تفسير سورة المطفّفين

القطان
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

ويل للمطففين: هلاك عظيم للذين يبخسون المكيال وينقصونه، طفّف المكيالَ: نَقَصَه. اذا اكتالوا على الناس يستوفون....: عندما يكتالون لأنفسِهم من الناس - يأخذون حقهم وافيا، اما اذا كالوهم أو وزنوهم فإنهم يُنقِصون حقوق الغير. سجِّين: اسمُ الكتاب الذي تُكتب فيه اعمالهم. مرقوم: له رقم وعلامة. أساطير الأولين: أخبار الماضين. ران على قلبِه: غطى عليه. لَمحجوبون: لمطرودون عن أبواب الكرامة. لَصالو الجحيم: داخلون فيها.
تبدأ السورة بحربٍ يعلنها الله على أناسٍ يمتهنون سرقة الناس، سماهم الله «المطفِّفين»، لأن الشيء الذي يأخذونه من حقوق الناس شيءٌ طفيف، ولكنه سرقةٌ وغشّ. أما مَن هم، فهم أولئك الذين يتقاضَون بضاعتهم وافية عند الشراء ويعطونها للناس ناقصةً عند البيع.
ثم جار بصيغة التعجب من عمل هؤلاء المجرمين فقال تعالى:
﴿أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين؟﴾
ألا يخطر ببال هؤلاء المطفّفين أنهم سيُبْعثون ليوم عظيم الهول، حيث يقف فيه الناس للعرض والحساب!
ولا يخفَى ما في الوصفّ «لربّ العالمين» من الدلالة على عِظَم الذنب في أكلِ أموال الناس بالباطل. فالميزان هو قانونُ العدل الذي قامت به السموات والأرض.
وبعد ان ذكر اللهُ تعالى أنه لا يزاول التطفيفَ ونقصَ الميزان الا من ينكر يومَ القيامة والبعثَ والجزاء - أمر هنا بالكفّ عما هم فيه، وذكر ان الفجّارَ، كما سمّاهم، قد أُعدّ لهم كتابٌ أُحصيتْ فيه جميع أعمالهم ليحاسَبوا عليهاز
﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ، كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾
كفّوا عما أنتم عليه، فهناك سِجِلٌ لاعمال الفجّار فيه جميعُ أعمالهم اسمه سِجّين، ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ؟﴾ إنه شيء عظيم ليس مما كنتَ تعلمه يا محمد أنتَ ولا قومك. ان الأمر اكبرُ وأضخم من أن يُحيط به عِلم، فهو ﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾، مسطور له علامة واضحة، لا يُزاد فيه ولا يُنقَص منه، ﴿لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: ٢١].
ثم يأتي بالتهديدِ والوعيد لمن يكذّب باليوم الآخِر فيقول:
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الذين يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدين﴾
الهلاكُ للجاحدين الذين لا يؤمنون بالآخرة ﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ يظلُّ يعتدي على الحق ويُصرّ على الكفر، لأنه من المجرمين الآثمين، حتى إنه: ﴿إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ منكراً أن القرآن قد نزل من عند الله وزاعماً انه مجرد خرافات وأباطيل عند الأمم السابقة، جاء بها محمد، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ [الفرقان: ٥].
ثم بيّن الله تعالى ان الذي جرّأَهم على الجحود والتمادي في الإصرار على الإنكار والكفر هي افعالهم القبيحة التي مَرَنوا عليها حتى صاروا لا يميزون بين الخُرافة والحجّة الدامغة فقال: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾.
414
ليس القرآنُ والبعثُ والجزاء من الأساطيرِ والخرافات، بل عَمِيَتْ قلوبُهم وغطّت عليها أفعالُهم وتماديهم في الباطل، فطُمسَ على بصائرهم، والتبست عليهم الأمورُ ولم يدركوا الفرقَ بين الصحيح والباطل.
بعد ذلك ردت عليهم السورة ناقضةً ما كانوا يقولون من أن لهم المنزلة والكرامة يوم القيامة.
﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾.
أما ما تدّعون من انكم تكونون مقرّبين الى الله يوم القيامة، فهو وهمٌ باطل، فأنتم مطرودون من رحمة الله، ومحجوبون عنه بسبب معاصيكم وجحودكم. وكما قال تعالى: ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: ٧٧].
ثم بين الله مآلهم ومصيرهم فقال:
﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الجحيم ثُمَّ يُقَالُ هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾.
لقد حُجبوا عن القرب من الله، وخابَ ظنُّهم الأثيم، بل إنهم لَذاهبون الى النار حيث يقال لهم تبكيتا: إن هذا العذاب الذي حلّ بكم هو جزاؤكم بما كنتم تكذّبون في الدنيا أخبار الرسولِ الصادق الأمين.
قراءات:
قرأ حفص: بل ران باظهار لام بل، وقرأ الباقون: بل رّان بادغام اللام بالراء، وقرأ اهل الكوفة: رِين بالإمالة.
415
عِليّين: المكان العالي الرفيع القدر، وهو مقابل: سِجّين. الأرائك: جمع أريكة، وهي المقعد الوثير المنجّد. نضرة النعيم: بهجته ورونقه. رحيق: شراب خاص. مختوم: ختمت أوانيه. ختامه مسك: مختوم بأطيب انواع الطيب. فلْيتنافس المتنافسون: فليتسابق المتسابقون في عمل الخير ليلحقوا بهم. مزاجه: ما يخلط به. من تَسنيم: من عين يقال لها تسنيم.
بعد أن بين اللهُ تعالى حالَ الفجّار وأعمالَهم ومآلهم يوم القيامة - يعرض هنا حالَ الأبرارِ الذين آمنوا بربِّهم وصدّقوا رسولَهم.. وهذه طريقةُ القرآن الكريم في عَرض المتقابلَين، وفي ذلك ترغيبٌ في الطاعة، وتنفيرٌ من المعصية.
﴿كَلاَّ﴾ ليس الأمر كما توهَّمَه أولئك الفجّارُ من إنكار البعث، ومن أن كتابَ الله أساطيرُ الأولين ﴿إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ فهو مودَع في أشرفِ الأمكنة بحيث يشهدُه المقرَّبون من الملائكة، ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ﴾ ؟ إنه أمرٌ فوق العِلم والادراك لبني البشر، وكل ما في الآخرة مختلفٌ عن حياتنا ومفهومنا. فهو:
﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ المقربون﴾ فهو مسطور علامتُه واضحة يشهدُه ويحفظُه المقرّبون من الملائكة تكريماً للأبرار، وتقديراً لجهودِهم وأعمالهم الصالحة.
بعد هذا بين منزلة الأبرار الرفيعة، وأخذت السورةُ تفصل حالضهم وما ينالون من الجزاء والنعيم.
﴿إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ....﴾
وهذا في مقابلة الفجّار الذين هم في الجحيم. فالله تعالى يكرم المؤمنين الأبرار ويدخلُهم جناتِ النعيم، حيث يجلسون على الأرائك وينظرون الى ما أَولاهم ربهم من النعمة والكرامة، حتى إذا نظرتَ إليهم تعرفُ في وجوههم بهجةَ النعيم ونضارته.
وهم يُسقَون من شراب أهل الجنة الّذي هو الرحيقُ الخالص، الذي خُتمت أوانيه بختام من مِسْكٍ، تكريما لها وصوناً عن الابتذال، ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون﴾ ويتسابقوا.
والشرابُ السابق ممزوجٌ من عين في الجنة اسمُها «تَسْنِيم».
﴿وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون﴾ الأبرارُ عند الله تعالى. وكل ذلك تكريم لهم وفضلُ ضيافة. ولقد فصّل الله تعالى ما أعدّ للأبرار ووصفَ النعيمَ الذي سيلاقونه في دارِ كرامتِه حضّاً للذين يعملون الصالحاتِ على الاستزادة منها، وحثّاً للمقصِّرين واستنهاضاً لعزائمهم ان لا يقصّروا في ذلك.
بعد ذلك انتقل الحديثُ في السورة الى ما كان الكفار يقابلون به المؤمنين في الحياة الدنيا وكيف كانوا يستهزئون منهم ويَسْخَرون، وان هذا ما سيقابلُ به المؤمنون الكفار يوم القيامة ويضحكون منهم.
فقد روي أن صناديد قريشٍ مثلَ أبي جهلٍ، والوليدِ بن المغيرة، والعاصي بن وائل السُّهمي، وشَيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأميةَ بن خلف، وغيرهم كانوا يؤذون رسولَ الله ﷺ وأصحابه ويستهزئون بهم ويحرّضون عليهم سفَهاءَهم وغلمانهم. وفي ذلك كله يقول تعالى:
{إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ.
416
.}.
ان المجرِمين الجاحدين، كانوا في الحياة الدنيا يضحكون من المؤمنين، ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾ عليهم بأعينِهم وأيديهم، ويَذكُرونهم بالسوء، ويشيرون إليهم مستهزئين، ﴿وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ انقلبوا فَكِهِينَ﴾ نفوسُهم راضية بعد ما اشبعوا تلك النفوسَ الصغيرة من السخرية بالمؤمنين وإيذائهم.
﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ﴾.
واذا رأى المجرمون المؤمنين قالوا عنهم: ان هؤلاء لَضالُّون، فقد آمنوا بمحمَّد وتركوا ما كان عليه الآباء والأجداد من عبادة.
ثم يردّ الله عليهم بكل أدب ووقار بقوله: ﴿وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾
ان الله لم يرسِل الكفارَ رقباءَ على المؤمنين، ولم يُؤتهم سلطةَ محاسَبتهم على أفعالهم.
ثم طمأنَ المؤمنين بذِكر معاملتهم للمجرمين يوم القيامة، تسليةً لهم عمّا نالَهم من أذى، وشدّاً لعزائمهم على التذرّع بالصبر فقال: ﴿فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾
الآن يومُ القيامة، يوم الجزاء والحساب، يجلس المؤمنون على الأسرَّة في نَعيم مقيم، ويتناولون الرحيقَ المختوم بالمِسكِ وهم يضحكون من الكفّار وما يُعانونه من العذاب والطَّرد من رحمة رب العالمين.
قراءات:
قرأ الجمهور: ختامه مسك، وقرأ الكسائي وحده: خاتمه مسك، وقرأ الجمهور: تعرف بكسر الراء، وقرأ يعقوب: تعرف بضم التاء وفتح الراء، وقرأ الجمهور: فاكهين، وقرأ حفص: فكِهين.
417
Icon