تفسير سورة التوبة

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة التوبة
مدنية وهي مائة وتسع وعشرون أو مائة وثلاثون آية
عن أبي عطية الهمداني قال : كتب عمر بن الخطاب : تعلموا سورة براءة وعلموا نسائكم سورة النور قلت : لأن في البراءة الحث على الجهاد وفي النور الحث على الحجاب.
وعن عثمان بن عفان قال : كانت البراءة والأنفال تدعيان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم القرينتين فلذلك جمعتهما في السبع الطوال.
ولها أسماء سميت
براءة لأنها براءة عن الكافرين وسورة التوبة لأن فيها توبة على المؤمنين و المقشقشة أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر لأنها تقشقش أي تبرأ من النفاق، والمبعثرة أخرجه ابن المنذر عن محمد بن إسحاق لما كشفت عن سرائر الناس والبحوث أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن أبي رشد الحراني عن المقداد بن الأسود، والمثيرة أخرجه ابن المنذر وأبو الشيخ وابن أبي حاتم عن قتادة لأنها تبعثر النفاق وتبحث عنها وتثيرها وتظهر عوراتهم وتخفر عنها والمنكلة والمدمدمة وسورة العذاب، اخرج ابن أبي شيبة والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن حذيفة رضي الله عنه قال : التي تسمونها سورة التوبة هي سورة العذاب والله ما تركت أحدا إلا نالت فيه، واخرج سورة العذاب أيضا أبو عوانة وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس عن عمر والفاضحة لكونها فاضحة المنافقين.
قال البغوي قال : سعيد بن جبير : قلت لابن عباس سورة التوبة قال : هي الفاضحة ما زالت تنزل وتنبئهم حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكرها فيها قال : قلت : سورة الأنفال قال : تلك بدر، قال قلت سورة الحشر قال : قل سورة النضير.
وفي وجه ترك البسملة عنها
روى البغوي : بسنده واحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه والترمذي وحسنه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال : قلت لعثمان رضي الله عنه ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطرا بسم الله الرحمان الرحيم وضعتموها في السبع الطوال ؟ فقال : عثمان رضي الله عنه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد فإذا عليه الشيء يدعوا بعض من كان يكتب عنده فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا " وكانت الأنفال مما نزلت بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزلت، وفي لفظ وكانت الأنفال من أوائل ما نزلت بالمدينة وكانت البراءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لها أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب سطر بسم الله الرحمان الرحيم ووضعتها في السبع الطوال ١. وقيل : وجه ترك البسملة أنها نزلت لرفع الأمان وبسم الله الرحمان الرحيم أمان كذا أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : سألت علي ابن أبي طالب رضي الله عنه لم يكتب بسم الله الرحمان الرحيم في براءة قال : لأن بسم الله الرحمان الرحيم أمان وبراءة نزلت بالسيف.
وقيل : اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بعضهم : الأنفال وبراءة سورة واحدة نزلت في القتال ويعد السابعة من الطوال وهي سبع، وقال بعضهم : هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال : سورتان وتركت بسم الله الرحمان الرحيم لقول من قال : هما سورة واحدة.
قال البغوي : قال : المفسرون لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان المنافقون يرجعون الأراجيف يعني يقولون أقوالا يضطرب بها المسلمون اضطرابا شديد أو جعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت : وذلك لزعمهم أن المسلمين لا يقامون قتال قيصر ملك الشام فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهودهم فقال :﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ( ١ ) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا إنكم غير معجزي الله وان الله مخزي الكافرين ( ٢ ) وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر إن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وان توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب اليم ( ٣ ) إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ( ٤ ) فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ( ٥ ) ﴾
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة التوبة (٣٠٨٦)، وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: من جهر بها (٧٨٤)..
﴿ براءة من الله ورسوله ﴾ قال : الزجاج : يعني قد برئ الله ورسوله إعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا فقوله براءة خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة، وهي ضد المعاهدة وهي مصدر كالنشاءة والدناءة، ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف تقديره من الله ورسوله ويجوز أن يكون براءة مبتدأ لتخصيصها بصفتها خبره ﴿ إلى الذين عاهدتم ﴾ أي عاهدتموهم أيها الرسول والمؤمنون ﴿ من المشركين ﴾ بيان للموصول علقت البراءة بالله ورسوله و المعاهدة بالرسول والمؤمنين للدلالة على انه يجب عليهم نبذ عهودهم.
﴿ فسيحوا في الأرض ﴾ فيه التفات حيث خاطب المشركين بعد ما ذكرهم على الغيبة أو المعنى فقل لهم سبحوا أي : سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين أمنين غير خائفين أحدا من المسلمين والسياحة السير على مهل ﴿ أربعة أشهر واعلموا إنكم غير معجزي الله ﴾ أي : غير فائتين ولا سابقين وإن أمهلكم ﴿ وان الله مخزي الكافرين ﴾أي مذلهم بالقتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة. وقال الزهري الأشهر الأربعة شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن الآية نزلت في شوال وقال أكثر المفسرين ابتدائها يوم الحج الأكبر وانقضائها إلى عشر من شهر ربيع الآخر لقوله ﴿ وأذان ﴾
﴿ وأذان ﴾ أي : إعلام فعال بمعنى الفعال كالأمان والعطاء ومنه الأذان للصلاة يقال أذنته فأذن أي : أعلمته فعلم، وأصله من الأذان أي أوقعت في أذنه، ورفعه كرفع براءة على الوجهين ﴿ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ﴾.
قال البغوي : روى عكرمة عن ابن عباس أنه يوم عرفة، قال : وروي : ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم وهو قول عطاء وطاووس ومجاهد وسعيد بن المسيب، قلت : ومستند هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم :" الحج عرفة " ١ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم و الدار قطني والبيهقي من حديث بن معمر، واخرج ابن أبي حاتم عن مسعود بن مخرمة أن رسول الله قال :" يوم عرفة وهذا يوم الحج الأكبر "
قال البغوي قال : جماعة : هو يوم النحر، روي عن يحيى بن الخراز قال : خرج علي رضي الله عنه يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاء رجل أخذ بلجام دابة وسأله عن يوم الحج الأكبر فقال : يومك هذا خل سبيلها، أخرج الترمذي عن علي قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم الحج الأكبر ؟ قال :" يوم النحر " ٢ ويروي ذلك عن عبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير و السدي، قلت : وأخرج أبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال :" هذا يوم الحج الأكبر " قال : البغوي وروى ابن جريح عن مجاهد يوم الحج الأكبر حين الحج أيام منى كلها، وكان سفيان الثوري يقول : يوم الحج الأكبر أيام منى كلها مثل يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث يراد به الحين والزمان فإن هذه الحروب دامت أياما كثيرة ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة يسمى بالحج الأصغر كذا قال : الزهري والشعبي وعطاء والله اعلم.
قالوا : هذه الآية تدل على أن ابتداء الأشهر الأربعة يوم الحج الأكبر، قلت : ليس في آية الأذان يوم الحج الأكبر التقييد بأربعة أشهر حتى يدل على أن ابتداء الأشهر من ذلك اليوم بل قال : الله تعالى ﴿ وأذان من الله ورسوله على الناس يوم الحج الأكبر ﴾ ﴿ أن الله ﴾ : أي بأن الله ﴿ بريء من المشركين ورسوله ﴾ قرأ يعقوب ورسوله بالنصب عطفا على اسم أن أو لأن الواو وبمعنى مع، والباقون بالرفع عطفا على المستكن في برئ على الابتداء والخبر محذوف أي : ورسوله بريء وهذا تعميم بعد تخصيص فإن الآية الأولى فيها براءة مختصة بالذين عوهدوا والمراد به الناكثين منهم بدليل الاستثناء الآتي.
وفي هذه الآية براءة عامة إلى المشركين أجمعين عاهدوا ثم نكثوا أو لم يعاهدوا منهم ولذا قال : إلى الناس فلا تكرار غير أن الذين عاهدوا لم ينكثوا خارجون عن هذه البراءة أيضا لقوله تعالى :﴿ فأتموا إليهم عهدهم ﴾ وليس في هذه الآية الأمر بالسياحة أربعة أشهر حتى يلزم اعتبار ابتداء المدة من هذا اليوم، وعندي أن قوله تعالى :﴿ براءة من الله ورسوله ﴾ و ﴿ أن الله برئ ﴾ وإن كانت نازلة في المشركين الموجودين في ذلك الوقت الناكثين عهودهم في غزوة تبوك وغير المعاهدين منهم لكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص المورد فالآية محكمة ناطقة لوجوب قتال الناكثين وغير المعاهدين أبدا فالمراد بقوله تعالى :﴿ فسيحوا في الأرض ﴾ أربعة أشهر من كل سنة وهي الأشهر الحرم بدليل قوله تعالى ﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم ﴾ الآية وقوله تعالى ﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ﴾ ٣ فإن قيل : قال : قوم القتال في الأشهر الحرم كان كبيرا ثم نسخ بقوله تعالى :﴿ أنفسكم المشركين كافة ﴾ ٤ كأنه يقول فيهن وفي غيرهن، وهو قول قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري وقالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين و ثقيفا بالطائف وحاصر في شوال وبعض ذي العقدة.
قلنا : هذا القول عندي غير صحيح لأن قوله تعالى :﴿ أنفسكم المشركين كافة ﴾ من تتمة قوله تعالى :﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ﴾ ولا بد في الناسخ من التراخي والقول بالتخصيص ههنا غير متصور، والقول بان معنى قوله تعالى : قاتلوا المشركين كافة فيهن وفي غيرهن باطل لأنه يدل على تعميم الإفراد دون تعميم الزمان وحصاره صلى الله عليه وسلم الطائف في بعض ذي القعدة ثابت بأحاديث الآحاد ولا يجوز نسخ الكتاب بها كيف وسورة التوبة نزلت بعد غزوة الطائف، وقد قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم النحر في حجة الوداع قبل وفاته بثمانين يوما :" إن الزمان استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " ٥ الحديث رواه الشيخان في الصحيحين من حديث أبي بكرة، ويحتمل أن يكون جواز حصار الطائف في ذي القعدة مختصا بالنبي صلى الله عليه وسلم أبيح له القتال فيها كما أبيح له القتال في الحرم قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة :" إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله على يوم القيامة وإنه لم يحل القتال لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار " ٦ الحديث متفق عليه من حديث ابن عباس، وفي الصحيحين من حديث أبي شريح العدوي :" فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فيها فقولوا له إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ".
قصة : لما نزلت هذه في شوال سنة تسع بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ليقرأها على الناس في الموسم، وروى النسائي عن جابر انه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر على الحج فأقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج ثوب بالصبح فلما استوى للتكبير سمع الرغوة خلف ظهره ووقف عن التكبير، فقال : هذه رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء لقد بد الرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج فلعله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي معه فإذا علي عليها، فقال : له أبو بكر أمير أم رسول ؟ قال : لا بل رسول أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرأها على الناس في مواقف الحج فقدمنا مكة، فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم حتى إذا فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها ثم خرجنا معه حتى إذا كان يوم عرفة قام أبو بكر فخطب الناس فعلمهم مناسكهم حتى إذا فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم كان يوم النحر فأفضنا فلما رجع أبو بكر خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم كيف ينفرون وكيف يرمون يعلمهم مناسكهم فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها ٧. قال : البغوي : بعث أبا بكر تلك السنة أميرا على الموسم ثم بعث بعده عليا على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر سورة براءة وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفات أن قد برءت ذمة الله وذمة رسوله من كل مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي انزل في شأني شيء قال : لا ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وانك صاحبي على حوضي قال : بلى يا رسول الله، فسار أبو بكر رضي الله عنه أميرا على الحج وعلي رضي الله عنه ليؤذن براءة فلما كان قبل يوم التروية بيوم خطب أبو بكر الناس وورثهم عن مناسكهم وأقام للناس الحج والعرب في تلك السنة على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمر وقرأ عليهم سورة براءة. وقال زيد بن تبغ سألنا عليا بأي شيء أبعثت في الحجة ؟ قال : بعثت بأربع لا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ومن لم يكن له مدة فأجله أربعة أشهر ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا.
روى الشيخان في الصحيحين عن حميد بن عبد الرحمان عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في مؤذني يوم النحر يؤذن بمنى ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، قال : حميد بن عبد الرحمان ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فأمره أن يؤذن ببراءة، قال : أبو هريرة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ٨.
فائدة : هذه القصة صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعزل أبا بكر عن إمارة الحج وإنما بعث عليا ينادي بهذه الآيات، وكان السبب في هذا أن العرب تعارفوا فيما بينهم في عقد العقود ونقضها أن لا يتولى ذلك إلا سيدهم أو رجل من رهط فبعث عليا إزاحة للعلة لئلا يقولوا هذا خلاف ما نعرفه، فينا في نقص العهود وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم :" لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي " أخرج هذا اللفظ احمد والترمذي وحسنه من حديث أنس رضي الله عنه، وما ذكرناه من القصة بعضها في مسند احمد وبعضها في الدلائل للبيهقي من حديث ابن عباس وبعضها في تفسير ابن مردويه من حديث أبي سعيد الخدري وغيره رضي اله عنهم ﴿ فإن تبتم ﴾ رجعتم من الكفر وأسلمتم ﴿ فهو خير لكم ﴾ في الدنيا والآخرة من كل شيء ﴿ وان توليتم ﴾ عن التوبة والإسلام ﴿ فاعلموا أنكم غير معجزي الله ﴾ لا تفوتونه طلبا ولا تعجزونه هربا وتقدير الكلام وإن توليتم يعذبكم الله في الدنيا والآخرة ﴿ وبشر الذين كفروا بعذاب اليم ﴾ بالقتل والأسر في الدنيا وبالنار في الآخرة
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجميع فقد أدرك الحج (٧٧٤)، وأخرجه النسائي في كتاب: مناسك الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة (٣٠٠٧).
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الحج، باب: ما جاء في يوم الحج الكبر (٩٥٣)..
٣ سورة التوبة، الآية ٦٣..
٤ سورة التوبة، الآية: ٣٦..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الأضاحي، باب: من قال الأضحى يوم النحر (٥٥٥٠). وأخرجه مسلم في كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (١٦٧٩).
٦ أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب (١٠٤) وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلالها ولقطتها (١٣٠٤)..
٧ أخرجه النسائي في كتاب: مناسك الحج، باب: الخطبة قبل يوم التروية (٢٩٨٤)..
٨ أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك (١٦٢٢)، وأخرجه مسلم في كتاب: الحج باب: لا يحج بالبيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان (١٣٤٧).
﴿ إلا الذين عاهدتم ثم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ﴾ من عهدهم الذين عاهدتموهم ﴿ ولم يظاهروا ﴾ أي : لم يعانوا ﴿ عليكم أحدا ﴾ من أعدائكم قال : البغوي : هم بنو حمزة من بني كنانة وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر وهم لم ينقضوا العهد ﴿ فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ﴾ أي : إلى تمام مدتهم الذي عاهدتموهم عليه ولا تجروهم مجرى الناكثين ولا مجرى من لا عهد بينكم ﴿ إن الله يحب المتقين ﴾ تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى وقوله تعالى ﴿ إلا الذين عاهدتم ﴾إلخ استثناء من المشركين بمعنى الاستدراك كأنه قيل : إنما أمرتم بنبذ العهد على الناكثين أو بقتال من لا عهد بينكم وبينهم من المشركين لا بقتال المعاهدين مدة معلومة أو مؤيدة غير ناكثين
﴿ فإذا انسلخ ﴾ أي انقضى واصل الانسلاخ خروج الشيء ما هو لابسه من سلخ الشاة ﴿ الأشهر الحرم ﴾ قال مجاهد وابن إسحاق هي شهور العهد فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء الحرم خمسين يوما، وقيل لها حرم لأن الله حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم فإن قيل : هذا القدر بعض الأشهر الحرم والله تعالى يقول :﴿ فإذا انسلخ الأشهر ﴾ قيل : لما كان هذا القدر متصلا بما مضى أطلق عليه اسم الجميع ومعناه مضت المدة المعلومة المضروبة التي يكون مع انسلاخ الأشهر الحرم من كل سنة ﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ غير من عوهدوا ولم ينقضوا ﴿ حيث وجدتموهم ﴾قال : أكثر المفسرين في تفسيره في حل أو حرم وهذا يناقض قوله صلى الله عليه وسلم " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وانه لم يحل القتال لأحد قبل ولا يحل لي إلا ساعة من النهار ١ " وقوله صلى الله عليه وسلم : فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له إن الله قد أذن رسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس " والحديثان في " الصحيحين " وقد ذكرنا هما من قبل، وقوله عليه السلام :" إلى يوم القيامة " يمنع كونه منسوخا فالأولى ان يقال : عموم الأمكنة المفهوم من هذه الآية مخصوص بما سوى الحرم.
مسألة
القتال في الحرم والشهر الحرام يحل إن بدأ المشركون بالقتال لقوله تعالى :
﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾٢ الآية وقد ذكرنا في سورة البقرة ﴿ وخذوهم ﴾ أي أسروهم و الأخيذ الأسير ﴿ واحصروهم ﴾قال : ابن عباس يريد إن تحصنوا فاحصروهم أي : امنعوهم من الخروج حتى يضطروا إلى القتل أو الإسلام أو قبول الجزية وقيل : امنعوهم دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام ﴿ واقعدوا لهم كل مرصد ﴾على كل طريق والمرصد الموضع الذي يرصد فيه العدو من رصدت الشيء أرسده إذا ترقبته يريد كونوا لهم رصدا لتأخذوهم من كل وجه توجهوا ولا تتركوهم ينبسطوا في البلاد ويدخلوا مكة ﴿ فان تابوا ﴾ من الشرك ﴿ وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة ﴾ يعني قبلوا أقام الصلاة وإيتاء الزكاة ﴿ فخلوا سبيلهم إن الله غفور ﴾ لمن تاب ﴿ رحيم ﴾، قال : الحسن بن فضيل هذه الآية نسخت كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء.
١ أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب (١٠٤) وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها ولقطتها (١٣٥٤).
٢ سورة البقرة، الآية: ١٩٤..
﴿ وان احد من المشركين ﴾ الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم أحد مرفوع بفعل مضمر يفسره ﴿ استجارك ﴾ استأمنك وطلب منك جوارك ﴿ فأجره ﴾فأمنه ﴿ حتى يسمع كلام الله ﴾ ويتدبر فيظهر له صدقك بإعجازه ويعلم ماله وما عليه من الثواب ومن العقاب ﴿ ثم ابلغه مأمنه ﴾ أي موضع أمنه ودار قومه عن لم يسلم فإن قاتلك بعد ذلك فقاتله واقتله إن قدرت عليه ﴿ ذلك ﴾ الأمن أو الأمر ﴿ بأنهم قوم لا يعلمون ﴾ الحق من الباطل فلا بد لهم من سماع كلام الله تعالى حتى يعلموا قال : الحسن هذه الآية محكمة على يوم القيامة
﴿ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ﴾ خبر يكون كيف وقدم للاستفهام أو المشركين أو عند الله وهو على الأولين صفة للعهد أو ظرف له أو ليكون وكيف على الآخرين حال من العهد وللمشركين إن لم يكن خبرا فتبين والاستفهام للإنكار والاستبعاد على وجه التعجيب، استبعاد لأن يكون لهم عهد ولا ينكثوه مع كمال عنادهم وفسقهم أو لن يفي الله ورسوله وهم ينكثون ﴿ إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ﴾ محله النصب على الاستثناء أوجرعلى البدل وجازان يكون استثناء منقطعا ان كان المراد بالمشركين الناكثين منهم أي ولكن الذي عاهدتهم منهم عند المسجد الحرام ﴿ فما استقاموا لكم ﴾ على العهد ﴿ فاستقيموا لهم ﴾ على الوفاء وما يحتمل الشرطية والمصدرية قال : ابن عباس المراد بالدين عاهدتم عند المسجد الحرام قريش، وقال قتادة هم أهل مكة الذي عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، أمر الله رسوله بالتبصر في أمرهم إن استقاموا على العهد يستقام لهم على الوفاء فلم يستقيموا ونقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة فغزا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح مكة ثم جعل لهم الأمان وضرب لهم بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم ما شاؤوا إلا أن يسلموا وإما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا وإن أسلموا قبل الأربعة الأشهر، وقال السدي والكلبي وابن إسحاق هم من قبائل بكر بنو خزيمة وبنو مدلج وهو ضمرة وبنو الديل، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية فلم يكن نقض إلا قريش وبنو الديل من بني بكر فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض وهم بنو ضمرة قال : البغوي : هذا القول أقرب للصواب لأن هذه الآية نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكة فكيف يقول بشيء قد مضى فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم فإنما هم الذين قال : الله عز وجل : إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقضوكم شيئا كما نقضكم قريش ولم يظاهروا عليكم أحدا كما ظاهرت قريش بنو بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ إن الله يحب المتقين ﴾ والاستقامة على لإيفاء العهد من التقوى
﴿ كيف ﴾ تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أو بقاء حكم إيفاء عهدهم مع التنبيه على علة الاستبعاد وحذف الفعل للعلم به يعني كيف يكون لهم عهدوا حالهم انه ﴿ وان يظهروا عليكم ﴾ أي : يظفروا بكم ﴿ لا يرقبوا ﴾ أي لا يحفظوا.
وقال الضحاك : لا ينظروا وقال قطرب : لا يراعوا ﴿ فيكم إلا ﴾ قال : قتادة حلفا وقال ابن عباس والضحاك : قرابة، وقال يمان رحما وقال السدي : وهو العهد وكذلك الذمة إلا أنه كررلاختلاف اللفظين وقيل : ربوبية، قال : البيضاوي : لعله اشتق للحلف من الآل وهو الجواز لأنهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا أصواتهم وشهروه ثم استعير للقرابة لأنها لعقد بين الأقارب ما لا يعقد الحلف للربوبية والتربية ولعل اشتقاقة من آل الشيء إذا حدده أو آل البرق إذا لمع، وقال أبو مجيز ومجاهد : الآل هو الله لفظ عبري وكان عبيد بن عمير يقرأ بالتشديد يعني عبد الله وفي الخبر أن ناسا قدموا على أبي بكر من قوم مسيلمة الكذاب فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة فقرؤا فقال : أبو بكر رضي الله عنه : إن هذا الكلام لم يخرج من آل يعني الله عز وجل، والدليل على هذا التأويل قراءة عكرة لا يرقبون في مؤمن إلا يعني الله عز وجل مثل جبرئيل وميكائيل وفي القاموس الإل بالكسر العهد والحلف والجار والقرابة والأصل الجيد والحقد والعداوة والربوبية واسم الله تعالى وكل اسم آخره آل و إيل فمضاف إلى الله تعالى والوحي والأمان والجزع عند المصيبة ﴿ ولا ذمة ﴾ عهدا أو حقا يعاب على إغفاله ﴿ يرضونكم بأفواههم ﴾ أي يقولون أقوالا موجبة مرضائكم نفاقا وتقية من الوعد بالإيمان والطاعة ووفاء العهد ﴿ وتأبى قلوبهم ﴾ وما يتفوهون ويستنبطون الكفر والمعادة بحيث إن ظفروا خالفوا ما تفوهوا به، جملة يرضونكم مستأنفة لبيان أحوالهم المنافية لثباتهم على العهد المقتضية لعدم مراقبتهم عند الظفر، ولا يجوز جعله حالا من فاعل لا يرقبوا فإنهم بعد ظهورهم لا يرضون المؤمنين ﴿ وأكثرهم فاسقون ﴾ المراد بالفسق هاهنا نقض العهد وكان بعض المشركين يوفون العهود ويستنكفون من نقضها ولذلك خصص الفسق بأكثرهم دون كلهم
﴿ اشتروا بآيات الله ﴾استبدلوا فالقرآن ﴿ ثمنا قليلا ﴾ عوضا يسيرا من أعارض الدنيا قال : البغوي : ذلك أنهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكلة أطعمهم أبو سفيان قال : مجاهد : أطعم أبو سفيان حلفاؤه ﴿ فصدوا عن سبيله ﴾ يعني منعوا الناس من الدخول في دين الله والفاء للدلالة على أن اشتراهم أداهم إلى الصد قال : ابن عباس : وذلك آن أهل الطائف أمدهم بالأموال ليقووا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ إنهم ساء ما كانوا يعملون ﴾ أي : عملهم هذا وما دل عليه قوله ﴿ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ﴾
﴿ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ﴾ فهو تفسير لقوله ما كانوا يعلمون لا تكرير، وقيل : الأول عام في المنافين وهذا خاص بالذين اشتروا وهم اليهود والأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم ﴿ وأولئك هم المعتدون ﴾المجاوزون عن الحد في الشرارة
﴿ فان تابوا ﴾ عن الشرك ﴿ وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فإخوانكم ﴾ أي فهم إخوانكم ﴿ في الدين ﴾ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم ﴿ ونفصل الآيات ﴾ تنبيها ﴿ لقوم يعلمون ﴾ اعتراض للحث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين والتائبين قال : ابن عباس : حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة، قال ابن مسعود : أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له.
روى البخاري وغيره عن أبي هريرة قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر وكفر من كفر من العرب فقال : عمر : تقاتل الناس وقد قال : النبي صلى الله عليه وسلم :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهد أن لا إله إلا لله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله " فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عن منعها، وقال : عمر : فو الله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق١.
وعن انس بن مالك قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة وذمة رسوله " ٢ رواه البخاري، وفي الصحيحين " عن ابن عمر قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وان محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " ٣ إلا أن مسلما لم يذكر " وحسابهم على الله "
١ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة (١٤٠٠)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (٢٠).
٢ أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب: فضل استقبال القبلة (٣٩٢)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: ﴿فإن تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم﴾ (٢٥)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: المر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (٢٢).
﴿ وان نكثوا أيمانهم ﴾ أي : نقضوا عهودهم ﴿ من بعد عهدهم ﴾ كما نكث كفار قريش ﴿ وطعنوا في دينكم ﴾ بالتكذيب وتقبيح الأحكام قال : البغوي : هذا دليل على أن الذي إذا طعن في دين الإسلام ظاهر ألا يبقى له عهد، قلت : وهذا الاستدلال ضعيف فإن الشرط مجموع المرين نقض العهد والطعن في الدين فلا يترتب الحكم على احدهما ﴿ فقاتلوا أئمة الكفر ﴾ قرأ الكوفيون وابن عامر بهمزيتن محققتين حيث وقع وفي رواية عن هشام انه أدخل بينهما ألفا والباقون بهمزة وياء مختلسة الكسرة من غير مد، وضع أئمة الكفر موضع الضمير والمعنى فقاتلوهم للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر أحقا بالقتل وقيل : المراد بأئمة الكفر رؤوس المشركين وقادتهم وهم أهل مكة ووجه تخصيصهم بالذكر إما أن قتلهم أهم وهم أحق به أو للمنع عن مراقبتهم، قال : ابن عباس نزلت في أبي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمر وعكرمة بن أبي جهل وسائر رؤساء قريش يومئذ الذي نقضوا العهد،
وهم الذين هموا بإخراج أهلها بعد ﴿ إنهم لا أيمان لهم ﴾ أي : لا عهود لهم جمع يمين يعني لا يجب عليكم وفاء عهودهم بعدما نكثوا وقال قطرب : لا وفاء لهم بالعهد وقرأ لا إيمان لهم بكسرة الهمزة أي : لا تصديق لهم ولا دين لهم وقيل : هو من الأمان أي : لا تؤمنوا بل أقتلوهم حيث وجدتموهم ﴿ لعلهم ينتهون ﴾ متعلق بقاتلوا وجملة أنهم لا إيمان لهم معترضة بينهما أي : ليكن غرضكم في المقاتلة أن ينتهوا عما هم عليه من الشرك والمعاصي لإيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين ولا إحراز لمال والملك كما هو أدب السلاطين
ثم حث المسلمين على القتال فقال :﴿ ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم ﴾ يعني نقضوا عهودهم ﴿ وهموا بإخراج الرسول ﴾ قيل : المراد به اليهود وغيرهم من المنافقين وكفار المدينة نكثوا عهودهم حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك وهموا بإخراجه صلى الله عليه وسلم من المدينة حيث قالوا : لعنهم الله ﴿ ليخرجن الأعز منها الأذل ﴾١ ﴿ وهم بدؤكم ﴾ بالمعاداة حيث عاونوا المشركين عليه ﴿ أول مرة ﴾ قبل أن يقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أظهر لن السورة نزلت بعد غزوة تبوك وقد أسلم أهل مكة قبل ذلك، وأيضا هموا بإخراج الرسول يدل على أنهم هموا بذلك ولم ينالوا به بخلاف أهل مكة هموا قتله واضطروه إلى الخروج، فأخرجوا كما قال تعالى ﴿ وإخراج أهله عند الله ﴾ ٢وقال بعض المفسرين المراد بالذين نكثوا أيمانهم الذين نقضوا صلح الحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة وهموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة وهم بدأوكم بالقتال أول مرة لأنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالدعوة وإلزام الحجة بالكتاب والتحدي به فعدلوا عن معارضته إلى المعاداة والمقاتلة حتى اجتمعوا في دار الندوة، واجمعوا على قتله، أو لأن أبا جهل قال : يوم بدر بعد ما سلم العير لا ننصرف حتى نستأصل محمدا وأصحابه، أو لأنهم بدأوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا التأويل لا يتصور إلا إذا كان نزول هذه الآيات قبل فتح مكة وحينئذ يستقيم ما قال : ابن عباس أن قوله تعالى :﴿ وإن نكثوا أيمانهم ﴾ ﴿ وطعنوا في دينكم ﴾ نزلت في أبي سفيان وغيره المذكورين من قبل وقوله تعالى ﴿ إلا الذي عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا ﴾ المراد به أمر الله رسوله بالتربص في أمرهم إن استقاموا على العهد يستقام لهم لكنهم لم يستقيموا والله أعلم ﴿ أتخشونهم ﴾ أتتركون قتالهم خشية أن ينالكم مكروه منهم استفهام للإنكار يعني لا ينبغي ذلك ﴿ فالله أحق أن تخشوه ﴾ في ترك إمتثال أمر في قتال أعداءه، والفاء للسببية فإن كون الله تعالى أحق ان يخشى سبب للإنكار على الخشية من غيره ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ شرط استغنى عن الجزاء بما مضى يعني إن كنتم مؤمنين فلا تخشوا إلا الله، فإن مقتضى الإيمان هذا لأن من يعتقد أن خالق الأشياء الجواهر والإعراض و إفعال العباد ليس إلا الله وان أحدا لا يستطيع النفع والضرر غلا بمشيئة الله تعالى وإرادته لا يخشى أحد غيره تعالى
ثم لم وبخهم على ترك القتال جرد لهم الأمر به فقال :﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ﴾
١ سورة المنافقون، الآية: ٨..
٢ سورة البقرة، الآية ٢١٧.
﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ﴾ قتلا ﴿ ويخزهم ﴾ ويذلهم أسرا وقهرا ﴿ وينصركم عليهم ﴾ وعد لهم بالنصر والتمكن من قتل أعدائهم وإذلالهم، ﴿ ويشف صدور قوم مؤمنين ﴾
﴿ ويذهب غيظ قلوبهم ﴾ يعني كربها ووجدها بمعونة قريش بني بكر عليهم، اخرج أبو الشيخ عن قتادة قال : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في خزاعة حين جعلوا يقتلون بني بكر بمكة، واخرج عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في خزاعة، وأخرج السدي ويشف صدور قوم مؤمنين قال : هم خزاعة خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشف صدورهم من بني بكر وفي الآية معجزات ﴿ ويتوب الله على من يشاء ﴾ ابتداء أخبار بأن بعضهم يتوب عن كفره وكان ذلك أيضا معجزة وقد هدى إلى الإسلام كثيرا من قريش مثل أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو﴿ والله عليم ﴾ بما كان وما يكون ﴿ حكيم ﴾ لا بفعل إلا بمقتضى الحكمة، قال : البغوي : روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يوم الفتح ارفعوا إلا خزاعة عن بني بكر إلى العصر
﴿ أم حسبتم ﴾ خطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال، وقيل : المنافقين وأم منقطعة بمعنى بل والهمزة، والاستفهام للتوبيخ على الحسبان ﴿ أن تتركوا ﴾ فلا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب ﴿ ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ﴾ يعني لم يتحقق منكم من جاهد في سبيل الله، نفي العلم وأراد نفي المعلوم للمبالغة فإنه كالبرهان عليه من حيث أن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه وعلى طريق ذكر اللازم وإرادة الملزوم فإن وقوع شيء لا يمكن أن يتخلف من علم الله تعالى به ﴿ ولم يتخذوا ﴾ عطف على جاهدوا يعني ولما يعلم الله الذين لم يتخذوا ﴿ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ﴾ بطانة يولونهم ويفشون إليهم أسرارهم.
وفي لما الإشارة صلى الله عليه وسلم :" لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر اللهم وهم على ذلك " ١ متفق عليه من حديث معاوية وروى ابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة نحوها والحاكم وصححه عن عمر بلفظ :" لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ فيه دفع لما يتوهم من ظاهر قوله تعالى ولما يعلم الله،
١ أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: ٢٨ رقم الحديث (٣٦٤١).
قال : البغوي قال : ابن عباس لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ على القوم، فقال : العباس مالكم تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا فقال : علي لكم محاسن قال : نعم، إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج فانزل الله تعالى ردا على العباس ﴿ ما كان للمشركين ﴾ الآية أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحاك، واخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه بلفظ قال : العباس : إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد ولقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني ما صح للمشركين وما ينبغي لهم ﴿ أن يعمروا مساجد الله ﴾ يعني شيئا من المساجد فضلا عن المسجد الحرام فإنه يجب على المسلمين منهم من ذلك لأن مساجد الله إنما يعمر لعبادة الله وحده فمن كان كافرا بالله فليس من شأنه أن يعمروها، فذهب جماعة إلى ان المراد منه لعمارة المعروفة من بناء المسجد ومرمته عند الخراب فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى به لا ينفذ وحمل بعضهم العمارة هاهنا على دخول المسجد والقعود فيه، اخرج أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا رأيتم الرجل يعامر المسجد فاشهدوا له بالإيمان قال : الله تعالى ﴿ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله ﴾١ وقال الحسن ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب مسجد الله على التوحيد والمراد الجنس وقيل : أرد به المسجد الحرام لقوله وعمارة المسجد الحرام ولقوله تعالى :﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام ﴾ وذلك هو المراد بصيغة الجمع، قال : الحسن إنما قال : مساجد الله لأنه قبلة المساجد كلها فكان عمارته عمارة الجميع، وقال الفراء ربما ذهبت العرب بالواحد على الجمع وبالجمع إلى الواحد ألا ترى أن الرجل يركب البرذون ويقول : أخذت في ركوب البراذين ويقال : فلان كثير الدرهم والدينار يريد الدراهم والدنانير ﴿ شاهدين على أنفسهم بالكفر ﴾ أي : مظهرين الشرك وتكذيب الرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حال من ضمير يعمروا والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة بيت الله وعبادة غيره، وقال الحسن لم يقولوا نحن كفار ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر.
وقال الضحاك عن ابن عباس شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام وذلك أن كفار قريش نصبوا الأصنام خارج البيت الحرام عند القواعد وكانوا يطوفون بالبيت عراة كلما طافوا شوطا سجدوا لأصنامهم، وقال السدي شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو ان النصراني يسأل فيقال : من أنت فيقول : نصراني واليهودي يقول : يهودي ونحو ذلك ﴿ أولئك حبطت أعمالهم ﴾ التي يفتخرون بها ويزعمونها محاسن من سقاية الحاج وعمارة البيت وفك العاني لأنها ليست لله تعالى خاصا ﴿ وفي النار هم خالدون ﴾ لأجل الكفر والمعاصي وحبط الحسنات
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (٢٦١٧).
﴿ إنما يعمر مساجد الله من امن بالله واليوم الأخر وأقام الصلاة واتى الزكاة ولم يخش إلا الله ﴾ أي : لم يخف في الدين غير الله ولم يشرك أمر الله مخافة غيره وإلا فالخشية من المخاوف أمر جبلي لا يكاد العاقل يتمالك عنها خص الله سبحانه عمارة المسجد بالمؤمنين فإنهم هم الجامعون لهذه الكمالات العلمية والعملية وإنما لم يذكر الإيمان بالرسول بالله كما ينبغي لا يتصور إلا أخذا من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ثم قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :" شهادة أن لا إله إلا الله وان محمد رسول الله " ١ الحديث في الصحيحين عن ابن عباس في قصة وفد عبد القيس والمراد بعمارة المسجد إدامة العبادة والذكر فيه ودرس العلم والقرآن.
عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد "
وفي لفظ :" يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله تعالى قال :﴿ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ﴾ ٢ رواه الترمذي وابن ماجة والدرامي و البغوي، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من إذا إلى مسجد أو راح أعد الله له منزلة من الجنة كلما غدا أو راح " ٣ وعن أبي هريرة قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سبعة يظلهم الله ظله يوم لا ظل إلا ظله – وذكر فيهم – رجل قلبه معلق بالمساجد إذا خرج منى حتى يعود فيه " ٤ متفق عليه، وعن سلمان رضي الله عنه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من توضأ في بيته وأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائير الله حق على المزور أن يكرم زائره " رواه الطبراني وعبد الرزاق وابن جرير في تفسيرها و للبيهقي في " شعب الإيمان " وعن عمرو بن ميمون قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : إن بيوت الله في الأرض المساجد وإن حقا على الله أن يكرم من زاره فيها رواه البيهقي في " شعب الإيمان " وعبد الرزاق بن جرير في تفسيرها، وعن عمارة المسجد بنائها وتزينيها وتنويرها بالسرج وصيانتها مما لم تبن له، كحديث الدنيا والبيع والشراء وغير ذلك عن محمود بن لبيد أن عثمان بن عفان أراد بناء المسجد فكره الناس وأحبوا أن يدعه قال : عثمان : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من بنى مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة " وفي رواية :" بنى الله له كهيئته في الجنة " وفي لفظ :" من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة " ٥ رواه أحمد والشيخان في " الصحيحين " والترمذي وصححه وابن ماجة و البغوي وكذا روى ابن ماجة عن علي، وروى أحمد عن ابن عباس بسند صحيح " من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة لبيضها بنى الله له بيتا في الجنة أوسع منه "
وعن أبي هريرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا " ٦ رواه مسلم، وعن عائشة قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد في الدور وأن ينظف ويتطيب٧ رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المسجد وعن البيع و الاشتراء فيه وأن يتحقق الناس قبل الصلاة في المسجد ٨ رواه أبو داود والترمذي، وعن أبي هريرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد ضالة فقولوا لا رد اله عليك " ٩ رواه الترمذي والدارمي والله اعلم.
﴿ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ﴾المتمسكين بطاعة الله التي يؤدي إلى الجنة، ذكر بصيغة التوقع قطعا لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم وتوبيخا لهم في القطع بأنهم مهتدون فإن هؤلاء مع كمالهم إذا كان ابتدائهم دائر بين عسى ولعل فما ظنك بأضدادهم ومنعا للمؤمنين بأن يغتروا بأعمالهم ويتكلوا عليها، أخرج أبو نعيم عن علي رضي الله عنه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل قل لأهل طاعتي من أمتك : أن لا يتكلوا على أعمالهم فغني لا أنا أصيب عبد الحساب يوم القيامة أشاء أعذبه إلا عذبته وقل لهل معصيتي من أمتك : أن لا تلقوا بأيديكم فإني أغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي " والله اعلم.
١ أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب: أداء الخمس من الإيمان (٥٣)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين (١٧).
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (٢٦١٧)، وأخرجه ابن ماجة في كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: لزوم المساجد وانتظار الصلاة (٨٠٢)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: فضل من إذا إلى المسجد وراح (٦٦٢)، وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضيع الصلاة، باب: المشي على الصلاة تمحى به الخطايا (٦٦٩).
٤ أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: من جلس في السجد ينتظر الصلاة وفضل الساجد (٦٦٠)، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة (١٠٣١).
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: من بنى مسجدا (٤٣٩)، وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل بناء المساجد والحث عليها (٥٣٣).
٦ أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضيع الصلاة، باب: النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد (٥٦٨)..
٧ أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: اتخاذ المساجد في الدور (٤٥٤)، وأخرجه الترمذي في كتاب: الجمعة، باب: ما ذكر في تطييب المساجد (٥٩٠) وأخرجه ابن ماجة في كتاب: المساجد والجماعات، باب: تطهير المساجد وتطييبها(٧٥٨).
٨ أخرجه الترمذي في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في كراهية البيع والشراء الضالة والشعر في المسجد (٣١٩).
٩ أخرجه الترمذي في كتاب: البيوع، باب: النهي عن البيع في المسجد (١٣٢١).
أخرج مسلم وابن حبان وأبو داود عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فقال : رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أيقي الحاج، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيه فيما خلفتم فيه فأنزل الله تعالى :
﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ الآية ١ وأخرجه الفريابي وابن سيرين قال : قدم علي بن أبي طالب مكة فقال : لعباس أي عم ألا تهاجر ألا تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أعمر المسجد الحرام وأحجب البيت فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال البغوي : قال : ابن عباس قال : العباس حين أسر يوم بدر لئن سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فأنزل الله تعالى هذه الآية وأخبر وعمارة المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لا ينفعهم مع الشرك بالله والإيمان بالله والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم مما هم عليه، وقال البغوي قال : الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرظي وكذا أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي أنها نزلت في علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة افتخروا فقال : طلحة : أنا صاحب البيت بيدي مفاتيحه وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال علي ما أدري ما يقولون لقد صليت إلى القبلة ستة سنة يعني قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله :﴿ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن امن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ﴾ السقاية والعمارة مصدران من أسقى وعمر فلا بد هاهنا من تقدير أما أن يقال بحذف المضاف في المشبه أو في المشبه به فيقال : أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كم آمن أو يقال أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد كإيمان من آمن بالله وجهاد من جاهد، وإما أن يقال المصدر بمعنى الفاعل يعني ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام كقوله تعالى :﴿ العاقبة للمتقين ﴾ ٢ يؤيد قراءة عبد الله بن الزبير أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام. . . على جمع الساقي والعامر، والاستفهام للإنكار فإن كان نزول الآية في اختلاف المؤمنين بالمشركين كما يدل عليه قول ابن عباس ومحمد بن كعب وغيرهما فلا خفاء في إنكار المشابهة بين المشركين وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة وغن كان نزولها في اختلاف المؤمنين كما روى مسلم عن النعمان بن بشير، بالمراد بعمارة المساجد بنائها دون إدامة الذكر والصلاة فيها فإن دوام الذكر أفضل الجهاد لقوله صلى الله عليه وسلم :" ما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله " ٣ رواه مالك والترمذي وابن ماجة من حديث معاذ بن جبل، ورواه البيهقي في الدعوات الكبير من حديث عبد الله بن عمر وزاد قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال :" ولا الجهاد في سبيل الله غلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع " وقوله صلى الله عليه وسلم :" ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى، قال : ذكر الله " ٤ رواه أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي الدرداء ورواه مالك موقوفا على أبي الدرداء، وعن أبي سعيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العباد أفضل وأرفع درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات، وقيل : يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه في الكفار حتى ينكسر أو يختضب دما فإن الذاكر لله أفضل منه درجة " ٥ رواه احمد والترمذي وقال : حديث غريب والله اعلم
﴿ لا يستوون عند الله ﴾ تقرير لعدم المشابهة ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ هذا يؤيد قول من قال : أن المراد عدم الاستواء بين نعل المؤمنين من الإيمان والجهاد وفعل المشركين من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، والمعنى والله لا يهدي القوم الظالمين بالشرك فكيف يساوون الذي هداهم الله ووفقهم للحق والصواب، وقيل : المراد بالظالمين الذي يحكمون بالمساواة بينهم وبين المؤمنين والله اعلم.
قصة استقاء من زمزم
روى البخاري وغيره عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : جاء إلى السقاية فاستقى، فقال : العباس : يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال : اسقني فقال يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال اسقني فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها فقال : اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه وأشار إلى عاتقه " ٦ وروى مسلم عن بكر بن عبد الله المزني قال : كنت جالسا مع ابن عباس رضي الله عند الكعبة فأتاه أعرابي فقال : مالي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وانتم تسقون النبيذ أمن حاجة بكم أم من بخل ؟ فقال : ابن عباس رضي الله عنهما : الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فقال : أحسنتم وأجملتم كذا فاصغوا فلا نريد أن نغير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ٧
١ أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الشهادة في سبيل الله تعالى (١٨٧٩).
٢ سورة طه، الآية: ١٣٢..
٣ أخرجه الترمذي موقوفا على معاذ في كتاب: الدعوات (٣٥٩٥)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات (٣٣٧٧)، وأخرجه ابن ماجة في كتاب: الدب، باب، باب: فضل الذكر (٣٧٩٠).
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات (٣٣٧٦)..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: سقاية الحاج (١٦٣٥).
٧ أخرجه مسلم في كتاب: الحج باب: وجوب المبيت بمنى ليالي أيام التشريف والترخيص في تركه لأهل السقاية (١٣١٦)، وأخرجه أبو داود في كتاب: المناسك، باب: في نبيذ السقاية (٢٠٢١)..
﴿ الذين امنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة ﴾ أعلى رتبة وأكثر كرامة ﴿ عند الله ﴾من الذين افتتحوا بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج أو ممن لم يستجمع هذه الصفات من المؤمنين ﴿ وأولئك هم الفائزون ﴾ الناجون من النار الواصلون إلى الجنة والدرجات العلى دون المشركين وإن كانوا سقاة الحاج وعمار المسجد.
﴿ يبشرهم ﴾ قرأ حمزة بالتخفيف من الأفعال والباقون بالتشديد من التفعل ﴿ ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها ﴾ أي في الجنات ﴿ نعيم مقيم ﴾ دائم تنكير المبشر به للإشعار بأنه وراء التعيين والتعريف
﴿ خالدين فيها أبدا ﴾ أكد الخلود بالتأبيد لأنه قد يستعمل للمكث الطويل ﴿ إن الله عنده اجر عظيم ﴾ يستحقر دونه ما استوجبوا لأجله أو نعم الدنيا والله اعلم.
﴿ يأيها الذين امنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ﴾ قال : البغوي : قال : مجاهد هذه الآية متصلة بما قبلها نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة فمنهم من تعلق به أهله وولده يقولون ننشدك بالله أن يقنعنا فيرق عليهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال مقاتل : نزلت في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة فنهى الله المؤمنين عن ولايتهم وانزل هذه الآية يعني لا تتخذوهم أولياء بطانة وأصدقاء فتفشون غليهم أسراركم وتؤثرون المقام معهم على الهجرة إت استحبوا أي : اختاروا الكفر على الإيمان كذا روى الثعلبي عنه ﴿ ومن يتولهم منكم ﴾فيطلعهم على عورات المسلمين ويؤثرون المقام. . . معهم على الهجرة والجهاد ﴿ فأولئك هم الظالمون ﴾ لوضعهم الموالاة في غير موضعه فإن محل موالاة المسلمين المسلمون قال : البغوي لما نزلت الآية المذكورة قال : الذين أسلموا ولم يهاجروا إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا
فنزلت :﴿ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ( ٢٤ ) ﴾
﴿ قل ﴾يا محمد للمتخلفين عن الهجرة ﴿ إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم ﴾ قرأ أبو بكر عن عاصم وعشيراتكم بالألف على الجمع والباقون بلا ألف يعني أقربائكم مأخوذ من العشرة ﴿ وأموال اقترفتموها ﴾ أي اكتسبتموها ﴿ وتجارة تخشون كسادها ﴾ أي فوت وقت رواجها ونفاقها ﴿ ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله ﴾ فقعدتم لأجله عن الهجرة والجهاد ﴿ فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ﴾ جواب ووعيد، قال : عطاء : بقضائه يعني بالعقوبة العاجلة والآجلة وقال مجاهد ومقاتل : بفتح مكة ﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ الخارجين عن طاعة الله تعالى أي : لا يرشدهم، قال : البيضاوي : المراد الحب الاختياري يعني إيثار هذه الأشياء وترك إمتثال أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم دون الحب الطبيعي فإنه لا يدخل تحت التكليف والتحفظ عنه قلت : وكمال الإيمان أن يكون الطبيعة تابعة للشريعة فلا يقتضي الطبيعة إلا ما يأمره الشريعة قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أحب الله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد اكتمل الإيمان " وفي رواية " فقد استكمل " الصحيحين " عن انس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " والمراد لا يؤمن إيمانا كاملا وفيهما عنه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبدا لا يحب إلا الله ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار " ١ قلت : وجد ان حلاوة الإيمان عبارة عن الاستلذاذ به كما يستلذذ الرجل بالشهوات الطبيعية، وذلك كما الإيمان ولا يكتب ذلك إلا من مصاحبة أرباب القلوب الصافية والنفوس الزاكية رزقنا الله سبحانه وهذه الآية وما ذكرنا من الأحاديث يوجب افتراض اكتساب التصوف من خدمة المشايخ رضي الله عنهم أجمعين، ومعنى قوله تعالى ﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ يعني لا يرشدهم إلى معرفته، قال : البيضاوي : في الآية تشديد عظيم وقل من يتخلص عنه، قلت ذلك القليل هو الصوفية العلية قال : صاحب المدارك الآية تنعي على الناس ماهم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين إذ تجد من أروع الناس من يستجب دينه على الآباء والأبناء والأموال وحظوظ الدنيا، قلت : إلا من أعطاه الله معرفته فيقول ما قال : الشاعر بالفارسية :
انكس كه تراشناخت جان راجه كند فرزند وعيال وخان ومان راجه كند
ديوانه كنى هردوجها نش بخشى ديوانه توهر دوجها نراجه كند
١ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان باب: حلاوة الإيمان (١٦)، واخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان (٤٣)..
﴿ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ﴾ يوم بدر و قينقاع والأحزاب والنضير أو قريظة والحديبية وخيبر وفتح مكة وغيرها قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" نصرت بالرعب مسيرة شهر " ١ ﴿ ويوم حنين ﴾ عطف على مواطن إما بتقدير المضاف في المعطوف يعني مواطن حنين أو في المعطوف عليه يعني في أيام مواطن كثيرة أو يفسر المواطن بالأوقات كمقتل الحسين رضي الله عنه ﴿ إذ أعجبتكم كثرتكم ﴾ وكانوا اثني عشر ألفا أو أربعة عشر ألفا كما سيجيء في القصة والكفار أربعة ألاف كذا جزم غير واحد، وجزم الحافظ وغيره بأنهم كانوا ضعف عدد المسلمين أو أكثر من ذلك فعلى هذا كان المشركون أربعة وعشرين ألفا أو ثمانية وعشرين ألفا وقوله إذ أعجبتكم بدل من يوم حنين ولم يمنع إبداله منه أن يعطف على موضع من مواطن فإنه لا يقتضي مشاركتهما فيما أضيف إليه المعطوف حتى يقتضي كثرتهم وإعجابهم كثرتهم في جميع المواطن، و حنين واد بين مكة والطائف إلى جنب ذي المجاز قريب من الطائف بينه وبين مكة بضع عشر ميلا حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن وهو قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون وهو هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن غيلان بن إلياس بن مضر و ثقيف بطن منها.
قصة غزوة حنيين
قال أئمة المغازي : لما فتح رسول الله مكة في رمضان سنة ثمان من الهجرة مشت أشراف هوزان و ثقيف بعضها إلى بعض وأشفقوا أن يغيروهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : قد فرغ لنا فلانا ناحية له دوننا والرأي أن نغزوه فأجمعوا أمركم فسيروا في الناس وسيروا إليه قبل أن يسير إليكم، فاجتمعت هوازن وجمعها مالك بن عوف بن سعيد بن ربيعة النضري واسلم بعد ذلك واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها ونصر وجشم كلها وسعد بن بكر ناس من بني هلال وهم قليل لا يبلغون مائة ولم يشهدها من قيس بن غيلان ولم يحضرها من هوزان كعب ولا كلاب مشى فيها ابن أبي براء فنهاها عن الحضور وقال : والله لو نادى أي عادى محمد ما بين المشرق والمغرب لظهر عليهم، وكان في جشم دريد بن الصمة ابن ستين ومائة سنة أو عشرين ومائة سألوا دريد الرئاسة عليهم لرأيه قال : ما أبصر ولا أستمسك على الدابة ولكن احضر معكم لأن أشير عليكم برأي على أن لا تخالفوني فإن تخالفوني لا اخرج فجاءه مالك بن عوف وكان أمر الناس إليه وهو ابن ثلاثين سنة فقال : لا نخالفك فلما اجمع مالك المسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس فخرجوا معهم بأموالهم ونسائهم ثم انتهى إلى أوطاس فعسكر به وجعلت الأمداد تأتيه منة كل جهة وأقبل دريد بن الصمة فقال : مالي أسمع بكاء الصغير ورغاء البعير ونهيق الحمير ويعار الشاة وخوار البقر قالوا : ساق مالك مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فقال : دريد لمالك لم سقت ؟ قال : أردت أن اجعل خلف كل إنسان أهله وماله يقاتل عنهم فقال دريد هذا راعي ضأن ماله وللحرب وصفق دريد إحدى يديه على الأخرى تعجبا هل يرد المنهوم شيء إنها كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك أرفع النساء والذراري والموال إلى عليا قومهم ممتنع بلادهم ثم الق القوم على متون الخيل والرجال فإن كانت لك لحق بك من ورائك وغن كانت عليك فقد أحرزت اهلك ومالك قال : مالك، قال مالك : لا افعل قد كبرت وكبر عقلك فغضب دريد ثم قال : دريد : يا معشر هوزان ما فعلت كعب وكلاب، قالوا ما شهد منهم أحد قال : غاب الحد والجد لو كان يوم علاء ورفعة ما تخلفوا عنه يا معشر هوازن ارجعوا وافعلوا ما فعل هؤلاء فأبوا عليه، قال : فمن شهدها منكم ؟ قالوا : عمرو بن عامر وعوف بن عامر، قال : ذانك جذعان من بني عامر لا ينفعان ولا يقران قال : لدريد : هل من رأي غير هذا قد أمر القوم، قال : دريد : نعم تجعل كمينا يكونون لك عونا إن حمل القوم عليك جاء هم الكمين من خلفهم وكررت أنت بمن معك وإن كانت الحملة لك لم يفلت من القوم احد فذلك حين أمر مالك أن يكونوا كمنا في الشعاب وبطون الأودية فحملوا الأولى التي انهزم فيها أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر هوازن وما عزموا عليه أردا التوجه على قتالهم واستخلف عتاب بن أسيد أميرا على مكة وهو ابن عشرين سنة ومعاذ بن جبل يعلمهم السنن والفقه.
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أراد حنينا منزلنا إذا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر واستعار من صفوان بن أمية أدرعا وسلاحا فقال : أغصبا يا محمد أم عارية ؟ قال :" بل عارية. . . مضمونة فأعطى له مائة درع بما يكفيهما من السلاح " ٢ كذا روى ابن إسحاق عن جابر وأبو داود وأحمد عن أمية بن صفوان، قال : السهيلي واستعار من نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ثلاثة آلاف رمح فقال : كأني أنظر إلى رماحك هذه في تقصف ظهر المشركين، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المسلمين عشرة آلاف من أهل المدينة وألفين من أهل مكة يوم السبت بست خلون من شوال سنة، روى أبو الشيخ عن محمد بن عبيد الله الليثي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة عشرة آلاف أربعة آلاف من الأنصار ومن كل جهينة ومزينة وأسلم وغفار وأشجع ألف ومن المهاجرين وغيرهم ألف وقال عروة والزهري قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة باثني عشر ألف وأضيف إليهم ألفان من الطلقاء فكانوا أربعة عشر ألفا قال : ابن عقبة ومحمد بن عمر : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين خرج معه أهل مكة لم يغادر منهم احد ركبانا ومشاة حتى خرجن معه النساء يمشين على غير دين نظارا ينظرون ويرجون الغنائم ولا يكرهون أن يكون الصدمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معه أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وكانت امرأته مسلمة وهو مشرك لم يفرق بينهما ومع النبي صلى الله عليه وسلم زوجتيه أو سلمة وميمونة ضربت لهما قبة.
وروى ابن إسحاق والترمذي وصححه النسائي وابن حبان عن الحارث بن مالك قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حديثوا عهد بالجاهلية وكانت لكفار قريش ومن سواهم شجرة عظيمة وعند الحاكم في الإكليل سدرة خضرة يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة فيعلقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها ويعكفون عليها يوما، ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة خضرا عظيمة، فتنادينا يا رسول الله اجعل ذات نواط كما لهم ذات أنواط فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قال موسى ﴿ اجعلنا لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ﴾ إنها لسنن لتركبن سنن من قبلكم حذو القدة بالقدة ٣، وعن سهيل بن حنظلة رضي الله عنه قال : جاء فارس فقال : يا رسول الله طلعت جبل كذا وكذا فإذا هوازن جاءت عن بكرة أبيها بظعنهم ونعمهم وشاءهم اجتمعوا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :" تلك غنيمة المسلمين إن شاء الله تعالى، ثم قال : من يحرسنا الليلة ؟ قال : انس بن مالك أبي مرثد : أنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال :" فاركب واستقبل هذا الشعب حتى تكون أعلاء ولا تغرن من قبلك " فلما صلى رسول الله صلى الله عليه الصبح فإذا هو جاء، فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلا هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قد أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها " ٤ رواه أبو داود والنسائي.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حدود ليكشف خبر هوزان فدخل فيهم فأقام فيهم يوما أو يومين فسمع من مالك يقول لأصحابه إن محمدا لم يقاتل قوما قبل هذه المرة إنما كان يلقى قوما أغمار لا علم لهم بالحرب فيظهر عليهم فإذا كان السحر فصفوا مواشيكم ونساءكم وأبنائكم من ورائكم ثم يكون الجملة منكم واكسروا جفون سيوفكم فتلقون بعشرين ألف سيف مكسورة الجفون واحملوا حملة رجل واحد واعلموا أن الغلبة لمن حمل أولا كذا روى ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله وعمرو بن شعيب وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، وروى محمد بن عمر عن أبي بردة بن قال : كنا بأوطاس نزلنا تحت شجرة عظيمة نزل رسول الله صلى الله عليه تحتها فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وعنده رجل جالس فقال : إن هذا الرجل جاءني وأنا نائم فسل سيفي ثم قام به على رأسي فانتبهت وهو يقول : يا محمد من يمنعك مني ؟ فقالت :" الله " فسللت سيفي وقلت يا رسول الله دعني اضرب عنق عدو الله فإنه من عيون المشركين فقال : لي :" أسكت يا أبا بردة فما قال : له شيئا ولا عاقبه فقال : يا أبا بردة إن الله مانعي وحافظي حتى يظهر دينه على الدين كله ".
وروى أبو نعيم والبيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى حنينا مساء الليلة الثلاثاء لعشر خلون من شوال وبعث بن عوف ثلاثة من هوازن ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأمرهم أن يتفرقوا في العسكر فرجعوا إليهم وقد تفرقت أوصالهم فقال : ويلكم ما شأنكم ؟ فقالوا : رأينا رجلا بيضا على خيل بلق فوا لله ما تماسكنا أصابنا ما ترى والله ما نقاتل أهل الأرض إنما نقاتل هل السماء وإن أطعتنا رجعت بقومك فإن الناس إن رأوا مثل الذي رأينا أصابهم مثل الذي أصابنا فقال :: أف لكم بل انتم أجبن أهل العسكر فحسبهم عنده فرقنا ان يشيع ذلك الرعب في العسكر، وقال : دلوني على رجل شجاع فاجمعوا على رجل فخرج ثم رجع غليه وقد أصابه نحو ما أصاب من قبله منهم فقال : مثل الذي قالت الثلاثة قال : محمد بن عمر لما كان ثلثا الليل عمد مالك بن عوف على أصحابه فعبأهم في وادي حنين وهو واد أخوف خطوبه ذو شعاب و مضائق وفرق الناس فيها وقال لهم : أن يحملوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حملة رجل واحد، وعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وصفهم في السحر ووضع الأولوية والرايات في أهلها وليس درعين و المغفر والبيضة واستقبل الصفوف وطاف عليها بعضها لخلف بعض يتدحدرون فحضهم على القتال وبشرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا، وقدم خالد بن وليد في بني سليم وأهل مكة وجعل ميمنة وميسرة وقلبا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
روى أبو الشيح والحاكم وصححه والبزار وابن مردويه عن انس قال : لما اجتمع يوم حنين أهل مكة وأهل المدينة أعجبتكم كثرتهم فقال : القوم اليوم والله نقاتل، ولفظ البزار قال : غلام من الأنصار لن نغلب اليوم من قلة فما هو إلا أن لا قينا عدونا فانهزم القوم وولوا مدبرين، وفي رواية يونس بن بكر في زيارات المغازي كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا : وما أعجبتهم كثرتهم، وكذا روى ابن المنذر عن الحسن وذلك قوله تعالى :﴿ إذ أعجبتكم كثرتكم ﴾﴿ فلم تغن ﴾ أي الكثرة ﴿ عنكم شيئا ﴾من الإغناء أو من أمر العدو ﴿ وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ﴾ما مصدرية والباء بمعنى مع أي : مع رحبها أي : سعتها، أو المعنى ملتبسة يرحبها على الجار والمجرور في موضع الحال كقولك دخلت عليه بثياب السفر أي : ملتبسا بها يعني أن الأرض من مع سعتها لا تجدون فيها مقرا تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب أو لا تبوؤن السفر ملتبسا بها يعني أن الأرض مع سعتها لا تجدون فيها كمن لا يسعه مكانه ﴿ ثم وليتم ﴾ الكفار ظهوركم خطاب إلى الذين انهزموا من المؤمنين ﴿ مدبرين ﴾ منهزمين الأدبار الذهاب إلى خلف ضد الإقبال. روى ابن إسحاق واحمد وابن حبان عن
١ أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " (٤٣٨)، وأخرجه مسلم في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة (٥٢١).
٢ وأخرجه احمد في مسند الملكين (٧٦٣) أخرجه أبو داود في كتاب: الإجازة، باب: في تضمين العارية (٣٥٥٩)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: الفتن، باب: ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم (٢١٨٠)..
٤ ؟؟؟؟؟.
قال : الله تعالى ﴿ ثم انزل الله سكينته ﴾أي رحمته التي استقروا بها وآمنوا ﴿ على رسوله وعلى المؤمنين ﴾ الذين انهزموا وإنما ذكر الرسول أن السكينة غنم نزلت على المنهزمين ببركة وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم وبتوسطه نزلت على غيره وإعادة الجار للتنبيه على اختلاف حالهما وقيل : المراد بالمؤمنين الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفروا. اخرج الطبراني والحاكم وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود، قال : مكنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار فكنا على أقدامنا نحوا من ثمانين قدما ولم نولهم الدبر وهم الذين نزلت عليهم السكينة قال : ابن عقبة : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركابين وهو على البغلة فرفع يديه إلى الله تعالى يقول :" اللهم إني أنشدك ما وعدتني اللهم لا ينبغي لهم ان يظهر علينا " انتهى فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا عباس ناديا معشر الأنصار يا أصحاب السمرة، يا أصحاب سورة البقرة " قال العباس : وكان رجلا صيتا فقلت : بأعلى صوتي أين الأنصار أين أصحاب السمرة أين أصحاب سورة البقرة قال : فوا الله لكأنما عطفتم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، وفي حديث عثمان بن أبي شيبة عند أبي القاسم البغوي البيهقي " يا عباس اصرخ بالمهاجرين بايعوا تحت الشجرة وبالأنصار آووا ونصروا " قال : فما شبهت عطفة الأنصار على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عطفة الإبل على أولادها حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه في خرجة فلرماح الأنصار كانت أخوف عندي على رسول الله صلى الله عليه وسلم من رماح الكفار فقالوا : يا لبيك يا لبيك الحديث. وروى أبو يعلى والطبراني برجال ثقات عن انس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم حنين كفا من حصى أبيض فرمى به، وقال :" هزموا ورب الكعبة " وكان علي رضي الله عنه أشد الناس قتالا بين يديه، وروى ابن سعد وابن أبي شيبة واحمد وأبو داود. و البغوي وغيرهم في حديث طويل عن أبي عبد الرحمان يزيد الفهري واسمه كرز ولى المسلمون مدبرين كما قال : الله تعالى فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" يا أيها الناس انا عبد الله ورسوله " فاقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرسه وحدثني من كان أقرب إليه مني انه حفنة من تراب فحشاه في وجوه القوم وقال :" شاهت الوجوه " ١ قال : يعلى بن عطاء أخبرنا أبناؤهم عن آبائهم قالوا : بقي منا احد إلا امتلأت عيناه وفمه من التراب وسمعناه صلصلة من السماء كمر الحديد على الطست فهزمهم الله تعالى قال الله تعالى.
﴿ وأنزل جنودا لم تروها ﴾ روى ابن أبي حاتم عن السدي الكبير قال : هم الملائكة، وروى أيضا عن سعيد بن جبير قال : في يوم حنين : أمد الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، وروى ابن إسحاق وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن جبير بن مطعم قال : رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بين القوم فنظرت فإذا نمل اسود قد ملأ الوادي ثم أشك أنها الملائكة ولم يكن إلا هزيمة القوم، وروى محمد بن عمر عن يحيى بن عبد الله عن شيوخ قومه من الأنصار قالوا : رأينا يومئذ كالجد السود هودت من السماء ركاما فنظرنا فإذا نمل مبثوث فإن كنا لننفضه عن ثيابنا فكان نصر الله أيدنا به، وروى مسدد في مسنده والبيهقي وابن عساكر عن عبد الرحمان مولى أم برثن قال : حدثني رجل كان من المشركين يوم حنين قال : التقينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقوموا لنا حلب شاة إن كفيناهم فبينا نحن نسوقهم في أدبارنا إذ التقينا صاحب البغلة فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية إذ بينا رجال بيض حسان الوجوه قالوا : لنا شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا وركبوا أكتافنا وكانت إياها، وروى ابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن شيبة بن عثمان
الحجبي قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ما خرجت إسلاما ولكن خرجت آنفا أن يظهر هوازن على قريش فو الله إني لو أقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قلت يا رسول الله إني لأرى خليلا بلقا قال :" يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر " فضرب بيده على صدري وقال :" اللهم اهد شيبة " فعل ذلك ثلاث مرات فوالله ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية حتى ما أجد من خلق أحب إلي منه فالتقى المسلمون فقتل من قتل ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ باللجام والعباس آخذ بالثغر فنادى أين العباس أين المهاجرين أين أصحاب سورة البقرة بصوت عال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل المسلمون والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :
أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب
فجادلوهم بالسيوف فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الآن حمي الوطيس " وروى محمد بن عمر عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : حدثني عدة من قومي شهدوا ذلك اليوم يقولون لقد رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية من الحصباء فما من احد غلا يشكو القذى في عينه ولقد كنا نجد في صدورنا خفقانا كوقع الحصى في الطساس ما يهدي ذلك الخفقان ولقد رأينا يومئذ رجالا بيضا على خيل بلق عليها عمائم حمر قدر أرخوها بين أكتافهم بين السماء والأرض كتائب أي لا يعقلون ما يليقون ولا تستطيع أن نتأملهم من الرعب منهم قال : الله تعالى ﴿ وعذب الذين كفروا ثم يتوب وذلك جزاء الكافرين ﴾ روى ابن أبي حاتم عن السدي الكبير قال : يعني قتلهم بالسيف وروى البزار بسند رجاله ثقات عن انس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يوم حنين :" اجزروهم جزرا " وأومى بيده إلى الحلق، وروى البيهقي عن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال : قتل من أهل الطائف يوم حنين مثل من قتل يوم بدر، يعني سبعين رجلا واستشهد بحنين أيمن ابن أم أيمن و سراقة بن الحارث ويتيم بن ثعلبة ويزيد بن زمعة وأبو عامر الأشعري بأوطاس كما سيأتي، وروى محمد بن عمر عن محمد بن عبد الله بن صعصعة أن سعد بن عبادة جهل يصيح يا للخرج ثلاثا وأسيد بن حضير يا للأوس ثلاثا فثابوا من كل ناحية كأنهم النحل يأوي إلى يعسوبها قال : أهل المغازي : فلحق المسلمون على المشركين فقتلوهم حتى أسرع القتل في ذرارى المشركين فقتلوهم حتى أسرع القتل في ذرارى المشركين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :" ما بال أقوام بلغ بهم القتل حتى بلغ الذرية ألا تقتل الذرية " فقال : أسيد بن الخضير يا رسول الله أولاد المشركين، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أو ليس خياركم أولاد المشركين كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواه يهودانها وينصرنها " قال : محمد بن عمر قال : شيوخ ثقيف ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبنا في ما نرى حتى أن الرجل منا ليدخل حصين الطائف وغنه ليظن انه على أثره من رعب الهزيمة قالوا : هزم الله تعالى أعداءه من كل ناحية وأتبعهم المسلمون يقاتلونهم وغنمهم الله نسائهم وذرا ريهم وفر مالك بن عوف حتى بلغ حصين الطائف هو وأناس من أشراف قومه، وقال ابن إسحاق ومحمد بن عمر وغيرهما : لما هزم الله هوزان أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف وعسكر بعضهم بأوطاس وتوجه بعضهم نحور نخلة ولم يتتبع من سلك الثنايا وقتل ربيعة بن رفيع من بني سليم دريد بن الصمة، قال : البغوي : فلما هزم الله المشركين وولوا مدبرين انطلقوا حتى أتوا أوطاس و بها عيالهم وأموالهم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأشعرين يقال له أبو عامر وأمره على جيش إلى أوطاس فسار إليهم فاقتتلوا وقتل الدريد بن الصمة، وهزم الله المشركين وسبي المسلمون عيالهم وهرب مالك بن عوف النضري فأتى الطائف وتحصن بها وأخذ ماله وأهله فيمن أخذ وقتل أمير المسلمين أبو عامر وأسلم عند ذلك ناس كثير من أهل مكة حين رأوا نصر الله رسوله وإعزاز دينه، ولما جمعت الغنائم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحدر إلى جعرانة فوقف بها إلى أن انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصار الطائف، قال : ابن سعد وتبعه في العيون كان السبي ستة آلاف رأس والأهل أربعة وعشرون ألف بعير والغنم أكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية فضة، وروى عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب قال : سبي يومئذ ست آلاف سبي بين امرأة وغلام فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وقال البلاد ري بديل بن ورقاء الخزاعي قال : ابن إسحاق : جعل على المغانم مسعود بن عمر الغفاري. قال : ابن إسحاق : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قريبا من الطائف فضرب عسكره وأشرف ثقيف على حصنهم ولا مثل له في حصون العرب وأقاموا وهم مائة رام فرموا بالسهام والمقاطيع من بعد حصنهم ومن دخل تحت الحصين ولوا عليه بسكك الحديد محماة من النار تطير منها الشرر فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا كأنه رجل جراد، حتى أصيب ناس المسلمين بجراحة وقتل منهم اثنا عشر رجلا، فارتفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع مسجده اليوم الذي بنته ثقيف بعد إسلامهم، وقال عمرو بن أمية الثقفي وأسلم بعد ذلك لا يخرج إلى محمد أحدا إذا دعى أحدا من أصحابه على البراز ودعوه يقيم ما أقام ثم أقبل خالد بن الوليد فنادى من يبارز ؟ فلم يطلع عليه أحد ثم دعا فلم ينزل غليه احد، فنادى عبد يا ليل لا ينزل غليك احد ولكنا نقيم في حصننا خباءنا فيه ما يصلحنا لسنين فإذا أقمت حتى ذهب ذلك الطعام خرجنا إليك بأسيافنا جميعا حتى نموت فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرمي وهم يقاتلونه من وراء الحصين ولم يخرج إليه احد وكثرت الجراحات له من ثقف بالنبل وقتل جماعة من المسلمين، روى ابن إسحاق ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا : نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر فخرج من الحصن بضعة عشر رجلا فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : محمد بن عمر وشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال : سلمان الفارسي أرى أن تنصب المنجنيق فنصبه على حصين الطائف وهو أول منجنيق رمى به في الإسلام فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع أعنابهم ونخيلهم، قال : عروة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل رجل من المسلمين أن يقطع خمس نخلات وخمس حيلات فقطع المسلمون قطعا ذريعا فنادت ثقيف لم تقطع أموالنا ؟ إما أن تأخذها إن ظهرت علينا وإما أن تدعها لله وللرحم فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فإني أدعها لله وللرحم "
قال ابن إسحاق : وبلغني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لأبي بكر إني رأيت إن أهديت قعبة مملوءة زبد فنظرها ديك فهراق ما فيها فقال : أبو بكر ما أظن ان تدرك منهم يومك هذا ما تريد، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ولا أرى ذلك " وروى محمد بن عمر عن أبي هريرة قال : لما مضت خمسة عشر من حصار الطائف استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الديلمي رضي الله عنه فقال :" يا نوفل ما ترى في المقام عليهم " ؟ فقال : يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وغن تركته لم يضرك، وروى الشجال عن ابن عمر وعمر رضي الله عنهما لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف ولم ينل منه شيئا قا
١ أخرجه مسلم في كتاب: الجهاد ولا سير، باب: في غزوة حنين (١٧٧٦).
قال الله تعالى ﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ﴾ أن يهديه إلى الإسلام ﴿ والله غفور رحيم ﴾ قال : ابن إسحاق في رواية يونس بن بكر عن ابن عمر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين فلما أصاب من هوازن ما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوزان بالجعرانة وهم أربعة عشر رجلا ورأسهم زهير بن صرد وفيهم بويرقان عم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة وقد أسلموا، فقال : يا رسول الله إنا أهل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا من الله عليك، وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال : يا رسول الله إن ما في الحظائر من السبايا عماتك وخالاتك يعني من الرضاع وحواضنك اللاتي كن يكفلنك ولو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر يعني ملك الشام من العرب أو للنعمان بن المنذر يعني ملك العراق من العرب ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا رجونا عائدتهما وعطفهما وأنت يا رسول الله خير المكفولين ثم أنشد بعض الشعر. وروى الصالحي عن زهير بن صرد الجشمي يقول، لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ويوم هوزان وذهب يفرق السبي والشاة أتيته فإن شاءت أقول أمنن علينا رسول الله في كرم فإنك المرء نرجوه وننتظر وقرأ أشعارا قال : فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشعر قال :" ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم " وقالت قريش ما كان لنا فهو لله ولرسوله وقالت : الأنصار : ما كان لنا فهو لله ورسوله قال الصالحي : هذا حديث جيد الإسناد عال جدا رواه أيضا المقدسي في " صحيحه " ورجح الحافظ بن حجر انه حديث حسن.
وروى البخاري في " الصحيح " حديث مروان ومسور بن مخزمة، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه وفد هوزان مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" معي من ترون وأحب الحديث ألي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال " قالوا : فإنا نختار سبيا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال :" أما بعد فإن إخوانكم قد جاؤوا تائبين وإني رأيت أن أرد عليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل ومن أحب أن يكون على حظه نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا، فليفعل " فقال : الناس قد طبنا ذلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا لا أدري من أذن منكم في ذلك فمن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم " فرجع الناس فكلمهم عرفاءهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا " ١ روى أبو داود والبيهقي وأبو يعلى عن أبي الطفيل قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بالجعرانة لحما فجاءت امرأة بدوية، فلما دنت من الرسول صلى الله عليه وسلم بسط لها رداءه فجلست عليه فقلت : من هذه ؟ فقالوا : أمه التي أرضعته ٢، وروى أبو داود في " المراسل " عن عمرو بن السائب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا يوما فجاءه أبوه من الرضاعة فوضع بعض ثوبه فقعد عليه ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر ثم جاءه أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه.
وقال محمد بن عمر لما هزم المشركون يوم حنين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب العدو لخيله إلى قدرتم على بجاد رجل من بني سعد فلا يفلتن منكم وقد كان أحدث حدثا عظيما، كان أتى رجلا مسلما فأخذه فقطعه عضوا عضوا ثم حرقه بالنار وكان قد عرف جرمه فهرب فأخذه الخيل فضمروه إلى الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني من الرضاعة وأتبعوها في الساق فجعلت شيماء تقول إني والله أخت صاحبكم فلم يصدقوها فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت يا محمد إني أختك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما علامة ذلك ؟ فأرته عضة بإبهامها فقالت : عضة عضضتنيها وأنا متوركتك بوادي السرب ونحن نرعى بهم أبيك وأبي وأمك وأمي وقد نازعتك الثدي، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة فوثب قائما وبسط رداءه ثم قال :" اجلسي عليه " وترحب بها ودمعت عيناه وسأله عن أمه وأبيه فأخبرته بموتهما فقال :" إن أحببت أقيمي عندنا مكرمة وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصلتك ورجعتك إلى قومك " قالت : بل أرجع إلى قومي فأسلمت فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية وأمر لها ببعير أو بعيرين وقال لها ارجعي إلى الجعرانة تكونين مع قومك فإني أمضي إلى الطائف فرجعت إلى جعرانة، ووافها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها نعما وشاة ولمن بقي من أهل بيتها وكلمته في بجادان يهبه لها ويعفو عنه ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق في رواية يونس بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من رد سبايا هوازن ركب بعيره وتبعه الناس يقولون : يا رسول الله اقسم علينا فيئا حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت رداءه فقال :" يا أيها الناس ردوا علي ردائي فو الذي نفسي بيده لو كان عندي شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ثم ما ألفتموني بخيلا ولا كذابا " الحديث، قال : ابن إسحاق أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم وكانوا أشرافا من أشراف العرب يأتلف بعم قلوبهم، قال : محمد بن عمر بالموال فقسمها وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس، قال : الصالحي : منهم من أعطى مائة بعير ومنهم من أعطى خمسين وجميع ذلك يزيد على خمسين رجلا، ثم ذكر الصالحي أسمائهم فذكرهم سبعا وخمسين رجلا. روى الشيخان في " الصحيحين " عن حكيم بن حزان قال :" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين مائة من الإبل فأعطانيها ثم سألته مائة فأعطانيها ثم قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا حكيم إن هذا المال حلوة فمن اخذ بسخاوة نفس بورك فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول " فقال : حكيم : والذي بعتك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا ٣، فكان عمر بن الخطاب يدعوه إلى عطاءة فيأبى أن يأخذ فيقول عمر أيها الناس أشهدكم على حكيم بن حزام أدعوه إلى عطاءه فيأبى أن يأخذ قال : ابن أبي الزياد اخذ حكيم المائة الأولى فقط وترك الباقي، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو مائة وأبو سفيان بن حرب مائة من الإبل وأعطاه أربعين أوقية فضة وابن معاوية مائة من الإبل وأربعين أوقية فضة ويزيد بن أبي سفيان مائة يغير وأربعين أوقية هكذا، روى البخاري عن صفوان قال : ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني من غنائم حنين وهو أبغض الخلق إلي حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه " وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم " أعطاه مائة من النعم ثم مائة ثم مائة " قال : محمد بن عمر يقال : إن صفوان طاف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصفح الغنائم إذ مر بشعب مما أفاء الله على رسوله فيه غنم وإبل ورعاء مملوء فأعجب صفوان وجعل ينظر إليه فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم أعجبك هذا الشعب يا أبا وهب ؟ قال : نعم، قال :" هو لك بما فيه " فقال : صفوان أشهد أنك رسول الله ما طابت بهذا نفس احد قط إلا نبي ٤.
روى أحمد ومسلم والبيهقي عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم من سبي حنين كل رجل منهم مائة من الإبل وذكر الحديث وفيه أعطى العباس بن مرداس دون المائة فأنشاء العباس يقول : أتجعل نهبي العبيد بن عيينة والأقرع فما كان حصين ولا حابس يقومان مرداس في المجمع إلى آخر الأبيات، فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم المائة وأعطى عثمان وعدي بن قيس وعمير بن وهب وعلام بن جارية ومخرمة بن نوفل وغيرهم كل واحد منهم خمسين بعيرا ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم ثم فضها على الناس، فكانت سهمانهم لكل رجل منهم أربعة من الإبل أو أربعين شاة فإن كان فارسا أخذ اثني عشر من الإبل أو عشرين ومائة شاة وغن كان معه أكثر من فرس واحد لم يسهم له فقلت : عطاءه صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم يبلغ أربعة آلاف بعير أو زائدا عليه، وقد مر فيما سبق أن إبل المغنم كانت أربعة وعشرين ألف بعيرا، الغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وهي تساوي أربعة آلاف بعير فصار المجموع ثمانية وعشرون ألف بعير فخمسة يكون أقل من خمسة آلف بعير فعطاء المؤلفة لا يخلوا إما أن يكون أقل من خمسة آلاف فعطاء المؤلفة لا يخلوا إما أن يكون من رأس الغنيمة أو من جميع الخمس ولا يمكن أن يكون من خمس الخمس سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلزم من هذا إما التنفيل بعد الإحراز بلا شرط سبق والصرف الخمس إلى صنف واحد وجعل المؤلفة صنفا من الفقراء والله اعلم.
ولما كان رجال العسكر اثني عشر ألفا ومنهم الفرسان وصار سهم الراجل أربعة والفارس اثني عشر بعيرا فهذا يقتضي أن يبلغ الغنيمة ستين ألف بعيرا وأكثر أو اقل ولعل ذلك بضم قيمة العروض والنقود إلى المواشي والله اعلم.
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن الحارث التيمي أن قائلا قال : لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه قال : محمد بن عمر هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يا رسول الله أعطيت عيينة بن حصين والأقرع بن حابس مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمري فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أما والذي نفسي بيده لجعيل بن سراقة من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة بن حصين والأقرع بن حابس ولكني أتألفها ليسلما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه " وروى البخاري عن عمرو بن تغلب قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما ومنع آخرين فكأنهم عتبوا فقال :" إني لأعطي أقواما أخاف هلعهم وجزعهم وأكل أقواما ما جعل الله في قلبوهم من الخير والغنى منهم عمرو بن تغلب، قال : عمرو : فما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم ٥، وفي هذا المقام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار على وجهه " ٦رواه البخاري عن سعد بن أبي وقاص.
روى ابن إسحاق واحمد عن أبي سعيد الخدري واحمد والشيخان من طرق عن أنس بن مالك والشيخان عن عبد الله بن يزيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب غنائم حنين وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، وفي رواية طفق يعطي رجالا المائة من الإبل ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم المقالة حتى قال : قائلهم يغفر الله لرسوله الله صلى الله عليه وسلم إن هذا الهوا العجيب يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا يقطر من دمائهم إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطي الغنيمة غيرنا ودوننا ممن كان هذا فإن كان من الله صبرنا وإن كان من رسول الله استعتبناه، فقال : رجل من الأنصار : لقد كنت أحدثكم أن لو استقامت الأمور لقد أثر عليكم فردوا عليه ردا عنيفا قال : فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم فقال : أبو سعيد فمشى سعد بن عبادة فقال : رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم قال : فيم ؟ قال : فيما كان من قسمك هذا الغنائم في قومك وفي سائر العرب ولم يكن فيهم من ذلك شيء فقال : أين من ذلك يا سعد ؟ قال : ما أنا إلا امرؤ من قومي، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :"
١ أخرجه البخاري في كتاب: الوكالة، باب: إذا وهب شيئا لوكيل أو شفيع قوم جاز (٢٣٠٧).
٢ أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في بر الوالدين (٥١٣٥).
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: الاستعفاف في المسألة (١٤٧٢)، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة باب: بيان ان اليد العليا خير من اليد السفلى (١٠٣٥)..
٤ أخرجه مسلم في كتاب: الفضائل باب: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال لا وكثرة عطائه (٢٣١٣).
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الجمعة، باب: من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد (٩٢٣)..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان باب: إذ لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان الاستسلام او الخوف من القتل (٢٧) واخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: تالف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه (١٥٠).
﴿ يأيها الذين امنوا إنما المشركون نجس ﴾مصدر من نجس ينجس على وزن سمع يسمع أو كرم يكرم ولنا لا يثنى ولا يجمع ويستوي فيه الذكر والأنثى، وحمله إما على المبالغة أو بتقدير ذو، في القاموس النجس بالفتح وبالكسر وبالتحريك وككتف وعضد. . ضد الطاهر، قلت وهو ما يستقذره الطبع السليم ويطلق عليه النجاسة الحقيقية كالقاذورات والدم وألحق بها الشارع النجاسات الحكمية من الحدث والجنابة وانقطاع الحيض والنفاس فهو ما يستقذره الشرع، فالكافر نجس شرعا لأنه حبيب لخبث باطنه ليستقذره الشرع ويجب الاجتناب عنه كما يجب على المصلي الاجتناب عن النجاسة الحقيقية فلا يجوز موالتهم قال : الضحاك : وأبو عبيدة نجس يعني قذر قال : البغوي : أراد به نجاسته الحكم لا نجاسة العين سموا نجسا على الذم، وقال قتادة سماهم نجسا لأنهم يجتنبون فلا يغتسلون ويحدثون فلا يتوضؤون ولا يجتنبون من النجاسات.
وعن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب، اخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من صافح مشركا فليتوضأ أو ليغسل كفيه " وهذا القول متروك بالإجماع ﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام ﴾، قالت الحنفية : المراد به النهي عن الحج والعمرة لا عن الدخول مطلقا بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا رضي الله عنه ينادي في الموسم :" لا يحج بعد العام مشرك " فظهر أن المراد منعهم عن الحج والعمرة فيجوز عنده دخول الكافر المسجد الحرام ودخول غيره بالطريق الأولى وورد النهي عن الاقتراب للمبالغة، وقالت الشافعية هو نهي عن دخولهم الحرم لأنهم إذا دخلوا بالحرم فقد اقتربوا من المسجد الحرام وهذا كما قال : الله تعالى ﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام ﴾ ١ وأراد به الحرم لأنه أسرى به من بيت أم هانيء.
قال البغوي رضي الله عنه جملة بلاد الإسلام في حق الكفار على ثلاثة أقسام أحدهما : الحرم فلا يجوز للكافر إن يدخله ذميا كان أو مستأمنا لظاهرة هذه الآية وإذا جاء رسول من دار الكفار إلى دار الإمام والإمام في الحرم لا يأذن له في دخول الحرم بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم، والقسم الثاني من بلاد الإسلام الحجاز فلا يجوز للكافر الإقامة فيها أكثر من مقام السفر وهو ثلاثة أيام لكن جاز له دخولها لما روي عن عمر بن الخطاب انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لئن عشت إن شاء الله لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما " فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى فقال :" أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " فلم يتفرغ لذلك أبو بكر وأجلاهم عمر رضي الله عنهما في خلافة واجل لمن يقدم منهم تاجرا ثلاثا، وجزيرة العرب من أقصى العرب من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى الشام في العرض، والقسم الثالث سائر بلاد الإسلام يجوز للكافر أن يقين بذمة أو أمان ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم، وقال الحافظ بن حجر المروي عن الشافعي التفضيل بين المسجد الحرام وغيره من المساجد فلا يجوز له دخول المسجد الحرام ويجوز له دخول غيرها من المساجد وعند المالكية والمزني لا يجوز للكافر دخول شيء من المساجد قياسا على المسجد الحرام، وعقد البخاري بابا على دخول المشرك المسجد يعني على جواز دخوله وذكر فيه حديث أبي هريرة قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارة من سواري المسجد وقد ذكرنا حديث قصة ثمامة بن أثال وإسلامه في سورة الأنفال في مسألة جواز المن على الأسارى، وهذا الاستدلال ضعيف لأن قصة ثمامة بن أثال كان قبل فتح مكة وقد منع الكفار عن الحج أو الدخول في المسجد الحرام في سنة تسع حيث قال : الله تعالى ﴿ بعد عامهم هذا ﴾ يعني العام الذي نزلت فيه سورة التوبة وحج فيه أبو بكر و نادى عليه ببراءة وهي سنة تسع من الهجرة، وقيل : يؤذن للكتابي خاصة بدخول المسجد قال : الحافظ ابن حجر في شرح البخاري في باب دخول المشرك المسجد إن حديث الباب يرد على هذا القول أن ثمامة بن أثال لم يكن من أهل الكتاب والله أعلم.
قال البيضاوي في هذه الآية دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع نظرا إلى انه سبحانه نهاهم عن اقتراب المسجد وهذا ليس بشيء فإن الخطاب في الآية للمؤمنين حيث قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ﴾ الآية فالمؤمنون مأمورون بمنعهم عن المسجد الحرام وإن كان ظاهرا الآية نهيا للكفار كيف ولو كان الكفار مخاطبين بالفروع كانوا مخاطبين مأمورين بالحج إذ الحج من الفروع مع أن الآية يمنعهم عن الدخول والحج فليزم التناقض ولو كانوا مخاطبين بهذه الآية بعدم الدخول وترك الحج لكانوا ممتثلين بتركهم الحج فليزم أن يكونوا إما مأجورين مثابين في ذلك وذلك باطل والله أعلم.
أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير وعكرمة وعطية العوفي والضحاك وقتادة وغيرهم أنه كان المشركون يجيؤون إلى البيت ويجيؤون معهم بالطعام فلما نهوا عن إتيان البيت ونزلت :﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾ شق على المسلمين من أهل مكة ﴿ خفتم ﴾يعني فقر لوفاقة يقال عال يعيل عيلة ﴿ فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ﴾ قيده بالمشيئة لينقطع بالآمال إليه ولينبه على أنه متفضل في ذلك وأن الغنى الموجود يكون لبعض دون بعض وفي عام دون عام ﴿ إن الله عليم ﴾ بأحوال عباده ﴿ حكيم ﴾ فيما يعطي ويمنع قال : عكرمة فأغناهم الله بأن أنزل عليهم المطر مدرار فكثر خيرهم، وقال مقاتل : أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله تعالى ما كانوا يخافون وقال الضحاك وقتادة عوضهم الله منها الجزية فأغناهم بها وذلك قوله تعالى ﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾
١ سورة الإسراء، الآية: ١..
﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾قال : مجاهد نزلت هذه الآية حين امر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الروم، فغزا بعد نزولها عزوة تبوك. فإن قيل : أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر ؟ أجيب : بأنهم لا يؤمنون على ما ينبغي فإنهم إذا قالوا : عزير بن الله والمسيح ابن الله لم يكن إيمانهم بالله على حقيقته ولم يعتقدوا كونه أحدا صمدا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وإذا قالوا : لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودات، واختلفوا في نعيم الجنة أهو من جنس نعيم الدنيا أو غيره وفي دوامة انقطاعه وقال بعضهم لا أكل فيها ولا شرب لم يكن إيمانهم بالآخرة على حقيقته فإيمانهم كلا إيمان ﴿ ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ﴾ أي : ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنة. وقيل المراد برسوله الذي يزعمون إتباعه والمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا فإن موسى وعيسى أمر بإتباع محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ ولا يدينون دين الحق ﴾ أي : لايدينون الدين الحق أضاف الاسم إلى الصفة وقال قتادة الحق هو الله أي : لا يدينون دين الله فإن الدين عند الله الإسلام، وقيل : الحق الإسلام والمعنى دين، الإسلام وقال أبو عبيدة معناه لا يطيعون الله طاعة أهل الحق ﴿ من الذين أوتوا الكتاب ﴾ بيان للذين لا يؤمنون يعني اليهود والنصارى ﴿ حتى يعطوا الجزية ﴾وهي في اللغة الجزاء وإنما بنيت على فعله للدلالة على الهيئة وهي هيئة الإذلال عند العطاء على ما ستعرف، والمراد به الخراج المضروب على رقابهم وقيل : هي مشتق من جزى دينه إذا قضاه ﴿ عن يد ﴾ حال من الضمير أي : عن يد مواتية غير ممتنعة يعني منقادين أو عن يد من يعطي خراجه يعني مسلمين بأيدهم غير باعثين بأيدي غيرهم كذا قال : ابن عباس.
ولذلك يمنع من التوكيل في أداء الجزية أو المعنى عن قهر وذل، قال : أبو عبيدة يقال لكل من أعطى شيئا من غير طيب نفس أعطاه من يد وقيل : معنى عن يد نقدا لا نسيئة وقيل : عن إقرار بإنعام المسلمين عليهم بقبول الجزية منهم عوضا عن القتل ﴿ وهم صاغرون ﴾ أذلة مقهورون، قال : عكرمة : يعطون الجزية قياما والقابض جالس، وعن ابن عباس قال : يؤخذ ويوطأ عنقه وقال الكلبي : إذا أعطى صفح في قفاه، وقيل : يليب ويجر إلى موضع لإعطاء بعنف وقيل : إعطائه بعنف وقيل : إعطائه إياه وهو الصغار، وقال الشافعي : الصغار هو جريان أحكام الإسلام عليهم ظاهر هذه الآية يقتضي ان انتهاء القتال بإعطاء الجزية مختص بأهل الكتاب ولأجل هذه لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمان بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر ١ رواه البخاري في " صحيحه " من حديث بجالة بن عبدة واختلف كلام الشافعي في بجالة فقال : في الحدود مجهول وقال في الجزية حديث ثابت ولأجل هذا الحديث انعقد الإجماع جواز أخذ الجزية من المجوس.
مسألة
اختلف العلماء في باب الجزية ؟ فقال : أبو حنيفة : تؤخذ من أهل الكتاب على العموم عربيا كان أو أعجميا ومن مشركي العجم على العموم مجوسيا كان أو وثنيا إلا المرتدين، وقال أبو يوسف : يؤخذ من أهل العجم دون أهل العرب كتابيا كان أو مشركا، وقال مالك و الأوزاعي يؤخذ من كل كافر عربيا كان أو أعجميا إلا مشركي قريش خاصة والمرتدين وذهب الشافعي إلى أن الجزية على الأديان لا على الإنسان فيؤخذ من أهل الكتاب عربا وعجما ولا يؤخذ من أهل الأوثان بحال، وأما المجوس فهم عنده أهل كتاب، لما روى مالك في الموطأ والشافعي في الأم عنه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عمر قال : ما أدري ما أصنع في أمرهم يعني المجوس فقال : له عبد الرحمان بن عوف أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ٢
وقال الشافعي ثنا سفيان عن سعيد بن المرزبان عن نصر بن عاصم قال : قال : فروة بن نوفل على ما يؤخذ الجزية من المجوس فليسوا بأهل كتاب، فقام إليه المستور فأخذ بلبته وقال باعد والله أتطعن أباب بكر وعمر وأمير المؤمنين يعني عليا وقد أخذوا منهم الجزية فذهب إلى القصر، فخرج عليهم علي فقال : ائته أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أمه فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم فدعى أهل مملكته فقال تعلمون دينا خيرا من دين آدم قد كان آدم ينكح بنيه ببناته فأنا على دين آدم وما يرغب بكم عن دينه فبايعوه وقاتلوا الذين خالفوهم قتلوهم فأصبحوا وقد أسرى علمائهم فرفع من بين أظهرهم وذهب العلم الذي في صدورهم أهل كتاب، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر منهم الجزية ذكر الحديث ابن الجوزي في التحقيق وقال : سعيد بن مرزبان مخروج قال : يحى بن سعيد لا استحل أن يروى عنه، وقال يحيى ليس بشيء ولا يكتب حديثه، وقال القلاس متروك الحديث، وقال أبو أسامة كان ثقة، وقال أبو ذرعة صدوق مدلس، قلت : وذكر أبو يوسف في كتاب الخراج قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن نضر بن عاصم الليثي عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر أخذوا الجزية من المجوس وقال : أنا أعلم الناس بهم، وكانوا أهل كتاب يقرؤونه وعلم يدرسونه فنزع من صدورهم، وقال : أبو يوسف وحدثنا نصر بن خليفة ان فروة بن نوفل الأشجعي قال : إن هذا المر عظيم يؤخذ من المجوس الخراج وليسوا بأهل الكتاب، قال : فقام إليه مستورد بن الأحنف قال : طعنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتب وإلا قتلتك وقال : قد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوس أهل هجر الخراج، قال : فارتفعا إلى علي رضي الله عنه فقال أن أحدثكما بحديث ترضيانه جميعا عن المجوس ان المجوس كانوا لهم كتاب يقرؤونه وان ملكا شرب حتى سكر فأخذ بيد أخته فأخرجها من القرية واتبعه رهط فوقع عليها وهم ينظرون إليه، فلما أفاق من سكره قالت له أخته : إنك صنعت كذا وفلان وفلان وفلان وفلان ينظرون إليك فقال : ما علمت ذلك، قالت : إنك مقتول إلا أن تطيعني قال : فإني أطيعك قالت : فاجعل هذا دينا وقل هذا دين آدم وقل حواء من آدم وادع الناس إليه واعرضهم على السيف فمن بايعك فدعه فمن أبى فاقتله ففعل فلم يتبعه أحد فقتلهم يومئذ حتى الليل، فقالت له : إني أرى الناس قد اجترؤوا على السيف وهم على النار لكع فأوقد لهم نارا ثم أعرضهم علينا ففعل وهاب الناس من النار فبايعوه قال : علي رضي الله عنه فأخذ سول الله صلى الله عليه وسلم الخراج لأجل كتابهم وحرم مناكحهم وذبائحهم لشركهم.
وروى ابن الجوزي في التحقيق أن ابن عباس قال : إن أهل فارس لما مات نبيهم كتب لهم إبليس المجوسية، والجواب : أن قوله صلى الله عليه وسلم :" سنوا بهم سنة أهل الكتاب " لا يدل على كونهم من أهل الكتاب ولا على ان يفعل بهم كل ما يفعل بأهل الكتاب بل يدل على جواز أخذ الجزية منهم للإرجاع على انه لا يجوز مناكحة نسائهم ولا أكل ذبائحهم، وما ذكر من حديث على حجة لنا لا علينا لنهم وإن كان أسلافهم أهل كتاب يدرسونه لكنهم منذ تركوا ذلك الدين والعمل بالكتاب ورفع العلم منهم وكتب لهم إبليس المجوسية لم يبقوا أهل كتاب، ومن ههنا اتفق العلماء على ان المجوس ليسوا بأهل كتاب إلا في قول للشافعي وفي قول هو مع الجمهور إنهم ليسوا بأهل كتاب قلت : ولو كفى كون أسلافهم من أهل الكتاب لكان عبدة الأوثان من أهل الهند أولى بهذا الاسم فإنهم يقرؤون الكتاب ويدرسونه ويسمونه بيد وهي أربعة أجزاء ويزعمونه من عند الله تعالى ويوافق أصولهم في كثير من الأمور بأصول الشرع وما يخالف الشرع فذلك من اختلاطات الشيطان كما تفرق فرق الإسلام إلى ثلاث وسبعين فرقة بتخليطه الشيطان ودعوتهم هذا مؤيد من الشرع حيث قال : الله تعالى ﴿ وإن من امة إلا خلا فيها نذير ﴾ ٣ فهم أولى من المجوس في كونهم أهل كتاب لأن ملك المجوس لما سكر وزنا بأخته ترك دينه وكتابه دينه وكتابه وادعى دين آدم وهؤلاء الكفار لم يفعلوا ذلك إلا أنهم كفروا بتركهم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر لي أن في الجزء الرابع من بيد بشارة يبعثه خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم حتى أسلم بعض من قرأ الجزء والله أعلم. وقد يحتج للشافعي على ان الوثني لا يؤخذ منهم الجزية بان القتال واجب بقوله تعالى :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ ٤ إلا أنا عرفنا جواز تركه حق أهل الكتاب بالكتاب وفي حق المجوس بالخبر، يعني أنه صلى الله عليه وسلم أخذنا من مجوس الهجر فبقي من ورائهم على الأصل قلنا تعالى :﴿ أنفسكم المشركين ﴾ خص منه المجوس بالإجماع فجاز تخصيصه بالمعنى وبالحديث، أما المعنى فإن عبدة الأوثان في معنى المجوس فإنهم مشركون كهيئتهم وكون أصولهم من أهل الكتاب لا يفيدهم وأيضا يجوز استرقاقهم بالإجماع فيجوز ضرب الجزية عليهم إذ كل واحد منهما يشتمل على سلب النفس منهم فإنه يكتسب ويؤدي إلى المسلمين ونفقته في كسبه، وأما الحديث فحديث سليمان بريدة عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة بتقوى الله. . . ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال :" أغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليد أو إذا ألقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار الهجرة فأخبرهم انهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا ان يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة وألفي شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم " ٥ الحديث رواه مسلم، والحجة على جواز اخذ الجزية من الكتابي العربي حديث أنس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فأخذوه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية ٦ رواه أبو داود، وروى أبو داود و البيهقي من حديث يزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى اليدر بن عبد الله الملك رجل من كندة كان ملكا على دومة فذكره وفيه انه صالحه على الجزية، قال : الحافظ : إن ثبت أن أكيدر كان كنديا ففيه دليل على ان الجزية لا يختص بالعجم من أهل الكتاب لأن أكيدر عربي وإذا ثبت ان الجزية لا يختص بأهل الكتب ولا بأهل العجم ثبت مذهب أبي حنيفة ومالك غير أن أبا حنيفة يقول : لا يجوز الجزية من عبدة الأوثان من أهل العرب ولا استرقاقهم أخرج عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أنه صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان إلا من كان من العرب، قال : أبو حنيفة : إن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ بين أطهر العرب والقرآن نزل بلغتهم فالمعجزة في حقهم أظهر فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وكذا المرتد وإن كفر بربه بعدما هدى إلى الإسلام ووقف على محاسنه فر يقبل منه إلا الاستسلام أو السيف، ذكر محمد بن الحسن عن مقسم عن ابن عباس انه صلى الله عليه وسلم قال :
١ أخرجه البخاري في كتاب: الجزية والموادعة، باب: الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب (٣١٥٧)..
٢ أخرجه الشافعي في الجزء الثاني: ماجاء في الجزية (٤٣٠).
٣ سورة فاطر الآية: ٢٤.
٤ سورة البقرة، الآية: ١٩٢.
٥ أخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته لإياهم بآداب الغزو وغيرها (١٧٣١).
٦ أخرجه أبو داود في كتاب: الخراج والفيء والإمارة، باب: في اخذ الجزية (٣٠٣٥).
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس ومحمد بن دحية وشاس بن قيس ومالك بن الضيف فقالوا كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وإنك لا تزعم أن عزير ابن الله فأنزل الله تعالى :﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله ﴾ قرأ عاصم والكسائي ويعقوب عزير بالتنوين على انه عربي مصغر وقيل : أنه أعجمي لكنه اسم خفيف يشبه المصغر ولذلك صرف مثل نوح وهود ولوط، وعزير مبتدأ ما بعده خبره وليس بصفة له وقرا الباقون بلا تنوين غما لمنع الصرف للعجمة والترعيف او لالتقاء الساكنين تشبيهما للنون بحرف اللين أو لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبود او صاحبنا، قال : البيضاوي هذا القول غريب لأنه يؤدي إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدر، قال : عبيد بن عمير إنما قال : هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فخاض بن عازورا وهو الذي قال : إن الله فقير ونحن أغنياء، وقال البغوي وروى ابن عباس إنما قالت : اليهود عزير بن الله لأجل أن عزيرا كان فيهم وكانت التوراة عندهم والتابوت فيهم فأضاعوا التوراة وعلموا بغير الحق فرفع الله عنهم التابوت وانساهم التوراة ونسخها في صدورهم، فدعا الله عزير وابتهل إليه ان يرد الذي نسخ من صدورهم فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله نزل نور من السماء فدخل فعاد إليه التوراة فأذن في قومه وقال يا قوم قد أتاني الله التوراة وردها فعلق الناس به يعلمهم فمكثوا أما شاء الله ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزي فوجدوه مثله فقالوا وما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله، وقال الكلبي : إن بخت نصر لما ظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة وكان عزير إذ ذاك صغير فلم يقتله رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله عزيرا ليجدد لهم التوراة ويكون له آية بعده ما أماته مائة عام وقد ذكرنا القصة في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى ﴿ أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ﴾ ١ الآية يقال : أتاه ملك بإناء فيه فسقاه فمثلت التوراة في صدره، فلما أتاهم، قال : أنا عزير فكذبوه وقالوا إن كنت كما تزعم فأملى علينا التوراة فكتبها، ثم لأن رجلا قال : إن أبي حدثني عن جدي أن التوراة جعلت فدفنت في كرم فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منه حرفا فقالوا إن الله لم يقذف التوراة في رجل إلا أنه ابنه فعند ذلك قالت اليهود عزير ابن الله ﴿ وقالت النصارى المسيح ابن الله ﴾ قال : البغوي : كانت النصارى بعدما رفع عيسى إلى السماء على دين الإسلام إحدى ثمانين سنة يصلون إلى القبلة ويصومون رمضان حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس قتل جملة من أصحاب عيسى، ثم قال لليهود إن كان الحق مع عيسى فكفرنا والنار مصيرنا فنحن مغبونون وإن دخلوا الجنة ودخلنا النار فإني أحتال داخلهم حتى يدخلوا النار وكان له فرس يقال له العقاب يقاتل عليه فعرقب فرسه وأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب، فقال : له النصارى من أنت قال : بولس عدوكم نوديت من السماء ليست لك توبة إلا أن تنصر وقد تبت فأدخلوه الكنيسة ودخل بيتا سنة لا يخرج منه ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل، ثم خرج وقال نوديت أن الله قبل توبتك فصدقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت واستخلف عليهم نسطور وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال لم يكن عيسى بأنس ولا بجسم ولكنه ابن الله وعلم رجلا يقال له يعقوب ذلك ثم دعا رجلا يقال له ملكا فقال : إن الله لم يزل ولا يزال عيسى، فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا وقال لكل واحد منهم : أنت خالصتي وقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني وقال لكل واحد منهم إني غدا أذبح نفسي فأدع الناس إلى نحلتك ثم دخل المذبح نفسه وقال إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد من الناس إلى نحلته فتبع كل واحد طائفته من الناس فاختلفوا واقتتلوا ﴿ ذلك ﴾ يعني القول بنبوة عيسى ﴿ قولهم بأفواههم ﴾ إما تأكيد لنسبة هذا القول إليهم ونفي التجوز عنها أو إشعار بأنه قول مجرد عن برهان وتحقيق مماثل للمهمل الذي يوجد في الأفواه ولا يوجد ما يصدق عليه في الأعيان ﴿ يضاهئون ﴾ قرأ عاصم بكسر الهاء مهموزا والباقون بضم الهاء غير مهموز وهما لغتان يقال ضاهية وضاهاته أي شابهه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أي يضاهي قولهم هذا ﴿ قول الذين كفروا من قبل ﴾ أي من قبلهم قال : قتادة والسدي : ضاهى قول النصارى قول اليهود من قبل فقالوا المسيح ابن الله كما قالت اليهود عزير ابن الله، وقال مجاهد يضاهئون قول المشركين من قبل الذي قالوا : اللات والعزى ومناة بنات الله، وقال الحسن شبه كفرهم بكفر المم السالفة كما قال : في مشركي العرب كذلك قال : الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم، وقال القتيبي يريد أن من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال : أسلافهم يعني الكفر فيهم قديم ﴿ قاتلهم الله ﴾ دعاء عليهم بالإهلاك فإن من قاتله الله علك كذا قال : ابن جريج وقال ابن عباس معناه لعنهم الله وقيل معناه التعجب من شناعته قولهم :﴿ أنى يؤفكون ﴾ أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل بعد قيام الأدلة والبراهين عليه
١ سورة البقرة، الآية ١٥٩.
﴿ اتخذوا أحبارهم ﴾ أي : علمائهم وقرائهم جمع حبر بفتح الحاء وكسرها ﴿ ورهبانهم ﴾ وهم أصحاب الصوامع من النصارى ﴿ أربابا من دون الله ﴾ حيث أطاعوهم في معصية الله، قال البغوي : روي عن عدي بن حاتم كما أخرجه الترمذي في " صحيحه " قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال : لي :" يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك " فطرحته ثم انتهيت غليه وهم يقرأ :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ حتى فرغ منها فقلت : إنا لسنا نعبدهم فقال : أليس يحرمون ما احل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه ؟ قال : قلت : بلى، قال فتلك عبادتهم " ١ قال عبد الله ابن المبارك وهل يبدل الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها واتخذوا ﴿ والمسيح ابن مريم ﴾ ربا ﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا ﴾ أي ليطيعوا ﴿ إلها واحدا ﴾ وهو الله تعالى ولا يطيعوا غيره في عصيانه وأما من أمر الله بطاعته كالرسول وخلفائه فطاعته الله تعالى ﴿ لا اله إلا هو ﴾ صفة ثانيته أو استئناف مقرر للتوحيد ﴿ سبحانه عما يشركون ﴾ أحدا غيره في العبادة والطاعة
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة التوبة (٣٠٩٥) وقال: حسن غريب..
﴿ يريدون أن يطفؤا ﴾ أي : يخمدوا ﴿ نور الله ﴾ حجته الدالة على وحدانيته عن الولد والشريك أو القرآن أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ بأفواههم ﴾ أي بأقوالهم الباطلة الكاذبة فيه إشارة إلى أن حالهم في إرادة أبطال القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب مثل حال من أراد أن يطفئ نور الشمس والقمر بنفخة فيه ﴿ ويأبى الله ﴾ أي : لا يريد ولا يرضى ﴿ إلا أن يتم نوره ﴾ أي : يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ ولو كره الكافرون ﴾ حذف جوابه لأنه ما قبله
﴿ هو الذي أرسل رسوله ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ بالهدى ﴾ أي : بالقرآن الناطق ببيان مالنا و ما علينا من الحلال والحرام والفرائض والأحكام الموصل إلى دار السلام ﴿ ودين الحق ﴾ أي : الإسلام ﴿ ليظهره ﴾ قال : ابن عباس الضمير المنصوب عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى ليطلع الرسول ﴿ على الذين كله ﴾ يعني شرائع الدين كلها لا يخفى عليه منها شيء واللام للجنس، وقال الآخرون الضمير عائد إلى دين الحق يعني ذلك الدين ويغلبه على الأديان كلها فينسخها أو على أهلها فيدينون بها أو ينقادون لها، قال : البغوي : قال أبو هريرة والضحاك : وذلك عند نزول عيسى ابن مريم لا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام، وقال روينا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام " ١ قلت : والظاهر أن المراد بالظهور غلبة دين الحق على الأديان كلها في أغلب الومان كما يدل عليه حديث المقداد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل إما يعزهم الله، فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فيدينون لها " قال : المقداد : قلت فيكون الدين كله لله ٢ رواه أحمد، قلت : وقد أنجز الله وعده ذلك حتى انقاد لأهل الإسلام أهل الأديان كلها في أكثر الأقطار وأغلب الزمان ولا يقتضي هذه الآية تأبيد هذه الحالة فقد روى مسلم عم عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يذهب الليل والنهار حتى يعبد اللات و العزى " فقلت : يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون أن ذلك تاما قال :" إنه سيكون من ذلك ما شاء الله تعالى ثم يبعث الله تعالى ريحا طيبة فتوفي كل من كان في قبله مثقال خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم " ٣ وقال الحسن بن الفضل معنى الآية ليظهره على الدين كله بالحجج الواضحة، وقيل : ليظهر على الأديان التي حول النبي صلى الله عليه وسلم فيغلبهم قال : الشافعي لقد اظهر رسوله صلى الله عليه وسلم على الأديان كلها بان أبان لكل من سمع انه الحق وما خالفه باطل وقال ك وأظهر بأن جماع الكفر دينان دين أهل الكتاب ودين الأميين فقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعا وقتل أهل الكتاب وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام وأعطى بعضهم الجزية صاغرين وجرى عليهم حكمه فهذا ظهوره على الدين كله، وهذه الآية كالبيان لقوله ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولذلك كرر ﴿ ولو كره المشركون ﴾ ذلك غير انه وضع المشركون موضع الكافرون للدلالة أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الشرك بالله.
١ أخرجه أبو داود في كتاب: الملامح باب: خروج الدجال (٤٣١٥).
٢ رواه أحمد والطبراني ورجال الصحيح. انظر مجمع الزوائد في كتاب: المغازي والسير باب: علو الإسلام على كل دين خالفه وظهوره عليه (٩٨٠٧).
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة (٢٩٠٧).
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار ﴾ يعني العلماء من أهل الكتاب ﴿ والرهبان ﴾ عن النصارى ﴿ ليأكلون ﴾ أي ينتفعون بها ويأخذونها، ذكر الأكل وأراد به مطلقا الانتفاع أو الأخذ نفسه لأن الأكل أحل الانتفاعات والغرض الأعظم من الأخذ، ﴿ أموال الناس بالباطل ﴾ يأخذون الرشوة في أحكامهم ويحرفون كلام الله ويكتبون بأيديهم كتبا ويقولن هذه من عند الله، ويغيرون نعت النبي صلى الله عليه وسلم يخافون أنهم لو صدقوا لذهب عنهم المأكل التي كانوا يأكلونها من سفلتهم ﴿ ويصدون ﴾ أي : يصرفون الناس ﴿ عن سبيل الله ﴾أي : دينه ﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ﴾ الظاهر أن المراد بالموصول الأحبار والرهبان، والموصول معطوف على مقدرة مفهوم مما سبق تقديره فهم يعني الذين يأكلون أموال الناس وينتفعون بها والذين يكنزونها ﴿ ثم لا ينفقونها ﴾ الضمير راجع إلى المعنى لأن كلوا أحد منها دراهم ودنانير أو أريد به الكنوز أو الأموال أو يكون الضمير راجعا إلى الفضة لكونها أكثر استعمالا في الإنفاق، وفيه إشارة إلى أن زكاة الذهب والفضة يضم أحدهما إلى الآخر في اعتبار النصاب فيؤدي الزكاة من احدهما، قال : أبو حنيفة رحمة الله بضم احدهما إلى الآخر بالقيمة وقال صاحباه يضم بالأجزاء فمن كان عنده عشرة مثاقيل ذهب ومائة درهم يجب الزكاة إجماعا. وإن كان عنده مثاقيل من ذهب قيمتها مائة درهم أو أكثر يعتبر نصاب الفضة، ويجب زكاتها عند أبي حنيفة دون صاحبيه وكذا إن كان عنده خمسة مثاقيل ذهب ومائة درهم قيمتها خمسة عشر مثاقيل ذهب أو أكثر يعتبر نصاب الذهب ويجب زكاتها أيضا عند أبي حنيفة دون صاحبيه، فيه إشارة إلى أنه لا يجب إنفاق جميع المال بل يكفي إنفاق بعضها كالفضة مثلا من الجنسين والله اعلم.
خص الله سبحانه النوعين بالذكر من بين سائر الأموال الظاهر لأنهما أثمان الأشياء وغيرهما من الأموال يقدر بهما من غير عكس، ولأجل هذا وجب الزكاة في عروض التجارة إذا بلغ نصابا من ذهب أو فضة دون غيرهما من نصب أموال الزكاة، فذكرهما يغني عن ذكر سائر الأشياء أو لأنهما يكنزان غالبا دون غيرهما. ﴿ في سبيل الله ﴾ قلت : عدم الإنفاق في سبيل الله يعم عدم الإنفاق أصلا في غير سبيل الله بل في اتباع النفس والشيطان كالذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، لكن لما سبق في الآية ﴿ إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ﴾ علم أن المراد هاهنا عدم الإنفاق أصلا كما يستدعيه قوله تعالى :﴿ يكنزون ﴾، والإنفاق في سبيل الله يعم الزكاة المفروضة والصدقة النافلة والنفقات الواجبة المستحبة وكلما كان في طاعة الله تعالى، عن ابن مسعود قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أنفق المسلم عن أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة " ١ متفق عليه وعن أبي هريرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" دينار أنفقته في سبيل الله في رقبة ودينار تصدقت به على المسكين ودينار أنفقته على اهلك أعظمها أجرا الذي أنفقته على اهلك " ٢ رواه مسلم، وعن ثوبان قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه على دابة في سبيل الله ودينار على أصحابه في سبيل الله " ٣ وعن أم سلمة قالت : قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألي أجر إن أنفق على بني سلمة إنما هم بني فقال :" أنفقي عليهم ذلك اجر ما أنفقت عليهم " ٤ متفق عليه، وعن زينب امرأة ابن مسعود سألت هي وامرأة أخرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما ؟ قال :" لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة " ٥ متفق عليه ﴿ فبشرهم ﴾، يعني كلا الفريقين الذي يأكلون أموال الناس بالباطل والذين يكنزون ولا ينفقون أصلا ﴿ بعذاب اليم ﴾ فعلى هذا التأويل الذي ذكرت حكم الآية مختص بأهل الكتاب، وقال الحسن عن بعض الصحابة وفي غيرهم بدلالة النص ويحتمل أن يكون قوله تعالى ﴿ والذين يكنزون ﴾ كلاما مستأنفا غير مختص بأهل الكتاب و به قال : أبو ذر، وعلى هذا التأويل سياق الكلام يقتضي أن يقدر قوله تعالى﴿ إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ﴾ ﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ ولم يذكر هناك اكتفاء في الجملة التالية.
فائدة
وفي تقريع بشارة العذاب على الكنز وعدم الإنفاق جميعا إشارة إلى أنه لا بأس بالكنز لو انفق منها في سبيل الله ما وجب فيها وعليه انعقد الإجماع اخرج الطبراني في الأوسط وابن عدي في الكامل وابن مردويه والبيهقي في سننه من حديث ابن عمر قوله صلى الله عليه وسلم :" ما أدي زكاته فليس بكنز أوعد عليه، قال : البغوي روى مجاهد عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية كبر ذلك على المسلمين وقالوا ما يستطيع أحد منا لا يدع لولده شيئا فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم " ٦ قلت أخرج هذا الحديث أبو داود وأبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس وزاد :" وإنما فرض المواريث ليكون من بعدكم "، وقال البغوي قال : ابن عمر ما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه واعمل بطاعة الله، واخرج ابن أبي حاتم والحاكم وأبو الشيخ وابن حبان موقوفا على علي ابن أبي طالب انه قال : كل مال على أربعة آلف درهم فهي كنز أديت فيه الزكاة أو لم يؤدوا ما دونها نفقة وقيل : ما فضل عن الحاجة كنز لحديث أبي ذر قال : انتهيت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في طل الكعبة فلما رآني قال :" هم الأخسرون ورب الكعبة " قلت : فدالك أبي وأمي من هم :" هم الأكثرون أموالا إلا من قال : هكذا وهكذا و هكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم " ٧ متفق عليه، وحديث أبي ذر أيضا مرفوعا :" من ترك صفراء وبيضاء كوى بها " أخرجه البخاري في تاريخه وابن جرير وابن مردويه، قلت : لعل المراد بهذا الحديث أنه كوي أن لم يؤد حقها وكذا بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق " إلا من قال : هكذا المراد إلا من أدى ما وجب فيها فإن الأكثرين أموالا يجب عليهم مال كثير، وفي الزكاة فلا بد أن ينفقوا من كل جانب وفي كل باب من أبواب الخير.
واحتج من قال : إن فضل عن الحاجة فكنز أيضا بحديث أبي أمامة قال : مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار، فقال : النبي صلى الله عليه وسلم " كية "، ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال : النبي صلى الله عليه وسلم " كيتان " ٨، ذكره البغوي وحديث ابن مسعود قال : توفي رجل من أهل الصفة فوجدوا في شملته دينارين فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :" كيتان " وفي حديث مسعود بن عمر انه أتى برجل يصلي عليه فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " كم ترك " ؟ قالوا : دينارين أو ثلاثة، قال عليه السلام :" كيتين أو ثلاث كيات " فلقيت عبد الله أبا القاسم سوى أبي بكر فقال : ذك رجل يسأل الناس تكثرا رواه البيهقي، من رواي يحيى بن عبد الحميد الحماني، قلت : وما ذكر أبو القاسم محمل لحديث أبي أمامة وابن مسعود أيضا ويمكن أن يقال من التزم على نفسه التصرف وعاهده الله تعالى على الترك والتوكل ولا يكون ذا عيال عليه حقوق الناس لا يجوز له أن يمسك فوق حاجته قال : الله تعالى :﴿ أوفوا بالعقود ﴾ ٩ ﴿ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا ﴾ ١٠فكان أهل الصفة من هذا النوع من الرجال وقول علي رضي الله عنه محمول على صوفي ذا عيال وعلي رضي الله عنه أبو الصوفية أجمعين.
١ أخرجه البخاري في كتاب: النفقات باب: فضل النفقة على الأهل (٥٣٥١) وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة باب: فضل الصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين (١٠٠٢)..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة: باب: فضل النفقة على العيال والمملوك وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم (٩٩٥).
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة باب: فضل النفقة على العيال والمملوك وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم(٩٩٤).
٤ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر (١٤٦٧)، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: فضل النفقة والصدقة على الأقربين (١٠٠١)..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر (١٤٦٦)، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة باب: فضل الصدقة والنفقة على الأقربين (١٠٠٠).
٦ أخرجه أبو داود في كتاب: الزكاة باب: في حقوق المال (١٦٦٣).
٧ أخرجه البخاري في كتاب: اليمان والنذور باب: كيف يمين النبي صلى اله عليه وسلم (٦٦٣٨) وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة ٩٩٠.
٨ رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير شهر بن حوشب وقد وثق، انظر مجمع الزوائد في كتاب:
الزهد باب: في الإنفاق والإمساك (١٧٧٧٠).

٩ سورة المائدة، الآية ١..
١٠ سورة الإسراء، الآية ٣٤..
﴿ يوم يحمى عليها ﴾ أي يدخل النار فيوقد النار عليها أي : على الكنوز أو على الدنانير والدراهم المفهومة من الذهب والفضة و تحصيصها تقربها ودلالة حكمها على أن الذهب أولى بهذا الحكم، وإنما ذكر الفعل لأنه مسند إلى الجار والمجرور أصله يوم يحمى عليها النار، في القاموس الشمس والنار حميا وحميا اشتد صرهما، وقال البيضاوي أصله يحمى بالنار فجعل الإحمار للنار مبالغة فلما حذفت النار وانتقل الإسناد من النار إلى عليها ذكر الفعل كما يقال رفعت القصة إلى الأمير فإن لم يذكر القصة يقال رفع إلى الأمير والظرف متعلق بعذاب ﴿ في نار جهنم فتكوى ﴾ يعني مقاديم أبدانهم ﴿ وجنوبهم ﴾ يعني أيمانهم وشمائلهم ﴿ وظهورهم ﴾ يعني مأخرا أبدانهم فذكر الجهات كلها يعني يكوى بها أبدانهم من كل جهة، وقيل : إنما خص هذه الأعضاء بالذكر لأنهم إذا بصروا الفقير عبسوا وإذا ضمهم إياه مجلس أعرضوا عنه وتولوا بأركانهم ولولوه ظهورهم، أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسة التي هي الدماغ والقلب والكبد يوسع جلودهم وأعضائهم حتى يوضع عليه كلها ﴿ هذا ما كنزتم لأنفسكم ﴾ حال مما أضيف إليه فاعل يكوى بتقدير القول يعني مقولا لهم هذا المال ما كنزتموه لينتفع به أنفسكم وما علمتم أنكم كنزتموه ليستنصر به أنفسكم وهذا الكلام توبيخ ﴿ فذوقوا ما كنتم تكنزون ﴾ أي : وبال كنزكم أو ما تكنزونه، عن أبي هريرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جنبه وجنبيه وظهره كما دت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " قيل : يا رسول فالإبل ؟ قال :" ولا صاحب إبل لا يؤدي حقها ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطأه بأخفها فها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أو لها رد عليه آخرها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " وقيل يا رسول الله فالبقر والغنم ؟ قال :" ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلجاء ولا غضباء تنطحه بقرونها وتطأه بأظلافها كلما مر عليه أولاها ردت آخرها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " ١ الحديث رواه مسلم وهذا الحديث رواه مسلم وهذا الحديث كأنه تفسير للآية وفيه تصريح بان المراد بالكنز ما لم يؤد حقها، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من آتاه مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوفه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كترك ثم تلا ﴿ ولا يحسبن الذين يبخلون ﴾ ٢ الآية رواه البخاري، وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :: " ما من رجل يكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه تطأه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جاءت آخرها ردت عليه أولها حتى يقضي بين الناس " ٣ متفق عليه.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: لإثم مانع الزكاة (٩٨٧).
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة باب: إثم مانع الزكاة (١٤٠٣).
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب زكاة البقر (١٤٦٠).
وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة (٩٩٠).

﴿ إن عدة الشهور ﴾ أي : مبلغ عددها المعتمدة بها للسنة ﴿ عند الله ﴾ متعلق بعدة لأنها مصر ﴿ اثنا عشر شهرا في كتاب الله ﴾ في اللوح المحفوظ أو في حكمه وهو صفة لاثني عشر، قرأ أبو جعفر اثنا واحد عشر وتسعة بسكون الشين بفتحها ﴿ يوم خلق السماوات والأرض ﴾متعلق بما في الظرف متعلق بما في الظرف السابق من معنى الثبوت أو بالكتاب إن جعل مصدرا، يعني أن المعتبر عند الله تعالى لأجل الصيام والحج والزكاة الأشهر الهلالية وقد اعتبر الله سبحانه دورانها ومبلغها باثنا عشر لا مزيد عليه، جعل الله سبحانه منها شهرا للصوم وأشهرا وقتا للحج، وعلق وجوب أداء الزكاة بتمام الإثني عشر ﴿ منها أربعة حرم ﴾ حرم الله تعالى فيها البداية بالقتال وهو رجب واحد فرد وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة سرد ﴿ ذلك ﴾ اعتبارا للأشهر الهلالية واعتبار اثنا عشر لا أقل ولا أكثر ﴿ الدين القيم ﴾ الدين القويم دين إبراهيم عليه السلام لا يجوز ترك اعتبارها كما ترك النصارى صوم رمضان وجعلوا مكانها خمسين يوما في موسم الربيع اعتدال الشمس ﴿ فلا تظلموا فيهن أنفسكم ﴾ قيل : ضمير ينصرف على جميع شهور السنة يعني لا تفعلوا المعصية في شيء منها والظاهر انه راجع إلى الأربعة لقربه ولن كلمة الفاء التفريعية يقتضي ذلك فإن النهي عن الظلم متفرع على كونها محرمة، والمراد بالظلم هتك حرمتها والقتال فيها وقال : قتادة العمل الصالح أعظم أجرا في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن وإن كان الظلم على كل حال عظيما، وقال ابن عباس لا تظلموا فيهن يريد استحلال الحرام والغارة فيهن، وقال محمد ابن إسحاق بن يسار لا تجعلوا حلالها حراما ولا حرامها حلالا كما فعل أهل الشرك وهو النسيء ﴿ وقاتلوا المشركين كافة ﴾جميعا وهي مصدر كف الشيء فإن الجميع مكفوف عن الزيادة ﴿ كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين ﴾بشارة بكمال قربهم من الله تعالى ومعية بهم معية بلا كيف وضمان لهم بالنصرة بسبب تقويهم، قال : البغوي : اختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم ؟ فقال : قوم كان كبيرا ثم نسخ بقوله تعالى :﴿ وقاتلوا المشركين كافة ﴾ كأنه يقول فيهن وفي غيرهن وهو قول قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري قالوا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة انتهى، وأنت خبير بأن ﴿ وقاتلوا المشركين كافة ﴾لا يصلح ناسخا لقوله تعالى :﴿ منها أربعة حرم ذلك الدين القيم ﴾ لأنه متصل ولا بد في النسخ من التراخي ولأنه لا عموم في قوله تعالى :﴿ وقاتلوا المشركين كافة ﴾من حيث الزمان حتى يصلح ناسخا للحرمة الزمانية ولا عموم للمقتضي والتقدير بقوله فيهن وفي غيرهن لا دليل عليه، ولن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل ذو القعدة ترك حصار طائف ولو صح حديث قتاله في ذي القعدة فحديث الآحاد لا يصلح ناسخا للكتاب ولأن هذه الآية نزلت في السنة التاسعة بعد غزوة الطائف وهي في سنة ثمان فكيف يتصور كونه ناسخا ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بين حرمة الأشهر في خطبة في حجة الوداع قبل وفاة بثمانين يوما، فالصحيح ما قال : الآخرون انه منسوخ، قال ابن جريح حلف بالله عطاء بن أبي رباح ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها وما نسخت قلت : ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطؤا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين ( ٣٧ ) ﴾
﴿ إنما النسيء ﴾ فعيل بمعنى المصدر كالسعير والحريق أو بمعنى المفعول كالجريح والقتيل، ومعناه التأخير أو المؤخر منه النسيئة في البيع يقال أنسا الله اجله ونسأ في اجله أي : أخر، قرأه الجمهور ممدود مهزوما لامه وورش الياء من غير همز وإذا وقف همزه إشمام وقفا ووصلا، وعلى قراءة ورش قيل : هو من النسيان على المعنى المنسي أي المتروك، وقيل : أصله الهمزة فخفف والمراد من النسيء ما كان يفعله أهل الجاهلية من تأخير تحريم شهر إلى شهر، أخرج ابن جرير عن أبي مالك قال : كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا فيجعلون المحرم صفرا فانزل الله هذه الآية قال : البغوي كان العرب معتقدين بتعظيم الأشهر الحرم وكان ذلك مما تمسكوا به من دين إبراهيم عليه السلام وكان عامة معايشهم من الصيد والغارة وكان يشق عليهم الكف ثلاثة أشهر على التوالي وربما وقعت لهم حرب في بعض الأشهر الحرم فيكرهون تأخير حربهم فينسوا أي يؤخروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر فكانوا يؤخرون تحريم إلى محرم إلى صفر فيحرمون صفر أو يستحلون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخيرهم تحريم صفر آخر ولا على ربيع وهكذا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله عز وجل وذلك بعد دهر طويل فخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
روى الشيخان في " الصحيحين " عن أبي بكرة قال : خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر قال :" إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة ة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، وقال أي شهر هذا ؟ قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا انه سيسميه بغير اسمه فقال : أليس ذو الحجة قلنا : بلى قال : أي بلد هذا ؟ الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : أليس البلدة ؟ قلنا : بلى، قال : فأي يوم هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : أليس يوم النحر ؟ قلنا بلى :" فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا هل بلغت، قالوا : نعم قال :" اللهم اشهد فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع " ١ قالوا : وقد كان قد استمر النسيء بهم وكانوا يحجون في بعض السنين في شهر ويحجون من قابل في شهر آخر " قال : مجاهد : كانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي الحجة عامين وفي المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكان وكذلك في الشهور فوافق حجة أبي بكر رضي الله عنه قبل حجة الوداع السنة الثانية من ذي القعدة ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافق حجه شهر الحج المشروع وهو ذو الحجة ووقف بعرفة اليوم التاسع وخطب اليوم العاشر بمنى، وأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان وعاد المر إلى ما وضع الله عليه حساب الأشهر يوم خلق الله السموات والأرض وأمرهم بالمحافظة لئلا يبدل في مستأنف الأيام واختلفوا في أول من النسيء، فقال : ابن عباس والضحاك وقتادة ومجاهد أول من نسأ بنو مالك بن كنانة وكانوا ثلاثة أبو ثمامة وجنادة بن عوف وابن أمية الكناني، وقال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال : له نعيم بن ثعلبة وكان يكون أميرا على الناس بالموسم فإذا هم الناس بالصدر، قام فخطب الناس فقال : لا مرد لما قضيت أن الذي لا أعاب ولا أحاب، فيقول له المشركون لبيك يسألونه أن ينسهم شهرا يغيرون فيه فيقول : فإن صفر العام حرام فإذا قال : ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة وإن قال : حلال عقدوا الأوتار وشدوا الأزجة وأغاروا وكان من بعد نعيم بن ثعلبة رجل يقال له جنادة بن عوف وهو الذي أدركه النبي صلى الله عليه وسلم وقال عبد الرحمان بن زيد بن أسلم وهو رجل من بني كنانة يقال له الغلمس وقال شاعرهم :
***وفينا ناسي الشهر ***
وكانوا لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمع العرب للموسم، وقال ابن جرير والضحاك عن ابن عباس أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار " ٢ فهذا الذي ذكرنا هو الذي قال : الله تعالى : إنما النسيء ﴿ زيادة في الكفر ﴾ لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله فهو كفر آخر زائد على كفرهم ﴿ يضل به الذين كفروا ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص يضل بضم الياء على البناء للمفعول كقوله تعالى :﴿ زين لهم سوء أعمالهم ﴾ ٣ وقرأ يعقوب بضم الياء وكسر الضاء من الأفعال وهي قراءة الحسن ومجاهد يعني يضل به الذين كفروا الناس وقرأ الباقون بفتح الياء وكسر الضاد على البناء للفاعل من المجرد الذي كفروا الناس وقرأ الباقون بفتح الياء وكسر الضاد على البناء للفاعل من المجرد لأنهم هم الضالون ﴿ يحلونه ﴾ الضمير راجع إلى الشهر المفهوم من النسيء يعني يحلون شهرا ﴿ عاما ويحرمونه عاما ﴾ والجملتان تفسير للضلال أو حال ﴿ ليواطؤا ﴾ متعلق بيحرمونه أو بما دل عليه مجموع الفعلين يعني يفعلون ذلك ليوافقوا والمواطأة الموافقة ﴿ عدة ما حرم الله ﴾ وهي الأربعة الأشهر ﴿ فيحلوا ما حرم الله ﴾ كيلا يزيد الأشهر الحرم على الأربعة قصدوا مراعاة العدد من غير مراعات الوقت والله اعلم ﴿ زين لهم سوء أعمالهم ﴾ قال : ابن عباس يريد زين لهم الشيطان سوء أعمالهم حسبوا حسنا، أو المعنى زين الله تعالى سوء أعمالهم بمعنى أنه خذلهم فأضلهم يناسبه قوله ﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ هداية موصلة إلى الحق ذكر محمد بن يوسف الصالحي انه قال : محمد بن عمرو ومحمد بن سعيد أن جماعة من الأنباط الذي يقدمون المدينة بالزيت من الشام، ذكروا المسلمين أن الروم جمعوا جموعا كثيرة وان هرقل قد رزق أصحابه لسنة وأخليت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان وغيرهم من مستقر العرب وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء ولم يكن حقيقة فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فندب الناس إلى الخروج إلى الشام، وروى الطبراني بسند ضعيف عن عمران بن حصين قال : كانت نصارى العرب كتب إلى هرقل أن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك وأصابهم سنون فهلكت أموالهم فإن كنت تريد أن تلحق دينك فالآن فبعث رجلا من عظمائهم وجهز معه أربعين ألفا فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فأمر بالجهاد.
وروى ابن أبي حاتم وأبو سعيد النيسابوري بإسناد حسن أن اليهود قالت : لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا القاسم إن كنت صادقا فالحق بالشام فإنها أرض الأنبياء فعزم غزوا لايريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله الآيات من سورة بني إسرائيل ﴿ وإن كانوا ليستفزونك من الأرض ﴾ الآيات، وروى ابن مردويه عن ابن عباس وابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد وابن جرير عن سعيد بن جبير أن الله سبحانه لما أمر بمنع المشركين من قربان المسجد الحرام في الحج وغيره قالت قريش وغيره قالت قريش : ليقطعن عنا المتجر والأسواق ما كنا نصيب منها فعوضهم الله تعالى عن ذلك بالأمر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كما قال :﴿ وإن خفتم عيلة يغنيكم الله من فضله إن شاء ﴾٤ وقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ﴾٥ عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال الروم لأنهم أقرب الناس إليه وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام، قال : البغوي : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف أمر بالجهاد بغزو الروم قال : محمد بن يوسف الصالحي : لما عزم النبي صلى الله عليه وسلم على القتال الروم عام تبوك وكان ذلك في زمان عسرة من الناس وشدة من الحر وجدب في البلاد وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص على تلك الحال من الزمان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل يخرج في غزوة إلا كنى عنها وروى بغيرها إلا ما كان من غزو تبوك فإنه صلى الله عليه وسلم بينها للناس لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدو يعمد له ليتأهب الناس لذلك أهبة فأمر صلى الله عليه وسلم للجهاد وكذا روى ابن أبي شيبة والبخاري وابن سعد عن كعب بن مالك ودعى من حوله من أحياء العرب للخروج معه فارغب معه بشر كثير وبعث إلى مكة وتخلف المنافقون وجماعة من المؤمنين المقصرين ومتثاقلوا فأنزل الله تعالى فيهم. ﴿ يا أيها الذين امنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ( ٣٨ ) إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير ( ٣٩ ) إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فانزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ( ٤٠ ) ﴾
١ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع (٤٤٠٦) وأخرجه مسلم في كتاب: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والموال (١٦٧٩).
٢ أخرجه مسلم في كتاب: صفة الجنة ونعيمها وأهلها باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (٢٨٥٦).
٣ أخرجه مسلم في كتاب: صفة الجنة ونعيمها وأهلها باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (٢٨٥٦).
٤ سورة التوبة، الآية: ٢٨..
٥ سورة التوبة، الآية: ١٢٣..
﴿ يا أيها الذين امنوا ﴾ خطاب للمؤمنين المقصرين وجاز أن يكون عاما للمنافقين أيضا فإنهم آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ﴿ ما لكم ﴾ استفهام توبيخ ﴿ إذا قيل لكم ﴾ أي : قال : لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ انفروا ﴾ أخرجوا ﴿ في سبيل الله ﴾ للجهاد ﴿ اثاقلتم ﴾ أصله تثاقلتم أي : تباطأتم ﴿ إلى الأرض ﴾ متعلق باثاقلتم لتضمنه معنى الإخلاد الميل فعدي بإلى والمعنى لزومكم أرضكم ومساكنكم ﴿ أرضيتم بالحياة الدنيا ﴾ أي ببضاعتها ﴿ من الآخرة ﴾ مستبدلين من نعيم الآخرة ﴿ فما متاع الحياة الدنيا ﴾ يعني ليس تمتعات الحياة الدنيا في جنب نعيم ﴿ الآخرة إلا قليل ﴾ أي : مستحق قدرها وسريع زوالها ثم أوعدهم على ترك الخروج للجهاد.
أخرج ابن أبي حاتم عن نجدة بن نقيع عن ابن عباس قال : استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا من العرب فنثاقلوا عليه فأنزل الله تعالى ﴿ إلا ﴾ بإدغام اللام في نون أن الشرطية في الموضعين ﴿ تنفروا ﴾ إلى مااستنفرتم إليه ﴿ يعذبكم عذابا أليما ﴾ في الدنيا والآخرة فعذبهم الله في الدنيا بان أمسك عنهم المطر إذ ما لم ينفروا ﴿ ويستبدل قوما غيركم ﴾ مطعين قيل : هم أهل اليمن وقال سعيد بن جبير : هم أبناء فارس ﴿ ولا تضروه شيئا ﴾ أي لا يقدح تثاقلكم في نصره دينه شيئا فإنه تعالى غني عن كل شيء في كل أمر وقيل الضمير للرسول شيئا فإن الله تعالى وعد له بالعصمة والنصرة وتختلف وعد محال ﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ فيقدر على تبديلكم وتغير الأسباب والنصرة بلا مدد في الآية سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين واستبدل بهم قوما غيرهم مطيعين وانه غني عنهم في نصر دينه
﴿ إلا تنصروه فقد نصره ﴾ يعني إن لا تنصروه فسينصره ﴿ الله ﴾ كما نصره ﴿ إذ أخرجه الذين كفروا ﴾ ثاني اثنين منصوب على الحال من الضمير المنصوب في نصره يعني نصره حال كونه بحيث لم يكن معه إلا رجل واحد وهو أبو بكر وهو ثانيهما فحذف الجزاء وأقيم ما هو كالدليل مقامه، أو المعنى عن لا تنصروه فقد أوجب الله له النصر حتى نصر في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في شيء من الأوقات، واسند الإخراج إلى الذين كفروا به أن يقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه في دار الندوة وقد مر قصته في سورة الأنفال وكان ذلك سبب لإذن الله سبحانه بالخروج ﴿ إذ هما في الغار ﴾وهو نقب في جبل أسفل مكة بدل من إذ أخرجه وبعده بدل ثان ﴿ إذ يقول ﴾ يعني النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر :" أنت صاحبي في الغار وصاحبي في الحوض " ١ وروى مسلم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو كنت متخذا خليلا لاتخذن أبا بكر خليلا ولكنه أخي وصاحبي ولكن اتخذ صاحبكم خليلا " ٢ قال : الحسن بن الفضل من قال : إن أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكاره نص القرآن وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا كافرا ﴿ لا تحزن إن الله معنا ﴾ معية غير متكفية قال : الشيخ الجل الشهيد مظهر فيوض الرحمان مرزاجان جانان رحمه الله تعالى رحمة واسعة كفى لأبي بكر فضلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت لأبي بكر معية الله سبحانه التي أثبتها لنفسه بلا تفاوت فمن أنكر فضل أبي بكر أنكر هذه الآية الكريمة وكفر ولم يكن حزن أبي بكر رضي الله عنه جبنا منه كما قالت الروافض لعنهم الله، بل إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إن أقتل فانا رجل واحد وإن قتل، يعني النبي صلى الله عليه وسلم هلكت الأمة وسنذكر في أحاديث الغار ما يدل على أن حزن أبي بكر كان إشفاقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأجل نفسه.
قصة خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة
روى موسى بن عقبة وابن إسحاق واحمد والبخاري وابن حبان عن عائشة وابن إسحاق والطبراني عن أختها أسماء رضي الله عنهما قالت عائشة فيما روى البخاري : لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهار بكرة وعشية، فلما ابتلى المسلمون قال : النبي صلى الله عليه وسلم " رأيت دار هجرتكم ذات نخيل اللأبتين " وهي الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة على المدينة وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال : له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي : فقال : أبو بكر : وهل ترجوا ذلك بأبي أنت وأمي ؟ قال :" نعم " فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه و علف راحلتين كانتا عنده ورق السمر، وهو الخبط أربعة أشهر فبينا نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قالت : أسماء يا أبت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقنعا رأسه في ساعة لم يكن يأتيها فيها قال : أبو بكر : فداه أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذن فأذن له فدخل فقال : النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر :" أخرج من عندك " فقال أبو بكر : لا عين عليك إنما هما ابنتاي، وفي لفظ إنما هم أهلك بأبي وأمي يا رسول الله فقال :" إنه قد أذن لي في الخروج " فقال : أبو بكر الصحبة يا رسول الله قال : نعم قالت عائشة : فرأيت أبا بكر يبكي وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أباب بكر، فقال : أبو بكر : يا رسول الله فخذ بأبي أنت إحدى راحلتي هاتين فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بالثمن لا أركب بعيرا ليس لي " قال : هو لك ولكن بالثمن الذي ابتعتهما به، قال : أخذتها بكذا قال : أخذتها بذلك، قال : هي لك، وعند البخاري في غزوة الرجيع إنها الجدعاء، وأفاد الواقدي أن الثمن ثمان مائة، قالت عائشة فجهزوهما أحب الجهاز ووضعنا لهما سفرة في جراب، وأفاد الواقدي انه كان في السفرة شاة مطبوخة فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين، وفي رواية ذات النطاق، قال : محمد بن يوسف الصالحي المحفوظ في هذا الحديث أن أسماء نطاقها نصفين فشدت بأخدهما الزاد واقتصرت على الآخر، ومن ثم قيل لها : ذات النطاق وذات النطاقين فالتثنية والأفراد بهذين الاعتبارين، وعن ابن سعد أنها شقت نطاقها فأوكت بقطعة من الجراب وشدت في القرية بالباقي فسميت ذات النطاقين واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو على دين كفار قريش وأسلم بعد ذلك وكان هاديا خريتا يعني ماهرا بالهداية فأمنا فدفعا إليه راحليتهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث براحلتيهما، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم. . عليا بخروجه وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عند للناس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة احد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته قالت عائشة : ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في غار في جبل ثور في حديث عمر عند البيهقي أنهما خرجا ليلا، وذكر ابن إسحاق والواقدي أنهما خرجا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر، وروى أبو نعيم عن عائشة بنت قدامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقد خرجت من الخوخة متنكرا فكان أول من لقيني أبو جهل فأعمى الله عز وجل بصره عني وعن أبي بكر حتى مضينا، قالت أسماء وخرج أبو بكر بماله كله خمسة آلاف درهم، قال : البلادري كان مال أبي بكر يوم أسلم أربعين ألف درهم فخرج للمدينة للهجرة وما ماله إلا خمسة آلاف درهم أو أربعة فبعثه ابنه عبد الله فحملها على الغار قالت : فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال : والله إني لأراه قد ذهب بماله مع نفسه قالت قلت : كلا يا أبت إنه ترك لنا خيرا كثيرا قالت : فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة البيت كان أبي يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت : ضع يا أب يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه فقال : لا بأس إن كان ترك لكم هذا فقد أحين وفي هذا بلاغ لكم ولا والله ما ترك لنا شيا ولكن أردت أن أسكن الشيخ
روى البيهقي أن أبا بكر لما خرج هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار جعل يمشي مرة أمام النبي صلى الله عليه وسلم ومرة خلقه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اذكر الرصد فأكون أمامك واذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك، فلما انتهينا إلى فم الغار قال : أبو بكر : والذي بعثك بالحق نبيا لا تدخله قلبك ما أن كان فيه شيء نزل بي قبلك فدخله فجعل يلتمس بيده فكلما رأى حجرا قال : بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع فبقي حجر فوضع عقبه عليه، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت الحيات يلسعن أبا بكر وجعلت دموعه يتحدر، وروى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي بكر رضي الله عنه أنما لما انتهيا إلى الغار إذا حجر فألقمه أبو بكر رجليه فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان لدغة أو لسعة كان بي، وروى ابن مردويه عن جندب بن سفيان قال : لما انطلق أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار قال : أبو بكر : يا رسول الله لا تدخل الغار حتى استبرئه فدخل أبو بكر الغار فأصاب يده شيء فجعل يمسح الدم عن يده ويقول : هل أنت إلا أصبع رميت وفي سبيل الله ما لقيت " وفي حديث انس عند أبي نعيم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح قال لأبي بكر أين ثوبك فأخبر بالذي صنع فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال : اللهم اجعل أباب بكر معي في درجتي في الجنة فأوحى إليه قد استجاب الله لك "، وروى رزين عن عمر انه ذكر عنده أبو بكر فبكى وقال : وددت أن عملي كله مثل عمله يوما واحدا من أيامه وليلة واحدة من لياليه أما ليلته فليلة سار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار فلما انتهيا إليه قال : والله لا تدخله حتى ادخل قبلك فإن كان فيه شيء أصابني دونك فدخل فكسحه ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسدها به فبقي فيها اثنان فألقمها رجليه ثم قال : لرسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الحجر ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده ثم انتقض عليه وكان سبب موته، وأما يومه فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب وقالوا لا نؤدي زكاة فقال : لو منعوني عقالا لجهاتهم عليه فقلت : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تالف الناس وأرفق بهم فقال : لي : أحبار في الجاهلية وخوار في الإسلام إنه قد انقطع الوحي وتم الدين أينقص وأنا حي.
روى ابن سعد وأبو نعيم والبيهقي وابن عساكر عن أبي مصعب المكي قال : أدركت أنس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الغار انبت الله شجرة فنبت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا في فم الغار وأقبل فتيان من كل بطن بعصيهم وهراويهم وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم على أربعين ذراعا جعل بعضهم ينظر في الغار فلم ير إلا حمامتين وحشيتين فعرف أنه ليس فيه فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما قال : فعرف أن الله تعالى قد درأ عنه بهما فبارك عليهما النبي صلى الله عليه وسلم وفرض جزاء بهن وانحدرتا في الحرم فأفرخ ذلك الزوج كل شيء في الحرم وروى أحمد بسند حسن عن ابن عباس أن المشركين قصوا أثره رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعد والجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال، وروى الحافظ أحمد أبو بكر بن سعيد القاضي شيخ للنسائي في مسند الصديق عن الحسن البصري قال : جاءت قريش يطلب النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلي وأبو بكر يرتقب فقال : أبو بكر يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء قومك يطلبونك أما والله ما على نفسي أبكي ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره فقال : له النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر لا تخف إن الله معنا وفي الصحيحين عن أبي بكر الصديق قال :" قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار لو أن أحدهم نظر إلى قدمه لأبصر ما تحت قدمه فقال :" يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ٣ وروى أبو نعيم في الحلية عن عطاء بن مسيرة قال : نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود حين كان طالوت يطلبه ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، وذكر البلاردي في تاريخه وأبو سعيد أن المشركين استأجروا رجلا يقال له : علقمة بن كرز بن هلال الخزاعي وأسلم عام الفتح فقفا لهم الأثر حتى انتهى إلى غار ثور وهو بأسفل مكة، فقال : هنا انقطع أثره ولا أدري أخذ يمينا أو شملا ثم صعد الجبل فلما انتهوا على فم الغار قال : أمية بن خلف ما أرى لكم في الغار أن عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمد ثم جاء قبال، وروى البيهقي عن عروة أن المشركين لما فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبوا في كل وجه
١ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب باب: في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما (٣٦٧٩).
٢ أخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (٢٣٨٣).
٣ أخرجه البخاري في كتاب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب: مناقب المهاجرين وفضلهم (٣٦٥٣)، واخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (٢٣٨١)..
﴿ انفروا خفافا ﴾ يعني حين يخف ويسهل لكم الخروج إلى الجهاد بصحة البدن والشباب والقوة والنشاط ووجود الزاد والراحلة والأعوان والأسلحة ﴿ وثقالا ﴾ يعني حين يثقل عليكم لأجل المرض أو الشيب أو الضعف أو عدم النشاط أو شاغل من الأهل والمال والضيعات وقلة الزاد والسلاح والكراع والمتاع، وإلى ما ذكرنا يرجع ما قال : الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة شبابا وشيوخا وما قال : ابن عباس نشط وغير نشاط أو أهل اليسر والعسر أو مقلين من السلاح ومكثرين منه وما قال : عطية العوفي في ركبانا ومشاة وابن زيد أن الثقيل الذي له الضيعة يكره أن يدع ضيعته والحكيم بن عتبة مشاغيل وغير مشاغيل والهمداني أصحاء ومرضى، ويمان عزابا متأهلين أو مقلين الأتباع والحواشي ومستكثرين.
وقال أبو صالح : خفافا من المال أي فقراء وثقالا أي أغنياء وقيل : خفافا مسرعين خارجين ساعة سماع النفير وثقالا بعد التروي فيه والاستعداد له، وقال الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهب إحدى عينيه فقيل له إنك عليل صاحب ضر فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل وغن يمكنني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع، وقال : عطاء الخراساني عن ابن عباس نسخت هذه الآية قوله تعالى ﴿ وما كان المؤمنين لينفروا كافة ﴾١ وقال السدي لما نزلت هذه الآية اشتد شأنها على الناس فنسخها الله تعالى وأنزل :﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ﴾ ٢ الآية لعل المراد بالنسخ في قول ابن عباس والسدي التخصيص لكون نزول الآيتين جميعا بلا فصل في غزوة تبوك فخرج من هذا الحكم من لا يستطيع الخروج من الضعفاء والمرضى والذي لا يجدون ما ينفقون أو ما يركبون عليه ولا يستطيعون الشيء وبقي من يستطيع الخروج ولو بنوع مشقة وذلك لأجل النفير العام ويمكن أن يكون نزول قوله تعالى ﴿ ليس على الضعفاء ﴾ للآية بفضل يوم أو يومين ولو في غزوة تبوك بعدما اشتد شانها على الناس فيكون نسخا والله أعلم.
﴿ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ﴾ أي : بما أمكن لكم منهما كليهما أو احدهما ﴿ في سبيل الله ذلكم خير لكم ﴾ من الاستمتاعات الدنيوية وترك الجهاد ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾الخير من الشر علتهم أن خير لكم أو إن كنتم تعلمون إنه خير وإخبار الله به صدق فبادروا إليه قال : محمد بن عمر حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة يعني لتجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك وكان أول من جاء بماله أبو بكر الصديق بأربعة آلاف درهم فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" هل أبقيت لأهلك شيئا " ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله وجاء عمر بنصف ماله فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل أبقيت لأهلك شيئا " ؟ قال نعم مثل ما جئت به وحمل العباس طلحة بن عبيد الله وسعد بن عبادة وحمل عبد الرحمان بن عوف مائتي اوقية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصدق عاصم بن عدي تسعين وسقا من تمر وجهز عثمان بن عفان ثلث ذلك الجيش حتى كان يقال : ما بقيت لهم حاجة حتى كفاهم، قال : محمد بن يوسف الصالحي كان ذلك الجيش زيادة على ثلاثين ألفا فيكون رضي الله عنه جهز عشرة آلاف وذكر أبو عمرو في الدرر وتبعه في الإشارة أن عثمان حمل على تسعمائة بعير ومائة فرس بجهازها، وقال ابن إسحاق، أنفق عثمان في ذلك الجيش نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها ونقل ابن هشام عمن يثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة عشرة آلاف درهم قال : محمد بن يوسف الصالحي : يعني غير الإبل والزاد وما يتعلق بذلك قال : فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اللهم ارض عن عثمان فإني راض عنه " وروى أحمد والترمذي وحسنه والبيهقي عن عبد الرحمان بن سمرة قال : جاء عثمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف دينار فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول :" ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم " يرددها مرارا ٣
١ سورة التوبة الآية ١٢٢.
٢ سورة التوبة الآية ٩١.
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب باب: في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه (٣٧١٠).
قال : ابن عقبة وتخلف المنافقون عن غزوة تبوك وحدثوا أنفسهم أن رسول الله صلى الله لا يرجع إليهم أبدا فاعتذروا وقال محمد بن عمرو جاءنا ناس من المنافقين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنون في القعود من غير علة فأذن لهم وكانوا بضعة وثمانين رجلا فأنزل الله تعالى فيهم ﴿ لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لا تبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون ﴾
﴿ لو كان ﴾اسم كان مضمر أي لو كان ما دعوا إليه ﴿ عرضا قريبا ﴾أي متاعا دنيويا أو المعنى غنيمة قريبته المتناول ﴿ وسفرا قاصدا ﴾ أي متوسطا ﴿ لا تبعوك ﴾ لوافقوك في الخروج طلبا للغنيمة، ﴿ ولكن بعدت عليهم الشقة ﴾يعني المسافة فإنها تقطع بمشقة، وقيل الغاية التي يقصدونها ﴿ وسيحلفون بالله ﴾ متعلق بسيحلفون أو هو من جملة كلامهم والقول مراد في الوجهين يعني سيحلفون بالله قائلين لو استطعنا لخرجنا أو سيحلفون المتخلفون إذا رجعت من تبوك معتذرين يقولون ﴿ لو استطعنا لخرجنا معكم ﴾ ساد مسد جواب القسم الشرط ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة أو استطاعة الأبدان كأنهم تمارضوا وهذه معجزة لكونه إخبار عما وقع قبله ﴿ يهلكون أنفسهم ﴾ بدل من سيحلفون يعني أنهم يهلكونها بإيقاعها في العذاب بترك امتثال أمر رسول الله والكذب واليمين الفاجرة وجاز أن يكون حالا من فاعل خرجنا يعني لخرجنا معكم وإن أهلكنا أنفسنا بالمسير في الحر وألقياها في التهلكة وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم ألا ترى أنه لو قال : سيحلفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان أيضا سديدا، يقال حلف بالله ليفعلن ولا فعلن فالغيبة على حكم الإخبار والتكلم على الحكاية ﴿ والله يعلم إنهم لكاذبون ﴾في ذلك لأنهم كانوا مستطيعين بخروج
﴿ عفا الله عنك ﴾ قال : سفيان بن عيينة بدأ بالعفو قبل أن يعيره بالذنب لطفا به وإكراما له قلت : أو لأنه تعالى ذكر العفو قبل المعاتبة تحرزا من أن يهلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لكمال خوفه وخشيته من الله تعالى، وقيل : افتح الكلام بالدعاء كما يقول الرجل لمن خاطبه إذا كان كريما عنده عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك ألا زرتني وقيل : معناه أدام لك العفو ﴿ لم أذنت لهم ﴾ في العقود حين استأذنوك وهلا توقفت ﴿ حتى يتبين لك الذين صدقوا ﴾ في الاعتذار ﴿ وتعلم الكاذبين ﴾ فيها يعني من لا عذر له. قال ابن عباس لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين يومئذ أخرج ابن جرير عن عمرو بن ميمون قال : اثنان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بعهما إذنه المنافقين في العقود وأخذه الفدية من أسارى بدر فعاتبه الله كما تسمعون
﴿ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ في التخلف كراهة ﴿ أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ﴾ والمعنى لا يستأذنونك في أن يجاهدوا بل يبادرون غليه ولا ينتظرون الإذن فضلا أن يستأذنوا في التخلف ﴿ والله عليم بالمتقين ﴾شهادة لهم بالتقوى ووعدوا بثوابه
﴿ إنما يستأذنك ﴾ في التخلف ﴿ الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ذكر الإيمان في الموضعين إشارة أن الإيمان يقتضي محبة طمعا في الثواب بحيث لا يستأذن في إتيانه وعدم الإيمان يقتضي تركه لعدم رجاء الثواب ﴿ وارتابت قلوبهم ﴾ فشكت في الدين ونافقت ﴿ فهم في ريبهم يترددون ﴾يتحيرون فتارة يريدون الخروج كيلا يراد من المسلمين أذى لو ظفروا وتارة عدم الخروج لزعمهم أن الرسول لا يرجع إليهم أبدا.
﴿ ولو أرادوا الخروج ﴾معك ﴿ لأعدوا له ﴾ليهيئوا للخروج أو الجهاد ﴿ عدة ﴾ما يعد للسفر والجهاد من المتاع والسلاح والكراع﴿ ولكن كره الله انبعاثهم ﴾ استدراك عن مفهوم قوله :﴿ ولو أرادو الخروج ﴾ كأنه قال : ما خرجوا ولكن تثبطوا لأنه تعالى كره ولم يرد نهوضهم للخروج﴿ فثبطهم ﴾فحبسهم بالجبن والكسل﴿ وقيل اقعدوا ﴾في بيوتكم﴿ مع القاعدين ﴾يعني مع المرضى والزمنا وقيل : مع النساء والصبيان، تمثيل لإلقاء الله كراهة الخروج في قلوبهم أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود أو حكاية قول بعضهم لبعض أو أذان الرسول صلى الله عليه وسلم وتخلف أكثر المنافقين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب سنة تسع فعسكر بثنية الوداع ومعه زيادة من ثلاثين ألفا قاله محمد بن إسحاق ومحمد بن عمر وابن سعد وكذا روى الحاكم في الإكليل عن معاذ بن جبل، ونقل الحاكم في الإكليل عن أبي زرعة الرازي قال : كانوا بتبوك سبعين ألفا وجمع بين الكلامين أن سبعين التابع والمتبوع وكانت الخيل عشرة آلاف فرس، روى عبد الرزاق وابن سعد أنه خرج إلى تبوك يوم الخميس وكان يستحب أن يخرج يوم الخميس، قال : ابن هشام واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وذكر الداروردي أنه استخلف عام بتوك سباع بن عرفظة زاد محمد بن عمر بعد حكاية ما تقدم، ويقال ابن أم مكتوم، قال : والثابت عندنا محمد بن مسلمة الأنصاري ولم يتخلف عنه في غزوة غيرها، وقيل : علي ابن أبي طالب، قال : أبو عمر وتبعه ابن دحية وهو الأثبت.
روى عبد الرزاق في المصنف بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى تبوك استخلف على المدينة علي بن أبي طالب.
قال ابن إسحاق : وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم فأوجف به المنافقون وقالوا ما خلفه إلا استثقالا له وتحققا منه فلما قالوا : ذلك أخذ على سلاحه وخرج حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف فأخبره بما قالوا، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( كذبوا ولكن خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) )١ فرجع علي رضي الله عنه وهذا الحديث متفق عليه، وعسكر عبد الله بن أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو تبوك تخلف ابن أبي راجعا إلى المدينة فيمن تخلف من المنافقين وقال يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال والحر والبلد البعيد إلى ما لا طاقة له به يحسب محمد أن قتال بني الأصفر معه اللعب والله لكأني انظر إلى أصحابه مقرنين في الجبال إرجافا برسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فأنزل الله. . . تعالى في ابن أبي ومن معه قوله تعالى :﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالهم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين ﴾
١ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة تبوك وهي غزوة العسرة(٤٤١٦)وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (٢٤٠٤)..
﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم ﴾بخروجهم شيئا﴿ إلا خبالا ﴾أي : شرا وفسادا بإيقاع الجبن في المؤمنين بتهويل الأمر أو بإعانة الكفار في حالة الجهاد والعزة بالمؤمنين ونحو ذلك، ولا يستلزم الآية وجود الفساد الآن وزيادة الفساد عند خروجهم لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء ولأجل هذا التوهم جعل بعضهم الاستثناء منقطعا وليس كذلك لأنه لا يكون حينئذ مفرغا﴿ ولا وضعوا ﴾أي أسرعوا ركائبهم بالنميمة أو الهزيمة أو التخذيل من وضع البعير وضعا إذا أسرع ﴿ خلالهم ﴾أي : وسطكم وقيل : أوضعوا خلالكم أي : أسرعوا فيما يخل بكم ﴿ يبغونكم الفتنة ﴾أي : يريدون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم أو الرعب من العدو في قلوبكم والجملة حال من فاعل أو ضعوا ﴿ وفيكم سماعون لهم ﴾أي : ضعفة يسمعون قولهم ويطيعون كذا قال : قتادة : أو الجواسيس يسمعون حديثكم للنقل إليهم ﴿ والله عليم بالظالمين ﴾أي يعلمه ضمائرهم وما يتأتى منهم فيجازيهم عنه
﴿ لقد ابتغوا الفتنة ﴾أي : طلبوا تشتت أمرك وتفرق أصحابك وتخذيل المؤمنين ﴿ من قبل ﴾هذا اليوم يوم أحد حين انصرفوا عنك ابن أبي بأصحابك ﴿ وقلبوا لك الأمور ﴾أي : دبروا لك المكائد والحيل ودور والآراء في إبطال أمرك ﴿ حتى جاء الحق ﴾ أي : جاء نصر الله وتأيده للدين الحق ﴿ وظهر أمر الله ﴾إعلاء دينه على زعم ﴿ وهم كارهون ﴾ظهور الدين وعلوه.
﴿ ومنهم ﴾أي : من المنافقين الذين استأذنوك في التخلف ﴿ من يقول أذن لي ﴾في التخلف﴿ ولا تفتني ﴾وذلك جد بن قيس المنافق.
روى ابن النذر والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن ابن عباس وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله ومحمد بن اسحاق ومحمد بم عمرو بن عقبة عن شيوخهم أن جد بن قيس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد معه نفر، فقال : يا رسول الله ائذن في القعود فإني ذو ضيعة وعلة فيها عذر لي فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( تجهز فإنك موسر لعلك تحقب من بنات بني الأصفر ) ) قال : الجد أو تأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرف قومي ما أحد أشد عجبا بالنساء مني وإني لأخشى إن رأيت بنات بني الأصفر لا أصبر عنهن، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :( ( قد أذنا لك ) )زاد محمد بن عمر فجاءه ابنه عبد الله بن جد وكان بدريا وهو أخو معاذ بن جبل لأمه فقال : لأبيه : لم ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله فوالله ما في بني سلمة أحد أكثر مالا منك فلا تخرج ولا تحمل، فقال : يا بني مالي وللخروج في الحر الشديد والريح والعسرة إلى بني الأصفر والله ما أمن خوفا من بني الأصفر وأنا في منزلي أفأذهب إليهم أغزوهم إني والله يا بني عالم بالدوائر فأغبط له ابنه فقال : لا والله ولكنه النفاق، والله لينزلن على رسوله قوله أن يقرأ به فرفع نعله فضرب بها وجه ولده فانصرف ابنه ولم يكلمه فأنزل الله هذه الآية، للطبراني وابن مردويه وأبو نعيم أنه قال : عليه السلام لجد بن قيس : ما تقول في مجاهدة بني الأصفر ؟ فقال : يا رسول الله إني امرؤ صاحب النساء ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن فأذن لي ولا تفتني فنزلت، وذكر البغوي أنه صلى الله عليه وسلم قال : يا أيا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم سراري ووصيفا ؟ فقال : جد يا رسول الله لقد عرف قومي أني رجل مغرم بالنساء وأني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر فقال : ناس من المنافقين أنه ليفتنكم بالنساء فأنزل الله تعالى هذه الآية، ومعنى قوله لا تفتني على ما تقتضيه الروايات المذكورة أن لا تفتني ببنات بني الأصفر يعني أقه في الإثم والفتنة لأجل حبهن وعدم المصابرة عنهن، وقيل معناه لا تفتني بسبب ضياع المال والعيال إذ لا كافل لها بعدي، وقيل : معناه أئذن لي في القعود ولا توقعني في الفتنة يعني العصيان لمخالفة أمرك بأن لا تأذن لي واقعدوا فيه لإشعار بأنه لحالة متخلف إذن به أو لا يأذن ﴿ ألا في الفتنة ﴾أي : الشرك والعصيان ﴿ سقطوا ﴾وقعوا يعني الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف وظهور النفاق ﴿ وان جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾مطبقة بهم جامعة لهم يوم القيامة أو لأن لإحاطة أسبابها
﴿ إن تصبك ﴾يا محمد غزواتك ﴿ حسنة ﴾ظفر وغنيمة ﴿ تسؤهم ﴾لفرط حدهم ﴿ وان تصبك ﴾في بعضها ﴿ مصيبة ﴾كسرة أو شدة كما أصاب يوم أحد فرحوا بتخلفهم واستحمدوا آرائهم ﴿ يقولوا قد أخذنا أمرنا ﴾أي ما كان أصلح لنا يعني القعود من الغزو ﴿ من قبل ﴾وقوع هذه المصيبة ﴿ ويتولوا ﴾عن متحدثهم بذلك ومجتمعهم أو عن الرسول صلى الله عليه وسلم﴿ وهم فرحون ﴾مسرورون بمصيبة المؤمنين بعداوتهم
﴿ قل ﴾يامحمد لهم ﴿ لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ﴾في اللوح المحفوظ من النصرة أو الشهادة ولم يقل ما كتب الله لنا أو علينا للإشعار بكون كلا التقديرين خيرالنا ﴿ هو ﴾يعني الله الذي كتب ﴿ مولانا ﴾ناصرنا ومتولي أمرنا فكيف يكون تقديره شرا لنا، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ( عجبا لأمر المؤمن أن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) )١ رواه أحمد ومسلم عن صهيب، وروى البيهقي عن سعد نحوه ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾متعلق بمحذوف أي ليتوكل المؤمنون على الله فليتوكلوا عليه وفيه تأكيد وبالفاء وإشعار بأنه لا ينبغي لهم أن يتوكلوا على غيره وهو وليهم والقدير على كل شيء
١ أخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: المؤمن أمره كله خير (٢٩٩٩).
﴿ قل ﴾لهم يا محمد ﴿ هل تربصون بنا ﴾فيه حذف أحد التائبين أصله تتربصون يعني ما تنتظرون بنا أيها الفار أو المنافقون﴿ إلا إحدى الحسنيين ﴾أي : إحدى العاقبتين كل منهما حسنى العواقب وذلك القتل في سبيل الله وذلك وإن كان قبيحا على زعمكم لكنه إحدى العاقبتين الحسنيين في حقنا أحدهما هذه وهي شهادة مورثة للجنة والحياة المؤبدة، وثانيهما النصر والغنيمة.
عن أبي هريرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ( انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان لي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة ) )١متفق عليه، والترديد مانعة الخلود دون الجمع﴿ ونحن نتربص بكم ﴾إحدى السوأتين أن لا تتوبوا أحد لهما﴿ أن يصيبكم الله بعذاب من عنده ﴾يوم القيامة إن ظفرتم في الدنيا، وثانيهما ما قال :﴿ أو بأيدينا ﴾أي أو بعذاب بأيدينا وهو القتل على الكفر المفضي إلى عذاب النار وهذا على تقدير كون الخطاب لمطلق الكفار وعلى تقدير كونه للمنافقين خاصة فإحدى السوأتين : أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أي يهلككم أهلك الأمم الخالية فيعذبكم في النار إن متم على النفاق، وثانيهما : القتل على الكفر إن أظهرتم ما في قلوبكم ﴿ فتربصوا ﴾ ما هو عاقبتنا ﴿ إنا معكم متربصون ﴾ما هو عاقبتكم وقال الحسن تربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعيد الرحمان من إظهار دينه.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان باب: الجهد من الإيمان (٣٦)وأخرجه مسلم في كتاب: الجهاد، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله(١٨٧٦)..
﴿ قل أنفقوا طوعا أو كرها ﴾نصب على الحال أي : من غير إلزام من الله ورسوله أو مكرهين أي ملزمين سمى الإلزام إكراها لأنهم كانوا منافقين فكان إلزامهم الانفاق شاقا عليهم كالإكراه وهذا صيغة أمر بمعنى الخبر تقديره ﴿ لن يتقبل منكم ﴾نفقاتكم سواء أنفقتم طوعا أو كرها وفائدته المبالغة في الحكم بتساوي الإنفاقين في عدم القبول كأنهم أمروا أن يمتحنوا فينفقوا مرة طوعا ومرة كرها وينظروا أهل يتقبل منهم شيء منها، وهو جواب لجد بن قيس حيث قال : ائذن ولا تفتني وأعنتك بمالي، ونفى التقبل بوجهين أحدهما أنه لا يقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا الأئمة بعده لا يقبلون الصدقة ممن يعلمون أنه منافق، وثانيهما : أنه تعالى لا يقبل منهم ولا يثيب عليه ﴿ إنكم كنتم قوما فاسقين ﴾أي : خارجين من زمرة المسلمين تعليل لعدم التقبل على سبيل الاستئناف وما بعده بيان وتقرير له
﴿ وما منعهم أن تقبل منهم ﴾قرأ حمزة والكسائي بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية لأن الفاعل مؤنث غير حقيقي أعني ﴿ نفقاتهم ﴾أن يقبل مفعول لمنع وفاعلا ﴿ إلا أنهم كفروا ﴾يعني ما منع من قبول نفقاتهم إلا كفرهم ﴿ بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ﴾يعني متثاقلين لمرآة الناس عطف على كفروا ﴿ ولا ينفقون ﴾نفقة في سبيل الله ﴿ إلا وهم كارهون ﴾لأنهم لا يرجون بها ثوابا ولا يخافون على تركها عقابا يعدون الزكاة مغرما وتركها مغنما فإن قيل : وصفهم بالطوع في قوله أنفقوا طوعا أو كرها وسلبه هنا بالكلية فكيف التوفيق ؟ قلنا : المراد بالطوع هناك بذلهم من غير إلزام الرسول كما ذكرنا وليس ذلك البذل إلا رياء فليس ذلك إلا عن كراهة واضطرار لا عن رغبة واختيار، أو يقال وصفه بالطوع هناك على سبيل الفرض وسلبه ههنا على التحقيق
﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ﴾الإعجاب هو السر وربما يستحسن يعني لا يستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد فإن ذلك استدراج ووبال لهم، كما قال :﴿ إنما يريد الله ﴾ لإعطائهم الأموال والأولاد ﴿ ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ﴾بسبب ما يتكايدون لجمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب وفي انفاقها من المكارة وفي تخليفها عند من لا يحمده من الحسرات، وقال مجاهد وقتادة : في الآية تقديم وتأخير تقديرها فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله أن يعذبكم بها في الآخرة على كسبها وجمعها وحفظها وإنفاقها على وجه غير مشروع ﴿ وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾وأصل الزهوق الخروج بصعوبة يعني تخرج أنفسهم متحسرا متأسفا على تركها مشتغلون بالتمتعات عن النظر في المبدأ والمعاد فيكون ذلك استدراجا، ولآية دلت على بطلان القول بوجوب الأصلح لأنه تعالى أخبر أنه أعطى الأموال والأولاد للتعذيب والإماتة على الكفر
﴿ ويحلفون بالله إنهم لمنكم ﴾أي : من المسلمين ﴿ وما هم منكم ﴾لكفر قلوبهم ﴿ ولكنهم قوم يفرقون ﴾يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين
﴿ لو يجدون ملجأ ﴾أي حصنا يلجؤون إليه أو قوما يأمنون فيهم ﴿ أو مغارات ﴾في الجبال جمع مغارة وهي الغار يعني الموضع الذي يغور فيه أي يستتر، وقال عطاء سراديب ﴿ أو مدخلا ﴾أصله مدتخل مفتعل من الدخول أي : موضع يدخلون فيه بصعوبته كنفق اليربوع ﴿ لولوا إليه ﴾لا دبروا إليه هربا منكم ﴿ وهم يجمحون ﴾أي : يسرعون في آباء نفور لا يردهم شيء كالفرس الجموح ومعنى الآية أنهم كارهون من مصاحبتكم أشد الكراهة لو يجدون مخلصا منكم لفارقوكم
﴿ ومنهم ﴾ أي : من المنافقين ﴿ من يلمزك ﴾أي : يعيبك يقال لمزه وهمزه إذا عابه قرأ يعقوب بضم الميم حيث كان ﴿ في الصدقات ﴾أي : قسمتها يعني يقولون لا تعدل في القسمة، روى الشيخان والبيهقي عن ابن مسعود قال : لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم هوازن يوم حنين آثر ناسا من أشرف العرب فقال : رجل من الأنصار : يعني من قومهم إن هذه لقسمة ما عدل فيها أو ما أريد فيها وجه الله، فقلت والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فتغير وجهه حتى صار كالصرف، وقال ( ( فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ؟ رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ) )١ قال : محمد بن عمر الرجل المبهم هو متعب بن قشير المنافق، وروى ابن إسحاق عن ابن عمر والشيخان وأحمد عن جابر والبيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يقسم غنائم هوزان إذ قام إليه رجل، قال : ابن عمر وأبو سعيد من تميم يقال له ذو الخويصرة فوقف عليه صلى الله عليه وسلم قال : فكيف رأيت، قال : لم أرك عدلت أعدل، وفي رواية فقال : الرجل يا رسول الله أعدل فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ويلك من يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل " ؟وفي رواية " إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون " ؟ فقال : عمر بن الخطاب : يا رسول الله دعني أقتل هذا المنافق فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : معاذ الله أن يتحدث الناس أقتل أصحابي دعه فإن له أصحابا يحتضر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى أرصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قدده فلا يوجد فيه شيء، وقد سبق الفرث والدم آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدور ويخرجون على خير فرقة من الناس " قال أبو سعيد فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتى به فنظرت إليه على لفت النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البغوي : وصاحب أسباب النزول نزلت الآية في ذي الخويصرة التميمي يعني المذكور في هذا الحديث،  واسمه خرقوص بن زهير أصل الخوارج، فظاهر الآية يأبى عن هذا القول لأن المذكور في الآية لمن الصدقات وقصتها ذي الخويصرة التميمي ومعتب بن قشير المذكورين في الحديثين الصحيحين المذكورين في قسمة غنائم حنين وهذه الآية نزلت في غزوة تبوك بعد غزوة حنين، وعندي الآية نزلت في قسمة صدقات جاء بها المسلمون لتجهيز جيش العسرة والله أعلم.
وقال الكلبي : نزلت الآية في رجل من المنافقين يقال له أبو الحواص قال : لم يقسم بالسوية قال : الله تعالى ﴿ فان أعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها إذا هم يسخطون إذا للمفاجأة نائب مناب الفاء الجزائية قيل : معناه وإن أعطوا كثيرا رضوا وفرحوا وإن أعطوا قليلا سخطوا نظرا إلى قوله تعالى { ولو أنهم رضوا ما أتاهم الله ورسوله ﴾
١ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة الطائف (٤٣٣٦)، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم وتصبر من قوي إيمانه (١٠٦٢)..
﴿ ولو ﴾ثبت ﴿ أنهم رضوا ما أتاهم الله ورسوله ﴾يعني بما أعطاهم الرسول من الصدقة والغنيمة وذكر الله تعالى للتعظيم والتنبيه على أن فعل الرسول الله صلى الله عليه وسلم كان بأمره تعالى وعلى أنه يجب الرضا والتسليم فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما يجب الرضا بقضاء الله تعالى وقدره ﴿ وقالوا حسبنا الله ﴾كفانا من فضلهم ﴿ سيؤتينا الله من فضله ﴾من وجه آخر ما يحتاج إليه ﴿ ورسوله ﴾ من صدقة أو غنيمة أخرى ﴿ إنا إلى الله راغبون ﴾ في أن يغنينا من فضله ولآية بأسرها في حيز الشرط والجواب محذوف تقديره لكان خيرا لهم،
ثم بين مصاريف الصدقات قطعا لأطماع رجال كانوا يطمعون فيها ولم يكونوا من أهلها وتصويبا لما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ( ٦٠ ) ﴾
﴿ إنما الصدقات للفقراء ﴾قال : البيضاوي وهو دليل على أن المراد باللمز هم في قسمة الزكاة دون الغنائم، قلت : المراد بالآية والله أعلم أن مصرف الصدقات هم الفقراء فقط دون الأغنياء فالفقير هو المحتاج ضد الغني سواء كان له قليل من المال أو لم يكن وهو أعم من المسكين وغيره من الأصناف، وقال أكثر الحنفية الفقير من له دون النصاب، وما قلت أوفق لمذهب أبي حنيفة رحمه الله حيث يعتبر الفقر في الغارم والغازي وغيرهما، والدليل على ما قلت من عموم الفقر وشموله للأصناف قصة معاذ. روى الشيخان وأصحاب السنن من حديث ابن عباس :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال :" إنك ستأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " ١وبهذا الحديث اعتبر صفة الإيمان في الزكاة المفروضة فلا يجوز دفع الزكاة إلى فقير كافر ذميا كان أو حربيا لإجماع وأجاز الزهري وابن شبرمة الدفع إلى أهل الذمة ويؤيد قول الزهري وابن شبرمة ما روي عن عمر في قوله تعالى :" إنما الصدقات للفقراء " قال : هم زمنا أهل الكتاب وقد اضمحل خلافهما بإجماع من بعدها.
فإن قيل : هذا حديث آحاد كيف يجوز على أصل أبي حنيفة زيادة الإيمان في الفقراء المنصوصين بنص الكتاب ؟ قلنا : خص من ذلك الآية الحربي بالإجماع مستندا إلى قوله تعالى :" إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين " ٢فجاز تخصيصه بعد ذلك بخبر الآحاد، وجاز دفع الصدقة النافلة إلى الذمي إجماعا لقوله تعالى :" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلكم في الدين " الآية وحديث معاذ في الزكاة المفروضة خاصة دون النافلة، وأما إلى الحربي فلا يجوز دفع النافلة أيضا >لقوله تعالى " إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم } وأما الصدقات الواجبة كالفطرة والكفارات والنذور فحكمها حكم المفروضة عند الأئمة الثلاثة فإنهم لا يفرقون بين الفرض والواجب، وعند أبي حنيفة يجوز دفعها إلى الذمي لانحطاط درجة الواجب عن الفريضة عنده وعدم شمول حديث معاذ إياها فإن معاذا كان عاملا لأخذ الزكاة فحسب والله أعلم.
وإذا كان الفقير أعم من المسكين وغيره من الأصناف فحينئذ عطف قوله تعالى :﴿ والمساكين ﴾وما بعده على الفقراء من قبيل عطف الخاص على العام كما في قوله تعالى :" حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ٣فهو لزيادة الاهتمام، فلنذكر معاني الألفاظ من المساكين وغيرها حتى يظهر منها وجه الاهتمام بذكرها.
أما المساكين فالمراد به الفقير الذي لا يسأل الناس إلحافا مشتق من السكون والسكينة أي : لا يتحرك لأجل السؤال، والدليل عليه ما رواه الشيخان في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه لا ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس " ٤ فظهر أن المسكين نوع من الفقير وإعطاءه أولى من إعطاء غيره من الفقراء فهو أهم قال : الله تعالى :" للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا " ٥ وإلحاف الإلحاح، فإن قيل : قد يطلق المسكين على الفقير السائل أيضا كما في حديث متفق عليه عن أبي هريرة في قصة ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى الحديث بطوله وفيه " رجل مسكين قد انقطعت بي الجبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا يبلغ في سفري " ٦قلنا : إما أن يكون في الحديث السابق بيان المراد من الآية لا بيان الغني اللغوي وإما أن يكون في الحديث الثاني لفظ المسكين مجازا وليس المأخوذ في مفهوم المسكين أن يكون له قليل من المال، كما قال : به بعض الشافعية أن الفقير من ليس له مال أصلا والمسكين من له قليل من المال لأن قوله تعالى :" إطعام عشرة مساكين " ٧ " فإطعام ستين مسكينا " ٨في الكفارات المراد به أجماعا الفقير مطلقا سواء كان له قليل من المال أو لم يكن له مال أصلا، وأيضا قوله تعالى :" أو مسكينا ذا متربة ١٦ " ٩يعني من لصق بالتراث من فقره يرد قول من قال : أن المسكين من له قليل من المال، وكذا ليس المأخوذ في مفهوم المسكين أن لا يكون له مال أصلا كما قال : به بعض الحنفية لأن قوله تعالى " أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر " ١٠تدل على أن السفينة كانت له ملكا ومع ذلك سماهم الله تعالى مساكين، والقول بأنها كانت لهم بالإجارة أو العارية أو أطلق عليهم لفظ المساكين ترحما صرف للنص عن الظاهر بلا دليل، وقد يستدل على أن المساكين أحسن حالا من الفقير بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفقر ١١وذلك متفق عليه من حديث عائشة وفي الباب عن أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم وعندهما من حديث أبي بكرة وأبي سعيد وأنس وقد قال : النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا " ١٢ رواه الترمذي من حديث أنس وابن ماجه عن أبي سعيد، والجواب أن الفقر المستعاذ منه هو فقر النفس وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما الغنى غنى النفس " ١٣ أو المستعاذ منه فتنة الفقر لا حاله وكذا المسؤول ليس نفس المسكنة بل بعض صفاته من الصبر والتوكل والرضا أو يقال إسناد حديث أنس وأبي سعيد ضعيفان، كذا قال : الحافظ ابن حجر وذكره ابن الجوزي في الموضوعات لما رآه مباينا للحال الذي مات عليه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان مكفيا وقد قال : الله تعالى :" ووجدك عائلا فأغنى ٨ " ١٤والله أعلم.
﴿ والعاملين عليها ﴾أي : الصدقات عد الله سبحانه من أصناف الفقراء عاملي الصدقة وأعوانهم مجازا سواء كانوا أغنياء أو فقراء لأنهم وكلاء للفقراء في أخذ الصدقات وتقسيمها مشغولون بأمورهم فيجب عليهم مؤنتهم فهم فقراء حكما. واختلفوا في قدر ما يعطى للعامل من الزكاة ؟ فقال : الشافعي يعطي له ولأعوانه الثمن من الصدقات قل عمله أو كثر بناء على أنه يجب عنده صرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية على السوية وسنذكر الرد عليه، وقال أبو حنيفة وأكثر الأئمة يعطي له كفاية بقدر عمله فإن عمل يوما يعطي له كفاية يومه وإن عمل سنة يعطي له كفاية سنة لأنه ليس للغني حق في الزكاة وإنما يعطي العمل أجر عمله الذي وجب على الفقراء فيعطي ذلك القدر من مال الزكاة الذي هو حقهم، ولا يجوز دفع جميع مال الزكاة إلى العامل إجماعا وإن استغرقت كفاية جميع مال الصدقة بل حينئذ يعطى له النصف لا يزاد عليه إذ لو يعطى أكثر من النصف وللأكثر حكم الكل يكون هو عاملا لنفسه لا للفقراء فيفوت المقصود ولا يجب عليه مؤنته قال : الله تعالى :﴿ والمؤلفة قلوبهم ﴾قال : البغوي وهم قسمان قسم مسلمون وقسم كفار فأمت المسلمون فقسمان قسم دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيه فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم تألفا أعطى عيينة بن بدر والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس أو أسلموا ونيتهم قوية في الإسلام وهم شرفاء في قومهم مثل عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر، فكان يعطيهم تألفا لقومهم وترغيبا لأمثالهم في الإسلام فهؤلاء يجوز للإمام أ يعطيهم من خمس خمس الغنيمة والفيء سهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من ذلك ولا يعطيهم من الزكاة، والقسم الثاني من المؤلفة المسلمين أن يكون قوم من المسلمين بإزاء قوم كفار في موضع لا يبلغه القسم الثاني المسلمين إلا بمؤنته كغيره وهم لا يجاهدون إما لضعف نيتهم أو لضعف حالهم فيجوز للإمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة وقيل : من سهم المؤلفة من الصدقات.
روي أن عدي بن حاتم جاء أبا بكر بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبا بكر منها ثلاثين بعيرا أما الكفار من المؤلفة لهم من يخشى شره منهم أو يرجى إسلامه فالإمام يعطي هذا حذرا من شره ويعطي ذلك ترغيبا له في الإسلام فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس كما أعطى صفوان ابن أمية لما رأى ميله إلى الإسلام وأما اليوم فقد أعز الله تعالى الإسلام وله الحمد وأغناه عن أن يتألف عليه رجال فلا يعطى مشرك تألفا بحال، وقد قال : بهذا كثير من أهل العلم أن المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط، روي ذلك عن عكرمة وهو قول الشعبي وبه قال : مالك والثوري وإسحاق بن راهويه وأصحاب الرأي، وقال قوم سهمهم ثابت يروى ذلك عن الحسن وهو قول الزهري، وأبي جعفر محمد بن علي الحسين عليهم السلام وأبي ثور، وقال أحمد يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك انتهى كلامه. وفي أكثر الكتب أنهم اختلفوا في حكم المؤلفة ؟ قال : أبو حنيفة قد سقط سهم المؤلفة قلوبهم لأنه تعالى أعز الإسلام وأعنى، وبه قال : مالك وهي رواية عن الشافعي، وعن مالك رواية أخرى إن احتيج إليهم في بلد أو ثغر استأنف الإمام لوجود العلة، وهي رواية عن أحمد وقال الشافعي وأحمد في أصح المختار عند أكثر أصحاب الشافعي ما في المنهاج أن المؤلفة من المصرف قال : وهو من أسلم ونيته ضعيفة أوله شرف يتوقع بإعطائه إسلام غيره، وقلت : وبهذا ظهر أن الشافعي أيضا لا يجوز إعطاء الزكاة للكافر من الفقراء والمساكين وغيرهم وأبو حنيفة ومن معه لا ينكرون إعطاء مسلم فقير من المؤلفة وإنما الكلام في المسلم الغني من المؤلفة فعند الشافعي يعطى له من الزكاة بناء على زعمه أن الفقر غير معتبر في سائر الأصناف، وعند أبي حنيفة لا يعطى له الزكاة بناء على اعتبار الفقر في سائر الأصناف فظهر أنه لا خلاف بينهم في أن حكم جواز إعطاء الزكاة للمؤلفة بات غير منسوخ وكيف يحكم بالنسخ مع عدم الناسخ، ولو حمل قول أبي حنيفة على إعطاء الكافر من المؤلفة منسوخ لكان له وجه لكن لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أحدا من الكفار للإيلاف شيئا من الزكاة.
فإن قيل : روى مسلم والترمذي عن سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية في قصة فقال : أعطاني النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه أبغض الناس إلي فما برح يعطيني إنه لأحب الناس إلي ١٥، وهذا صريح في أنه كان يعطيهم في حالة الكفر وقد جزم ابن أثير في الصحابة أنه أعطاه قبل إسلامه، قلت : قال : النووي إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية كان من غنائم حنين وصفوان يومئذ كافر، قال : الحافظ ابن حجر ودعوى الرافعي أنه أعطى صفوان ذلك من الزكاة وهم والصواب أنه من الغنائم من خمس خمس التي كان للنبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك جزم البيهقي وابن سيد الناس وابن كثير وغيرهم، وقال ابن الهمام في بيان النسخ أسن
١ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: أخذ الزكاة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا (١٤٩٦)، وأخرجه مسلم في كتاب: باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (١٩)..
٢ سورة الممتحنة، الآية: ٨..
٣ سورة البقرة الآية: ٢٣٨..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: قوله تعالى "لا يسألون الناس إلحافا" (١٤٧٦)، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة باب: المسكين الذي لا يجد غنى ولا يفطن له فيتصدق عليه (١٠٣٩)..
٥ سورة البقرة الآية: ٢٧٣..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: حديث أبرهن وأعمى أفرغ في بني إسرائيل (٣٤٦٤)، وأخرجه مسلم في أوائل كتاب الزهد والرقائق (٢٩٦٤)..
٧ سورة المائدة، الآية: ٨٩..
٨ سورة المجادلة، الآية: ٤..
٩ سورة البلد، الآية: ١٦..
١٠ سورة الكهف، الآية: ٧٩..
١١ جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو "اللهم اقض عنا الدين وأغننا من الفقر "وجاء في سنن أبي داود قوله عليه السلام " اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة"..
١٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم (٢٣٥٢)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب: مجالسة الفقراء (٤١٢٦)..
١٣ ورد بلفظ " ليس الغنى عن كثرة الغرض ولكن الغنى غنى النفس " أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: الغنى غنى النفس (٦٤٤٦)، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: ليس الغنى عن كثرة العرض (١٠٥١)..
١٤ سورة الضحى، الآية: ٨..
١٥ أخرجه الترمذي في كتاب: الزكاة باب: ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم (٦٥٩)، وأخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط وقال لا، وكثرة عطائه (٢٣١٣)..
أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : اجتمع ناس من المنافقين فيهم خلاس بن سويد بن الصامت ومخش بن حمير ووديعة بن ثابت فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم فنهى بعضهم بعضا وقالوا : إنا نخاف أن يبلغ محمدا فيقع لكم فقال : بعضهم : إنما محمد أذن نحلف فيصدقنا، قال : الخلاس بل نقول : ما شئنا ثم نأتيه وننكر ما قلنا ونحلف فيصدقنا بما نقول فإنما محمد أذن فأنزل الله تعالى.
﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي ﴾أي يغتابونه ويتقولون حديثه ويقولون فيه ما لا ينبغي ﴿ ويقولون ﴾إذا نهوا عن ذلك لئلا يبلغه صلى الله عليه وسلم ﴿ هو ﴾يعني النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ أذن ﴾أي يسمع كل ما يقال له ويصدقه سمي بالجارحة للمبالغة كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة للسماع كما يسمى الجاسوس عينا أو تقديره ذو سامعة أو يقال أذن مشتق فعل من أذن أذنا إذا استمع، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال : كان نبتل بن الحارث يأتي رسول صلى الله عليه وسلم فيجلس إليه يسمع وينقل حديثه إلى المنافقين فأنزل الله هذه الآية، وقال محمد بن إسحاق كان نبتل رجلا أدلم ثائر الرأس أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلق وقد قال : النبي صلى الله عليه وسلم " من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى هذا " وكان يتم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنافين فقيل له : لا تفعل فقال : إنما محمد أذن فمن حدثه شيئا صدقع، فنقول : ما شئنا ثم نأتيه ونحلف له فيصدقنا فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال الله تعالى في جوابهم ﴿ قل أذن خير لكم ﴾قرأ العامة بالإضافة وهو كقولك رجل صدق يريد الجودة والصلاح كأنه قيل : نعم هو أذن ولكن نعم الأذن هو أو المعنى أنه مستمع خير لكم وصلاح لا مستمع شر وفساد فيسمع عذر من اعتذر ولا يسمع الغيبة والنميمة ونحو ذلك، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم " ١رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن أبي هريرة، ويجوز أن يريد هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بإذن في غير ذلك، وقرأ الأعمش والبرحمي عن أبي بكر أذن خير مرفوعين منوفين على أن خير صفة أذن أو خير ثان يعني أن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذب قولكم ثم مدحه بقوله :﴿ يؤمن بالله ويؤمن ﴾أي : يصدق ﴿ للمؤمنين ﴾أي : لمن يظهر الإيمان بناء على حسن الظن أو المعنى يصدق المؤمنين المخلصين دون المنافقين لكن يقبل أعذارهم إعراضا، عنهم عدى فعل الإيمان بالباء إلى الله لأنه قصد ضد الكفر وباللام إلى المؤمنين لأنه قصد به التصديق لهم ضد تكذيبهم ﴿ ورحمة ﴾قرأ حمزة بالجر عطفا على خير يعني أذن خير ورحمة والباقون بالرفع عطفا على أذن﴿ للذين امنوا منكم ﴾يعني لمن أظهر الإيمان حيث يقبله ولا يكشف سره، وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولكم جهلا بحالكم ترفقا وترحما عليكم أو المعنى رحمة للذين آمنوا منكم مخلصين حيث استنقذهم من الكفر إلى الإيمان ويشفع لهم في الآخرة ويستنقذ من النار إلى الجنة ﴿ والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب اليم ﴾لا يفيد لهم تسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم واعتذارهم.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في البخل (١٩٧١)، وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في حسن العشرة (٤٧٨٢)..
قال : مقاتل والكلبي : في رهط المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوه يعتذرون ويحلفون فأنزل الله تعالى ﴿ يحلفون بالله ﴾على معاذيرهم فيما قالوا : وتخلفوا﴿ لكم ليرضوكم ﴾عنهم الخطاب للمؤمنين ﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾بالطاعة والإخلاص والضمير راجع إلى الله تعالى لأن إرضاء الله تعالى لا يتحقق بالأيمان الكاذبة بل بالطاعة والإخلاص فالتقدير والله أحق أن يرضوه والرسول كذلك، قيل : الضمير راجع إلى كل منهما وإنما وحد الضمير لأنهلا تفاوت بين رضاء الله ورسوله فكأنهما في حكم شيء واحد، وقيل الضمير راجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الكلام في إيذاء الرسول وإرضائه ﴿ إن كانوا مؤمنين ﴾صدقا شرط حذف جزاءه لما يدل عليه السياق يعني إن كانوا مؤمنين صدقا فليرضوا الله ورسوله بالطاعة والإخلاص لكنهم لم يرضوا الله ورسوله ولم يخلصوا إيمانهم
﴿ ألم يعلموا أنه ﴾الضمير للشأن ﴿ من يحادد الله ورسوله ﴾أي يخالف الله ورسوله بالمعصية والتخلف عن الغزو بعد الاستنفار ومفاعلة من الحد بمعنى الجانب فإن المخالف لأحد يكون في جانب مغائر لجانبه ﴿ فأن له نار جهنم خالدا فيها ﴾على حذف الخبر أي : الحق أن له نار جهنم أو على تكرير أن للتأكيد ويتحمل أن يكون معطوفا على أنه ويكون الجواب محذوفا تقديره من يحادد الله ورسوله يهلك ﴿ ذلك ﴾أي : دخول النار والهلاك﴿ الخزي العظيم ﴾هذه الآية في مقام التعليل لقوله : الله ورسوله أحق أن يرضوه فإن عدم إرضاء الله ومخالفته يفضي إلى النار دون عدم إرضاء غيره وما أحسن قول الشاعر :
ليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
وذكر البغوي قول قتادة والسدي أن قوله تعالى ﴿ يحلفون بالله لكم ليرضوكم ﴾ نزلت في جماعة من المنافقين فيهم خلاس بن سويد وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير، وذكر عامر بن قيس رضي الله عنه هذه المقالة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنذكر القصة فيما بعد إن شاء الله
﴿ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم ﴾يعني المؤمنين ﴿ بما في قلوبهم ﴾أي قلوب المنافقين من الحسد والعداوة للمؤمنين ويهتك عليهم استارهم، ويجوز أن يكون الضمائر للمنافقين فإن النازل فيهم كالنازل عليهم من حيث إنه مقرو ومحتج به عليهم قال : البغوي كانوا يقولون فيما بينهم ويستترون ويخافون الفضيحة بنول القرآن في شأنهم وذلك يدل على أنهم كانوا مترددون في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ويحذرون الفضيحة على تقدير صدقه عليه السلام، وقيل : إنه خبر بمعنى الأمر والمعنى ليحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة وقيل : كانوا يقولون ذلك فيما بينهم استهزاء لقوله تعالى ﴿ قل استهزؤوا ﴾أمر تهديد ﴿ إن الله مخرج ﴾أي : مظهر ﴿ ما تحذرون ﴾أي : ما تحذرونه من إنزال السورة فيكم أو تحذرون إظهاره من مساوئكم قال : ابن عباس رضي الله عنهما أنزل الله تعالى ذكر سبعين رجلا من المنافقين بأسمائهم وأسماء أبائهم ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة على المؤمنين لئلا يعير بعضهم بعضا لأن أولادهم كانوا مؤمنين قال : البغوي : نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلا من المنافقين، وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها فأخبر جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قصة : ذلك ما روى أحمد عن أبي الطفيل والبيهقي عن حذيفة ابن سعد عن جبير بن مطعم رضي الله عنهم وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك والبيهقي عن عروة وعن ابن إسحاق ومحمد بن عمر عن شيوخه، أن رسول صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق مكر به ناس من المنافقين وائتمروا بينهم أن يطرحوه من عقبة في الطريق، وفي رواية أجمعوا أن يقتلوه فجعلوا يلتمسون غرته فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، قالوا : إذا أخذ في العقبة رفعناه عن راحلته في الوادي فأخبر الله تعالى رسوله بمكرهم، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك العقبة نادى مناديه للناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ للعقبة فلا يأخذها واحد واسلكوا بطن الوادي فإنه أسهم لكم وأوسع فسلك الناس بطن الوادي إلا النفر الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا ذلك استعدوا وتلثموا وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة ويقودها وأمر حذيفة بن اليمان أن يسوق من خلفه، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في العقبة إذ سمع حس القوم فدعسوه فنفروا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط بعض متاعه وكان حمزة بن عمرو الأسلمي لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة وكانت ليلة مظلمة، قال : حمزة فتور لي في أصابعي الخمس وأضاءت حتى كنا نجمع ما سقط السوط والحبل وأشبائهما وأمر حذيفة أن يردهم فرجع حذيفة إليهم وقد رأى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه محجن فجعل يضرب وجوه رواحلهم، وقال : إليكم إليكم يا أعداء الله، فعلم القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اطلع على مكرهم فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس وأقبل حذيفة حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار " فأسرعوا حتى استويا بأعلاها وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقبة ينتظر الناس، وقال لحذيفة هل عرفت أحدا من أولئك الذين رددتهم قال : يا رسول الله قد عرفت رواحلهم كان القوم متلثمين فلم أبصرهم من أجل ظلمة الليل، قال : هل علمتم ما كان من شأنهم وما أرادو ؟قالوا : لا والله يا رسول الله، قال : فإنهم ليسيروا معي فإذا طلعت العقبة دعوني فطرحوني منها أن الله تعالى قد أخبرني بأسمائهم وأسماء آبائهم وسأخبركم بهم إن شاء الله تعالى. قال : أفلا تأمرهم يا رسول الله إذ جاءك الناس أن تضرب أعناقهم، قال : أكره أن يتحدث الناس ويقولون إن محمدا قد وضع يده في أصحابه، وذكر البغوي بلفظ أكره أن يقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفينا بالدبيلة فسماهم لهما ثم قال : أكتماهم، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : له أسيد بن الخضير يا رسول الله ما منعك البارحة من سلوك الوادي فقد كان أسهل من العقبة فقال :" يا أبا يحيى أتدري ما أراد بي المنافقون وما هموا به ؟قالوا : لنتبعه في العقبة فإذا أظلم الليل عليه قطعوا راحلتي وتحسوها حتى كادوا يطرحوني عن راحلتي "، قال : أسيد : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اجتمع الناس ونزلوا فمر كل بطن أن يقتل الرجل الذي هم بهذا فيكون الرجل في عشيرته هو الذي يقتله وإن أحببت والذي بعثك بالحق فنبئني فلا أبرح حتى آتيك برؤوسهم، قال : يا أسيد :" إني أكره أن يقول الناس إن محمدا لما انقطعت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه "، فقال : يا رسول الله ليسوا بأصحاب، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله، قال : بلى ولا شهادة لهم، قال : فعديت عن قتل أولئك.
قال ابن إسحاق فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لحذيفة أدع عبد الله بن سعد أبي السرح وأبا حاضر الأعرابي وعامر أبا عامر والحلاس بن سويد بن الصامت وهو الذي قال : لا ننتهي حتى نرمي محمدا من العقبة الليلة، ولئن كان محمد وأصحابه خيرا منا إنا إذا لغنم وهو الراعي ولا عقل لنا وهو العاقل وأمره أن يدعوا مجمع بن حارثة ومليح التيمي وهو الذي سرق طيب الكعبة وارتد عن الإسلام، فانطلق هاربا في الأرض فلا يدري أين ذهب وأمره أن يدعوا حيصر بن نمير الذي أغار على تمر الصدقة فسرقه، فقال : له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك ما حملك على هذا ؟قال : حملني عليه إني أظن أن الله لا يطلعك عليه فأما إذا أطلعك الله عليه فإني أشهد اليوم أنك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لم أؤمن بك قبل الساعة، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله الذي قال : وأمر حذيفة أن يأتيه بطعمة ابن أبيرق وعبد الله بن عيينة وهو الذي قال : لأصحابه أسهروا هذه الليلة تسلموا الدهر كله فوالله ما لكم أمر دون أن يقتلوا هذا الرجل، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ويحك ما كان ينفعك من قتلي لو أني قتلت، فقال : عدو الله يا نبي الله والله ما نزلك بخيره ما أعطاك الله النصر على عدوك إنما نحن بالله وبك فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لحذيفة أدع مرة بن الربيع وهو الذي ضرب بيده على عاتق عبد الله بن أبي ثم قال : تمطي أو قال : تميطي والنعيم لنا من بعده كائن تقتل الواحد المفرد فيكون الناس عامة عامة بقتله مطمئنين فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ويحك ما حملك أن تقول الذي قلت فقال : يا رسول الله إن كنت قلت شيئا من ذلك إنك العالم به وما قلت شيئا من ذلك، فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اثني عشر رجلا الذين حاربوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم ومنطقهم وسرهم وعلانيتهم واطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك قوله تعالى ﴿ وهموا بما لم ينالوا ﴾.
ومات الاثنا عشر منافقين محاربين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال : حذيفة : فيما رواه البيهقي ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" اللهم ارمهم بالدبيلة " قال : شهاب : من نار يقع على نياط قلب أحزهم فيهلك، وروى مسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" في أصحابي اثنا عشر رجلا منافقا لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ثمانية تكفيهم الدبيلة سراج من نار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم " ١قال البيهقي : وروينا عن حذيفة أنهم كانوا أربعة عشر أو خمسة عشر وهذه القصة وقعت في مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة
١ أخرجه مسلم في أول كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم (٢٧٧٩)..
قال الله تعالى :﴿ ولئن سألتهم ﴾لام قسم أي : والله لئن سألتهم عن استهزائهم بك وبالقرآن وهم سائرون معك في غزوة تبوك﴿ ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن ﴾يعني قل ذلك توبيخا على استهزائهم بمن لا يصح الاستهزاء وإلزاما للحجة عليهم ولا تصبا باعتذارهم الكاذب فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم حتى ونجوا بأخطائهم الاستهزاء حيث جعل المستهزئ به يلي حرف التقرير وذلك يكون بعد ثبوت الاستهزاء كذا قالوا، قلت : قولهم إنما كنا نخوض ونلعب إعتراف منهم بالاستهزاء ومعناه كنا نقول ما يفهم منه الاستهزاء لقطع مسافة الطريق على سبيل اللعب لا على قصد الاستهزاء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال : قال : رجل في غزوة تبوك في مجلس ما رأينا مثل قراينا هؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء، فقال : له رجل كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن، قال : ابن عمرو أنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكيه وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن، ثم أخرجه من وجه آخر عن ابن عمر نحوه وسمى الرجل عبد الله بن أبي كذا ذكر البغوي عن عمر رضي الله عنه، وأخرج ابن جرير عن قتادة أن ناسا من المنافقين قالوا : في غزوة تبوك يرجوا هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فأتاهم فقال : قلتم كذا وكذا قالوا : إنما كنا نخوض ونلعب فنزلت، قال : البغوي : سبب نزول هذه الآية على ما قال : الكلبي ومقاتل وقتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين اثنان يستهزءان بالقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم والثالث يضحك قيل : كانوا يقولون أن محمدا يزعم أنه نزل في أصحابنا المقيمين في مدينة قرآن وإنما هو قوله وكلامه فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال : احبسوا علي الركب فدعاهم فقال : لهم : قلتم كذا أو كذا فقالوا إنما كنا نخوض ونلعب أي : كنا يتحدث ونخوض في الكلام كما يفعل الركب يقطع الطريق بالحديث واللعب، وهذه القصة وقعت في رواحه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى تبوك. وقال محمد بن إسحاق ومحمد بن عمر كان رهط المنافقين يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك لم يخرجوا الأرجاء الغنيمة منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف والجلاس بن الصامت ومخشي بن حمير من أشجع حليف لبني سلمة زاد محمد بن عمرو ثعلبة بن حاطب فقال : بعضهم بعضا مكاني بكم غدا مقرنين في الجبال أرجافا برسول الله صلى الله عليه وسلم وترحيبا للمؤمنين وقال بن عمر وكان زوج أم عمير وكان ابنها عمير في حجره والله لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير فقال : عمير : وأنت شر من الحمير ورسول الله الصادق وأنت الكاذب، فقال : مخشي بن حمير : والله لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة وإننا ننقلب من أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فاسألهم عما قالوا : فإن أنكروا فقل : بلى قلتم كذا وكذا فانطلق عمار إليهم فقال لهم ذلك فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال : وديعة بن ثابت وقد أخذ حقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاه تنسفان الحجارة ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته وهو يقول : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل الله فيهم " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون ٦٥ }
﴿ لا تعتذروا ﴾أي : لا تشتغلوا باعتذراتكم الكاذبة فإنها معلومة الكذب ﴿ قد كفرتم ﴾أي : أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول والطعن فيه ﴿ بعد إيمانكم ﴾أي : إظهاركم الإيمان ﴿ إن نعف عن طائفة منكم ﴾لتوبتهم وإخلاصهم، قال : محمد بن إسحاق الذي عفى عنه رجل واحد وهو مخشي بن حمير الأشجعي فقال : هو الذي كان يضحك ولا يخوض وكان يمشي مجانبا لهم وينكر بعض ما يسمع فلما نزلت هذا الآيات تاب من نفاقه، قال : اللهم لا أزال أسمع آية تقر بها عيني وتقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة أحد من المسلمين إلا عرف مصرعه غيره، وقال مخشي يا رسول الله فعدلي اسمي واسم أبي فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمان أو عبد الله ﴿ نعذب طائفة ﴾قرأ عاصم نعف بفتح النون وضم الفاء ونعذب بضم النون وكسر الذال على صيغة المتكلم المبني للفاعل وطائفة بالنصب، والباقون بالياء المضمومة وفتح الفاء في الأول وبالتاء الفوقانية وفتح الذال في الثاني على صيغة الغائب المبني للمفعول وطائفة بالرفع ﴿ بأنهم كانوا مجرمين ﴾بالإصرار على النفاق وإيذاء الرسول والاستهزاء.
﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من ﴾جنس﴿ بعض ﴾في الشرك والنفاق والبعد عن الإيمان، وفيه تكذيب لحلفهم بالله أنهم لمنكم وتقرير لقوله وما هم منكم وما بعده كالدليل عليه فإنه يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين وتشابه حال بعضهم لبعض ﴿ يأمرون بالمنكر ﴾أي : بالشرك والمعصية﴿ وينهون عن المعروف ﴾أي : عن الإيمان والطاعة يقولون لا تنفروا في الحر﴿ ويقبضون أيديهم ﴾عن الإنفاق في سبيل الله وقبض اليد كناية عن الشح﴿ نسوا الله ﴾ كأنهم لا يعلمون لهم خالقا يسألهم عما يفعلون وغفلوا عن ذكره وتركوا طاعته ﴿ فنسيهم ﴾فتركهم الله من توفيقه وهداية في الدنيا ورحمته في الآخرة وتركهم في عذابه، ﴿ إن المنافقين هم الفاسقون ﴾الخارجون عن دائرة الإيمان والطاعة بالكلية
﴿ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها ﴾أي : مقدرة الخلود ﴿ هي ﴾أي : النار﴿ حسبهم ﴾عقابا وجزاء على كفرهم ونفاقهم أن يعذبوا في الدنيا فيه دليل على عظم عذابها وأنه بحيث لا يزاد عليه ﴿ ولعنهم الله ﴾وأبعدهم من رحمة وإهانهم ﴿ ولهم عذاب مقيم ﴾دائم لا ينقطع، والمراد به ما وعدهم في الآخرة أو ما معهم في الدنيا وهو ما يقاسونه من تعب النفاق والظاهر المخالف للباطن خوفا من المسلمين وما يحذرونه أبدا من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم
﴿ كالذين من قبلكم ﴾ الكاف محلها رفع خبر لمبتدأ محذوف، أي : أنتم أيها المنافقون مثل الذين كانوا من قبلكم من كفار الأمم الماضية أو نصب على المصدرية تقديره تعلمتم أيها المنقون فعلا مثل فعل الذين كانوا من قبلكم من العدول عن أمر الله فلعنتم كما لعنوا ﴿ كانوا اشد منكم قوة ﴾بطشا ومنعة ﴿ وأكثر أموالا وأولادا ﴾ بيان لتشبههم بهم وتمثيل حالهم بحالهم، ﴿ فاستمتعوا ﴾يعني فتمتعوا أو انتفعوا﴿ بخلاقهم ﴾أي : بنصيبهم من الدنيا ولذاتها واشتقاقه من الخلق بمعنى التقدير فإن الخالاقات قدر لصاحبه ﴿ فاستمتعتم ﴾أيها المنافقون ﴿ بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ﴾ ذم الأولين باستمتاعهم بالخطوط الدنيا الفانية الغير المرضية لله تعالى معرضين عن تحصيل لذائر الباقية القوية المرضية تمهيدا الذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء آثارهم ﴿ وخضتم ﴾أي : دخلتم في الباطل واللهو ﴿ كالذي خاضوا ﴾يعني كالخوض الذي خاضوا أو كالفوج الذي خاضوا ﴿ أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ﴾لم يستحقوا عليها ثوابا في الدارين ﴿ وأولئك هم الخاسرون ﴾الذي خسروا الدنيا ولآخرة يعني كما حبطت أعمالهم وخسروا كذلك أعمالهم وخسرتم، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا شبرا وذراعا ذراعا حتى لو دخلوا جحر ضب بتعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟قال : فمن " ١.
وفي رواية أبي هريرة :" فهل الناس إلا هم " رواه البخاري، وروى الحاكم عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم :" لتركبن سنن من قبلكم شبرا بشبر ذراعا بذراع حتى لو أن أحدكم دخل جحر ضب لدخلتم ولو أن أحدكم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه " قال : البغوي، قال : ابن مسعود : أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا تتبعون عملهم حذروا لقدة بالقدة غير إني لا أدري اتعبدون العجل أم لا.
١ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (٣٤٥٦)، وأخرجه مسلم في كتاب: العلم، باب: اتباع سن اليهود والنصارى (٢٦٦٩)..
قوله :﴿ ألم يأتهم ﴾يعني لمنافقين التفات من الخطاب إلى الغيبة ﴿ نبا الذين من قبلهم ﴾أنهم عصوا رسلنا وخالفوا أمرنا فعذبناهم وأهلكناهم ثم ذكرهم فقال " ﴿ قوم نوح ﴾مع ما عطف عليه بدل من الموصول يعني أهلكوا : بالطوفان لكفرهم ﴿ وعاد ﴾أهلكوا بالريح ﴿ وثمود ﴾أهلكوا بالرجفة ﴿ وقوم إبراهيم ﴾بسبب النعمة وإهلاك نمرود بنملة وإهلاك أصحابه ﴿ وأصحاب مدين{ قوم شعيب أهلكوا بالنار يوم الظلة { والمؤتفكات ﴾قريات قوم لوط أيتفكت بهم أي انقلبت فصار عاليها سافلها وأمطروا حجارة من سجيل ﴿ أتتهم رسلهم بالبينات ﴾بالمعجزات الظاهرة فكذبوهم، فأهلكوا ﴿ فما كان الله ليظلمهم ﴾أي : لم يكن عادة الله أن يعذبهم بلا جرم منهم﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾حيث كذبوا الرسل وعصوهم كما فعلتم فأخذناهم بالعذاب فاحذروا أن ينزل بكم مثل ما نزل بهم.
﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾ يؤيد بعضهم بعضا في طاعة الله وإعلاء دينه ﴿ يأمرون بالمعروف ﴾بالإيمان والطاعة ﴿ وينهون عن المنكر ﴾عن الشرك والنفاق ومعصية الرسول واتباع الشهوات ﴿ ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله ﴾في كل ما أمروا به ﴿ أولئك سيرحمهم الله ﴾لا محالة فإن السين مؤكدة للوقوع ﴿ إن الله عزيز ﴾غالب على كل شيء لا يمتنع عنه أمر﴿ حكيم ﴾ يضع الأشياء مواضعها
﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة ﴾ يطيب فيها العيش أو يستطيبها النفس ﴿ في جنات عدن ﴾ قيل : معناه إقامة وخلود يقال : عدن بالمكان إذا قام به، قال : صاحب المدارك عدن علم بدليل قوله تعالى :" جنات عدن التي وعد الرحمان " ١ وقد عرفت أن كلمة الذي والتي وضعتا لوصفت المعارف بالجمل فهي مدينة في الجنة، قلت : يؤيد كونه علما ما أخرج ابن المبارك والطبراني وأبو الشيخ عن عمران بن حصين وأبي هريرة رضي الله عنهما قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " ومساكن طيبة في جنات عدن " قال :" قصر من لؤلؤ في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمرد خضراء وفي كل بيت سرير على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش زوجة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة ويعطي المؤمن كل غداة من القوة ما يأتي على ذلك كله أجمع " وأخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن ابن عمر قال : خلق الله تبارك وتعالى أربعا بيده العرش وعدن والقلم وآدم ثم قال : لكل شيء كن فكان، وأخرج البزار وابن جرير والدارقطني في " المؤتلف والمختلف " وابن مردويه من حديث أبي الدرداء قوله صلى الله عليه وسلم " عدن دار الله التي لن ترها عين لم يخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة النبيين والصديقين والشهداء يقول الله طوبى لمن دخلك ".
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " ٢وأخرج أحمد الطيالسي و البيهقي هذا الحديث لفظ :" جنات الفردوس أربع جنتان من ذهب " الحديث، قال : البيهقي في قوله رداء الكبرياء استتاره بصفة الكبراء والعظمة لأنه لكبريائه وعظمته لا يراه أحد من خلقه إلا بإذنه، قال : البغوي قال : ابن مسعود هي يعني جنات عدن بطنان الجنة أي : وسطها، وقال عبد الله بن عمرو بن عمرو بن العاص إن في الجنة قصر يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا النبي أو صديق أو شهيد، وقال الحسن قصر من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل وقال عطاء بن السائب عدن نهر في الجنة جنانه على حافتيه، وقال مقاتل والكلبي : عدن أعلى درجة في الجنة وفيها عين التسنيم والجنان حولها محدقة بها وهي مغطاة من حين خلقها الله تعالى حتى ينزلها أهلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن شاء الله تعالى فيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فيدخل عليهم كثائب المسك الأبيض، قال : القرطبي قيل : الجنان سع دار الخلد ودار الجلال ودار السلام وجنة عدن وجنة المال وجنة الفردوس، وقيل أربع فقط لحديث أبي موسى فإنه يذكر فيه سوى أربع كلها يوصف بالمأوى وخلد وعدن والسلام وهذا أما اختاره الحكيم، فقال : إن الجنتين للمقربين والجنتين الأخريين لأصحاب اليمين وفي كل جنة درجات ومنازل وأبواب ومرجع العطف في الآية يحتمل أن يكون تعدد الموعود لكل واحد أو للجميع على سبيل التوزيع أو إلى تغاير وصفه أولا بأنه من جنس ما هو بهي الأماكن يعرفونها ليميل إليه طباعهم أو ما يقرع أسماعهم ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا يخلو عن شيء منها أماكن الدنيا وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار العليين لا يعتريهم فيها فناءه ولا تغير ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك، فقال :﴿ ورضوان من الله ﴾أي : شيء من رضوان الله ﴿ اكبر ﴾نعمة من سائر النعم في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله تعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون : لبيك ربنا وسعديك فيقول : هل رضيتم ؟فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ فقال : أنا أعطيتكم أفضل من ذلك قالوا : وما أفضل من ذلك ؟فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا " ٣ وأخرج الطبراني في " الأوسط " وصححه عن جابر يرفعه إذا دخل أهل الجنة الجنة قال : الله تعالى : هل تسألون شيئا فأزيدكم ؟قالوا : يا ربنا فما خير مما أعطيتنا ؟قال : رضوان من الله أكبر " ﴿ ذلك ﴾الرضوان أو جميع ما تقدم ﴿ هو الفوز العظيم ﴾الذي يستحقر دونه ما سواه
١ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (٣٤٥٦)، وأخرجه مسلم في كتاب: العلم، باب: اتباع سن اليهود والنصارى (٢٦٦٩)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: تفسير القرآن، باب قوله تعالى:"ومن دونهما جنتان"(٤٨٧٨)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى (١٨٠)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار (٦٥٤٩)، وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: إحلال الرضوان على أهل الجنة (٢٨٢٩)..
﴿ يأيها النبي جاهد الكفار ﴾بالسيف ﴿ والمنافقين ﴾قال : ابن عباس والضحاك يعني باللسان وترك الرفق وتغليظ الكلام، وقال الحسن وقتادة : بإقامته الحدود، وقال ابن مسعود : يجاهدهم بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وقال : لا يلقى المنافق إلا بوجه مكفهر ﴿ وأغلظ عليهم ومأواهم ﴾في الآخرة ﴿ جهنم و بئس المصير ﴾هي قال : عطاء نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح والله تعالى أعلم.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعينين شيطان فطلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك ؟فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا : حتى تجاوز عنهم فأنزل الله تعالى ﴿ يحلفون بالله ما قالوا ﴾وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان الجلاس بن سويد بن الصامت ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وقال لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير فرفع عمير بن سعد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف بالله ما قلت فأنزل هذه الآية فزعموا أنه تاب وحسنت توبته، ثم أخرج عن كعب بن مالك نحوه وكذا أخرج ابن إسحاق عنه وأخرج ابن سعد في الطبقات نحوه عن عروة، وكذا ذكر البغوي قول الكلبي قال : نزلت في جلاس بن سويد وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين فسماهم رجسا وعابهم فقال : جلاس : لئن محمد صادقا لنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن قيس فقال : أجل إن محمدا صلى الله عليه وسلم لصادق وأنتم شر من الحمير فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال : الجلاس فقال : الجلاس : كذب يا رسول الله علي، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله ولقد كذب علي عامر ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه، ثم رفع عامر يديه إلى السماء وقال : اللهم أنزل على نبيك لصادق منا الصدق، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون آمين فنزل جبرئيل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ ﴿ فإن يتوبوا يك خيرا لهم ﴾ فقام الجلاس فقال : يا رسول الله أسمع الله قد عرض علي التوبة صدق عامر بن قيس فيما قاله لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه ثم تاب وحسنت توبته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك، قال : سمع زيد بن أرقم رجلا من المنافقين يقول والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب إن كان هذا صادقا لنحن شر من الحمير فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجحد القائل فأنزل الله هذه الآية، وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلين أحدهما من جهينة ولآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار وظهر الغفاري على الجهني، فقال : عبد الله بن أبي الأوس انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال : القائل :
سمن كلبك يأكلك
لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قال : فأنزل الله تعالى " يحلفون بالله ما قالوا " الآية، وهذه قصة غزوة بني المصطلق وقد ذكرنا القصة في سورة المنافقين ﴿ ولقد قالوا كلمة الكفر ﴾قيل : هي سب النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل : هي قول الجلاس لئن كان محمد صادقا لنحن شر الحمير. وقيل : قولهم لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل﴿ وكفروا بعد إسلامهم ﴾أي : أظهروا الكفر بعدما أظهروا الإسلام ﴿ وهموا بما لم ينالوا ﴾قيل : هم اثنا عشر رجلا من المنافقين وقفوا على العقبة في طريق تبوك ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء جبرئيل وأمره أن يرسل إليهم من يضرب رواحلهم فأرسل حذيفة لذلك وقد مر القصة.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : هم رجل يقال له : الأسود بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، وقال مجاهد : هم المنافقون بقتل المسلم الذي سمع قولهم لنحن شر من الحمير كيلا يفشيه وقيل : هموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المدينة في قصة غزوة بني المصطلق، وقال السدي : قالوا : إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجا فلم يصلوا إليه ﴿ وما نقموا ﴾أي : ما كرهوا وما وجدوا ما يورث نقمتهم ويقضي إنتقامهم شيئا﴿ إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ﴾يعني : إلا الإحسان بهم وذلك شيء محبوب عند القلوب يوجب المحبة والإنقياد دون العداوة والإنتقام والجملة حال من فاعل هموا بيان لكمال شرهم وخبثهم حيث أساؤوا في مقابلة الإحسان.
أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة أن مولى بن عدي بن كعب قتل رجلا من الأنصار فقضي النبي صلى الله عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفا، قال البغوي : مولى الجلاس قتل فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية اثني عشر ألفا فاستغنى وفيه نزلت هذه الآية وقال الكلبي : كان أهل المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم، ﴿ فان يتوبوا ﴾ من نفاقهم وكفرهم ﴿ يك ﴾ذلك التواب ﴿ خيرا لهم ﴾قد مر أن هذه الآية حمل الجلاس على التوبة﴿ وان يتولوا ﴾أي : يعرضوا عن التوبة والإخلاص ﴿ يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا ﴾بالخزي والفضيحة أو القتل﴿ والآخرة ﴾بالنار ﴿ وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ﴾حتى ينجيهم من القتل والخزي، وروى البغوي بسنده : كذا ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني والبيهقي في " شعب الإيمان " عن أبي أمامة الباهلي قال : جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمالك في رسول الله أسوة حسنة ؟والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا لسارات "، ثم أتاه بعد ذلك فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا والذي بعثك بالحق نبيا لأن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اللهم ارزق ثعلبة مالا " قال : فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزلت واديا من أوديتها وهي تنمو كما ينمو الدود وكان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر ويصلي في غنمه سائر الصلوات ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة فصار لا يشهد إلا الجمعة ثم كثرت ونمت فتباعد أيضا حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة فكان إذا كان يوم الجمعة يخرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار، فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فات يوم فقال :" ما فعل ثعلبة " ؟قالوا : يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنما يسعها واد، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة " فأنزل الله تعالى آية الصدقات، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني سليم ورجلا من جهينة وكتب لهما أسنان الصدقة وكيف يأخذان، وقال لهما مرا بثعلبة بن حاطب وبرجل من بني سليم فخذا صدقاتهما فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة واقرأه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي فانطلقا وسمع السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزها للصدقة ثم استقبلهما فلما رأوها قالوا : ما هذا عليك، قال : خذاه فإن نفسي بذاك طيبة فمرا على الناس وأخذا الصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة فقال : أروني كتابكما فقرأه فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية اذهبا حتى أرى رأي، قال : فأقبلا فلما رأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه قال :" يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة " ثم دعا للسلمي بخير فأخبرت بالذي صنع ثعلبة فأنزل الله فيه.
﴿ ومنهم ﴾أي : من المنافقين﴿ من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ﴾فيه إدغام التاء في الصاد ﴿ ولنكنن من الصالحين ﴾وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه يعني يعمل عمل أهل الصلاح من صلة الرحم وأداء الزكاة والنفقات الواجبة والمستحبة في سبيل الله.
﴿ فلما أتاهم من فضله بخلوا به ﴾أي : بالمال ومنعوا حق الله﴿ وتولوا ﴾عن طاعة الله ورسوله ﴿ وهم معرضون ﴾أي : هم قوم عادتهم الإعراض عنها.
﴿ فأعقبهم ﴾الله والبخل أي : جعل عاقبة أمرهم ﴿ نفاقا ﴾أي : سوء اعتقاد ﴿ في قلوبهم ﴾حيث لم يروا امتثال أمر الله تعالى في أداء الزكاة واجبا وأنكر و أوجوب الزكاة و زعموها أخت الجزية ﴿ إلى يوم يلقونه ﴾أي : يلقون عملهم أي : جزاءه وهو يوم القيامة أو في القبر يعني حرمهم الله التوبة إلى أن ماتوا على النفاق ﴿ بما اخلفوا الله ﴾أي : بسبب إخلافهم ﴿ ما وعدوه ﴾من التصدق والصلاح﴿ وبما كانوا يكذبون ﴾أي : بكونهم كاذبين فإن خلف الوعد متضمن لكذب مستقبح من الوجهين قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" آية المنافق ثلاث إذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان " ١ متفق عليه من حديث أبي هريرة، زاد مسلم بعد قوله ثلاث :" وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم " ثم اتفقا وروى البغوي وابن جرير وغيره في حديث أبي أمامة المذكور فيما قبل أنه نزلت الآية وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه، فقال : ويحك يا ثعلبة لقد أنزل الله عز وجل فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل صدقته فقال :" إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك " فجعل يحثو على رأسه التراب فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا عملك قد أمرتك لم تطعني فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبض صدقته رجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى أبا بكر رضي الله عنه فقال : اقبل صدقتي فقال : أبوا بكر لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقبلها فقبض أبو بكر ولم يقبلها، فلما ولي عمر أتاه فقال : أقبل صدقتي لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر أنا أقبلها منك فلم يقبلها، ثم ولي عثمان فأتاه فلم يقبلها وهلك ثعلبة في خلافة عثمان وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة. . . أتى ثعلبة مجلسا من الأنصار فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله أتيت منه كل ذي حق حقه وتصدقت منه وصلت منه القرابة فمات ابن عم له فورثه مالا فلم يف بما قال : فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال الحسن ومجاهد نزلت في ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير وهما من بني عمرو بن عوف خرجا على ملأ قعود وقالا والله لئن رزقنا الله من فضله لنصدقن فلما رزقهما الله بخلا به
١ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق (٣٣)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق(٥٩)..
﴿ ألم يعلموا ﴾أي : المنافقون أو من عاهد الله حين أظهروا خلاف ما أضمروا والاستفهام للتوبيخ﴿ أن الله يعلم سرهم ﴾يعني ما يسرون من النفاق أو العزم على الإخلاف ﴿ ونجواهم ﴾أي : يتناجون فيما بينهم من المطاعن أو تسمية الزكاة جزية ﴿ وان الله علام الغيوب ﴾فلا يخفى عليه شيء.
روى الشيخان في الصحيحين عن ابن مسعود قال : لما نزلت أية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا يعني المنافقين مراء وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا إن الله لغني عن صدقة هذا ١فنزل﴿ الذين يلمزون ﴾أي : يعيبون الموصول مرفوع على الذم أو منصوب أو بدل من الضمير في سرهم أو مبتدأ خبره سخر الله منهم ﴿ المطوعين ﴾أصله المتطوعين أي : الراغبين﴿ من المؤمنين في ﴾في إكثار ﴿ الصدقات والذين لا يجدون ﴾ما يتصدقون به﴿ إلا جهدهم ﴾أي : طاقتهم أي : ما يطيقون ويقدرون عليه من المال القليل، وقال البغوي : قال : أهل التفسير حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة فجاء عبد الرحمان بن عوف بأربعة آلاف درهم، وقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالي ثمانية آلاف جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله وأمسكت أربعة آلاف لعيالي فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت " فبارك الله ما في ماله حتى أن خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمن ماله لهما مائة وستين ألف درهما وفي رواية صولحت إحدى امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم وكان حقها أكثر مما صولحت عليه وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر وجاء أبو عقيل الأنصاري واسمه الحجاب بصاع من تمر فقال : يا رسول الله بت ليلتي أجر بجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لأهلي وأتيتك بالآخر، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا : ما أعطى عبد الرحمان وعاصم إلا رياء وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنه أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقة فأنزل الله هذه الآية، وعنى بالمطوعين عبد الرحمان وعاصم وبالذين لا يجدون إلا جهدهم أبا عقيل، قلت : روى القصة أحمد وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس وقصة مصالحة إحدى امرأتيه الطبراني واسمع تماضر من حديث أبي عقيل، وورد نحو هذه القصة من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأبي عقيل نفسه وعميرة بنت سهل بن رافع أخرجها كلها ابن مردويه قال : الله تعالى عز شأنه ﴿ فيسخرون منهم ﴾يستهزؤون بهم ﴿ سخر الله منهم ﴾أي : جازهم على السخرية وأخرج البيهقي عن الحسن قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم باب من الجنة فيقال لأحدهم فيجيء بكربه وغمه فإذا جاء غلق دونه فما زال كذلك حتى أن أحدهم ليفتح الباب من أبواب الجنة فيقال لهم : هلم فما يأتيه منه إلا يأس :﴿ ولهم عذاب اليم ﴾بكفرهم واستهزاؤهم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله تعالى:﴿الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين﴾(٤٦٦٨)، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: الحمل أجرة يتصدق بها والنهي الشديد عن تنقيص المتصدق بقليل(١٠١٨)..
قال البيضاوي روى عن عبد الله بن أبي المنافق كان من المخلصين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موت أبيه المنافق أن يستغفر له ففعل فنزلت ﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ﴾أمر بمعنى الإخبار بالتسوية بين استغفار الرسول الله صلى الله عليه وسلم للمنافقين وعدمه في عدم الإفادة كما نص عليه بقوله ﴿ إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ﴾فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لأزيدن على السبعين " فنزلت " سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم " ١كذا أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر معناه وأخرج ابن المنذر عن عروة ومجاهد وقتادة، وأخرج ابن المنذر من طريق العوفي عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية قال : النبي صلى الله عليه وسلم أسمع ربي وقد رخص لي فيهم فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم " فنزلت :﴿ أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ﴾ قال : البيضاوي : فهم النبي صلى الله عليه وسلم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل فيجوز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ماوراءه فبين له أن المراد به التكثير دون التحديد.
وقد شاع استعمال السبعة والسبعين وسبعمائة ونحوها في التكفير لاشتمال السبعة على حملة أقسام العدد فإن العدد قليل وكثير فالقليل ما دون الثلاث والكثير فما فوقه وأدنى الكثير ثلاثة ولا غاية لأقصاه، وأيضا العدد نوعان شفع ووتر أول الأشفاع اثنان وأول الأوتار وواحد ليس بعدد والسبعة أول الجمع الكثير من النوعين لأن فيها أوتارا ثلاثة وأشفاعا ثلاثة، والعشرة كمال الحساب لأن ما جاوز العشرة فهو إضافة الآحاد إلة العشرة كقولك اثنا عشر ثلاثة عشر إلى عشرين والعشرين تكرير العشرة مرتين والثلاثون تكريها ثلاث مرات وهكذا إلى مائة، فالسبعون يجمع الكثرة والنوع والكثرة منه وكمال الحساب والكثرة منه فصار السبعون أدنى الكثير من العدد من كل وجه ولا غاية لأقصاه فجاز تخصيص السبعين بهذا المعنى فكأنه العدد بأسره ﴿ ذلك ﴾اليأس عن المغفرة﴿ بأنهم كفروا بالله ورسوله ﴾يعني ليس ذلك بخل منا ولا لقصور فيك بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾المتمردين في كفرهم وهو كالدليل على الحكم السابق فإن مغفرة الكافر إنما هو بالإقلاع عن الكفر والإرشاد إلى الحق والمنهمك في كفره المطبوع عليه لا ينقطع ولا يهتدي.
١ أخرجه البخاري في كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله تعالى "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم"(٤٦٧٠)، وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر رضي الله عنه (٢٤٠٠)..
﴿ فرح المخلفون ﴾عن غزوة تبوك والمخلف المتروك ﴿ بمقعدهم ﴾أي : بقعودهم عن الغزو﴿ خلاف رسول الله ﴾، قال : أبو عبيه أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : خلاف بمعنى المخالفة فيكون انتصابه على العلة أو الحال، يعني فرحوا لأجل مخالفة الرسول وحال كونهم مخالفين له﴿ وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾فيه تعريض بالمؤمنين الذين حصلوا رضاءه تعالى ببذل الأموال والأنفس وأثروا رضاه على الأموال والأنفس ﴿ وقالوا ﴾أي : قال : بعضهم لبعض وللمؤمنين تثبيطا﴿ لا تنفروا في الحر ﴾.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينبعثوا معه وذلك في الصيف فقال : رجل يا رسول الله الحر الشديد ولا تستطيع الخروج فلا تنفر في الحر فأنزل الله﴿ قل نار جهنم اشد حرا ﴾وقد آثرتموها بهذه المخالفة فيه استجهال لهم لأنه من يصون نفسه من مشقة ساعة ووقع بسبب ذلك في مشقة أشد وأغلظ المؤبد كان أجهل من كل جاهل، ﴿ لو كانوا يفقهون ﴾أي : يعلمون، قال : البغوي : كذلك هو في مصحف ابن مسعود يعني لو كانوا يعلمون أن ما بهم إليها أو أنها كيف هي ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة، قال : محمد بن يوسف الصالحي جعل جد بن قيس وغيره من المنافقين يثبطون المسلمين عن الخروج وقال الجد لجبار بن منحر ومن معه من بني سلمة لا تنفروا في الحر رهادة في الجهاد وشكا في الحق وإرجافا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى :﴿ قل نار جهنم أشد حرا ﴾وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد إلى تبوك فقال : رجل من بني سلمة لا تنفروا في الحر فأنزل الله ﴿ قل نار جهنم أشد حرا ﴾ الآية، وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو أبو قتادة وعبد الله بن أبي بكر بن حزم قال : رجل من المنافقين لا تنفروا في الحر فنزلت هذه الآية والله أعلم.
قال الله تعالى﴿ فليضحكوا ﴾أي : المنافقون حين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ﴿ قليلا ﴾يعني ضحكا قليلا أو في زمان قليل يعني في الدنيا﴿ وليبكوا كثيرا ﴾في الآخرة إخبار عما يؤل إليه حالهم في الدنيا والآخرة أخرجه على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم واجب، والضحك والبكاء إما محمولان على الحقيقة أو هما كنايتين عن السرور والغم وجاز أن يكون المراد بيان حالهم في الآخرة والمراد من القلة العدم ﴿ جزاء ﴾مصدر فعل محذوف أي : يجزون جزاء، ﴿ بما كانوا يكسبون ﴾في الدنيا أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ فليضحكوا قليلا ﴾ قال : الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاءوا فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله فليستأنفوا البكاء لا ينقطع أبدا.
وأخرج ابن ماجه وأبو يعلى والبيهقي وهنا عن أنس قال : سمعت : رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" يرسل البكاء على أهل النار فيكون حتى ينقطع الدموع ثم يكون الدم ثم تؤتى في وجوههم كهيئة الأخدود ولو أرسلت فيها السفن لجرت " ١وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله بن قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت وإنهم يسكبون الدم " وأخرج ابن أبي الدنيا والضياء كلاهما في صفة النار عن زيد بن رفيع رفعه أن أهل النار إذا دخلوا النار بكوا الدموع زمانا ثم يكون القيح زمانا فيقول لهم الخزنة يا معشر الأشقياء تركتم البكاء في الدنيا هل تجدون اليوم من تستغيثون به فيرفعون أصواتهم يا أهل يا معشر الآباء والأمهات والأولاد خرجنا من القبور عطاشا وكنا طول الموقف عطاشا ونحن اليوم عطاش فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله فيدعون أربعين لا يجيبهم ثم يجيبهم أنكم ماكثون فيئسوا من كل خير، قلت : وجاز أن يكون معنى الآية فليضحكوا أي : الناس أجمعين في ديناهم قليلا أمر إباحة يشعر كراهة كثرة الضحك فإن كثرة الضحك يميت القلب وليبكوا في الدنيا كثيرا من خشية الله حتى يكون البكاء جزاء وعوضا بما كانوا يكسبون يتهافت به سيئاتهم.
عن أنس قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا " ٢رواه أحمد والشيخان في الصحيحين والترمذي والنسائي وابن ماجه ورواه البخاري أيضا عن أبي هريرة، ورواه الحاكم وصححه عن أبي ذر وزاد :" ولما ساغ لكم الطعام ولا الشراب " وروى الطبراني والحاكم والبيهقي عن أبي الدرداء مرفوعا بلفظ :" لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى لا تدرون تنجون أو لا تنجون " وروى الحاكم عن أبي هريرة وصححه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا " يظهر النفاق ويرتفع الأمانة ويقبض الرحمة ويتهم الأمين ويؤتمن غير الأمين أناخ بكم الشرف الجون الفتن كأمثال الليل المظلم : وروى البغوي بسنده عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" يا أيها الناس إبكوا فإن لم تستطيعوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى يسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى ينقطه الدموع فيسيل الدماء ويفرح العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت " وروى أحمد والترمذي وابن ماجه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله " وروى ابن ماجه عن ابن مسعود قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من عبد مؤمن يخرج من عينيه دموع وإن كان مثل رأس الذباب من خشية الله ثم يصيب من خروجه إلا حرمه الله على النار
١ أخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب: ذكر الشفاعة (٤٣٢٤)، في الزوائد: في إسناده يزيد بن أبان الرقاشي وهو ضعيف..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا"(٦٤٨٥)، وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما(٤٢٦)..
﴿ فان رجعك ﴾أي : ردك﴿ الله إلى ﴾المدينة وفيها ﴿ طائفة منهم ﴾أي : من المخلفين يعني منافقيهم فإن كلهم لم يكونوا منافقين أو من بقي منهم بعد ما تاب بعضهم وهلك بعضهم ﴿ فاستأذنوك للخروج ﴾معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك، ﴿ فقل لن تخرجوا معي ﴾قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بسكون الياء والباقون بفتحها ﴿ أبدا ﴾في سفر﴿ ولن تقاتلوا معي ﴾قرأ حفص بفتح الياء والباقون بسكونها ﴿ عدوا ﴾إخبار في معي النهي للمبالغة﴿ إنكم رضيتم بالقعود أول مرة ﴾يعني في غزوة تبوك، والجملة تعليل للنهي وكان أسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم ﴿ فاقعدوا مع الخالفين ﴾مع النساء والصبيان والمرضى والزمني لعدم لياقتهم للجهاد، وقال ابن عباس مع الذين تخلفوا بغير عذر وقيل : مع المخالفين قال الفراء يقال صاحت خالف إذا كان مخالفا.
روى الشيخان في الصحيحين عن ابن عمر قال : لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله فقام ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوبه فقال : رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي على المنافقين ؟ فقال :" إنما خيرني الله فقال :﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة ﴾ وسأزيده على السبعين، فقال : إنه منافق فصلى عليه ١فأنزل الله تعالى :﴿ ولا تصل ﴾المراد بالصلاة الدعاء والاستغفار للميت فيشتمل صلاة الجنازة أيضا لأنها مشتملة على الدعاء والاستغفار ﴿ على أحد منهم مات أبدا ﴾ ظرف لتصل، وقيل : ظرف لمات يعني مات موتا قال : الله لا يموت فيها ولا يحيى ﴿ ولا تقم على قبره ﴾ للدفن أو للزيارة قيل : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له ولذا ورد النهي عن القيام على قبره ﴿ إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ﴾ تعليل للنهي أو لتأيد الموت، وروى البخاري عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أنه قال : لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول دعى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي على ابن أبي وقد قال : يوم كذا كذا أعدد عليه قال :" إني خيرت فاخترت لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت عليها " فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسرا حتى نزلت الآيتان من براءة.
وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعدها أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضه على ركبته ونفث فيه ريقه وألبسه قميصه، وفي الصحيحين عن ابن عمر أن عبد الله بن عبد الله بن أبي كان من المصلحين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له ففعل فنزلت، وروى الحاكم وصححه و البيهقي في الدلائل عن أسامة بن زيد أن ابن أبي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فسأله أن يستغفر له ويكفنه في شعاره الذي يلي جسده ويصلي عليه فلما مات أرسل قميصه ليكفن فيه وذهب ليصلي فنزلت هذه الآية، وأخرج البخاري من حديث جابر أنه قال : لما كان يوم بدر وأني بالعباس ولم يكن عليه ثوب فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه ٢ يعني كان ذلك مكافأة له، قال : البغوي : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم فيها فعل بعبد الله بن أبي فقال صلى الله عليه وسلم :" وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه قال " وروي أنه أسلم ألف من قومه لما وأوه يتبرك بقميص النبي صلى الله عليه وسلم، قال : البغوي : فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحل هذه الآية على منافق ولا قام على قبره حتى قبض
١ أخرجه البخاري في كتاب: تفسير القرآن، باب: قوله تعالى:"إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم"(٤٦٧٠)، وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر رضي الله عنه(٢٤٠٠)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: الكسوة للأسارى (٣٠٠٨).
﴿ ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ٨٥ ﴾تكرير للتأكيد والأمر حقيق به فإن الإبصار طامحة إلى الأموال والأولاد والنفوس مغطبتة عليها، ويجوز أن يكون هذا في غير الأول.
﴿ وإذا أنزلت سورة ﴾ من القرآن، ويجوز أن يراد بها بعضها ﴿ أن امنوا بالله ﴾ بأن آمنوا ويجوز أن يكون أن مفسرة، والظاهر أن المراد بالإيمان ههنا امتثال أمره صلى الله عليه وسلم في الجهاد ﴿ وجاهدوا مع رسوله استأذنك ﴾ في العقود ﴿ أولوا الطول ﴾ أي : ذوو الغنى والسعة ﴿ منهم ﴾ من المنافقين ﴿ وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ﴾ في رحالهم بعذر
﴿ رضوا بان يكونوا مع الخوالف ﴾ أي : النساء اللاتي يخلفن في البيوت جمع خالفة، وقد يقال : الخالفة الذي لا خير فيه فلان خالفة قومه إذا كان دونهم يعني مع أرزال الناس الذين لا خير فيهم ﴿ وطبع على قلوبهم ﴾ طبع الله عليها فلا يدركون حسن الخيرات وسوء السيئات ﴿ فهم لا يفقهون ﴾ ما في الجهاد وموافقة الرسول من السعادة وما في المخالفة عنه من شقاوة.
﴿ لكن الرسول والذين امنوا معه ﴾مخلصين ﴿ جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ﴾يعني أن تخلف الخوالف ولم يجاهدوا فلا منقصة في الدين فقد جاهد من هو خير منهم﴿ وأولئك لهم الخيرات ﴾أي : منافع الدارين، وقيل : الخيرات الحور العين قال : الله تعالى " فيهن خيرات حسان ٧٠ " ١جمع خيرة وحكي عن ابن عباس أن الخير لا يعلم معناه إلا الله عز وجل كما قال : جل ذكره :" فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " ٢قلت : مراد ابن عباس أنه يعم جميع المنافع﴿ وأولئك هم المفلحون ﴾
١ سورة الرحمان، الآية: ٧٠..
٢ سورة السجدة، الآية: ١٧..
﴿ أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ﴾بيان لما لهم في الآخرة من الخيرات.
﴿ وجاء المعذرون ﴾أي : المعتذرون بالجهد وكثرة العيال أدغم التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين كذا قال : الفراء أو المعنى المقصرون فيه الموهمون أن لهم عذر ولا عذر لهم عذر من التفعيل أي : قصر وقرأ يعقوب ومجاهد المعذرون بالتخفيف من أعذر إذا اجتهد وبالغ في العذر ﴿ من الأعراب ليؤذن لهم ﴾في القعود، قال : محمد بن عمر جاء ناس من المنافقين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنونه في القعود من غير علة فأذن لهم، وروى ابن مردويه عن جابر بن عبد الله استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من المنافقين حين أذن لجد بن قيس يستأذنونه يقولون يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ائذن لنا فإنا لا نستطيع أن ننفر في الحر فأذن لهم وأعرض عنهم، ونزل هذه الآية فلم يعذرهم الله تعالى قال : ابن إسحاق نفر من بني غفار وقال محمد بن عمر كانوا اثنين وثمانين رجلا منهم خفاف بن إيما أنزل الله فيهم ﴿ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا ﴾ إلى قوله :" وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون " ١قال : الضحاك المعذورون هم رهط عامر بن الطفيل جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم وقالوا يا نبي الله إن نحن غزونا معك تغير أعراب طي على حائلنا وأولادنا ومواشينا فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قد نبأني الله من أخباركم وسيغني الله عنكم " وقال ابن عباس هم الذين تخلفوا العذر بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ﴾في إرحاء الإيمان يعني المنافقين فعلى هذا التأويل الفريق الأول غير مسيئين، والظاهر أن المراد بهؤلاء فإن منهم من اعتذر بكسله لا لكفره، قال أبو عمرو بن العلاء : كلا الفريقين مسيئين قوم تكلفوا عذرا بالباطل وهم الذين عناهم الله عز وجل بقوله :﴿ وجاء المعذرون ﴾ وقوم تخلفوا من غير تكلف عذر فقعد واجرأة على الله وهم المنافقون فأوعدهم الله تعالى بقوله﴿ سيصيب الذين كفروا منهم ﴾أي : من الأعراب أو من المعذرين فإن منهم من اعتذر بكسله لا لكفره﴿ عذاب اليم ﴾
١ سورة التوبة، الآيات: ٨٦-٩٣..
أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : كنت سأكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أكتب براءة وإني لواضع القلم على أذني إذ أمر بالقتال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى ؟فنزلت﴿ ليس على الضعفاء ﴾قال : ابن عباس يعني الزمني والمشايخ والعجزة وقيل : الصبيان وقيل : النسوان﴿ ولا على المرضى ﴾العميان وغيرهم﴿ ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ﴾لفقرهم﴿ حرج ﴾أي : ضيق في القعود عن الغزو ومأثم ﴿ إذا نصحوا لله ورسوله ﴾بالإيمان والطاعة في السر والعلانية كما يفعل الموالي والناصح أو بما يقدروا عليه فعلا وقولا يعود على الإسلام والمسلمين بالصلاح﴿ ما على المحسنين ﴾، وضع المحسنين موضع الضمير للدلالة على أنهم منخرطون في سلك المحسنين غير معاتبين﴿ من سبيل ﴾إلى معاتبتهم﴿ والله غفور رحيم ﴾لهم أو للمسيء فكيف للمحسن، قال البغوي : قال قتادة نزلت في عابد بن عمر وأصحابه وقال عن أنس وابن سعد عن جابر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك فدنا المدينة قال :" إن بالمدينة أقواما ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بالمدينة ؟قال : هم بالمدينة حبسهم العذر " ١
١ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: من حبسه العذر عن الغزو(٢٨٣٩)..
﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ﴾عطف على الضعفاء أو على المحسنين، قال : ابن عباس سألوه أن يحملهم على الدواب وقيل : سألوه أن يحملهم الخفاف المرقوعة والنعال المحضوفة ليفروا معه﴿ قلت لا أجد ما أحملكم عليه ﴾حال من الكاف في أتوك بإضمار قد﴿ تولوا ﴾جواب إذا﴿ وأعينهم تفيض ﴾أي : تسهيل ﴿ من الدمع ﴾أي : دمعها ومن البيان، وهي مع مجرورها في محل النصب على التميز وهو أبلغ من تفيض دمعها لأنه يدل على أن العين صارت دمعا فياضا﴿ حزنا ﴾نصب على العلة أو الحال أو المصدر لفعل دل عليه ما قبل، ﴿ ألا يجدوا ﴾أي : لئلا يجدوا متعلق بحزنا أو بتفيض﴿ ما ينفقون ﴾في غزوتهم، روى ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس وابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وابن إسحاق وابن المنذر وأبوا الشيخ عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن بكر وعاصم بن محمد بن عمر وقتادة وغيرهم رحمهم الله أن عصابة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاؤوه يستحملونه وكلهم معسر ذو حاجة لا يحب التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون " قال : محمد بن يوسف الصالحي : واختلوا في أسمائهم فالذي اتفقوا عليه سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف الأوسي وعلية بن زيد أبو ليلى بن عبد الرحمان بن كعب وهرمي بن عبد الله والذي اتفق عليه القرضي وابن إسحاق والوا قدي وتبعهم ابن سعد وابن حزم وأبو عمرو السهيلي ولم يذكرا لأخير عرباض بن سارية جزم بذلك ابن حزم وأبو عمرو، ورواه أبو نعيم عن ابن عباس والذي اتفق عليه القرظي وابن إسحاق عمرو بن حمام بن الجموح، والذي اتفق عليه القرظي وابن عقبة وابن إسحاق عبد الله بن مغفل.
روى ابن سعد ويعقوب بن سفيان وابن أبي حاتم عن ابن مغفل قال : إني لأجد الرهط الذين ذكر الله تعالى ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم، وفي حديث ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم من طريق العوفي قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن ينبعثوا غازين معه فجاءت عصابة من أصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم عبد الله بن مغفل المزني قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم احملنا فقال : والله ما أجد ما أحملكم عليه فيتولوا وهم بكاء وعز عليه أن يحبسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا فأنزل الله تعالى عذرهم " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم }الآية، والذي اتفق عليه القرظي وابن صخر ولفظ القرظي سلمان والذي اتفق عليه القرظي وابن عقبة عمرو بن عنمة بن عدي وعبد الله بن عمرو والمزني حكاه ابن إسحاق قولا بدلا عن ابن مغفل، وانفرد القرظي بذكر عبد الرحمان بن زيد أبو علية من بني حارثة وبذكر حرمي بن عمرو من بني مازن، وقال محمد بن عمرو ويقال إن عمرو بن عوف منهم قال : ابن سعد وفي بعض الروايات من يقول فيهم معقل بن يسار، وذكر فيهم الحاكم حرمي بن مبارك بن النجار وذكر ابن عابد فيهم مهدي بن عبد الرحمان وذكر فيهم محمد بن كعب سالم بن عمرو الواقفي، قال : ابن سعد وبعضهم يقول : البكاؤون بنو مقرن السبعة وهم من مزينة انتهى.
وهم النعمان وسويد ومغفل وعقيل وسنان. ذكر ابن إسحاق في رواية يونس وابن عمر أن علية بن زيد لما فقد ما يحمله ولم يجد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحمله خرج من الليل فصلى من ليلة ما شاء الله تعالى ثم بكى وقال : اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال أو جسد أو عرض ثم أصبح مع الناس فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم أين المتصدق هذه الليلة ؟فلم يقم إليه أحد فقام إليه نخبره فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبشر فوالذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة " قال : ابن إسحاق ومحمد بن عمر : لما خرج البكاؤون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعلمهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه بقي مامين بن عمرو النضري أبا ليلى وعبد الله بن مغفل وهما يبكيان فقال : ما يبكيكما ؟فلا : جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نقوى به على الخروج ونحن نكره أن يفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهما ناضحا له وزود كل واحد منهما صاعين من تمر، زاد محمد بن عمرو حمل العباس بن عبد المطلب منهم رجلين وحمل عثمان بن عفان منهم ثلاثة نفر بعد الذي كان جهز من الجيش، قلت : لعله لما سقط السبعة من الستة العشر المذكورين وسقط اثنان منهم لأجل شك الراوي فبقي من لم يخرج إلى الغزو لفقد ما يحمله سبعة وهم الذين قال : الله تعالى فيهم أنه لا سبيل عليهم بالمعاتبة والله أعلم.
روى الشيخان في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال :" أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين ليحملنا وفي رواية أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله لهم الحملان فقلت : يا رسول الله إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم فقال :" والله لا أحملكم على شيء وما عندي ما أحملكم عليه ووافقته وهو غضبان ولا أشعر فرجعت حزينا من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن مخافة أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه علي فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بالذي قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جيء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي أين عبد الله بن قيس فأجبته فقال : أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيته قال : هذين القرينين وهذين القرينين لستة أبعرة أتباعهن حينئذ من سعد فانطلق بهن إلى أصحابك فقل إن الله أو قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء فاركبوهن، قال أبو موسى فانطلقت إلى أصحابي فقلت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء ولكن والله لا أودعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألته لكم ومنعه في أول مرة ثم إعطاءه إياي بعد ذلك لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله فقالوا : لي والله إنك عندنا لمصدق ولنفعلن ما أحببت، قال : فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم منعه إياهم ثم إعطاءه بعد ذلك فحدثوهم بمثل ما حدثهم أبو موسى، ثم قلنا : والله لا يبارك لنا فرجعنا فقلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" أنا ما حملتكم ولكن الله حملكم "، ثم قال والله إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منهما إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني " ١
١ أخرجه البخاري في كتاب: فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين (٣١٣٣)، وأخرجه مسلم في كتاب: الأيمان، ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير (١٦٤٩)..
﴿ إنما السبيل ﴾بالعقاب والمعاتبة﴿ على الذين يستأذنونك وهم أغنياء ﴾واجدون الأهبة ﴿ رضوا بان يكونوا مع الخوالف ﴾استئناف ببيان ما هو السبب لاستئذانهم من غير عذرهم وهو رضاهم بالدنيا والانتظام في جملة الخوالف﴿ وطبع الله على قلوبهم ﴾حتى غفلوا عن وخامة العاقبة﴿ فهم لا يعلمون ﴾سوى ما اختاروه من القعود على الجهاد وموافقة الرسول.
﴿ يعتذرون ﴾يعني المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وقد ذكرنا بضعة وثمانين نفير ﴿ إليكم ﴾أيها الرسول والمؤمنون﴿ إذا رجعتم إليهم ﴾من غزوة تبوك إلى المدينة وفي الآية معجزة فإنهم جاؤوا بعد ذلك يعتذرون بالباطل قال : الله تعالى ﴿ قل لا تعتذروا ﴾بالمعاذير الكاذبة ﴿ لن نؤمن ﴾لن نصدقكم علة للنهي لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به ثم بين علة عدم التصديق وقال :﴿ قد نبأنا الله من أخباركم ﴾أعلمنا بالوحي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بعض أخباركم وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد وما زورتم من الاعتذارات الكاذبة﴿ وسيرى الله عملكم ورسوله ﴾في المستقبل من الزمان هل تتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه فيه استثابة وإمهال للتوبة ﴿ ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة ﴾بعد الموت وضع الوصف موضع الضمير للدلالة على أنه مطلع على سرهم وعلتهم لا يفوت شيء من ضمائرهم وأعمالهم من عمله﴿ فينبئكم ﴾بالتعذيب﴿ بما كنتم تعملون ﴾
﴿ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ﴾ولا تعاتبوهم﴿ فاعرضوا عنهم ﴾ولا تعاتبوهم وتصاحبوهم﴿ إنهم رجس ﴾أي : لأنهم أرجاس لخبث باطنهم فلا يجوز معهم المؤانسة والمصاحبة ولا ينفعهم المعاتبة لعدم صلاحيتهم للتطهير والمقصود عن المعاتبة إنما هو التطهير بالحمل على الإنابة ﴿ ومأواهم جهنم ﴾تمام التعليل كأنه قال : إنهم أرجاس من أهل النار فلا تصاحبوهم ولا تعاتبوهم ﴿ جزاء بما كانوا يكسبون ﴾يجوز أن يكون مصدر الفعل محذوف أي : يجزؤون جزاء أو يكون علة لكون مأواهم جهنم، قال : البغوي قال : ابن عباس نزلت في جد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما كانوا ثمانين رجلا من المنافقين فقال : النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة " " لا تجالسوهم ولا تكلموهم "
قال مقاتل : نزلت في عبد الله بن أبي حلف للنبي صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا إله إلا هو أن لا يتخلف عنه بعدها وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه فأنزل الله هذه الآية﴿ يحلفون لكم لترضوا عنهم ﴾يحلفهم فتستديموا على ما كنتم تفعلون بهم ﴿ فان ترضوا عنهم فان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ﴾أي : عنهم، وضع المظهر ليدل على موجب عدم الرضا، يعني أن لبسوا عليكم ورضيتم بهم لا يمكنهم أن يلبسوا على الله ويرضوه مع كفرهم ولا ينفعهم رضائكم مع سخط الله تعالى فإنه ينزل بهم الهوان في الدنيا والعذاب في الآخرة والمقصود من الآية النهي عن الرضاء عنهم والاغتراب بمعاذيرهم
﴿ الأعراب ﴾يعني أهل البدو﴿ اشد كفرا ونفاقا ﴾من أهل البلد لتوحشهم وقساوتهم وعدم اختلاطهم بأهل العلم وقلة استماعهم الكتاب والسنة﴿ وأجدر ألا يعلموا ﴾أي : أحق بأن لا يعلموا﴿ حدود ما انزل الله على رسوله ﴾من الشرائع فرائضها وسنتها ومباحاتها ومحرماتها ومكروهاتها لا يميزون بعضها من بعض لجهلهم﴿ والله عليم ﴾يعلم حال جميع خلقه﴿ حكيم ﴾فيما يفعل بهم في الدنيا والآخرة
﴿ ومن الأعراب من يتخذ ﴾أي : يزعم﴿ ما ينفق ﴾في سبيل الله ﴿ مغرما ﴾أي : غرامة وخسرانا، قال : عطاء : لا يرجون لإعطائه ثوابا ولا على إمساكه عقابا، إنما ينفقون خوفا ورياء﴿ ويتربص بكم الدوائر ﴾أي : ينتظرون بكم تقلب الزمان بأن يموت الرسول ويظهر المشركون حتى يتخلصوا عن الإنفاق الذي ينفقونه رياء وخوفا ﴿ عليهم دائرة السوء ﴾اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربصون بالمؤمنين، أو إخبار بما يقع بهم نحو ما يتربصون بالمؤمنين والدائرة في الأصل مصدرا واسم فاعل من دار يدور وسميت به عاقبة الزمان التي يأتي بالخير مرة وبالشر أخرى.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو السوء هنا وفي سورة الفتح بالضم السين ومعناه الضر والمكروه والباقون بفتح السين وهو مصدر أضيف إليه للمبالغة كقولك رجل صدق﴿ والله سميع ﴾لما يقولون عند النفاق فيما بين شياطينهم﴿ عليم ﴾بما يضمرون
قال البغوي : نزلت الآية المذكورة في أعراب أسد وغطفان وبني تميم، وكذا أخرج أبو الشيخ عن الكلبي إلا أنه لم يذكر فيه بني تميم ثم استثنى الله سبحانه من الأعراب المذكورين حال بعضهم فقال :﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾ وقال البغوي : أخرج ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في بني مقرن من مزينة الذين نزلت فيهم ﴿ ولا على الذين إذا مآ أتوك لتحملهم ﴾وأخرج عن عبد الرحمان بن معقل قال : كنا عشرة ولد مقرن وقال الكلبي أسلم وغفار وجهينة من تميم وأسد بن خزيمة وهوازن وعطفان وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله وعصية عصت الله ورسوله " ١ وفيهما عن أبي هريرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قريش وأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار أشجع موال ليس لهم مولى دون الله ورسوله " وفيهما عن أبي بكرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أسلم وغفار ومزينة وجهينة خير من تميم ومن بني عامر والحليفين أسد وغطفان " وروى البغوي : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه :" أسلم وغفار وشيء من جهينة ومزينة خير عند الله يوم القيامة من تميم وأسد بن خزيمة وهوازن وغطفان " ﴿ ويتخذ ﴾أي : بزعم﴿ ما ينفق ﴾في سبيل الله سبب﴿ قربات ﴾وهي ثاني مفعولي يتخذ﴿ عند الله ﴾صفة لقربات أو ظرف ليتخذ﴿ وصلوات الرسول ﴾أي : سبب دعاءه صلى الله عليه واستغفاره أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : صلوات الرسول واستغفاره صلى الله عليه وقد قال : رسول الله صلى الله عليه :" اللهم صل على آل أبي أوفى حين جاء عبد الله بن أبي أوفى بصدقته "، كذا أخرج الجماعة إلا الترمذي من حديث عبد الله بن أبي أوفى ﴿ ألا إنها ﴾أي : النفقة﴿ قربة لهم ﴾عند الله تعالى قرأ نافع برواية ورش قربة بضم الراء والباقون بسكونها وهذه هادة من الله تعالى بصحة معتقدهم وتصديق لرجائهم على الاستئناف مع حر في التنبيه والتأكيد﴿ سيدخلهم الله ﴾السين لتحقيق الوعد ﴿ في رحمته ﴾أي : جنته﴿ إن الله غفور رحيم ﴾.
١ أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: ذكر أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع(٣٥١٦)، وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لغفار وأسلم (٢٥١٨)..
﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين ﴾الذين هجروا قومهم وعشائرهم وفارقوا أوطانهم وأموالهم يعني : من قريش مكة. ﴿ والأنصار ﴾الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآووه وأصحابه، حين أخرجه قومه يعني من أهل المدينة. واختلفوا في السابقين من الفريقين ؟قال : سعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين وجماعة : هم الذين صلوا إلى القبلتين، وقال عطاء بن أبي رباح هم أهل بدر، وقال الشعبي هم للذين شهدوا بيعة الرضوان بالحديبية، وقيل هم المهاجرون ثمانية نفر للذين سبقوا إلى الإسلام ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام بعدهم وهم أبو بكر وعلي وزبير بن الحارثة وعثمان بن عفان وزبير بن العوام وعبد الرحمان بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، قال : البغوي : واختلفوا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بعضهم : علي بن أبي طالب وهو قول جابر بن عبد الله ويؤيده قول جابر بن عبد الله ويؤيده قول علي رضي الله عنه :
سبقتكمُ إلى الإسلام طرا غلاما ما بلغت أوان حلم
قال مجاهد وابن إسحاق أسلم علي وهو ابن عشر سنين وقال بعضهم : أول من آمن به بعد خديجة أبو بكر الصديق وهو قول ابن عباس وإبراهيم النخعى والشعبي، ويشهده قول حسان بن ثابت في أشعاره في مدح أبي بكر وتسليم النبي صلى الله عليه وسلم إياه، وقال بعضهم : أول من آمن به زيد بن حارثة وهو قول الزهري وعروة ابن الزبير وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الأقوال فيقول : أول من أسلم من الرجال أبوا بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن العبيد زيد بن الحارثة رضي الله عنهم أجمعين، قال : ابن إسحاق فلما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله وكان رجلا محببا سهلا وكان أنسب قريش وأعلمها بما كان فيها، وكان تاجرا ذا خلق ومعروف وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه فأسلم على يديه فيما بلغني عثمان والزبير بن العوام وعبد الرحمان بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلموا وصلوا، ثم أسلم غيرهم حتى بلغ المسلمون من الرجال والنساء إلى تسع وثلاثين في سبع سنين ثم أسلم عمر بن الخطاب فهو منهم أربعين، فإذا أسلم عمر قال : المشركون اليوم انتصف منا.
ثم شاع الإسلام وتقوى بإسلام عمر بعد سبع سنين، ومن ههنا قال : علي رضي الله عنه صليت قبل الناس بسبع سنين. والسابقون من الأنصار هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وكانوا ستة في العقبة الأولى وقيل : سبعة واثني عشر في العقبة الثانية والسبعون في العقبة الثالثة كما سنذكر، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة ومصعب بن عمير يعلمهم القرآن فأسلم خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان.
قرأ يعقوب والأنصار بالرفع عطفا على قوله :﴿ والسابقون ﴾ وهي قراءة أبي أخرجها ابن جرير وأبوا الشيخ عن محمد بن كعب القرظي والحاكم وأبو الشيخ عن أسامة ومحمد بن إبراهيم التيمي ﴿ والذين اتبعوهم بإحسان ﴾.
قيل : هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين. وقيل : هم الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة، قلت : ويمكن أن يكون المراد من السابقين المقربين الذين قال : الله تعالى فيهم :" والسابقون السابقون١٠ أولئك المقربون ١١في جنات النعيم ثلة من الأولين ١٣ " ١يعني من الصحابة والتابعين وأتباعهم فإنهم الأولون من هذه الأمة وقليل من الآخرين أي : آخرى هذه الأمة يعني بعد الألف وهم أرباب كمالات النبوة فإنهم كثيرون في الصدر الأول، قال : المجدد للألف الثاني رضي الله عنه الصحابة كلهم كانوا من أرباب كمالات النبوة وأكثر التابعين وبعض من أتباع التابعين، وقيل : بعد الألف من الهجرة قلت : فعلى هذا قوله تعالى :﴿ من المهاجرين والأنصار ﴾ بيان للسابقين الأولين وليست كلمة من للتبغيض " والذين اتبعوهم بإحسان " يشتمل السابقين الآخرين وأصحاب اليمين الذين هم " ثلة من الأولين١٣ " من الصدر الأول ومن بعدهم وثلة من الآخرين إلى ما بعد الألف إلى يوم القيامة، وقال عطاء الذين اتبعوهم بإحسان هم الذين يذكرون الصحابة بالترحم والدعاء، قال : أبو صخر حميد بن زياد أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة محسنهم وسيئهم فقلت له : من أين تقول هذا ؟قال : اقرأه قوله تعالى :﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ﴾ إلى أن قال : رضي الله عنهم ورضوا عنه }قال :" والذين اتبعوهم بإحسان " شرط في التابعين شريطة وهو أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة، قال : أبو صخر : فكأني لم أقرأ هذه الآية قط وما عرفت تفسيرها حتى قرأها علي محمد بن كعب قلت : وأولى بالاحتجاج على كون جميع الصحابة في الجنة قوله تعالى ﴿ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ﴾٢فإنه صريح في أن جميع الصحابة أولهم وآخرهم وعدهم الله تعالى الحسنى يعني الجنة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " ٣متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تمس النار مسلما رآني أو رأى من رآني " ٤رواه الترمذي عن جابر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة " رواه الترمذي من حديث بريدة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم " رواه رزين من حديث عمر بن الخطاب " رضي الله عنهم " بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم " ورضوا عنه " ربا وعن الإسلام دينا ومحمد رسولا ونبيا بما ألقى الله حبه في قلوبهم وبما نالوا من نعيم الدنيوية والدينية﴿ واعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾قرأ ابن كثير من تحتها كما هو في سائر المواضع وكذلك في مصاحف أهل مكة والباقون بحذف من﴿ خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ﴾
١ سورة الواقعة، الآية: ١٠-١٣.
٢ سورة الحديد، الآية١٠..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذا خليلا "(٣٦٧٣)، وأخرجه مسلم في كتاب: المناقب، باب: ما جاء في فضل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه (٤٠٢١)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: ما جاء في فضل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه(٣٨٦٧)..
﴿ وممن حولهم من الأعراب منافقون ﴾وهم من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار، أخرجه ابن المنذر عن عكرمة كان منازلهم حول المدينة وكون بعضهم منافقين كما يدل عليه من التبعيضية لا ينافي ما مر من الأحاديث في مناقب غفار وأسلم وأشجع وغيرهما﴿ ومن أهل المدينة ﴾يعني من الأوس والخزرج عطف على ممن حولكم وقوله تعالى ﴿ مردوا على النفاق ﴾صفة للمنافقين فصل بينها وبينه بالمعطوف على الخبر أو كلام مبتدأ بيان لتمرنهم في النفاق، وجاز أن يكون الظرف خبر المحذوف وجملة مردوا صفة لمبتدأ محذوف تقديره ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق أي : مرنوا وثبتوا عليه يقال تمرد فلان على ربه أي : عتى ومرد على معصية أي : مرن وثبت عليها واعتادها ومنه المريد والمارد، قال : ابن إسحاق : أي لجوا فيه وأبوا غيره وقال ابن زيد : أقاموا عليه ولم يتوبوا، في القاموس مرد كنصر وكرم مرودا ومرادا فهو مريد ومارد ومتمرد قدم وعتا أو هو يبلغ الغاية التي يخرج إليها من جملة ما عليها ذلك الصنف ومرد على الشيء مرن واستمر، وقال بعض أهل اللغة : المارد المتعري من الخيرات ومردوا على النفاق يعني تعروا عن الخير وهم على النفاق﴿ لا تعلمهم ﴾منافقا يعني لا تعرفهم يا محمد بصفة النفاق مع كمال فطنتك وصدق فراستك فهو تقرير لمهارتهم وتوقيهم في تحامي مواقع التهم إلى حد خفي عليك ﴿ نحن نعلمهم ﴾نطلع على سرائرهم أن قدروا أن لبسوا عليك فلا يقدرون أن يلبسوا علينا﴿ سنعذبهم مرتين ﴾قال : الكلبي والسدي قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة، فقال : أخرج يا فلان فإنك منافق أخرج يا فلان فإنك منافق أخرج ناسا من المسجد وفضحهم فهذا هو العذاب الأول والثاني عذاب القبر، وقال مجاهد الأول القتل والسبي والثاني عذاب القبر وعنه رواية أخرى عذبوا بالجوع مرتين، وقال قتادة الدبيلة في الدنيا وعذاب القبر، وقال ابن زيد الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدنيا والأخرى عذاب القبر، وعن ابن عباس الأولى إقامة الحدود عليهم والأخرى عذاب القبر وقال ابن إسحاق هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه من غير رغبة فيه ثم عذاب القبر، وقيل : أحدهما ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم والأخرى عذاب القبر، وقيل : الأولى إحراق مسجدهم مسجد الضرار والأخرى إحراقهم بنار جهنم يعني في القبر، قلت : ومخلص الأقوال إنهم يعذبون مرتين مرة في الدنيا بأي نوع من الأنواع المذكورة ومرة في القبور﴿ ثم يردون إلى عذاب عظيم ﴾أي : عذاب جهنم يخلدون فيه
﴿ وآخرون ﴾ معطوف على قوله منافقون أو على محذوف موصوف مردوا يعني ممن حولكم من الأعراب قوم آخرون أو من أهل المدينة قوم آخرون ليسوا بمنافقين بل صفتهم أنه، ﴿ اعترفوا ﴾اقروا﴿ بذنوبهم ﴾يعني : بتخلفهم من عزوة تبوك بلا عذر وجاز أن يكون آخرون مبتدأ خبره ﴿ خلطوا ﴾يعني وقوم آخرون غير منافقين خلصوا﴿ عملا صالحا ﴾من الإيمان والصلاة والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة وإظهار الندم والاعتراف بالذنب بعد اقترافهم إياه﴿ وأخر سيئا ﴾وهو التخلف عن الغزو وموافقة أهل النفاق والواو بمعنى الباء كما يقال بعت الشاة شاة ودرهما أو التقدير خلطوا عملا صالحا بالسيء حيث خلطوا الإيمان بترك امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في النفر إلى الجهاد وآخر سيئا بالصالح حيث خلطوا التخلف عن الجهاد بالندم والتوبة ﴿ عسى الله أن يتوب عليهم ﴾أي : يقبل توبتهم المدلول عليها بقوله اعترفوا بذنوبهم ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾يتجاوز عن التائب وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس والبيهقي عن سعيد بن المسيب في هذه الآية قال : ابن عباس كانوا عشرة تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك منهم أبو لبابة فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد وكان ممر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من المسجد عليهم فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : من هؤلاء الموثوقون أنفسهم ؟قالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله فعاهدوا الله لا يطلقون أنفسهم حتى تكون أنت تطلقهم وترضى عنهم وقد اعترفوا بذنوبهم، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين فلما بلغهم ذلك قالوا : ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقنا فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعسى من الله تعالى وأوجب فلما نزلت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فأطلقهم وعذرهم، وقال ابن المسيب فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي لبابة ليطلقه فأبى أن يطلقه أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقه بيده فجاؤوا بأموالهم فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما أمرت أن آخذ من أموالكم " فأنزل الله عز وجل ﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ﴾
﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾يعني كفارة لذنوبهم، وقيل : هو الزكاة ﴿ تطهرهم ﴾عن الذنوب التاء للخطاب أو لغيبة المؤنث فإنه صفة لصدقة والتاء في﴿ وتزكيهم بها ﴾للخطاب البتة أي : تنمي حسناتهم وترفعهم إلى منازل المخلصين، وكذا أخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه، وأخرج هذا القدر عن سعيد بن جبير والضحاك وزيد بن أسلم وغيرهم، قال : البغوي وروى عطية عن ابن عباس كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم كانوا ثمانية وقال قتادة والضحاك كانوا سبعة وأخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلف أبو لبابة وخمسة معه ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا وأيقنوا بالهلكة وقالوا : نحن في الظلال والطمأنينة مع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في الجهاد والله لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يطلقها ففعلوا وبقي ثلاثة نفر يوثقوا الحديث، وأخرج عبد عن قتادة أنها نزلت في سبعة أربعة منهم ربطوا أنفسهم بالسواري وهم أبو لبابة ومرداس وأوس وجذام، وأخرج أبو الشيخ وابن مندة في الصحابة من طريق الثوري عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : كان ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو لبابة وأوس بن جذام وثعلبة بن وديعة وكعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية فجاء أبو لبابة وثعلبة فربطوا أنفسهم بالسواري وجاؤوا بأموالهم فقالوا يا رسول الله خذها هذا الذي حبسنا عنك فقال : لا أحلهم حتى يكون الله تعالى يحلهم فنزل﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم ﴾الآية اسناده قوي، قال : البغوي : فاتفقت الروايات أن أحدهم أبو لبابة وقال قوم نزلت في أبي لبابة خاصة، قال : البغوي : واختلفوا في ذنبه ؟قال : مجاهد نزلت حين قال : لقريظة : إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى حلقه وقد ذكرنا القصة في سورة الأنفال في تفسيره قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله " ١الآية وكذا زعم ابن إسحاق أن ارتباطه كان في وقعة بني قريضة قاله البيهقي، وقال الزهري نزلت في تخلفه عن عزوة تبوك قلت : لعله ربط نفسه في الوقعتين جميعا ويدل عليه ما ذكر عن ابن عباس وسعيد بن المسيب، وأخرج ابن مردويه بسند فيه الواقدي عن أم سلمة أن توبة أبي لبابة نزلت في بيتي فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك في السحر فقلت : ما يضحكك يا رسول الله ؟قال : تيب على أبي لبابة فقلت : أؤذنه قال : ما شئت فقمت على باب الحجرة وذلك قبل أن يضرب الحجاب فقلت : يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك فثار الناس ليطلقوه فقال : حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون هو الذي يطلقني فلما خرج إلى الصبح أطلقه فنزلت " وآخرون اعترفوا " الآية وهذا الحديث يدل على أن ذنبه ما مر في قصة قريظة لأن غزوة تبوك كان بعد نزول الحجاب بخلاف وقعة قريظة فالأولى أن يقال بتعدد الارتباط في القصتين جميعا لصحة الروايتين جميعا، ﴿ وصل عليهم ﴾ أي : ادع لهم واستغفر.
قال البغوي : واختلفوا في وجوب الدعاء على الإمام عند أخذ الصدقة فقال : بعضهم يجب، وقال بعضهم يستحب وقال بعضهم : يجب في الصدقة المفروضة ويستحب في التطوع وقيل : يجب على الإمام ويستحب للفقير أن يدعوا للمعطي، روى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى وكان من أصحاب الشجرة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال :" اللهم صل عليهم " فأتاه أبي صدقة فقال :" اللهم صل على آل أبي أوفى :٢ واعلم أن الصلاة في اللغة الدعاء والرحمة والاستغفار، وهو المراد بهذه الآية وبما قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا دعا أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصل " ٣رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة أي : ليدعوا، وفي حديث جابر قالت امرأة : يا رسول الله صل على زوجي ففعل أخرجه أحمد وصححه ابن حبان، وإذا أسند إلى الله تعالى يراد به الرحمة والثناء الحسن وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم :" اللهم صلي على آل أبي أوفى " وقوله صلى الله عليه وسلم :" اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة " ٤رواه أبو داود والنسائي عن قيس بن سعد وسنده جيد، وفي حديث أبي هريرة مرفوعا :" إن الملائكة يقول لروح المؤمن صلى الله عليك وعلى جسدك " باعتبار المعنى اللغوي ونظرا إلى ما ذكرنا من الأحاديث قال : يحيى بن يحيى لا بأس بالصلاة على غير الأنبياء يعني الدعاء بهذا اللفظ المخصوص لمن أهل الشرع من المحدثين والفقهاء اصطلحوا على اختصاص لفظ الصلاة بالأنبياء أو بنبينا صلى الله عليه وسلم إلا تبعا وبناء على هذا لاصطلاح قال مالك : أكره الصلاة على غير الأنبياء، قال : عياض : هذا قول مالك وسفيان وهو قول المتكلمين والفقهاء قالوا : يذكر غير الأنبياء بالرضى والغفران والرحمة وأما الصلاة على غير الأنبياء فلم يكن من المعروف وإنما أحدثت في دولة بني هاشم يعني الخلفاء العباسية وقال أبو حنيفة يجوز على غير الأنبياء تبعا ولا يجوز استقلالا وبه قال : جماعة. وجه هذا القول أن الصلاة لما وضعت في اصطلاح أهل الشرع لتعظيم الأنبياء خصوصا لتعظيم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا يجوز إطلاقها لغير الأنبياء لقوله تعالى " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا " ٥ومن ههنا قال : ابن عباس : ما أعلم الصلاة ينبغي من أحد على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم " رواه ابن أبي شيبة من طريق عثمان بن حكيم عن عكرمة عنه وهذا سند صحيح، قال : البيهقي يحمل قول ابن عباس بالمنع على ما إذا كان على وجه التعظيم وأما إذا كان على وجه الدعاء فلا بأس به، وقال ابن القيم : المختار أن يصلي على الأنبياء والملائكة وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذريته وأهل الطاعة على سبيل الإجمال ويكره في غير الأنبياء لشخص معروف بحيث يصير شعار ولا سيما إذا ترك في حق مثله أو أفضل منه كما يفعله الرافضة كذا قال : الحافظ ابن حجر قال : الله تعالى :﴿ إن صلواتك ﴾قرأ حفص وحمزة والكسائي " أصلواتك تأمرك " ٦وكذا قرأ حمزة والكسائي في المؤمنين بالتوحيد ونصب التاء هنا والباقون فيهن بالجمع وكسر التاء هنا ولا خلاف في رفع التاء في هود﴿ سكن لهم ﴾قال : ابن عباس رحمة لهم وقال أبو عبيدة تثبيت لقلوبهم وطمأنينة لهم بأن الله قد قبل توبتهم، قلت : أرباب القلوب الصافية إذا صدر من أحدهم مصيبة تغشي ظلماتها قلبه فيحصل له حالة كما يحصل الخفقان بصعود إلا تجرة من المعدة إلى القلب فإذا استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وغفر الله له زال تلك الظلمات وحصلت له طمأنينة وسكون ومن ههنا قال : الله تعالى " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " ٧ ﴿ والله سميع ﴾باعترافهم بذنوبهم وبدعاء الرسول الله صلى الله عليه وسلم﴿ عليم ﴾ بندامتهم على ما صدر منهم.
١ سورة الأنفال، الآية: ٢٧..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: صلاة الإمام ودعاؤه لصاحب الصدقة (١٤٩٧)، وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة باب: الدعاء لمن أتى بصدقته(١٠٧٨).
٣ أخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة (١٤٣١)، وأخرجه أبو داود في كتاب: الصيام، باب: في الصائم يدعى إلى وليمة (٢٤٥٨)، وأخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في إجابة الصائم الدعوة(٧٧٤)..
٤ أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان(٥١٧٦)..
٥ سورة النور، الآية: ٦٣.
٦ سورة هود، الآية: ٨٧.
٧ سورة الرعد، الآية: ٢٨..
قال البغوي : لما نزلت توبة لهؤلاء قال : الذين لم يتوبوا من المتخلفين هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فقال : الله تعالى :﴿ الم تعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ﴾تعدية بعن لتضمنه معنى التجاور ﴿ ويأخذ الصدقات ﴾يقبلها قبول من يأخذ شيئا ليؤدي بدله عن أبي هريرة قال : سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول :" والذي نفسي بيده ما عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب- ولا يقبل الله طيبا ولا يصعد إلى السماء إلا الطيب- إلا كأنما يضعها في يد الرحمان فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه حتى أن اللقمة ليأتي يوم القيامة وأنها كمثل الجبل العظيم ثم قرأ " أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " ١رواه الشافعي وفي الصحيحين بلفظ " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل " ﴿ وان الله هو التواب الرحيم ﴾فإن من شأنه قبول توبة التائبين والتفضل عليهم
١ أخرجه الشافعي في الجزء الأول/الباب الأول: في الأمر بها والتهديد على تركها وعلى من تجب وفيم تجب(٦٠٦)، وأخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: الصدقة من كسب طيب(١٤١٠)، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها(١٠١٤)..
﴿ وقل ﴾يا محمد لهم أو لجميع الناس، ﴿ اعملوا ﴾ما شئتم﴿ فسيرى الله عملكم ﴾فإنه لا يخفى عليه شيء من الخير والشر﴿ ورسوله والمؤمنون ﴾فإنه تعالى يظهر ما أخفيتم على رسوله فيطلع هو عليه والمؤمنين، قال : مجاهد : هذا وعيد لهم قبل رؤيته النبي صلى الله عليه وسلم بإعلام الله تعالى إياه ورؤية المؤمنين بإيقاع المحبة في قلوبهم لأهل الصلاح والبغض لأهل الفساد﴿ وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾
﴿ وآخرون ﴾من أهل المدينة من المتخلفين﴿ مرجون ﴾قرأ أهل المدينة والكوفة غير أبي بكر بغير همز والباقون مرجؤون بالهمز وهما لغتان من أرجاءه إذا أخرته﴿ لأمر الله ﴾يعني مؤخرون لأمر الله في شأنهم﴿ إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ﴾فإن الله تعالى يعذب على الصغيرة إن شاء ويغفر الكبائر توبة إن شاء لا يجب عليه شيء فلا بد للعباد من الخوف والرجاء فأما التي هي للشك راجعة إلى العباد﴿ والله عليم ﴾بأحوالهم﴿ حكيم ﴾فيما يفعل بهم والمراد بهؤلاء كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع الذين لم يوثقوا أنفسهم بالسواري من العشرة المتخلفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموا هم فيما رأوا ذلك أخلصوا بنيانهم وفوضوا أمرهم إلى الله فرحمهم الله أخرجه الشيخان من حديث كعب بن مالك مطولا وسنذكر قصتهم والله أعلم.
روى ابن إسحاق عن أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري وكان ممن بايع تحت الشجرة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق آخر عن ابن عباس وابن المنذر عن سعيد بن جبير ومحمد بن عمر عن يزيد بن رومان أن بني عمرو بن عوف بنوا مسجدا فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فيصلي فيه فلما رأى ذلك ناس من بني غنم بن عوف حسدوهم فقالوا نبني نحن أيضا مسجدا كما بنوا مسجدا، فقال : لهم أبو عامر : الفاسق قبل خروجه إلى الشام ابنوا مسجدكم واشهدوا فيه بما استطعتم من قوة وسلاح فآتي ذاهب قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه فكانوا يرصدون قدوم أبي عامر الفاسق، وكان قد خرج من المدينة محار بالله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فلما فرغوا من مسجدهم أرادوا أن يصلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليروح لهم فلما أرادوا من الفساد والكفر والعناد، فعصم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فأتى جماعة منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا بنينا مسجدا الذي العلة والحاجة والليلة الشاتية والليلة المطيرة وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، قال : إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا لكم فيه فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عزوة تبوك ونزل بذي أوان مكان بينه وبين المدينة ساعة أنزل الله تعالى :
﴿ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ( ١٠٧ ) لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ( ١٠٨ ) أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ( ١٠٩ ) لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ( ١١٠ ) ﴾.
﴿ والذين اتخذوا مسجدا ﴾قرأ أهل المدينة والشام بلا واو وكذلك في مصاحفهم والباقون بالواو عطفا على وآخرون مرجون، أو مبتدأ خبره محذوف أي : ممن وضعنا الذين اتخذوا مسجدا أو منصوب على الاختصاص﴿ ضرارا ﴾أي : مضارة للمؤمنين، قال : ابن إسحاق وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا حذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره خرج مسجد الشقاق، وثعلبة بن حاطب من بني أمية بن زيد ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف، وحارثة بن عامر وابناه مجمع بن حارثة وزيد بن حارثة ونبتل بن الحارث من بني ضبيعة ونجاد بن عثمان من بني ضبيعة ووديعة بن ثابت ورجل يقال بخرج بنوا هذا المسجد يضارون به مسجد قباء ﴿ وكفرا ﴾بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ﴿ وتفريقا بين المؤمنين ﴾لأنهم كانوا يصلون في مسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة وكان يصلي بهم مجمع بن حارثة ﴿ وار صادا ﴾أي : انتظار وإعداد ﴿ لمن حارب الله ورسوله ﴾، قال : البغوي : وهو أبو عامر الراهب، وكان بني عمرو بن عوف وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان قد ترهب في الجاهلية وتنصر ولبس المسوح فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال : له أبو عامر : ما هذا الذي جئت به قال :" جئت بالحنيفة دين إبراهيم " قال : أبو عامر : فأنا عليها فقال : النبي صلى الله عليه وسلم :" إنك لست عليها "، قال : بلى ولكنك أدخلت في الحنيفة ما ليس منها فقال : النبي صلى الله عليه وسلم :" ما فعلت ولكن جئت بيضاء نقية " فقال : أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" آمين " وسماه أبا عامر الفاسق، فلما كان يوم أحد قال : أبو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أجد قوما يقاتلونا إلا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فات بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء﴿ من قبل ﴾بناءه متعلق بحارب أو ما تخذوا أي : اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف لأن بنائهم كان قبل غزوة تبوك الأول أظهر﴿ وليحلفن ﴾هؤلاء المنافقون الذين بنوا مسجدا الضرار﴿ إن أردنا ﴾أي : ما أردنا ببناءه إلا الخصلة ﴿ إلا الحسنى ﴾وهي المرفق بالمسلمين في المطر والحر والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن المصير إلى مسجد الرسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء خرج رجال من الأنصار منهم بخرج فبنوا مسجد النفاق فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج ويلك ما أردت إلى ما أرى، قال : يا رسول الله : والله ما أردت إلا الحسنى فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ والله يشهد إنهم لكاذبون ﴾في قولهم وحلفهم
﴿ لا تقم فيه أبدا ﴾للصلاة كذا قال : ابن عباس، قال : ابن النجار : هذا المسجد بناه المنافقون مضاهاة لمسجد قباء وكانوا يجتمعون فيه ويعيؤون النبي صلى الله عليه وسلم ويستهزؤن به فلما نزلت هذه الآية وهو صلى الله عليه وسلم بذي أوان، قال : ابن إسحاق فيما روى عن الزهري عن أبي رهم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أخا عاصم بن عدي، وزاد البغوي : وعامر بن السكن ووحشي قاتل حمزة ولم يذكر عاصما، وزاد الذهبي في التجريد سويد بن عباس الأنصاري فقال : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فهدموه وحرقوه فخرجوا مسرعين حتى أتوا سالم بن عوف فقال : مالك لرفيقه انتظروني حتى أخرج إليكما فدخل على أهله وأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجوا يشتدون حتى أتوا المسجد بين المغرب والعشاء وفيه أهله فحرقوه وهدموه حتى وضعوه بالأرض وتفرق عنه أصحابه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة يلقى فيه الجيف والنتن والقمامة، ومات أبو عامر الفاسق بالشام طريدا وحيدا غريبا.
وذكر محمد بن يوسف الصالحي أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عرض على عاصم بن عدي المسجد ليتخذ دارا فقال : يا رسول الله ما كنت لأتخذ مسجدا قد أنزل فيه أنزل دارا ولكن أعطه ثابت بن أقرم فإنه لا منزل له فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن أقرع فلم يولد له في ذلك البيت مولود قط ولم ينفق فيه حمام قط ولم تحضن فيه دجاجة قط، قال : البغوي : روى أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة قيامهم في مسجدهم فقال ولا نعمت عين أليس بإمام مسجد الضرار، فقال : له مجمع يا أمير المؤمنين لا تعجل علي فوالله لقد صليت فيه وإني لا أعلم ما أضمروا عليه ولو علمت ما صليت معهم فيه كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرؤون فصليت ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله ولا أعلم ما في أنفسهم، فعذره عمر وصدقة وأمره بالصلاة في مسجد قباء ﴿ لمسجد ﴾اللام لام الابتداء وقيل : لام القسم﴿ أسس ﴾أي بني أصله﴿ على التقوى من أول يوم ﴾من أيام بنائه ووضع أساسه أو من أول يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة كذا قال : السهيلي﴿ أحق أن تقوم فيه ﴾قال : ابن عمر وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري هو مسجد المدينة لما روى مسلم وأحمد وابن أبي شيبة والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي سعيد الخدري قال : إني دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نساءه يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي المسجد الذي أسس على التقوى ؟فأخذ كفا من حصباء فضرب الأرض، ثم قال :" هو مسجدكم هذا لمسجد المدينة " ١وأخرج الطبراني والضياء المقدسي في المختارة عن زيد بن ثابت. أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى قال :" هو مسجدي هذا " وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عمر قال : المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في فضل هذا المسجد ما رواه الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي " ٢رواه البغوي بلفظ " ما بين قبري ومنبري " وروى الشيخان وأحمد والنسائي عن عبد الله بن زيد المازني " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " وكذا روى الترمذي عن علي وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " ٣رواه. وذهب قوم إلى أنه مسجد قباء وهو رواية عطية عن ابن عباس وهو قول عروة ابن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه حين قدم المدينة مهاجرا من الاثنين إلى الجمعة، أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس وأبو الشيخ عن الضحاك، وروى البخاري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا وكان عبد الله يفعله، وزاد نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه ركعتين " ٤قال الداروردي وغيره وليس هذا اختلافا لأن كلا منهما أسس على التقوى كذا قال : السهيلي والحافظ بن حجر، قلت : يعني مورد نزول الآية وإن كان خاصا فالعبرة لعموم اللفظ فإن النكرة الموصوفة بصفة عامة من ألفاظ العموم يعني كل مسجد أسس على التقوى أحق أن تقوم فيه من غيره لكن الظاهر من سياق الآية أن مورد الآية هو مسجد قباء فإن مسجد الضرار كان للمضاراة مسجد قباء وبدليل قوله تعالى ﴿ رجال يحبون أن يتطهرو ﴾ من الأحداث والجنايات والنجاسات أو من المعاصي ورذائل الأخلاق﴿ والله يحب المطهرين ﴾ أصله للمتطهرين أدغم التاء في الطاء، روى البغوي بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا قال : قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية " ٥وكذا روى الترمذي عنه، وروى ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم معه المهاجرون حتى وقف على مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أمؤمنون أنتم " ؟ فسكتوا فأعادها فقال : عمر أنهم مؤمنون وأنا معهم فقال صلى الله عليه وسلم :" أترضون بالقضاء " ؟قالوا : نعم، قال :" أتصبرون على البلاء " ؟قالوا : نعم، قال :" أتشكرون على الرخاء " ؟قالوا : قالوا نعم، قال : عليه السلام :" مؤمنون ورب الكعبة " فجلس ثم قال :" يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط " فقالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا﴿ فيه رجال يحبون أن يتطهروا ﴾وأخرج الطبراني في " الأوسط " صدر الحديث إلى قوله ورب الكعبة، وأخرج عمر بن شيبة في أخبار المدينة من طريق الوليد بن أبي سندر الأسلمي عن يحيى بن سهل الأنصاري عن أبيه أن هذه الآية نزلت في أهل قباء كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، وأخرج ابن جرير عن عطاء قال : أحدث قوم الوضوء بالماء من أهل قباء فنزلت فيهم ﴿ فيه رجال يحبون أن يتطهروا ﴾، وروى ابن خزيمة في " صحيحه : عن عويمر بن ساعدة أنه صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال :" إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم هذا فما الطهور الذي تطهرون به ؟قالوا : والله يا رسول الله لا نعلم شيئا إنه كان لنا جيران من اليهود وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا، وفي حديث فقالوا : نتبع الحجارة المار فقال : هو ذاك فعليكموه
١ أخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم (١٣٩٨)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: التهجد، باب: فضل ما بين القبر والمنبر (١١٣٧)، وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة (١٣٩٠)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في أي المساجد أفضل (٣٢٢)..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (١١٩٣)..
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة التوبة(٣١٠٠)..
﴿ أفمن أسس ﴾سؤال تقرير وجوابه مسكوت عنه لوضوحه﴿ بنيانه ﴾يعني بنيان دينه أو بنيان ما بناه﴿ على تقوى من الله ورضوان ﴾على قاعدة محكمة هي التقوى من الله وطلب مرضاته بالطاعة ﴿ خير أم من أسس بنيانه ﴾قرأ نافع وابن عامر أسس في المؤمنين بضم الهمز وكسر السين على البناء للمفعول وبنيانه بالرفع، والباقون بفتح الهمز والسين على البناء للفاعل والنصب﴿ على شفا ﴾قرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر بسكون الراء والباقون بضم الراء وهما لغتان﴿ هار ﴾قرأ ابن كثير وحمزة وحفص وهشام والنقاش عن الأخفش بالفتح وورش بين اللفظين والباقون بالإمالة، يعني على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها والشفا الجرف والشفير وجرف الوادي جانبه الذي ينحفر بالماء وتجرفه السيول وتذهب به، والهار والهائر وهو المنصدع الذي أشفى على الهدم والسقوط وأصل هار هور فعل قصر عن فاعل كخلف من خالف نقلب الواو الفاء لتحريكها وانفتاح ما قبلها، وقال البغوي : أصله هائر فقيل : هار مثل شاك وعاق وعائق وقيل : هو من هار يهار إذا انهدم ومعناه الساقط الذي يتدامى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرمل والشيء الرخو﴿ فانهار به ﴾ أي : سقط بالباقي﴿ في نار جهنم ﴾والمعنى أفمن أسس بنيانه على قاعدة محكمة وهو تقوى الله ورضوانه خيرا من أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وهو الباطل والنفاق الذي مثله شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك، شفا جرف مجازا عن الشرك والنفاق الذي هو ضد التقوى على سبيل الاستعارة ثم أثبته الانهيار الذي هو لازم للجرف على سبيل الترشيح ليصور أن المبطل كأنه أسس بنيانا على شفا جرف من أودية جهنم فإنها ربه ذلك الجرف فهوى في قعرها، قال : ابن عباس يريد صيرهم نفاقهم إلى النار، قال البغوي : يريد الله تعالى أن بناء هذا المسجد للضرار كالبناء على شفير جهنم بنهور بأهلها فيها، قال، محمد بن يوسف الصالحي : قال ابن عطية : روى عن ابن عمر أنه قال : المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بقوله " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير " هو مسجد قباء وأما البنيان الذي أسس على شفا جرف هار فهو مسجد الضرار بالإجماع﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾إلى ما فيه صلاح ونجاة، روى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة وابن المنذر عن جريح رحمهم الله أنه ذكر لنا أنه حضر في مسجد الضرار بقعة فأبصروا الدخان يخرج منها، وقال البغوي : قال : جابر بن عبد الله رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار
﴿ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ﴾أي : بناءهم الذي بنوه، مصدر أريد به المفعول وليس يجمع ولذلك قد يدخله التاء ووصف بالمفرد وأخبر عنه بقوله :﴿ ريبة ﴾أي : شكا ونفاقا ﴿ في قلوبهم ﴾يعني أن بنيانهم هذا لا يزال سببا لشكهم وتزايد نفاقهم فإنه حملهم على ذلك وهم لا يزالون يحسبون أنهم كانوا في بنيانه محسنين كما حبب العجل إلى قوم موسى كذا قال : ابن عباس.
وقال الكلبي : حسرة وندامة لأنهم ندموا على بناءه، وقال السدي : لا يزال هدم بنيانهم ريبة أي : غيظا في قلوبهم ﴿ إلا أن تقطع ﴾قرأ ابن عامر وأبو جعفر وحفص وحمزة بفتح التاء والباقون بضمها والاستثناء مفرغ من أعم الأزمنة وقرأ يعقوب إلى أن على الغاية وتقطع بضم التاء والتخفيف المجرد يعني في كل زمان الأزمان تقطع﴿ قلوبهم ﴾أو لا يزال إلى زمان قطعها يعني إلى وقت لا يبقى لقلوبهم قابلية الإدراك والإضمار وهو في غاية المبالغة، وقيل : المراد بالتقطع ما هو كائن بالقتل أو في القبر أو في النار قال : الضحاك وقتادة لا يزالون في شك منه إلى أن يموتون فيستيقظوا﴿ والله عليم ﴾بنياتهم﴿ حكيم ﴾فيما أمر بهدم بنائهم والله أعلم.
قال أهل السير : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني من مكة في موسم الحج في السنة الحادية عشر من البعثة فعرض نفسه على قبائل العرب فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج فقال : لهم : من أنتم ؟ قالوا : نفر من الخزرج، قال : أفلا تجلسون أكلمكم ؟قالوا : بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا القرآن، ومن صنع الله أن اليهود كانوا معهم في بلادهم وكانوا أهل كتاب والأوس والخزرج أكثر منهم وكانوا أهل أوثان فكانوا إذا كان بينهم شيء، قالوا : إن نبيا سيبعث الآن قد أظل زمانه فيتبعه فنقتلكم معه، فلما كلمهم النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا النعت فقال : بعضهم لبعض أنه نبي لا يسبقنا اليهود إليه فأجابوه وأسلم منهم ستة نفر كلهم من الخزرج وهم أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث أمه عفراء ورافع بن مالك وقطبة بن عامر بن جديدة وعقبة بن عامر بن نابي وجابر بن عبد الله بن رباب وقيل : عبادة بن الصامت مكان جابر رضي الله عنهم ومن قال : أسلم سبعة نفر فلعله عدهما جميعا فقال : لهم النبي صلى الله عليه وسلم :" تمنعون ظهري حتى أبلغ رسالة ربي " فقالوا : يارسول الله إنما كان يوم بعاث عام الأول يوم من أيامنا أقتتلنا به فإن تقدم ونحن كذا لا يكون لنا عليك اجتماع فدعنا نرجع إلى عشائر لعل الله يصلح ذات بيننا وندعوهم إلى ما دعوتنا فعسى الله أن يجمعهم عليك فإن اتبعوك فلا أحد أعز منك وموعدك الموسم من العام القابل وانصرفوا إلى المدينة ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان العام القابل وهي الثانية عشر من البعثة لقيه اثنا عشر رجلا وقيل : أحد عشر رجلا وهي العقبة الثانية فيهم خمسة من المذكورين غير جابر والسبعة معاذ بن الحارث أخو عوف المذكور وذكوان وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة والعباس بن عبادة بن نضلة رضي الله عنهم وهم من الخزرج ومن الأوس رجلان أبو الهيثم بن التيهان من بني عبد الأشهل و عويمر بن ساعدة فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق الخ ورجعوا إلى المدينة، وكان أسعد بن زرارة رضي الله عنه يجمع بالمدينة من أسلم وكتبت الأوس والخزرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم ابعث إلينا من يقرأنا القرآن فبعث إليهم مصعب بن عمير وكانوا أربعين رجلا فأسلم على يدي مصعب خلق كثير وأسلم سعد بن معاذ وأسيد بن خضير وأسلم بإسلامهما جميع بني عبد الأشهل في يوم واحد الرجال والنساء ثم قدم في العقبة الثالثة سنة الثالثة عشر من البعثة فبايع النبي صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق منهم سبعون رجلا وامرأتان وقيل : ثلاث وسبعون وامرأتان، وقال الحاكم خمسة وسبعون نفسا أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي، وكذا ذكر البغوي أنه قال : عبد الله بن رواحة يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال : اشترط لربي أن تعبدوه فلا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون أنفسكم وأموالكم " قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال :" الجنة " قالوا : ربح البيع لا نقبل ولا نستقيل فنزلت :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقران ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ( ١١١ ) ﴾
﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة ﴾قرأ الأعمش بالجنة مثل الله تعالى إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم بالشراء قال : أهل السير : فأول من ضرب يده على يده صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور وأبو الهيثم أو أسعد على أنهم يمنعونه مما يمنعون منه نسائهم وأبنائهم وعلى حرب الأحمر والأسود، فهذه أول آية في القتال ونزلت﴿ أذن للذين يقاتلون ﴾١الآية، ولما تمت بيعة هؤلاء ليلة العقبة وكانت سرا عن كفار قريش مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه بالهجرة إلى المدينة وأقام بمكة ينتظر الأذن فأول من هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد قبل بيعة العقبة الثالثة بسنة قدم من الحبشة إلى مكة فأذاه أهلها، وبلغه إسلام الأنصار فخرج إليهم ثم عامر بن ربيعة وامرأته ليلى ثم عبد الله بن جحش ثم المسلمون أرسالا ثم عمر بن الخطاب وأخوه زيد وعباس بن ربيعة في عشرين راكبا فنزلوا في العوالي، ثم خرج عثمان بن عفان وكان الصديق رضي الله عنه كثيرا ما يستأذن في الهجرة فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا فيطمع أن يكون هو ثم اجتمع قريش في دار الندوة، وقد مر قصة مكرهم في سورة الأنفال وقصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا فيها وفي هذه السورة فهذه الآية مكية قال : الله تعالى :﴿ يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ﴾قرأ حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول على المبني للفاعل والواو لا يوجب الترتيب وفعل البعض يسنده إلى الكل، الباقون بتقديم المبني للمفعول والكلام استئناف بيان ما لأجله الشراء وقيل : يقاتلون بمعنى الأمر﴿ وعدا عليه ﴾أي : على الشراء مصدر مؤكد لفعل محذوف أي : وعد الله لهم وعدا أو مصدر لقوله اشترى من غير لفظه فإنه في معنى الوعد﴿ حقا ﴾صفة لوعدا ومصدر لفعل محذوف أي حق حقا﴿ في التوراة والإنجيل والقران ﴾متعلق بفعل عامل في وعدا وفيه دليل على أن أهل الملل كلهم أمروا بالجهاد ووعدوا عليه بالجنة﴿ ومن ﴾أي : لا أحد﴿ أوفى بعهده من الله ﴾فإن خلف الوعد قبيح يستحيل على الله تعالى ووفاه كرم ولأحدا أكرم منه مبالغة في الإنجاز وتقرير لكونه حقا﴿ فاستبشروا ﴾أي : فافرحوا غاية الفرح أيها المؤمنون المجاهدون فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب﴿ ببيعكم الذي بايعتم به ﴾فإنه لا صفقة رابحة حيث استبدلتم الحقير الفاني بالشريف الباقي، قال : عمر رضي الله عنه : إن الله بايعك وجعل الصفقتين لك، وقال قتادة : ثامنهم فأغلاهم، وقال الحسن اسمعوا إلى بيعة رابحة بايع الله بها كل مؤمن، وعنه قال : إن الله أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها ﴿ وذلك ﴾البيع﴿ هو الفوز العظيم ﴾النيل غاية المطلوب
١ سورة الحج، الآية: ٣٩..
﴿ التائبون ﴾يعني الذين تابوا من الشرك وبروا من النفاق مرفوع على المدح خبر مبتدأ محذوف أي : هم التائبون والمراد بهم المؤمنون المذكورون فإنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على امتثال ما يأمرهم حيث قال الله تعالى في بيعة النساء :﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾١فهم الجامعون لهذه الخصال الحميدة، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره التائبون من أهل الجنة وإن لم يجاهدوا غير معاندين ولا قاصدين ترك الجهاد عند القدرة ولا فتراض كذا قال : الزجاج كأنه وعد بالجنة لجميع المؤمنين كما قال : الله تعالى﴿ وكلا وعد الله الحسنى ﴾٢.
وجاز أن يكون خبره ما بعده يعني التائبون عن الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال، ﴿ العابدون ﴾لله وحده غير مشركين به شركا جليا ولا خفيا﴿ الحامدون ﴾لله تعالى في السراء والضراء قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء " رواه الطبراني والحاكم والبيهقي في " شعب الإيمان " بسند صحيح عن ابن عباس﴿ السائحون ﴾أي : الصائمون لما أخرج ابن جرير عن عبيد بن عمير قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين ؟قال :" الصائمون " وكذا أخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : كلما ذكر الله في القرآن السائحين فهم الصائمون، وكذا ذكر البغوي : قول ابن مسعود، وأخرج ابن مردويه عن عائشة موقوفا قالت : سياحة هذه الآية الصيام، قال : سفيان بن عيينة : إنما سمى الصائم سائحا لتركه اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال : الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي " ٣الحديث متفق عليه، وقال عطاء السائحون الغزاة المجاهدون في سبيل الله كما روى ابن ماجة والحاكم والبيهقي بسند صحيحي عن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله " ٤وقال البغوي : روى عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه قال : يا رسول الله أئذن لي في السياحة فقال :" إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله " وقال عكرمة السائحون هم طلبة العلم يعني الذين يسيحون في الأرض لطلب العلم عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه بحظ وافر " ٥رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه﴿ الراكعون الساجدون ﴾هم المصلون عن ابن مسعود قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم " أي الأعمال أحب إلى الله ؟قال : الصلاة لوقتها، قلت، ثم أي ؟بر الوالدين، قلت : ثم أي ؟قال : الجهاد في سبيل الله " ٦متفق عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الصلاة عماد الدين " ٧رواه أبو نعيم عن الفضل بن دكين وقال :" الصلاة نور المؤمن " رواه ابن عساكر عن أنس، وقال :" الصلاة قربان كل تقي " رواه القضاعي عن علي، وقال عليه السلام :" أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء " ٨رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة﴿ الآمرون بالمعروف ﴾بالإيمان والطاعة﴿ والناهون عن المنكر ﴾عن الشرك والمعصية وقيل : المعروف السنة والمنكر البدعة، ذكر العاطف بينهما للدلالة على أن مجموعهما خصلة واحدة ﴿ والحافظون لحدود الله ﴾أي : فيما بينه وبين الله تعالى من الحقائق والشرائع.
قيل : أورد العاطف هنا للتنبيه على أن ما قبله تفصيل الفضائل وهذا إجمالها، قلت : لعل الله سبحانه أورد العاطف ههنا لأن الله سبحانه ذكر أولا إتيان الحسنات المذكورات ثم ذكر محافظة حد كل منها بلا زيادة من قبل نفسه رهبانيته ابتدعوها وبلا نقصان صورة ولا معنى فكأن الأشياء المذكورة قبلها مجموعها شيء واحد يعبر عنها بإتيان الشرائع وهذا شيء آخر كناية عن الإخلاص والحضور التام المستفاد من صحبة أرباب القلوب فإن محافظة الحدود لا يتصور إلا بحضور تام دائم والله أعلم.
﴿ وبشر المؤمنين ﴾ يعني الموصوفين بتلك الفضائل وضع المؤمنين موضع ضميرهم للدلالة على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك وأن المؤمن الكامل من كان كذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه قيل بشرهم بما لا يدركه الأفهام ولا يحبط الكلام ولم يسمعه الأذان والله أعلم.
١ سورة الممتحنة، الآية: ١٢..
٢ سورة النساء، الآية: ٩٥..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: فضل الصوم(١٨٩٤)، وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: حفظ اللسان للصائم وبيان فضل الصيام(١١٥١)..
٤ أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في النهي عن السياحة(٢٤٨٤)..
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء فضل الفقه على العبادة(٢٦٨٢)، وأخرجه أبو داود في كتاب: العلم باب: في فضل العلم(٣٦٣٧)، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم(٢٢٣)..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها(٥٢٧)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال(٨٥)..
٧ رواه البيهقي في شعب الإيمان، قال الحافظ العراقي: فيه ضعف وانقطاع، انظر فيض القدير (٥١٨٥)..
٨ أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود(٤٨٢)، وأخرجه النسائي في كتاب: التطبيق، باب: أقربما يكون العبد من الله عز وجل(١١٣١)، وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الدعاء في الركوع والسجود(٨٧٣)..
روى الشيخان في الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال :" أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج بها عند الله "، فقال : أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال : أبو طالب آخر ما كلمهم على ملة عبد المطلب، وزاد في رواية وأبى أن يقول : لا إله إلا الله فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والله لأستغفر لك ما لم أنه عنك " فنزلت ١ ﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ١١٣ ﴾ بأن ماتوا على الكفر فيه دليل على جواز الإستغفار لإحيائهم فإنه طلب لتوفيقهم للإيمان، وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه :" قل لا إله إلا الله أشهد لك يوم القيامة " قال : لولا أن يعير قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينيك فأنزل الله تعالى :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾٢وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمه فقال :" لعله ينفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه " ٣هذا الحديث المذكور يدل على أن الآية نزلت بمكة في أبي طالب. وأخرج الترمذي وحسنه الحاكم عن علي قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له أستغفر لأبويك وهما مشركان فقال : استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية٤، ولعل هذه القصة قارنت قصة موت أبي طالب فنزلت الآية فيهما، وما يدل على أن الآية نزلت في آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله أبيه فلا يصلح منها شيء وليس شيء منها ما يصلح أن يعارض ما ذكرنا في القوة فيجب ردها منها ما رواه الحاكم والبيهقي في الدلائل من طريق أيوب بن هانئ عن مسروق عن ابن مسعود، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر وخرجنا معه فأمرنا فجلسنا ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فناجاه طويلا ثم ارتفع باكيا فبكينا لبكائه ثم أقبل علينا فتلقاه عمر فقال : يا رسول الله ما الذي أبكاك فقد أبكاناها وأفزعنا، فجاء فجلس إلينا فقال :" أفزعكم بكائي " ؟قلنا نعم، قال :" إن القبر الذي رأيتموني أناجي فيه قبر آمنة بنت وهب وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي فاستأذنته في الإستغفار لها فلم يأذن لي ونزل علي :﴿ ما كان للنبي والذين امنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾الآيتين فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة فذلك الذي أبكاني " قال : الحاكم هذا حديث صحيح ونعقبه الذهبي في شرح المستدرك وقال أيوب بن هانئ ضعفه ابن معين، ومنها ما أخرج الطبراني وابن مردويه من حديث ابن عباس قال : لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك واعتمر هبط من ثنية عسفان فنزل على قبر أمه فذكر نحو حديث ابن مسعود وفيه ذكر نزول الآية، قال : السيوطي إسناده ضعيف لا تعويل عليه، وقال البغوي : قال : أبو هريرة وبريدة لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة أتى قبر أمه آمنة فوقف عليه حتى حميت الشمس رجاء أن يؤدن له فيستغفر لها فنزلت " ما كان للنبي " الآية هذه، وكذا أخرج ابن سعد وابن شاهين من حديث بريدة بلفظ : لما فتح رسول الله مكة أتى قبر أمه فجلس فذكر نحوه وفي لفظ عند ابن جرير عن بريدة كما ذكر البغوي، قال : ابن سعد في الطبقات بعد تخريجه هذا غلط وليس قبرها بمكة وقبرها بالأبواب، وأخرج أحمد وابن مردويه واللفظ له من حديث بريدة قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ وقف على عسفان فأبصر قبر أمه فتوضأ وصلى وبكى ثم قال :" إني استأذنت ربي أن أشفعه لها فنهيت " فأنزل الله تعالى :" ما كان للنبي " الآية هذه قال : السيوطي طرق الحديث كلها معلومة، وقال الحافظ لذاته بل لوروده من هذه الطرق وقد تأملت فوجدتها كلها معلومة وفي الحديث علة أخرى أنها مخالف لما في الصحيحين أن هذه الآية نزلت بمكة عقب موت أبي طالب وكذا ما ذكر البغوي قول قتادة أنه صلى الله عليه وسلم قال : لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم فأنزل الله " ما كان للنبي " الآية هذه مرسل ليس بصحيح بل ضعيف وخالف لما في الصحيحين كما ذكرنا فلا يجوز القول بكون أبوي النبي صلى الله عليه وسلم مشركين مستندين بهذه الآية وقد صنف الشيخ الأجل جلال الدين السيوطي رضي الله عنه رسائل في إثبات إيمان أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع آبائه وأمهاته إلى آدم عليه السلام وخلصت منها رسالة سميتها بتقديس آباء النبي صلى الله عليه وسلم فمن شاء فليرجع إليه وهذا المقام لا يسع زيادة التطويل في الكلام. فإن قيل : ما ورد من حديث الصحيحين في قصة موت أبي طالب، قال : أبو جهل أترغب عن ملة عبد المطلب وقول أبي طالب : أفعلى ملة عبد المطلب يدل على كون عبد المطلب مشركا ؟قلنا لا نسلم ذلك بل كان مؤمنا موحدا وقد ذكر ابن سعد في الطبقات بأسانيده أن عبد المطلب قال : لأم أيمن وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلميا بركة لا تغفلي عن ابني فإني وجدته مع غلمان قريبا من السدرة وأن أهل الكتاب يقولون أن ابني هذا نبي هذه الأمة، لكن لما كان هو في زمن الجاهلية جاهلا بالشرائع وبما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان التوحيد كافيا له في زمن الفترة زعم أبو جهل وأبو طالب أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بشيء منكر وحكما يكون ملة عبد المطلب مشركا ؟قلنا لا نسلم ذلك بل كان مؤمنا موحدا وقد ذكر ابن سعد في الطبقات بأسانيده أن عبد المطلب قال : لأم أيمن وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بركة لا تغفلي عن ابني فإني وجدته مع غلمان قريبا من السدرة وأن أهل الكتاب يقولون أن ابني هذا نبي هذه الأمة، لكن لما كان هو في زمن الجاهلية جاهلا بالشرائع وبما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان التوحيد كافيا له في زمن الفترة زعم أبو جهل وأبو طالب أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بشيء منكر وحكما يكون ملة عبد المطلب مخالفا جاء به النبي صلى الله عليه وسلم
١ أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله(١٣٦٠)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: الدليل على صحة إسلام من حضرة الموت ما لم يشرع في النزع(٢٤)..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع(٢٥)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار(٦٥٦٤)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب(٢١٠)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة التوبة(٣١٠١).
قوله ﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه ﴾يعني آزر وكان عما لإبراهيم عليه السلام ابن تارخ وقد ذكرنا الكلام فيه في سورة الأنعام، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه " ١رواه البخاري، فلا يمكن أن يكون كافر في سلسلة آبائه صلى الله عليه وسلم ﴿ إلا عن موعدة وعدها إياه ﴾قال : بعض المفسرين الضمير المرفوع عائد إلى أبيه والمنصوب إلى إبراهيم يعني أن أباه وعده أن يسلم فقال : له إبراهيم سأستغفر لك يعني إذا أسلمت، والأكثر على أن المرفوع راجع إلى إبراهيم والمنصوب إلى أبيه وذلك أن إبراهيم وعد إياه أن يستغفر له رجاء إسلامه وهو قوله سأستغفر لك ربي يدل على ذلك قراءة من قرأ وعدها أباه بالباء الموحدة، والدليل على أن الوعد كان من إبراهيم وكان الاستغفار في حال كون أبيه مشركا قوله تعالى :" قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم " إلى أن قال :" إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك " ٢فإنه صريح في أن إبراهيم عليه السلام ليس بقدوة في هذه الاستغفار فهو إنما أستغفر له وهو مشرك لمكان الوعد رجاء أن يسلم﴿ فلما تبين له ﴾أي : لإبراهيم بموت أبيه على الكفر أو بما أوحي إليه بأنه لن يؤمن﴿ انه عدو لله تبرا منه ﴾فقطع عن استغفاره، وقيل : فلما تبين له في الآخرة أنه عدو الله تبرأ منه، روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني فيقول له أبوه فاليوم لا أعصيك، فبقول إبراهيم : يا رب إنك وعدتني أن تخزني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد، فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا إبراهيم أنظر ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار " وفي رواية " فتبرأ منه يومئذ " ٣﴿ إن إبراهيم لأواه ﴾الذي يكثر التأوه لكمال خشيته من الله تعالى كذا قال : كعب الأحبار، وكان إبراهيم عليه السلام يكثر أن يقول : آه من النار قبل أن ينفع آه وقيل : هو الذي يتأوه من الذنوب وما لهما واحد، وكذا ما قال : البغوي : أنه جاء في الحديث الأواه الخاشع المتضرع فإن الخشوع يستلزم التأوه من الذنوب والنار وكذا ما قال : عطاء الراجع عن ما يكره الله الخائف من النار، وقال ابن مسعود الأواه الدعاء وعن ابن الراجع عن عباس قال : المؤمن التواب، وقال الحسن وقتادة الأواه الرحيم بعباد الله، وقال مجاهد الأواه الموقن وقال عكرمة هو المستيقن بلغة الحبشة، وقال عقبة بن عامر : الأواه كثير الذكر لله تعالى وعن سعيد بن جبير قال : الأواه المسيح وروى عنه الأواه المعلم للخير، وقال النخعي هو الفقيه، وفي القاموس ذكر المعاني المذكورة فقال : الأواه الموقن أو الداعي أو الرحيم أو الفقيه أو المؤمن بالحبشة، وقال أبو عبيدة هو المتأوه شفقا المتضرع يقينا ولزوما للطاعة، قال : الزجاج انتظم قول أبي عبيدة جميع ما قيل : في الأواه﴿ حليم ﴾أي : صفوح عمن ناله بمكروه ومن ثم قال لأبيه عند وعيده بقوله :" لئن لم تنته لأرجمنك " ٤قال :﴿ سلام عليك سأستغفر لك ربي ﴾ ٥وقال ابن عباس الحليم السيد، وفي القاموس الحلم بالكسر الإناء والعقل فهو حليم والجملة لبيان ما حمل إبراهيم على الإستغفار والله أعلم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم(٣٥٥٧)..
٢ سورة الممتحنة، الآية: ٤..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى ﴿واتخذ الله إبراهيم خليلا﴾(٣٣٥٠)..
٤ سورة مريم، الآية: ٤٦..
٥ سورة مريم، الآية: ٤٧..
قال مقاتل والكلبي : إن قوما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا أو لم يكن الخمر حراما ولا القبلة مصروفة إلى الكعبة فرجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة ولا علم لهم بذلك ثم قدموا المدينة فوجدوا الخمر قد حرمت والقبلة قد صرفت، فقالوا : يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن ضلال فأنزل الله تعالى ﴿ وما كان الله ليضل قوما ﴾أي : يحكم عليهم بالضلال ويسميهم الضالة ويؤاخذهم على فعل﴿ بعد إذ هداهم ﴾للإسلام ﴿ حتى يبين لهم ما يتقون ﴾أي : ما يجب اتقاءه من الأعمال فلم يتقوه ويستحقون الإضلال وقيل فيه بيان عذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لعمه : لأستغفرن لك ما لم أنه عنه أو لمن استغفر لأسلافه المشركين قبل النهي، قال : مجاهد بيان الله للمؤمنين في الإستغفار للمشركين خاصة وبيان لهم في مغصبة وطاعة عامة يعني أن الآية نزلت في الاستغفار للمشركين لكن حكمها عام لعموم الصيغة ﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾يعني يعلم حال من فعل جهلا ومن فعل تمرد أو من يستحق الإضلال ومن لا يستحقه
﴿ إن الله له ملك السماوات والأرض يحي ويميت وما لكم ﴾أيها الناس﴿ من دون الله ﴾من غيره﴿ من ولي ﴾يحفظكم منه﴿ ولا نصير ﴾يمنع عنكم ضررا يريد بكم فلا ينبغي لكم أن توالوا بالمشركين وتستغفروا لهم وإن كانوا أولي قربى حسبكم ولاية الله ونصرته.
﴿ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ﴾من إذن المنافقين في التخلف أو المعنى برأهم عن تعلق الذنوب لقوله تعالى :" ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر }١وقيل : المراد بعث على التوبة والمعنى ما من أحد إلا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة أصحابه لقوله تعالى :" توبوا إلى الله جميعا " ٢إذ ما من أحد إلا له مقام يستنقص دونه ما هو فيه والترقي إليه من تلك النقيصة، وفيه إظهار تفضل التوبة بأنها مقام الأنبياء والصالحين من عباده، وقيل : افتتح الكلام بالنبي لأنه كان سبب توبتهم فذكره معهم كما ذكر كلمة الله في قوله تعالى لله خمسه وللرسول ولذي القربى ﴿ الذين اتبعوه ﴾حين استغفرهم لغزوة تبوك﴿ في الساعة ﴾أي : وقت﴿ العسرة ﴾قال : البغوي : كانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة والجيش جيش العسرة أي الشدة لما كانت عليهم عسرة من الظهر والزاد والماء، قال : الحسن كان العشرة منهم يخرجون على بعير واحد منهم يعنقبونه يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك وكان زادهم التمر المسوس والشعير المتغير وكان النفر منهم يخرجون ما معهم إلا التمرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها ثم صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى يأتي على آخرهم ولا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم، روى أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن عمر بن الخطاب قال : خرجنا إلى تبوك في يوم قيظ شديد فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا سينقطع حتى إذا كان الرجل ليذهب فيلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته سينقطع وحتى أن كان الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده فقال : أبو بكر يا رسول الله إن الله عز وجل قد عود لك في الدعاء خيرا فادع الله لنا، قال : أتحب ذلك قال : نعم، فرفع يديه نحو السماء فلم يرجعها حتى جالت السماء فأظلت ثم سكبت فملؤا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر وروى ابن أبي حاتم عن أبي حاتم عن أبي حرزة الأنصاري قال : نزلوا الحجر فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يحملوا من مائها شيئا ثم ارتحل ثم نزل منزلا آخر وليس معهم ماء فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين ثم دعا فأرسل الله سحابة فأمطرت عليهم حتى استقوا منها، فقال : رجل من الأنصار الآخر من قومه متهم بالنفاق ويحك قد ترى ماء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمطر الله علينا السماء قال : إنما مطرنا بنوء كذا وكذا فانزل الله تعالى " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون٨٢ " ٣﴿ من بعدما كاد يزيغ ﴾قرأ حفص وحمزة بالياء التحتية والباقون بالتاء الفوقية لأن الفاعل مؤنث غير حقيقي﴿ قلوب فريق منهم ﴾أي قلوب بعضهم ولو يرد لليل عن الدين بل أراد لليل إلى التخلف والانصراف لأجل الشدة التي كانت عليهم قال : الكلبي : هم ناس بالتخلف ثم لحقوه، وقال ابن إسحاق ومحمد عمر : كان نفر من المسلمين أبطأت بهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا ارتياب منهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وأبو خيثمة وأبو در الغفاري وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم، روى ابن إسحاق عن ابن مسعود قال : لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعل يتخلف عنه الرجل فيقولون يا رسول الله تخلف فلان، فيقول : دعوة فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن غير ذلك فقد أرى حكم الله فيه حتى قيل : يا رسول الله تخلف أبو ذر بعيرة فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع إثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا.
قال محمد بن عمر كان أبو ذر يقول : أبطأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك من أجل بعيري وكان نضوا أعجف فقلت : أعلفه أياما ثم ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فعلفته أياما ثم خرجت فلما كنت بذي المودة أذم بي فتلومت عليه فلم أر به حركة فأخذت متاعي فحملته وتطلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار فنظر ناظر من المسلمين، فقال : يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كن أبا ذر " فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول الله هو والله أبو ذر، فقال :" رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويومت وحده ويبعث وحده " قال : محمد بن يوسف الصالحي : فكان كذلك فلما قدم أبو ذر على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره خبره فقال :" لقد غفر الله تعالى لك يا أبا ذر بكل خطوة ذنبا إلى أن بلغتني ".
وروى الطبراني عن أبي خيثمة وابن إسحاق ومحمد بن عمر عن شيوخهما قال : لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما دخل أبو خيثمة على أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائط وقد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء وهيأت له فيه طعاما فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال : سبحان الله رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر حر في الضح والريح والحر يحمل سلاحه على عنقه وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم ما هذا بالنصف، ثم قال : والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ لي زادا ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حتى نزل تبوك وقد أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق لطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك، قال : أبو خيثمة لعمير بن وهب : إن لي ذنبا فلا عليك أن تخلف عني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الناس : هذا راكب مقبل فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كن أبا خيثمة " فقالوا والله هو أبو خيثمة، فقال : له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أولى لك يا أبا خيثمة " ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فقال : له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير، ﴿ ثم تاب عليهم ﴾تكرير للتأكيد أو أراد بالتوبة في صدر الآية التوبة من إذن المنافقين في التخلف وههنا من كيد ودتهم زيغ القلوب أو المراد في صدر الآية التوفيق للتوبة والإنابة وههنا قبول التوبة أو للتنبيه على أنه تاب عليهم لأجل ما كابد وأمن العسرة﴿ انه بهم رءوف رحيم ﴾قال البغوي : قال : ابن عباس : من تاب الله عليه لم يعذبه أبدا يعني على ذلك الذنب
١ سورة الفتح، الآية: ٢..
٢ سورة النور، الآية: ٣١..
٣ سورة الواقعة، الآية: ٨٢..
﴿ وعلى الثلاثة ﴾عطف على عليهم﴿ الذين خلفوا ﴾أي تخلفوا عن غزوة تبوك وقيل : خلفوا أي : أرجى أمرهم عن توبة أبي لبابة وأصحابه، وهؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك الشاعر ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية كلهم من الأنصار.
روى الشيخان في الصحيحين وأحمد وتبن أبي شيبة وابن إسحاق وعبد الرزاق عن كعب بن مالك قال : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر ولم يعاقب الله أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، قلت : ليلة العقبة الثالثة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت البدر أكثر ذكرا في الناس منها كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في لك الغزوة والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتها في تلك الغزوة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى يغيرها وكان يقول الحرب خدعة، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفوز وعدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير وعند مسلم يزيدون على عشرة آلاف " ١وروى الحاكم في إكليل عن معاذ قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك زيادة عن ثلاثين ألفا، وقال أبو زرعة لا يجمعهم كتاب حافظ، قال : الزهري يريد الديوان فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الظلال والثمار وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهز المسلمون معه فخرج يوم الخميس وكان يحب إذا كان سفر جهاد أو غيره أن يخرج يوم الخميس، فطفقت أعدوا لكي أتجهز معهم فارجع ولم أقض شيئا فأقول في نفسي أنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي الحال حتى اشتد بالناس الحر فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا ثم غذوت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أمعن القوم وأسرعوا وتفارط الغزو وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت ولم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أن لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه بالنفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال : وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب بن مالك ؟فقال : رجل من بني سلمة وفي رواية من قومي قال : محمد بن عمر هو عبد الله بن أنيس السلمي يا رسول الله حبسه براده ونظره في عطفيه، فقال : معاذ بن جبل ويقال : أبو قتادة بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمت عليه إلا خيرا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كعب : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلا حضرني همي وطفقت أعد عذر الرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهيئ الكلام وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أن لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب فأجمعت صدقه وعرفت أنه لم ينجيني إلا الصدق وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما. قال : ابن سعد في رمضان، قال : كعب وكان إذا قدم من سفر لا يقدم إلا في الضحى فيبدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين فيقعد فيه ثم يدخل على فاطمة ثم على أزواجه فبدأ بالمسجد فركعهما ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله فجئته، فلما سلمت عليه تبسم بتبسم المغضب فقال : تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، وعند ابن عابد فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله لم تعرض عني فوالله ما نافقت. ولا ارتبت ولا بدلت، فقال : لي : ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ؟فقلت : بلى إني والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله تعالى أن يسخطك ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه أني لأرجوا فيه عفو الله لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم /أما هذا فقد صدق فقم حتى يفضي الله فيك بما يشاء فمضيت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي : ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت، أن أرجع فأكذب نفسي، فقلت ما كنت أجمع أمرين أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبه، ثم قلت : لهم هل بقي هذا معي أحد قالوا : نعم رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل : لهما مثل ما قيل لك فقلت : من هما قالوا : مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي.
وعند ابن أبي حاتم من مرسل الحسن أن سبب تخلف الأول أنه كان حائط حين زهى فقال : في نفسه قد غزوت قبلها فلو أقمت عامي هذا فلما تذكر ذنبه، قال : اللهم إني أشهدك أني قد تصدقت به في سبيلك أن الثاني كان له أهل تفرقوا ثم رجعوا، فقالوا : قمت هذا العام عندهم فلما تذكر قال : اللهم لك علي أن لا أرجع إلى أهلي ولا مالي قال : كعب : فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكرها ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فأجبنا الناس وتغيروا لنا.
وعند ابن أبي شيبة فطفقنا نعذو في الناس لا يكلمنا أحد ولا يسلم علينا أحد ولا يرد علينا أحد سلاما، وعند عبد الرزاق وتنكر لنا الناس حتى ما هم بالذي نعرف وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي بالتي نعرف انتهى، ومن شيء أهم إلى من أن أموت فلا يصلي علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يموت فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد ولا يصلي علي حتى تنكرت في نفسي الأرض حتى ما هي بالتي أعرف فلبثنا ذلك خمسين ليلة، فأما صاحبان فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف الأسواق فلا يكلمني أحد ولا يرد علي سلاما، وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا، ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل على ذلك فإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال على ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي يعني أنه من بني سلمة وليس هو ابن أخو أبيه الأقرب، قال كعب : وهو أحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام، فقلت : يا أبا قتادة هل تعلمني أحب الله ورسوله فسكت فعدت له فسكت فلم يكلمني حتى إذا كان في الثالثة أو الرابعة قال : الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت من الدار، قال : فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذ نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني ودفع إلي كتابا من ملك غسان.
وعند ابن أبي شيبة من بعض قومي بالشام كتب إلي كتابا في سعاقة من حرير فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك ولم يجعلك الله بدار الهوان ولا مضيعة فإن كنت متحولا فالحق بنا نواسيك، فقلت : لما قرأتها وهذا أيضا من البلاء قد طمع في أهل الكفر فتيممت بها التنور فسجرته بها، وعند ابن عابد أنه شكى حاله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما زال إعراضك عني حتى رغب في أهل الشرك. قال : كعب : حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، قال : محمد بن عمر هو خزيمة بن ثابت وهو الرسول إلى مرارة وهلال بذلك فقال كعب فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعزل امرأتك فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ؟لا بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك فقلت لامرأتي : إلحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال : كعب بن مالك فجاءت امرأة هلال بن أمية أي : خولة بنت عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، وعند ابن أبي شيبة إنه شيخ قد ضعف بصره انتهى، فهل تكره أن أخدمه قال : لا ولكن لا يقربك قالت : إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، قال كعب فقال : لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن يخدمه، فقلت : والله لا استأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذن فيها وأنا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، وعند عبد الرزاق وكانت توبتنا نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ثلث الليل، فقالت أم سلمة يا نبي الله ألا نبشر كعب بن مالك قال : إذا يحطمنكم الناس ويمنعونكم النوم سائر الليل، فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى قد ضاقت على نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك البشر وعند محمد بن عمر وكان الذي أوفى على جبل سلع أبا بكر الصديق فصاح : قد تاب الله على كعب يا كعب أبشر، وعند عقبة أن رجلين سعيا كعبا يبشر أنه فسبق أحدهما فارتقى المسبوق على سلع فصاح يا كعب أبشر بتوبة الله وقد أنزل الله عز وجل فيكم القرآن وزعموا أن الذين سبقا أبو بكر وعمر، قال كعب : فخررت ساجدا أبكي فرحا بالتوبة وعرفت أنه قد جاء فرج وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل على فرس وعند محمد بن عمر هو زبير بن العوام وسعى ساع من أسلم قال : وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته وهو حمزة الأسلمي يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياه ببشراه ووالله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين من أبي قتادة كما عند محمد بن عمر فلبستها قال : وكان الذي بشر هلال بن أمية بتوبة سعيد بن زيد فما ظننت أنه يرفع رأسه حتى تخرج نفسه أي : الجهد فقد كان امتنع من الطعام حتى كان يواصل الأيام صياما لا يفتر من البكاء، وكان الذي بشر مرارة بن الربيع بتوبة سلكان بن سلامة أبو سلامة بن وقش، قال كعب : وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتلقاني الناس فوجا يهنئوني بالتوبة يقولون لتهنك توبة الله عليك قال كعب : حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام إلي طل
١ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: حديث كعب بن مالك(٤٤١٨)، وأخرجه مسلم في كتاب: التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه(٢٧٦٩).
﴿ يأيها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ١١٩ ﴾في إيمانهم وعهودهم أوفى دين الله نية وقولا وعملا يعني الزموا الصدق في كل شيء، قال : ابن عباس وكذا روى عن ابن عمر أي : كونوا مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك بإخلاص ونية دون المنافقين المتخلفين عنه، وقال سعيد بن جبير مع أبي بكر وعمر وقال الضحاك أمروا أن يكونوا مع أبي بكر وعمر وأصحابهما وروى أنه قال ابن عباس مع علي ابن أبي طالب عن سفيان قال : تفسير اختلاف إنما هو كلام جامع يراد به هذا وهذا، وقال ابن جريج : مع المهاجرين لقوله تعالى :" للفقراء المهاجرين " إلى قوله :" أولئك هم الصادقون " ١ وقيل : من الذين صدقوا في الاعتراف بالذنب ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة.
١ سورة الحشر، الآية: ٨. وقيل: من الذين صدقوا في الاعتراف.
قال : ابن مسعود : إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجز له اقرأ إن شنم وقرأ هذه الآية﴿ ما كان لأهل المدينة ﴾ظاهرة خبر ومعناه نهي كقوله تعالى :" وما لكم أن تؤذوا رسول الله }١﴿ ومن حولهم من الأعراب ﴾سكان البوادي مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار﴿ أن يتخلفوا عن رسول الله ﴾صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه الشريفة ﴿ ولا يرغبوا ﴾ولا أن يرغبوا﴿ بأنفسهم عن نفسه ﴾أي : لا يضنوا أنفسهم عما لا يضمن نفسه عنه﴿ ذلك ﴾إشارة إلى ما دل عليه قوله ما كان من النهي عن التخلف يعني ذلك النهي ﴿ بأنهم ﴾أي : بسبب أنهم﴿ لا يصيبهم ظمأ ﴾أي : شيء من العطش ﴿ ولانصب ﴾تعب﴿ ولا مخمصة ﴾مجاعة ﴿ في سبيل الله ﴾أي معاونة رسوله والجهاد لإعلاء دينه﴿ ولا يطأون موطئا ﴾مصدر أو ظرف أي : يدوسون دوسا أو يذهبون أرضا ﴿ يغيظ الكفار ﴾وطئهم إياها﴿ ولا ينالون من عدو نيلا ﴾قتلا أو أسرا أو نهيا أو غنيمة ﴿ إلا كتب لهم به عمل صالح ﴾أي : استوجبوا به الثواب وذلك مما يوجب المشايعة والانتهاء عن التخلف﴿ إن الله لا يضيع اجر المحسنين ﴾على إحسانهم وهو تعليل لكتب وتنبيه على أن الجهاد إحسان أما في حق الكفار فلأنه سعى تكميلهم وإنقاذهم من النار بأقصى ما يمكن كالضرب للمجنون وتأديب الصبي وأما في حق المؤمنين فلأنه صيانة لهم عن يطوة الكفار واستيلائهم، عن أبي عبس قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله تعالى على النار " ٢ رواه البخاري في الصحيح وأحمد والترمذي والنسائي، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله " ٣متفق عليه، قال البغوي : اختلفوا في حكم هذه الآية، قال : قتادة : هذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يكن لأحد أن يتخلف عنه إلا بعد فأما غيره من الأئمة والولاة فيجوز لمن شاء من المؤمنين يتخلف عنه إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة، وقال الوليد بن مسلم : سمعت الأوزاعي وابن المبارك وابن جابر وسعد بن عبد العزيز يقولون : هذه الآية لأول هذه الأمة وآخرها، وقال ابن زيد : هذا حين كان أهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها الله تعالى وأباح التخلف لمن شاء وقال وما كان المؤمنون ليغزوا كافة، قلت : اتفق الأئمة على أن الجهاد فرض كفاية إذا قام به جماعة من المسلمين وحصل بهم الكفاية سقط عن الباقين، وعن سعيد بن المسيب أنه فرض عين للعمومات الواردة في الجهاد وما ورد التغليظ في المتخلفين عن غزوة تبوك فلنا عند النفير العام يكون فرضا على الأعيان بالإجماع كما في غزوة تبوك وإلا فهو فرض كفاية لقوله تعالى ﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدين في سبيل الله ﴾ إلى قوله :﴿ وكلا وعد الله الحسنى ﴾ ٤وقوله تعالى :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾ كما فعل عثمان بن عفان وعبد الرحمان بن عوف وغيرهما في جيش العسرة
١ سورة الأحزاب، الآية: ٥٣..
٢ أخرجه البخاري في كتاب، الجمعة، باب: المشي إلى الجمعة (٩٠٧)، وأخرجه النسائي في كتاب: الجهاد، باب: ثواب من اغبرت قدماه في سبيل الله(٣١٠٧)، وأخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل من أغبرت قدماه في سبيل الله (١٦٣٦)...
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله(٢٧٨٧)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الشهادة في سبيل الله تعالى (١٨٧٨)..
٤ سورة النساء، الآية: ٩٥..
﴿ لا يقطعون ﴾في مسيرهم مقبلين ومدبرين ﴿ واديا ﴾وهو كل منفرج ينفذ فيه السيل اسم فاعل من ودي إذا سال فشاع بمعنى الأرض ﴿ إلا كتب لهم ﴾ذلك ﴿ ليجزيهم الله ﴾بذلك الكتابة ﴿ أحسن ما كانوا يعملون ﴾يعني جزاء أحسن أعمالهم يعني الجهاد في سبيل الله أو أحسن جزاء أعمالهم، عن أبي مسعود الأنصاري قال : جاء رجل بناقة مخطومة فقال : هذه في سبيل الله، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة " ١رواه مسلم، وعن زيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا في أهله فقد غزا " ٢متفق عليه والله أعلم.
قال الكلبي : إن أحياء بني أسد بن خزعة أصابتهم سنة شديدة فأقبلوا بالذراري حتى نزلوا بالمدينة فأفسدوا طرقها بالعذرات وأغلوا أسعارها فأنزل الله.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها (١٨٩٢)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير (٢٨٤٣)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل إعانة العازي في سبيل الله ١٨٩٥)..
﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾نفي بمعنى النهي واللام لتأكيد النفي والمعنى لا ينفروا كافة عن أوطانهم لطلب العلم فإنه مخل بالمعاش ومفضي إلى المفسد﴿ فلولا ﴾فهلا ﴿ نفر من كل فرقة ﴾أي : من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة أو قرية ﴿ طائفة ﴾جماعة قليلة ﴿ ليتفقهوا في الدين ﴾أي : ليتكلفوا الطلب الفقاهة في الدين ويتجشموا المشاق في تحصيلها، قال : صاحب النهاية : الفقه في الأصل الفهم واشتقاقه من الشق والفتح، وفي القاموس الفقه بالكسر المعلوم بالشيء والفهم له والفطنة وغلب على علم الدين لشرفه، وقال بعض المحققين : الفقه هو التواصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم الاستدلالي قال : الله تعالى :﴿ فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ﴾١ولا يستنبطون مضمونه، قال أبو حنيفة رحمه الله : هو معرفة النفس مالها وما عليها والتخصيص بالعلم بفروع الدين اصطلاح جديد والظاهر أنه يشتمل علم المقلد أيضا فالمقلد إذا أخذ العلم من المجتهد أو من كتابه والظاهر أدى ما وجب عليه بهذه الآية والله أعلم. ﴿ لينذروا قومهم ﴾ الذين لم ينفروا﴿ إذا رجعوا إليهم ﴾ في أوطانهم بعد تحصيل العلم ﴿ لعلهم يحذرون ﴾ بإنذارهم ما يجب عليهم اجتنابها وقال مجاهد : نزلت في ناس خرجوا في البوادي فأصابوا منهم معروفا ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال : الناس لهم ما نراكم إلا وقد تركتم صاحبكم وجئتم فوجدنا في أنفسهم من ذلك حرجا فأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فخيارهم في الجاهلية فخيارهم في الإسلام إذا فقهوا " ٢رواه الشافعي وكذا روى الشيخان في الصحيحين وأحمد عن أبي هريرة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الناس رجلان عالم ومتعلم ولا خير فيما يسواهما " رواه الطبراني عن ابن مسعود والله أعلم.
وهذه الآية دليل على أن أخبار الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لينذر فرقتها كي يتذكروا فيحذروا فلو لم يعتبر الأخبار ما لم يتواتر لم يفسد ذلك.
أعلم أن الفقه في الدين ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية، والفرض العين هو العلم بالعقائد الصحيحة ومن الفروع ما يحتاج إليه كل أحد كالطهارة والصلاة والصوم وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على الآدمي يجب عليه يجب عليه معرفة أحكامها مثل علم الزكاة إن كان له مال وعلم الحج إن وجب عليه وكذلك من المعاملات يجب معرفة أحكام ما يتعاطى بها ويمارسها، فيجب معرفة أحكام البيع من الصحيح والفاسد والربا للتجار والآجارات لمن يتأتى بها ونحو ذلك قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" طلب العلم فريضة على كل مسلم " رواه ابن عدي والبيهقي بسند صحيح عن أنس والطبراني في الصغير والخطيب عن الحسن بن علي والطبراني في " الأوسط " عن ابن عباس وفي الكبير عن ابن مسعود وعند الخطيب عن علي وفي الطبراني في " الأوسط " والبيهقي " عن أبي سعيد وزاد ابن عبد البر عن أنس " وإن طالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر " وفي رواية " والله يحب إغاثة اللهفان " والفرض الكفاية وهو أن يتعلم الرجل كل باب من العلم حتى يبلغ درجة الفتوى فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعا وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط عن الباقين وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث وهو أفضل من كل عبادة نافلة قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" طلب العلم أفضل عند الله من الصلاة والصيام والحج والجهاد في سبيل الله عز وجل " رواه صاحب سند الفردوس عن ابن عباس وروى أيضا عنه :" طلب العلم ساعة خير من قيام ليلة وطلب العلم يوما خير من صيام ثلاثة أيام " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في الماء ليصلون على معلم الناس الخير " ٣رواه الترمذي بسند صحيح عن أبي أمامة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد " ٤رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عباس، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة : إلا من صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له " ٥وأما العلم اللدني الذي يسمون أهلها بالصوفية الكرام فهو مرض عين لأن ثمراتها تصفية القلب عن اشتغال بغير الله تعالى واتصافه بدوام الحضور وتزكية النفس عن رذائل الأخلاق من العجب والكبر والحسد وحب الدنيا والكسل في الطاعات وإيثار الشهوات والرياء والسمعة وغير ذلك وتجليها بكرام الخلاق من التوبة والرضا بالقضاء والشكر على النعماء والصبر على البلاء وغير ذلك، ولا شك أن هذه الأمور محرمات وفرائض على كل بشر أشد تحريما من معاصي الجوارح وأهم افتراضا من فرائضها فالصلاة والصوم وشيء من العبادات لا يعبأ بشيء منها ما لم تقترن بالإخلاص والنية، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه " ٦رواه النسائي عن أبي أمامة وقال عليه السلام :" إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر غلى قلوبكم واعمالكم " ٧رواه مسلم عن أبي هريرة وكل ما يترتب عليه من الفروض الأعيان فهو فرض عين والله اعلم.
وفي سبب نزول الآية وجه آخر وذلك ما قال : البغوي : أنه قال : ابن عباس في رواية الكلبي وكذا أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة ونحوه عن عبد الله بن عمير أنه لما أنزل الله تعالى عيوب المنافقين في غزوة تبوك ونزلت :﴿ إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ﴾كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السرايا فكان المسلمون ينفرون جميعا إلى الغزو ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وفي رواية عكرمة تخلف عن الغزو أناس من أهل البوادي فقالت المنافقون : هلك أصحاب البوادي فأنزل الله تعالى هذه الآية، يعني ما كان المؤمنون لينفروا إلى الغزو كافة فهلا نفر من كل فرقة عظيمة طائفة إلى الغزو وبقي طائفة مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتفقه القاعدون وفي الدين ويتعلمون القرآن والسنن والفرائض والأحكام فإذا رجعت السرايا أخبروهم بما نزل بعدهم فتمكث السرايا يتعلمون ما نزل بعدهم وينفر سرايا آخر حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر لأن الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود من البعثة، ولذا قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" العلماء ورثة الأنبياء " ٨فيكون الضمير في ليتفقهوا ولينذروا بواقي الفرق بعد الطائفة النافرة للغزوة وفي رجعوا للطائفة النافرة، قال السيوطي : قال ابن عباس : فهذه مخصومة بالسرايا والتي من قبلها بالنهي عن تخلف أحد فيما إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الحسن هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة معناه هلا نفر فرقة ليتفقهوا أي : ليبصروا بما يريهم من الظهور على المشركين ونصرة الدين ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا من الجهاد فيخبروهم بنصر الله رسوله والمؤمنين لعلهم يحذرون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار، وهذا يدل على أن الجهاد فرض كفاية إذا قام به جماعة سقطه عن الباقين إلا عند النفير العام حتى يصير فرضا على الأعيان
١ سورة النساء، الآية: ٧٨..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: قول الله تعالى:﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا﴾(٣٤٩٣)وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: خير الناس (٢٥٢٦)، وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: خير الناس (٢٥٢٦)، وأخرجه الشافعي في الجزء الأول/باب: الإيمان والإسلام والإسلم (١٥)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (٢٦٨٢)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (٢٦٨١)، وأخرجه ابن ماجه في افتتاح الكتاب، باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم (٢٢٢)..
٥ أخرجه مسلم في كتاب: الوصية، باب: ما يلحق الإنسان من الثوب بعد وفاته (١٦٣١)..
٦ أخرجه النسائي في كتاب: الجهاد، باب: من غزا يلتمس الأجر والذكر(٣١٣١)..
٧ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وماله وعرضه(٢٥٦٤)..
٨ اخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (٢٦٨٢)، وأخرجه أبو داود في كتاب: العلم باب: في فضل العلم (٣٦٣٧)..
قوله تعالى :﴿ يأيها الذين امنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ﴾أمر بقتال القرب منهم فالأقرب إليهم في الدور والنسب فإن الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا بإنذار عشيرته الأقربين، ولما هاجر إلى المدينة أمر بقتال قريظة والنضير وخيبر ونحوها وإذا فرغ من قتال العرب أمر بقتال الروم وهم المراد بهذه الآية لأنهم كانوا سكان الشام وكان الشام أقرب إلى المدينة من العراق، فإذا نزلت هذه الآية عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال الروم عام تبوك كما ذكرنا فيما سبق في رواية ابن مردويه عن ابن عباس وابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد وابن جرير عن سعيد بن جبير، وعلى مقتضى هذه الآية قالت الفقهاء : يجب على من يكون في الثغر الجهاد بمن يليهم من الكفار فإن لم يكن بهم كفاية أو تكاسلوا وعصوا يجب على من يقرب منهم وكذا من يقرب ممن يقرب إن لم يكن بهم كفاية أو تكاسلوا وهكذا إلى أن يجب على جميع أهل الإسلام شرقا وغربا كذا جهاز الميت والصلاة عليه﴿ وليجدوا فيكم غلظة ﴾شدة وحمية قال : الحسن : صبرا على الجهاد وظاهر الآية أمر للكفار والمراد منه الأمر للمؤمنين بالتغلظ يعني أغلظوا عليهم﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾دون الكفار بالعون والنصر فلا تبالوا بقتالهم
قوله تعالى ﴿ وإذا ما أنزلت سورة ﴾ما صلة مؤكدة ﴿ يعني من المنافقين { فمنهم ﴾يعني من المنافقين﴿ من يقول ﴾لإخوانه استهزاء ﴿ أيكم زادته هذه ﴾السورة﴿ إيمانا ﴾يقينا
وتصديقا قال : الله تعالى ﴿ فأما الذين امنوا فزادتهم إيمانا ﴾بزيادة بما فيها إلى إيمانهم ﴿ وهم يستبشرون ﴾بنزولها لأنه سبب لزيادة علمهم وكمالهم وارتفاع درجاتهم
﴿ وأما الذين في قلوبهم مرض ﴾شك ونفاق ﴿ فزادتهم ﴾ السورة ﴿ رجسا ﴾ كفرا بها مضموما ﴿ إلى رجسهم ﴾ كفرهم بغيرها ﴿ وماتوا وهم كافرون ﴾فإن الإيمان أمر وهبي لا يفيد النذر والآيات ما لم يشاء الله قال : مجاهد في هذه الآية دلالة على أن الإيمان يزيد وينقص وكان عمر رضي الله عنه يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول تعالوا حتى نزداد إيمانا وقال علي رضي الله عنه : إن الإيمان يبدوا بيضاء في القلب كلما ازداد الإيمان عظما ازداد ذلك البياض حتى يبيض القلب كله وإن النفاق يبدوا لمظة سوداء في القلب كلما ازداد النفاق ازداد السواد حتى يسود القلب وايم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض لو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسودا
﴿ أولا يرون ﴾ قرأه حمزة ويعقوب بالتاء الفوقانية على خطاب المؤمنين والباقون بالياء التحتانية حكاية عن المنافقين المذكورين ﴿ أنهم ﴾ أي المنافقون ﴿ يفتنون ﴾ أي : يبتلون بأصناف البليات من الأمراض والشدائد وقال مجاهد : بالقحط والشدة، وقال قتادة بالغزو والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعاينون ما يظهر من الآيات، وقال مقاتل بن حبان : يفضحون بإظهار نفاقهم وقال عكرمة ينافقون ثم يؤمنون وقال يمان : ينقضون عهودهم ﴿ في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ﴾من نقض العقد ومن المعاصي والنفاق الجالب إليهم تلك البليات والفضائح ﴿ ولا هم يذكرون ﴾ أصله يتذكرون أي : لا يتعضون بما يرون من تصديق وعد الله بالنصر والظفر للمسلمين
﴿ وإذا ما أنزلت سورة ﴾ فيها ذكرهم وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ نظر بعضهم إلى بعض ﴾أي تغامزوا بالعيون إنكار لها سخرية أو غيظ لما فيها من عيوبهم وتفضيحهم ويردون الهرب قائلا بعضهم لبعض إشارة ﴿ هل يراكم من احد ﴾ من زائدة يعني احد من المؤمنين إن قمتم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أن أحدهم يريهم أقاموا وثبتوا ﴿ ثم انصرفوا ﴾ عن الإيمان بها، وقيل : انصرفوا عن مواضعهم التي يسمعون فيها يعني حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم مخافة الفضيحة ﴿ صرف الله قلوبهم ﴾ عن الإيمان قال : أبو إسحاق أضلهم الله مجازة على فعلهم لك ويحتمل الدعاء ﴿ بأنهم ﴾ أي : بسبب أنهم ﴿ قوم لا يفقهون ﴾ أي : لا يفقهون الحق سوء فهمهم وعدم تدبرهم
﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ أي : من جنسكم عربي مثلكم من بني إسماعيل عليه السلام تعرفون نسبه وحسبه قال ابن عباس : ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم وله فيهم نسب، قال : جعفر بن محمد الصادق لم يصبه شيء من أولاد الجاهلية من زمان آدم عليه السلام، وروى البغوي بسنده عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما ولدني من سفاح الجاهلية في شيء ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام " ١ وقرأ بن عباس والزهري وابن محيصن من أنفسكم بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم ﴿ عزيز ﴾ شديد شاق ﴿ عليه ما عنتم ﴾ قيل : ما فائدة معناه عنتكم، أي دخول المشقة والمضرة عليكم وقال القتيبي : ما أعنتكم وضركم، وقال ابن عباس : ما ضللتم، وقال الضحاك والكلبي : أثمتم فما موصولة ﴿ حريص عليكم ﴾ أي : على إيمانكم شأنكم ﴿ بالمؤمنين ﴾ من غيركم ﴿ رءوف رحيم ﴾ الرأفة شدة الرحمة، قدم الأبلغ لرعاية الفواصل قبل رؤوف بالمطعين رحيم بالمذنبين
١ رواه الطبراني عن المديني عن أبي الحويرث ولم اعرف المديني ولا شيخه وبقية رجاله وثقوا، انظر مجمع الزوائد في كتاب: علامات النبوة باب: في كرامة أصله صلى الله عليه وسلم (١٣٧٢١)..
﴿ فان تولوا ﴾ عن الإيمان بك وناصبوك للحرب ﴿ فقل حسبي الله ﴾ فإنه يكفيك مؤنتهم ويعينك عليهم ﴿ لا اله إلا هو ﴾ كالدليل عليه ﴿ عليه توكلت ﴾ فلا أرجو أو لا أخاف إلا منه ﴿ وهو رب العرش العظيم ﴾ خصه بالذكر لأنه أعظم المخلوقات.
أخرج عبد الله بن احمد عن أبي بن كعب قال : آخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتان ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ إلى آخر السورة وقال هما أحدث الآيات بالله عهدا والله أعلم.
Icon