ﰡ
قوله تعالى: ﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها (١): أنَّ الله سبحانه لقا ذكر فيما سبق إنذار نوح قومه.. أخبر هنا عن نوح أنه أعلم ربه العلم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة أنه مع ما استعمله من الوسائل، والأساليب المختلفة المشتملة على الترغيب طورًا، والترهيب طورًا آخر.. كذّبوه وعصوه واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر ربه ومتع بمال وولد، وقالوا: لا نترك آلهتنا التي عبدناها نحن وآباؤنا من قبل، ولا عجيب فقد أضلت الأصنام خلقًا كثيرًا، فدعا عليهم: رب اخذل هؤلاء القوم الظالمين ولا تزد هم إلا ضلالًا.
قوله تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا...﴾ إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر مقالة نوح، وشكواه إليه.. أردفه بما جازاهم به من الغرق والعذاب، وأنهم لم يجدوا من يدفعهما عنهم. ثم أخبر بدعاء نوح على قومه، وعلل هذا بأنهم يضلون الناس، وأنهم لو نسلوا لم يلدوا إلا الكفرة الفجرة. ثم دعا لنفسه ولوالديه ولمن دخل سفينته من المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة، ودعا على قومه بالتبار والهلاك.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا﴾ وبعثنا ﴿نُوحًا﴾ بالتوحيد والشرائع والأحكام ﴿إِلَى قَوْمِهِ﴾ جميع
وفي "الشهاب": ونوح أطول الأنبياء عمرًا بل أطول الناس، وهو أوّل من شرعت له الشرائع، وأول رسول أنذر من الشرك وأهلكت أمته.
والمعنى (٢): أنّه أوّل من أرسل إلى من يعبد الأصنام، لأن عبادة الأصنام أوّل ما حدثت في قومه، وأرسله الله إليهم ينهاهم عن ذلك. وكان أكثر أهل الأرض في زمانه أولاد قابيل، وهم أوّل من عبدوا الأصنام، وأمّا آدم فأرسله الله سبحانه إلى أولاده بالإيمان وتعليم شرائعه، وكذا شيث وإدريس كلّ منهما أرسل إلى أولاده بالتوحيد والشرائع. وأمّا أولاد قابيل وكانوا أكثر أهل الأرض وعبدوا الأصنام، فأرسل الله إليهم نوحًا، فكانت رسالته عامّة لجميع أهل الأرض من أهل عصره.
فإن قلت: إذا كانت رسالة نوح عامّة لجميع أهل الأرض كانت مساويةً لرسالة نبيّنا محمد - ﷺ -؟
قلت: رسالة نوح عليه السلام عامّة لجميع أهل الأرض في زمنه، ورسالة نبيّنا محمد - ﷺ - عامّة لجميع من في زمنه، ومن يوجد بعد زمنه إلى يوم القيامة، فلا مساواة.
وهو (٣) نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس بن برد بن مهلائيل بن أنوش بن فينان بن شيث بن آدم عليه السلام. ويقال له: شيخ المرسلين، وآدم الثاني. ونوح لقبه، واسمه عبد الغفّار، لقب به لكثرة نوحه على
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
﴿أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ﴾؛ أي: بأن خوف قومك عن عبادة غير الله تعالى، فتكون ﴿أَنْ﴾ مصدرية، ويجوز أن تكون هي المفسرة؛ لأن في الإرسال معنى القول؛ أي: أنذر قومك. وقرأ ابن مسعود ﴿أنذر﴾ بدون أن، وذلك على تقدير القول؛ أي: فقلنا له: أنذرهم من قبل أن ياتيهم عذاب أليم؛ أي: خوّفهم بالنار على عبادة الأصنام كي ينتهوا عن الشرك ويؤمنوا بالله وحده.
والحاصل (١): أن ﴿أَنْ﴾ على قراءة الجمهور يجوز أن تكون مفسرة لما في الإرسال من معنى القول كما مرّ آنفًا، ويجوز أن تكون مصدرية حذف منها الجار وأوصل إليها الفعل؛ أي: بأن أنذرهم، وجعلت صلتها أمرًا كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ﴾؛ لأنَّ مدار وصلها بصيغ الأفعال دلالتها على المصدر، وذلك لا يختلف بالخبريّة والإنشائية ووجوب كون الصلة خبريّة في الموصول الاسميّ إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل، وهي لا توصف إلا بالجمل الخبريّة، وليس الموصول الحرفي كذلك، وحيث استوى الخبر والإنشاء في الدلالة على المصدر استويا في صحة الوصل بها، فيتجرد عند ذلك كل منهما عن المعنى الخاص بصيغته، فيبقى الحدث المجرد عن معنى الأمر والنهي والمضيّ والاستقبال، كأنّه قيل: أرسلناه بالإنذار كذا في "الإرشاد".
﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ﴾ من الله تعالى ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: عذاب شديد عاجل كالطوفان والغرق، أو آجل كعذاب الآخرة، لئلا يبقى لهم عذر ما أصلا، كما قال تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾. و ﴿أَلِيمٌ﴾ بمعنى المؤلم أو المتألم مبالغة، والألم إمّا جسمانيّ وإما روحاني، والثاني أشدّ.
٢ - وجملة قوله: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ﴾ مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في جواب سؤال
يقول الفقير: الظاهر (١) أن الإنذار أول الأمر، كما قال تعالى لنبينا - ﷺ -: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ (٢)﴾، والتبشير ثاني الأمر كما قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾. فالإنذار يتعلق بالكافرين، والتبشير يتعلق بالمؤمنين، وإن أمكن تبشير الكفّار بشرط الإيمان لا في حال الكفر، فإنهم في حال الكفر إنما يستحقون التبشير التهكمي كما قال تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٤)﴾.
﴿مُبِينٌ﴾ موضح لحقيقة الأمر بلغة تعرفونها، أو بين الإنذار، أو مبين لما فيه نجاتكم.
والمعنى (٢): أي إنا أرسلنا نوحًا رسولًا إلى قومه، وقلنا له أنذرهم بأس الله وعذابه قبل أن يغرقهم الطوفان. ثم أخبر بأنه لما أمره بذلك امتثل الأمر فقال لقومه: يا قومي إني أنذركم عذاب الله فاحذروا أن ينزل بكم على كفركم به.
٣ - ثم فصّل ما أنذرهم به، فذكر ثلاثة أشياء:
١ - ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ أي: آمركم بعبادة الله وحده. وهو متعلق بـ ﴿نَذِيرٌ﴾، فـ ﴿أنْ﴾ هي المفسرة لـ ﴿نَذِيرٌ﴾ أو هي المصدرية. والأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب والجوارح.
٢ - ﴿وَاتَّقُوهُ﴾؛ أي: وآمركم بتقواه وخوف عذابه بأن تتركوا محارمه وتجتنبوا مآثمه. والأمر بالتقوى يتناول الزجر عن جميع المحظورت والمكروهات.
٣ - ﴿وَأَطِيعُونِ﴾؛ أي: وانتهوا، إلى ما آمركم به، واقبلوا نصيحتي لكم. والأمر بالطاعة يتناول أمرهم بطاعته في جميع المأمورات والمنهيّات والاعتقاديّات والعمليّات. وفي "التأويلات النجمية": ﴿وَأَطِيعُونِ﴾؛ أي: في أخلاقي وصفاتي
(٢) المراغي.
قال بعضهم: وأصله (١): وأطيعوني بالياء، ولم يقل: وأطيعوه بالهاء مع مناسبته لما قبله. يعني: أسند الإطاعة إلى نفسه لما أن إطاعة الرسول إطاعة الله كما قال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾. فإذا كانوا مأمورين بإطاعة الرسول، فكان للرسول أن يقول: وأطيعون، وأيضا أنّ الإجابة كانت تقع له في الظاهر.
٤ - ولما كلفهم بهذه الأشياء الثلاثة وعدهم عليها بشيئين، فقال:
١ - ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ﴾ جواب الأمر ﴿مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾، أي: بعض ذنوبكم. وهو ما سلف في الجاهلية، فإنّ الإِسلام يجب ما قبله لا ما تأخر عن الإِسلام. فإنه يؤاخذ به، ولا يكون مغفورًا بسبب الإيمان، ولذلك لم يقل: يغفر لكم ذنوبكم بطيّ من التبعيضيّة، فإنه يعم مغفرة جميع الذنوب ما تقدم منها وما تأخّر. وقيل: المراد ببعض الذنوب بعض ما سبق على الإيمان، وهو ما لا يتعلق بحقوف العباد.
أي: إذا فعلتم (٢) ما أمركم به وصدّقتم ما أرسلت به إليكم، غفر لكم ذنوبكم، وسامحكم فيما فرط منكم من الزلّات. وفي هذا وعد لهم بإزالة مضارّ الآخرة عنهم وأمنهم من مخاوفها.
٢ - ﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ﴾ بالحفظ من العقوبات المهلكة كالقتل والإغراق والإحراق ونحوها من أسباب الهلاك والاستئصال، وكان اعتقادهم أنَّ من أهلك بسبب من هذه الأسباب لم يمت بأجله، فخاطبهم على المعقول عندهم. فليس يريد أنّ الإيمان يزيد في آجالهم، كذا في بعض التفاسير. ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ أي: معتن مقدر عند الله. والأجل: المدّة المضروبة للشيء. قال في "الإرشاد": وهو الأمد الأقصى الذي قدّره الله لهم بشرط الإيمان والطاعة. وهذا صريح في أنّ لهم أجلًا آخر لا يجاوزنه إن لم يؤمنوا به، وهو المراد بقوله الآتي: ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
(٢) المراغي.
والخلاصة (١): أنَّ الأجل أجلان على ما قاله الزمخشري، وعبارته: فقد قضى الله مثلًا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسع مئة سنة. فقيل لهم: آمنوا يؤخّر إلى أجل مسمّى، أي: إلى وقت سمّاه الله وضربه أمدًا تنتهون إليه، وهو الوقت الأطول، وهو تمام الألف اهـ.
ثم أخبر أنّه إذا جاء ذلك الأجل الأقرب المشروط ببقائهم على الكفر لا يؤخر، فقال: ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ﴾ وهو (٢) ما قدّر لكم على تقدير بقائكم على الكفر، وهو الأجل القريب المعلق غير المبرم، بخلاف الأجل المسمى فإنه البعيد المبرم. وأضيف الأجل هنا إلى الله؛ لأنّه المقدر والخالق أسبابه، وأسند إلى العباد في قوله: ﴿إِذَا جَاءَ أَجَلُهم﴾ لأنهم المبتلون المصابون. ﴿إِذَا جَاءَ﴾ وأنتم على ما أنتم عليه من الكفر ﴿لَا يُؤَخَّرُ﴾ فبادروا إلى الإيمان والطاعة قبل مجيئه حتى لا يتحقق شرطه الذي هو بقاؤكم على الكفر، فلا يجيء، ويتحقق شرط التأخير إلى الأجل المسمى، فتؤخّروا إليه. فالمحكوم عليه بالتأخير هو الأجل المشروط بشرط الإيمان والطاعة، والمحكوم عليه بامتناعه هو الأجل المشروط بشرط البقاء على الكفر، فلا تناقض لانعدام وحدة الشرط. ويجوز أن يراد به وقت إتيان العذاب المذكور في قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، فإنه أجل مؤقت له حتمًا. قيل (٣): المعنى: أنّ أجل الله وهو الموت إذا جاء لا يمكنكم الإيمان. وقيل: المعنى إذا جاء الموت لا يؤخّر سواء كان بعذاب أو بغير عذاب.
﴿لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾؛ أي: شيئًا من العلم لسارعتم إلى ما أمركم به أو لعلمتم أنّ أجل الله إذا جاء لا تأخير فيه ولا إمهال. وفيه إشارة إلى أنّهم ضيّعوا أسباب
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
وقيل: المراد بأجل الله في قوله: ﴿إنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ﴾ الأجل الأطول.
والمعنى عليه: أي إنّ أجل الله الذي كتبه على خلقه في أمّ الكتاب إذا جاء لا يؤخّر عن ميقاته لو كنتم من أهل العلم، لكنّكم لستم من أهله، ولذا لم تسارعوا إلى العمل بما أمركم به. وفي قوله: ﴿لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ زجر لهم عن حبّ الدنيا والتهالك عليها والإعراض عن أوامر الدين ونواهيه، وكأنّهم قد بلغ بهم الأمر إلى أنهم شاكّون في الموت.
٥ - ﴿قْالَ﴾ أي: نوح مناجيًا لربّه وحاكيًا له، وهو أعلم بحال ما جرى بينه وبين قومه من القيل والقال في تلك المدد الطوال بعدما بذل في الدعوة غاية المجهود، وجاوز في الإنذار كل حد معهود، وضاقت عليه الحيل، وعيت به العلل. ﴿رَبِّ﴾ أي: يا ربّي ﴿إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي﴾ إلى الإيمان والطاعة ﴿لَيْلًا وَنَهَارًا﴾؛ أي: في الليل والنهار؛ أي: دائمًا من غير فتور ولا توان، فهما ظرفان لدعوت، أراد بهما الدوام على الدعوة؛ لأنّ الزمان منحصر فيهما، وكان يأتي باب أحدهم ليلًا فيقرع الباب، فيقول صاحب البيت: من على الباب؟ فيقول: أنا نوح، قل: لا إله إلا الله.
٦ - ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (٦)﴾ مما دعوتهم إليه، وتباعدًا عنه. فالاستثناء فيه مفرغ، فالمستثنى منه مقدر؛ أي: فلم يزدهم دعائي شيئًا من أحوالهم التي كانوا عليها إلا فرارًا؛ أي: بعدًا وإعراضًا عن الإيمان، كأنّهم حمر مستنفرة اهـ خطيب.
وفي "التأويلات النجمية": إلّا فرارًا من متابعتي وديني، وما أنا عليه من آثار وحيك. وهو مفعول ثان لقولهم: ﴿لَمْ يَزِدْهُمْ﴾؛ لأنه يتعدّى إلى مفعولين يقال: زاده الله خيرًا، والاستثناء مفرّغ. وإسناد (١) الزيادة إلى الدعاء مع أنها فعل الله تعالى لسببيته لها.
والمعنى: أنّ الله يزيد القرار عند الدعوة بصرف المدعو اختياره إليه. قرأ
والمعنى (٢): أي قال نوح عليه السلام: ربّ إنّي أنذرت قومي ولم أترك دعاءهم ليلًا ولا نهارًا امتثالًا لأمرك، وكلّما دعوتهم ليقتربوا من الحق فرّوا منه وحادوا عنه.
٧ - ثم أخبر عن أحوال أخرى لهم، تدل على الفظاظة وجفاء الطبع، فقال: ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ﴾؛ أي: إلى الإيمان. وفي "التأويلات النجمية": كلّما دعوتهم بلسان الأمر مجرّدًا عن انضام الإرادة الموجبة لوقوع المأمور، فإن الأمر إذا كان مجرّدًا عن الإرادة لا يجب أن يقع المأمور به، بخلاف ما إذا كان مقرونًا بالإرادة، فإنه لا بد حينئذٍ من وقوع المأمور به؛ أي: كلّما دعوتهم إلى سبب المغفرة، وهو الإيمان بك والطاعة ﴿لِتَغْفِرَ لَهُمْ﴾ بسببه ﴿جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾. لئلا يسمعوا صوتي؛ أي: سدّوا مسامعهم من استماع الدعوة. فالجعل المذكور كناية عن هذا السدّ، ولا مانع من الحمل على حقيقته بأن يدخلوا أصابعهم في ثقب آذانهم قصدًا إلى عدم الاستماع. ﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾؛ أي: (٣) غطّوا بها وجوههم؛ لئلا يروني، فإن المبطل يكره رؤية المحق للتضادّ الواقع بينهما. وقيل: جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامي، فيكون استغشاء الثياب على هذا زيادة في سدّ الآذان. وقيل: هو كناية عن العداوة، يقال: لبس فلان ثياب العداوة، والاستغشاء مأخوذ من الغشاء، وهو الغطاء. وفي الأصل اشتمال من فوق، ولما كان فيه معنى الستر استعمل بمعناه، وأصل الاستغشاء طلب الغشي؛ أي: الستر، ولكن معنى الطلب هنا ليس بمقصود بل هو بمعنى التغطي والستر، وإنّما جيء بصيغته التي هي السين للمبالغة، والثياب جمع ثوب سمّي به لثوب الغزل؛ أي: رجوعه إلى الحالة التي قدر لها. والمعنى: وبالغوا في التغطّي بثيابهم كأنهم طلبوا منها أن تغشاهم؛ أي: جميع أجزاء بدنهم آلة الإبصار وغيرها، لئلا يبصروه كراهة النظر إليه. ﴿وَأَصَرُّوا﴾؛ أي: أكبّوا وأقاموا واستمروا على الكفر والمعاصي، ولم يقلعوا عنه، ولا تابوا منه. ﴿وَاسْتَكْبَرُوا﴾ عن قبول الحق وعن امتثال ما أمرهم به؛ أي: تعظموا
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
والمعنى: أي وإنّي كلّما دعوتهم إلى الإقرار بوحدانيتك والعمل بطاعتك، والبراءة عن عبادة كلّ ما سواك لتغفر لهم ذنوبهم سدّوا مسامعهم حتى لا يسمعوا دعائي، وتغطوا بثيابهم كراهة النظر إليَّ، وأكبّوا على الكفر والمعاصي، وتعاظموا عن الإذعان للحق وقبول ما دعوتهم إليه من النصح.
٨ - ثم بين أنه ما ترك وسيلة في الدعوة إلا فعلها، قال: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ﴾ دعوة ﴿جِهَارًا﴾؛ أي: بأعلى صوتي. والجهر: ظهور الشيء بإفراط لحاسة البصر أو حاسة السمع؛ أي: رفعت صوتي لهم بالدعوة رفعًا بليغًا بحيث يسمعه القريب والبعيد.
٩ - ﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ﴾ وأظهرت ﴿لَهُمْ﴾ الدعوة مجتمعين ﴿وَأَسْرَرتُ﴾ أي: أخفيت ﴿لَهُمْ﴾ الدعوة منفردين ﴿إِسْرَارًا﴾؛ أي: إخفاء بحيث لا يسمعها غير المدعوّ.
وفي هذا إشارة إلى ذكر عموم الحالات بعد ذكر عموم الأوقات؛ أي: دعوتهم تارة بعد تارة ومرّة غبّ مرّة على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة. و ﴿ثُمَّ﴾ لتفاوت الوجوه، فإنّ الجهر أشد عن الإسرار، والجمع بينهما أغلظ من الإفراد. والإعلان ضدّ الإسرار، يقال: أسررت إلى فلان حديثًا: أفضيت به إليه في خفية؛ أي: عن غير اطلاع أحد عليه. وجهرت به أظهرته بحيث اطلع عليه الغير. ويجوز أن يكون ﴿ثُمَّ﴾ لتراخي بعض الوجوه عن بعض بحسب الزمان بأن ابتدأ بمناصحتهم ودعوتهم في السرّ، فعاملوه بالأمور الأربعة، وهي: الجعل والتغطي والإصرار والاستكبار. ثمّ ثنى بالمجاهرة بعد ذلك، فلما لم يؤثر جمع بين الإعلان والإسرار؛ أي: خلط دعاءه بالعلانية بدعاء السرّ، فكما كلمهم جميعًا كلمهم واحدًا واحدًا سرًّا. فالجهر: النداء بالدعوة ورفع الصوت بها بلا دخول مجمعهم، والإعلان: إظهار الدعوة في مجامعهم، والإسرار: الدعوة لكل واحد منهم فردًا فردًا خفية بحيث لا يسمعه الغير.
وفي بعض التفاسير: أنّ نوحًا عليه السلام (١) لما آذوه بحيث لا يوصف حتى
والمعنى (١): أي ثم إني كنت أسر لهم بالدعوة تارةً، وأجهر لهم بها تارة أخرى، وطورًا كنت أجمع بين الإعلان والإسرار.
والخلاصة: أنّه عليه السلام لم يترك سبيلًا للدعوة إلا فعلها، فاستعمل طرقا ثلاثةً:
١ - بدأهم بالمناصحة في السر، فعاملوه بما ذكر في الآية السابقة من سدّ الآذان، والاستغشاء بالثياب والإصرار على الكفر والاستعظام عن سماع الدعوة.
٢ - جاهرهم بالدعوة، وأعلنهم على وجه ظاهر لا خفاء فيه.
٣ - جمع بين الإعلان والإسرار.
١٠ - ثم بين ما كان يقول لهم، فقال: ﴿فَقُلْتُ﴾ لهم عقيب الدعوة، عطف على قوله: ﴿دَعَوْتُ﴾. ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾؛ أي: اطلبوا المغفرة منه لأنفسكم بالتوبة عن الكفر والمعاصي قبل الفوت بالموت.
والمعنى: أي فقلت لهم: سلوا ربكم غفران ذنوبكم، وتوبوا إليه من كفركم وعبادة ما سواه من الآلهة، ووحّدوه، وأخلصوا له العبادة.
﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿كَانَ غَفارًا﴾ للتائبين بجعل ذنوبهم كأن لم تكن. والمراد (٢) من كونه غفارًا في الأزل كونه مريدًا للمغفرة في وقتها المقدّر، وهو وقت وجود المغفور له. والغفّار أبلغ من الغفور، وهو من الغافر، وأصل الغفر: الستر والتغطية، ومنه قيل لجنة الرأس: مغفر؛ لأنه يستر الرأس. والمغفرة من الله: ستره للذنوب وعفوه عنها بفضله ورحمته، لا بتوبة العباد وطاعتهم. وإنما التوبة والطاعة للعبودية وعرض الافتقار.
(٢) روح البيان.
١١ - ولما كان الإنسان مجبولًا على محبّة الخيرات العاجلة، كما قال: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ لا جرم أعلمهم أنّ إيمانهم بالله يجمع لهم إلى الحّظ الأوفر من الآخرة الخصب والغنى وكثرة الأولاد في الدنيا، ومن ثم وعدهم بخمسة أشياء:
١ - ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ﴾؛ أي: ينزل الله سبحانه المطر، كما قال الشاعر:
إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ | فَحُلُّوْا حَيْثُمْا نَزَلَ السَّمَاءُ |
كأن قوم نوح تعللوا وقالوا (١): إن كنا على الحق فكيف نتركه؟ وإن كنا على الباطل فكيف يقيلنا بعدما عكفنا عليه دهرًا طويلًا؟. فأمرهم الله تعالى بما يمحق ما سلف منهم من المعاصي ويجلب عليهم المنافع، وهو الاستغفار، ولذلك وعدهم بالعوائد العاجلة التي هي أوقع في قلوبهم من المغفرة وأحب إليهم؛ إذ النفس حريصة بحب العاجل، ولذلك جعلها جواب الأمر بأن قال: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ﴾ إلخ، دون المغفرة بأن قال: ﴿ويغفر لكم﴾ ليرغبوا فيها، ويشاهدوا أن أثرها وبركتها ما يقاس عليه المغفرة، فالاشتغال بالطاعة سبب لانفتاح أبواب الخيرات، كما أن المعصية سبب لخراب العالم بظهور أسباب القهر الإلهي. وقيل: لما كذّبوه بعد
يقول الفقير: هذا القول هو الموافق للحكمة؛ لأنَّ الله تعالى يبتلي عباده بالخير والشر ليرجعوا إليه، ألا ترى إلى قريش حيث إنّ الله جعل لهم سبع سنين كسني يوسف بدعاء النبي - ﷺ -.. ليرجعوا عما كانوا عليه من الشرك، فلم يرفعوا له رأسًا.
والمعنى (١): أي يرسل المطر عليكم متتابعًا، فتزرعون ما تحبون، ويكثر الخصب والغلات النافعة لكم في معاشكم من حبوب وثمار، وتحدث لكم طمأنينة وأمن وراحة لتوافر ما تشتهون مما هو سبب السعادة والهدى.
٢ - ١٢ ﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ﴾؛ أي: ويكثر لكم الأموال والخيرات على سائر ضروبها واختلاف ألوانها.
٣ - ﴿وَبَنِينَ﴾؛ أي: ويكثر لكم الأولاد. فقد ثبت لدى علماء الاجتماع أن النسل لا يكثر في أمة إلا إذا استتب فيها الأمن وارتفع منها الظلم، وساد العدل بين الأفراد، وتوافرت لهم وسائل الرزق.
٤ - ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ﴾؛ أي: بساتين ذوات أشجار وثمار؛ أي: ويوجد لكم بساتين عامرة تأخذون من ثمارها ما به تنتفعون، ولم يطمع الناس في الفاكهة إلا إذا وجدت لديهم الأقوات وكثرت الغلات.
٥ - ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ﴾ فيها ﴿أَنْهَارًا﴾ جارية بها يكثر الخصب والزرع بمختلف ألوانه وأشكاله، لا جرم أن الأمة الكثيرة البساتين والمزارع يعمها الرخاء وتسعد في حياتها الدنيوية، وتزينها بالنبات، وتحفظها عن اليبس، وتفرح القلوب وتسقي النفوس.
وكان الظاهر (٢) تقديم الجنات والأنهار على الإمداد لكونهما من توابع الإرسال، وإنما أخرهما لرعاية رأس الآية، وللإشعار بأن كلا منهما نعمة الهبة على حدة. وعن الحسن البصريّ: إن رجلًا شكا إليه الجدب، فقال له: استغفر الله،
(٢) روح البيان.
١٣ - وبعد (١) أن أدبهم الأدب الخلقي بطلبه منهم تهذيب نفوسهم واتباعهم مكارم الأخلاق... شرع يؤدِّبهم الأدب العلمي بدراسة التشريح وعلم النفس ودراسة أحوال العوالم العلوية والسفليّة، فقال: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (١٣)﴾، إنكار لأن يكون لهم سبب ما في عدم رجائهم لله تعالى وقارًا على أن الرجاء بمعنى الاعتقاد. والوقار: العظمة. و ﴿ما﴾ للإستفهام الإنكاري التوبيخي في محل الرفع مبتدأ، و ﴿لكم﴾ خبرها، و ﴿لَا تَرْجُونَ﴾ حال من ضمير المخاطبين، والعامل فيها معنى الاستقرار في ﴿لَكُمْ﴾، و ﴿لِلَّهِ﴾ متعلق بمحذوف وقع حالًا من ﴿وَقَارًا﴾، ولو تأخر لكان صفة له.
والمعنى: أيُّ سبب حصل لكم واستقر لكم حال كونكم غير معتقدين لله عظمةً موجبة لتعظيمه بالإيمان والطاعة له؟ أي: لا سبب لكم في هذا مع تحقق مضمون الجملة الحالية. ومن (٢) استعمال الرجاء بمعنى الخوف قول الهذيل: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها. وقال سعيد بن جبير، وأبو العالية، وعطاء بن أبي رباح: ما لكم ترجون لله ثوابًا، ولا تخافون منه عقابًا. وقال مجاهد والضحاك: ما لكم لا تبالون لله عظمةً. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما لكم لا تخشون منه عقابًا، ولا ترجون منه ثوابًا بتوقيركم إيّاه.
١٤ - وجملة قوله: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (١٤)﴾ في محل النصب على الحال من الجلالة؛ أي: والحال أنه سبحانه وتعالى قد خلقكم على أطوار مختلفة وصفات متفاوتة وحالات متنوّعة. والطور في اللغة: المرة، وقال ابن الأنباري: الطور: الحال، ويقال: فعل كذا طورًا بعد طور أي: تارة بعد تارة.
(٢) الشوكاني.
وقال بعضهم (٢): وهي إشارة إلى الأطوار السبعة المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤)﴾. فهذه التارات والأحوال السبع المترتّب بعضها على بعض كلّ تارة أشرف مما قبلها، وحال الإنسان فيها أحسن مما تقدمها. وقيل: خلقكم صبيانًا وشبّانًا وشيوخًا. وقيل: طوالًا وقصارًا، وأقوياء وضعفاء مختلفين في الخلق والخلق. وقيل غير ذلك.
والخلاصة (٣): أي ما لكم لا تخافون عظمة الله وقد خلقكم على أطوار مختلفة، فكنتم نطفة في الأرحام ثم علقة ثم مضغة ثم عظامًا ثم كسا عظامكم لحمًا ثم أنشأكم خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين. وقد ذكرت هذه الأطوار في سور كثيرة كسورة آل عمران وسورة المؤمنين وغيرهما.
١٥ - وبعد أن ذكر النظر في الأنفس أتبعه بالنظر في العالم العلويّ والسفليّ، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾ يا قومي. والاستفهام للتقرير، والرؤية بمعنى العلم، لعلهم علموا ذلك بالسماع من أهله، أو بمعنى الإبصار، والمراد مشاهدة عجائب الصنع الدال على كمال العلم والقدرة. ﴿كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ حال كونها ﴿طِبَاقًا﴾؛ أي: متطابقًا، أي: بعضها فوق بعض ملتزقة الأطراف، كما سبق في سورة المُلك. ومعنى ﴿طِبَاقًا﴾؛ أي: بعضها فوق بعض كلّ سماء مطبّقة على الأخرى كالقباب. قال الحسن: خلق الله سبع سموات على سبع أرضين، بين كلّ سماء وسماء وأرض وأرض خلق وأمر، وقد تقدم تحقيق هذا في قوله: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
١٦ - ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ﴾؛ أي: في السموات السبع. ونسبته (٢) إلى الكل مع أنّه في السماء الدنيا؛ لأنّ كل واحدة من السموات شفّافة لا يحجب ما وراءها، فيرى الكل كأنها سماء واحدة، ومن ضرورة ذلك أن يكون ما في واحدة منها كانّه في الكل على أنه ذهب ابن عباس وابن عمرو ووهب بن منبه رضي الله عنهم إلى أن الشمس والقمر النجوم وجوهها مما يلي السماء وظهورها مما يلي الأرض، وهو الذي يقتضيه لفظ السراج؛ لأنّ ارتفاع نوره في طرف العلو، ولولا ذلك.. لأحرقت جميع ما في الأرض بشدّة حرارتها، فجعلها الله نورًا وسراجًا لأهل الأرض والسموات. فعلى هذا ينبغي أن يكون تقدير ما بعده وجعل الشمس فيهنّ سراجًا على أنّه حذف لدلالة الأول عليه. ﴿نُورًا﴾ أي: منوّرًا وجه الأرض في ظلمة الليل. ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ﴾ هي في السماء الرابعة، وقيل: في الخامسة. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: في الشتاء في الرابعة، وفي الصيف في السابعة. ولو أضاءت من الرابعة أو من السماء الدنيا لم يطق لها شيء، وهذا غريب جدًّا. ﴿سِرَاجًا﴾ من باب (٣) التشبيه البليغ؛ أي: كالسراج والمصباح يزيل ظلمة الليل عند الفجر، ويبصر أهل الدنيا في ضوئها الأرض ويشاهدون الآفاق كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، وليس القمر بهذه المثابة إنما هو نور في الجملة.
والمعنى (٤): أي ألم تروا كيف خلق السموات متطابقة بعضها فوق بعض، وجعل للقمر بروجًا ومنازل، وفاوت نوره فجعله يزداد حينًا حتى يتناهى ثم يبتدىء ينقص حتى يستتر ليدل ذلك على مضيّ المشهور والأعوام، وجعل الشمس كالسراج يزيل ظلمة الليل. ونحو الآية قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ الله ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
١٧ - ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧)﴾؛ أي: إنباتًا عجيبًا، وأنشأكم منها إنشاء غريبًا بواسطة إنشاء أبيكم آدم منها، أو أنشأ الكل منها من حيث إنّه خلقهم من النطف المتولدة عن النبات المتولد من الأرض، استعير الإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكون من الأرض؛ لأنهم إذا كانوا نباتًا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات.
ووضع (١) ﴿نَبَاتًا﴾ موضوع إنباتًا على أنه مصدر مؤكّد لأنبتكم بحذف الزوائد، ويسمّى اسم مصدر، دل عليه القرينة الآتية، وهي قوله: ﴿وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾. وقال بعضهم: ﴿نَبَاتًا﴾ حال لا مصدر، ونبّه بذلك على أن الإنسان من وجه نبات من حيث إنّ بدأه ونشأته من التراب، وأنه ينمو نموّه، ويلدون ويموتون، وأيديهم وأرجلهم كأفرع النبات، وعروقهم المتشعبة في الجسم والتي يجري فيها الدم، وينتشر في الأطراف تشبه ما في الشجر، وأحوالهم مختلفة كأحوال النبات، فمنه: الحلو المرّ والطيّب والخبيث، واستعدادهم مختلف كاستعداد النبات. فلكلّ امرىء خاصّة كما أنّ لكلّ نوع من النبات خاصّةً، وإن كان له وصف زائد على النبات. والنبات: ما يخرج من الأرض، سواء كان له ساق كالشجر، أو لم يكن له كالنجم، لكن اختص في التعارف بما لا ساق له، بل اختصّ عند العامّة بما يأكله الحيوان.
١٨ - ﴿ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا﴾ أي: في الأرض بالدفن عند موتكم. ﴿وَيُخْرِجُكُمْ﴾ منها عند البعث والحشر ﴿إِخْرَاجًا﴾ محقّقًا لا ريب، وذلك لمجازاة الأولياء ومحاسبة الأعداء، ولم يقل: ثم يخرجكم بل ذكر بالواو الجامعة إيَّاها مع ﴿يُعِيدُكُمْ﴾ رمزًا إلى أن الإخراج مع الإعادة في القبر كشيء واحد، لا يجوز أن يكون بعضها محقّق الوقوع دون بعض.
والمعنى: أي ثم يعيدكم في الأرض كما كنتم ترابًا، ويخرجكم متى شاء أحياء كما كنتم بشرًا.
قال أبو حيان: ظاهره أن الأرض ليست كروية بل هي مبسوطة. قال سعدي المفتي: وإنما هو في التقلب على ما فسروه انتهى. وقد مرّ مرارًا أن كروية الأرض لا تنافي الحرث والغرس ونحوهما لعظم دائرتها كما يظهر الفرق بين بيضة الحمامة وبيضة النعامة.
٢٠ - ﴿لِتَسْلُكُوا﴾ من السلوك، وهو الدخول لا من السلك، وهو الإدخال. ﴿مِنْهَا﴾؛ أي: من الأرض ﴿سُبُلًا﴾ جمع سبيل؛ أي: طرقًا ﴿فِجَاجًا﴾؛ أي: واسعة. جمع فجّ، وهو الطريق الواسع، فجرد هنا لمعنى الواسع فجعل صفة لـ ﴿سُبُلًا﴾. وقيل: هو المسلك بين الجبلين. و ﴿مِنْ﴾ متعلقة بما قبلها لما فيه من معنى الاتخاذ؛ أي: لتسلكوا متخذّين من الأرض سبلا، فتصرفوا فيها ذهابًا وإيابًا أو بمضمر هو حال من ﴿سُبُلًا﴾؛ أي: سبلًا كائنة من الأرض، ولو تأخّر.. لكان صفة لها، ثم جعلها بساطًا للسلوك المذكور لا ينافي غيره من الوجوه كالنوم والاستراحة والحرث والغرس ونحوها، ثم السلوك إمّا جسماني بالحركة الأينية الموصلة إلى المقصد، وإما روحاني بالحركة الكيفية الموصلة إلى المقصود، ولكل منهما فوائد جليلة كطلب العلم والحج والتجارة وغيرها وكتحصيل المحبة والمعرفة والإنس ونحوها.
والمعنى: أي والله بسط لكم الأرض، ومهدها، وثبتها بالجبال الراسيات، ثم بين حكمة هذا فقال: ﴿لِتَسْلُكُوا مِنْهَا﴾؛ أي: لتستقروا عليها، وتسلكوا فيها أين شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها المختلفة. وقصارى ما سلف: أن نوحًا عليه السلام أمر قومه بالنظر في علوم الأنفس والآفاق من معدن ونبات وحيوان وإنسان وسماء وأرض وشموس وأقمار.
٢١ - ﴿قَالَ نُوحٌ﴾ أعيد لفظ الحكاية لطول العهد بحكاية مناجاته لربه. فهو بدل من
ودل الكلام (١) على أن ازدياد المال والولد كثيرًا ما يكون سببًا للهلاك الروحانيّ، ويورث الضلال في الدين أوّلًا والإضلال عن اليقين ثانيًا. قال ابن الشيخ: المفهوم من نظم الآية أنّ أموالهم وأولادهم عين الخسار، وأن ازديادهما إنما ازدياد خسارهم، والأمر في الحقيقة كذلك، فإنهما وإن كانا من جملة المنافع المؤدّية إلى السعادة الأبدية بالشكر عليهما وصرفهما إلى وجوه الخير، إلا أنهما إذا أديا إلى البطر والاغترار وكفران حق المنعم بهما، وصارا وسيلتين إلى العذاب المؤبّد في الآخرة صارا كأنّهما محض الخسار؛ لأن الدنيا في جنب الآخرة كالعدم، فمن انتفع بهما في الدنيا خسر سعادة الآخرة، وصار كمن أكل لقمةً مسمومةً من الحلوى، فهلك، فإنّ تلك اللقمة في حقه هلاك محض؛ إذ لا عبرة لانتفاعه بها في جنب ما أدّت إليه.
٢٢ - ﴿وَمَكَرُوا﴾ عطف على صلة ﴿مَنْ﴾؛ لأنّ المكر الكبار يليق بكبرائهم، والجمع باعتبار معناها. ﴿مَكْرًا كُبَّارًا﴾؛ أي: مكرًا كبيرًا عظيمًا في الغاية. والمكر: الحيلة الخفيّة. وقرىء ﴿كُبَّارًا﴾ بالتخفيف كما سيأتي، وهو أبلغ من الكبير نحو: طوّال وطوال وطويل. ومعنى مكرهم الكبار: احتيالهم في منع الناس عن الدين وتحريشهم لهم على أذيّة نوح عليه السلام. قال الشيخ: لمّا كان التوحيد أعظم المراتب كان
وقرأ ابن الزبير (١) والحسن، والنخعيّ، والأعرج، ومجاهد، والأخوان الكسائي وحمزة، وابن كثير، وأبو عمرو، ونافع في رواية خارجة ﴿وولده﴾ بضمّ الواو وسكون اللام. وقرأ السلميّ والحسن أيضًا، وأبو رجاء، وابن وثّاب، وأبو جعفر، وشيبة، ونافع، وعاصم، وابن عامر بفتحهما، وهما لغتان كبخل وبخل. وقرأ الحسن أيضًا، والجحدري، وقتادة، وزرّ، وطلحة وابن أبي إسحاق، وأبو عمرو في رواية بكسر الواو وسكون اللام. وقال أبو حاتم: يمكن أن يكون الولد بالضمّ جمع الولد كخشب وخشب، وقد قال حسّان بن ثابت رضي الله عنه:
يَا بَكْرَ آمَنِةً الْمُبَارَكِ بِكْرُهَا | مِنْ وُلْدِ مُحْصَنَةٍ بِسَعْدِ الأسْعَدِ |
والمعنى: أي قال نوح: ربّ إنهم عصوني فيما أمرتهم به، وأنكروا ما دعوتهم إليه، واتبعوا رؤساءهم الذين بطروا بأموالهم واغتروا بأولادهم. فكان ذلك زيادة في خسرانهم وخروجًا عن محجة الصواب وبعدًا من رحمة الله تعالى، ومكروا مكرًا كبيرًا، فاحتالوا في الدين، وصدوا الناس عنه بأساليب شتى، وأغروهم بأذى نوح عليه السلام.
٢٣ - ﴿وَقَالُوا﴾ أي: الرؤساء للأتباع والسفلة: ﴿لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾؛ أي: لا تتركوا عبادة آلهتكم، وتعبدوا رب نوح عليه السلام. ومن عطف ﴿مَكَرُوا﴾ على ﴿اتَّبَعُوا﴾ يقول: معنى ﴿وَقَالُوا﴾: وقال بعضهم لبعض، فالقائل ليس هو الجمع. وآلهتهم هي الأصنام والصور التي كانت لهم ثم عبدتها العرب من بعدهم، وبهذا قال الجمهور.
(٢) البحر المحيط.
قال محمد بن كعب (٢): هذه أسماء قوم صالحين، كانوا بين آدم ونوح، فنشأ بعدهم قوم يقتدون بهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو صورتم صورهم.. كان أنشط لكم وأسوق إلى العبادة، ففعلوا. ثم نشأ قوم من بعدهم فقال لهم إبليس: إنّ الذين من قبكلم كانوا يعبدونهم فاعبدوهم. فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت، وسميت هذه الصور بهذه الأسماء؛ لأنهم صوروها على صورة أولئك القوم الصالحين.
وقد انتقلت (٣) هذه الأصنام بأعيانها عنهم إلى العرب، فكان ود لكلب بدومة الجندل بضم قال دومة، ولذلك سمت العرب بعبد ودٍّ. قال الراغب: الود: صنم سمي بذلك إما لمودتهم له أو لاعتقادهم أن بينه وبين البارىء تعالى مودّة، تعالى الله عن ذلك. وكان سواع لهمدان بسكون الميم قبيلة باليمن، ويغوث لمذ حجٍ كمجلس بالذال المعجمة، وآخره جيم، ومنه: كانت العرب تسمى عبد يوث. ويعوق لمراد، وهو كغراب أبو قبيلة، سمّي به لأنّه تمرّد. ونسر لحمير بكسر الحاء وسكون الميم بوزن درهم، موضع غربيّ صنعاء اليمن.
وقيل: انتقلت أسماؤها إليهم فاتخذوا أمثالها، فعبدوها إذ يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام، كيف وقد خربت الدنيا في زمان الطوفان، ولم يضعها نوح في السفينة؛ لأنّه بعث لنفيها. وجوابه: أنّ الطوفان دفنها في ساحل جدة فلم تزل مدفونة حتى أخرجها اللعين لمشركي العرب. نظيره: ما روي أنَّ آدم عليه السلام كتب اللغات المختلفة في طين وطبخه، فلما أصاب الأرض الغرق بقي مدفونًا، ثم وجد كل قوم كتابًا فكتبوه، فأصاب إسماعيل عليه السلام الكتاب العربي. وقيل: هي أسماء قوم رجال صالحين كانوا بين آدم ونوح. وقيل: من أولاد آدم، ماتوا
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وذلك إمّا بإخراج الشيطان اللعين تلك الصور كما سبق أو بأنه كان لعمرو بن لحي، وهو أول من نصب الأوثان في الكعبة فقال له تابع من الجن: اذهب إلى جدة وائت منها بالآلهة التي كانت تعبد في زمن نوح وإدريس، وهي ود إلخ. فذهب وأتى بها إلى مكة، ودعا إلى عبادتها، فانتشرت عبادة الأوثان في العرب. وعاش عمرو بن لحي ثلاث مئة وأربعين سنة، ورأى من ولده وولد ولد ولده ألف مقاتل، ومكث هو وولده في ولاية البيت خمس مئة سنة، ثم انتقلت الولاية إلى قريش، فمكثوا فيها خمس مئة أخرى، فكان البيت بيت الأصنام ألف سنة.
وفي "التكملة": روى تقيُّ بن مخلد: أن هذه الأسماء المذكورة في هذه السورة كانوا أبناء آدم عليه السلام من صلبه، وأن يغوث كان أكبرهم، وهي أسماء سريانية. ثم رفعت تلك الأسماء إلى أهل الهند، فسموا بها أصنامهم التي زعموا أنها على صور الدراري السبعة، وكانت الجن تكلمهم من جوفها، فاقتدوا بها. ثم أدخلها إلى أرض العرب عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس بن مضر، فمن قبله سرت إلى أرض العرب. وقيل: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر، وهو طائر عظيم؛ لأنّه ينسر الشيء ويقتلعه.
وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة بخلاف عنهم (١): ﴿ودّا﴾ بضمّ الواو، والحسن والأعمش وطلحة، وباقي السبعة بفتحها. وقرأ الجمهور ﴿وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ﴾ بغير تنوين، فإن كانا عربيّين فمنع الصرف للعلمية ووزن الفعل، وإن كانا عجميّين
وأخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صارت هذه الأوثان في العرب بعد. فكان: ود لكلب. وسواع لهذيل، ويغوث لغطيف بالجرف عند سبأ، ويعوق لهمدان، ونسر لحمير آل ذي الكلاع.
وهناك أصنام أخرى لأقوام آخرين (١): اللات لثقيف بالطائف، العزّى لسليم وغطفان وجشم، ومناة لخزاعة بقديد، وإساف لأهل مكة، ونائلة لهم أيضًا، وهبل لهم أيضًا، وهو أكبر الأصنام وأعظمها عندهم، ومن ثم كان يوضع فوق الكعبة. وليس المراد أن أعيان هذه الأصنام صارت إليهم بل المراد أنهم أخذوا هذه الأسماء، وسموا بها أصنامهم.
٢٤ - وجملة قوله: ﴿وَقَدْ أَضَلُّوا﴾ حال (٢) من فاعل ﴿قالوا﴾؛ أي: قال الرؤساء للأتباع: لا تذرون آلهتكم، والحال أنهم قد أضلوا ﴿كَثِيرًا﴾ من الناس بدعوتهم إلى الشرك. وقيل: الضمير راجع إلى الأصنام؛ أي: قد أضل الأصنام كثيرًا من الناس؛ أي: ضل بسببها كثير من الناس، نظير قول إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾، وأجرى عليها ضمير جمع العقلاء لاعتقاد الكفار الذين يعبدونها أنها تعقل.
وقوله: ﴿وَلَا تَزِدِ﴾ يا ربّ ﴿الظَّالِمِينَ﴾ بالإشراك؛ لأن الشرك ظلم عظيم، فأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فهل شيء أسوأ من وضع أخس المخلوق وعبادته موضع الخالق وعبادته؛ ووضع الظاهر موضع المضمر تسجيلًا عليهم بالظلم. ﴿إِلَّا ضَلَالًا﴾ وبعدًا وطردًا من رحمتك، معطوف على ﴿رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي﴾؛ أي: قال ربّ إنهم عصوني، وقال: ﴿وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا﴾. ومعنى ﴿إِلَّا ضَلَالًا﴾ أي: عذابًا، وقيل: إلا خسرانًا، وقيل: إلا فتنة بالمال والولد، وقيل:
(٢) روح البيان.
والمعنى: أي ولا تزد الظالمين لكفرهم بآياتك إلا ضلالًا وطبعًا على قلوبهم حتى لا يهتدوا إلى حقّ، ولا يصلوا إلى رشد. وقصارى ما قاله عليه السلام: أن دعا عليهم بالخذلان، وأن دعا لنفسه بالنصر وظهور دينه كما جاء في قوله: ﴿رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾.
٢٥ - ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ﴾؛ أي: (١) من أجل خطيئات قوم نوح وأعمالهم المخالفة للصواب، وهي الكفر والمعاصي. و ﴿ما﴾ مزيدة بين الجار والمجرور لتأكيد الحصر المستفاد من تقديم قوله: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ﴾، فإنه يدل على أنَّ إغراقهم بالطوفان لم يكن إلا من أجل خطيئاتهم تكذيبًا لقول المنجمين من أن ذلك كان لاقتضاء الأوضاع الفلكية إياه، ونحو ذلك. فإنه كفر لكونه مخالفًا لصريح هذه الآية. ولزيادة ﴿ما﴾ الإبهامية فائدة غير التأكيد، وهي تفخيم خطيئاتهم؛ أي: من أجل خطيئاتهم العظيمة، ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة، وجعل ﴿خَطِيئَاتِهِمْ﴾ بدلًا منها. والخطيئات: جمع خطيئة. وقرأ أبو عمرو ﴿خطاياهم﴾ بلفظ الكثرة، لأنّ المقام مقام تكثير خطيئاتهم؛ لأنهم كفروا ألف سنة. والخطيئات لكونه جمع السلامة لا يطلق على ما فوق العشرة إلا بالقرينة. والظاهر من كلام الرضيّ: أن كلا من جمع السلامة والتكسير لمطلق الجمع من غير نظر إلى القلة والكثرة فيصلحان لهما، ولذا قيل: إنهما مشتركان بينهما، واستدلوا عليه بقوله تعالى: ﴿مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾.
أي: من أجل خطيئاتهم وأعمالهم الخبيثة لا لما يقوله المنجمون من اقتضاء
الخَلْقُ مُجتَمِعٌ طَوْرًا ومُفَتَرِقٌ | والْحَادِثَاتُ فُنُونٌ ذَاتُ أَطْوَارِ |
لا تَعْجبَنَّ لأضْدَادٍ إذَا اجْتَمَعَتْ | فالله يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالنَّارِ |
﴿فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ﴾؛ أي: لأنفسهم ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا﴾؛ أي: لم يجد أحد منهم لنفسه واحدًا من الأنصار ينصرهم على من أخذهم بالقهر والانتقام. وفيه (٢) تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله، وبأنها غير قادرة على نصرهم، وتهكّم بهم. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ حال متقدّمة من قوله: ﴿نَارًا﴾، والجملة الاستئنافية أعني قوله: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾ إلى هنا من كلام الله سبحانه إشعارًا بإجابة دعوة نوح، وتسلية للرسول - ﷺ - وأصحابه، وتخويفًا للعاصي من العذاب وأسبابه.
والمعنى: أي من أجل معاصيهم وذنوبهم أغرقهم الله بالطوفان، وسيعذّبهم في قبورهم، ولا يجدون من آلهتهم أنصارًا ولا أعوانًا يدفعون عنهم ما كتب عليهم، وبذا ضل سعيهم وخاب فألهم.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ﴾ جمعًا بالألف والتاء مهموزًا، وأبو رجاء كذلك، إلّا أنه أبدل الهمزة ياءً وأدغم فيها ياء المد. والجحدري وعبيد عن أبي عمرو على الإفراد مهموزًا، والحسن وعيسى والأعرج بخلاف عنهم، وأبو عمرو
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
٢٦ - ﴿وَقَالَ نُوحٌ﴾ عليه السلام بعدما قنط من اهتدائهم قنوطًا تامًا بالأمارات الغالبة وبأخبار الله تعالى: ﴿رَبِّ﴾ أي: يا مالكي ﴿لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ﴾ أي لا تترك على الأرض ﴿مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ لك وبما جاء من عندك. حال متقدمة من قوله: ﴿دَيَّارًا﴾ أي: أحدًا يدور في الأرض، فيذهب ويجيء. أي: فأهلكهم بالاستئصال. والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي﴾، وقوله: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ﴾ اعتراض، وسّط بين دعائه عليه السلام للإيذان من أوّل الأمر بأن ما أصابهم من الإغراق والإحراق لم يصبهم إلا لأجل خطيئاتهم التي عددها نوح.
وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع بن أنس وابن زيد وعطية (١): إنّما قال هذا حين أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم، وأعقم أرحام النساء وأصلاب الآباء قبل العذاب بسبعين سنةً، وقيل: بأربعين سنةً. قال قتادة: لم يكن فيهم صبيّ وقت العذاب. وقال الحسن وأبو العالية: لو أهلك الله أطفالهم معهم.. كان عذابًا من الله لهم وعدلًا فيهم، ولكن أهلك ذريتهم وأطفالهم بغير عذاب، ثم أهلكهم بالعذاب. و ﴿دَيَّارًا﴾ من الأسماء المستعملة (٢) في النفي العامّ، وهو فيعال من الدوران فمعناه على هذا: لا تترك أحدًا يدور في الأرض فيذهب ويجيء، أو من الدار فمعناه عليه: لا تذر أحدًا ممن ينزل الدار ويسكنها، وأنكر بعضهم كونه من الدوران، وقال: لو كان من الدوران.. لم يبق على وجه الأرض جني ولا شيطان، وليس المعنى على ذلك، وإنما المعنى: أهلك كل ساكن دار من الكفّار، أي: كل إنسي منهم.
يقول الفقير: جوابه سهل فإن المراد كل من يدور على الأرض من أمة الدعوة، وليس الجن والشيطان منها؛ إذ لم يكن نوح مبعوثًا إلى الثقلين. وليس ﴿دَيَّارًا﴾ فعالًا من الدار وإلا قيل: دوّار، لأن أصل دار دور، فقلبت واوه ألفًا فلما ضعفت عينه كان دوارًا بالواو الصحيحة المشدّدة؛ إذ لا وجه لقلبها ألفًا.
(٢) روح البيان.
٢٧ - ثم بين علة هذا الدعاء بشيئين:
١ - ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ﴾؛ أي: إن تتركهم على الأرض كلَّا أو بعضًا ولم تهلكهم ﴿يُضِلُّوا عِبَادَكَ﴾ الذين آمنوا بك عن طريق الحقّ. روي: أنّه كان الرجل منهم ينطلق بابنه إلى نوح، فيقول له: احذر هذا، فإنّه كذّاب وإنّ أبي حذّر بنيه وأوصاني بمثل هذه الوصيّة، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك. وهذا بيان لوجه دعائه عليهم إظهار بأنه كان من الغيرة في الدين، لا لغلبة غضب النفس لهواها.
٢ - ﴿وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا﴾ يترك طاعتك ﴿كَفَّارًا﴾؛ أي: كثير الكفران لنعمتك. والمعنى: إلا من سيفجر ويكفر، فالوخه ارتفاعهم عن وجه الأرض، والعلم لك. فوصفهم بما يصيرون إليه بعد البلوغ، فهو من مجاز الأول، وكأنه اعتفارٌ مما عسى يرد عليه من أنّ الدعاء بالاستئصال مع احتمال أن يكون من أخلافهم من يؤمن منكر، وإنما قاله بالوحي لقوله تعالى في سورة هود: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ قال بعضهم: لا يلد الحيّة إلا الحيّة، وذلك في الأغلب. ومن هناك قيل: إذا طاب أصل المرء طابت فروعه، ونحوه: الولد سرّ أبيه. قال بعضهم في توجيهه: إن الولد إذا كبر إنما يتعلم من أوصاف أبيه، أو يسرق من طباعه بل قد يصحب المرء رجلًا، فيسرق من طباعه الخير والشرّ.
واعلم: أنه لا يجوز أن يدعى على كافر معيّن؛ لأنَّا لا نعلم خاتمته. ويجوز على الكفار والفجار مطلقًا، وقد دعا عليه السلام على من تحزب على المؤمنين. وهذا هو الأصل في الدعاء على الكافرين.
٢٨ - ثم لما دعا على الكافرين أتبعه بالدعاء لنفسه، ووالديه والمؤمنين، فقال: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾ ذنوبي، وهي ما صدر منه من ترك الأولى. ﴿وَلِوَالِدَيَّ﴾ ذنوبهما، وكانا (١) مسلمين على ملّة إدريس عليه السلام، وأبوه: لامك بن متوشلخ بصيغ اسم
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَلِوَالِدَيَّ﴾ بالتثنية. وقرأ سعيد بن جبير، والجحدري ﴿ولوالدي﴾ بكسر الدال وتخفيف الياء بالإفراد، فإما أن يكون خصّ أباه الأقرب، أو أراد جميع من ولدوه إلى آدم عليه السلام. وقرأ الحسين بن علي ويحيى بن يعمر والنخعي والزهري وزيد بن علي ﴿ولولديّ﴾ تثنية ولد. يعني: سامًا وحامًا.
﴿وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ﴾؛ أي: منزلي، وقيل: مسجدي، فإنّه بيت أهل الله، وإن كان بيت الله من وجه. وقيل: سفينتي، فإنها كالبيت في حرز الحوائج وحفظ النفوس عن الحرّ والبرد وغيرهما. وقيل: لمن دخل في ديني. وقوله: ﴿مُؤْمِنًا﴾ حال من فاعل ﴿دَخَلَ﴾؛ أي: حال كون الداخل مؤمنًا. أي: متصفًا بصفة الإيمان بالله سبحانه. وبهذا القيد جرجت امرأته واعلة وابنه كنعان، ولكن لمْ يجزم عليه السلام بخروجه إلا بعد. ما قيل له: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾. ثم عمم الدعوة فقال: ﴿وَلِل﴾ مُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي: ولكلّ متصفا بالإيمان بي، أو من لدن آدم إلى يوم القيامة من الذكور والإناث.
ثمّ عاد إلى الدعاء على الكافرين فقال: ﴿وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: المتصفين بالظلم ﴿إِلَّا تَبَارًا﴾؛ أي: إلَّا هلاكًا وخسرانًا ودمارًا، وقد شمل دعاؤه هذا كلّ ظالم إلى يوم القيامة كما شمل دعاؤه للمؤمنين والمؤمنات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة.
قال في الأول (٢): ﴿وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا﴾ لأنه وقع بعد قوله: ﴿وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا﴾، وفي المثاني: ﴿إِلَّا تَبَارًا﴾ لأنه وقع بعد قوله: ﴿لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ﴾ إلخ. فذكر
(٢) روح البيان.
ودل الكلام هنا على أنّ الظالم إذا ظهر ظلمه وأصر عليه ولم ينفعه النصح استحق أن يُدعى عليه وعلى أعوانه وأنصاره. قيل: غرق معهم صبيانهم أيضًا، لكن لا على وجه العقاب لهم بل لتشديد عذاب آبائهم وأمّهاتهم بإراءة إهلاك أطفالهم الذين كانوا أعزَّ عليهم من أنفسهم. قال النبيّ - ﷺ -: "يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتّى".
ومعنى الآية: أي ربّ استر عليّ ذنوبي وعلى والديّ وعلى من دخل مسجدي ومصلّاي مصدقًا بنبوّتي، وبما فرضته عليّ وعلى المصدّقين بوحدانيتك والمصدّقات بذلك من كلّ أمة إلى يوم القيامة، ولا تزد الذين ظلموا أنفسهم بك إلَّا خسرانًا وبعدًا من رحمتك.
الإعراب
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١) قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣)﴾.
﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿أَرْسَلْنَا﴾ خبره، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة. ﴿نُوحًا﴾ مفعول به ﴿إِلَى قَوْمِهِ﴾ متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿أَنّ﴾ حرف نصب ومصدر، ﴿أَنْذِرْ﴾ فعل أمر في محل النصب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية مبنيّ على السكون، وفاعله ضمير مستتر يعود إلى نوح، ﴿قَوْمَكَ﴾ مفعول به، وجملة ﴿أن﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، تقديره: إنّا أرسلنا نوحًا إلى قومه بإنذار قومه. والجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ويجوز أن تكون أن مفسّىرة كما مرّ؛ لأنّ الإرسال في معنى القول؛ أي: قلنا له: أنذر قومك. ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ جار ومجرور
﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (٦)﴾.
﴿يَغْفِرْ﴾ فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللهِ﴾ والجملة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب. ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَغْفِرْ﴾، ﴿من﴾ اسم بمعنى بعض، في محل النصب مفعول به، و ﴿ذُنُوبِكُمْ﴾ مضاف إليه؛ أي: بعض ذنوبكم. أو ﴿من﴾ زائدة على رأي الأخفش المجيز زيادتها في الإثبات وغيره، وأمّا البصريّون ومعظم الكوفيّين يشترطون لزيادتها أن يسبقها نفي أو نهي، أو استفهام، وأن تدخل على النكرة. ﴿وَيُؤَخِّرْكُمْ﴾ فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ﴿يَغْفِرْ﴾. ﴿إِلَى أَجَلٍ﴾ متعلق بـ ﴿يؤخر﴾، ﴿مُسَمًّى﴾ صفة أجل، ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ﴾ ناصب واسمه ومضاف إليه، ﴿إذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان مضمّن معنى الشرط، متعلق بالجواب الآتي، وجملة ﴿جَاءَ﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذَا﴾ على كونه فعل شرط لها، وجملة ﴿لَا يُؤَخَّرُ﴾ من الفعل المغيّر ونائبه جواب ﴿إذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذَا﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾؛ أي: إن أجل الله غير مؤخّر وقت مجيئه، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول قال على كونها معللة لما قبلها. ﴿لَوْ﴾ حرف شرط، ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْلَمُونَ﴾
﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (٩)﴾.
﴿وَإِنِّي﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿وَإِنِّي﴾ ناصب واسمه، ﴿كُلَّمَا﴾ اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية الزمانيّة مبنيّ على السكون، والظرف متعلّق بالجواب الآتي، ﴿دَعَوْتُهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة فعل شرط لـ ﴿كُلَّمَا﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿لِتَغفِرَ﴾ اللام حرف جرّ وتعليل، ﴿تغفر﴾ فعل مضارع، منصوب بأن مضمرةً بعد لام كي، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لغفرانك لهم، الجار والمجرور متعلّق بـ ﴿دَعَوْتُهُمْ﴾، ﴿لَهُمْ﴾ متعلّق بـ ﴿تغفر﴾، ﴿جَعَلُوا﴾ فعل وفاعل، ﴿أَصَابِعَهُمْ﴾ مفعول أوّل لـ ﴿جَعَلُوا﴾، ﴿فِي آذَانِهِمْ﴾ في موضع المفعول الثاني، وجملة ﴿جَعَلُوا﴾ جواب كلّما، وجملة ﴿كُلَّمَا﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إِنِّي﴾ في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي﴾. ﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿جَعَلُوا﴾، ﴿وَأَصَرُّوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿جَعَلُوا﴾، ﴿وَاسْتَكْبَرُوا﴾ معطوف عليه أيضًا، ﴿اسْتِكْبَارًا﴾ مفعول مطلق، ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب مع التراخي، ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه، ﴿دَعَوْتُهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، وجملة ﴿دَعَوْتُهُمْ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ معطوفة على جملة
﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (١٢)﴾.
﴿فَقُلْتُ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿قلت﴾ معطوف على ﴿أَعْلنَتُ﴾، ﴿اسْتَغْفِرُوا﴾ فعل أمر، مبنيّ على حذف النون، ﴿والواو﴾: فاعل، ﴿رَبَّكُمْ﴾ مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قلت﴾، ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿كَانَ غَفَّارًا﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾ وجملة ﴿إنّ﴾ في محل النصب على كونها معلّلة للأمر بالاستغفار، ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، مجزوم بالطلب السابق أعني: ﴿اسْتَغْفِرُوا﴾، ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يُرْسِلِ﴾، ﴿مِدْرَارًا﴾ حال من ﴿السَّمَاءَ﴾، ﴿وَيُمْدِدْكُمْ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ﴿يُرْسِلِ﴾، ﴿بِأَمْوَالٍ﴾ متعلق بـ ﴿يُمْدِدْكُمْ﴾، ﴿وَبَنِينَ﴾ معطوف على ﴿بِأَمْوَالٍ﴾، ﴿وَيَجْعَلْ﴾ معطوف على ﴿يُرْسِلِ﴾ أيضًا، ﴿لَكُمْ﴾ في موضع المفعول الثاني لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿جَنَّاتٍ﴾ مفعول به أوّل، ﴿وَيَجْعَلْ﴾ معطوف على يرسل، ﴿لَكُمْ﴾ في موضع المفعول الثاني ﴿أَنْهَارًا﴾ مفعول به أوّل.
﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥)﴾.
﴿مَا﴾ اسم استفهام للاستفهام التوبيخي في محل الرفع مبتدأ، ﴿لَكُمْ﴾ خبر لـ ﴿مَا﴾ الاستفهامية، والجملة في محل النصب مقول قلت، ﴿لَا﴾ نافية، ﴿تَرْجُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿الكاف﴾ في ﴿لَكُمْ﴾، ﴿لِلَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ﴿وَقَارًا﴾؛ لأنّه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿وَقَارًا﴾ مفعول به لـ ﴿تَرْجُونَ﴾، ﴿وَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: حالية، ﴿قد﴾ حرف
﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (١٦) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (٢٠)﴾.
﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ﴾ فعل وفاعل مستتر ومفعول به أوّل، معطوف على ﴿خَلَقَ﴾، ﴿فِيهِنَّ﴾ حال من ﴿نُورًا﴾، و ﴿نُورًا﴾ مفعول به ثان لـ ﴿جعل﴾، ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ فعل وفاعل مستتر ومفعولان، معطوف على ﴿خَلَقَ﴾، ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿أَنْبَتَكُمْ﴾ خبره، والجملة في محل النصب معطوفة على قوله: ﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾، على كونها مقول ﴿قلت﴾، ﴿أَنْبَتَكُمْ﴾ فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ متعلق بـ ﴿أَنْبَتَكُمْ﴾. ﴿نَبَاتًا﴾ مفعول مطلق، ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وتراخ، ﴿يُعِيدُكُمْ﴾ فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ﴿أَنْبَتَكُمْ﴾، ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿يُعِيدُكُمْ﴾، ﴿وَيُخرِجُكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿يُعِيدُكُمْ﴾، ﴿إِخْرَاجًا﴾ مفعول مطلق. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿جَعَلَ﴾ خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ﴾. ﴿جَعَلَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، ﴿لَكُمْ﴾ حال من ﴿بِسَاطًا﴾، ﴿الْأَرْضَ﴾ مفعول أوّل، ﴿بِسَاطًا﴾ مفعول ثان لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿لِتَسْلُكُوا﴾ اللام حرف جرّ وتعليل ﴿تَسْلُكُوا﴾ فعل مضارع، منصوب بـ (أن) مضمرة بعد لام كي، والواو: فاعل، ﴿مِنْهَا﴾ حال من ﴿سُبُلًا﴾؛ أي: كائنة من الأرض، ولو تأخّر.. لكان صفة لها، ﴿سُبُلًا﴾ مفعول به، ﴿فِجَاجًا﴾ نعت لـ ﴿سُبُلًا﴾، وجملة ﴿تَسْلُكُوا﴾ مع ﴿أن﴾ المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لسلوككم سبلًا
﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (٢١) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (٢٢) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (٢٤)﴾.
﴿قَالَ نُوحٌ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة أو بدل من ﴿قَالَ﴾ الأول. ﴿رَبِّ﴾ منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿عَصَوْنِي﴾ فعل وفاعل ومفعول به، ونون وقاية، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿عَصَوْنِي﴾، ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به، ﴿لَمْ﴾ حرف جزم، ﴿يَزِدْهُ﴾ فعل ومفعول به مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، ﴿مَالُهُ﴾ فاعل، ﴿وَوَلَدُهُ﴾ معطوف على ﴿مَالُهُ﴾، والجملة صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ، ﴿خَسَارًا﴾ مفعول ثان لـ ﴿يَزِدْهُ﴾، ﴿وَمَكَرُوا﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿عَصَوْنِي﴾، ﴿مَكْرًا﴾ مفعول مطلق ﴿كُبَّارًا﴾ نعت لـ ﴿مَكْرًا﴾، ﴿وَقَالُوا﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿عَصَوْنِي﴾، ﴿لَا﴾ ناهية جازمة، ﴿تَذَرُنَّ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، وعلامة جزمه حذف النون والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل، والنون المشدّدة نون التوكيد. ﴿آلِهَتَكُمْ﴾ مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿وَقَالُوا﴾، ﴿وَلَا تَذَرُنَّ﴾ معطوف على ﴿وَلَا تَذَرُنَّ﴾ الأولى، ﴿وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ﴾ ﴿وَدًّا﴾ وما عطف عليه مفعول ﴿تَذَرُنَّ﴾، ﴿وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ﴾ ممنوعان من الصرف للعلمية ووزن الفعل إن كانا عربيّين، وللعلمية والعجمة إن كانا عجميّين. وقرىء ﴿ولا يغوثا ويعوقا﴾ مصروفين لأمرين: أحدهما: أنّ صرفهما للتناسب، إذ قبلهما اسمان منصرفان وبعدهما اسم منصرف، الثاني أنّه جاء على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقًا، وهي لغة حكاها الكسائيّ. ﴿وَنَسْرًا﴾ معطوف على ﴿وَدًّا﴾ أيضًا. ﴿وَقَدْ أَضَلُّوا﴾ فعل وفاعل، معطوف على قوله: ﴿عَصَوْنِي﴾، على كونه خبر ﴿إِنَّهُمْ﴾ أو حال من فاعل ﴿عَصَوْنِي﴾، أو مقول لقول محذوف، معطوف على ﴿قَالَ﴾ الأول؛ أي: ﴿قَالَ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي﴾ وقال ﴿وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا﴾. ﴿كَثِيرًا﴾ مفعول به لـ ﴿أَضَلُّوا﴾، ﴿وَلَا﴾ الواو عاطفة، ﴿لا﴾ دعائية سلوكًا مسلك الأدب مع البارىء سبحانه، ﴿تَزِدِ الظَّالِمِينَ﴾ فعل وفاعل مستتر ومفعول به، مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الدعائية، والجملة في محل النصب،
﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (٢٥) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧)﴾.
﴿مِمَّا﴾ ﴿مِنْ﴾ حرف جرّ، ﴿ما﴾ زائدة، ﴿خَطِيئَاتِهِمْ﴾ مجرور بـ ﴿مِنْ﴾ التعليلية، والجار والمجرور متعلّق بـ ﴿أُغْرِقُوا﴾، و ﴿أُغْرِقُوا﴾ فعل ماض مغيَّر الصيغة، ونائب فاعل، والجملة مستأنفة من كلام الربّ سبحانه. ﴿فَأُدْخِلُوا﴾ فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿أُغْرِقُوا﴾، ﴿نَارًا﴾ مفعول به ثان على السعة، ﴿فَلَم﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿لم﴾ حرف جزم، ﴿يَجِدُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿أدخلوا﴾، ﴿لَهُمْ﴾ في موضع المفعول الثاني لـ ﴿يَجِدُوا﴾، ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ حال من أنصارا، و ﴿أَنْصَارًا﴾ مفعول أوّل لـ ﴿يَجِدُوا﴾، ﴿وَقَالَ نوُحٌ﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿قَالَ﴾ الأول، ﴿رَبِّ﴾ منادى مضاف، ﴿لَا﴾ دعائية جازمة، ﴿تَذَرْ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الدعائية، والجملة في محل النصب مقول قال، ﴿عَلَى الْأَرْضِ﴾ متعلّق بـ ﴿تَذَرْ﴾، ﴿مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ حال من ﴿دَيَّارًا﴾؛ لأنّه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿دَيَّارًا﴾ مفعول به لـ ﴿تَذَرْ﴾، ﴿إِنَّكَ﴾ ناصب واسمه، ﴿إِن﴾ حرف شرط جازم، ﴿تَذَرْهُمْ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به مجزوم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿يُضِلُّوا﴾ فعل وفاعل، مجزوم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، ﴿عِبَادَكَ﴾ مفعول به، وجملة ﴿إِنّ﴾ الشرطية من فِعْلِ شرطها وجوابها في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها معلّلة للنهي المذكور قبلها. ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿لا﴾ نافية، ﴿يَلِدُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿يُضِلُّوا﴾ على كونه جواب الشرط، ﴿إِلَّا﴾ أداة حصر، ﴿فَاجِرًا﴾ مفعول ﴿يَلِدُوا﴾، ﴿كَفَّارًا﴾ نعت ﴿فَاجِرًا﴾.
﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (٢٨)﴾.
﴿رَبِّ﴾ منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ﴾ الأصل: اوتقيوه، استثقلت الضمة على الياء فحذفت.. فلما سكنت التقى ساكنان؛ فحذفت الياء، وضمَّت القاف لمناسبة الواو، ثم أبدلت الواو فاء الكلمة تاء، وأدغمت في تاء الافتعال. ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ أي: معيّن مقدر عند الله، والأجل: المدة المضروبة للشيء.
﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (٦)﴾، أصله: يزيدهم بوزن يفعل، نقلت حركة الياء إلى الزاي فسكنت فدخل الجازم ﴿لم﴾ فسكن آخر الفعل فالتقى ساكنان فحذفت الياء لذلك، فوزنه يفلهم. وقوله: ﴿دُعَائِي﴾ الهمزة في مادّة الدعاء مبدلة من واو لتطرّف الواو إثر ألف زائدة، وهذا مطرود في الواو والياء. ﴿جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ﴾. والآذان: جمع أذن، أصله: أأذان على وزن أفعال، أبدلت الهمزة الساكنة ألفًا حرف مدّ مجانسًا لحركة الأولى. ﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ أصله: استغشيوا بوزن استفعلوا، قلبت. الياء ألفًا لتحركها بعد فتح ثم حذفت الألف لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة. وقوله: ﴿ثِيَابَهُمْ﴾ الياء فيه مبدلة من واو، أصله: ثوابهم أعل هذا الإعلال بإبدال الواو ياء لوقوعها بعد كسرة، وقبل ألف في جمع معتل العين في المفرد.
﴿وَأَصَرُّوا﴾ أصله: أصرروا بوزن أفعلوا، نقلت حركة الواو الأولى إلى الصاد فسكنت، فأدغمت في الراء الثانية. وقوله أيضًا: ﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ والاستغشاء مأخوذ من الغشاء، وهو الغطاء، وهو في الأصل اشتمال من فوق، ولما كان فيه
﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ أصل تروا: ترأيوا بوزن تفعلوا، نقلت حركة الهمزة إلى الراء ثم حذفت للتخفيف ثم أبدلت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وحذفت الألف لالتقاء الساكنين. ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧)﴾؛ أي: إنباتًا عجيبًا، وأنشأكم منها إنشاء غريبًا على أن ﴿نَبَاتًا﴾ وضع موضع إنباتًا على أنه مصدر مؤكد؛ لـ ﴿أَنْبَتَكُمْ﴾ بحذف الزوائد، ويسمى اسم مصدر. ﴿فِجَاجًا﴾؛ أي: واسعة جمع فج، وهو الطريق الواسع. وقيل: هو المسلك بين الجبلين، قال في "المفردات": الفج: طريق يكتنفها جبلان، ويستعمل في الطريق الواسع.
﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي﴾ أصله: عصيوني قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت لالتقاء الساكنين. ﴿وَاتَبَعُوا﴾ فيه إدغام التاء فاء الفعل في تاء الافتعال. ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (٢٢)﴾؛ أي: عظيمًا. والمكر: الحيلة الخفية. وفي "كشف
﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ ﴿رَبِّ﴾ أصله: ربي حذفت منه ياء الإضافة اكتفاء عنها بالكسرة. ﴿دَيَّارًا﴾ قال الزمخشري: هو من الأسماء المستعملة في النفي العام، يقال: ما بالدار ديّار وديّور كقيام وقيوم، وهو فيعال من الدوار أو من الدار، وأصله: ديوار، ففعل به ما فعل بأصل سيد وميت، ولو كان فعالًا.. لكان دوّارًا. وعبارة أبي حيان: ﴿دَيَّارًا﴾ من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي، وما أشبهه، ووزنه فيعال، أصله: ديوار، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت. وفي "القاموس": "وما داري وديار ودوري وديور" أي: أحد.
﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ﴾ هذا الفعل حذفت فاؤه في جميع التصاريف، فأصل المادة: وذر، لكن الماضي منه مهجور، والمضارع والأمر حذفت منهما الفاء. وقوله: ﴿يُضِلُّوا﴾ أصله: يضللوا بوزن يفعلوا، نقلت حركة اللام الأولى إلى الضاد فسكنت فأدغمت في اللام الثانية. ﴿وَلَا يَلِدُوا﴾ فيه إعلال بالحذف أصله: يولدوا بوزن يفعلوا، حذفت الواو فاء الكلمة لوقوعها بين عدوتيها الياء المفتوحة والكسرة. ﴿إِلَّا فَاجِرًا﴾ من الفجر، وهو شق الشي شقًّا واسعًا كفجر الإنسان السكر وهو بالكسر اسم لسد النهر وما سد به النهر. والفجور: شق ستر الديانة. ﴿كَفَّارًا﴾ قال الراغب: الكفار أبلغ من الكفور، وهو المبالغ في كفران النعمة.
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: إفراد الإنذار في قوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ﴾ مع كونه بشيرًا أيضًا؛ لأن الإنذار أقوى في تأثير الدعوة، لما أن أكثر الناس يطيعون أوّلًا بالخوف من القهر وثانيًا بالطمع في العطاء كما مرّ.
ومنها: إسناد الزيادة إلى الدعاء في قوله ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾ مع أنها فعل الله تعالى لسببيته لها.
ومنها: الطباق بين ﴿لَيْلًا﴾ و ﴿نَهَارًا﴾، وبين ﴿أَعْلنَتُ﴾ و ﴿أَسْرَرْتُ﴾ وبين ﴿جِهَارًا﴾ و ﴿إِسْرَارًا﴾، وبين ﴿يُعِيدُكُمْ﴾ و ﴿يُخْرِجُكُمْ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ﴾ المراد رؤوس الأصابع من إطلاق الكلّ وإرادة الجزء.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ لأنّه كناية عن المبالغة في إعراضهم عمّا دعاهم إليه، فهم بمثابة من سدّ سمعه وغشى بصره كيلا يسمع ولا يرى. وقيل: الكلام حقيقي كما مرّ.
ومنها: تكرار الدعاء في قوله: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨)﴾ تأكيدًا ومبالغة في الدعاء.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾، وعلاقته المحلية، فقد أراد بالسماء المطر؛ لأنّ المطر ينزل من السماء، كما قال الشاعر:
إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ | رَعَيْنَاه وَإِنْ كَانُوْا غِضَابَا |
ومنها: التأكيد بالمصدر للمبالغة في قوله: ﴿أَنْبَتَكُمْ﴾ ﴿نَبَاتًا﴾ و ﴿يُخْرِجُكُمْ﴾، ﴿وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾، و ﴿وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾، ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا﴾. ويسمى هذا في علم المعاني بالإطناب.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾؛ أي: كالسراج، وقوله: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا﴾ كالبساط والفراش.
ومنها: تكرار لفظ الجلالة في قوله: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (١٩)﴾ بعد قوله: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ﴾ للتعظيم والتيّمن والتبّرك.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿أَنْبَتَكُمْ﴾ ﴿نَبَاتًا﴾ ﴿يُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا﴾ الآية، مع اندراجها فيما قبلها؛ لأنّها كانت أكبر أصنامهم وأعظم ما عندهم، وهو عند أرباب المعاني نوع من الإطناب.
ومنها: عكسه الذي هو ذكر العام بعد الخاص في قوله: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ تكريرًا للدعاء للخاص.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ علاقته ما يؤول إليه؛ لأنّه لم يفجروا وقت الولادة بل بعدها بزمن طويل.
ومنها: تقديم الجار والمجرور في قوله: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ﴾ على عامله إفادة للحصر، فإنه يدل على أنّ إغراقهم بالطوفان لم يكن إلا من أجل خطيئاتهم تكذيبًا لقول المنجمين كما مرّ.
ومنها: زيادة ﴿ما﴾ الإبهامية بين الجار والمجرور لتأكيد الحصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور.
ومنها: تنكير ﴿نَارًا﴾ في قوله: ﴿فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ للدلالة على تعظيمها؛ أي: نارًا عظيمة وإفادة للتهويل منها.
ومنها: الاعتراض بقوله: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾؛ لأنّه وسّط بذلك بين دعائه عليه السلام أوّلًا ودعائه عليهم فيما بعد للإيذان من أوّل الأمر بأن ما أصابهم من الإغراق والإحراق لم يصبهم إلا لأجل خطيئاتهم التي عدّدها نوح عليه السلام.
ومنها: التهكم بهم في قوله: ﴿فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة على مقصدين.
الأوّل: دعوة نوح قومه إلى الإيمان وقد حوت تلك الدعوة أمورًا:
١ - طلب تركهم للذنوب وأنّهم إذا فعلوا ذلك أكثر الله لهم الأموال والبنين.
٢ - النظر في خلق السموات والأرض والأنهار والبحار.
٣ - النظر في خلق الإنسان، وأنّه يخلق من الأرض كما يخلق النبات منها، وأنَّ الأرض مسخرة لهم يتصرّفون فيها كما يشاؤون.
والثاني: كفر قومه وعقابهم في الدنيا والآخرة (١).
فائدة: سورة نوح ثمان وعشرون آية. (ثمان) بكسر النون إن أعلَّ إعلال قاض فيكون منقوصًا، وإعرابه على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين كقولهم: جاء قاض. وبرفع النون إن حذفت الياء اعتباطًا وتخفيفًا لا لعلة تصريفية، فيكون كـ: يد ودم اهـ شيخنا.
والله أعلم
* * *
سورة الجنّ مكيّة، قال القرطبيّ في قول الجميع: نزلت بعد سورة الأعراف. وأخرج ابن الضريس والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الجن بمكة، وأخرج ابن مردويه عن عائشة، وابن الزبير مثله.
وهي ثمان وعشرون آية. وكلماتها (١): مئتان وخمس وثمانون كلمة. وحروفها: ثمان مئة وسبعون حرفا.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه (٢):
١ - أنّه جاء في السورة السابقة ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ وجاء في هذه السورة ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (١٦)﴾.
٢ - أنه ذكر في هذه السورة شيء يتعلق بالسماء كالسورة التي قبلها.
٣ - أنه ذكر عذاب من يعصي الله سبحانه في قوله: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾، وذكر هناك مثله في قوله: ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾.
وقال أبو حيان (٣): مناسبة هذه السورة لما قبلها: أنه لما حكى تمادي قوم نوح في الكفر وعكوفهم على عبادة الأصنام، وكان عليه السلام أول رسول إلى أهل الأرض كما أن محمدًا - ﷺ - آخر رسول إلى أهل الأرض. والعرب الذين هو منهم كانوا عباد أصنام كقوم نوح حتى إنهم عبدوا أصنامًا مثل أصنام أولئك في الأسماء، وكان ما جاء به محمد - ﷺ - من القرآن هاديًا إلى الرشد، وقد سمعته العرب، وتوقّف عن الإيمان به أكثرهم. أنزل الله تعالى سورة الجن إثر سورة نوح تبكيتًا لقريش والعرب في كونهم تباطؤوا عن الإيمان؛ إذ كانت الجن خيرًا منهم، وأقبل للإيمان بهذا، وهم من غير جنس الرسول - ﷺ -، ومع ذلك فبنفس ما سمعوا القرآن استعظموه
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
التسميه: وسميت سورة الجن لذكر قصة استماع الجن للقرآن فيها.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال محمد بن حزم: سورة الجن كلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (٢) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (٣) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (٥) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (٩) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (١٤) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (١٥) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (١٧) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (١٩) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (٢٠) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٢) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (٢٣) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (٢٥) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (٢٨)﴾.المناسبة
قد تقدم بيان المناسبة بين هذه السورة، والتي قبلها آنفًا، وأمّا المناسبة بين آياتها فليست معتبرة؛ لأنّها نزلت في مقصد واحد.
واعلم: أنَّ الله سبحانه سمى سور كتابه بأسماء تبعث على النظر والاعتبار
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ...﴾ الآيات، سبب نزول هذه الآيات: ما أخرجه (٢) البخاري، والترمذي وغيرهما عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله - ﷺ - على الجن ولا رآهم، ولكنه انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: ما هذا إلا لشيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا هذا الذي حدث، فانطلقوا فانصرف النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله - ﷺ -، وهو بنخلة، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا إنّا سمعنا قرآنًا عجبًا. فأنزل الله عزّ وجلّ على نبيه: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ﴾، وإنما أوحي إليه قول الجنّ.
وأخرج ابن الجوزي في كتاب "صفوة الصفوة" بسنده عن سهل بن عبد الله قال: كنت في ناحية ديار عاد؛ إذ رأيت مدينة من حجر منقور في وسطها قصر من
(٢) لباب النقول.
قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن كردم عن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أوَّل ما ذكر رسول الله - ﷺ -، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب، فأخذ حملًا من الغنم فوثب الراعي، فقال: عامر الوادي جارك، فنادى مناد "لا نراه يا سرحان"، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم، فأنزل الله على رسوله بمكة ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ...﴾ الآية.
وأخرج (١) ابن سعد عن أبي رجاء العطارديّ من بني تميم قال: بعث رسول الله - ﷺ -، وقد رعيت على أهلي وكفيت مهنتهم، فلما بعث النبي - ﷺ - خرجنا هرابًا، فأتينا على فلاة من الأرض، وكنا إذا أمسينا بمثلها قال شيخنا: إنا نعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة، فقلنا ذلك، فقيل لنا: إنما سبيل هذا الرجل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، من أقر بها أمن على دمه وماله، فرجعنا فدخلنا في الإِسلام، قال أبو رجاء: إني لأرى هذه الآية نزلت فيَّ وفي أصحابي: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (٦)﴾ الآية.
وروي عن مقاتل في قوله تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا....﴾ قال: نزلت في كفّار قريش حين منع المطر سبع سنين.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: قالت الجن للنبيّ - ﷺ -: كيف لنا أن نأتي المسجد ونحن ناؤون عنك؟ أو كيف نشهد الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت