكره في حياته ﷺ، لأنه محترم حياً، وفي قبره ﷺ، ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم، ولهذا قال تبارك وتعالى :﴿ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ﴾، كما قال تعالى :﴿ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ﴾ [ النور : ٦٣ ]، وقوله عزّ وجل :﴿ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾ أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده، خشية أن يغضب من ذلك، فيغضب الله تعالى لغضبه، فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري، كما جاء في الصحيح :« إن الرجل ليتكلم الكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالاً يكتب له بها الجنة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض »، ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحث على ذلك ورشد إليه ورغب فيه، فقال :﴿ إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى ﴾ أي أخلصها لها وجعلها أهلاً ومحلاً ﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾. وعن مجاهد قال : كُتِب إلى عمر، يا أمير المؤمنين رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها أفضل، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي الله عنه : إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها ﴿ أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾.
2379
ثم إنه تبارك وتعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات، وهي بيوت نسائه كما يصنع أجلاف الأعراب فقال :﴿ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾، ثم أرشد تعالى إلى الأدب في ذلك، فقال عزّ وجلّ :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ أي لكان لهم في ذلك الخيرة، والمصلحة في الدنيا والآخرة، ثم قال جل ثناؤه داعياً لهم إلى التوبة الإنابة ﴿ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ وقد ذكر « أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي رضي الله عنه نادى رسول الله ﷺ فقال : يا محمد يا محمد، وفي رواية : يا رسول الله، فلم يجبه، فقال : يا رسول الله إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين، فقال :» ذاك والله عزَّ وجلَّ « » وعن البراء في قوله تبارك وتعالى :﴿ إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات ﴾ قال :« جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال : يا محمد، إن حمدي زين وذمي شين، فقال ﷺ :» ذاك الله عزَّ وجلَّ « » وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال :« اجتمع أناس من العرب فقالوا : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يك نبياً فنحن أسعد الناس به، وإن يك ملكاً نعش بجناحه، قال : فأتيت رسول الله ﷺ فأخبرته بما قالوا : فجاءوا إلى حجرة النبي ﷺ فجعلوا ينادونه وهو في حجرته : يا محمد.. يا محمد، فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ قال : فأخذ رسول الله ﷺ بأذني فمدها، فجعل يقول :» لقد صدّق الله تعالى قولك يا زيد لقد صدّق الله قولك يا زيد « ».
يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له، وقد نهى الله عزَّ وجلَّ عن اتباع سبيل المفسدين، ومن ها هنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال، لا حتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون، وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في ( الوليد بن عقبة بن أبي معيط ) حيث بعثه رسول الله ﷺ على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق :
قال الإمام أحمد، عن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي رضي الله عنه قال :« قدمت على رسول الله ﷺ فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت : يا رسول الله أرجع إليهم، فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وترسل إليّ يا رسول الله رسولاً إبَّان كذا وكذا ليأتيك بما جمع من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة من استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله ﷺ أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول، ولم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله، فدعا بسروات قومه، فقال لهم : إن رسول الله ﷺ كان وقّت لي وقتاً يرسل إليَّ رسوله، ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله ﷺ الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلاّ من سخطه، فانطلقوا بنا نأتي رسول الله ﷺ، وبعث رسول الله ﷺ ( الوليد بن عقبة ) إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق أي خاف فرجع حتى أتى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي، فغضب رسول الله ﷺ، وبعث البعث إلى الحارث رضي الله عنه، وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث، فقالوا : هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك، قال : ولم؟ قالوا : إن رسول الله ﷺ بعث إليك ( الوليد بن عقبة ) فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال رضي الله عنه : لا والذي بعث محمداً ﷺ بالحق ما رأيته بتة، ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله ﷺ قال :» منعت الزكاة وأردت قتل رسولي « قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلاّ حين احتبس علي رسول رسول الله ﷺ، خشيت أن يكون كونت سخطة من الله تعلى ورسوله، قال : فنزلت الحجرات :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ﴾ إلى قوله :﴿ حَكِيمٌ ﴾ ».
2381
وروى ابن جرير، « عن أُم سلمة رضي الله عنها قالت : بعث رسول الله ﷺ رجلاً في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة، فسمع بذلك القوم، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله ﷺ قالت : فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، قالت : فرجع إلى رسول الله ﷺ فقال : إن بني المصطلق قد منعوني صدقاتهم، فغضب رسول الله ﷺ والمسلمون، قالت : فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول الله ﷺ، فصفوا له حين صلى الظهر، فقالوا : نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، بعثت إليها رجلاً مصدقاً، فسررنا بذلك، وقرت به أعيننا، ثم إنه رجع من بعض الطريق، فخشينا أن يكون ذلك غضباً من الله تعالى ومن رسوله ﷺ، فلم يزالوا يكلمونه، حتى جاء بلال رضي الله عنه، فأذن بصلاة العصر، قالت : ونزلت :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ على مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ »
وقال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله ﷺ ( الوليد بن عقبة ) إلى بني المصطلق ليصدقهم، فتلقوه بالصدقة فرجع، فقال : إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك، زاد قتادة : وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً : فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالداً رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فملا أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى رسول الله ﷺ فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وكذا ذكر غير واحد من السلف : أنها نزلت في ( الوليد بن عقبة )، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله ﴾ أي اعلموا أن بين أظهركم رسول الله، فعظّموه ووقّروه، وتأدّبوا معه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم، ورأيه فيكم أتم من رأيكم لأنفسكم، ﴿ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ ﴾ أي لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم، كما قال سبحانه :﴿ وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ ﴾ [ المؤمنون : ٧١ ]، وقوله عزّ وجلّ :﴿ ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ أي حببه إلى نفوسكم، وحسّنه في قلوبكم، عن أنَس رضي الله عنه قال :« كان رسول الله ﷺ يقول :» الإسلام علانية الإيمان في القلب «، ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ثم يقول :» التقوى هاهنا، التقوى هاهنا «
2382
، ﴿ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان ﴾ أي وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار، والعصيان وهي جميع المعاصي وهذا تدريج لكمال النعمة، وقوله تعالى :﴿ أولئك هُمُ الراشدون ﴾ أي المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون الذي قد آتاهم الله رشدهم، عن أبي رفاعة الزرقي، عن أبيه قال :« لما كان يوم أُحُد وانكفأ المشركون قال رسول الله ﷺ :» استووا حتى أثني على ربي عزّ وجلّ «، فصاروا خلفه صفوفاً، فقال ﷺ :» اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، والله ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول، اللهم أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعتنا، اللهم حبب إليها الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وجعلنا من الراشدين، الله توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذي يكذِّبون رسلك، ويصدّون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أُوتوا الكتاب إله الحق « وفي الحديث المرفوع :» من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن «، ثم قال :﴿ فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً ﴾ أي هذا العطاء الذي منحكموه، هو فضل منه عليكم، ونعمة من لدنه ﴿ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ أي عليم بمن يستحق الهداية، ممن يستحق الغواية، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
2383
يقول تعالى آمراً بالإصلاح بين الفئتين الباغيتين بعضهم على بعض :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ﴾ فسماهم مؤمنين مع الاقتتال، وبهذا استدل البخاري وغيره، على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج والمعتزلة، وهكذا ثبت أن رسول الله ﷺ خطب يوماً ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما، فجعل ينظر إليه مرة، وإلى الناس أُخرى ويقول :« إن ابني هذا سيد ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » فكان كما قال ﷺ، أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق، بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة، وقوله تعالى :﴿ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله ﴾ أي حتى ترجع إلى أمر الله ورسوله، وتسمع الحق وتطيعه، كما ثبت في الصحيح :« » انصر أخاط ظالماً أو مظلوماً « قيل : يا رسول الله أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال ﷺ :» تمنعه من الظلم فذاك نصرك أياه « ».
وروى الإمام أحمد، عن أنَس رضي الله عنه قال :« قيل للنبي ﷺ : لو أتيت عبد الله بن أُبي، فانطلق إليه النبي ﷺ، وركب حماراً، وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فلما انطلق النبي ﷺ إليه قال : إليك عني فوالله لقد آذاني ريح حمارك، فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله ﷺ أطيب ريحاً منك، قال : فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال : فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزلت فيه :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ﴾ » وذكر سعيد بن جبير أن الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمر بالصلح بينهما، وقال السدي : كان رجل من الأنصار يقال له عمران، كانت له امرأة تدعى أم زيد، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها، وجعلها في علية له، لا يدخل عليها أحد من أهلها، وإن المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها وأنزلوها، لينطلقوا بها، وإن الرجل كان قد خرج، فاستعان أهل الرجل، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال، فنزلت فيهم هذه الآية، فبعث إليهم رسول الله ﷺ، وأصلح بينهم وفاءوا إلى أمر الله تعالى. وقوله عزَّ وجلَّ :﴿ فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ﴾ أي اعدلوا بينهما بالقسط وهو العدل ﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ﴾ روى ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال :
2384
« إن رسول الله ﷺ : قال : إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن عزّ وجلّ بما أقسطوا في الدنيا » وعن النبي ﷺ قال :« المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا » وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ ﴾ أي الجميع أخوة في الدين كما قال رسول الله ﷺ :« المسلم أخو المسلم لا يظلمهُ ولا يسلمه »، وفي الصحيح :« والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه »، وفي الصحيح أيضاً :« إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك : آمين ولك بمثله » والأحاديث في هذا كثيرة : وقوله تعالى :﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ يعين الفئتين المقتتلتين ﴿ واتقوا الله ﴾ أي في جميع أموركم ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾. وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه.
2385
ينهى تعالى عن السخرية بالناس وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال :« الكبير بطر الحق، وغمط الناس »، والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله تعالى وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له، ولهذا قال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ﴾ فنص على نهي الرجال وعطف بنهي النساء، وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ ﴾ أي لا تلمزوا الناس، والهمّاز واللمَّاز من الرجال مذموم ملعون كما قال تعالى :﴿ ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ﴾ [ الهمزة : ١ ]، والهمز بالفعل واللمز بالقول، كما قال عزَّ وجلَّ :﴿ هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [ القلم : ١١ ] قال ابن عباس ومجاهد :﴿ وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ ﴾ أي لا يطعن بعضكم على بعض، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب ﴾ أي لا تداعوا بالألقاب وهي التي يسوء الشخص سماعها، قال الشعبي : حدثني أبو جبيرة بن الضحاك قال : فينا نزلت في بني سلمة ﴿ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب ﴾ قال :« قدم رسول الله ﷺ المدينة، وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا أحداً منهم باسم من تلك الأسماء، قالوا : يا رسول الله إنه يغضب من هذا، فنزلت :﴿ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب ﴾ »، وقوله جلّ وعلا :﴿ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان ﴾ أي بئس الصفة والاسم الفسوق، وهو التنابز بالألقاب كما كان أهل الجاهلية يتنازعون بعد ما دخلتم في الإسلام وعلقتموه ﴿ وَمَن لَّمْ يَتُبْ ﴾ أي من هذا ﴿ فأولئك هُمُ الظالمون ﴾.
يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والناس من غير محله، لأن بعض ذلك يكون إثماً محضاً، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً وأنت تجد لها في الخير محملاً، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : رأيت النبي ﷺ يطوف بالكعبة ويقول :« ما أطيبك وأطيب ريحك! ما أعظمك وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه وأن لا يظن به إلا خيراً » وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً ».
وعن أنَس رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام » وروى الطبراني، عن حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« » ثلاث لازمات لأمتي : الطيرة والحسد وسوء الظن «، فقال رجل : وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال ﷺ :» إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض « » وروى أبو داود، عن زيد رضي الله عنه قال : أتى ابن مسعود رضي الله عنه برجل فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال عبد الله رضي الله عنه :« إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به ».
وروى الإمام أحمد، عن أبي الهيثم عن دجين كاتب عقبة قال :« قلت لعقبة إن لنا جيراناً يشربون الخمر، وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم قال : لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم، قال : ففعل فلم ينتهوا، قال : فجاءه دجين، فقال : إني قد نهيتهم وإني داع لهم الشرط، فتأخذهم، فقال له عقبة : ويحك لا تفعل، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول :» من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها « » ﴿ وَلاَ تَجَسَّسُواْ ﴾ أي على بعضكم بعضاً، والتجسس غالباً يطلق في الشر ومنه الجاسوس، وأما التحسس فيكون غالباً في الخير، كما قال عزَّ وجلَّ إخباراً عن يعقوب :﴿ يابني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله ﴾ [ يوسف : ٨٧ ]. وقال الأوزاعي : التجسس البحث عن الشيء، والتحسس الاستماع إلى حديث القوم، أو يتسمع على أبوابهم، والتدابر : الصرم.
2387
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً ﴾ فيه نهي عن الغيبة، وقد فسّرها الشاعر كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود، عن أبي هريرة، قال :« قيل : يا رسول الله ما الغيبة؟ قال ﷺ :» ذكرك أخاك بما يكره « قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال ﷺ :» إن كان فيه ما تقول فقد أغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه « » وعن عائشة رضي الله عنها قالت :« قلت للنبي ﷺ : حسبك من صفية كذا وكذا، تعني قصيرة، فقال ﷺ :» لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته «. قالت : وحكيت له إنساناً، فقال ﷺ :» ما أحب أني حكيت إنساناً، وإن لي كذا وكذا « ». والغيبة محرمة بالإجماع، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة، « كقوله ﷺ، لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر :» ائذنوا له بئس أخو العشيرة « »، وكقوله ﷺ لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها وقد خطبها معاوية وأبو جهم :« أما معاوية فصعلوك وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه »، وكذا ما جرى مجرى ذلك، ثم بقيتها على التحريم الشديد، وقد ورد فيها الزجر الأكيد ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت كما قال عزّ وجلّ :﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾ أي كما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوا ذلك شرعاً، فإن عقوبته أشد من هذا، وهذا من التنفير عنها والتحذير منها، وثبت في الصحاح والحسان والمساندي من غير وجه أنه ﷺ قال في خطبة حجة الوداع :« إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ».
وروى أبو داود، عن أبي هريرة قال :« قال رسول الله ﷺ : كل المسلم على المسلم حرام، ماله، وعرضه، ودمة، حسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم » وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال :« خطبنا رسول الله ﷺ حتى أسمع العواتق في بيوتها، أو قال : في خدورها، فقال :» يا معشر من آمن بلسانه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته « ».
طريق أُخرى : عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال :« يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسليمن، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله »
2388
، قال، ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك، وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك.
عن أنَس بن مالك قال : قال رسول الله ﷺ :« لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، قلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم »، وروى ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الخدري قال :« قلنا : يا رسول الله حدّثنا ما رأيت ليلة أسري بك؟ قال :» ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير، رجال ونساء، موكل بهم رجال يعمدون إلى عرض جنب أحدهم، فيجذون منه الجذة مثل النعل، ثم يضعونها في فيِّ أحدهم، فيقال له : كل كما أكلت - وهو يجد من أكله الموت يا محمد لو يجد الموت وهو يكره عليه - فقلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الهمازون واللمازون أصحاب النميمة، فيقال :﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾ وهو يكره على أكل لحمه «.
وروى الحافظ البيهقي، »
عن عبيد مولى رسول الله ﷺ أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله ﷺ، وأن رجلاً أتى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله! إن هاهنا امرأتين صامتا، وإنهما كادتا تموتان من العطش. أراه قال بالهاجرة، فأعرض عنه أو سكت عنه، فقال : يا نبي الله إنهما والله قد ماتتا، أو كادتا تموتان، فقال :« ادعمها » فجاءتا، قال : فجيء بقدح أو عس، فقال لإحداهما :« قيئي »، فقاءت من قيح ودم وصديد، حتى قاءت نصف القدح، ثم قال للأُخْرى :« قيئي »، فقاءت قيحاً ودماً وصديداً ولحماً ودماً عبيطاً وغيره، حتى ملأت القدح، ثم قال :« إن هاتين صامتا عما أحل الله تعالى لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأُخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس » وروى الحافظ أبو يعلى، عن ابن عمر « أن ماعزاً جاء إلى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله إني قد زنيت، فأعرض عنه، حتى قالها أربعاً، فلما كان في الخامسة قال :» زنيت «؟ قال : نعم، قال :» وتدري ما الزنا «؟ قال : نعم، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً، قال :» ما تريد إلى هذا القول «؟ قال : أُريد أن تطهّرني، قال : فقال رسول الله ﷺ :» أدخلت ذلك من في ذلك منها، كما يغيب الميل في المكحلة والرشا في البئر «؟ قال : نعم يا رسول الله، قال : فأمر برجمه فرجم، فسمع النبي ﷺ رجلين يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم تدعه نفسه حتى رجم رجْم الكلب؟ ثم سار النبي ﷺ حتى مرَّ بجيفة حمار، فقال :» أين فلان وفلان؟ إنزلا، فكلا من جيفة هذا الحمار «، قال : غفر الله لك يا رسول الله، وهل يؤكل هذا؟ قال ﷺ :» فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد أكلاً منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها «.
2389
وروى الإمام أحمد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال :« كنا مع النبي ﷺ فارتفعت ريح جيفة منتنة، فقال رسول الله ﷺ :» أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذي يغتابون الناس؟ « » وقوله عزّ وجلّ :﴿ واتقوا الله ﴾ أي فيما أمركم به ونهاكم عنه فراقبوه في ذلك واخشوا منه، ﴿ إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي تواب على من تاب إليه ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ لمن رجع إليه واعتمد عليه، قال الجمهور من العلماء : طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك، ويعزم على أن لا يعود، وهل يشترط الندم على ما فات؟ فيه نزاع، وأن يتحلل من الذي اغتابه، وقال آخرون : لا يشترط أن يحلله، فإنه إذا أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه، فطريقه إذاً إن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، لتكون تلك بتلك؛ كما قال النبي ﷺ :« من حمى مؤمناً من منافق يغتابه بعث الله تعالى إليه ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مؤمناً بشيء يريد سبه حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال » وقال رسول الله ﷺ :« ما من امرىء يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته، وما من امرىء ينصر امرأ مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله عزّ وجلّ في مواطن يحب فيها نصرته ».
2390
يقول تعالى مخبراً للناس أنه خلقهم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها وهما ( آدم ) و ( حواء ) وجعلهم شعوباً وهي أعم من القبائل، وبعدها مراتب أُخر، كالفصائل والعشائر والأفخاذ وغير ذلك، فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية، إلى آدم وحواء عليهما السلام سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله تعالى ومتابعة رسوله ﷺ، ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة، واحتقار بعض الناس بعضاً، منبهاً على تساويهم في البشرية :﴿ ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا ﴾ أي ليحصل التعارف بينهم كل يرجع إلى قبيلته. وقال مجاهد :﴿ لتعارفوا ﴾ كما يقال فلان ابن فلان من قبيلة كذا وكذا، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :« تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر » وقوله تعالى :﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ ﴾، أي إنما تتفاضلون عند الله تعالى بالتقوى لا بالأحساب.
وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله ﷺ، فروى البخاري عن أبي هريرة قال :« سئل رسول الله ﷺ : أي الناس أكرم؟ قال :» أكرمهم عند الله أتقاهم «، قالوا : ليس على هذا نسألك، قال : فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله ابن خليل الله، قالوا : وليس هذا نسألك، قال :» فعن معادن العرب تسألوني «؟ قالوا : نعم، قال :» فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا « ». حديث آخر : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » حديث آخر : وروى الإمام أحمد، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : إن النبي ﷺ قال له :« انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله » حديث آخر : وعن حبيب بن خراش العصري أنه سمع رسول الله ﷺ يقول :« المسلمون أخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى » حديث آخر : وعن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان » حديث آخر : قال ابن أبي حاتم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :« طاف رسول الله صلىلله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن في يده، فما وجد لها مناخاً في المسجد حتى نزل ﷺ على أيدي الرجال، فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت، ثم إن رسول الله ﷺ خطبهم على راحلته فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال :» يا أيها الناس إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان : رجل بر تقي كريم على الله تعالى، ورجل فاجر شقي هيّنٌ على الله تعالى، إن الله عزّ وجلّ يقول :﴿ ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ «. ثم قال :ﷺ :» أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم « »
2391
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ أي عليم بكم خبير بأموركم، فيهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء، وهو الحكيم العليم الخبير.
2392
يقول تعالى منكراً على الأعراب، الذين ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد :﴿ قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ ﴾، وقد استفيد أن الإيمان أخص من الإسلام، ويدل عليه حديث جبريل ﷺ حين سأل عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقى من الأعم، إلى الأخص، روى الإمام أحمد، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال :« أعطى رسول الله صلى الله عليه سلم رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً، فقال سعد رضي الله عنه : يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن، فقال النبي ﷺ :» أو مسلم؟ « حتى أعادها سعد رضي الله عنه ثلاثاً والنبي يقول :» أو مسلم؟ «، ثم قال النبي صلىلله عليه وسلم :» إني لأعطي رجالاً وأدع من هو أحبُّ إليَّ منهم، فلم أعطه شيئاً مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم «، فقد فرّق النبي ﷺ بين المؤمن والمسلم، فدل على الإيمان أخص من الإسلام، ودل على أن ذلك الرجل كان مسلماً ليس منافقاً، لأنه تركه من العطاء، ووكله إلى ما هو في الإسلام، فهؤلاء الأعراب المذكورون في هذه الآية ليسوا بمنافقين، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم، فادعوا لأنفسهم مقاماً أعلى مما وصلوا إليه، فأدبوا في ذلك، وإنما قلنا هذا لأن البخاري رحمه الله ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يظهرون الإيمان وليسوا كذلك، وقد روي عن سعيد بن جبير ومجاهد ﴿ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا ﴾ : أي استسلمنا خوف القتل والسبي، قال مجاهد : نزلت في بني إسد بن خزيمة، وقال قتادة : نزل في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله ﷺ، والصحيح الأول أنهم قومم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ولم يحصل لهم بعد فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد، ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا، وإنما قيل لهؤلاء تأديباً :﴿ قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ أي لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد، ثم قال تعالى :﴿ وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً ﴾ أي لا ينقصكم من أجوركم شيئاً كقوله عزّ وجلّ :﴿ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ [ الطور : ٢١ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي لمن تاب إليه وأناب.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا المؤمنون ﴾ أي إنما المؤمنون الكمَّل ﴿ الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ ﴾ أي لم يشكوا و لا تزلزلوا، بل ثبتوا على حال واحدة، وهي التصديق المحض، ﴿ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله ﴾ أي وبذلوا مهجهم ونفائص أموالهم في طاعة الله ورضوانه، ﴿ أولئك هُمُ الصادقون ﴾ أي في قولهم إذا قالوا إنهم مؤمنون، لا كبعض الأعراب الذين ليس لهم من الإيمان إلا الكلمة الظاهرة، وقوله سبحانه وتعالى :﴿ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ ﴾ أي أتخبرونه بما في ضمائركم؟ ﴿ والله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ أي لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ﴿ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ ﴾ يعني الأعراب الذين يمنُّون بإسلامهم ومتابعتهم على الرسل ﷺ، يقول الله تعالى رداً عليهم :﴿ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ ﴾ فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم ولله المنة عليكم فيه، ﴿ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي في دعواكم ذلك، كما قال النبي ﷺ للأنصار يوم حنين :
2393
« يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضُلاّلاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟ » كلما قال شيئاً قالوا : الله ورسوله أمنّ. وروى الحافظ البزار، عن ابن إبي عباس رضي الله عنهما قال :« جاءت بنو أسد إلى رسول الله ﷺ فقالوا : يا رسول الله أسلمنا، وقاتلتك العرب ولم نقاتلك، فقال رسول الله ﷺ :» إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطلق على ألسنتهم « »، ونزلت هذه الآية :﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾، ثم كرر الإخبار بعلمه بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات فقال :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾.
2394
Icon