تفسير سورة الحشر

زاد المسير
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الحشر وهي مدنية كلها بإجماعهم، وذكر المفسرون أن جميعها أنزلت في بني النضير، وكان ابن عباس يسمي هذه السورة " سورة بني النضير " وهذه الإشارة إلى قصتهم.
ذكر أهل العلم بالتفسير والسير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مسجد قباء، ومعه نفر من أصحابه، فصلى فيه، ثم أتى بني النضير، فكلمهم أن يعينوه في دية رجلين كان قد آمنهما، فقتلهما عمرو بن أمية الضمري وهو لا يعلم، فقالوا : نفعل، وهمّوا بالغدر به، وقال عمرو بن جحاش : أنا أظهر على البيت، فأطرح عليه صخرة، فقال سلام بن مشكم : لا تفعلوا، والله ليُخبرن بما هممتم به، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فنهض سريعا، فتوجه إلى المدينة، فلحقه أصحابه، فقالوا : قمت ولم نشعر ؟ ! فقال : همّت يهود بالغدر، فأخبرني الله بذلك، فقمت، وبعث إليهم رسول الله محمد بن مسلمة : أن اخرجوا من بلدتي، فلا تساكنوني، وقد هممتم بما هممتم به، وقد أجّلتكم عشرا. فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، فمكثوا أياما يتجهزون، فأرسل إليهم ابن أبيّ : لا تخرجوا، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، وطمع حُيي فيما قال ابن أبيّ، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا لا نخرج، فاصنع ما بدا لك، فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكبر المسلمون لتكبيره، وقال : حاربت يهود، ثم سار إليهم في أصحابه، فلما رأوه، قاموا على حصونهم معهم النبل والحجارة، فاعتزلتهم قريظة، وخذلهم ابن أبي، وحلفاؤهم من غطفان، وكان رئيسهم كعب بن الأشرف قد خرج إلى مكة فعاقد المشركين على التظاهر على رسول الله، فأخبر الله رسوله بذلك، فبعث محمد بن مسلمة فاغتره فقتله، وحاصرهم رسول الله، وقطع نخلهم، فقالوا : نحن نخرج عن بلادك، فأجلاهم عن المدينة، فمضى بعضهم إلى الشام، وبعضهم إلى خيبر، وقبض سلاحهم وأموالهم، فوجد خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا.

سورة الحشر
وهي مدنية كلها بإجماعهم، وذكر المفسّرون أنّ جميعها نزل في بني النّضير. وكان ابن عباس يسمّي هذه السّورة «سورة بني النّضير» وهذه الإِشارة إِلى قصتهم.
(١٤١٤) ذكر أهل العِلْم بالتفسير والسّير: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج إلى مسجد قباء، ومعه نفر من أصحابه، فصلّى فيه، ثم أتى بني النّضير، فكلّمهم أن يعينوه في دية رجلين كان قد آمنهما، فقتلهما عمرو بن أميّة الضّمريّ وهو لا يعلم، فقالوا: نفعل، وهمّوا بالغدر به، وقال عمرو بن جحاش: أنا أظهر على البيت، فأطرح عليه صخرة، فقال سلّام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليخبرن بما هممتم به، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخبر، فنهض سريعا، فتوجّه إلى المدينة، فلحقه أصحابه، فقالوا: قمت ولم نشعر؟! فقال: همّت يهود بالغدر، فأخبرني الله بذلك، فقمت، وبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم محمّد بن مسلمة: أن اخرجوا من بلدتي، فلا تساكنوني، وقد هممتم بما هممتم به، وقد أجّلتكم عشرا. فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، فمكثوا أياما يتجهّزون، فأرسل إليهم ابن أبيّ: لا تخرجوا، فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم، وتمدّكم قريظة، وحلفاؤكم من غطفان، وطمع حييّ فيما قال ابن أبيّ، فأرسل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنّا لا نخرج، فاصنع ما بدا لك، فكبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكبّر المسلمون لتكبيره، وقال:
حاربت يهود، ثم سار إليهم في أصحابه، فلمّا رأوه، قاموا على حصونهم معهم النّبل والحجارة، فاعتزلتهم قريظة، وخذلهم ابن أبيّ وحلفاؤهم من غطفان، وكان رئيسهم كعب بن الأشرف قد خرج إلى مكّة فعاقد المشركين على التظاهر على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخبر الله نبيّه بذلك، فبعث محمّد بن مسلمة فاغترّه فقتله، وحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقطع نخلهم، فقالوا: نحن نخرج عن بلادك، فأجلاهم عن المدينة، فمضى بعضهم إلى الشّام، وبعضهم إلى خيبر، وقبض أموالهم وسلاحهم، فوجد خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا.
فأمّا التفسير فقد ذكرنا فاتحة هذه السّورة في أوّل الحديد.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤)
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥)
عزاه المصنف لأهل التفسير والسير، ولم أره بهذا اللفظ، والظاهر أنه ساقه بمعناه. وانظر «السيرة النبوية» ٣/ ١٥١ و «تفسير ابن كثير» ٤/ ٣٩١ و «الدر المنثور» ٦/ ٢٧٧ و «أسباب النزول» ٨٠٢.
253
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني: يهود بني النضير مِنْ دِيارِهِمْ أي: من منازلهم لِأَوَّلِ الْحَشْرِ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنهم أول من حُشر وأُخرج من داره، قاله ابن عباس. وقال ابن السائب: هم أول من نفي من أهل الكتاب. والثاني: أن هذا كان أول حشرهم، والحشر الثاني: إلى أرض المحشر يوم القيامة، قاله الحسن.
(١٤١٥) قال عكرمة: من شك أن المحشر إلى الشام فليقرأ هذه الآية، وأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال لهم يومئذ: اخرجوا، فقالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر.
والثالث: أن هذا كان أول حشرهم وأن الحشر الثاني: نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، قاله قتادة. والرابع: هذا كان أول حشرهم من المدينة، والحشر الثاني: من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام في أيام عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، قاله مرّة الهمداني.
قوله عزّ وجلّ: ما ظَنَنْتُمْ يخاطب المؤمنين أَنْ يَخْرُجُوا من ديارهم لعزِّهم، ومَنَعَتِهم، وحُصُونهم وَظَنُّوا: يعني: بني النضير أن حصونهم تمنعهم من سلطان الله فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وذلك أنّه أمر نبيّه صلّى الله عليه وسلم بقتالهم وإِجلائهم، ولم يكونوا يظنون أن ذلك يكون، ولا يحسبونه وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ لخوفهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقيل: لقتل سيدهم كعب بن الأشرف يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ قرأ أبو عمرو «يخرّبون» بالتشديد. وقرأ الباقون «يخربون» بالتخفيف وهل بينهما فرق، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أن المشددة معناها: النقض والهدم. والمخففة معناها:
يخرجون منها ويتركونها خراباً معطَّلة، حكاه ابن جرير. وروي عن أبي عمرو أنه قال: إنما اخترت التشديد، لأن بني النضير نقضوا منازلهم، ولم يرتحلوا عنها وهي معمورة. والثاني: أن القراءتين بمعنى واحد. والتخريب والإخراب لغتان بمعنى، حكاه ابن جرير عن أهل اللغة. وللمفسرين فيما فعلوا بمنازلهم أربعة أقوال: أحدها: أنه كان المسلمون كلما ظهروا على دارٍ من دُورهم هدموها ليتسع لهم مكان القتال، وكانوا هم ينقبون دورهم، فيخرجون إِلى ما يليها، قاله ابن عباس. والثاني: أنه كان المسلمون كلما هدموا شيئا من حصونهم نقضوا هم ما يبنون به الذي خربه المسلمون، قاله الضحاك.
والثالث: أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم، أو العمود، أو الباب، يستحسنونه، فيهدمون
هو مرسل وورد موصولا. أخرجه البزار ٣٤٢٦ «كشف» من طريق أبي سعد البقال عن عكرمة عن ابن عباس. وإسناده ضعيف لضعف أبي سعد البقال. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠/ ٨٣٥٥: فيه أبو سعيد البقال، والغالب على حديثه الضعف. قلت: وكون المحشر في الشام، ورد في أحاديث أخرى. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ٥٨٧٣ بتخريجنا.
254
البيوت، وينزعون ذلك منها، ويحملونه معهم، ويخرب المؤمنون باقيها، قاله الزهري. والرابع: أنهم كانوا يخربونها لئلا يسكنها المؤمنون، حسداً منهم، وبغياً، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ الاعتبار: النظر في الأمور، ليعرف بها شيء آخر من جنسها، و «الأبصار» العقول. والمعنى: تدبَّروا ما نزل بهم وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ أي: قضى عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ وهو خروجهم من أوطانهم. وذكر الماوردي بين الإخراج والجلاء فرقين: أحدهما: أن الجلاء: ما كان مع الأهل والولد، والإخراج: قد يكون مع بقاء الأهل والولد. والثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة. والإخراج: قد يكون لواحد ولجماعة. والمعنى: لولا أن الله قضى عليهم بالخروج لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي، كما فعل بقريظة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مع ما حلَّ بهم في الدنيا عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ الذي أصابهم بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وقد سبق بيان الآية «١». قال القاضي أبو يعلى:
فقد دلت هذه الآية على جواز مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير سبي ولا استرقاق، ولا جزية، ولا دخول في ذمة، وهذا حكم منسوخ إِذا كان في المسلمين قوة على قتالهم، لأن الله تعالى أمر بقتال الكفار حتى يسلموا، أو يُؤدُّوا الجزية. وإِنما يجوز هذا الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم فلم يقدروا على إدخالهم في الإسلام أو الذمة، فيجوز لهم حينئذ مصالحتهم على الجلاء من بلادهم. وفي هذه القصة دلالة على جواز مصالحتهم على مجهول من المال.
(١٤١٦) لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم صالحهم على أرضهم، وعلى الحلقة «٢»، وترك لهم ما أقلّت الإبل، وذلك مجهول.
وقوله عزّ وجلّ: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ.
(١٤١٧) سبب نزولها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع، فنزلت هذه الآية، أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر.
(١٤١٨) وذكر المفسرون أنه لما نزلت ببني النضير تحصَّنوا في حصونهم، فأمر بقطع نخيلهم،
صحيح. أخرجه أبو داود ٣٠٠٤ مطولا عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، وإسناده على شرط البخاري ومسلم، وجهالة الصحابي لا تضر.
وأخرجه الطبري ٣٣٨٢٥ عن الزهري مرسلا. وله شواهد كثيرة.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٠٣١ والبغوي ٣٦٧٦ عن آدم به من حديث ابن عمر. وأخرجه البخاري ٤٨٨٤ ومسلم ١٧٤٦ وأبو داود ١٦١٥ والترمذي ٣٢٩٨ وابن ماجة ٢٨٤٤ والواحدي في «أسباب النزول» ٨٠٥ وأحمد ٢/ ١٢٣ من طرق عن الليث به. وأخرجه مسلم ١٧٤٦ ح ٣١ وابن ماجة ٢٨٤٥ والدارمي ٢/ ٢٢٢ من طريق عبيد الله عن نافع به. وأخرجه البخاري ٣٠٢١ ومسلم ١٧٤٦ وأحمد ٢/ ٧- ٨ و ٥٢ و ٨٠ والطبري ٣٣٨٥٣ والواحدي ٨٠٦ والبيهقي ٩/ ٨٣ والبغوي في «شرح السنة» ٣٦٧٥ من طرق عن جويرية عن نافع به.
وأخرجه البيهقي ٩/ ٨٣ من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن نافع.
ذكره الواحدي في «الأسباب» ٨٠٤ من غير عزو لقائل. وورد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري ٣٣٨٥١.
وورد من مرسل يزيد بن رومان، أخرجه الطبري ٣٣٨٥٠.
__________
(١) الأنفال: ١٣، ومحمد: ٣٢.
(٢) أي السلاح.
255
وإحراقها، فجزعوا، وقالوا: يا محمد زعمتَ أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر، وقطع النخل؟ وهل وجدت فيما أُنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم. واختلف المسلمون، فقال بعضهم: لا تقطعوا، فإنه مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها، فنزلت الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله تعالى.
وفي المراد «باللينة» ستة أقوال «١» : أحدها: أنه النخل كلُّه ما خلا العجوة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وبه قال عكرمة، وقتادة، والفراء. والثاني: أنها النخل والشجر، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثالث: أنها ألوان النخل كلّها إلا العجوة، والبرنية، قاله الزهري، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. وقال الزجاج:
أهل المدينة يسمون جميع النخيل: الألوان، ما خلا البرني، والعجوة. وأصل «لينة» لِوْنة، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. والرابع: أنها النخل كلُّه، قاله مجاهد وعطية، وابن زيد. قال ابن جرير: معنى الآية: ما قطعتم من ألوان النخيل. والخامس: أنها كرام النخل، قاله سفيان. والسادس: أنها ضرب من النخل يقال لتمرها: اللون، وهي شديدة الصُّفْرة، ترى نواه من خارج، وكان أعجب تمرهم إليهم، قاله مقاتل. وفي عدد ما قطع المسلمون ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قطعوا وأحرقوا ستة نخلات، قاله الضحاك. والثاني:
أحرقوا نخلة وقطعوا نخلة، قاله ابن إسحاق. والثالث: قطعوا أربع نخلات، قاله مقاتل.
قوله عزّ وجلّ فَبِإِذْنِ اللَّهِ قال يزيد بن رومان ومقاتل: بأمر الله. قوله عزّ وجلّ: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ يعني اليهود. وخزيهم: أن يُريَهم أموالهم يتحكَّم فيها المؤمنون كيف أحبُّوا. والمعنى:
وليخزي الفاسقين أذن في ذلك، ودل على المحذوف قوله: فَبِإِذْنِ اللَّهِ.
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٦ الى ١٠]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠)
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ٣٣: والصواب من القول في ذلك قول من قال: اللينة: النخلة، وهي من ألوان النخل ما لم تكن عجوة. ووافقه القرطبي، وقال ابن العربي: والصحيح ما قاله الزهري ومالك لوجهين- وهو اختيار الطبري-: أنهما أعرف ببلدهما وأشجارهما. والثاني: أن الاشتقاق يعضده، وأهل اللغة يصححونه، فإن اللينة وزنها لونه، واعتلت على أصولهم فآلت إلى لينة فهي لون.
256
قوله عزّ وجلّ: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ أي: ما ردَّ عليهم مِنْهُمْ يعني: من بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ قال أبو عبيدة: الإيجاف: الإيضاع، والركاب: الإبل. قال ابن قتيبة:
يقال: وجف الفرس والبعير، وأوجفته، ومثله: الإيضاع، وهو الإسراع في السير. وقال الزجاج: معنى الآية: أنه لا شيء لكم في هذا، إنما هو لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة.
قال المفسرون: طلب المسلمون من رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يخمِّسَ أموال بني النضير لما أُجْلُوا، فنزلت هذه الآية تبيّن أنها فيء لم تحصل لهم بمحاربتهم، وإنما هو بتسليط رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فهو له خاصة، يفعل فيه ما يشاء.
(١٤١٩) فقسمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منه شيئاً، إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم: أبو دُجَانة، وسهل بن حُنيف، والحارث بن الصّمّة.
ثم ذكر حكم الفيء فقال عزّ وجلّ: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أي: من أموال كفار أهل القرى فَلِلَّهِ أي: يأمركم فيه بما أحبّ، وَلِلرَّسُولِ بتحليل الله إياه. وقد ذكرنا «ذوي القربى واليتامى» في الأنفال «١» وذكرنا هناك الفرق بين الفيء والغنيمة.

فصل «٢» :


واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فذهب قوم إلى أنّ المراد بالفيء هاهنا:
الغنيمة التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة، وكانت في بدوِّ الإسلام للذين سمّاهم الله هاهنا دون الغانمين الموجفين عليها، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في الأنفال:
ذكره البغوي في «تفسيره» ٤/ ٢٩٢ بدون إسناد، وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٤/ ٥٠٥ ذكره الثعلبي بغير سند، وروى الواقدي عن معمر عن الزهري عن خارجة بن زيد أم العلاء قالت: «لما غنم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بني النضير قال لثابت بن قيس بن شماس: ادع لي الأنصار كلهم فقال: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم، فقال السعدان: بل تقسمه للمهاجرين ويكونوا في دورنا، فرضيت الأنصار، فأعطى المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا رجلين محتاجين سهل بن حنيف، وأبا دجانة، ونفل ابن الحقيق. سعد بن معاذ «وكان له ذكر عندهم... اه وانظر «سنن أبي داود» ٣٠٠٤ حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم.
__________
(١) الأنفال: ٤١.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٣٩٦: يقول تعالى: مبينا لمال الفيء، وما صفته؟ وما حكمه؟ فالفيء:
كل مال أخذ من الكفار بغير قتال ولا إيجاف خيل، ولا ركاب كأموال بني النضير هذه، فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، أي: لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم- فأفاءه الله على رسوله، ولهذا تصرف فيه كما شاء، فردّه على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله تعالى في هذه الآيات، فقال: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ أي: من بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ يعني الإبل، وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي: هو قدير لا يغالب ولا يمانع، بل هو القاهر لكل شيء. ثم قال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أي جميع البلدان التي تفتح هكذا، فحكمها حكم أموال بني النضير.
ولهذا قال: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ إلى آخرها والتي بعدها. فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه.
257
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الآية «١»، هذا قول قتادة ويزيد بن رومان. وذهب قوم إلى أنّ هذا الفيء: ما أخذ من أموال المشركين ما لم يوجف عليه من خيل ولا ركاب، كالصلح، والجزية، والعشور، ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له، فهذا كان يقسم في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خمسة أخماس، فأربعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعل بها ما يشاء، والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية.
واختلف العلماء فيما يصنع بسهم الرسول بعد موته على ما بيّنّاه في الأنفال، فعلى هذا تكون هذه الآية مبيّنة لحكم الفيء، والتي في الأنفال «٢» مبيّنة لحكم الغنيمة، فلا يتوجه النسخ.
قوله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ يعني الفيء دُولَةً وهو اسم للشيء يتداوله القوم. والمعنى: لئلّا يتداوله الأغنياء بينهم فيغلبون الفقراء عليه. قال الزجاج: الدُّولة: اسم الشيء يتداول. والدَّولة، بالفتح:
الفعل والانتقال من حال إلى حال وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ من الفيء فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عن أخذه فَانْتَهُوا وهذا نزل في أمر الفيء، وهو عام في كل ما أمر به، ونهى عنه. قال الزجاج: ثم بين مَن المساكين الذين لهم الحقّ، فقال عزّ وجلّ: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ قال المفسرون:
يعني بهم المهاجرين يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ أي: رزقاً يأتيهم وَرِضْواناً رضى ربهم حين خرجوا إلى دار الهجرة أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إِيمانهم. ثم مدح الأنصار حين طابت نفوسهم عن الفيء، فقال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ يعني: دار الهجرة، وهي المدينة وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيها تقديم وتأخير، تقديره: والذين تبوءوا الدار من قبلهم، أي: من قبل المهاجرين، والإيمان عطف على «الدار» في الظاهر، لا في المعنى، لأن «الإيمان» ليس بمكان يُتَبَوَّأُ، وإنما تقديره: وآثروا الإيمان، وإِسلام المهاجرين قبل الأنصار، وسكنى الأنصار المدينة قبل المهاجرين. وقيل: الكلام على ظاهره، والمعنى: تبوّءوا الدار والإيمان قبل الهجرة يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وذلك أنهم شاركوهم في منازلهم، وأموالهم وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً أي: حسداً وغيظاً مما أوتي المهاجرون. وفيما أوتوه قولان: أحدهما: مال الفيء، قاله الحسن. وقد ذكرنا آنفا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر. والثاني: الفضل والتقدّم، ذكره الماورديّ.
قوله عزّ وجلّ: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ يعني الأنصار يؤثرون المهاجرين على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي فقر وحاجة، فبيّن الله عزّ وجلّ أن إيثارهم لم يكن عن غنى. وفي سبب نزول هذا الكلام قولان:
(١٤٢٠) أحدهما: أن رجلا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد أصابه الجهد، فقال: يا رسول الله، إني جائع فأطعمني، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى أزواجه: هل عندكنَّ شيء؟ فكلُّهن قلن: والذي بعثك بالحقّ
صحيح. أخرجه البخاري ٣٧٩٨ والبغوي في «التفسير» ٢١٦٥ من حديث أبي هريرة. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٨٠٩ من طريق نصر بن علي الجهضمي عن عبد الله بن داود به. وأخرجه البخاري ٤٨٨٩ ومسلم ٢٠٥٤ والترمذي ٣٣٠٤ والنسائي في «التفسير» ٦٠٢ وابن حبان ٥٢٨٦ والبيهقي ٤/ ١٨٥ وفي «الأسماء والصفات» ٩٧٩ والواحدي في الوسيط» ٤/ ٢٧٣ من طرق عن فضل بن غزوان به.
__________
(١) الأنفال: ٤١.
(٢) الأنفال: ٤١.
258
ما عهدنا إِلا الماء، فقال: ما عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يطعمكَ هذه الليلة. ثم قال: «من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه الله؟» فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله، فأتى به منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأكرميه ولا تدَّخري عنه شيئاً، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، فقال: قومي فعلِّليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئاً، ثم أصبحي سراجِك فإذا أخذ الضيف ليأكل، فقومي كأنك تصلحين السراج، فأطفئيه، وتعالَيْ نمضغ ألسنتنا لأجل ضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى يشبع، ففعلت ذلك، فظنّ الضيف أنهما يأكلان معه، فشبع هو، وباتا طاويَين، فلما أصبحا غَدَوَا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلما نظر اليهما تبسَّم، ثم قال: ضحك الله الليلة، أو عجب من فَعالكما، فأنزل الله وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية. خرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة، وفي بعض الألفاظ عن أبي هريرة. أن الضيف كان من أهل الصُّفَّة، والمضيف كان من الأنصار، وأنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لقد عجب من فعالكما أهلُ السماء».
(١٤٢١) والثاني: أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أُهْدِيَ له رأسُ شاةٍ، فقال: إِن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا، فبعث به إِليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى تناولها سبعة أهل أبيات، حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر.
(١٤٢٢) وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال: أُهدي لبعض الصحابة رأسُ شاةٍ مشويّ، وكان مجهوداً، فوجَّه به إلى جارٍ له فتناوله تسعةُ أنفس، ثم عاد إلى الأول، فنزلت هذه الآية.
قوله عزّ وجل: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ قرأ ابن السميفع، وأبو رجاء «ومن يُوَقَّ» بتشديد القاف.
قال المفسرون: هو أن لا يأخذ مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئاً أمره الله بأدائه. والمعنى: أن الأنصار ممن وُقِيَ شُحَّ نفسه حين طابت أنفسهم بترك الفيء للمهاجرين.

فصل:


وقد اختلف العلماء في الشح والبخل، هل بينهما فرق، أم لا؟ فقال ابن جرير: الشُّحُّ في كلام العرب: هو منع الفضل من المال. وقال أبو سليمان الخطابي: الشح أبلغ في المنع من البخل، وإنما الشُّحُّ بمنزلة الجنس والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال في البخل إنما هو في أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قِبَل الطَّبع والجِبِلَّة. وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال: البخل: أن يَضِنَّ بماله، والشح: أن يبخل بماله ومعروفه. وقد روى أبو الشعثاء أن رجلا أتى ابن مسعود فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال:
أسمع الله يقول: «ومن يوق شح نفسه» وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يديّ شيء، فقال: ليس ذاك بالشح الذي ذكره الله في القرآن، الشُّحُّ: أن تأكل مال أخيك ظلما، إنما البخل، وبئس الشيء البخيل.
ضعيف. أخرجه الحاكم ٢/ ٤٨٤ وصححه! وتعقبه الذهبي بقوله: عبيد الله ضعفوه. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٨١٠ من طريق عبيد الله بن الوليد به. وعزاه السيوطي في «الدر» ٦/ ٢٨٩ للحاكم وابن مردويه.
عزاه القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ١٨/ ٢٥- بتخريجنا للثعلبي عن أنس، والثعلبي يروي الواهيات والموضوعات فهذا خبر لا شيء لخلوه عن كتب الحديث والأثر.
259
(١٤٢٣) وروى أنس بن مالك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «برىء من الشُّحِّ من أدَّى الزكاة، وقرى الضّيف، وأعطى في النّائبة».
قوله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني التابعين إلى يوم القيامة. قال الزّجّاج: إنّ المعنى: ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين، وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ودليل هذا قوله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: الذين جاءوا في حال قولهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا فمن ترحّم على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يكن في قلبه غِلٌّ لهم، فله حظّ من فيء المسلمين، ومن شتمهم ولم يترحّم عليهم، أو كان في قلبه غِلٌّ لهم، فما جعل الله له حقّا في شيء من فيء المسلمين بنص الكتاب. وكذلك روي عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال: من تنقص أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غِلٌّ، فليس له حقّ في فيء المسلمين، ثم تلا هذه الآيات «١».
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١١ الى ١٧]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧)
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يعني: عبد الله بن أُبيٍّ وأصحابه يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ في الدِّين، لأنهم كفَّار مثلهم، وهم اليهود لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من المدينة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أي: في خذلانكم أَحَداً أَبَداً فكذَّبهم الله تعالى في ذلك بقوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ثم ذكر أنهم يُخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر بالآية التي تلي هذه، فكان الأمر على ما ذكر الله تعالى، لأنهم أُخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون، وقُوتلوا فلم ينصروهم، ومعنى وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ: لئن قُدِّر وجودُ نصرهم، لأن الله نفى نصرهم، فلا يجوز وجوده. وقوله عزّ وجلّ: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ يعني: بني النضير.
قوله عز وجل: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ يعني: المؤمنين أشد رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ وفيهم قولان:
أخرجه الطبري ٣٣٨٨٣ والبيهقي في «الشعب» ١٠٨٤٢ من حديث أنس، وإسناده ضعيف فيه سليمان بن عبد الرحمن روى مناكير، وإسماعيل بن عياش روايته ضعيفة عن غير الشاميين، وشيخه هنا مدني.
__________
(١) انظر «تفسير القرطبي» ١٨/ ٣١.
260
أحدهما: أنهم المنافقون، قاله مقاتل. والثاني: بنو النّضير، قاله الفرّاء.
قوله عزّ وجلّ: لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله الأكثرون.
والثاني: اليهود والمنافقون، قاله ابو سليمان الدمشقي. والمعنى: أنهم لا يبرزون لحربكم، إنما يقاتلون مُتَحَصِّنين فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبان «من وراء جدار» بألف.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي «جُدُر» بضم الجيم والدَّال. وقرأ أبو بكر الصِّدِّيق، وابن أبي عبلة «جَدَر» بفتح الجيم والدال جميعاً، وقرأ عمر بن الخطاب، ومعاوية، وعاصم الجحدري «جَدْر» بفتح الجيم وسكون الدال. وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، وابن يعمر «جُدْر» بضم الجيم وإِسكان الدال بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ وفيه قولان: أحدهما: عداوة بعضهم لبعض شديدة. والثاني: أنّ بأسهم بينهم فيما وراء الحصون شديد، وإذا خرجوا إِليكم فهم أجبن خلق الله.
قوله عزّ وجلّ: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود والمنافقون، قاله مقاتل.
والثاني: بنو النضير، قاله الفرّاء. قوله عزّ وجلّ: وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى قال الزجاج: أي هم مختلفون لا تستوي قلوبهم، ولا يتعاونون بنيِّات مجتمعة، لأن الله تعالى ناصر حزبه، وخاذل أعدائه. قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ يعني ذلك الاختلاف بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما فيه الحظُّ لهم.
ثم ضرب لليهود مثلا، فقال عزّ وجلّ: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً وفيه ثلاثة أقوال: أحدها:
أنهم بنو قينقاع. وقال ابن عباس: كانوا بنو قينقاع يهودا، وكانوا وادعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم غدروا، فحصرهم، ثم نزلوا على حكمه أن له أموالهم، ولهم النساء والذُّرِّية. فالمعنى: مثل بني النضير فيما فعل بهم كبني قينقاع. والثاني: أنهم كفار قريش يوم بدر، قاله مجاهد. والمعنى: مَثَلُ هؤلاء اليهود كمثلِ المشركين الذين كانوا من قبلهم قريباً، وذلك لقرب غزوة بني النضير من غزاة بدر. والثالث: أنهم بنو قريظة، فالمعنى: مَثَلُ بني النضير كبني قريظة ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ بأن قُتلت مقاتلتهم، وسُبِيَتْ ذراريهم، وهؤلاء أُجلوا عن ديارهم فذاقوا وبال أمرهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا فقال عزّ وجلّ: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ. والمعنى: مثل المنافقين في غرورهم بني النضير، وقولهم: لئن أُخرجتم لنخرجنَّ معكم، ولئن قوتلتم لننصرنكم، كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ وفيه قولان «١» : أحدهما: أنه مَثَلٌ ضربه الله تعالى للكافر في طاعة الشيطان، وهو عام في جميع الناس، قاله مجاهد. والثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى لشخص معين، وعلى هذا جمهور المفسرين، وهذا شرح قصته:
ذكر أهل التفسير أن عابداً من بني إسرائيل كان يقال له: برصيصا تعبَّد في صومعةٍ له أربعين سنة لا يقدر عليه الشيطان، فجمع إبليس يوماً مردة الشياطين، فقال: ألا أحدٌ منكم يكفيني برصيصا، فقال
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٤٠٢: وقد ذكر بعضهم هاهنا- قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثال، لا أنها المرادة وحدها بالمثل، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها.
- وقال الشوكاني رحمه الله في «تفسيره» ٥/ ٢٤٥: وهذا لا يدل على أن هذا الإنسان- المذكور في القصة الآتية- هو المقصود بالآية بل يدل على أنه من جملة من تصدق عليه.
261
الأبيض، وهو صاحب الأنبياء: أنا أكفيكه، فانطلق على صفة الرّهبان، فأتى صومعته، فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام، ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام، فلما رأى أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته، فلما انفتل برصيصا، اطَّلع فرآه منتصباً يصلي على هيئة حسنة، فناداه: ما حاجتك؟ فقال: إِني أحببت أن أكون معك، أقتبس من عملك، وأتأدَّب بأدبك، ونجتمع على العبادة، فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك، ثم أقبل على صلاته، وأقبل الأبيض يصلي، فلم يُقْبِلْ إليه برصيصا أربعين يوماً، ثم انفتل، فرآه يصلي، فلما رأى شدة اجتهاده قال: ما حاجتك؟ فأعاد عليه القول، فأذن له، فصعِد إليه، فأقام معه حولاً لا يفطر إِلا كل أربعين يوماً، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوماً، وربما زاد على ذلك، فلما رأى برصيصا اجتهاده، أعجبه شأنه وتقاصرت إِليه نفسه، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق عنك، فإن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً مما أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي أرى، فاشتد ذلك على برصيصا، وكره مفارقته، فلما ودَّعه قال له الأبيض: إِن عندي دَعَوَاتٍ أعلمكها، يشفي الله بها السقيم، ويعافي بها المبتلي، فقال برصيصا: إِني أكره هذه المنزلة، لأن لي في نفسي شغلاً، فأخاف أن يعلم الناس بهذا، فيشغلوني عن العبادة. فلم يزل به حتى علمه إياها، ثم انطلق إلى إِبليس فقال: قد والله أهلكتُ الرجل، فانطلق الأبيض، فتعرَّض لرجل فخنقه، ثم جاءه في صورة رجل متطبِّب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنوناً فأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال لهم: إِني لا أقوى على جنِّيِّه، ولكن سأرشدكم إِلى من يدعو له فيعافى فقالوا له: دلّنا. فقال:
انطلقوا إِلى برصيصا العابد فإن عنده اسم الله الأعظم، فانطلقوا إليه فسألوه فدعا بتلك الكلمات، فذهب عنه الشيطان، وكان الأبيض يفعل بالناس ذلك، ثم يرشدهم إلى برصيصا، فيُعافَوْن، فلما طال ذلك عليه انطلق إلى جارية من بنات ملوك إسرائيل، لها ثلاثة إخوة، فخنقها، ثم جاء إليهم في صورة متطبِّب، فقال: أعالجها؟ قالوا: نعم. قال: إِن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكن سأرشدكم إلى رجل تَدَعونها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها، قالوا: ومن هو؟ قال: برصيصا، قالوا: وكيف لنا أن يقبلها منَّا، وهو أعظم شأناً من ذلك؟! قال: إن قبلها، وإلا فضعوها في صومعته، وقولوا له: هي أمانة عندك، فانطلقوا اليه، فأبى عليهم، فوضعوها عنده. وفي بعض الروايات أنه قال: ضعوها في ذلك الغار، وهو غار إلى جنب صومعته، فوضعوها، فجاء الشيطان فقال له: انزل إِليها فامسحها بيدك تعافى، وتنصرف إلى أهلها، فنزل، فلما دنا إلى باب الغار دخل الشيطان فيها، فإذا هي تركض، فسقطت عنها ثيابها، فنظر العابد إلى شيء لم ير مثله حسناً وجمالاً، فلم يتمالك أن وقع عليها، وضرب على أذنه، فجعل يختلف اليها إلى أن حملت، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتُضحت، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟! فإن سألوك عنها قلت: جاء شيطانها، فذهب بها، فلم يزل به حتى قتلها، ودفنها، ثم رجع إلى صومعته، فأقبل على صلاته إِذ جاء إخوتها يسألون عنها، فقالوا: يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها فذهب بها، ولم أطقه، فصدَّقوه، وانصرفوا. وفي بعض الروايات أنه قال: دعوت لها، فعافاها الله، ورجعتْ اليكم، فتفرَّقوا ينظرون لها أثراً، فلما أمسَوْا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه، فقال: ويحك: إِن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا من جبل كذا، فقال: هذا حلم، وبرصيصا خير من ذلك، فتتابع عليه ثلاث ليال، وهو لا يكترث، فانطلق إِلى الأوسط كذلك، ثم إلى الأصغر، بمثل ذلك، فقال الأصغر لإخوته: لقد رأيت كذا
262
وكذا، فقال الأوسط: وأنا والله، فقال الأكبر: وأنا والله، فأتوا برصيصا، فسألوه عنها، فقال: قد أعلمتكم بحالها، فكأنكم اتّهمتموني، فقالوا: لا والله واستحيَوْا، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال:
ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا، وإن إِزارها لخارج من التراب، فانطلقوا، فحفروا عنها، فرأوها، فقالوا: يا عدوَّ الله لم قتلتها؟ اهبط، فهدموا صومعته، ثم أوثقوه، وجعلوا في عنقه حبلاً، ثم قادوه إلى الملك فأقرّ على نفسه، وذلك أنّ الشيطان عرض له، فقال: تقتلها ثم تكابر، فاعترف، فأمر الملك بِقَتْلِهِ وصَلْبِهِ، فعرض له الأبيض، فقال: أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علَّمتك الدعوات، ويحك ما اتَّقيت الله في أمانة خنت أهلها، أما استحيَيْتَ من الله؟! ألم يكفك ذلك حتى أقررت ففضحت نفسك وأشباهك بين الناس؟! فإن مِتَّ على هذه الحالة لم تفلح، ولا أحدٌ من نظرائك، قال: فكيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة حتى أُنجيك، وآخذ بأعينهم، وأُخرجك من مكانك، قال: ما هي؟ قال: تسجد لي، فسجد له، فقال: هذا الذي أردت منك، صارت عاقبة أمرك أن كفرت إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ثم قتل. فضرب الله هذا المثل لليهود حتى غرّهم المنافقون، ثم أسلموهم «١».
قوله عزّ وجلّ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ ونصب ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ياء «إِنيَ» وأسكنها الباقون. وقد بيَّنا المعنى في الأنفال «٢» فَكانَ عاقِبَتَهُما يعني: الشيطان وذلك الكافر.
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)
قوله عزّ وجلّ: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي: لينظر أحدكم أيّ شيء قدّم؟ عملا صالحا ينجيه؟ أم شيئا يُوبِقُه؟ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي: تركوا أمره فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أي: أنساهم حظوظ أنفسهم- فلم يعملوا بالطاعة، ولم يقدِّموا خيراً. قال ابن عباس: يريد قريظة، والنضير، وبني قينقاع.
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)
(١) ورد عن ابن عباس موقوفا: أخرجه الطبري ٣٣٩٠٤ وإسناده واه، فيه مجاهيل: وعطية العوفي واه. وورد عن علي، أخرجه الطبري ٣٣٩٠٢ وإسناده حسن. وورد عن ابن مسعود، أخرجه الطبري ٣٣٩٠٣ وإسناده ضعيف. وورد من وجوه متعددة، ومصدر ذلك كله كتب الأقدمين، والله تعالى أعلم.
(٢) الأنفال: ٤٨. [.....]
263
قوله عز وجل: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ أخبر الله تعالى بهذا عن تعظيم شأن هذا القرآن، وأنه لو جعل في جبل- على قساوته وصلابته- تمييزاً، كما جعل في بني آدم، ثم أنزل عليه القرآن لتشقّق خشية من الله، وخوفاً أن لا يؤدِّيَ حق الله في تعظيم القرآن. و «الخاشع» : المتطأطئ الخاضع، و «المتصدِّع» : المتشقِّق. وهذا توبيخ لمن لا يحترم القرآن، ولا يؤثِّر في قلبه مع الفهم والعقل، وَيَدُلُّك على هذا المثل قوله عزّ وجلّ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ ثم أخبر بعظمته وربوبيّته، فقال عزّ وجلّ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ قال الزّجّاج: قوله عزّ وجلّ: هُوَ اللَّهُ ردّ على قوله عزّ وجلّ في أول السورة سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
فأما هذه الأسماء، فقد سبق ذكر «الله» و «الرحمن» و «الرحيم» في الفاتحة، وذكرنا معنى «عالم الغيب والشهادة» في الأنعام «١». و «الملك» في سورة المؤمنين «٢».
فأما «القدوس» فقرأ أبو الأشهب، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ بفتح القاف. قال أبو سليمان الخطابي: «القدوس» : الطاهر من العيوب، المنزَّه عن الأنداد والأولاد. و «القدس» : الطاهر. ومنه سمي: بيت المقدس، ومعناه: المكان الذي يُتَطَهَّرُ فيه من الذنوب. وقيل للجنة: حظيرة القدس، لطهارتها من آفات الدنيا. والقدس: السطل الذي يتطهر فيه، ولم يأت من الأسماء على فُعُّول بضم الفاء الا «قُدُّوس» و «سُبُّوح» وقد يقال أيضاً: قَدُّوس، وسَبُّوح بالفتح فيهما، وهو القياس في الأسماء، كقولهم: سَفَّود، وكَلُّوب.
فأما «السلام» فقال ابن قتيبة: سمى نفسه سلاماً، لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء. وقال الخطابي: معناه ذو السّلام. والسّلام في صفة الله سبحانه وتعالى: هو الذي سلم من كلّ عيب، وبرئ من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين. قال: وقد قيل: هو الذي سَلِمَ الخلقُ من ظلمه.
فأما «المؤمن»، ففيه ستة أقوال: أحدها: أنه الذي أَمِنَ الناسُ ظلمَهُ، وأَمِنَ مَنْ آمَنَ به عذابَهُ، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: أنه المجير، قاله القرظي. والثالث: الذي يصدِّق المؤمنين إذا وحَّدوه، قاله ابن زيد. والرابع: أنه الذي وحّد نفسه، لقوله عزّ وجلّ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، ذكره الزجاج. والخامس: أنه الذي يُصدِّق عباده وعده، قاله ابن قتيبة. والسادس: أنه يصدِّق ظنون عباده المؤمنين، ولا يُخيِّب آمالَهم.
(١٤٢٤) كقول النبي صلّى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربّه عزّ وجلّ: «أنا عند ظن عبدي بي»، حكاه الخطابي.
فأما «المهيمن» ففيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الشهيد، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والكسائي.
قال الخطّابي: ومنه قوله عزّ وجلّ: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ «٣»، فالله الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل. والثاني: الأمين، قاله الضّحّاك، قال الخطّابي: أصله: مؤيمن، فقلبت الهمزة هاء، لأنّ الهاء
صحيح. أخرجه البخاري ٧٥٠٥ ومسلم ٢٦٧٥ وابن حبان ٦٣٩ من حديث أبي هريرة، وله شواهد كثيرة.
وتقدم بعضها.
__________
(١) الأنعام: ٧٣.
(٢) المؤمنون: ١١٦.
(٣) المائدة: ٤٨.
264
أخَفُّ عليهم من الهمزة. ولم يأت مُفَيْعِلٌ في غير التصغير، إلا في ثلاثة أحرف «مسيطر» و «مُبيطر» و «مهيمن» وقد ذكرنا في سورة الطور «١» عن أبي عبيدة، أنها خمسة أحرف. والثالث: المصدِّق فيما أخبر، قاله ابن زيد. والرابع: أنه الرقيب على الشيء، والحافظ له، قاله الخليل. قال الخطابي: وقال بعض أهل اللغة. الهيمنة: القيام على الشيء، والرعاية له، وأنشد:
أَلاَ إنَّ خَيْرَ الْنَّاس بَعْدَ نَبِيِّهِ مُهَيْمِنهُ الْتاليه في الْعُرْفِ والْنُّكْرِ
يريد القائم على الناس بعد بالرِّعاية لهم. وقد زدنا هذا شرحاً في المائدة «٢»، وبيَّنَّا معنى «العزيز» في البقرة «٣».
فأما «الجبار»، ففيه أربعة أقوال: أحدها: أنه العظيم، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يريد، قاله القرظي والسدي. وقال قتادة: جبر خلقه على ما شاء. وحكى الخطابي: أنه الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه، يقال: جبره السلطان وأجبره. والثالث:
أنه الذي جبر مفاقر الخلق، وكفاهم أسباب المعاش والرزق. والرابع: أنه العالي فوق خلقه، من قولهم: تجبر النبات: إِذا طال وعلا، ذكر القولين الخطابي.
فأما «المتكبر» ففيه خمسة أقوال: أحدها: أنه الذي تكبَّر عن كل سوءٍ، قاله قتادة. والثاني: أنه الذي تكبَّر عن ظلم عباده، قاله الزجاج. والثالث: أنه ذو الكبرياء، وهو الملك، قاله ابن الأنباري.
والرابع: أنه المتعالي عن صفات الخلق. والخامس: أنه الذي يتكبَّر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة، فيقصمهم، ذكرهما الخطابي، قال: والتاء في «المتكبر» تاء التفرّد، والتخصّص، لا تاء التعاطي والتكلّف، والكبر لا يليق بأحد من المخلوقين، وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل. وقيل: إن المتكبر من الكبرياء الذي هو عظمة الله، لا من الكبر الذي هو مذموم في الخلق.
وأما «الخالق» فقال الخطابي: هو المبتدئ للخلق المخترع له على غير مثال سبق، فأما في نعوت الآدميين، فمعنى الخلق التقدير: كقول زهير:
ولأنت تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبعض الْقَوْم يَخْلُقُ ثم لاَ يَفْرِي
يقول: إذا قدرت شيئاً قطعته، وغيرك يقدر ما لا يقطعه، أي: يتمنّى ما لا يبلغه.
والبارئ: الخالق. يقال: برأ الله الخلق يبرؤهم. و «المصوّر» : هو الذي أنشأ خلقه على صُوَرٍ مختلفةٍ ليتعارفوا بها. ومعنى: التصوير: التخطيط والتشكيل. وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السّميفع «البارئ المصوّر» بفتح الواو والراء جميعا، يعنون: آدم عليه السلام. وما بعد هذا قد تقدم بيانه «٤» إلى آخر السّورة.
(١) الطور: ٣٧.
(٢) المائدة: ٤٨.
(٣) البقرة: ١٢٩.
(٤) الأعراف: ١٨٠ والإسراء: ١١٠.
265
Icon