تفسير سورة الحشر

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الْحَشْرِ
الزمخشري: [صالح بنو النضير رسول الله ﷺ على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له راية، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الأنصارى فقتل كعبا غيلة*]، انتهى، أي قتله على غرة ولا يريد الغيلة الاصطلاحية، لأنها القتل خفية لأخذ المال.
قوله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ... (١)﴾
ابن عطية: التسبيح إما بلسان الحال بمعنى أن الناظر لهذه الجمادات يسبح الله تعالى، أو بمعنى أنها مفتقرة إلى الاستمدادات [بالأعراض*]، وهو حقيقة بلسان المقال انتهى، فعلى هذا لَا يدخل فيه المشركون ولا الدهرية، لأنهم لَا يسبحون الله، وعلى الأول يدخلون، وإن كانوا متصفين بضد التسبيح، لأن حالهم يقتضي الافتقار إلى موجد أوجدهم، وقوله حقيقة نحوه، قال اللخمي للمازري: وهو مشكل، لأن الموجودات إما جسم أو حيوان أو إنسان، فالجماد مؤلف من الجسم والعرض فقط، والحيوان يزيد عليه بالحياة، والإنسان يزيد عليهما بالعلم، فإذا جعل التسبيح من الجماد حقيقة يلزمه إما قيام الحياة بالجماد، أو صدور الكلام من غير الحي [وهو*] باطل، لأن الكلام شرطه الحياة، وما ورد في الحديث من تسبيح الحصى وكلام الجذع، وغير ذلك، فمعجزة خارقة للعادة، و (سبح) متعد بنفسه، وتعديه هنا بحرف الجر شاذ، كقوله:
فلمَّا أنْ تَواقَفْنَا قَليلاً... أنَخْنَا [للكَلاكِلِ*] فارْتَمَيْنَا
ويحتمل أن يكون تقديره المفعول محذوفا سبح الله لله أي سبحوه لأجله ولذاته لا لشيء، وهذا هو غاية التوحيد، وانظر أبا حيان في أول سورة الحديد.
قوله تعالى: ﴿لِأَوَّلِ الْحَشْرِ... (٢)﴾
الزمخشري: هذا أول حشرهم إلى الشام، السهيلي في كتاب التعريف والإعلام بما وقع في القرآن مبهما من [أعلام*] هو إنما الإعلام سبب دخول بني إسرائيل لأرض الحجاز أنهم كانوا بالشام، وكانت العمالقة تغير عليهم المرة بعد المرة، فبعث إليهم موسى عليه السلام جيشا من بني إسرائيل، وأمرهم أن يقتلوهم ويستأصلوهم ولا يتركوا منهم صغيرا ولا كبيرا، فخرجوا إليهم، وقاتلوهم وقتلوا جميعهم إلا طفلا صغيرا [ابن*] ملكهم حَسَنَ الصورةِ، فإنهم [استحيوا*] ورجعوا إلى الشام فوجدوا
191
موسى عليه السلام قد مات، فمنعهم أهل الشام من المقام معهم مخافة أن تلحقهم عقوبتهم بعصيانهم أمر موسى عليه السلام، لأنهم على يقين من نزول العذاب بهم، فأخرجوهم من أرضهم فرجعوا إلى أرض الحجاز فاستوطنوها انتهى، وذكر ابن عطية هذا في سبب إجلاء اليهود من أرض الحجاز، في قوله تعالى: (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيهِمُ الْجَلاءَ).
قوله تعالى: (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا).
المناسب أن يكون هذا خطابا خاصا بالمؤمنين، ولا يدخل فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأن ظنه صادق، وإن كان لَا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله تعالى، فظنه وفراسته صادقة.
قوله تعالى: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ).
الزمخشري: هلا قيل: وظنوا أن حصونهم مانعتهم، فهو أخص من قوله (أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ)، وأجاب: بأن في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط [وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم*] انتهى، أراد أن التقديم للاهتمام بوصف المنع، وهذا نص في أن حصونهم مبتدأ ومانعتهم خبره، واختار أبو حيان أن مانعتهم خبر أن وحصونهم فاعل به، فإن قلت: هلا كان مانعتهم مبتدأ وحصونهم خبر، فيجاب عنه بوجهين:
الأول: أن المبتدأ يكون أخص من الخبر، ومانعتهم هنا أعم من الحصون؛ لأنهم لم يحصروا المنع في الحصون، بل ظنوا أنهم يتمتعون بها وبكثرة عُددهم وعَددهم وقوتهم، كما أشار إليه الزمخشري.
الثاني: أن مانعتهم اسم فاعل بمعنى الحال أو الاستقبال، فإضافته [محضة*] على سبيل التنزل، والمراد [منه*] رسول الله - ﷺ -.
قوله تعالى: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ).
الزمخشري: [وقرئ: فآتاهم الله*] أي [أعطاهم الهلاك*] انتهى، وهذا تهكم [بهم*] لَا يوافق مذهب الزمخشري.
قوله تعالى: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ).
عبر بلفظ القذف لحكمة متعلقة، ولأنه يدل على شدة الرمي والإلقاء، وهو في مقابلة قوله تعالى: في سورة الفتح (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)، فإن قلت: قد قال تعالى (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي
192
الْيَمِّ)، قلت: القذف في التابوت من حيث هو مستقبح تكرهه النفوس البشرية، وكذا قال: [(فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) *] لما كان الإلقاء في الساحل من اليم محبوبا [للنفوس*]، وكذلك القذف في اصطلاح الفقهاء ورمي الإنسان بما يكرهه على وجه خاص، فقوله: [... ].
قوله (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ)، هذا من باب الاستدلال بالمسبب على السبب، لأن حصول الرعب في قلوبهم سبب في تخريبهم بيوتهم، وينبغي أن يكون التقدير ويخربونها بأيدي المؤمنين، وإلا لزم استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، لأن تخريبهم بيوتهم بأيديهم حقيقة، وأيدي المؤمنين مجازا، على ما قلناه يلزم الإضمار، وقد قالوا: إذا تعارض المجاز والإضمار، فالإضمار أولى وأحرى، [وإن*] كان المجاز مختلفا فيه، فإن استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه مختلف فيه، وذكر ابن عطية هنا سبب الجلاء قال: [أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه كتب على بني إسرائيل جلاء، وكانت بنو النضير ممن حل بالحجاز بعد موت موسى عليه السلام بيسير، لأنهم كانوا من الجيش الذي رجع وقد عصوا في أن لم يقتلوا الغلام ابن ملك العماليق لجماله وعقله، وقد كان موسى عليه السلام قال لهم لا تستحيوا أحدا، فلما رجع ذلك الجيش إلى بني إسرائيل بالشام وجدوا موسى ميتا، وقال لهم بنو إسرائيل أنتم عصاة والله لا دخلتم علينا بلادنا، فقال أهل ذلك الجيش عند ذلك ليس لنا أحب من البلاد التي غلبنا أهلها، فانصرفوا إلى الحجاز، فكانوا فيه فلم يجر عليهم الجلاء الذي أجراه بختنصر على أهل الشام، وقد كان الله تعالى كتب في الأزل على بني إسرائيل جلاء فنالهم هذا الْجَلاءَ على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك لَعَذَّبَهُمْ الله فِي الدُّنْيا بالسيف والقتل كأهل بدر وغيرهم*]. انتهى، هذا الخبر في نفسه يتفق، ولكنه لَا ينزل على لفظ الآية لاقتضاء الآية أن بني قريظة والنضير لم يعذبوا بالسيف بل أخرجوا من بلادهم، والخبر يقتضي أنهم قوتلوا واستؤصلوا ولم يبق منهم أحد، فإن قلت: هؤلاء ذريتهم، قلت: اقتضى الخبر استئصال جميعهم، ويجاب بما ذكر ابن عطية بعد هذا من أن [... ] أهل قريظة ونفاهم إلى الشام، ثم رجع بعضهم، فيحتمل أن يكون هؤلاء هم الذين أخرجوا ولم يعذبوا بالسيف من بني النضير، وبقايا بني النضير قريظة، والصواب الوقف على قوله (فِي الدُنْيَا)، خشية أن يتوهم دخول ما بعده في جواب (لولا)، فيكونوا في الآخرة غير معذبين، واستدل الأصوليون بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)، على صحة العمل بالقياس اعتبارا وكل اعتبار مأمور به، فالقياس مأمور به، [أما أنه اعتبار فلأن الحكم*] الذي في الأصل معتبر في الفرع ومنقول إليه، ولكن ينازع الخصم في الكبرى، وهو كل اعتبار مأمور به فيمنع كليتها.
193
قوله تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ... (٥)﴾
الزمخشري: [وروى أن رجلين كانا يقطعان: أحدهما العجوة، والآخر اللون، فسألهما رسول الله ﷺ فقال هذا: تركتها لرسول الله، وقال هذا: قطعتها غيظا للكفار*]، قال: واستدلوا بها على جواز الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى أن كل مجتهد مصيب انتهى، لَا حجة فيها؛ لأن ذلك إنما هو حيث الاجتهاد [إن كان*] في شيء واحد على طرفي النقيض، وهنا تعدد متعلق الاجتهاد [وأحدهما*] قطع الجيِّد، والآخر قطع الرديء، فمتعلق الاجتهادين مختلف، ويحتمل أن يكون قطع الجميع جائز في نفس الأمر، وإنما يقال: كل مجتهد مصيب [أو لا]، كما قال ابن التلمساني في الاجتهاد في القبلة: أنه يجوز لأحدهما الاقتداء بالآخر، لأنها واحدة فأحدهما مخطئ، وأبطله ابن العربي: بأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان معهم [ولا اجتهاد*] مع حضوره، وأنه يدل على أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم مجتهد فيما ينزل عليه فيه وحي، أخذا بعموم الإذاية للكفار، ودخولا في الإذن الكلي بما يقضي عليهم ويهلكهم لقوله تعالى: (وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ)، فإِن قلت: ما أفاد قوله [عَلَى أُصُولِهَا*] مع أن (قائمة) تغني عنه؟ قلت: أفاد أنها باقية على حالها لم ينقص منها شيء، أو قد تكون قائمة ناقصة.
قوله تعالى: (وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ).
الزمخشري: أي يقطعها بإذن الله وأمره، انتهى، المراد بالإذن الإباحة، وليس المراد به الوجوب ولا الندب ولا الإرادة، أما الوجوب والندب فلأن الإذن هنا دائر بين أمرين متناقضين، أما القطع أو الترك، فترجيح فعل أحدهما يبطل فعل الآخر من أصل فرعه عن أرجحيته، وأما الإرادة فلأن الآية نزلت ردا على اليهود، واليهود موافقون على المعاصي [محادة*] لله تعالى، فيقولون هم: نعم أراد الله تعالى عصيانكم بذلك، فعصيتموه بإذنه وإرادته، فيتعين أن يراد بالإذن الإباحة، وفي الكلام حذف أي لينصركم [ويخزي*] الفاسقين.
قوله تعالى: ﴿مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ... (٦)﴾
قدم الخيل لأنها أخص؛ إذ لَا خلاف أنها نسبتهم لها، والخلاف في الإبل هل نسبتهم
لها] [أو لا*]؟ [فعلى*] الأخص لَا يستلزم نفي الأعم، فمعناه لم توجفوا عليه بالخيل، ثم قال:
ولم توجفوا عليه بالركاب، وهو من باب نفي الشيء لنفي موجبه، أي لَا حظ لكم في
الفيء؛ لأنكم لم توجفوا عليه بخيل ولا ركاب.
قوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ).
هو استدراك بين الشيء [ونقيضه*]، أي يسلط رسله وينصرهم من غير حاجة إلى معونتكم، فإِن قلت: لم قال (يُسَلِّطُ) بلفظ المضارع، وجمع الرسل مع أنهم قد [مضوا*] [والباقي*] إنما هو رسول واحد، قلت: هي حكاية حال ماضية، فإن قلت: فلا يدخل في ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مع أن المراد الحالة، قلت: المراد ولكن العادة الجارية في رسله، أنه يسلطهم على من يشاء من عباده، ويحتمل أن يكون الجمع تعظيما له صلى الله عليه وسلم، والمراد بالرسل الملائكة، قوله (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ... (٧).. ، ذكر اسم الله [في*] الفيء، وفي الصدقات لم يذكره، فدل على أن [مستحق*] الفيء أفضل، لكونه لَا يختص [**بالتبيين] بخلاف الصدقة، وفاءَ بمعنى رجع، وأفاء أرجع، وتقرير معنى الرجوع فيهما أن أموال الكفار مستحقة للمسلمين في الفيء فهي بأيديهم [**كالمتعدي فيه]، فإذا حصلت بأيدي المؤمنين فقد رجعت.
قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ... (٨)﴾
الزمخشري: لَا يصح أن يكون بدلا من مجموع قوله (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) انتهى، لأنه يستحيل صدق صفة الفقر عليه عز وجل، ولا يوصف بها النبي ﷺ إعظاما له، ولأن في آخر الآية (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، فإِن قلت: لم قدم صفة الفقر على الهجرة، مع أنهم إنما اتصفوا بالفقر بعد الهجرة، وأما قبلها فكانوا أغنياء، فالهجرة سبب في الفقر، فهلا قدمت؟ فالجواب: أن استحقاقهم الأخذ من الغنيمة إنما هو [بوصف*] الفقر لَا بالهجرة، أو بمجموع الأمرين، ووصف الفقر [أولى بههم*]، ولا يقال: إن وصف الفقر يشاركهم فيه الأنصار، وأنهم إنما اختصوا عن الأنصار بالهجرة، لأن المفسرين ذكروا أن الأنصار كلهم كانوا أغنياء إلا ما قلَّ منهم، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الغنيمة لفقرهم، وعبر في المهاجرين بالاسم وفي الذين أخرجوا بالفعل، لدوام الهجرة وانقطاع الإخراج، ووصفهم بنصرة الله ورسوله احتراسا، خشية أن يتوهم أن ذلك خاص بالأنصار.
قوله تعالى: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا).
[ذكرهما تعظيما لهما*]، والعطف ترق؛ لأن الرضوان صفة معنى، والفضل صفة فعل.
قوله تعالى: (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
المقصود بالإسناد هنا المعطوف، فهو من باب [أعجبتني*] الجارية حسنها، لأن الله تعالى غني عن نصرتهم، وصرح باسم الجلالة تشريفا للطاعة، وصرح باسم الجلالة تهييجا عليها.
قوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).
ابن عطية: في أقوالهم وأفعالهم، انتهى، هذا موافق لقول ابن التلمساني: أن الصدق هو مطلق المطابقة، لأنه مطابقة الخبر للمخبر عنه، ووقع التأكيد في هذه الجملة بأمور: الحصر، وكون الموضوع اسم إشارة، والفصل بالضمير، وكون الخبر اسما [وعلى الثبوت*].
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ... (٩)﴾
فسره الزمخشري بثلاثة أوجه:
إما أن المراد تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان، وجعلوا الإيمان مستقراً ومتوطنا لهم لتمكنهم منه [واستقامتهم عليه*]، كما جعلوا المدينة كذلك، فيكون التبوء على هذا مجازا، فهو في الدار على أصله، [وفي*] الإيمان معنوي، فيضعف هذا من وجهين:
أحدهما: أن فيه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، أعني لفظ التبوء.
الثاني: أنه حصل ملازمتهم للإيمان كملازمة المكان لهم، فلو أراد المكان المطلق لحسن التشبيه هنا، إنما وقع التشبيه على مكان معين، فلا يحسن التشبيه، لأنه لا يلازمهم عقلا، إذ لو أريد التبوء في مطلق مكان، لقلنا: إنه يلزمه الإيمان عقلا، وقيل: هو من عطف الصفات أي تبوء الدار، ودار الإيمان لأنها دار واحدة، [وصفها*] أولا بكونها الدار المعهودة، وثانيا: بأنها دار الإيمان.
قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِهِمْ).
قال الزمخشري: من قبل المهاجرين، واستشعر أن يورد عليه أن إيمان المهاجرين سابق، فأجاب: بأن المجموع، وهو التبوء، والإيمان سابق على إيمان المهاجرين وتبوؤهم، فالمجموع سابق على المجموع، وهو نحو ما أجاب به ابن التلمساني عن قول القاضي عبد الوهاب في تعريفه للقياس: هو حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما، فأورد عليه لزوم كون حكم الأصل مثبتا بالقياس، [فيرد*] بأن المراد ثبوت المجموع، ويرد على هذا الجواب هنا أن المجموع المركب إنما يتم بآخر جزء منه، فما حصل لهم وصفا [ليس*] بأول التبوء بل بآخره، وهو بعد إيمان من آمن، وذلك متأخر عن إيمان المهاجرين، وجوابه: أن على كل تقدير متقدم على
هجرة المهاجرين وإيمانهم، وأجاب الزمخشري والفخر بجواب آخر: وهو أن الضمير عائد على المهاجرين باعتبار وصفهم أي من هجرتهم.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ سَبَقُونَا... (١٠)﴾
فيه دليل من آية السبقية، كما قال الفقهاء في الإمامة: أنه يقدم الأقدم سناً في الإسلام، فإن كان الأكبر أحدث إسلاما قدم الأصغر.
قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا).
لما كان من طبع الإنسان الغل والحسد، وكان أولئك حازوا مزية السبقية، والمهاجرين مظنة أن يحسدوهم في ذلك، فتحرزوا من ذلك بعد الدعاء، والغل: هو تألم النفس على عدم المشاركة فيما اختص به ذو رئاسة وسوية، والغبطة: تألم النفس على ذلك، مع عدم تمني زوال [ذلك*] عن المختص به، والحسد: تألمها على ذلك، مع تمني زوال ذلك [عن*] المختص، والحقد: هو طلب [**الفرصة في المكروهات للمحقود]، فإن قلت: لم خبر هنا بالقلب دون [الصدر*]، وقال تعالى قبل هذا (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً)، فعبر بالصدر؟ فالجواب: أن الآية المتقدمة الثناء فيها عليهم من الله تعالى، فناسب المبالغة فيها لمحو اقتضاء الحاجة عن القلب وعن [وعائه*]، وهذا دعاء منهم فاقتصروا فيه على القلوب، لأنها هي بمحل الغل، فإذا انتفى منها انتفى عما سواها.
قوله تعالى: (رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
هاتان الصفتان منهما ترتبا في الذكر، كانت الرأفة راجعة لصفة الإرادة، والرحمة لصفة الفعل، فالرأفة سبب في الرحمة، وإن ذكرت الرحمة وحدها صح تأويلها، إما برجوعها للإرادة أو للفعل.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا... (١١)﴾
الاستفهام هنا للتقرير، دليل على وقوع ذلك، فلا يصح كون الرؤية علمية، لأنه لم يكن عالما بأعيان المنافقين إلا أن يقال: إنه علم بهم من حيث الجملة، وإلا ظهر أن الرؤية بصرية لتعديها بإلى، أي ألم تنظر إلى الذين نافقوا، وعبر عن نفاقهم بالفعل الماضي؛ لبعد تحقيق ذلك، فإن قلت: [هلا*] عبر بالاسم المقتضي [للثبوت والدوام، لأن الماضي منقطع*]؟ فالجواب: أن الماضي أفاد التحقيق وقوله تعالى: (يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِم)، أفادوا الدوام على ذلك في الحال والاستقبال، فأغنى عن التعبير بالاسم.
قوله تعالى: (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ).
لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
حذف الفاعل لبعضهم له استعمالا لذكره، ولا يناسب هنا التحقيق، لأنهم أحقر من ينسب إليهم ذلك.
قوله تعالى: (وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا).
أي في عدم نصرتكم، وإذا لم يطيعون في [عدم*] نصرتهم، فأحرى أن لَا يطيعوا في قتالهم أبدا.
قوله تعالى: (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ).
النصرة أخص من مقاتلتهم معهم، فأفاد المقاتلة من باب أحرى.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ).
الشهادة أخص من [العلم*]، لأن علم الإنسان شيئا يسمعه ويشهد عليه أقوى من علمه شيئا يسمعه ولا يشهد عليه، فإِن قلت: فيها رد على ابن قتيبة في أن عدم المطابقة في الخبر المستقبل خلف لَا كذب لهؤلاء، [وعدوهم*] بالنصرة في المستقبل، فلم ينصروهم، فالجواب: أن المراد بكذبهم عدم مطابقة قولهم لما يقع منهم في المستقبل، فإِن قلت: نحن جعلنا الحكم بكذبهم راجعا لمدلول لفظهم، وأنتم جعلتوه للازم لفظهم، فما قلناه أولى، لأن اللفظ دال عليه بالمطابقة، فالجواب: أنه إذا جعلتم الكذب راجعا للمدلول يلزمكم أن قوله (لَئِنْ أُخْرِجُوا)، وما بعده تأكيد؛ لأنه أفاد عين ما أفاد الأول، وإن جعلتموه راجعا [بلازم اللفظ*]، كان جملة (لَئِنْ أُخْرِجُوا)، تأسيسا، والتأسيس أولى، [بأن يقال*]: إنه لَا يضرنا كونه تأكيدا، وتكون مفسرة لمتعلق التكذيب، بدليل إتيانها غير معطوفة لو كانت تأسيسية؛ لعطفت بالواو التي تقتضي المغايرة (لَئِنْ أُخْرِجُوا... (١٢).. ، عبر بأن هذا محقق الوقوع، لأنه رد على كلامهم بأن (وَلَئِن نَصَرُوهُم لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ)، الزمخشري: إن قلت: كيف (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ)، بعد الإخبار؛ لأنهم لَا ينصرونهم، وخبر الله تعالى حق لَا شك فيه، فصار وقوع النصرة محالا، قلت: معناه (وَلَئِنْ نَصَرُوهُم)، على الفرض والتقدير كقوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)، وأورد ابن عطية هنا سؤالا، وأجاب عنه: بأن المراد ولئن حاولوا نصرتهم وعلى هذا لَا يرد سؤال، الزمخشري: لأن محاولة النصرة أمر ممكن، وإنما المحال وقوع النصرة، وفي الآية سؤال آخر، وهو أن القاعدة أن جواب الشرط لَا يصح أن يكون مناقضا للشرط، فلا يقال: إن قام زيد لم يقم، فإِنه محال [للزوم*] اجتماع النقيضين، وتولي الأدبار نقيض النصرة، والجواب: أن الشرط يصح تركيب المحال عليه؛ لَا فرض المحال جائز، كما
قال الجزري: ملزومية الشرط للجزاء لَا تدل على وقوعه ولا على إمكان وقوعه، ويجاب أيضا: بأن النصرة تكون في أول الأمر والتولي في آخره.
قوله تعالى: ﴿لَا يَفْقَهُونَ (١٣)﴾
عبر أولا: بالفقه، وثانيا: بالعقل، لأنهم لما أخطاوأ أولا في كيفية الاستدلال [عبر عنهم*] بعدم الفهم، وثانيا: لما ظنوا بقتالهم في [القرى*] أو من وراء الجدار أنهم لَا يغلبون، وأن ذلك العقل يهدي [عبر عنهم*] بعدم العقل، " فأحرى أن لَا يوصف بذلك كل واحد على انفراده.
قوله تعالى: ﴿ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ... (١٥)﴾
عبر بالذوق إشارة إلى أن ما نالوه من العذاب بالنسبة إلى ما بعده ذوق، فلم ينالوا عذابا في الدنيا، بل ذاقوا وسينالوه الآخرة لقوله تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ... (١٦)﴾
إن قلت: لم حذف المسند إليه [هنا*] فلم يقل: مثلهم كمثل الشيطان، وصرح به في سورة البقرة في قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) قلت: تقدم ما يدل عليه في قوله تعالى: [(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا) *].
قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ).
قال: هو عند يأسه من رجوعه وثبوته، وذلك عند الاحتضار، وأما في الدنيا فلا يقول له ذلك خوف أن يتوب فينتفع بذلك.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ... (١٨)﴾
دليل على أن التقوى أخص من الإيمان، وإلا لم يفد قوله (اتَّقُوا)، لَا يقال: المراد داوموا على التقوى؛ [لأنه*] مجاز، والأصل حقيقة، فإن قلت: إنما الخلاف بين المؤمن والمتقي، لأن لفظ الاسم المقتضي بالثبوت إذا نظر بين مطلق الإيمان، ومطلق التقوى، لأن الإيمان هنا بلفظ الفعل، فلا يفيد [أعلى*] مراتبه، قلنا: المختلفان إذا زيد عليهما مساو فإنهما [لَا يزالان*] مختلفين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
قوله تعالى: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ).
الزمخشري: تنكيرها [للتعظيم، أي تعليل الموصوف بذلك*] (١)، انتهى، يرد بأن [التعظيم*] إنما [يصح لو كانت في الخبر*]، وهو هنا بسياق الاسم التكليفي، فالمراد التكثير لعموم التكليف، [وإما لجواز*] أن النفس هنا أفردت، والمراد بها العموم؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره".
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ... (١٩)﴾
المشبه بالشيء لَا يقوى قوة المشبه به، فهي هنا من [التشبيه*] بمن نسي الله، فيفيد النهي عن نسيان الله من باب أحرى، فهو من النهي عن القرب حول الحمى خشية الوقوع فيه، ومعنى (نَسُوا اللَّهَ)، أي غفلوا عن ذكره، والنسيان الثاني إما أن يراد به العقوبة، أي على الأول أي فعاقبهم على ذلك، فيكون من مجاز تسمية المسبب باسم السبب، أو يراد به النسيان حقيقة فزادهم [نسيانا*] إلى نسيانهم، فيكون من العقوبة على الذنب بالذنب، وهو أشد من الأول، لأنه يستلزم عقوبتين: العقوبة على الذنب بذنب آخر يعاقب عليه عقوبة أخرى، ابن عطية: قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه؛ اعرف نفسك تعرف ربك، ومن لم يعرف نفسه لم يعرف ربه انتهى، يعيدك إلى علم المنطق كان مذكورا في طباعهم، لأن مقتضى الآية أن من نسي الله نسي نفسه، فتنعكس جزئية بعض من نسي نفسه نسي الله، قالوا: وقد تنعكس كنفسها في بعض المراد، رد هذه الآية، وعكسها المستوى أي من نسي نفسه نسي الله، فهو منه كل من عرف نفسه عرف الله، والعكس نقيضها كل من لم ينس نفسه لم ينس الله فمن لم يعرف ربه مستفاد من منطوق كل من نسي الله نسي نفسه، ومن عرف نفسه عرف ربه مستفاد من مفهوم ذلك، وقال (بِمَا تَعْمَلُونَ)، ولم يقل: بما علمه، لأن العلم الحادث يتعلق بالحال والماضي، ولا يتعلق بالمستقبل، فإذا أفاد أنه عليم بالمستقبل، فأحرى الحال والماضي.
قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ... (٢٠)﴾
هذا تكميل للوعظ المتقدم أو لف ونشر، فأصحاب النار راجع للذين نسوا الله، وأصحاب الجنة للمأمورين بالتقوى، فإن قلت: نفي التسوية لَا يقتضي نفي الشركة، فلا يلزم عنه نفي اشتراكهم في الثواب والعقاب، قلت: الشركة في العبودية وفي التكليف لَا في الثواب والعقاب، فإِن قلت: إنما المراد الشركة فيما ثبت فيه للمساواة، قلت: السياق ينفيه [وأخذ*] الشافعي رضي الله عنه من هذه الآية أن المسلم لَا يقتل بالكافر، الفخر: بأنه عام، والأعم لَا إشعار له بالأخص، وأجاب عنه الأرموي: بأن
(١) النص في الكشاف هكذا:
"فإن قلت: ما معنى تنكير النفس والغد؟ قلت: أما تنكير النفس فاستقلالا للأنفس النواظر فيما قمن للآخرة، كأنه قال فلتنظر نفس واحدة في ذلك.
وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره، كأنه قيل: لغد لا يعرف كنهه لعظمه". اهـ.
نفي العام في باب النفي يشعر بدخول الأخص، لأنه يستعمل العام في النفي والآخر في الثبوت، ويرد بأن المحكوم عليه إنما هو في الآية بصفة كونهم من أهل الجنة أو من أهل النار، والصفة هنا معتبرة، [ويحتمل*] أن يعتبروا إذا كان لذلك بطل الأخذ من الآية، إما باعتبارها، أو باحتمال اعتبارها، أو لقول المحكوم عليه إذا كان مفيدا بطل الأخذ من الآية بصفة، فإِنما يتناوله الحكم باعتبار تلك الصفة لزوما أو احتمالا فهؤلاء إنما انتفت عنهم التسوية من حيث كونهم أصحاب الجنة، وكون الآخرين أصحاب النار، والقصاص راجع للدنيا وهم في الدنيا لم يتعدوا تلك الصفة، بدليل قول الفقهاء: فمن حلف بالطلاق أنه من أهل الجنة حنث، لأنه لَا يدري بماذا يختم له. فإن قلت: إن الحكم لَا يتناولهم من هذه الحيثية، قلنا: يحتمل أن يتناولهم باعتبارها، أو إذا احتمل ما احتمل سقط الاستدلال، قيل: أخذ الشافعي رضي الله عنه من الآية إن كان [المراد*] عدم المساواة لزم [ألَّا يقتل*] الكافر بالمسلم، وإن كان بزيادة كون المساواة المنفية ملزومة لفضيلة المسلم، وعدمها في الكافر فيقتل الأدنى بالأعلى لَا العكس [**فيمن ذكر من الاستدلال]، الفخر: واحتج بها المعتزلة على أن العاصي لَا يدخل الجنة، لأن الآية دلت على أن أصحاب النار، وأصحاب الجنة لَا يستويان، وهو غير جائز وجوابه معلوم، انتهى، يريد لو دخل العاصي الجنة لساوى المؤمن الكافر، [في الاشتراك في النار*]، فدل على أن العاصي كافر لَا مؤمن، ويرد بأن العاصي حال حلوله في النار غير مساو للمؤمن، وحال حلوله في الجنة مساو، وقد ذكر المنطقيون المطلقة والدائمة والحقيقية، أو تقول المراد أن مجموع أصحاب النار لَا يساوي مجموع أصحاب الجنة، ويقولون: إن العام في الأشخاص مطلق في الأزمنة والأحوال، فإن قلت: لعل المراد نفي المساواة بين أصحاب النار فيما بينهم بدليل قراءة من قرأ (ولا أصحاب الجنة)، فكرر (لَا)، وقد قال السهيلي: إذا قلت: ما قام إلا زيد ولا عمرو، فالمراد نفي قيام كل واحد منهما مجتمعين ومفترقين بخلاف قولك: ما قام زيد وعمرو، فالجواب: أن السياق هنا ينفي هذا ويعين الأول، وقدم أصحاب النار، لأن الآية [وعظ*] وتذكير، فإن قلت: لم قال: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)، ولم يقل: أصحاب النار هم الخاسرون، قلت: التصريح بفوز أصحاب الجنة يتضمن أمرين: جلب الملائم، وهي الأعمال الصالحة التي هي سبب في الجنة، ودفع المؤلم، وهو عمل نقيض، والتصريح بخسران أهل النار لَا يتضمن الأول المؤلم الذي دخلوا به النار، وما تضمن أمرين أوفى.
قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ... (٢١)﴾
201
جعله الزمخشري (جبلا) على مذهبه، لأن التمثيل يكون في الأمور المستحيلة الوجود، كالتشبيه بالصفاء والقول، والتمثيل يكون في الأمور الجائزة الممكنة الوجود، والزمخشري يشترط في الجمادات النية، فيستحيل فيها الخشوع عنده، ونحن لا نشترط ذلك؛ بل نشترط العلم والحياة فيصح عندنا وقوع الخشوع من الجمادات، خلق الله فيه العلم والحياة، ويمكن على مذهبه أن يكون تخيلا؛ بل هو من تعليق المحال على المحال، مثل (إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ)، ويجاب عنه؛ بأن الآية في سياق الوعظ والتخويف، ولا يقع ذلك إلا بالممكن لا بالمحال، وهذا نحو جواب شمس الدين الجزري لما احتج الفخر على جواز الشيخ في قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا)، ورد عليه السراج الأرموي: بأن لزوم الشيء بالشيء لَا يلزم منه وجوب وقوعه ولا إمكان وقوعه، فأجاب عنه الجزري: بأن الآية خرجت مخرج التمدح، والتمدح إنما يكون ممكن الوقوع، السماكي: التمثيل تصوير لحقيقة الشيء حتى يتوهم أنه [ذو*] صورة تشاهد، وأنه مما يظهر في العيان كقوله تعالى: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الآية، وقوله تعالى: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ)، ولا يكاد [يخلو منه باب في علم البيان*]، ولا أدق ولا أهون على تعاطي المتشابهات، وهذا نحو من كلام الزمخشري، وخلاف ما قال ابن أصبغ فإِن قلت: الآية دليل على أن القرآن اسم جنس، يصدق على الكثير والقليل، لأن اسم الإشارة يقتضي الحضور، ولم ينزل حينئذ إلا بعضه، فالجواب: أن المراد ما نزل وما ينزل، لكن يلزم عليه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، فيجاب: بأن الإشارة لجميعه لوجوده حينئذ وإنزاله إلى السماء الدنيا، فإن قلت: الإشارة إليه إنما هي من حيث إنزاله الإنزال المحصل للخشوع، وذلك في إنزاله لتكليف به، قيل: لو أنزلنا على جبل هذا القرآن الموصوف بالإرسال إلى السماء الدنيا، فإِن قلت: في الآية رد على من عرف القرآن من الأصوليين، بأنه ما بين دفتي المصحف، لأنه يسمى قرآنا قبل وجود المصحف، قلت. سمي قرآنا قبل ذلك، ثم ثبت له هذه [الخاصية*] بعد ذلك عندنا معرفا بها، فإن قلت: في الآية حجة لمن ينفي الكفر عنادا لاقتضائها أن نفس نزول القرآن على تقدير كونه ذا فهم يحصل له الخشوع، ذلك هو نفس الإيمان ففسر نزوله غير مخص به للإيمان، فليس كل كفر عنادا، قلت: فرق بين حصول الخشوع في القلب وبين النطق بالشهادتين باللسان، فحصول العلم في القلب بنفس نزول الآيات، والإيمان اللفظي بسببه تكليف الرسول وطلبه ذلك وأمره به، فقد يمنع منه من حصل له العلم في القلب كأبي طالب.
202
قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ).
جمع الأمثال مع أنه مثل واحد، كما قال [الآبذي*] في شرح الجزولية: أن الواحد قد يجمع باعتبار تعدد أوصافه كقوله:
فقلت اجعلي ضوء الفراقد كلّها... يمينا ومهوى النّسر من عن شمالك
قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، لعل من الله تعالى واجبا مع أنهم لن يتذكروا وكلهم، فيكون عاما مخصوصا.
قوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ... (٢٢)﴾
الضمير العائد على ذكره في قوله تعالى: (مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)، ولا يقال: أنه يلزم عليه الإخبار في الشيء عن نفسه، لأن الجزء هو موصوف بصفة، فيقيد بتلك الصفة، أو يعود الضمير على المخشي المفهوم من خشية الله، أو على أن المنزل المفهوم من أن لو أنزلنا، أو على الذي يضرب المثل.
قوله تعالى: (الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
إن قلت: ما سر دلالة الموصوف، وهو الذي دون صلته، وهو جملة لَا إله إلا هو لو أتى بها إثر اسم، فقيل: (هُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، فالجواب: أن الرسول دلالته الإفراد آية جاءت من حيث هي في الاسم من حيث كونها دلالة بالنوع، أو بالشخص، وجملة الصلة أفادت وحدة الشخص، فكانت تأسيسا، ولو كان المفهوم من الموصول والصلة واحد، كان تأكيدا لكن يلزم على هذا بطلان قول النحاة: الموصول مع صلته كالزاي مع زيد، فكما أن الزاي وحدها دلالة لها فكذلك الموصول وحده، وكون الموصول دالا على الوحدة الأعمية ممنوع؛ بل الصلة تابعة للموصول إن نوعا فنوعا، وإن شخصا فشخصا، فاستدل بها الأصوليون على أن الاستثناء من النفي إثبات.
قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ).
نعت، وهو معرفة، لأنه مجرد عن الزمان فإِضافته محضة، والغيب ما لم ينصب عليه دليل فمن أجاد خط الرمل، والنظر في النجوم وعلم التعديل وحساب زيادة [الشهور*] ونقصانها، فليس ذلك من الغيب لنصب الأدلة على معرفة ذلك.
قوله تعالى: (هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ).
فصل هنا بالضمير ولم يفصل به بين (عَالِمُ الْغَيبِ)، وما قبله ولا بين (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)، للتباين بين مجموع الصفتين إذا القرينتين الأولتين معنوية، وهاتين يرجعان لصفات الأفعال.
قوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ... (٢٣)﴾
تأكيد وفيه ضرب من التأنيث، لأنه لما وصفه ب (الرَّحْمَن الرَّحِيمُ)، وهما صفتان يتوهم فيهما الشركة، قال تعالى (رُحَمَاءُ بَينَهُم)، وفي الحديث: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ اللَّهُ، [ارْحَمُوا*] أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ"، أتى بهذا ليفيد أن الرحمة بين العباد كلها مخلوقة لله تعالى، وهو الفاعل المختار لَا شريك له.
قوله تعالى: (الْقُدُوسُ).
الزمخشري: هو البليغ في النزاهة عما يستقبح و (السَّلامُ) مبالغة في وصف كونه [سليما*] من النقائص، انتهى.
قوله تعالى: (السَّلامُ).
راجع إلى سلامة ذاته الكريمة من النقائص، (الْقُدُوسُ)، راجع إلى تنزيهه الخارج له عن النقائص، أو إلى تنزيهه نفسه كما يقال: حمد نفسه بنفسه، قال شيخنا: وعندي نظر فيما يتجاوز النَّاس فيه من [التعظيم*] لبعضهم، فيقولون: المقدس المرحوم، فإنه راجع إلى كمال التنزيه الذي لَا يليق إلا بالله، قيل له: قد ورد روح القدس، وقال تعالى (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)، وفي الحديث في وفاة موسى عليه السلام أنه قال: يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية حجر، وما معناه إلا كمال الطهارة.
قوله تعالى: (الْجَبَّارُ).
الزمخشري: القاهر الذي جبر خلقه على ما [أراد*]، وهذا ترقيق على مذهبه كأنه يقول: إن العبد مستقل بفعله فتجيء هنا أن أفعاله الاختيارية من خلقه وقدرته، وأفعاله الجبرية خلق الله تعالى، كما يتصور دخول الإنسان بيتا اختياريا، ودخوله بيتا مكرها.
قوله تعالى: (الْمُتَكَبِّرُ).
أي البليغ الكبرياء والعظمة، فهما تصور في حقه صفة علية، فيعتقد أنه متصف بأكبر منها، وأعلى فهم إذا تصورت ما هو أعلى منها، تعتقد أنه متصف بأكبر من ذلك
204
أيضا، ولا تزال تترقى في صفات العلو والكبرياء حتى تنتهي ما يعجز عنك إدراكه فتقف، فصل في شرح الأسماء، قال ابن العربي في كتاب [الأمد*] الأقصى في شرح الأسماء الحسنى: (عَالِمِ الْغَيب)، العلم هو إطلاع المرئي على ما لم يطلع عليه، وانكشاف ما غاب عند الله تعالى، وله أسماء كثيرة، منها الفضل والفطنة والدراية والخبرة، وعلم الله تعالى واحد، لتعلقه بكل شيء، قال علماؤنا: ويجوز أن يكون له علوم [لَا نهاية لها*] بعدد المعلومات، وإنما علمنا اتحاده شرعا لقوله تعالى: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ)، وحكمته تعالى ليس ضروريا لما في الضرر من النقص الذي يقال هذا لَا نظريا لما في النظر من الحاجة إلى المقدمات المحصلة للعلم، قال علماؤنا: ولا نصف البارئ بأنه عارف لعدم وروده، والمعرفة والعلم مختلفان فالمعرفة علم واحد، والعلم معرفتان، فهو أكمل ولذا سمي به، ويجوز عقلا أن يقال: فيه عارف لعلمه بالأوائل وعالم لعلمه بالأوائل والأواخر، انتهى، قلنا: (الرَّحْمَن الرَّحِيمِ)، فتقدم على ما في الكلام على البسملة وأما (الْمَلِكُ)، فقال ابن العربي: الملك والمالك مشتقان من الملك، والملك قبل التصرف، فهو صفة فعلية، وقال: أكثر علمائنا أنه القدرة على التصرف، الفخر: [هو*] صفة ذات، [وتعقب*] قبل التصرف فهو صفة فعلية، الأول: بأن الصبي والمجنون والراهن والمؤاجر ما [... ] ولا تصرف لهم، وعلى الثاني: قال الفخر: والأمر ملك الأشياء قبل وجودها، لأنه قادر على وجودها، وبعد وجودها لقدرته على إثباتها، إما بخلقه البقاء فيها عند من يقول باقية ببقاء أو بخلق الأمر من التي لَا يتم بقاء الجواهر إلا بها، وعبر ابن الخطيب عن هذا بقوله: وإما بأن لَا يعد بها عند من يقول أن القدرة لَا تتعلق بالعدم، وقال: قيل: (المَلِكُ) من ملك نفوس العارفين فأطلقها، وملك قلوب العارفين فأحزنها، وقيل: الملك من لَا يمازجه معارض ولا يمنعه مناقض، فهو تقديره منفرد وتدبيره متوحد ليس لأمره مرد ولا حكمه رد، وقيل: الملك من دار بحكمه الفلك وسبح بتقديسه الملك، وقال هو وابن العربي: قيل: المالك أعم من الملك لوجوده منها أنه يفيد حقيقة الملك، والملك لَا يقيده ويضاف إلى الخاص والعام، كمالك الدار، ومالك الأرض، والملك إنما يضاف إلى العام، وأنه ينطلق إلى تملك القليل والكثير، والملك خاص بالكثير تقول: مالك الأرض، ومالك الملوك، ولا تقول: مالك المليك، وقيل: الملك أعم وأبلغ ملك الطيور لجوارحها، كما تقول: ملك الآدميين، ولا تقول ملك الطيور، ولأن الملك يشعر بتعدد المملوكات، وأيضا مالك الأرض يطيع ملكها وهؤلاء يطيعه انتهى، وأما (الْقُدُّوسُ) فقال الفخر ابن الخطيب: القدوس [الطاهر*]، وقيل: للجنة [حظيرة*] القدس لطهارتها، [وجبريل*] روح القدس، وقول
205
الملائكة: (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، أي نطهر أنفسنا لك، والقدس: السطل الكبير، لأنه يتطهر به، ابن العربي: فظنه أولا وهو بمعنى المطهر لَا الطاهر، لأنه بمعنى من فعل متعد، والطاهر من فعل غير متعد، فهو مقدس نفسه أزلا [وأبدا*]، قيل: معناه البريء من المعائب، فيكون صفة نفي، وهو الذي له الكمال في وصف اختص به، وقيل: هو الذي لَا تحدده الأوهام ولا تصوره الأبصار، الغزالي: هو المنزه عن كل وصف يدركه حس، أو يصوره خيال أو يظنه الخلق كمالا، لأنهم نظروا إلى علمهم وقدرتهم وسمعهم وصفات كمالهم، فوصفوه بها وقدموه عن ضدها، مع أنه منزه عن صفات كمالهم، إذ هو أعلى من ذلك وأكمل، قال قلت: أقول أنه منزه عن العيوب والنقائص، إذ لَا يحسن أن يقال: ملك البلد ليس بحائك ولا حجام، فإن نفي الوجود يكاد يوهم الوجود، ابن العربي: مرتبة هذا القائل عظيمة ووهمه أعظم، بل نقدس الله عن كل عيب ونقص نسبه الكفار إليه، وقد نفى الله عن نفسه الشريك والولد والصاحبة، وكان ذلك غاية في التوحيد، وإنما ذاته دقيقة إنا لا ندري نحن بنفي وصفه عنه من الباطل، لم يقل به قائل ولا نسبه إليه مبطل انتهى، قلت: وفي البخاري في حديث الدجال وإن الله ليس بأعور، وأما كلام فقال ابن العربي: اتفقوا على أن معناه بالنسبة إلى ذو السلام، كامرأة فاسق وامرأة ضامر، واختلفوا في توجيهها، فقيل: السلام من العيب في ذاته، والنقص في صفاته، والظلم في أفعاله فهو بمعنى القدوس، وفرق ابن الخطيب بينهما باحتمال كون القدوس إشارة إلى تنزيهه من العيوب في المستقبل، وإلى تنزيهه عن صفات النفس، والسلام لتنزيهه عن أفعال النقص، وقيل: [ذو السلام*]، أي المسلم على عباده، قال تعالى (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)، فهو صفة معنى كالعلم والقدرة، وهي صفات كمال، وقيل: سلم الخلق من ظلمه، الآمدي: أي أن السلامة به ومنه [فهو صفة فعل*]، وأما (المؤمن) قال الآمدي في إبكار الأفكار: قيل: الصدق لنفسه ورسله، إما بالقول فهو صفة كلامية، أو بخلق المعجزة فهو صفة فعلية، وقيل: معناه أنه يؤمن عباده من الفزع الأكبر، إما بأن يخلق لهم الطمأنينة من ذلك، فيرجع إلى صفة الفعل، وإما أن يخبرهم بالأمن من ذلك، ويرجع إلى صفة الكلام، وقيل: بمعناه أن الحقائق منكشفة له فيرجع إلى صفة العلم، وقيل: معناه أن القول قوله لَا خلاف عليه، فيرجع إلى صفة كلامية وسلبية، وقيل: معناه استحالة الزوال عليه فهو صفة سلبية، قال الغزالي: وإزالة الخوف لَا تعقل إلا إذا حصل الخوف، ولا خوف إلا عند إمكان العدم ولا مزيل [للعدم*] إلا الله تعالى، بيانه إنما يخاف [الأعمى] الهلاك من حيث إنه لم ير بعينيه ما يؤمنه من ذلك، [والأقطع*] يخاف [آفَةً لَا تنْدَفع*] إِلَّا بِالْيَدِ [فخالق*] الأعضاء
206
كلها، [هو*] الذي أزال الخوف عن الإنسان بواسطة أعضائه، وأزال عنه ألم الجوع والعطش بخلقه الأغذية اللذيذة والأدوية النافعة والأعضاء والآلات الدافعة [عنه الآلام*] الدنيوية، كالفرق والخوف، ونصب له الدلائل، وقوى الفعل وهدى الخاطر إلى توحيده، وجعل ذلك حصنا من عذاب الآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مخبرا عن الله تعالى: "لَا إله إلا الله حصني من دخل حصني أمن عذابي"، فثبت أنه لَا أمن في العالم إلا من الله تعالى، قال ابن الخطيب: وهذا حسن جيد، فإِن قيل: ولا خوف إلا من الله، قلنا: لَا منافاة بينهما كما أنه معز مذل انتهى، وأما (الْمُهَيمِنُ)، قال ابن الخطيب: قال أبو زيد البلخي: هذه لفظة غريبة لم تكن في ألفاظ العرب قبل نزول القرآن، وهي في اللغة السريانية مع مده في آخرها على عادتهم في الأسماء، يقال: [**لم يعمنا]، ويفسرونه بأنه المؤمن الصادق الإيمان، وقيل: إنها غريبة واختلفوا، معناها الشاهد على خلقه بما يصدر منهم من قول وفعل، قال: وما تكون في إشارة الآية فالمهيمن العالم بكل شيء، وقيل: هو المؤيمن، قلبت: الهمزة ياء لأنها أخف من الهمزة، كقولهم: هيهات وأيهات، فالمهيمن والمؤيمن، وقال الخليل: هو الترتيب الحافظ، وقال المبرد: الحذر المشفق تقول العرب للطائر إذا بسط جناحه يدب عن فرحة هيمن، وقال الحسن البصري: المهيمن المصدق، فالله تعالى مصدق لأنبيائه بكلامه أو بإظهار المعجزات على أيديهم، القول السادس، قال الغزالي: المهيمن اسم لموصوف بثلاثة أمور: العلم، والقدرة الثابتة على تحصيل مصالح الشيء، والمواطئة على تحصيل تلك المصالح، فالجامع هنه الصفات اسم المهيمن، وأما اسم (الْعَزِيزُ)، ففي اشتقاقه وجوه:
الأول: أنه الذي لَا مثل له، الفخر: [**فيرجع إلى التنزيه].
الثاني: الغالب الذي لَا يغلب ومنه (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ).
الثالث: الشديد يقال: [... ] فيرجعان إلى صفات الذات، وهي القدرة.
الرابع: أنه بمعنى المعز كالأليم بمعنى المؤلم، فهو [صفة فعل*].
الخامس: أنه عزيز عند [أوفيائه*]، أي لَا يؤثرون على طاعته شيئا، فهو فعيل بمعنى مفعول [كـ كف خضيب، ورجل فضيل*].
السادس: أنه بمعنى الإضافة أي عزيز عليه أولياءه، كما قال تعالى (أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ).
207
السابع: العزيز الممتنع الذي لَا يدرك ولا ينال الأمدين، وقيل: هو الذي لا يخوف بالتهديد، وقيل: الذي لَا يحمد بحمد، الغزالي: العزيز الذي يقل وجوده وتشتد الحاجة ويضعف الوصول إليه، فكم من شيء يقل وجوده ولا يحتاج إليه فليس بعزيز، فمجموعها خاص بالله تعالى فلذلك سمي عزيزاً وتعقب عليه ابن العربي في كتاب الآمدي الأقصى تفسيره بشدة الحاجة، وقال: إنما يدل عليه لفظه باللزوم لا بالمطابقة في بعض الوجوه، وليس معنى الشيء كلما كان من لوازمه كلفظ البيت يفيد السقف والجدار، والسقف مطابقة، والبناء والنجار لزوما، وليس كل ممتنع يشتد إليه إنما يشتد للمعدوم نظره، ابن العربي: فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ)، فجعل العزة مربوبة، وهي من صفات الله تعالى، قال: أجاب عنه ابن فورك، فقال: ليس معناه تلك العزة التي هي صفته، وإنما معناه أنه عز عما يصفونه إنكارا على من وصفه من المشركين بالولد، أي سبحان ربك الذي عز عما يصفونه، ابن العربي: هذا لَا يتجه من السؤال، وإنما الجواب أن سائر الصفات قديمها ومحدثها كلها تضاف إلى الله تعالى والقديمة تضاف إليه تحقيقا ووصفا، والمحدثة تضاف تقديراً وخلقا وملكا، فالعلم له صفة وله خلق، والعزة كذلك أعطى منها العبد المحدث، فأما المتصف بالعزة القديمة الخالق المالك للمحدثة، قال تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)، أي القديمة والمخلوقة المملوكة وأما (الجبار)، فقيل: العالي الذي لَا ينال، وقيل: المصلح للأمور، وقيل: من جبره على كذا، أي أكرم عليه، زاد ابن العربي: وقيل: إنه بمعنى المتكبر، قال: فإن قيل: فإِذا فسرتموه بأنه يجبر الخلق على مراده فأنتم تجبروه وأنتم قد نفيتم ذلك عن أنفسكم، فأجاب بوجهين:
الأول: أنه يخلق في العباد ما يكرهون، وهم لَا يقدرون على دفعه كالحركات الضرورية ولا خلاف.
الثاني: أنه إذا أراد شيئا كان، وإذا أراد العبد شيئا لَا يرده هو تعالى لم يكن يجبرهم على مراده، كما نهى آدم عليه السلام عن أكل الشجرة، وأراده فوافقه، قال ابن الخطيب: وسمعت أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني كان حاضرا في دار الصاحب إسماعيل بن عباد، فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني، وكان رئيس المعتزلة، فقال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، فقال الأستاذ: سبحان من لَا يجري في ملكه إلا ما يريد، فقال ابن الخطيب: فإن قيل: الجبروت في الخلق مذموم فلم يمدح الله به؟ فأجاب: بأن الخلق ناقصون مقهورون محجوبون تؤذيهم البقة، [وتشوشهم
208
البعوضة، فلذلك كان مذموما في حقهم، وأما المتكبر، فقال ابن الخطيب: أحسن النَّاس فيه كلاما الشيخ الغزالي رحمه الله، قال: المتكبر هو الذي يرى الكل حقيرا، بالإضافة إلى ذاته، ولا يرى العظمة ولا الكبرياء إلا إلى نفسه، وينظر إلى غيره نظر المملوك إلى العبيد، فإن كانت صادقة كان المتكبر حقا، وإن كان صاحبها محقا في ذلك التكبر، فلا يتصور ذلك مطلقا إلا في حق الله تعالى، وإن كانت الرؤيا باطلة، ولم يكن ما يراه من التفرد بالعظمة؛ كما يراه كان المتكبر باطلا مذموما لحديث " [الْعَظَمَةُ إِزَارِي، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدَةً مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي جَهَنَّمَ*] "، فظهر أن المتكبر في حقه مدح وكمال، وفي حق غيره نقص، وقال مجاهد: التكبر من الكبرياء، بمعنى الملك، قال تعالى (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ)، وقيل: هو بمعنى الكبير، قال تعالى (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ)، أي عظمنه، قال الزجاج: هو الذي يكبر عن ظلم عباده، قال الفخر: فإن قيل: المتكبر منفصل، وهو يفيد تكلف الفعل، يقال: فلان يتعظم وليس بعظيم يسخى وليس بسخي، فأجاب: بأن الأزهري، قال: التفعل قد يجيء لغير التكليف يقال: فلان يتظلم أي يظلم، ويتظلم أي يشكوا من الظلم، وهذه الكلمة من الأضداد، فقد يعني الظالم، وقد يعني الشديد من الظلم، وعبر عنه ابن العربي: بأن الفعل عبارة عن كونه على تلك الصفة، وهي في المخلوق حادث فكتب في الخالق النافية الاختصاص، فتكبر أي انفرد بالصفات العلى، وتكبر إذا اكتسب الكبرياء وتعاطاه، زاد الفخر جوابا آخر وهو أن المتفعل هو الذي يحاول إظهار الشيء ويبالغ فيه، فإن صدق كان ذلك الإظهار مدحا، وإن كذب فهو صفة ذم، وأما الخالق، فقال الفخر: هو على معنيين: إما المقدر وإما [الموجد*]، زاد ابن العربي: المعنى قال: وله معنى يستحيل هنا، وهو الكذب، الفخر: والتقدير تقدير الشيء على مقدار [معين*]، ولا بد فيه من صورة مؤثرة على [أن تتوقف*] على آلة مخصصة لذلك المقدار، وعلم بذلك القدر، فإن توقفت على آلة كتصوير أحدنا للخصم، فإِنه لَا يمكن بتحريك الأصابع، فتسمى تلك الحركة تقديرا أو تصويرا، قال: والعلم في حق القديم لَا يحتاج إلى فكرة ولا إلى نظر، قال: فإن فسرنا الخالق بالمقدِّر حسن الترتيب في الآية، لأن التقدير يرجع إلى العلم، فتقول: من قدر [من*] الفلاسفة من ظن أنه تعالى لَا يعلم الأشياء، وقصدوا علمه على ماهية معينة فلفظة الخالق يدل على علمه بحقائق الأشياء، ومنهم من سلم علوم علمه، لكنه يقول: الخيول قديمة والبارئ متصرف فيها، فقال البادي: زاد عليهم ليدل على إيجاده لها من عدم [محض*] لَا عن المادة، ومنهم من علمه وإيجاده لهذه الذوات، إلا أنه يقول صورة النبات والحيوان عن الطبيعة، والطبيعة هي التي تصور كل شيء على صورته الخاصة،
209
[**فقر له] المصور [ردًّا*] على هؤلاء، فإِن فسره الخالق بالموجود المبدع، فيرجع إلى البارئ، فقيل: هو الموجد فيكونان مترادفين، وقال الأخفش: أصله القطع من بريت القلم إذا [فصلته*] فيرى الخلق أي فصل بعضهم من بعض، وصور كل واحدة على صورة خاصة، وقيل: مشتق من البرأ وهو التراب أي مبدعنا وموجدنا من تراب ومصورنا على صورة مخصوصة، قال الخطابي: واللفظ البرأ اختصاص بالحيوان، أن تقول برأ الله القسمة ولا تقول برأ الله السماء والأرض انتهى، قلت: ولبعضهم في عرض التجنيس إذا الترغيب، الزمخشري: الخالق المقدر لما يوجده، والبارئ ليميز بعضهم من بعض بالأشكال المختلفة والمصور الممثل، انتهى، أي عليها مماثلة الصور، بحيث إن الناظر إليها يظن أنها متماثلة وهي مختلفة.
قوله تعالى: [(لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى... (٢٤) *]
تقدم الكلام على الجملة، ذكر الخلاف في لفظة ذكر هل هي عبارة عن المسمى أو عن التسمية، ونقل الطيبي هنا حديثا عن مسند أحمد بن حنبل، والترمذي، قال: ""مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ الثَّلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ، وَكَّلَ اللهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِيَ، إِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيدًا،" انتهى. الظاهر أن أولها (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) إلى آخر السورة.
* * *
Icon