تفسير سورة الإسراء

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة سبحان١ مكية٢
قال ابن معسود : بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، من العتاق الأول٣ وهن من تلادي٤، يريد أنهن [ نزلن٥ ] في أول ما٦ نزل [ من القرآن٧ ] وهو صغير٨.
١ وتسمى أيضا سورة الإسراء، وسورة بني إسرائيل.
انظر الإتقان ١/١٢٠، والتحرير ١٥/٥..

٢ وهذا قول الجمهور. وقيل الآيتين منها ٧٣و٧٤، وقيل إلا أربعا وهي ٧٣و٧٤و٦٠و٨٠، وقيل إلا خمسا: هاته الأربع و ١٠٧. وقيل إلا خمس آيات غير ما تقدم وهي ٣١و٣٢و٥٧ و٧٨و٢٦، وقيل إلا ثمانيا من ٧٣ إلى ٨٠.
انظر غريب القرآن ٢٥١، والمحرر ١٠/٢٥٤، والتفسير الكبير ٢٠/١٤٦، والاتقان ١/٢٩، والتحرير ١٥/٦..

٣ ط: الأولى..
٤ أخرج هذا الأثر عن ابن مسعود، البخاري في الصحيح كتاب التفسير رقم ٤٧٠٨، ولم يذكر فيه طه والأنبياء. وانظره في المحرر ١٠/٢٥٤، والجامع ١٠/١٣٤، وتفسير ابن كثير ٣/٥ والدر ٥/١٨١، والتحرير ١٥/٥..
٥ ساقط من ق..
٦ ق: من. .
٧ ساقط من ط..
٨ ق: "صفتين"..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة سبحان مكية
قال ابن مسعود: بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، من العتاق الأول وهن من تلادي يريد أنهن [نزلن] في أول ما نزل [من القرآن] وهو صغير.
قوله: ﴿سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾ إلى قوله: ﴿السميع البصير﴾.
4121
" سبحان: عند الخليل وسيبويه منصوب على المصدر، إلا أنه لا ينصرف لأنه معرفة في آخر [هـ] زائدتان. وحكى سيبويه: أن من العرب من ينكره فيصرفه.
وقال أبو عبيدة: هو منصوب على النداء.
وقال بعضهم. هو موضوع موضع المصدر فنصب لوقوعه موقعه، فهو موضع تسبيح.
والتسبيح: يكون [بمعنى الصلاة، ومنه قوله تعالى في يونس:
﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين﴾ [الصافات: ١٤٣] أي: من المصلين.
4122
وفي لغة لبعض أهل [اليمن]، يستعملونه في معنى الاستثناء، ومنه قوله:
﴿أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ﴾ [القلم: ٢٨] أي: تستثنون إذا أقسمتم ﴿لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ﴾ [القلم: ١٧] ولم يستثنوا. فإنما ذكر [هم] بتركهم الاستثناء.
ويستعمل في معنى النور. ومنه حديث النبي ﷺ: " لولا ذلك لأحرقت سبحات وجهه... "، أي نور وجهه.
ومعنى " سبحان الله ": براءة الله من السوء. كذلك فسره النبي ﷺ حين سئل عن معنى التسبيح.
وروي عنه أنه " سئل عن معنى سبحان [الله]، فقال: تنزيه لله من كل
4123
سوء " وسئل عنها علي [Bهـ] فقال: هي كلمة رضيها الله لنفسه. وعنه أيضاً أنه قال: هي كلمة أحبها الله ورضيها لنفسه فأحب أن تقال.
ومعنى المسجد الحرام [أي]: المسجد الممنوع من الصيد فيه، لأن الحرم ممنع. والحرم كله مسجد.
عن أم هانئ أنها قالت: ما أسري برسول الله [ ﷺ] إلا وهو [في بيتي].
4124
وقيل: إنما أسري به من المسجد. عن قتادة عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة [وهو رجل من قومه، قال: قال نبي الله ﷺ: " بينا [أنا] عند البيت بين النائم واليقظان، إذ سمعت قائلاً يقول أحد الثلاثة: فأوتيت بطست من ذهب فيه ماء زمزم، قال: فشرح صدري فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم [ثم] أعيد مكانه ثم خشي إيماناً وحكمة، ثم أتيت بداية بيضاء يقال لها البراق، فوق الحمار ودون البغل، يضع خطوه أقصى طرفه، فحملت عليه. ثم انطلقنا حتى / [أ] تيت السماء الدنيا " ثم ذكر الحديث بطوله
قال ابن شهاب، أخبرني ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن، " أن النبي ﷺ أسري به على البراق وهي دابة إبراهيم خليل الرحمن التي كان يزور عليها البيت الحرام يقع حافرها موقع طرفها. قال: فمرت بعير من عيرات قريش بواد من تلك الأودية فنفرت العير، حتى أتى رسول الله ﷺ إيلياء فأتي بقدحين:
قدح خمر، وقدح لبن، فأخذ رسول الله [ ﷺ] قدح اللبن، فقال له جبريل [ ﷺ] : هديت إلى الفطرة لو أخذت قدح الخمر [ل] غوت أمتك. [و] قال ابن
4125
شهاب: فأخبرني ابن المسيب أن رسول الله [ ﷺ] لقي هنالك إبراهيم وموسى وعيسى، فنعتهم رسول الله [ ﷺ]. فقال: أما موسى فَضَرْب، رجل الرأس كأنه من رجال شنوة. وأما عيسى [فهو] فهو رجل أحمر كأنه خرج من ديماس وأشبه من رأيت به عروة بن مسعود الثقفي. وأما إبراهيم فإنه أشبه ولده به. فلما رجع رسول الله ﷺ قريشاً أنه أُسريَ به، قال عبد الله: فارتد ناس كثير بعدما أسلموا، فأتى أبو بكر الصديق [Bهـ] فقيل له: صاحبكم يزعم أنه أُسريَ به إلى بيت المقدس ثم رجع في ليلة واحدة. قال أبو بكر: [أ] وقال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فاشهد [وا] إن كان كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: أفتشهد أنه جاء الشام في ليلة واحدة؟ فقال إني أصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء. قال أبو سلمة: سمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لما كذبتني
4126
قريش قمت فمثل لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه ".
وقال أبو العالية: " جاء جبريل [إلى النبي] ﷺ ومعه ميكائيل فقال جبريل لميكائيل إيتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر قلبه وأشرح له صدره. فشق عن بطنه فغسله ثلاث مرات، واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسس من ماء زمزم فشرح صدره، ونزع ما كان فيه من غل، وملاه حلماً وإيماناً وعلماً ويقيناً وإسلاماً، وختم بين كتفيه بخاتم النبوءة، ثم أتاه بدابة فحمل عليه، كل خطوة [منها] منتهى بصره، فسار وسار معه جبريل. فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد [كما كان] فقال النبي ﷺ: ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة بسبع مائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه
4127
وهو خير الرازقين. ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما أرضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال من هؤلاء يا جبريل؟ [فقال] هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة. ثم أتى على قوم على إقبالهم رقاع وعلى إدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع / والزقوم، ورضف جهنم، وحجارتها، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله شيئاً وما الله بظلام للعبيد. ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر، ولحم نيء في قدر خبيث، فجعلوا يأكلون من النيء الحبيث ويدعون النضيج الطيب، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ [قال]: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى تصبح، والمرأة تكون عند الرجل [الطيب] فتأتي رجلاً خبيثاً فتبيت معه حتى تصبح، قال: ثم أتى على خشبة من الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا حرقته فقال: ما هذا يا جبريل؟ فقال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه، ثم تلا ﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾. ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها، قال من هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك
4128
تكون عليه آمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يزيد عليها. ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقارض من حديد كلما قرضت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: من هؤلاء [يا جبريل؟ قال: هؤلاء] خطباء الفتنة. ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها. ثم أتى على واد فوجد ريحاً طيبة باردة، وريح المسك وسمع صوتاً. فقال: يا جبريل ما هذه الريح الطيبة الباردة وريح المسك؟ وما هذا الصوت؟ فقال: هذا صوت الجنة تقول: يا رب ايتني ما وعدتني فقد كثر زخرفي، واستبرقي، وحريري، وسندسي، وعبقريي، ولؤلؤي [ومرجاني]، وفضتي، وذهبي، وأكوابي، وصحافي، وأباريقي، وفواكهي، وعسلي، ولبني، وخمري فأين ما وعدتني؟ فقال: لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحاً ولم يشرك بي، ولم يتخذ من دوني أنداداً، ومن خشيني فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جزيته، ومن توكل عليّ كفيته، إني أنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد، وقد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين. قالت: قد رضيت. ثم أتى على واد فسمع صوتاً منكراً ووجد ريحاً
4129
منتنة فقال: ما هذا يا جبريل؟ وما هذا الصوت. فقال: هذا صوت جهنم، تقول: يا رب، ايتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي. [وقد] بعد قعري، واشتد حري، فأتني ما وعدتني، فقال لها: لك كل مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكل خبيث وخبيثة، وكل جبار / لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: قد رضيت. ثم أتى بحديث غلإسراء بطوله، وفيه اختلاف بين الرواة. فمذهب من قدمنا ذكره أن النبي ﷺ [ أسرى] بجسمه وعليه أكثر الناس ".
وروي عن معاوية بن أبي سفيان أنه قال: كانت رؤيا من الله صادقة: وروي ذلك عن عائشة أيضاً [Bها]. واستدل الحسن على صحة ذلك بقوله
﴿وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ﴾ [الإسراء: ٦٠] فالوحي يأتي للأنبياء في [النوم] وفي اليقظة
4130
ودليل ذلك قول إبراهيم [ ﷺ] :﴿ إني أرى فِي المنام أَنِّي [أَذْبَحُكَ]﴾ [الصافات: ١٠٢] ثم مضى لذلك ليفعل ما أمر به في النوم.
والاختيار عند أهل النظر: أن يكون أسرى الله [ تعالى] بجسمه وليست برؤيا في المنام. والدليل على صحة ذلك: أنها لو كانت رؤيا رآها في منامه لم يكن في ذلك دليل ولا حجة على نبوته، لأن كل إنسان يرى أنه ببلد بعيد وهو في بلد آخر. فقد يرى الإنسان أنه في الصين و [هو]. بقانة، وبينهما سيرة نحو السنتين وأكثر. وقد قال الله [تعالى]: ﴿أسرى بِعَبْدِهِ﴾ ولم يقل: بروح عبده، فلا يتعدى ما قاله الله [ تعالى] إلى غيره إلا بدليل قاطع.
وقوله: ﴿إلى المسجد الأقصا﴾ يعني مسجد بيت المقدس.
وقوله: ﴿بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾.
4131
أي: جعلنا حوله البَركَة لسكانه في معايشهم وكثرة ثمارهم وطيبها. وقيل معناه: أن الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى كلهم كانوا ببيت المقدس فمعنى البركة فيه أنه طهر من الشرك وبوعد منه وخص بالأنبياء.
وقوله: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ﴾.
أي: أسري بمحمد [ ﷺ] لكي يرى من آيات الله [ تعالى] وعجائبه [سبحانه] وذلك ما رآه [في] طريقه مما ذكرنا بعضه. وروي: أن أهل مكة قالوا للنبي عليه السلام: إن لنا في طريق الشام إبلاً، فأخبرنا خبرها ومتى تقدم. فأخبرهم أنها تقدم عليهم في يوم سماه لهم مع شروق الشمس، وأنه فقد منها جمل أورق فخرجوا في ذلك اليوم فقال أحدهم: هذه الشمس قد أشرقت وقال: هذه الإبل قد [أقبلت].
4132
وقوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ السميع البصير﴾ معناه السميع لما يقول هؤلاء المشركون من تكذيب محمد ﷺ وغير ذلك. البصير بما يعملون. لا يخفى عليه شيء من ذلك. وكسرت: إن " في قوله: " إنه " لأن معنى الكلام: قل يا محمد سبحان الذي أسرى بعبده، وقل [يا محمد] إنه هو.
ويروى: " أن النبي ﷺ لما أعلم قريشاً بالإسراء كذبوه، وقالوا له: نسألك عن عير لنا، هل رأيتها في الطريق؟ فقال: نعم، فقالوا: أين؟ قال: مررت على عير بني فلان بالرواح، قد أضلوا ناقة لهم، وهم في طلبها. فمررت على [ر] حالهم وليس بها منهم أحد. فوجدت في إناء من آنيتهم ماء فشربته / فسلوهم إذا رجعوا هل وجدوا الماء [في] الإناء أم لا؟ فقالوا: هذه آية. قال: ومررت على عير بني فلان فنفرت مني الإبل فانكسر منها جمل أحمر عليه أبناء فلان. فقالوا: هذه آية أخرى. [قال ومررت على عير بني فلان] بالتنعيم حين انشق الفجر. قالوا: فإن كنت
4133
صادقاً، فإنها تقدم الآن. قال أجل. قالوا: فحدثنا بعدتها، وأحمالها، ومن فيها. قال: كنت مشغولاً عنها. فمثل ذلك لرسول الله [ ﷺ] فقال هي منحدرة من الثنية يقدمها جمل أورق عدتها كذا وكذا، وأحمالها كذا وكذا، فيها فلان وفلان، يسمي الرهط الذين فيها، وخرج رهط من قريش يسعون إلى الثنية فإذا هم بها حين انحدرت على ما [وصفها] لهم [النبي] ﷺ ".
وأخبار الإسراء كثيرة مختلفة الألفاظ، منها المطول، ومنها المختصر، والمعاني متقاربة، فاقتصرنا على ما ذكرنا اختصاراً.
قوله: ﴿وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ إلى قوله: ﴿عَبْداً شَكُوراً﴾.
ذرية نصب على النداء، أو على البدل من وكيل، لأنه بمعنى الجميع، وعلى أنه مفعول ثان ليتخذوا. أو على إضمار أعني. هذا كله على قراءة من
4134
قرأ [يتخذ [وا] بالياء. فأما من قرأ بالتاء، فذرية نصب على النداء أو على البدل من وكيل وفيه بعد في المعنى.
والمعنى: سبحان الذي أسرى بعبده وأتى موسى الكتاب وهو التوراة. لكنه خرج من الغيبة إلى الأخبار وذلك كثير في القرآن وفي كلام العرب.
وقوله: ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾.
[أي]: بياناً لهم ودليلاً إلى الحق لئلا يتخذوا من دوني شريكاً. وقيل: وكيل رب. وقيل: كفيل. وقيل: وكيلاً كافياً. وقيل معناه: لئلا يتخذوا من دوني رباً.
وعني بالذرية هنا جميع من احتج عليهم بهذا القول من جميع الأمم لأن من على وجه الأرض من جميع بني آدم كلهم ذرية من أنجى الله [ تعالى] في السفينة مع نوح [ ﷺ].
4135
وهو نوح وثلاثة بنون وامرأته وثلاث نسوة لبنيه. وبنوه هم سام وحام ويافث. أما سام فأبو العرب وأما حام فأبو الحبش وأما يافث فأبو الروم. وقد تقدم ذكر هذا بأوعب من هذا البيان.
ثم قال تعالى: ﴿نَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً﴾.
يعني: نوحاً [ ﷺ]. قال سلمان الفارسي: إنما سمي نوحاً عبداً شكوراً، لأنه كان إذا لبس ثوباً حمد الله، وإذا أكل طعاماً حمد الله، وهو قول مجاهد.
وقيل: إنه كان يقول إذا أكل [طعاماً] الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني. وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني. وإذا لبس ثوباً قال: الحمد لله الذي أكساني، ولو شاء أعراني. وإذا لبس نعلاً، قال: الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني. وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني
4136
الأذى ولو شاء لحبسه.
وقيل: سمي " شكوراً " / لأنه كان يقول: إذا خرج البراز منه: الحمد لله الذي سوغنيك طيباً وأخرج مني أذاك وأبقى منفعتك.
وقيل: سمي بذلك لأنه كان إذا لبس ثوباً جديداً قال: الحمد لله، وإذا أخلقه قال الحمد لله. وقال القرظي: كان [يقول] إذا أكل أو شرب أو ركب دابة أو لبس ثوباً [ال] حمد لله. و [روي] عن سلمان أيضاً مثله.
فالحمد لله والشكر له والإقرار له بالحمد على نعمه يعني: بالشكر. وروي عن بعض الصحابة أو بعض التابعين أنه قال: لو جمع نعم الدنيا كلها في قشرة بيضة ثم لحسه مؤمن، وقال الحمد لله لأدى شكر [هـ] ذلك.
4137
وروى مالك عن سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة [أنه] قال: قال رسول الله ﷺ:
" إذا مرض العبد، المؤمن بعث الله [ تعالى] إليه ملكين فيقول: انظرا ما يقول لعواده. فإن هو إذا دخلوا عليه حمدا لله رفعوا ذلك إلى الله [ تعالى]، وهو أعلم، فيقول الله تعالى: لعبدي، إن أنا توفيته، أن ادخله الجنة، وإن أنا شفيته، أن أبدله لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وأن أكفر عنه سيئاته ".
وروى مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ﷺ
4138
يرويه عن ربه [ تعالى قال]: " إذا ابتليت عبدي [بلاء] فصبر أبدلته لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه وإن أنا قبضته في علّته تلك قبضته إلى رحمتي وكرامتي ".
قوله: ﴿وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب﴾ إلى قوله: ﴿أَكْثَرَ نَفِيراً﴾.
معنى القضاء في اللغة: أحكام الشيء والفراغ منه. فمعنى الآية: وفرغ ربك إلى بني إسرائيل فيما أنزل من كتابه إلى موسى [ ﷺ] إنكم يا بني إسرائيل تعصون الله وتخ [ا] لفون أمره وتستكبرون عليه استكباراً شديداً مرة بعد مرة. قال ابن عباس وابن زيد: ﴿وَقَضَيْنَآ [إلى بَنِي] إِسْرَائِيلَ﴾ أعلمناهم بذلك في
4139
كتابهم.
وقيل: معناه: إن ذلك سبق في أم الكتاب عليهم أنهم يفسدون ويخالفون أمر الله [سبحانه] ويستكبرون في الأرض مرتين. قاله قتادة.
وروي [ذلك] أيضاً عن ابن عباس قال: [قضاء] قضاه الله [ تعالى] على القوم كما تسمعون. قال مجاهد: دخلت على ابن عباس فقلت: إن على الباب رجل يقول في القدر. فقال: ادخلوه علي. فقلت ما تريد به؟ قال: اقرءوا عليه قول الله: ﴿وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً﴾ قال فقضى عليهم ليفسدن في الأرض مرتين وليعلن علواً كبيراً قبل أن يخلقهم، فقضى عليهم ما علم أنهم عاملون، وكتبه عليهم ففعلوه.
قال ابن عباس وابن مسعود: كان إفساد بني إسرائيل [في الأرض] في أول
4140
مرة قتل زكرياء [ ﷺ] فبعث الله [ تعالى] عليهم ملك [ال] نبط. فبعث إليهم الجمود من أهل فارس، فهم أولوا بأس شديد. / فتحصنت بنو إسرائيل وخرج فيهم بختنصر يتيماً مسكيناً، خرج يستطع [م] وتلطف حتى دخل المدينة. فأتى مجالسهم فسمعهم يقولون: لو علم عدونا ما قذف في قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا، فخرج بختنصر حين سمع ذلك منهم واشتد القيام على الجيش فرجعوا فذلك قوله: ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ الآية: ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم فاستنفذوا ما في أيديهم، فذلك قوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ﴾ الآية. و " نفيراً " معناه عدداً.
وقال ابن زيد: كان إفسادهم الأول قتل زكرياء، والثاني قتل يحيى.
4141
فسلط الله عليهم ابور ذا الاكتاف، وهو ملك من ملوك فارس، في قتل زكرياء، وسلط عليهم بختنصر في قتل يحيى.
وقال قتادة: بعث عليهم أول مرة جالوت والثانية بختنصر.
ومعنى قوله: ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا﴾ أي: أول المرتين اللتين قضينا إلى بني إسرائيل، أي أو [ل]. الفسادين.
وقوله: ﴿فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار﴾.
أي: ترددوا بين الدور والمساكن وذهبوا وجاءوا.
وقال ابن عباس: " جاسوا " مشوا. وقال الزجاج: الجوس طلب الشيء
4142
باستقصاء. فمعناه: طلبوا هل يجدون أحداً.
وقال بعض أهل اللغة: معنى " جاسوا " قتلوا.
وقوله: ﴿وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً﴾.
أي: كان جوس القوم خلال ديار بني إسرائيل وعداً من الله [ تعالى]، لا يخلف.
قال ابن عباس وقتادة: أتاهم في المرة الأولى جالوت فجاس خلال ديار بني إسرائيل وضرب عليهم الخراج والذل. فسألوا الله [ تعالى] أن يبعث إليهم ملكاً يقاتلون في سبيل الله. فبعث الله طالوت. فقاتلوا جالوت، فنصره الله، وقتل جالوت، على يدي داوود ورد الله [ تعالى] إلى بني إسرائيل ملكهم.
وعن مجاهد أنه قال: جاءهم بختنصر في أول مرة من جهة فارس فهزمهم بنو إسرائيل، ثم رجعوا ثانية فقتلوا بني إسرائيل ودمر [و] هم تدميراً، وجلوهم عن بيت المقدس فلم يصلوا إلى دخوله سبعين سنة.
4143
وروي عن مجاهد أنه قال: إنما جاءهم في أول مرة قوم من أهل فارس معهم بختنصر يتجسسون أخبارهم ثم رجعت فارس وقد وعى بختنصر أخبارهم دون أصحابه، ولم يكن قتال.
وقيل: إنما جاءهم في المرة الأولى، أي: بختنصر ومن معه من جبابرة فارس، بعثه الله نقمة لهم حين أفسدوا وقتلوا يحيى بن زكرياء. ويروى: أن يحيى كان قد قال لهم: إياكم أن يقع من دمي شيء في الأرض فتهلك بنو إسرائيل. فذبحوه واحتفظوا بدمه، فجعلوه في طست من ذهب. فوقعت منه نقطة في الأرض / فما زالت تفور وتغلي حتى هجم عليهم بختنصر.
فيروى: أنه ذبح على ذلك الدم سبعين ألفاً من بني إسرائيل، فهدأ الدم. سبى بني إسرائيل حتى سبى أبنائهم وخرج بهم إلى أرض العراق.
ويروى: أن الفساد الثاني الذي ارتكب بنو إسرائيل هو قتلهم زكرياء ويحيى عليهم السلام بعد أن أقاموا في الدعة والسلامة عشرين ومائتي سنة. فأرسل عليهم من قتلهم وسباهم، وحرق بيت المقدس وأخرجه. فلم يزل الذين ظهروا عليهم ببيت
4144
المقدس حتى فتحه الله تعالى في زمان عمر رضي الله عنهـ وفيه الروم فقتلوا وأخرجوا منه إلى الآن لا يدخلونه إلا مستخفين.
وقوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ﴾.
قال السدي: هي ما نصر الله تعالى بني إسرائيل، إذ غزوا النبط، فأصابوا منهم واستنقدوا ما في أيديهم.
وقيل: هو إطلاق الملك الذي غزاهم [ما في يديه من] أسراهم ورد ما كان أصاب من أموالهم من غير قتال، سخره الله تعالى لذلك فهو رد الكرة لبني إسرائيل.
4145
وقيل: هي نصر الله تعالى إياهم على جالوت حتى قتلوه.
وقوله: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً﴾.
أي: عدد [اً]، وذلك في أيام داود.
وقوله: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ﴾.
المعنى: أن الله أخبرنا عما قال لبني إسرائيل في التوراة لنتأسى بذلك
﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ﴾، يا بني إسرائيل أي: [إن] أطعتم الله فيما أمركم به على نعمه عندكم إذا دلكم من عدوكم ﴿أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ﴾ أي: ما فعلتم من ذلك لأنفسكم تفعلوه، وعليكم يعود نفعه. ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ﴾ أي: عصيتم الله [ تعالى] ﴿ فَلَهَا﴾ أي: فإلى أنفسكم تسيئون. لأن ضرره عليكم يعود.
4146
وقيل: معنى ﴿فَلَهَا﴾ أي: إليها. كما قال: ﴿أوحى لَهَا﴾ [الزلزلة: ٥] أي: إليها. أي: فإلى أنفسكم يعود الضرر. وقيل: اللام على بابها [على معنى] فلها يكون العقاب على الإساء.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ﴾.
والمعنى: فإذا جاء الفساد الثاني من فسادكم يا بني إسرائيل، وهو قتلهم يحيى على ما ذكرنا ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ﴾ أي: خلينا بينكم وبينهم، ولم نمنعهم منكم. فبعث الله عليهم بختنصر فقتل المقاتلة وسبى الذراري وأخذ ما وجد من الأموال ودخلوا بين المقدس. وهو قوله: ﴿وَلِيَدْخُلُواْ [المسجد] كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ فتبروه وخربوه وألقوا فيه
4147
الجيف والعذرة. وقيل: [ليسوء] معناه: أمرناهم بغزوكم بما عصيتم وأفسدتم.
﴿لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ [أي]: ليسوء المبعوثون عليكم وجوهكم.
ومن قرأ بفتح الهمزة، فمعنى: " ليسوء " الوعد بسوء الله. أو ليسوء العذاب. ومن قرأ بالنون فهو على الأخبار عن الله جل ذكره.
وقوله: ﴿وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾.
أي: كما دخلوه في الانتقام / منكم في فسادكم الأول.
4148
وقوله: ﴿وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً﴾.
قال قتادة معناه: ما علوا عليه. وقيل معناه: ويتبروا ما داموا عالين.
وحقيقة أن ما، وما بعدها في موضع نصب على الظرف. والتقدير: وليتبروا وقت غلبتهم. والتتبير التدمير.
وقوله: ﴿مَا عَلَوْاْ﴾ عند الزجاج [ما] في موضع الحال. أي: وليدمروا في حال علوهم.
قال تعالى: ﴿عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾.
المعنى: لعل ربكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بعد انتقامه منكم بالقوم الذين يبعثهم عليكم. و ﴿عسى﴾ من الله واجبة وقد فعل بهم ذلك فكثر عددهم وجعل منهم الملوك والأنبياء.
ثم قال: ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾.
أي: [و] إن عدتم [ل] أمخالفة أمري، وقتل أنبيائي عدنا عليكم بالقتل
4149
والسباء والذلة والصغار. فعادوا، فعاد الله عليهم بذلك. إذ بعث محمداً. قال ابن عباس: عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد. فسلط الله عليهم ثلاثة ملوك فارس. وعنه: عادوا فسلط الله عليهم المؤمنين.
وقال قتادة: عادوا فسلط الله عليهم محمداً [ ﷺ] يعطونه الجزية عن يد وهم صاغرون.
وقال الضحاك: الرحمة هنا بعث محمد ﷺ.
وقال الأخفش: المعنى: عسى ربكم أن يرحمكم إن فعلتم ذلك.
ثم قال: ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً﴾.
أي: سجناً يسجنون فيها. قاله قتادة وغيره. وقال ابن عباس: ﴿حَصِيراً﴾ مأوى. وقال الحسن: ﴿حَصِيراً﴾ بساطاً ومهاداً كما قال: ﴿لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ [الأعراف: ٤١].
ويقال للملك: ﴿حَصِيراً﴾ بمعنى محصوراً لأنه محجوب عن الناس. ويقال
4150
للبخيل: حصوراً وحصيراً لمنعه ما عنده، ومنه الحصر في المنطق لأنه يمتنع عليه الكلام. ومنه الحصور عن النساء لامتناع الجماع عليه، ومنه الحصر في الغائط إذا احتبس عليه. وقيل للحصير المنسوج حصيراً، لأنه حُصِرت جوانبه عن أن تنفلت. وقيل: لأنه حصرت طاق [اته بعضها من بعض.
وقوله: ﴿إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾.
المعنى: أن هذا القرآن يا محمد يرشد من اهتدى به للحال التي هي أقوم الحالات أي: أصوبها. وذلك دين الله [سبحانه] المستقيم وتوحيده [جلت عظمته] والإيمان بكتبه ورسله وهو مع هدايته يبشر المؤمنين العاملين الأعمال الصالحة أن لهم أجراً كبيراً وهو الجنة /.
وكل شيء في القرآن أجر كريم وأجر كبير ورزق كريم فهو الجنة. وقيل:
المعنى: ويبشر [الله] المؤمنين بذلك. قال مقاتل وغيره: التي هي أقوم شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل معناه يهدي للخصال التي هي أصوب مما أمر الله [ تعالى]، ودعا إليه ووعد عليه العطاء الجزيل والثواب العظيم وعلى هذا أكثر المفسرين. ولا إله إلا الله أصل الخصال الحسنة وأعظم ما دعا الله إليه عباده وندبهم إلى اعتقاده فهي العروة الوثقى والكلمة المنجية من العذاب.
قال [تعالى]: ﴿وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة﴾.
أي: لا يصدقون بها أعددنا لمقدمهم على ربهم عذاباً أليماً، أي: مؤلم وموجع، وذلك عذاب جهنم [أعاذنا الله منها].
قال: ﴿وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير﴾.
المعنى: ويدع الإنسان على نفسه وولده وماله بالشر دعاء مثل دعائـ[هـ]
4152
ربه [ تعالى] بالخير. أي: يسأل أن يهلك نفسه وولده وماله إذا غضب كما يسأل أن يجيبه ويحيي ولده ويثمر ماله إذا رضي، فلو استجاب له في الشر كما يستجيب له في الخير لأهلكه.
ثم قال: ﴿وَكَانَ الإنسان عَجُولاً﴾.
أي: يعجل على نفسه بالدعاء، ولا يعجل الله [ تعالى] عليه بالإجابة. وروي أنها نزلت في النضر بن الحارث [بن] علقمة كان يدعو ويقول:
﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢]. وكان يدعو على نفسه بالشر كما يدعو [لها] بالخير. ﴿وَكَانَ الإنسان عَجُولاً﴾ أي: عجلة النضر بالدعاء على نفسه، كعجلة آدم حين نهض [قبل] أن
4153
يجري فيه كله.
وقال ابن عباس: لما نفخ الله [ تعالى] في آدم من روحه فدارت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري منها شيء في جسده إلا صار لحماً [دوماً]. فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده [فأعجبه] ما رأى من حسنه فذهب لينهض فلم يقدر فهو قوله: ﴿وَكَانَ الإنسان عَجُولاً﴾ فالإنسان هنا في موضع الناس. وروى أن النبي ﷺ دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً، فجعل يئن من الليل. فقالت له: ما بالك تئن؟ فشكى إليها ألم القد. فأرخت كتافه. فلما نامت أخرج يده وهرب. فلما أصبح النبي [ ﷺ] دعا به، فأعلم شأنه. فقال: اللهم اقطع يدها، فرفعت سودة يدها تتوقع الاستجابة، أن يقطع الله يدها. فقال النبي ﷺ: إني سألت [الله] أن
4154
يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلي رحمة، لأني بشر أغضب كما يغضب البشر، فلترد سودة يدها
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل﴾.
معناه: أن الله [ تعالى] عرف عباده نعمه عليهم، / فمن نعمه [أن] جعل الليل مخالفاً للنهار ليسكنوا في الليل ويتصرفوا في معائشهم [التي قدرت لهم] بالنهار، وليعلموا عدد [السنين والحساب أي: عدد] سنينهم وحساب ساعات الليل والنهار.
ومعنى ﴿آيَتَيْنِ﴾ أي: جعلنا الليل والنهار علامتين.
4155
فعلامة النها [ر] الشمس وعلامة الليل القمر ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾. أي: بيناه [تبييناً] بياناً شافياً.
وقوله: ﴿فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل﴾، أي: لم يجعل للقمر ضياء ونوراً كالشمس وقوله: ﴿وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً﴾ أي: مضيئة، وهي: الشمس.
والمحو الذي في القمر هي اللطخة التي تظهر فيه للمتأمل، ويروى أن الله جل ذكره أمر جبريل عليه السلام، فأمرَّ بجناحه على القمر فصار فيه المحو الذي فيه. وقد كان ضياؤه مثل الشمس أو أشد، ولكن الله جل ذكره فرق بينهما ليعرف الليل من النهار، وليعلم عدد السنين والشهور، والأجل، والحج وغير ذلك.
وعن ابن عباس: أن النبي ﷺ قال: " خلق الله [ تعالى] شمسين من نور
4156
عرشه فأما ما كان في سابق علمه أنه يدعها شمساً فإنه جعلها مثل الدنيا على قدر ما بين مشارقها إلى مغاربها. وأما ما كان في سابق علمه أن يطمسها ويحولها قمراً فإنه جعلها دون الشمس في العظم، ولكن إنما يرى صغرها لشدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض. ولو ترك الله القمر كما خلقه أول مرة لم يعرف الليل من النهار، ولا النهار من الليل، ولا عدد الأيام ولا الشهور، فأرسل جبريل [عليه السلام] إلى القمر فأمرَّ جناحه على وجه القمر وهو يؤمئذ شمس، ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي منه النور فذلك قوله: ﴿وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ﴾ الآية " فالسواد الذي يرون في القمر أثر المحر.
قوله: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي [عُنُقِهِ]﴾.
المعنى: وكل إنسان ألزمناه مما قضي له أنه عامله وصائر إليه من شقاء أو سعادة. فعمله في عنقه لا يفارقه.
وقوله: ﴿أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي [عُنُقِهِ]﴾ إنما هو مثل: خوطبوا به على ما كانوا يستعملون في التشاؤم والتفاؤل من سوائح الطير وبوارحها، فأعلمهم الله
4157
[ تعالى] أن كل إنسان قد ألزمه الله طائره في عنقه نحساً كان أو سعداً.
قال ابن عباس: " طائره " عمله وما قدره الله [ تعالى] عليه، وكذلك قال مجاهد، [وقال]: وما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، وقرأ: ﴿أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب﴾ [الأعراف: ٣٧] أي: ما سبق لهم. يعني: كتاب عمله.
وإنما خص العنق بالذكر [دون] سائر الأعضاء لأنه تعالى خاطب العرب / بلسانها وبما تستعمله من لغاتها. والعنق عند العرب هو موضع السمت وموضع القلادة والأطواق وغير ذلك، فنسب إلزام الكتاب إلى العنق لكثرة استعمالهم المعاليق فيه. ألا ترى أنهم قد أضافوا الأشياء الملازمة سائر الأبدان للأعناق، كما أضافوا جنايات أعضاء البدن إلى الأيدي فقالوا: " ذلك بما كسبت يداك ". وإن
4158
كان الذي كسبه لسانه أو فرجه.
وقيل: " طائره " حظه. من قولهم: طار بينهم فلان بكذا، إذا أخرج سهمه على نصيب [من] الأنصباء.
وقوله: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً﴾.
قرأه مجاهد والحسن وابن محيص " ويخَرج " بياء مفتوحة. على معنى ويخرج له الطائر يوم القيامة كتاباً. فيكون الكتاب على هذه القراءة حالاً.
وقرأ أبو جعفر " ويُخرج " بياء مضمومة، على ما لم يسم فاعله والذي قام مقام الفاعل مضمر [في] الفعل و " كتاباً " منصوب أيضاً على الحال، و " كتاباً " على
4159
قراءة الجماعة مفعول بـ " نخرج ".
وقال قتادة: " طائره " عمله.
والمعنى: على قراءة أبي جعفر ونخرج له ذلك العمل ﴿كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً﴾ قال معمر: وتلى الحسن ﴿عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ﴾ [ق: ١٧]، فقال: يابن آدم بسطت لك صحيفتك، ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك فأما الذي عن يمينك ف [ي] حفظ حسناتك وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت: أقلل أو أكثر، حتى [إذا] مت طويت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتاباً تلقاه منشوراً. فيقال لك.
﴿اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ قد عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك.
ومعنى: ﴿اقرأ كتابك﴾.
4160
أي: كتاب عملك الذي عملته في الدنيا كانت الملائكة تكتبه عليك ﴿كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ أي: حسيبك اليوم نفسك يحسب عليك أعمالك ويحصيها عليك لا ينبغي عليك شاهداً غيرها.
قال: ﴿مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ﴾.
أي: من استقام على طريق الحق فليس ينفع إلا نفسه لأنه يوجب لها رضوان الله [ تعالى] ودخول جنته. ﴿وَمَن ضَلَّ﴾ أي: ومن جار أي: عن قصد الحق فليس يضر إلا نفسه لأنه يوجب لها غضب الله [سبحانه] ودخول النار [أعاذنا الله منها].
وتقدير من اهتدى فإنما يكسب أجر هدايته لنفسه: ومن ضل فإنما يكسب إثم ضلالته لنفسه وهو مثل قوله: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: ٧] [وهو] مثل
4161
قوله: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾.
ويروى أنه نزلت في أبي سلمة / بن الأسود آمن، وفي الوليد بن المغيرة بقي على كفره. وكان الوليد بن المغيرة يقول: اتبعوني وأنا أحمل أوزاركم. فأنزل الله، جل ذكره: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾. والآية عامة في كل مؤمن وكافر.
ثم قال: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾.
أي: لا يحمل أحد ذنبغيره. وقال " وازرة " بمعنى نفس وازرة. وقيل معناه: لا يعمل أحد بذنب لأن غيره قد عمل به كما قال الكفار.
﴿إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا علىءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٢].
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾.
أي: لا نهلك قوماً إلا بعد الأعذار إليهم بالرسل. وقال قتادة: إن الله [ تعالى]
4162
ليس يعذب أحداً حتى يسبق من الله إليه خبر، أو تأتيه من الله [ تعالى] بينة.
وقال أبو هريرة: إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة، والأبكم، والأخرس والشيوخ، الذين لم يدركوا الإسلام فأرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار. فيقولون [كيف] ولم يأتنا رسول؟ قال: ولو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً فيرسل الله [ تعالى] إليهم [رسولاً] فيطيعه من كان يريد أن يطيعه. ثم قرأ أبو هريرة: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾.
وقيل: معناه ما كنا معذبين أحداً في الدنيا بالإهلاك حتى نبعث رسولاً يبين لهم بأي شيء يعذبهم الله [سبحانه] وبأي شيء يدخلهم الله الجنة.
وهذا قول حسن، لأن الآخرة ليست بدار تعبد، فيبعث الله فيها إلى أحد رسولاً، أعلمنا الله أنه لا يعاجل أحداً بعذاب الدنيا إلا بعد إنذار برسول. فأما عذاب
4163
الاخرة يحل على من كفر بالتوحيد، وإن لم يلأته رسول، لأن الله جل ذكره قد نصب دلالات، وعلامات، تدل على توحيده كل الخلق. فمن كفر ولم تنفعه تلك الدلالات والآيات دخل النار وإن لم يأته رسول. فإنما تأتي الرسل بالشرائع والتحريض على التوحيد الذي قد نصب الله [ تعالى] عليه الدلالات والعلامات.
قال تعالى: ﴿وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا﴾.
قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ وأبو عثمان النهدي وأبو العالية أمَّرنا مشدداً وكذلك روي عن أبي عمرو. وقرأ الحسن والأعرج وابن أبي إسحاق وخارجة عن نافع بالمد. وقراءة الجماعة بالقصر والتخفيف.
ومعناها: عند أبن عبس: أمرنا إشراف أهلها بالطاعة ففسقوا فيها.
وقيل: " المترفون " هنا الفسقة. وقيل: هم المستكبرون. والفاسق والمستكبر إذا أمر عصما فيحق عليه القول بعصيانه.
4164
وعن قتادة: أن معنى " أمرنا " أكثرنا.
وقال الكسائي: يجوز أن يكون " أمرنا " من الإمارة، كالمشددة، وأنكر أن يكون / بمعنى أكثرنا. قال: ولا يقال [أمرنا] بمعنى أكثرنا إلا بالمد. وقد حكى أبو زيد وأبو عبيد " أمرنا " مقصوراً، بمعنى أكثرنا. ويقوي هذا التأويل الذي رده الكسائي أن الحديث: " خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة. فالسكة
4165
المأبورة النخل المصلح. والمهرة المأمورة الكثيرة النتاج. وهي من أمر.
فأما من قرأ بالتشديد، قال ابن عباس معناه سلطنا، أي: جعلنا لهم إمرة وسلطاناً ففسقوا. والمترفون هنا الإشراف.
ويجوز أن يكون بمعنى: أكثرنا، قاله: الكسائي وغيره.
فأما من قرأ بالمد، فمعناه أكثرنا عددهم ونساءهم. يقال: أمر بنو فلان أمراً إذا كثر عددهم، وغلإمر منه الاسم ومنه قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾ [الكهف: ٧١] أي: عظيماً.
وقوله: ﴿فَفَسَقُواْ فِيهَا﴾.
أي: فخالفوا أمر الله [سبحانه] ﴿فَحَقَّ عَلَيْهَا القول﴾ أي: وجب عليها
4166
وعد اللع [ تعالى] الذي وعد من عصاه [به] ﴿فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾ أي: خربناها تخريباً وأهلكنا من فيها هلاكاً.
قوله: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ﴾.
هذه الآية فيها تهدد ووعيد لمشركي قريش أن يحل بهم من الهلاك مثل ما حل بالأمم الماضية بعد نوح من الأهلاك بذنوبهم.
ثم قال تعالى: ﴿وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً﴾.
أي: حسبك يا محمد بعلم ربك وإحصائه لذنوب عباده.
والقرن عشرون ومائة سنة. وقيل مائة سنة. وقيل: أربعون سنة.
ودخلت الباء في " كفى بربك " و " كفى بالله " لأن في الكلام معنى المدح. فالباء تدل عليه. كما يقول: أكرم به رجلاً. وناهيك به صاحباً.
قال تعالى: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ﴾.
أي: من كان يعمل للدنيا وإياها يطلب ولا يوقن بمعاد ولا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً ﴿عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ﴾ من توسيع أو تقتير لمن نريد.
وقرئت " ما شاء " بالياء، على معنى: ما يشاء الله، أو على معنى: ما يشاء المعجل له ثم يقطره إلى جهنم يصلاها مدموماً مدحوراً.
وقال أبو إسحاق الفزاري: معناه: ما نشاء لمن نريد هلاكه. وقال ابن عباس: " مذموماً ": ملوماً.
[ثم قال تعالى] ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾.
أي: ومن أراد ثواب الآخرة وعمل لها عملها الذي هو طاعة الله " وهو مؤمن " أي: مصدق بثواب الله [سبحانه] وعقابه [ تعالى] ﴿ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً﴾
وشكر الله [ تعالى] إياهم على سعيهم، حسن جزائه [تعالى] لهم على أعمالهم وتجاوزه عن سيئاتهم.
قال: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ﴾.
" كلا " منصوب بنمد و " هؤلاء " / بدل من كل. والمعنى: أن الله [ تعالى] يرزق كلا: الذين يريدون العاجلة، والذين يريدون الآخرة من عطائه إلى بلوغ أجل الفريقين. ثم تفترق بهما الأحوال بهد الممات. وتفرق بهم الورود يوم القيامة. فمن أراد العاجلة فإلى جهنم يرد ومن [أراد] الآخرة فإلى الجنة يرد.
ثم قال: ﴿وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾.
أي: ممنوعاً عمن بسطه الله [ تعالى] عليه، قال قتادة: محظوراً منقوصاً.
وقال في معنى الآية: إن الله [ تعالى] قسم الدنيا بين البر والفاجر: والآخرة خصوصاً عند ربك للمتقين.
ومثل هذه الآية في معناها على قول قتادة: ﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة﴾ [الأعراف: ٣٢] أي: يشترك في الدنيا في الطيبات البر والفاجر. و [الآخرة خصوصاً عند ربك للمتقين، أي]: تخص الآخرة للمؤمنين.
قال تعالى: ﴿انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾.
والمعنى: انظر يا محمد كيف هدينا أحد الفريقين إلى السبيل الأرشد، ووفقناه إلى الحق. وخذلنا الفريق الآخر فأضللناه عن الحق، ﴿وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾ إذ ينصرف فريق إلى النعيم المقيم، وفريق إلى عذاب جهنم لا يفتر عنهم أبداً.
وقيل: ﴿وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ﴾ في أهل الجنة يتفاوتون في المنازل فيها، منهم من
يعلو على بعض في النعيم والدرجات على قدر منازلهم وأعمالهم. قال النبي ﷺ " بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها " قال الضحاك: من كان من أهل الجنة عالياً رأى فضله على من هو أسفل منه ومن كان دونه لم ير أن أحداً فوقه أفضل منه.
معنى الآية أن ظاهرها خطاب للنبي ﷺ والمراد أمته، والمعنى لا تجعلوا مع الله شريكاً فيقعد كل واحد منكم مذموماً، أي: ملوماً على ما صنع " مخذولاً " أي: قد أسلمه ربه.
قال تعالى: ﴿وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾.
قال ابن عباس: قضى معناه: أمر. وفي حرف عبد الله: " ووصى ربك " وكذلك قرأها الضحاك و [ال [معنى أمر أن تفرده بالعبادة فلا تجعلوا له شريكاً.
4171
ثم قال: ﴿وبالوالدين إِحْسَاناً﴾.
أي: وأمركم أن تحسنوا بالوالدين إحساناً ومعنى " بالوالدين " إلى الوالدين.
وقوله: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا﴾.
من وحد يبلغن فلأنه فعل مقدم فاعله ﴿أَحَدُهُمَا﴾. ومن أظهر ضمير اثنين فلأنه تقدم ذكر الوالدين فثناهما لتقدم ذكرهما قبل الفعل. ويكون أحدهما مبتدأ وكلاهما معطوف عليه والخبر محذوف. وقيل: أن أحدهما أو كلاهما بدل من المضمر في يبلغن.
ثم قال [تعالى]: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾ /.
4172
في " أف " / سبعُ لغات: أفَّ بالفتح وأفَّ بالكسر، [و " أف "، بالكسر] والتنوين. فهذه ثلاث قرئ بهن وأربع لم يقرأ بهن وهن: أفّاً بالنصب والتنوين وأفٌّ بالضم والتنوين وأف بالضم غير منون. وحكى الأخفش: " أفي " بالياء.
فمن فتح أو ضم أو كسر حركة لالتقاء الساكنين. ومن فتح ونون اعمل الفعل فيه كما تقول: ما قتلت أفاً ولا تفاً. ومن كسر ونون كسر لالتقاء الساكنين وشبهه بالأصوات فنونه.
وقيل أن من نونه جعله نكرة، معناه: لا تقل لهما قبيحاً من القول. ومن لم ينونه جعله معرفة معناه: لا تقل لهما القبيح من القول.
4173
وقيل [المنَوَّن] منه وغير المُنَوَّن سواء، وإنما يكون التنوين فرقاً بين المعرفة والنكرة فيما جاء ناقصاً على حرفين نحو مه وصه، ولكن شبه هذا بما جاء على حرفين من هذه فنون على التشبيه لأنه يعطى ذلك للمعنى من التعريف والتنكير.
ومن ضم حركة لالتقاء الساكين. و [من] خصه بالضم على التشبيه بقبل وبعد. وقيل: ضم على الاتباع لضمه الهمزة كما تقول: مُدَّ. فتضم الدال اتباعاً لضمة الميم.
ومن نون المضموم فعلى القولين الأولين: على التشبيه بالأصوات [أو] للفرق بين المعرفة والنكرة. واستبعد الأخفش التنوين مع الضم. قال: لأنه ليس معه لام. كأنه يقدره إذا رفعه ونونه مرفوعاً بالابتداء. كما قيل: ويل له. وقال في نصبه بالتنوين: إنه مثل: تعساً له.
ومعنى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾ أي: أن يبلغا عندك من الكبر ما يحدثان عندك من الضعف تحتهما، فلا تقذرهما حين ترى الأذى. ولكن تم [ي] ط عنهما ذلك كما كانا
4174
يميطان [هـ] عنك صغيراً، قاله مجاهد.
وقيل معناه: لا تستثقلهما ولا تغلظ عليهما في القول ولا تتبرم عليهما. و [أ] صل هذا: أن الإنسان إذا وقع عليه غبار أو شيء فتأذى به نفخه فقال: " أف " وقيل الأف: وسخ الأظفار. والتف الشيء الحقير، نحو وسخ الأذن. والأول أشهر وأعرف.
وقوله: ﴿وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾.
[أي]: ولا تضجر عليهما وتصح. وقال عطاء: لا تنفض يديك على والديك.
﴿وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾، قال ابن جريج: أحسن ما تجد من القول. وعن عمر ابن الخطاب [Bهـ] أنه قال: لا تمتنع من شيء يريدانه. وقال قتادة: ﴿قَوْلاً كَرِيماً﴾
4175
سهلاً ليناً. وقال ابن المسيب: هو قول العبد المذنب الذليل للسيد الفظ الغليظ.
قال: ﴿واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة﴾.
أي: كن لهما ذليلاً، رحمة منك لهما / وتعظيماً فيما أمر [ا] ك به مما ليس معصية [لله تعالى]. هذا قول عروة بن الزبير. وعنه أيضاً أن معناه: لا تمتنع من شيء أحياه.
والذل والذلة: مصدر الذليل. والذل: بكسر الذال من غيرهما، مصدر الذلول. نقول دابة ذلول بينة الذل إذا كانت لينة. ومنه قوله:
4176
﴿جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً﴾ [الملك: ١٥].
وقرأ ابن جبير والجحدري " الذِل " بكسر الذال، بمعنى: ألِنْ لهما جانبك واسمح لهما. يقال رجل ذلول بين الذل إذا كان سمحاً لينا مواتياً. ومنه
﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً﴾ [الإنسان: ١٧].
ثم قال تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾.
أي: وقل: يا رب اعطف عليهما برحمتك كما عطفا عليّ في صغر [ي] فرحماني وربياني صغيراً.
وروى عن النبي ﷺ أنه قال ذات يوم وهو رافع صوته: " من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار بعد ذلك فأبعده الله وأسحقه " وكانوا يرون أن من بر
4177
والديه، وكان فيه أدنى تقى، فإن ذلك مبلغه جسيم بالخير.
و [قد] قال بعض العلماء أن قوله: ﴿رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾ منسوخ بالنهي عن الاستغفار للمشركين.
وقال بعضهم: الآية مخصوصة في المؤمنين خاصة.
وقيل: هي عامة إلا لمن مات من المشركين، فلا يستغفر له. فأما إذا كانا مشركين حَيَّيْنِ، فيجوز للمسلم أن يستغفر لهما كما فعل إبراهيم [ ﷺ] خليل الرحمن [ تعالى].
ويروى أن رجلاً قال: " يا رسول الله هل بقي علي من بر والدي شيء أبرهما [به] بعد موتهما؟ قال: " نعم، الصلاة عليهما [يعني] الدعاء لهما، والاستغفار
4178
لهما، وإكرام صديقهما ولإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا يوصل إلا بهما ".
4179
قوله: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ﴾.
معناه: ربكم يعلم ما تعتقدون من إبرار والديكم وتعظيمكم إياهم، أو ضد ذلك من العقوق لهم، فيجازيكم على ما تعتقدون في أمرهم.
[ومعنى ﴿إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ﴾ أي: إن أصلحتم نياتكم وأطعتم الله في والديكم في القيام بهم والمعرفة بعقوقهم بعد صبوة كانت معكم في أمرهم]، أو زلة زللتم، في [ترككم] إبرارهم، ﴿فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ﴾ أي: للثوابين بعد الهفوة " غفوراً " أي: ساتراً لذنوبهم إذا تابوا منها.
قال ابن جبير في قوله: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ﴾.
هي المبادرة: تكون من الرجل إلى أبويه بذلك إلا الخير.
4180
وقال ابن عباس: " للأوابين " المسبحين. وقيل: هم المحسنون المطيعون. روي ذلك عن ابن عباس أيضاً.
وقال قتادة: هم المطيعون، أهل الصلاة. وقال ابن المنكدر: هم المصلّون بين المغرب والعشاء. وقال عون العقيلي [هم] الذين يصلّون صلاة الضحى. وقال مالك / عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. وقال ابن جبير: هم الراجعون إلى الخير. وقال مجاهد:
4181
هم الذين يذكرون ذنوبهم في الخلاء فيتوبون منها.
وأصل آب إلى كذا، رجع إليه فكأنهم الراجعون من معصية الله [ تعالى] إلى طاعته. ومن آب الرجل من سفره، أي: رجع. وأوّاب فعّال من أب. والأوبة الرجعة منه.
قال تعالى: ﴿وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل﴾.
هذا خطاب للنبي ﷺ والمراد به أمته. قال الحسن أمر الله [ تعالى] في هذه الآية بصلة الرحم، ونذب إلى أن تعطي القرابة من المال من غير الزكاة، ولهم في الزكاة حق وغير ذلك. وقال ابن عباس: هو أن تصل قرابتك والمساكين وتحسن إلى ابن السبيل. وقيل: عني بذي القربى هنا قرابة رسول الله ﷺ.
وروي ذلك عن الحسن بن علي، أن يعطوا من غير الزكاة.
والمسكين هنا هو الدليل من الفقر. وابن السبيل المسافر المنقطع به يضاف
ويحسن إليه. وقيل: حق ابن السبيل ضيافته ثلاثة أيام. وهذا ندب غير فرض.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً﴾.
أي: لا تمحق ما أعطاك الله [ تعالى] من مال في معصيته، وأصل التبذير التفريق في السرف. قال ابن مسعود: التبذير: الإسراف في الإنفاق في غير حق. وهو قول ابن عباس وقتادة.
وقال ابن زيد: هو النفقة في المعاصي. وهذا قوله حسن.
قال تعالى: ﴿إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين﴾.
[أي: المفرقين أموالهم في معاصي الله تعالى وفي غير الحق كانوا أولياء للشياطين].
﴿وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾.
أي: لنعمة ربه [ تعالى] جاحداً لا يشكره عليها، إذ يترك طاعته ويتبع معصيته فكذلك إخوانه من بني آدم.
وكل من تابع أمر قوم وسنتهم فالعرب تسميه أخاً. فلذلك قال: ﴿كانوا إِخْوَانَ الشياطين﴾.
قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا﴾.
أي: إن أعرضتم بوجوهكم عن هؤلاء الذين أمرتم أن تعطوهم حقوقهم من أجل عدمكم، تبتغون انتظار رزق من عند الله فلا تؤيسوهم ولكن قولوا لهم قولاً ميسوراً، أي: عدوهم وعداً جميلاً. بأن تقولوا لهم: سيرزق الله فنعطيكم... وشبه ذلك من القول اللين. كما قال تعالى ذكره: ﴿وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ﴾ [الضحى: ١٠] هذا معنى قول النخعي وابن عباس وغيرهما.
وقال ابن زيد: معنى الآية: إن خشيتم منهم أن ينفقوا ما أعطيتموهم في معاصي الله [ تعالى] ورأيتم أن منعهم خير، فقولوا لهم: قولاً ميسوراً، أي: قولاً
4184
جميلاً: رزقك الله، ووفّقك الله ونحوه.
وكان النبي عليه السلام إذا سئل وليس عنده شيء أمسك انتظار رزق الله [ تعالى] أن يأتي كأنه يكره الرد. فلما نزلت ﴿فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً﴾ كان إذا سئل ولم يكن عنده ما يعطي يقول / يرزقنا الله وإياكم من فضله.
وقال جماعة من المفسرين: [نزلت] هذه الآية في خباب، وبلال وعامر بن فهيرة، وغيرهم من فقراء المسلمين كانوا يسألون النبي ﷺ فيعرض عنهم ويسكت. إذ لا يجد ما يعطيهم، فأمر أن يحسن لهم في القول، إلى أن يرزقه الله ما يعطيهم، وهو قوله: ﴿ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا﴾، أي: انتظار الرزق من ربك تتوقعه ﴿فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً﴾ أي: عدهم وعداً حسناً.
4185
قوله: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ﴾.
هذا مثل ضربه الله [ تعالى] للممتنع من الإنفاق في طاعة الله [ تعالى] وفي الحقوق التي أوجبها الله [سبحانه]، فجعل المانع لذلك كالمشدودة يده إلى عنقه لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء.
والخطاب للنبي [ ﷺ] والمراد به أمته، والمعنى: ولا تمسكوا أيديكم بخلاً عن النفقة في الله، فتكونوا كالمغلولة يداه إلى عنقه، ولا تبسطوها بلنفقة كل البسط، فتبقون لا شيء لكم ولا تجدون إذا سئلتم ما تعطون سائلكم، فتقعدون، وأنتم ذوو لوم، أن يلومكم سائلوكم إذ لم تعطوهم، وتلومكم أنفسكم على الإسراف في أموالكم.
ومعنى ﴿مَّحْسُوراً﴾ أي: مقطوعاً لا شيء معك، هذا معنى قول ابن عباس وقتادة. وقال ابن جريج: معناه لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به، ولا تبسطها بالإنفاق فيما نهيتك عنه، " فتقعد ملوماً " مذنباً " محسوراً " منقطعاً بك.
وقال ابن زيد: معناه: لا تمسك عن النفقة في الخير، ولا تنفق في الحق والباطل،
فينفد ما في يديك فلا تجد ما تعطي سائلك فيلومك، وتقول أعطيت هؤلاء ولم تعطني.
وقيل المعنى لا تبخل فتمنع حق الله [ تعالى] ولا تجاوز الحق الواجب في الإنفاق والإعطاء فيبقى قوم من السؤال يتأخرون فلا يجدون ما يأخذون ﴿فَتَقْعُدَ مَلُوماً﴾ يلومك الناس الذين فاتهم العطاء " محسوراً " أي منقطعاً ليس معك ما تعطي.
قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ﴾.
أي: يوسّع على من يشاء في رزقه ويقتر على من يشاء، إنه خبير بعباده يعلم مصالحهم ويعلم ما يفسده السعة في الرزق ويصلحه التقتير، ومن يفسده التقتير وتصلحه السعة، بصير بتدبيرهم وسياستهم.
وروي عن قالون: " كل البصط " بالصاد. والأشهر عنه وعن الجماعة بالسين.
قال [تعالى]: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾.
هذا نهي عما كانت العرب تفعله. كانت تقتل البنات خوف الفر [والإملاق] والفاقة، فأخبرهم الله [ تعالى] أن أرزاقهم وأرزاق أولادهم على الله [ تعالى].
وتقتلوا في موضع / نصب عطف على: ﴿وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا﴾ [الإسراء: ٢٣] ولا تقتلوا ". و [قيل]: هي في موضع جزم على النهي. وكذلك: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى﴾ [الإسراء: ٢٣].
" ولا تقتلوا ": وما بعده هو كله عند الطبري منصوب محمول على:
﴿وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا﴾ وينقض عليه هذا التقدير قوله: " ولا تقف " وقوله: " ولا تمش "، فهذا مجزوم على النهي بلا اختلاف، فما قبله مما عطف عليه [مثله
4188
مجزوم] وعلى ذلك أكثر العلماء، وهو الصواب إنشاء الله [ تعالى].
ومعنى " كان خِطئاً ": على قراءة نافع كان إثماً كبيراً. لأنه يقال: خطئ يخطا خطئاً فهو خ [ا] طئ كإثم يأثم [إثماً] فهو آثم، وذلك إذا أتى الذنب عمداً. ويقوي هذا ما روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أنهم قالوا: الخطء الخطيئة. ومعنى الآية: يدل [على] هذه القراءة لأنهم كانوا يتعمدون قتل البنات خوف الفقر. وقيل: إن هذه القراءة لغة في الخطأ والخطأ ما لم يتعمد فجاء فيه فعل وفعل كما يقول قتبٌ وقُتُبٌ، ونَجِسٌ ونَجَسٌ.
وقراءة ابن ذكوان: " خَطَأ " بفتح الخاء والطاء. ومعناها: كان غير صواب.
4189
الخطأ ما لم يتعمد فعله يقال أخطأ الرجل يخطي أخطاءً إذا لم يتعمد. والخطأ الاسم منه.
وزعم أبو عبيدة أن الخطء [والخطا] مما تعمّد كلاهما من خطئة فالخطأ الاسم منه والخطا المصدر بمنزلة حذر حذراً.
وقرأ ابن كثير " خطاءً " بالمد وكسر الخاء. وقرأ الحسن بفتح الخاء والمد. وأنكرهما النحاس، ووجههما ظاهر. وقد قال امرؤ القيس في وصف فرسه:
4190
لها وثبات كصَرُبِ السحاب فواد خطاء وواد مُهْر
ويروى بفتح الخاء، رواه أبو حاتم بالفتح لقراءة الحسن. ورواه أبو عبيدة " فواد خطيط ". قال الأصمعي: الخطيطة: أرض لم تمطر بين أرضين ممطورتين. فكان فرسه يثب وادياً لا يؤثر فيه ويؤثر في آخر، فشبه ما يؤثر فيه بالواد الممطور. وما لم يؤثر فيه بالواد الخطيط. فهذا تمثيل.
وفال ابن الإعرابي: " فواد خطا " أي يخطو وادياً، وواد مطر. أي تعدو [وا] دياً. فتكون [خطاء]: جمع خطوة، مثل: صفوة وصفاء. [فيكون] معنى القراءة، على هذا المعنى، إن قتلهم كان تركاً للحق ومجاوزة إلى الباطل.
قال [تعالى]: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾.
أي: وقضى ربك ألا تقربوا الزنا. هذا [على] قول: من جعله في موضع
نصب. ومن جعله مجزوماً، قدره نهياً بعد نهي فالمعنى أن الزنا كان فاحشة. ﴿وَسَآءَ سَبِيلاً﴾ أي: وساء طريق الزنا طريقاً لأنه معصية لله [ تعالى] تورد صاحبه نار جهنم.
قوله: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق﴾.
أي: لا تقتلوا نفساً قد حرّم الله [ تعالى] قتلها. " إلا بالحق " / أي: إلا أن تكفر بعد إسلام، أو تزنى بعد إحصان، أو قوداً بنفس.
وقوله: ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً﴾.
أي: جعلنا له نصراً وحجة على أخذ الثأر ممن قتل وليّه فإن شاء عفا وإن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية. فإذا عفا بعض الورثة لم يقتل القاتل. والمرأة في ذلك والرجل سواء إذا كانا وارثين، هذا قول الشعبي وعطاء وطاووس والنخعي
4192
والثوري والشافعي وابن حنبل. فإن كان في الورثة صغيراً استوني بالقتل حتى يبلغ، فإن عفا لم يقتل وإن لم يعف قتل، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وابن أبي ليلى. وابن شبرمة. والثوري وأحمد وإسحاق.
وقال الحسن البصري وقتادة لا عفو للنساء وإن كن وارثات.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ في المرأة اختلاف، وروي عنه أنه قال: لا عفو
4193
للزوج، وعنه: لا عفو للمرأة في الدم.
وقال الليث وربيعة والأوزاعي ليس للنساء عفو في دم ولا قسامة.
وقال مالك إذا كان ورثة المقتول بنين وبنات فعفت إحدى البنات لم يجز عفوها، فإن عفا أحد البنين جاز العفو وأخذت الدية ويرثها الورثة على قدر موارثهم من الميت، ويقضي عن الميت من الدية دين إن كان عليه.
وقوله ﴿لِوَلِيِّهِ﴾ يحتمل واحداً وجماعة، كما قال: ﴿إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ﴾ [العصر: ٢].
ومعنى: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً﴾ أي: من قتل على غير المعاني المتقدم ذكرها. وقال الشافعي: إذا عفا الولي استحق أخذ الدية.
4194
ثم قال تعالى: ﴿فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل﴾.
أي: لا يقتل الولي غير قاتل وليه. لأن أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك: يقتل الرجل الرجل فيقتل أولياء المقتول أشرف من القاتل ويتركون القاتل، فنهى الله [ تعالى] عند ذلك بقوله: ﴿فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل﴾ أي لا يسرف الولي.
ومن قرأ بالتاء، جعله مخاطبة للنبي ﷺ والأئمة بعده. وقيل هو مخاطبة للقاتل ألا يقتل غيره فيسرف في ذلك فيناله القتل.
وقيل: معنى ﴿فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل﴾ لا يمثل ولي المقتول بالقاتل، بل يقتله كما قتل وليه، قاله قتادة.
وقيل: معناه لا يقتل اثنان بواحد.
والهاء في " أنه " تعود على المقتول، فتعود الهاء على " من " قاله مجاهد. فيكون
4195
المعنى: إن المقتول كان منصوراً بوليه.
وقال قتادة: الهاء للولي. أي: [بأن الولي] كان منصوراً.
وقيل: الهاء تعود على الدم. أي: [إن] دم المقتول كان منصوراً على القاتل.
وقال الفراء: الهاء تعود على القتل أي القتل كان منصوراً.
وقال أبو عبيدة الهاء للقاتل [أي]: إن القاتل كان منصوراً إذا قيد منه في الدنيا وسلم من عذاب الآخرة بقتله.
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
أي: لا تأكلوا أموال اليتامى إسرافاً وبدراً أن يكبروا ولكن / أقربوها بالإصلاح والتثمير لها.
قال قتادة: لما نزلت هذه الآية، اشتد ذلك على أصحاب النبي ﷺ. فكانوا لا
4196
يخالطوهم في طعام ولا أكل ولا غيره. فأنزل الله [ تعالى].
﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح﴾ [البقر: ٢٢٠] فكانت هذه رخصة لهم في المخالطة.
وقال مجاهد: معنى الآية: لا تقربوا مال اليتيم فتستقرضوا منه ﴿إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ التجارة لهم فيها.
وقوله: ﴿حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾.
قال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك بن أنس: الأشد: الحلم. ومعناه في اللغة: حتى يبلغ وقت اشتداده في العقل وتدبير ماله وصلاح حاله في دينه. وأن يكون مع ذلك في غير ذي عاهة في عقل وأن يكون حاز ما في ماله. وكذلك الأشد في قصة يوسف [عليه السلام] هو الحلم، فأما الأشد في [قصة] موسى [عليه السلام] فقيل: هو بضع وثلاثين سنة. و " استوى " بلغ أربعين سنة.
4197
و [قيل]: الأشد هنا ثمان عشرة سنة.
والأشد، عند سيبويه، جمع واحد [هـ]: شَد كقَد وأقدُ. وهو عند غيره اسم مفرد.
ثم قال [تعالى]: ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً﴾.
أي: مسؤولاً عنه من نقضه. أي: أوفوا بما عاهدتم عليه الناس من صلح أو بيع أو شراء. إن الله سائل ناقض العهد عن نقضه إياه، وقيل: مسؤولاً: مطلوباً. ومن العهد الذي أمر الله [ تعالى] بوفائه الوقوف عند أمره ونهيه والعمل بطاعته ومنه جميع ما أمر الله [ تعالى] به في هذه الآية قبله ونهى عنه.
قوله: ﴿وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ﴾.
أمر الله جل ذكره عبيدة ألاّ يبخسوا الناس في الكيل إذا كالوا لهم وأن يزنوا بالقسطاس، وهو العدل بالرومية قاله مجاهد. وقال الضحاك: هو الميزان. وقال
الحسن: هو القبان.
وروى الأعمش عن أبي بكر: " القصطاس " بالصاد في السورتين.
ثم قال: ﴿ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾.
أي ذلك خير لكم. أي: الوفاء خير لكم من بخسكم إياهم وأحسن عاقبة.
وقيل: معناه وأحسن [من] تؤول إليه الأمور في الدنيا والآخرة. وعن النبي ﷺ أنه قال: " لا يقدر الرجل على حرام ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله [ تعالى] إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك ".
وقال قتادة: " وأَحْسَنُ تَأَوْيلاً " وأحسن ثواباً وعاقبة.
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾.
4199
قال ابن عباس: معناه ولا تقل ما ليس لك به علم.
وقال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، ولا سمعت، ولم تسمع فإن الله سائلك عن ذلك كله. وقال محمد بن الحنفية: هو شهادة الزور. وعن ابن عباس أيضاً معناه: لا ترم أحداً بما ليس لك به علم. وكذلك قال مجاهد:
فدخل في هذه المعاني النهي عن قذف المحصنة، وعن القول في الناس / بما لا تعلم، وعن الكلام في الدين والفقه بالظن.
وقيل معناه: لا ترم أحداً بذنب لم تحققه، وإنما هو ظن طننته به.
والقفو شبيه بالبهتان: يرمي به الرجل صاحبه.
وقال الفراء: تقف من القيافة، يقال: قاف القايف يقوف إذا اتبع الأثر [إلا]
4200
أنهم قدموا القاف وأخروا الواو، كقولهم: جذب وجبذ.
وقرأ بعضهم: " ولا تقف " مثل تقبل من: قفت الأثر وقراءة الجماعة من قفوت. وهو مثل قولهم: قاع الجمل يقوع وقعاً يقعوا إذا ركب الناقة. ومثله قولهم عاث في البلاد وعثى إذا أفسد.
فأما قوله: ﴿إِنَّ السمع والبصر والفؤاد﴾ فإنه يدخل فيه النهي عن الاستماع إلى ما لا يحل، والنظر إلى ما لا يحل لأن هذه الأعضاء مسؤولة عما يستعملها ابن آدم فيه من خير وشر.
وأصل القفو في اللغة التتبع. ومه [يقال] قفوت أثر فلان أي تتبعته، ولذلك قال أبو عبيدة، " ولا تَقْفُ مَا لَيْس " لا تتبع ما ليس لك به علم.
وحكى الكسائي عن العرب: قفوت أثره وقفت مثل قلت فيقدمون مرة الواو ويؤخرونها مرة كما يقال: قاع الجمل الناقة إذا ركبها وقعاها. فيكون على القلب مثل قول الشاعر:
4201
ولو أني رميتك من بعيد لعاقك من دعاء الذنب عاق
يريد عائق، فقلب.
وقوله: " كُلُّ أُولَئِكَ " ولم يقل ذلك، فإنما جرى على ذلك لأن " أولئك " و " هؤلاء " للجمع القليل الذي يقع للتأنيث والتذكي. و " هذه " و " تلك " للجمع الكثير. والتذكير للقليل من الجمع كما كان التذكير في الأسماء قبل التأنيث والتأنيث بعده. فكذلك التذكير للجمع الأول. والتأنيث للجمع الثاني وهو: الجمع الكثير.
وقال الزجاج: كل ما أشرت إليه من الناس، وغيرهم، ومن الموات فلفظه لفظ أولئك.
4202
وقيل: كل ما تشير إليه وهو متراخ عنك فلفظه لفظ أولئك.
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً﴾.
أي: لا تمش [في الأرض] مختالاً بطراً متكبراً.
ونصب " مرحاً " على الحال وهو مصدر في موضع الحال.
وقرأ بعضهم: " مَرِحاً " بكسر الراء جعله اسم فاعل وهو نصب على الحال أيضاً. واختار الأخفش هذه القراءة. واختار الزجاج فتح الراء قال: لأن فيه معنى التوكيد وليس ذلك في اسم الفاعل.
ثم قال [تعالى] " ﴿إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض﴾.
أي: لن تقطع الأرض باختيالك واستكبارك. وقيل: معناه إنك لن تقدر على خرق الأرض، وإنما نهى الله [ تعالى] في هذا عن التكبر والفخر والخيلاء، فأعلم
خلقه أنهم لا ينالون بذلك، إذا فعلوه، شيئاً لا يبلغه غيرهم ممن لا فخر معه ولا خيلاء.
أي: كل ما نهى الله [ تعالى] عنه فهو عند ربك سيئة مكروهة.
وقرأ الكوفيون وابن عامر " سيئة " بإضافة السيء إلى الهاء. وحجة هذه القراءة أن الله [ تعالى] قدّم ذكر أشياء / أمر بفعلها، وذكر أشياء نهى عنها. ولو كان " سيئة " غير مضاف لجعل ما أمر به ورغب في فعله مما تقدم ذكره: كبر الوالدين وإيتاء ذي القربى حقه، ونحوه. سيئة. وهذا لا يجوز فوجب أن يكون السيء مضافاً على معنى: كل ذلك كان السيء منه مكروهاً. وهو قتل النفس وأن تقف ما ليس لك به علم، والزنا، وقتل الأولاد وشبهه. واحتج أيضاً لها بقوله: " مكروهاً " ولم
4204
يقل " مكروهة " فوجب تذكير " السيء " وإضافته لذلك.
وهذا لا يلزم من قرأ " سيئة " غير مضاف لأن الله [ تعالى] قدّم الأشياء المرغب [في] فعلها ثم أعقبها بما نهى عنه فرجعت " كل ذلك [في قوله: " كل ذلك] كان سيئه على الأشياء التي نهى عنها دون ما تقدم مما رغب في فعله.
وأما التذكير فهو حسن لأنه ذكر " مكروهاً وعلى لفظ " كل " و " كل " مضمر في " كان " و " مكروهاً " خبر عن ذلك المضمر. و " سيئة " خبر آخر فأجرى أحد الخبرين على اللفظ فذكّر، والثاني على المعنى، فأنّث.
وقال إنما ذكر " مكروهاً " في قراءة من قرأ " سيئة " لأن تأنيث السيئة غير حقيقي.
وقيل: " السيء " و " السيئة " واحد فأجرى " مكروهاً " على " السيء " كما حملت الصيحة على الصياح، والرحمة على الرحم، والبينة على البينات والموعظة [على
4205
المواعظ]، فجاز تذكير ذلك كله ولفظه مؤنث.
وقيل: " السيئة " و " السوء " واحد فذكر " مكروهاً " حملاً على " السوء ".
وقيل إن من قرأ " سيئة " بالإضافة، إنما إضافة على معنى " السيء " كالذي يتحصل من جهته لأن بعضه غير سيء وبعضه سيء. كقوله: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠] يعني: من جهة الأوثان إذ الرجس يكون من جهات سوى الأوثان.
قوله: ﴿ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة﴾.
المعنى الذي بيّنا لك يا محمد من الأخلاق: المرغب فيها، والتي نهيناك عن فعلها، " مما أوحى إليك ربك من الحكمة " أي: من الأشياء التي أوحاها إليك ربك يعني القرآن.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ﴾.
أي: شريكاً في عبادته.
﴿فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً﴾.
أي: تلومك نفسك وعارفوك من الناس: " مدحوراً ": مبعداً مقصى في النار. قال ابن عباس: " مدحوراً " مطروداً.
ويروى أن من قوله [تعالى ": ﴿[وَ] لاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً﴾ إلى قوله: ﴿مَلُوماً مَّدْحُوراً﴾ هي العشر كلمات التي أنزلها الله [ تعالى] على موسى [ ﷺ] في التوراة. ومثلها التي في الأنعام ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ١٥١] إلى آخر الثلاث آيات. وهي المُحْكَمَة التي ذكرها الله [ تعالى] في سورة آل عمران. وفيه اختلاف قد ذكرته هنالك.
قال: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً﴾.
هذا توبيخ للمشركين الذين جعلوا الملائكة بنات الله [سبحانه و] تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ومعناه افاختار لكم ربكم أيها الناس / الذكور من الأولاد واتخذ
لنفسه البنات وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم، فجعلتم لله [ تعالى] ما لا ترضون لأنفسكم. وقيل: الذين قالوا هذا هم اليهود، قاله قتادة. وقيل: هم كفرة العرب وعليه أكثر المفسرين.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً﴾: أي قولة منكرة.
قال: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن [لِيَذَّكَّرُواْ]﴾.
أي: صرفنا لهؤلاء المشركين، الآيات والعبر والأمثال، والتخويف، والإنذار، والوعد، والوعيد.
والمفعول لصرفنا محذوف وهو التخويف والإنذار وشبهه وقيل: " في ": زائدة والمعنى: صرفنا هذا القرآن. والأول أحسن.
فالمعنى: صرفنا الأمثال في هذا القرآن لعلهم أن يتذكروا ذلك فيعقلوا خطأ ما هم عليه، فيرجعوا ويؤمنوا وما يزيدهم ذلك البيان إلا نفوراً عن الحق وبعداً منه.
4208
وتشديد " لِيَذَكَّرُوا " تحقيقه بمعنى: يقال تذكرة ما صنعت. وذكرت ما صنعت بمعنى: قال ذكره: ﴿اذكروا نِعْمَتِيَ﴾ [البقرة: ٤٠] بمعنى: تذكروا نعمتي، أي: تفكروا فيها واعتبروا. وقال: ﴿واذكروا مَا فِيهِ﴾ [البقرة: ٦٣] وقَالَ: ﴿[كَلاَّ] إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾ [عبس: ١١ - ١٢] و ﴿مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [الحاقة: ٤٢] " فكله بمعنى الاتعاظ والاعتبار لا بمعنى ذكر النسيان. وليس من خفف يجعله من ذكر النسيان وإنما هو من التفكر والاعتبار كالمشدد.
4209
قال [تعالى]: ﴿قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ﴾.
المعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله ءالهة: لو كان الأمر كما تقولون من أن مع الله [سبحانه] ءالهة إذن لابتغت تلك [الآلهة] القربى من الله [ تعالى] ذي العرش العظيم، والتمست الزلفى عنده [جلّت عظمته].
قال قتادة معناه: إذن لعرفوا له فضله فابتغوا ما يقربهم إليه. وقال ابن جبير معناه: إذن لطلبوا إليه طريقاً للوصول ليزيلوا ملكه. وقيل معنى ذلك: إذن لطلبوا الربوبية وضادوه في ملكه كما يفعل ملوك الدنيا.
قال تعالى: ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ﴾. ينزه نفسه عما قالوا وافتروا.
و " كلوا ": مصدر. جاء على غير ال [م] صدر. ولو جاء على مصدر الكلام لكان تعالياً، ولكنه مثل ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ [المزمل: ٨] ومثل " ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧].
قال تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع﴾.
أي: تنزهه من السوء الذي وصفه به المشركون و " من فيهن "، يعني: من في السموات والأرض من الملائكة والجن والإنس.
ثم قال: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾.
روى جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ قال: " " ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحاً قال لابنه: " يا بني آمرك [أن تقول سبحان الله وبحمده " فإنها صلاة] الخلق وتسبيح الخلق وبها يرزق الخلق، قال الله [ تعالى] :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ ".
4211
وعن النخعي أنه قال: الطعام: يسبح. وقال قتادة: كل شيء فيه روح يسبح / من ضجرة وغيرها.
وقيل معنى ذلك: أن ما من شيء إلا يدل على توحيد الله وينزهه من السوء، فذلك تسبيحه.
وقال الحسن: كل شيء فيه روح يسبح بحمده.
﴿ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ أي: لا تعقلون ذلك.
وروى معاذ بن محمد الأنصاري أن النبي عليه السلام قال: " لا تقتلوا الضفادع فإنه ليس لله [ تعالى] أكثر تسبيحاً منها ".
وذكر أبو عبيد أن داوود ﷺ بات داعياً لربه [ تعالى] ومصلياً حتى أصبح فذهب إلى نهر ليتوضأ، فقال: الحمد لله لقد عبدت الله الليلة عبادة ما عبده أحد مثلها من أهل الأرض. فكلمته ضفدع من الماء فقالت له: كلا يا أبا سليمان، فوالله إنه لي ثلاثاً من الدهر ما جمعت [ما] بين فقمي تسبيحاً لله [ تعالى].
4212
واختلف الناس في تسبيح الموات كالجبال والحيطان [وشبه ذلك]: فقال قوم: تسبيح ذلك ما فيه من دلالة على خالقه ومشيئته، ومنه قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله﴾ [البقرة: ٧٤] يعني: يتبين في ظاهره من قدرة الله [ تعالى] على خلقه ما يضاهي الخشية لله والإقرار بقدرته.
وقال آخرون: تسبيح الموات أنها تدعو الناظر إليها والمتأمل لخلقها إلى تسبيح الله [تعالى] والنطق بعظمته. فنسب التسبيح إلى الموات لما كانت تنسبه.
كما قالت العرب له: إبل تنطق الناس أي إذا نظروا إليها نطقوا تعجباً منها، من كثرتها، فقالوا سبحان الله! ما أكثرها! ما أحسنها!
و [قال] آخرون وهم أصحاب الحديث وكثير من العلماء. الأشياء كلها تسبح، الموات وغيره، والله [ تعالى] يعلم تسبيح كل صنف منها، وقد كلمت الحجارة والأشجار والجمادات الأنبياء [عليهم السلام، وكذلك البهائم كلمت الأنبياء وكلمت من كان في عهد الأنبياء. والروايات بذلك كثيرة مشهورة. وهذا باب يتسع فيه
4213
الكلام لكثرة الشواهد عليه.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾.
أي: حليماً لا يعجل على خلقه المفترس عليه. " غفوراً " أي: ساتر [اً] لذنوب من آمن [به] منهم. قال قتادة: حليماً: أي: لا يعجل كعجلة بعضهم على بعض.
قوله: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا﴾.
أي: وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين جعلنا بينك وبينهم حجاباً يستر قلوبهم على أن يفهموا ما تقرأه عليهم فينتفعوا به عقوبة على كفرهم.
ومستوراً هنا: بمعنى: ساتر لقلوبهم. وقيل: هو على بابه مفعول لأن الله [ تعالى] قد ستر الحجاب عن أعين الناس فهو مفعول على بابه. والحجاب هنا
الطبع على قلوبهم.
ونزلت هذه الآية في قوم كانوا يسبّون النبي ﷺ بمكة إذا سمعوه يقرأ ليشتدَّ على الناس فأعلمه الله [ تعالى] أنه يحول بينه وبينهم حتى لا يفهمون ما يقول.
قال /: ﴿وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ﴾.
أي: جعلنا على قلوبهم أغشية تغشاها فلا تفهم ما تقرأ.
والأكنة: جمع كنان: " أيفقهوه ": أي: كراهة أن يفقهوه وقيل: معناه [ا] لا يفقهوه.
و ﴿وفيءَاذَانِهِمْ وَقْراً﴾.
أي: جعلنا في ءاذانهم صمماً لئلا يسمعوه.
4215
أي: قال: ﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرءان وَحْدَهُ﴾.
[أي]: إذا قلت لا إله إلا الله في القرءان ﴿وَلَّوْاْ على أدبارهم نُفُوراً﴾ أي: انفضوا عنك وذهبوا نفوراً من قولك واستعظاماً من تويحد الله جل ذكره. وقال عبد الله بن الحسن: هو قوله: بسم الله الرحمن الرحيم. وقال ابن زيد " نفوراً " بغضاً لما تكلم به لئلا يسمعوه كما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في ءاذانهم لئلا يسمعوا ما يأمرهم به نوح [ ﷺ] من الاستغفار والأمر بالتوحيد.
وروي عن ابن عباس: أنه عني به الشياطين إذا سمعوا ذكر الله [ تعالى] وحده في القرءان هربوا.
ووحده: منصوب عند سيبويه على المصدر. ولا يكون إلا مضافاً ولا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث في ذاته، فإذا قلت جاءني زيد وحده، فكأنك قلت أفرد زيد نفسه بمجيئه إليّ إفراداً. أي: لم يأتني مع غيره. وإذا قلت: رأيت القوم وحدهم. فمعناه:
4216
أفردتهم برؤيتي لهم أفراداً. أي: لم أجاوزهم إلى غيرهم. فكأنه مصدر عمل فيه فعال في معناه من غير لفظه.
فأما قولهم: هو نسيج وحده. فهو مجرور في هذا المثل. ومعناه: المدح للرجل المنفرد برأيه. وهو مأخوذ من الثوب النفيس الذي لا ينسج على منواله [غيره]. وكذلك قولهم: هو عُيير وحدِه وجُحيش وحدِه أتى مخفوضاً مضافاً إليه، ولا يقاس على هذه الثلاثة غيرها.
فأما قولهم: رأيتهم ثلاثتهم وخميستهم، ونحوه من العدد فيحسن نصبه على المصدر كأنك قلت: ثلثتهم تثليثاً وخمستهم تخميساً.
وبعضهم يجر [ي] هـ على ما قبله من الأعراب. يجعله بمنزلة كلهم. فيقول: فعلنا ذلك خمستنا، فيرفع كما تقول: كلنا.
وإن شئت نصبت على المصدر وكذلك: مروا بنا خمستنا. وخمستنا تخفض على
4217
التأكيد للمضمر المخفوض وينصب على المصدر، وترفع على التأكيد للمضمر المرفوع.
قال [تعالى ذكره]: ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾.
أي: نحن أعلم بما يستمع هؤلاء المشركون إذ يستمعون إليك وأنت تقرأ.
﴿وَإِذْ هُمْ نجوى﴾ [أي: ذووا نجوى] أي: ذوواسر. وهذا مثل قولهم " قوم رضى " ونجواهم هو سرهم في دار الندوة في أمر النبي ﷺ.
والعامل في: إذ ": من قوله: ﴿إِذْ يَقُولُ﴾ " نجوى " أي: يتناجون في هذا الوقت. والعامل في إذ الأول " يستمعون: الأول. والمعنى: نحن يا محمد لا أعلم باستماعهم إلى قراءتك وقت استماعهم وهم يتناجون في / وقت قولهم بعضهم لبعض: ما تتبعون إلا رجلاً مسحوراً. وقيل: يقول ذلك للمؤمنين.
ومعنى " مسحوراً ": أي: له سَحَر، والسحر الرئة. أي: يأكل ويشرب لأن
كل من له رئة يأكل ويشرب فهو مثل قولهم ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً﴾، مثلكم.
وقيل المعنى: قد سحروا وأزيل عن حد الاستواء.
قال [تعالى]: ﴿انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال﴾
المعنى: انظر يا محمد بعين قلبك كيف شبهوا لك الاشتباه لقولهم هو مسحور وهو شاعر وهو مجنون. " فضلوا " أي: فجاروا عن قصد السبيل بقولهم. ﴿فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً﴾.
أي: فلا يهتدون إلى طريق الحق. وعني بهذا: الوليد بن المغيرة وأصحابه قاله: مجاهد.
قوله: ﴿وقالوا أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً [أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ]﴾ إلى قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾.
المعنى: أن الله جل ذكره أخبر عن قول المشركين وإنكارهم البعث بعد
4219
الموت. والرفات: التراب، قاله مجاهد. أي: قالوا منكرين للبعث أنُبعَث بعد أن كنّا عظاماً وتراباً في قبورنا.
وقال ابن عباس: الرفات: الغبار. وقال أبو عبيدة والكسائي/ الرفات الحطام. والعظام ما لم يتحطم، والرفات: ما تحطم، كذا قال أبو عبيدة.
والرفات في اللغة: الرضاض والحطام. يقال: رفت رفتاً إذا حطم. ولا واحد له كالدقاق. وهذا المثال في هذا المعنى، يأتي أبداً محل فعال. نحو الفتات والتراب والرفات والغبار والحطام والرضاض.
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام قل لهم يا محمد: ﴿قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠)﴾ أو كونوا على أي خلق يعظم في صدوركم فلا بد لكم من الموت والبعث أي: استشعروا مت شئتم أن تكونوا عليه من الخلق. فلا بد أن يمتكم الله [ تعالى] ثم يحييكم.
وقال ابن عباس في قوله: ﴿أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ﴾ هو الموت. أي: لو كنتم
4220
الموت بعينه لأماتكم الله تعالى ثم أحياكم، وهو قول: أبي صالح والحسن والضحاك. وقال ابن جبير، كونوا الموت فإن الموت سيموت. قال عبد الله بن مسعود: يوتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح حتى يجعل بين الجنة والنار فينادي مناد يسمع أهل الجنة وأهل النار، فيقول هذا الموت قد جئنا به ونحن مهلكوه، فأيقنوا يا أهل الجنة ويا أهل النار بأن الموت قد هلك.
وقال مجاهد قوله: ﴿أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ﴾ هو السماء والأرض والجبال.
ثم أخبر عنهم تعالى ذكره أن جوابهم للنبي [ ﷺ] إذ قالوا له " من يعيدنا " أي: من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديداً، فقل لهم يا محمد يعيدكم ﴿الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أي: الذي خلقكم ولم تكونوا شيئاً.
ثم قال الله [ تعالى] لنبيه [عليه السلام] ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ﴾.
4221
أي: يحركونها استهزاء واستبعاداً للبعث. و/ النغض في كلام العرب حركة بارتفاع وانخفاض. ﴿[وَيَقُولُونَ] متى هُوَ﴾ أي: متى البعث، فقيل لهم يا محمد ﴿عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً﴾ أي: هو قريب. لأن عسى من الله [تعالى] واجبة.
ثم قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ﴾.
أي: [يوم] يبعثكم يوم يدعوكم من القبور ﴿فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ﴾ أي: بأمره، قاله: ابن عباس. وقال قتادة: " بحمده " بمعرفته.
وقيل: معناه: بقدرته، ودعائه إياكم، ولله الحمد على كل حال. كما يقول القائل: فعلت ذلك الفعل بحمد الله. أي: ولله الحمد على كل حال.
4222
وروي عن [ابن] جبير أنه قال: يخرج الناس من قبورهم وهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك.
وقال أبو إسحاق معناه: ويستجيبون مقرين بأنه خالقهم.
وقيل: يستجيبون بحمده يعني: عند النفخة الثانية ﴿وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ يعني: بين النفختين. وذلك أنه يكف عنهم العذاب بين النفختين فينامون فذلك ما حكى [ تعالى] عنهم قي يس أنهم يقولون: ﴿ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا﴾ [يس: ٥٢] لأنهم يعذبون من يوم يموتون إلى النفخة الأولى، وهو خاص لمن قاتل نبياً، أو قتل في قتال نبي، أو قتله نبي أو مات على كفره في حياة نبي.
ثم قال [تعالى] قَالُواْ ﴿وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾.
4223
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام قل١ لهم يا محمد :﴿ قل كونوا حجارة أو حديدا ﴾ [ ٥٠ ] أو كونوا على أي خلق يعظم في صدوركم فلا بد لكم من الموت والبعث أي : استشعروا ما شئتم أن تكونوا عليه من الخلق. فلا بد أن يميتكم الله [ عز وجل٢ ] ثم يحييكم.
١ ق: "قال"..
٢ ساقط من ق..
وقال ابن عباس في قوله :﴿ أو خلقا مما يكبر في صدوركم ﴾ [ ٥١ ] هو الموت. أي : لو كنتم الموت بعينه لأماتكم الله عز وجل ثم أحياكم، وهو قول : أبي صالح والحسن والضحاك١. وقال ابن جبير، كونوا الموت فإن الموت سيموت٢. قال عبد الله بن مسعود : يوتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح حتى يجعل بين الجنة والنار فينادي٣ مناد٤ يسمع أهل الجنة وأهل النار، فيقول الموت قد جئنا به٥ ونحن مهلكوه، فأيقنوا يا أهل الجنة ويا أهل النار بأن الموت قد هلك٦.
وقال مجاهد قوله :﴿ أو خلقا مما يكبر في صدوركم ﴾ هو السماء والأرض والجبال٧.
ثم أخبر عنهم تعالى ذكره أن جوابهم للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] إذا قالوا له٨ " من يعيدنا " أي : من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديدا، فقل لهم يا محمد يعيدكم ﴿ الذي فطركم أول مرة ﴾ [ ٥١ ] أي : الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا٩.
ثم قال الله [ عز وجل١٠ ] لنبيه [ عليه السلام ] { فسينغضون إليك رءوسهم ] [ ٥١ ].
أي يحركونها استهزاء واستبعادا للبعث١١. و/النغض في كلام العرب حركة بارتفاع وانخفاض١٢، ﴿ [ ويقولون١٣ ] متى هو ﴾ [ ٥١ ] أي : متى البعث١٤ فقل لهم يا محمد ﴿ عسى أن يكون قريبا ﴾ [ ٥١ ] أي : هو قريب. لأن عسى من الله [ تعالى١٥ ] واجبة١٦.
١ انظر: هذا القول في معاني الفراء ٢/١٢٥، وجامع البيان ١٥/٩٨ والدر ٥/٣٠٠..
٢ انظر: قوله في جامع البيان ١٥/٩٨، والدر ٥/٣٠٠..
٣ ق: "فينادا"..
٤ ط: منادي"..
٥ ط: له..
٦ انظر: هذا القول في جامع البيان ١٥/٩٩، وفيه أنه قول ابن عمر ونحوه أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص..
٧ انظر: هذا القول في جامع البيان ١٥/٩٩ وفيه أنه قول قتادة..
٨ ط: "إذ قال لهم" وهو خطأ..
٩ وهو تفسير ابن جرير، انظر: جامع البيان ١٥/٩٩..
١٠ ساقط من ق..
١١ وهو قول ابن عباس وقتادة وعطاء، انظر: تفسير مجاهد ٤٣٧ ومجاز القرآن ١/٣٨٢، وغريب القرآن ٢٥٧، وجامع البيان ١٥/١٠٠ وإعراب النحاس ٢/٤٢٧، والجامع ١٠/١٧٨، والدر ٥/٣٠٠..
١٢ قاله الفراء، انظر: معاني الفراء ٨/١٢٥، وجامع البيان ١٥/١٠٠ والجامع ١٠/١٧٨ وحكاه عن الأخفش، واللسان نغض..
١٣ ساقط من ق..
١٤ وهو قول الفراء، انظر: معاني الفراء ٢/١٢٥..
١٥ ساقط من ق..
١٦ وهو تفسير ابن جرير انظر: جامع البيان ١٥/١٠٠..
ثم قال تعالى :﴿ يوم يدعوكم ﴾ [ ٥٢ ].
أي :[ يوم١ ] يبعثكم يوم يدعوكم من القبور ﴿ فتستجيبون بحمده ﴾ [ ٥٢ ] أي : بأمره، قاله : ابن عباس٢. وقال قتادة : " بحمده " بمعرفته٣.
وقيل : معناه : بقدرته، ودعائه إياكم، ولله الحمد على كل حال. كما يقول القائل : فعلت ذلك الفعل بحمد الله. أي : ولله الحمد على كل حال. ٤
وروي عن [ بن٥ ] جبير أنه قال : يخرج الناس من قبورهم وهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك٦. وقال أبو٧ إسحاق٨ معناه : ويستجيبون٩ مقرين بأنه خالقهم١٠.
وقيل : يستجيبون بحمده يعني : عند النفخة الثانية ﴿ وتظنون إن لبثتم إلا [ قليلا١١ ] ﴾ يعني : بين النفختين. وذلك أنه يكف عنهم العذاب بين النفختين فينامون فذلك ما حكى [ عز وجل١٢ ] عنهم في يس أنهم يقولون :﴿ ياويلنا من بعثنا من مرقدنا ﴾١٣ لأنهم يعذبون من يوم يموتون إلى النفخة الأولى، وهو خاص لمن قاتل نبيا، أو قتل١٤ في قتال نبي، أو قتله نبي أو مات على كفره١٥ في حياة نبي.
ثم قال [ تعالى١٦ ] ﴿ وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ﴾١٧.
أي : وتحسبون١٨ عند موافاتكم يوم القيامة من هول ما تعاينون١٩ ما٢٠ لبثتم في الأرض إلا وقتا قليلا كما قال ﴿ قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين ﴾٢١.
قال قتادة : تحاقرت الدنيا في أنفسهم وقلت حين عاينوا يوم القيامة٢٢.
١ ساقط من ط، ولعله الأصوب..
٢ وهو قول ابن جريج، أيضا، انظر: جامع البيان ١٥/١٠١، والدر ٥/٣٠٠..
٣ انظر: قوله في جامع البيان ١٥/١٠٣، والدر ٥/٣٠١..
٤ وهو قول ابن جرير انظر: جامع البيان ١٥/١٠١، والجامع ١٠/١٧٩..
٥ ساقط من ط..
٦ انظر: قوله في إعراب النحاس ٢/٤٢٧، والدر ٥/٣٠١..
٧ في النسختين ابن..
٨ ط: "عباس"..
٩ ط: "تستجيبون"..
١٠ انظر: قول الزجاج في معاني الزجاج ٣/٢٤٥..
١١ ساقط من ق..
١٢ ساقط من ق..
١٣ يس: ٥٢..
١٤ ط: "اقتل أو قتل"..
١٥ ق: "كفرهم"..
١٦ ساقط من ق..
١٧ يس: ٥٢..
١٨ ق: "يحسبون"..
١٩ ق: "يتعابنون"..
٢٠ ق: بما..
٢١ المؤمنون ١١٢ و١١٣، وهذا تفسير ابن جرير، انظر: جامع البيان ١٥/١٠٢..
٢٢ انظر: قوله في جامع البيان ١٥/١٠٢، وأحكام الجصاص ٣/٢٠٤ والجامع ١٠/١٧٩..
أي: وتحسبون عند موافاتكم يوم القيامة من هول ما تعاينون ما لبثتم في الأرض إلا وقتاً قليلاً كما قال ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ العآدين﴾ [المؤمنون: ١١٢و١١٣].
قال قتادة: تحاقرت الدنيا في أنفسهم وقلّت حين عاينوا يوم القيامة.
قوله ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
أي: وقل يا محمد لعبادي المؤمنين يقول بعضهم لبعض المقالة التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة. وقال الحسن: ﴿التي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أن يقول لك: يرحمك الله، يغفر الله لك، يريد عند المنازعة. وقيل: ﴿التي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أن يقولوا: لا إله إلا الله.
وقوله: ﴿إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ﴾.
أي: يفسد ما بينهم، ويقبح ما بينهم، ويحرض الكافرين على المؤمنين. إنه كان
للإنسان عدواً مبيناً، يؤيد الكافر الهالك ويودي المؤمن. ولا سلطان له عليه.
قال تعالى: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ﴾.
هذا خطاب للمشركين الذين أنكروا البعث، والمعنى: " ربكم " أيها المشركون " أعلم بكم إن يشأ يرحمكم فيوفقكم للتوبة والإقرار بالبعث ﴿أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ﴾ فيخذلكم فتموتون على كفركم فتعذبون في الآخرة.
ثم قال [تعالى] لنبيه [عليه السلام]: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾.
أي: رقيباً تجبرهم على الإيمان، إنما عليك أن تبلغهم ما أرسلت به لا غير.
قال ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض﴾.
أي: ربك يا محمد أعلم بمصالح من في السماوات والأرض وتدبيرهم / وأهل التوبة منهم من أهل المعصية.
ثم قال: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ﴾.
وهو اتخاذه لإبراهيم خليلاً، وتكليمه موسى، وجعل عيسى كآدم وإيتاء سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وأتى داوود زبوراً. وهو دعاء علّمه الله داود تحميد وتمجيد ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود، وغفر لمحمد ﷺ ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأرسله إلى الناس كافة.
روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " خفف على داوود القرآن فكان يأمر بدابته تسرج فكان يقرأ قبل أن يفرغ يعني: القرآن ".
وفائدة الآية أن الله أخبر المشركين بأنه قد فضّل بعض النبيين على بعض فلا ينكروا تفضيله لمحمد [ ﷺ] وأعطاه القرآن، فقد أعطي داوود زبوراً وهو بشر مثله.
قال تعالى: ﴿قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ﴾.
أي: قل لهم يا محمد: ادع [وا] الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله
4226
عند ضُرٍّ ينزل بكم، فإنهم لا يملكون كشف [الضُّرِ] عنكم ولا تحويله عنكم إلى غيركم.
هؤلاء الذين أمر الله [ تعالى] نبيه [عليه السلام] أن يقول لهم هذا: هم قوم من المشركين كانوا يعبدون الملائكة والمسيح وعزيراً قاله: مجاهد. وقال ابن عباس: هم عيسى وعزير ومريم كان قوم يعبدونهم. وعنه أيضاً: هم عيسى وعزير والشمس والقمر كان قوم يعبدونهم. وقيل: هم قوم كانوا يعبدون الملائكة فقط.
وقيل: هم قوم كانوا يعبدون نفراً من الجن: فأ [سلم] أولئك النفر من الجن ولم يعلم بهم من يعبدهم. قاله ابن مسعود. ولذلك قال: ﴿أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة﴾ أي: أولئك الذين يعبد هؤلاء المشركون يبتغون إلى ربهم القربى والزلفى لأنهم مؤمنون، فيكون: يراد به الجن الذين أسلموا على القول الأخير.
4227
ويجوز أن يراد بهم الملائكة وعيسى وعزير ومريم على القول الأول.
والهاء والميم في ربهم تعود على أولائك وهم المعبودون. وقيل: تعود على العابدين الكافرين، [أي: المعبودون يبتغون إلى رب العابدين لهم الوسيلة.
وقيل: تعود على العابدين] والمعبودين، أي: المعبودون يبتغون الوسيلة إلى رب الجميع رب العابدين ورب المعبودين.
ومعنى: ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ إلى الله لمصالح أعماله واجتهاده في حياته ويرجون وبأعمالهم تلك رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك يا محمد كان محذوراً.
واختار الطبري قول من قال: هم الجن كان قوم من المشركين يعبدونهم لأن عيسى وعزيراً ومريم لم يكونوا على عهد النبي [ ﷺ] فلا يحسن دخولهم هنا في هذا المعنى.
قوله: ﴿وَإِن [مِّن] قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا﴾.
المعنى: وما من أهل قرية إلا سيهلكون قبل يوم القيامة إما بعذاب أو بموت.
وقيل معناه وإن من قرية مفسدة أو ظالمة إلا نحن مهلوكها. [وهو / قول حسن] دليله [قوله تعالى].
﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ [القصص: ٥٩] وله في القرآن نظائر.
﴿ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً﴾.
أي: في اللوح المحفوظ. وقيل في الكتاب الذي كتبه الله [ تعالى] للملائكة فيه أخبار العباد الكائنة والتي لم تكن ليستدلوا بذلك على قدرته [جلّت عظمته].
قال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات﴾.
المعنى وما منعنا أن نرسل بالآيات [التي] اقترحتها قريش ﴿إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون﴾ فأهلكوا واستؤصلوا فلو أرسلت إلى هؤلاء بالآيات وكذبوا
4229
لأهلكوا واستؤصلوا، ففعل الله [ تعالى] بهم في ترك مجيء الآيات التي سألوها فيه الصلاح.
وفي هذا ما يدل على أن الله جل ذكره أخَّر الآيات عن قريش، لئلا يكفروا بها فيهلكوا كما فعل بالأمم قبلهم. فكان تأخيره لذلك لما علم أن منهم من يؤمن ومنهم من يولد له من يؤمن. فأخّر الآيات ليتم علمه فيهم. وعلم من الأمم الأول أنه لا يؤمن أحد منهم، ولا يولد لأحد [منهم] من يؤمن فأرسل الآيات فكفروا فأهلكوا. وأخّر ذلك عن قريش ليتم ما علم منهم. وقد ظهرت آيات على عهد النبي ﷺ. فالمعنى في هذا: ما منعنا أن نرسل بالآيات التي معها الاصطلام والهلاك لمن كذب بها، إلا أنا حكمنا على كافري أمة محمد [ ﷺ] بعذاب الآخرة وألا يصطلموا بعذاب الدنيا. وهو قوله ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧]. فالنبي ﷺ رحمة للمؤمنين إذ أستنقذهم من الضلال
4230
وهداهم إلى الإيمان، وهو رحمة للكافرين إذ أخّر عذابهم واصطلامهم إلى الآخرة. قال ابن عباس: " سأل أهل مكة النبي ﷺ أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحي عنهم الجبال، فيزرعون فقيل له: " إن شئت أن تستأتي بهم لعلنا نجتني منهم. وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من كان قبلهم قال لا، بل استأني بهم فأنزل الله الآية " وعلى هذا المعنى قول الحسن وابن جبير وقتادة، وهم أهل مكة.
ثم قال [تعالى] ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً﴾.
أي: وقد سأل [ت] الآيات من قبل محمد [ ﷺ] ثمود فأتيناها ما سألت وجعلنا تلك الآية [ناقة] مبصرة، أي: ذات أبصار، أي: مضيئة ظاهرة بمنزلة قوله: ﴿والنهار مُبْصِراً﴾ [يونس: ٦٧] أي: مضيئاً. وقيل: معنى مبصرة مبينة. أي: تبين لهم
4231
صدق صالح عليه السلام. وقال مجاهد مبصرة [آية].
ثم قال: ﴿فَظَلَمُواْ بِهَا﴾.
أي: فظلموا من أجلها لأنهم عقروها وكفروا بما جائتهم فصار ظلمهم من أجلها. وقيل: معناه فظلموا بتكذيبهم بها.
ثم قال: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً﴾.
أي: وما نرسل بالعبر إلا تخويفاً / للعباد. وقيل: الآيات هنا: [هي] آيات القرآن. وقال الحسن: هو الموت الذريع.
وقال نفطويه: الآيات هنا ثلاث: آية تدل على النبوة ومعجزة. وآية عقوبة، يعني: سؤال تبين فيها القدرة، وهاتان معه [م] االنظرة، ومنه قوله: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً﴾ فهذه معها النظرة، والثالثة: آية سألتها أمة غير ما
4232
جاءها به نبيها فهذه لا نظرة معها إذا أعطيتها الأمة فكفرت بها أهلكت.
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس﴾.
أي: واذكر يا محمد إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس، وذلك أن الله جل ذكره وعد نبيه ﷺ أنه سيمنعه من كل من بغاه بسوء، فذكره هنا ما قد قال له أولاً.
ومعنى: ﴿أَحَاطَ بالناس﴾ أي: هم في قدرته وقبضته فلا يصلون إليك يا محمد بسوء، فامض لما أمرت به [من] تبليغ الرسالة. قال الحسن: معناه: أحاط لك بالعرب ألا يقتلوك، فعرف أنه لا يقتل.
ثم قال: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التي أَرَيْنَاكَ [إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ]﴾.
يعني: [ما أراه] ليلة أسري به افتتن بها قوم فارتدوا عن الإسلام. وهذا
4233
مما يدل على أن الرؤيا التي كانت رؤيا عين لا رؤيا نوم. لأنها لو كانت رؤيا نوم ما افتتن أحد بها ولا ارتد. لأن الإنسان يرى في نومه مثل هذا وأبعد منه. فلما أخبرنا الله [ تعالى] أن الرؤيا كانت فتنة للناس، علمنا أنها رؤيا عين. لأن من كان ضعيفاً في الإسلام يستعظم الوصول إلى بيت المقدس والرجوع منها في ليلة فيرتد بجهله، وقلة علمه.
وأيضاً فإنها لو كانت رؤيا نوم، لم تكن بآية ولا فيها دلالة عن نبوة، لأن سائر الناس، قد يرى في نومه ما هو أبعد من ذلك.
وعن ابن عباس: إن هذه الرؤيا المذكورة هنا هي رؤيا رءاها النبي ﷺ بالمدينة. رأى أنه يدخل مكة هو وأصحابه. فعجل رسول الله ﷺ السير إلى مكة قبل الأجل. فرده المشركون. فقال ناس: قد رد رسول الله ﷺ، وقد كان حدثنا أنه سيدخلها، فاتتن قوم بذلك.
والصحيح أن الرؤيا هنا ما رأى إذ أسري به. روي أن النبي ﷺ أصبح
4234
- غداة أسري به - على قريش فأخبرهم الخبر، فقال أكثرهم: إن العير لتطرد شهوراً من مكة إلى الشام مدبرة، وشهر مقبلة، فيذهب محمد ذلك في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة. فارتد جماعة من الناس، فذلك الفتنة التي ذكر الله [ تعالى].
ويروى " أن الناس ذهبوا إلى أبي بكر [Bهـ] فقالوا يا أبا بكر: صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة. / فقال أبو بكر: تكذبون عليه. فقالوا: بل ها هو ذا في المسجد يحدث بها الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قالها لقد صدق، فما يعجبك من ذلك؟ فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه. ثم أقبل أبو بكر حتى انتهى إلى النبي ﷺ فقال: يا نبي الله أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال: يا نبي الله، فصفه لي، فإني قد جئته. قال الحسن، قال النبي ﷺ: فرفع لي حتى إني نظرت إليه فجعل رسول الله [ ﷺ] يصفه لأبي بكر وأبو بكر يقول: صدقت أشهد أنك رسول الله [ ﷺ] كلما وصف له منه شيئاً قال: صدقت أشهد أنك رسول الله [ ﷺ] حتى إذا انتهى، قال النبي ﷺ لأبي بكر: وأنت يا أبا بكر: الصديق. فيومئذ سماه الصديق "
وأنزل الله [ تعالى] فيمن ارتد عن إسلامه
4235
في ذلك الوقت الآية: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التي أَرَيْنَاكَ﴾ الآية.
وقيل: إنها رؤيا رآها النبي ﷺ بالمدينة فغمته: رأى أن بني أمية ينزون على منبره نزو القردة. فساءه ذلك فما استجمع ضاحكاً حتى مات.
والقولان الأولان أحسن وأبين لأن هذه الرؤيا لو صحت ما كان فيها فتنة لأحد. وقد أخبرنا الله أنه جعلها فتنة للناس. وأيضاً فإن السورة مكية، والريا التي رآها في المنام بالمدينة كانت.
وقوله: ﴿والشجرة الملعونة فِي القرآن﴾.
قال ابن عباس: هي شجرة الزقوم. وهو قول: [أبي] مالك، وعكرمة وابن جبير والنخعي ومجاهد والضحاك.
4236
وقال الحسن: كانت قريش يأكلون الثمر والزبد ويقولون تزقموا من هذه الزقوم فوصفها الله [ تعالى] لهم في " والصافات ".
قال الحسن: قال أبو جهل وكفار قريش: أليس من كذب ابن أبي كبشة أنه يوعدكم بنار تخرق فيها الحجارة ويزعم أنها تنبت فيها [ال] شجرة.
وعن ابن عباس: [إنها] الكشوتا.
وتقدير الآية: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك في الاسرا بك، والشجرة الملعونة في القرآن، إلا فتنة للناس، فكانت فتنة الرؤيا الارتداد، وفتنة الشجر قول أبي جهل وأصحابه: يخبرنا محمد أن في النار شجرة نابتة والنار تأكل الشجر. فزادت بذلك فتنة المشركين وبصيرة المؤمنين.
4237
وإنما قال الملعونة: وهي لم تلعن في القرآن على معنى الملعون آكلها. وقيل: إنما قيل ذلك: لأن العرب تقول: لكل طعم مكروه ملعون.
ثم قال ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ﴾.
أي نخوف هؤلاء المشركين ونتوعدهم بالعقوبات فما يزيدهم تخويفنا إلا طغياناً أي: تمادياً في كفرهم كبيراً لأنهم لما خوفوا بالنار التي طعامهم فيها الزقوم دعوا بالثمر / الزبد وقالوا تزقموا من هذا الزقوم.
قال: ﴿وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ﴾.
المعنى: واذكر يا محمد إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس حسد آدم، وسخر منه، وقال: لا أسجد لمن خلقته من طين، وأنا مخلوق من نار. والنار تأكل الطين. قال ابن عباس: بعث رب العالمين إبليس فأخذ من أديم الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم [ ﷺ]. فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى الجنة، وإن كان ابن كافرين، وكل شيء خلقه من ملحها، فهوى صائر إلى النار، وإن
كان ابن نبيين.
قوله: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ﴾
المعنى: قال إبليس أرأيتك يا رب هذا الذي كرمت عليّ: أي: فضلته علي وأمرتني بالسجود له ﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة﴾. أي: أخرت هلاكي إلى يوم القيامة، يريد النفخة الثانية، وهي التي لا يبقى بعدها أحد إلا الله جل ذكره، فأبى الله [سبحانه] ذلك عليه. وقال إنك ﴿مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم﴾ [الحجر: ٣٨] وهي: النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق. وبين النفختين أربعون سنة.
قوله: ﴿لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً﴾.
أي: لأستولين عليهم، قاله: ابن عباس. وقال ابن زيد: لأحتنكن لأضلن.
فهو مأخوذ من قولهم: احتنك الجراد الزرع. إذا ذهب به كله. وقيل هو من
قولهم: حنك الدابة يحنكها إذا ربط حبلاً في حنكها الأسفل وساقها، حكاه ابن السكيت. وحكى: [احتنك] دابته بمعنى احنك، فيكون المعنى على هذا الاشتقاق لأسوقنهم كيف شئت. وإنما قال إبليس هذا: لما قال الله [ تعالى] ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً﴾.
قال تعالى: ﴿قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ﴾.
أي: اذهب فقد أخرتك إلى يوم القيامة، فمن تبعك من ذرية آدم وأطاعك ﴿فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ﴾، أي: جزاؤك وجزاؤهم، أي: ثوابك على دعائك إياهم إلى معصيتي، وثوابهم على اتباعهم إياك ﴿جَزَاءً مَّوْفُوراً﴾ أي: مكملاً.
وقال مجاهد: " موفوراً " [أي] موفراً. وقيل موفوراً مكملاً.
قال تعالى: ﴿واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾. المعنى: واستخف من استطعت منهم، واستجهل ونحوه. ومعنى " بصوتك ": عند مجاهد أنه صوت الغناء واللعب. وقيل معناه: بدعائك إياهم إلى طاعتك. وقال ابن عباس: صوته كل داع دعا إلى معصية الله [سبحانه]، وهو قول قتادة. وقيل: صوت المزمار.
وقيل: هو كل متكلم من غير ذات الله [ تعالى] فهو صوت الشيطان، وكل راكض في غير ذات الله [سبحانه] فهو من [خيل] الشيطان. وكل ماش في
4241
غير ذات الله [جلت عظمته] فهو من رجل الشيطان.
وقيل معنى: ﴿وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ﴾، أي: أجمع عليهم / من ركبان جندك ومشاتهم يدعونهم إلى طاعتك، يقال: قد أجلب فلان على فلان إجلاباً إذا صاح عليه، والجلبة الصوت.
وقال قتادة: إن له خيلاً ورجلاً جنوداً من الجن والإنس يطيعونه. وقال ابن عباس: خيله كل راكب في معصية الله [سبحانه] ورجله كل راجل في معصية الله [تعالى].
ثم قال [تعالى] ﴿وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد﴾. يعني: الأموال التي أصابوها من غير حلها. قاله مجاهد. وقال الحسن: هي أموال أعطاها الله [ تعالى] لهم فأنفقوها في طاعة الشيطان. وقيل: هو ما كان المشركون يحرمونه من أموالهم
4242
يجعلونه لغير الله [سبحانه] مثل البحائر والوصائل والحامي وغير ذلك، روي ذلك عن ابن عباس، وقال الضحاك: هو ما كان المشركون يذبحون لآلهتهم.
فأما مشاركته في الأولاد لهم. فقال ابن عباس: يعني أولاد الزنا، وهو قول مجاهد والضحاك. وعن ابن عباس أيضاً أنه قتلهم لأولادهم، وقال قتادة: هو إدخالهم أولادهم في دينهم وما يعتقدون من الكفر، وهو قول الحسن.
وعن ابن عباس، أيضاً: أنه تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزيز.
4243
ثم قال تعالى: ﴿وَعِدْهُمْ﴾
أي: عِدْهُمُ النَّصْرَ على من أرادهم بسوء
ثم قال: ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً﴾.
أي: ما يغني عنهم من عذاب الله [ تعالى] من شيء. وهذا كله من الله وعيد وتهديد لإبليس عليه اللعنة. ومثله ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠]. وقيل: إنما أتى هذا على وجه التها [ون] بإبليس وبمن اتبعه.
قال: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾.
أي: إن الذين أطاعوني واتبعوا أمري ﴿لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ " أي: حجة.
وقيل: الآية عامة في كل الخلق فلا حجة [له] على أحد من الخلق توجب أن يقبل منه، هذا قول: ابن جبير.
وقيل: المعنى أن كل الخلق لا تسلط لك عليهم إلا بالوسوسة.
ثم قال تعالى: ﴿وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً﴾.
أي: وكفى بربك يا محمد حافظاً لك. وقال قتادة: " وكيلاً ": كافياً عباده المؤمنين. وقيل: معناه منجياً مخلصاً من الشيطان.
قوله: ﴿رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك﴾.
هذا خطاب للمشركين يذكرهم الله [ تعالى] نعمه عليهم، فالمعنى: ربكم أيها القوم، هو ﴿الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك﴾ أي: يسير لكم الفلك، وهي السفن ﴿فِي البحر لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ أي: لتتوصلوا بالركوب فيها إلى أماكن تجارتكم ومطالبكم ولتلتمسوا رزقه ﴿إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ إذ سخر لكم ذلك وألهمكم إليه.
قال ابن عباس يزجي: يجري، وقال قتادة: يسير.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾.
أي: وإذا نالتكم الشدة والجهد من عصوف الريح أو خوف غرق، فقدتم من تدعون / من دون الله [سبحانه] أي: فقدتم آلهتكم لخلاصكم، ولم تجدوا غير الله [ تعالى] مغيثاً إذا دعوتموه.
﴿فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ﴾.
أي: فلما نجاكم [الله سبحانه] من هول ما كنتم فيه وشدته أعرضتم عما
دعاكم إليه من خلع الآلهة، وإفراد العبادة له، كفراً منكم بنعمته.
﴿وَكَانَ الإنسان كَفُوراً﴾ أي: كفوراً ربه [ تعالى].
فالإنسان يراد به الكافرين خاصة.
قال: ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر﴾.
المعنى: أفأمنتم أيها الكفار نقم الله [سبحانه] بعد إذ أنجاكم من كربكم أن يخسف الله [ تعالى] بكم في جانب البر كما فعل بقارون وبداره ﴿أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً﴾ أي: حجارة من السماء تقتلكم كما فعل بقوم لوط ﴿ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً﴾ أي: فيما يقوم لكم بالمدافعة عنكم من عذاب الله [ تعالى] " ولا ناصراً ".
وقال أبو عبيدة: " حاصباً " هنا: ريح عاصفة تحصب، أي: ترمي بالحصباء
من قوتها، وقيل: الحاصب: التراب فيه حصى. والحصباء الحصى الصغار.
قال: ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ﴾.
[أي: في البحر] " تارة أخرى " أي: مرة أخرى ﴿فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الريح﴾ وهي التي تقصف ما مرت به فتحطمه وتدقه. من قولهم: قصف فلان ظهر فلان إذا كسره.
﴿فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً﴾ أي: تابعاً يتبعنا بما فعلنا بكم.
قال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ﴾.
أي: فضلناهم بتسليطنا إياهم على سائر الخلق فيسخرونهم كالفلك والدواب،
4248
يدل عليه قوله: ﴿وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر﴾.
ثم قال: ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات﴾.
[أي: من طيبات] المطاعم والمشارب. وقيل: هي [الحلال. وقيل: ذلك] السمن والعسل. وهو قول شاذ.
ثم قال: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾.
فقوله: " على كثير " ولم يقل: " على كل من خلقنا " يدل على أن الملائكة أفضل من بني آدم. وقيل: وأن ابن آدم يتناول الطعام بيده والحيوان آكل بفيه. وفضل
4249
بما أعطي من التمييز وبصر من الهدى. وقال ابن عباس: فضلوا بأنهم يأكلون بأيديهم والبهائم تأكل بأفواهها.
قوله: ﴿يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾.
أي: واذكر يا محمد يوم ندعو.
ومعنى " [ب] إمامهم: نبيئهم الذي أرسل إليهم. قاله: ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وعن ابن عباس أيضاً: [أن] الإمام هنا، كتاب عمل الإنسان مثل قوله: ﴿وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ [الحجر: ٧٩] " وكذلك قال الحسن وأبو صالح وأبو العالية.
وقال ابن زيد: " بإمامهم " بكتابهم الذي أنزل إليهم.
وعن ابن عباس: " بإمامهم " بداعيهم الذي دعاهم إلى الهدى أو الضلالة.
4250
[و] قال أبو العالية: " بإمامهم " بأعمالهم.
ثم قال: ﴿فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾.
أي: من أعطي كتاب عمله بيمينه لم يظلم من جزاء عمله الصالح مقدار فتيل. وهو الخيط الذي في وسط النواة. /.
واختار الطبري أن يكون الإمام هنا: الذي كانوا يعبدونه في الدنيا.
وقال النحاس: الناس يدعون في الآخرة بهذا كله، يدعون بنبيهم، فيقال: أين أمة محمد؟ وبكتابهم، فيقال: أين أمة القرآن؟ وبعملهم، فيقال: أين أصحاب الورع؟ وكذا الكفار يدعون بضد هذا: أين أمة فرعون؟ وأين أصحاب الربا؟ وفي هذا مدح للمؤمنين على رؤوس الناس وذم للكافرين.
وروي أن المؤمن يمد يمينه سهلاً، ويتناول كتابه بالسهولة، وأن المشرك يمد يمينه ليأخذ كتابه فيجتدبه ملك فيخلع يمينه فيتناول كتابه بشماله.
4251
قال [تعالى]: ﴿وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى﴾.
أي: في الدنيا يريد عمى العين عن الهدى فهو في الآخرة أعمى منه في الدنيا [يريد] أنه يكون في الآخرة أعمى العين والقلب. وعلله أبو عمرو في إمالته الأول دون الثاني: أنه أراد أن يفرق بين المعنين: فأمال عمى العين وفتح عمى القلب للفرق.
وكان عمى القلب بالفتح أولى، لأن الألف فيه [في] حكم المتوسط [ة] إذ تقديره: أعمى: منه في الدنيا.
وافعل الذي معه من هي من تمامه ولذلك صرف بعض العرب كل ما لا ينصرف إلا افعل منك لأن منك من تمامه، وهو مذهب الكوفيين، فلما كانت منك
4252
من تمامه صارت بمنزلة المضاف إليه، والمضاف إليه لا يدخله التنوين فامتنع [افعل] منك من الصرف لذلك.
ويدل على أن الثاني من عمى القلب. أنه لو كان من عمى العين لم يقل فيه إلا: هو أشد أعمى من كذا لأن فيه معنى التعجب.
ومذهب المبرد: أنه لا إضمار مع أعمى الثاني من ولا غيرها ولا معنى للتعجب فيه والثاني عنده من عمى العين كالأول.
قال سيبويه والخليل: لم يقولوا: ما أعماه، من عمى العين، لأنه خلقه بمنزلة اليد والرجل، فكما لا يقال: ما إيداه، لا يقال: ما أعماه.
وقال الأخفش: لم يقل ذلك، لأن فعله على أكثر من ثلاثة. والأصل فيه " اعماي. ولا يتعجب مما جاوز الثلاثة على لفظه. لا بد من: " أشد " و " أبين " ونحوه. لأن الهمزة لا تدخل على الهمزة فلا يكن بد من فعل ثلاثي تدخل عليه الهمزة. فأتى بأبين وأشد وأكثر ونحوه مما فيه المعنى المطلوب.
وقيل: إنما لم يقل: " ما أعماه " من عمى العين، ليفرق ما بينه وبين " ما أعماه " من
4253
عمى القلب. وكذلك لم يقولوا: ما أسوده. من اللون، للفرق بينه وبين ما اسوده من السؤدد، ثم اتبع سائر الباب على ذلك، لئلا يختلف.
وأجاز الفراء في الكلام والشعر ما أبيضه، وحكي عن قوم جواز ما أعماه و [ما] أعشاه من عمى العين، قال لأن فعله [من] عمي وعشي فهو ثلاثي.
وتحقيق معنى الآية: ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن الهدى والإسلام. فهو في الآخرة أشد عمى عن الرشد، وما يكسبه رضى ربه [ تعالى] والوصول إلى جنته [تبارك وتعالى].
وقيل المعن: / من كان في هذه الدنيا أعمى عن هذه النعم التي تقدم ذكرها: من تفضيل بني آدم وغير ذلك، فهو في نعم الآخرة أعمى وأضل سبيلاً. لأنه إذا عمي عما يعانيه في الدنيا من النعم، فهو مما يعاينه من نعم الآخرة أعمى أيضاً،
4254
وأضل سبيلاً.
وقال ابن عباس: معناها: من عمي عن قدرة الله في هذه الدنيا فهو في الآخرة أشد عمى. وكذلك قال: مجاهد.
وقال قتادة: معناها من كان في هذه الدنيا أعمى عن الإيمان بالله [ تعالى] وتوحيده [سبحانه] مع ما عاين فيها من نعم الله وخلقه [ تعالى] وعجائبه وما أراه الله [ تعالى] من خلق السماوات والأرض والجبال [والنجوم]، فهو في الإيمان بالآخرة الغائبة عنه - التي لم يرها - أشد عمى وأضل سبيلاً. وهو قول ابن زيد.
ومعنى: ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ وأضل طريقاً منه في أمر الدنيا التي قد عاينها ورءاها.
وهذا القول حسن مختار. لأن من لم يؤمن في الدنيا [بالله تعالى] مع ما يرى من الآيات الظارهة الدالات على توحيد الله [سبحانه] فهو أحرى ألا يؤمن بالآخرة
4255
التي لم يعاين أمرها وإنما هو خبر غائب عنه دعي [إلى] التصديق به.
قوله: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ﴾.
هذه الفتنة، التي ذكرها الله [ تعالى] هنا، هي أن المشركين منعوا النبي ﷺ من استلام الحجر، وقالوا له: لا ندعك حتى تلم بآلهتنا. فحدث نفسه النبي ﷺ بذلك وقال [ تعالى] يعلم أني لها كاره فأنزل الله [ تعالى] :﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ﴾ الآية.
وقال قتادة: أطافوا به ليلة فقالوا أنت سيدنا وابن سيدنا وأرادوه على موافقتهم على بعض ما هم عليه فهم أن يقاربهم فعصمه الله [ تعالى] فذلك قوله: ﴿لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾. وقال مجاهد: قالوا له إتيِ آلهتنا فامسسها
4256
فذلك قوله: ﴿لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾.
وقيل: إنما ذلك أن النبي ﷺ هم أن ينظر قوماً بإسلامهم إلى مدة سألوه الإنظار إليها. قاله: ابن عباس. وهو ثقيف، سألوا النبي [عليه السلام] أن ينظرهم سنة حتى يهدى إلى آلهتهم الهدي. قالوا له: فإذا قبضنا الهدي الذي يهدى لآلهتنا [أ] سلمنا وكسرنا الآلهة فهمّ النبي ﷺ أن يطيعهم على ذلك فأنزل الله [ تعالى] الآية.
وقيل: إنما قالوا للنبي ﷺ: اطرد عنا هؤلاء السقاط والموال [ى] الذين آمنوا بك حتى نج [ل] س معك ونستمع منك. فهم النبي [ ﷺ]. بذلك طمعاً منه أن يؤمنوا فأنزل الله [ تعالى] الآية.
وقوله: ﴿وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ [خَلِيلاً]﴾.
4257
أي: لو فعلت يا محمد ما دعوك إليه من الفتنة لاتخذوك خليلاً وكانوا لك أولياء.
والقوف على " إذا " بالنون عند المبرد لأنها بمنزلة أن.
وقال بعض النحويين الوقف عليها بالألف في كل / موضع كما تقف على النون الخفيفة بالألف إذا انفتح ما قبلها. وقال بعض النحويين: إذا لم تعمل شيئاً وقفت عليها بالألف، وإذا عملت وقفت عليها بالنون.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾.
أي: لولا أن عصمناك عما دعاك إليه المشركون من الفتنة لقد كدت تميل إليهم شيئاً قليلاً.
ولما نزلت هذه الآية قال النبي ﷺ: " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ".
حكى ابن الأنباري عن [بعض] أهل اللغة أنهم قالوا: ما قارب رسول الله ﷺ إجابتهم ولا ركن إليهم قط. وقالوا: " كدت تركن إليهم " ظاهره خطاب للرسول
4258
ﷺ وباطنه خبر عن ثقيف. وتلخيصه وإن كادوا ليركنونك. أي: فقد كادوا يخبرون عنك أنك تميل إلى قولهم فنسب إلى النبي ﷺ فعل ثقيف على جهة الاتساع والمجاز والاختصار. كما يقول الرجل للرجل كدت تقتل نفسك يعني كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت. فنسب القتل إلى المخاطب وهو لغيره. ومنه قولهم لأريتك ها هنا. فادخلوا حرف النهي على غير المنهي عنه. وتلخيص هذا الكلام لا يحضر هذا المكان حتى إذا أتيته لم أجدك فيه. ومثله ﴿فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢] دخل النهي على الموت والموت لا يملك ولا يدفع. وتلخيصه لا تفارقوا الإسلام حتى إذا أتاكم الموت صادفكم مسلمين.
قال [تعالى] ﴿إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات﴾.
أي لو ركنت إلى هؤلاء المشركين فيما سألوك فيه لأذقناك ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة. قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك.
ثم قال: ﴿ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾.
أي لا تجد يا محمد، لو أذقناك ذلك، من ينصرك علينا فيتمنعنا من عذابك.
فأخبر الله تعالى ذكره: بأن العقاب بالأنبياء مثل الثواب لهم في الأضعاف. وقد قال في نساء النبي ﷺ ﴿ نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ﴾ [الأحزاب: ٣١] وقال: ﴿يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ﴾ [الأحزاب: ٣٠].
قال: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا﴾.
أي: إن كاد هؤلاء المشركون أن يستخفونك من الأرض التي أنت فيها ليخرجوك منها، ولو أخروجك منك لم يلبثوا خلفك فيها إلا قليلاً.
قيل: إنهم [هم] اليهود. أرادوا أن يحتالوا على النبي ﷺ في الخروج من المدينة. وقالوا له إن أرض الأنبياء أرض الشام. وإن هذه ليست بأرض نبيء فأنزل الله [ تعالى] الآية. قال هذا المعتمر بن سليمان عن أبيه.
4260
وقيل: هم قريش أرادوا إخراج النبي [ ﷺ] من مكة قاله قتادة. و [قال]: قد فعلوا / ذلك بعد، فأهلكهم الله [ تعالى] يوم بدر: وكانت سنة الله [ تعالى] في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك.
وقال الحسن: همت قريش بإخراج النبي ﷺ من مكة فأراد الله [ تعالى] نفي قريش فأمره الله [ تعالى] أن يخرج منها مهاجراً إلى المدينة فخرج بأمر الله [ تعالى] ولو أخرجوه هم لهلكوا كما قال: ﴿وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾.
وقيل: الأرض هنا أريد بها أرض الحجاز. وقيل: مكة، وعليها أكثر المفسرين. وقيل: المدينة، وفيه بعد. لأن السورة مكية ولم يكن النبي [عليه السلام] في المدينة عند نزول هذه الآية، فالأرض: يعني: بها مكة أحسن وأولى.
4261
وقوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي: [إلا] وقتاً قليلاً. وهو ما أقاموا بمكة بعده من حيث خرج عنهم إلى وقعة بدر. قاله: ابن عباس والضحاك.
و" خلفك ": معناه: بعدك. ومن قرأ " خلافك " فهي لغة فيه. وقيل معناه: مخالفتك، قاله الفراء.
وإذن: حرف نظيره في الأفعال، أرى وأظن. فإذا تقدم عمل، وإذا تأخر أو توسط لم يعمل لضعفه عن قوة الفعل. ولقوة الفعل جاز عمله متوسطاً ومتأخراً وإلغاؤه. وإذا كانت إذن مبتدأة عملت. فإن كانت بين كلامين لم تعمل. فإن كان قبلها حرف عطف جاز الأعمال والإلغاء، ولذلك لم تعمل في " لبثوا ". وفي مصحف عبد الله " وإذا: لا يلبثون خلفك " اعمل إذن في الفعل فهذا حالها مع حرف العطف.
ومعنى إذن: إن كان الأمر كما ذكرت، أو كما جرى بقول القائل: زيد
4262
يأتيك، فتقول: إذن أكرمه. أي إن كان الأمر كما ذكرت وقع إكرامه مني. فإكرامه والفعل منصوب بعد إذن بأن الضمير في التقدير. هذا مذهب حكي عن الخليل وسيبويه.
ويروى: أن إذن هي الناصبة للفعل [لأنها] لما يستقبل لا غير.
قوله: ﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا﴾.
سنة منصوب على المصدر، أي: سن الله [ تعالى] أن من أخرج نبياً من مكان لا يلبث فيه خلفه إلا قليلاً سنة.
قال قتادة: معناه: سُنَّةَ أمم الرسل قبلك، كذلك إذا كذبوا رسلهم وأخرجوهم لم يمهلوا حتى بعث الله [ تعالى] عليهم عذابه.
وقال الفراء: معناه: لا يلبثون خلفك إلا قليلاً كسنة من قد أرسلنا. فلما
حذف الكاف نصب، فعلى القول الأول: يجوز الابتداء بها، وعلى قول الفراء: لا يحسن الابتداء بها.
قال: ﴿أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس﴾.
قال ابن مسعود: هي صلاة المغرب، ودلوك الشمس وقت غروبها. وكذلك روي عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وكذلك روى ابن زيد عن أبي.
وروى الشعبي عن ابن عباس: [أن] دلوك الشمس ميلها للزوال والصلاة. صلاة الظهر. وكذلك روى نافع عن ابن عمر. وهو قول: الحسن والضحاك وقتادة ومجاهد: وروي ذلك عن أبي هريرة.
والدلوك في اللغة الميل. وقال أبو عبيدة: دلوكها / من حين تزول إلى أن تغيب. وقال القتبي: العرب تقول دلك النجم إذا غاب. فاختياره [هو] قول من قال: هو غروب الشمس. واختيار الطبري قول من قال: دلوكها ميلها للزوال.
4264
وقد روي: أن النبي ﷺ قال: " أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت: فصلى بي الظهر ".
وقيل معنى: ﴿أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس﴾ عني بذلك: الظهر والعصر.
وقوله: ﴿إلى غَسَقِ اليل﴾.
غسق الليل إقباله ودنوه بظلامه. قال [هـ] ابن عباس وعكرمة ومجاهد.
وقال قتادة: غسق الليل صلاة المغرب. وقال الضحاك غسق الليل إظلامه؟ فيدخل تحت دلوك الشمس صلاة [الظهر] والعصر وتحت غسق الليل صلاة العشاء.
ثم قال: ﴿وَقُرْآنَ الفجر﴾.
أي: وألزم قرآن الفجر. فهو منصوب على الإغراء، وهو مذهب الأخفش.
4265
وقيل معناه: وأقم قرآن الفجر. فمن نصب بإلزام حسن الابتداء به. ومن نصب بأقم جعله معطوفاً على ما قبله وهو أقم الصلاة. فلا يحسن الابتداء به لأنه معطوف على ما قبله.
" وقرآن الفجر " صلاة الصبح، " كان مشهوداً " أي تشهده ملائكة الليل والنهار. وسميت الصلاة قرآناً لأنها لا تكون إلا بقرآن. وهذا يدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقرآن. وأنه فرض في الصلاة لأنه كله مأمور به في هذه الآية. والنهار عند الخليل: ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
4266
قوله: ﴿وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ﴾.
معناه: ومن الليل يا محمد فاسهر بالقرآن ﴿نَافِلَةً لَّكَ﴾ أي: خاصة لك دون أمتك. والتهجد: التيقظ، والسهر بعد نومة من الليل، والهجود: النوم. يقال: تهجد زيد إذا سهر، وهجد إذا نام.
قال علقمة والأسود: التهجد بعد نومة.
وقال الحسن: التهجد ما كان بعد العشاء الآخرة.
قال ابن عباس معنى: " نافلة لك ": فرضاً عليك. فرض الله ذلك على النبي ﷺ. وقيل: إنما قيل له: " نافلة لك " لأنه لم يكن فعله ذلك ليكفر عنه شيئاً من الذنوب. فهو نافلة للنبي [عليه السلام] لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهو نافلة له لأنه لا ذنب له، يكفر بنوافله، وهو لأمته كفارة لذنوبهم، قال ذلك مجاهد.
4267
وقول ابن عباس: أولى. لأن هذه السورة نزلت بمكة وسورة الفتح إنما نزلت بعد منصرفه من الحديبية، فنزل عليه الأمر بالنافلة قبل معرفته بأن الله [ تعالى] قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فواجب أن يكون ذلك فرضاً عليه خاصة. خصّه الله [ تعالى] به، لأن الصلاة بالليل أفضل أعمال الخير / فَخَضَّ الله [سبحانه] نبيه ﷺ على أفضل الأعمال.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " أفضل الصلاة بعد الصلاة المفروضة الصلاة بالليل ".
وقال عليه السلام: " عليكم بالصلاة بالليل فإنها دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى الله [ تعالى]، وكفارة للسيئات ".
وعنه ﷺ أنه قال: " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ".
وقال: " صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً ".
4268
وقال [النبي] عليه السلام: " صلوا بالليل ولو ركعتين. ما من أهل بيت تعرف لهم صلاة إلا ناداهم مناديا أهل الدار: قومواإلى صلاتكم ".
وفضل الصلاة بالليل عظيم جسيم إليه انتهت العبادة وقد قال ﷺ: " إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم سأل الله خيراً وهو يصلي إلا أعطاه وهي في كل ليلة ".
ثم قال [تعالى]: ﴿عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾.
وعسى من الله واجبة، لأن الله [ تعالى] لا يدع أن يفعل بعباده ما أطعمهم به من الجزاء على أعمالهم لأنه ليس من عادته الغرور ولا من صفته.
والمقام المحمود: هو الشفاعة. قاله: ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج والحسن.
وقال حذيفة: يجمع الله [ تعالى] الناس في صعيد واحد، يسمعهم الداعي
4269
وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خلقوا، سكوتاً لا تكلم نفس إلا بإذنه، فينادي محمداً ﷺ فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهتدي من هديت، وعبدك بين يديك، ولك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت ".
قال: فذلك المقام المحمود الذي ذكر الله جل ذكره.
وعن ابن عباس أنه قال: بلغنا أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بقيت آخر زمرة من زمرة الجنة وآخر زمرة من زمر النار، فتقول زمرة النار لزمرة الجنة: أما نحن فحسبنا ما علم الله [ تعالى] في قلوبنا من الشك والتكذيب فما ينفعكم إيمانكم فإذا قالوا لهم ذلك دعوا ربهم [ تعالى] وصاحوا بأعلى أصواتهم، فيسمع أهل الجنة أصواتهم فيسألون آدم الشفاعة لهم. فيأبى عليهم. ثم يمضون من نبي إلى نبي فكلهم يعتذر حتى يأتوا محمداً ﷺ [ فيشفع لهم] فذلك المقام المحمود وحديث الشفاعة مختلف الألفاظ طويل ذكرنا منه ما يليق بالكتاب.
4270
وعن مجاهد من رواية ليث، عنه أنه قال: المقام المحمود يجلسه معه على عرشه.
و [عن] النبي عليه السلام في قوله: " مقاماً محموداً " أنه قال: " هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي " رواه أبو هريرة عنه.
وروى كعب بن مالك أن النبي عليه السلام قال: " يحشر الناس يوم القيامة [فأكون أنا وأمتي] على تل فيكسوني ربي حلة خضراء ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود ".
قال عبد الله بن عمر: أن النبي عليه السلام قال: " إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول: لست / بصاحب ذلك. ثم بموسى فيقول: كذلك. ثم بمحمد فيمشي بين الخلق حتى يأخذ بحلقة الجنة فيومئذ
4271
يبعثه الله المقام المحمود ".
وروي: عن عبد الله بن سلام أنه قال: " إن محمداً عليه السلام يوم القيامة على كرسي للرب بين [يدي] الرب جل وعز. فهذا قول مجاهد.
وقيل المقام المحمود: هو المقام الذي يحمده فيه الأولون والآخرون يشرف فيه على جميع الخلائق: يسأل فيعطى ويشفع، ليس أحد يوم القيامة إلا تحت لواء محمد ﷺ.
قال تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ]﴾.
يعني: مدخله المدينة حين هاجر إليها وخروجه من مكة. قال ذلك: ابن عباس والحسن وقتادة وابن زيد. ودل على هذا ما تقدم من قوله: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا﴾ [الإسراء: ٧٦].
وعن ابن عباس أيضاً: ﴿أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ أمتني إماتة صدق وأخرجني بعد
4272
الممات مخرج صدق.
وقال مجاهد: يعني به: أدخلني فيما أرسلتني به مدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق من الدنيا.
وعن الحسن أيضاً: ﴿أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ الجنة، وأخرجني مخرج صدق مكة.
وقال الضحاك: معناه أخرجني من مكة آمناً، وأدخلني إياها آمناً وهو يوم الفتح.
وقال أبو صالح: ﴿مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ الإسلام.
وقيل معناه: أدخلني مكة بالعز والقوة والقدرة والحجة على جميع من خلقت وأخرجني من مكة إلى المدينة لا ألقى إلا مؤمناً ومجيباً. ومعنى ﴿مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾: [مدخل] سلامة وحسن عاقبة. فجعل الصدق موضع الأشياء الجميلة.
ثم قال تعالى: ﴿واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً﴾.
أي: حجة تنصرني بها على من ناوأني، وعزاً أقيم به دينك، وملكاً تقوى به
4273
أمتي. قاله: الحسن، قال: يوعده الله [ تعالى] لننزعن ملك فارس عن فارس ولنجعله لك، وعن الروم ولنجعلنه لك، أي لأمتك.
وقيل معناه: حجة بينة، قاله مجاهد. قال ابن زيد: نصيراً ينصرني.
قوله: ﴿وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل﴾.
أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين. جاء الحق وهو القرآن، وزهق الباطل وهو الشيطان. قاله قتادة.
وقال ابن جريج: جاء الحق: هو قتال المشركين، وزهق الباطل. أي: الشرك الذي هم عليه.
وقيل معناه: أن الله جل ذكره أمر نبيه عليه السلام أن يقول هذا إذا دخل مكة على الأصنام. فقال ذلك حين دخل مكة فخرت الأصنام كلها وأمر النبي ﷺ بخرقها.
وقال ابن مسعود: دخل النبي عليه السلام مكة وحول الكعبة ثلاث مائة وستون
صنماً. فجعل يطعنها ويقول: ﴿جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً﴾.
ومعنى زهق ذهب.
قال: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾.
أي ما يستشفي به المؤمنون ورحمة لهم دون الكافرين. وهو شفاء في الدين لما فيه من الدلائل الواضحة والحجج الظاهرة / لا يلحق المؤمن ريب في التوحيد معه.
و (من): هنا لبيان الجنس، وليست للتبعيض. فإذا كانت لبيان الجنس كان القرآن كله شفاء للمؤمنين لأنهم يهتدون به. ولو كانت [من] للتبعيض لكان بعض القرآن شفاء وبعضه غير شفاء وهذا لا يحسن.
وقيل: المعنى وننزل من جهة القرآن الشيء الذي فيه شفاء. فمن غير مبعضة، إذ القرآن كله شفاء للمؤمن في دينه ليس بعضه شفاء وبعضه غير شفاء.
وقوله: ﴿وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً﴾.
أي: إلا هلاكاً لأنهم يكفرون به فيزدادون خساراً.
قال: ﴿وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾.
معناه: وإذا أنعمنا على الإنسان فنجيناه من غم ومن كرب أعرض عن ذكر الله وتباعد بناحيته. ومعنى " نأى ": بعد، قال مجاهد: " نأى بجانبه ": تباعد منا.
ثم قال [تعالى] ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشر [كَانَ يَئُوساً]﴾.
أي: إذا مسه الشر والشدة قنط. قال قتادة: " إذا مسه الشر " يئس وقنط، يعني بذلك: المشرك ينعم عليه وهو يبعد من الإيمان بمن أنعم عليه، وإذا أصابه ضر وفقر يئس من رحمة الله [سبحانه].
وقيل: إنها نزلت في الوليد بن المغيرة ثم في كل من هو مثله من الكفار.
قال: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ﴾.
أي: قل للناس يا محمد، كلكم يعمل على طريقته ومذهبه. وقال ابن عباس: على ناحيته. وقال مجاهد: على حدته. وقال [ابن] زيد: على دينه.
ثم قال: ﴿فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً﴾.
أي: أهدى طريقاً إلى الحق من غيره.
وقيل: معنى الآية كل يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب. فربكم أعلم بمن هو أهدى طريقاً إلى الصواب من غيره.
وقيل: يعمل على شاكلته اي على النحو الذي جرت به عادته وطبعه.
قوله ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾.
المعنى: ويسألك يا محمد، كفار أهل الكتاب عن الروح، قل لهم يا محمد
4277
الروح من أمر ربي.
قال ابن مسعود: كنت مع النبي في حرث بالمدينة، ومعه عسيب يتوكأ عليه. فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم: سلوه عن الروح. وقال بعضهم: لا تسألوه. فسألوه عن الروح، فقام متوكئاً على عسيبه فقمت خلفه، فظننت أنه يوحى إليه. فقال: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً﴾. فقال بعضهم: ألم أقل لا تسألوه.
وقال عكرمة: سأل أهل الكتاب رسول الله ﷺ عن الروح فأنزل الله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح﴾ الآية. فقالوا: أتزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلاً وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ [البقرة: ٢٦٩] فنزلت: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ [والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ]﴾ [لقمان: ٢٧] الآية.
4278
وقال قتادة: لقيت اليهود النبي ﷺ فعنتوه وقالوا: إن كنت نبيأً فستعلم ذلك. فسألوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، فأنزل الله [ تعالى] في ذلك كله.
وعن ابن عباس: " أن اليهود قالوا: / للنبي ﷺ أخبرنا ما الروح؟ وكيف يعذب الروح الذي في الجسد وإنما الروح من الله تعالى؟ ولم يكن نزل إليه في شيء. فلم يجد إليهم فيه شيئاً. وأتاه جبريل عليه السلام فقال له: ﴿قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾. الآية فأخبرهم النبي ﷺ بذلك فقالوا من جاءك بهذا فقال النبي ﷺ جاء به جبريل من عند الله [ تعالى]. فقالوا والله ما قاله لك إلا عدونا فأنزل الله [ تعالى] ﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ﴾ ".
وقال بعض أهل العلم: علم الله [ تعالى] أن الأصلح ألا يخبرهم ما هو لأن اليهود قالت لقريش في كتابها أنه إن فسر لكم ما الروح فليس بنبي. وإن لم يفسره فهو نبي.
وهذا القول: أولى بالآية لأن السورة مكية. وقد روى أن قريشاً اجتمعت بمكة
4279
فقال بعضهم لبعض: والله ما كان محمد كذاباً، ولقد نشأ فينا بالصدق والأمانة فابعثوا منكم جماعة إلى يهود يثرب يسألونهم عنه. فخرجت طائفة حتى لقوا أحبار يهود، وكانوا يومئذ ينتظرونه ويرجون نصرته. فسألهم قريش عنه: فقالت: لهم اليهود: اسألوه عن ثلاث: فإن أخبركم باثنين وأمسك عن الثالثة فهو نبي: تسألوه عن أهل الكفه وعن ذي القرنين وعن الروح. فقدموا مكة وسألوه عن ذلك.
وقيل: أنهم سألوه عن عيسى عليه السلام.
فقيل: لهم الروح من أمر الله، أي: هو شيء أمر الله [ تعالى] به وخلقه لا كما تقول النصارى.
وكان ابن عباس يكتم تفسير الروح. وقال قتادة: هو جبريل عليه السلام. وعن ابن عباس: أنه ملك. وعن علي بن أبي طالب [Bهـ] إنه ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، لكل وجه منها سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله [ تعالى] يتلك اللغات كلها، يخلق من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى
4280
يوم القيامة.
وقيل الروح القرآن، لقوله: ﴿أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: ٥٢]. وإنما سمي القرآن روحاً لأنه حياة للقلوب والنفوس لما تصير إليه من الخير بالقرآن.
وقيل إن اليهود وصوا قريشاً يسألون النبي ﷺ عن ذلك ليمتحنوا علمه وهذا أحسن ما قيل لآن السورة مكية.
وقال أبو صالح: الروح خلق كخلق بني آدم وليسوا بني آدم، لهم أيد وأرجل.
ومعنى ﴿مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ أي من الأمر الذي يعلمه دونكم.
وقوله: ﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً﴾.
يعني الذين سألوا النبي ﷺ خاصة. وقيل عني به الخلق كلهم ولكنه
4281
غلب المخاطب على الغائب.
قال عطاء: نزلت بمكة ﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً﴾ فلما هاجر، " أتى أحبار اليهود إلى النبي ﷺ فقالوا له: يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول ﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أفعنيتنا أم قومك؟ فقال: كلا قد عنيت. قالوا فإنك تتلو / إنا قد أوتينا التوراة وفيها بيان كل شيء، فقال النبي ﷺ: هي في علم الله قليل. وقد آتاكم ما إن عملتم به انتفعتم وأنزل الله [ تعالى] :﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ﴾ الآية ".
قال: ﴿وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾.
أي لو أردنا لذهبنا بالقرآن ثم لا تجد لك بذهابه علينا قيماً ولا ناهراً يمنعنا من ذلك.
4282
قال ابن مسعود: معنى ذهابه رفعه من صدور قارئيه. وقال: تطرق الناس ريح حمراء من نحو الشام فلا يبقى منه في مصحف رجل شيء ولا في قلبه آية، ثم قرأ الآية ﴿وَلَئِن شِئْنَا﴾. وروي عنه أيضاً: أنه قال: يسري عليه ليلاً ولا يبقى منه في مصحف ولا في صدر رجل شيء. ثم قرأ: ﴿وَلَئِن شِئْنَا﴾ الآية.
وروي عنه أنه قال: فيصبح الناس منه فقراء مثل البهائم. فيكون معنى الآية على هذا: ولئن شئنا لمحوناه من الكتب ومن الصدور حتى لا يوجد له أثر ولكن لا نشاء ذلك. رحمة من ربك وتفضلاً منه.
﴿[إِنَّ فَضْلَهُ] كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً﴾ باصطفائه إياك لرسالته ووحي كتابه وغير ذلك من نعمه.
وقال ابن مسعود: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما يبقى منه الصلاة.
4283
وإن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن يرفع. قالوا كيف يرفع وقد أثبته الله في قلوبنا، وأثبتناه في مصاحفنا؟ قال يسرى عليه ليلة ويذهب بما في قلوبكم وبما في مصاحفكم ثم قرأ الآية.
ومعنى: ﴿بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً﴾ أي: لا تجد من يمنعك من ذلك ولا من يتوكل [لك] برد شيء منه. وهذا خطاب للنبي ﷺ والمراد به أمته.
قوله: ﴿[قُل] لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ﴾ إلى قوله: ﴿ظَهِيراً﴾.
المعنى: قل يا محمد للذين ادعوا بأنهم يأتون بمثل هذا القرآن ﴿[قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن] لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ أي: عويناً.
وهذه الآية: نزلت في قوم من اليهود جادلوا النبي ﷺ في القرآن وسألوه آية غير القرآن تدل على نبوته وادعوا أنهم يقدرون على مثل هذا القرآن فأعجزهم الإتيان بمثله فقيل لهم: ﴿فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود: ١٣] فأعجزهم ذلك. فقيل لهم:
4284
﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ [يونس: ٣٨] فأعجزهم ذلك وقد كان عصرهم عصر فصاحة وبلاغة.
وقيل: إن الخطاب بذلك لقريش وهم الذي عجزوا عن الإتيان بسورة وبعشر سور وهم أهل الفصاحة والبلاغة والشعر والخطابة وكانوا على حرص على أن يأتوا بما يحتجون به على النبي ﷺ. فلم يقدروا على الإتيان بشيء من ذلك تقوم لهم به حجة فدل ذلك على إعجاز القرآن وأنه دليل على نبوة محمد ﷺ.
فمن إعجاز القرآن تأليفه بالأمر والنهي والوعظ والتنبيه والخبر والتوبيخ وذلك لا يوجد متألفاً في كلام. ومن إعجازه الحذف والإيجاز ودلالة اليسير من اللفظ على المعاني / الثكيرة. وهذا موجود بعضه في كلام العرب [لكن] لا يوجد مثل قوله: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ﴾ [الأنفال: ٥٨] فقد تضمن هذا معاني، ولا يوجد مثله في كلام العرب بهذه الفصاحة ومثله كثير في القرآن.
ومعنى الإيجاز هو إظهار المعاني الكثيرة باللفظ القليل ومن إعجازه ما فيه
4285
من علوم الغيب التي لم تكن وقت نزوله ثم كانت ومنها ما لم تكن بعد. ومنها ما كانت ولم يكن أحد يعرفها في لذك الوقت، فنزل علمها وتفسيرها في القرآن كخبر يوسف وإخوته. وخبر ذي القرنين، وأهل الكهف، وإخبار الأمم الماضية والقرون الخالية، التي قد اندرس خبرها وعدم عارف أخبارها، وغير ذلك... فنزل القرآن بتبيانها ونصها على ما كانت عليه. ودل على صحة ما أى فيه من الأخبار أن كثيراً منها قد نزل في التوراة [كذلك]. فالتوراة مصدقة لما في القرآن والقرآن مصدق لما نزل في التوراة. وإعجازه أكثر من أن يحصى وله كتب مفردة لذلك.
قوله: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾.
أي: ولقد بينا للناس في هذا القرآن من كل مثل تذكيراً لهم واحتجاجاً عليهم وتنبيهاً لهم على الحق ﴿فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً﴾ أي إلا جحوداً للحق.
قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً﴾.
أي: قال المشركون من قومك يا محمد لن نصدقك حتى تفجر لنا من أرضنا
﴿ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ﴾ [ ٩١ ] أي بأرضنا هذه ﴿ [ فتفجر الأ١ ] نهار خلالها تفجيرا ﴾ [ ٩١ ] أي : خلال النخيل والكروم أي بينها في أصولها٢.
١ ساقط من ق..
٢ وهو تفسير ابن جرير، انظر: جامع البيان ١٥/٩١..
هذه عيناً تنبع بالماء لنا. قال مجاهد وقتادة. ﴿أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ﴾ أي بأرضنا هذه ﴿[فَتُفَجِّرَ الأ] نهار خِلالَهَا تَفْجِيراً﴾ أي: خلال النخيل والكروم أي بينها في أصولها.
﴿أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً﴾ أي: قطعاً. لأنه جمع مسفة وهي القطعة. ومن قرأ بإسكان السين أراد قطعة واحدة. ويحتمل أن يكون مسكناً من الفتح فيكون معناه مثل معنى قراءة من فتح السين.
ثم قال: ﴿أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً﴾.
أي: قبيلا [قبيلا]، كل قبيلة على حدتها قاله مجاهد. وقال قتادة " قبيلاً " أي: نعاينهم: يقابلونا. ونقابلهم. وقاله ابن جريج.
وقال القتبي: " قبيلاً " [أي] ضميناً. أي يضمنون لنا إتيانك بذلك. وهو أحد قولي أبي إسحاق. يقال قد تقبل بهذا، أي تكفل به.
قال: ﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ﴾.
أي من ذهب، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. قال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف حتى قرأنا [هـ] في مصحف ابن مسعود " أو يكون لك بيت من ذهب ".
وأصل الزخرف في اللغة الزينة ومنه قوله: ﴿حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا﴾ [يونس: ٢٤] أي
4288
أخذت كما زينتها ولا شيء أحسن في البيت من زينة الذهب.
ثم قال: ﴿أَوْ ترقى فِي السمآء﴾.
أي: تصعد في درج السماء. ولهذا الإضمار، أتى بـ " في " ولو لم يكن ثم إضمار لكان " إلى السماء " ففي: يدل على المحذوف. أي أو ترقي في سلم إلى السماء.
ثم قالوا: ﴿وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ﴾.
أي: لن نؤمن بك إذا صعدت إلى السماء ﴿حَتَّى / تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ﴾. منشوراً: أي: كتاباً من عند الله تعالى يأمرنا فيه باتباعك والإيمان بك. قال مجاهد: " كتاباً نقرؤه " أي: من رب العالمين، تصبح عند رأس كل رجل صحيفة يقرؤها.
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: قل لهم يا محمد: ﴿سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً﴾.
أي: قل لهم براءة لله من سوء ما تقولون، وتعظيماً له من [أن] يؤتى به
4289
وبملائكته أن يكون له سبيل إلى شيء من ذلك هل أنا إلا بشر أي: عبد من عبيده من بني آدم فكيف أقدر على ما تكلفوني. وقوله: " رسولاً " أي: أرسلت لأبلغكم عن الله أمره ونهيه.
وكان هذا الكلام فيما رُوِيَ: جرى بين النبي ﷺ وبين ملأ [من] قريش اجتمعوا للمناظرة فتكلموا بما نصه الله تعالى في هذه الآية عنهم. وذكر ابن عباس في ذلك: خبراً طويلاً معناه: أنهم اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة وبعثوا في النبي عليه السلام فأتاهم طمعاً أن يكونوا قد ظهر لهم اتباعه فعذلوه وأكثروا في اللوم والعتب [وطولوا]. قالوا له: إنك فرقت جمعنا، وعيبت ديننا، وسفهت أحلامنا، وما بقي قبيح إلا جئته فينا، أو كما قالوا، ثم قالوا [له]: إن كنت تحب مالاً جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن أردت الشرف سودناك علينا. وإن أردت الملك، ملكناك علينا... في كلام طويل عتبوه به وعددوا عليه فيه، ووعدوه،
4290
واستنزلوه، طمعاً أن يميل إليهم. ثم قالوا له: فإن لم تفعل ما قلنا لك فاسأل ربك يبعث ملكاً يصدقك بما تقول، أو فاسأله أن يجعل لك جنة وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك تبتغي. فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه. فأنكر النبي ﷺ ذلك من قولهم، وقال: " إنما أنا بشر بعثت إليكم نذيراً لتؤمنوا بالله وكتابه " فقالوا له فاسقط السماء علينا، كما زعمت، إن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن نفعل، فقال النبي ﷺ: ذلك إلى الله إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل، فقال النبي ﷺ: ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك "، ثم أطالوا الكلام معه، وقالوا [له] إنما يعلمك ما جئت به رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً، وادّعوا أنهم يعبدون الملائكة، وهن بنات الله - تعالى الله عن ذلك - فقال النبي ﷺ وقام [معه] ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب، وهو عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، فقال له: يا محمد أعَرَض عليك قومك
4291
ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم من العذاب فوالله لا أؤمن بك أبداً، حتى تتخذ إلى السماء سلماً ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة، معك أربعة أملاك يشهدون لك إنك ما تقول حق وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك.
وهذا معنى قوله: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ / بِأَيْدِيهِمْ﴾ [الأنعام: ٧] الآية.
وروى أن عبد الله بن [أبي] أمية قال للنبي ﷺ: لن نؤمن لك حتى تنزل علي كتاباً من السماء فيه من الله رب العالمين إلى ابن أمية، إني قد أرسلت محمداً [نبياً] فآمن به وصدقه. والله لو أتيتني بهذا الكتاب ما آمنت بك ولا صدقتك ثم انصرف رسول الله ﷺ حزيناً لما فاته مما كان كمع به من إيمان قومه حين دعوه.
قوله: ﴿وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى﴾.
المعنى: وما منع مشركي قومك يا محمد من الإيمان بالله ﴿إِذْ جَآءَهُمُ الهدى﴾ إلا قولهم جهلاً منهم ﴿أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً﴾. كأنهم استبعدوا أن يبعث الله رسولاً من بني
آدم فكفروا ولم يؤمنوا كذلك ولم يعلموا أن الأنبياء كلهم كانوا من بني آدم.
أي: لو كان سكان الأرض ملائكة لجاءهم الرسول من الملائكة مثلهم. لأن الملائكة إنما تراهم أمثالهم من الملائكة ومن خصه الله [ تعالى] من بني آدم بذلك، فكيف يبعث [الله] إليهم من الملائكة رسولاً وهم لا يقدرون على رؤية ذلك وإنما يرسل إلى كل صنف من جنسه فهذا هو العدل.
ومعنى: " مطمئنين " مستوطنين الأرض. وقيل: [معنى] " مطمئنين ": لا يعبدون الله ولا يخافونه مثلكم.
قال تعالى: ﴿قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾.
أي: قل لهم يا محمد: ﴿كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ فإنه نعم الكافي.
و" شهيداً " حال، أي: كفى بالله في حال الشهادة. وقيل هو تمييز أي كفى
بالله من الشهداء.
﴿إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾ أي: ذو خبر وعلم بأمورهم وأفعالهم " بصيراً " بتدبيرهم وسياستهم.
وروي أنهم قالوا للنبي ﷺ: من يشهد لك بأنك رسول الله فأنزل الله [ تعالى] :﴿ قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ الآية.
قال تعالى: ﴿وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد﴾.
أي: من يهده الله للإيمان فهو المهتدي للرشد والحق ومن يضلله عن الإيمان ولا يوفقه فلن تجد له يا محمد أولياء من دون الله [ تعالى] ينصرونه من عذاب الله [سبحانه].
﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ﴾.
أي: نجمعهم ليوم القيامة من بعد تفرقهم في قبورهم.
4294
﴿على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً﴾. أي: عمياً عن كل شيء يسرهم ولكنهم يرون، ودل على رؤيتهم قوله: ﴿وَرَأَى المجرمون النار﴾ [الكهف: ٥٣].
قوله: " وبكماً " أي: بكماً عن الحجة فلا ينطقون بحجة ولكنهم يتكلمون ودل على كلامهم قوله: ﴿دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً﴾ [الفرقان: ١٣].
قوله: " وصماً " أي: صماً عن سماع ما يسرهم. وهم يسمعون ودل على سماعهم قوله: ﴿سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً﴾ [الفرقان: ١٢].
وقيل: إنهم في حال حشرهم إلى الموقف عمي وبكم وصم. ثم يحدث الله [ تعالى] لهم سمعاً وبصراً ونطقاً في أحوال أخر.
وقوله: ﴿على وُجُوهِهِمْ﴾ معناه: أنهم يحشرون صاغرين.
وقيل: بل معناه: أنهم يحشرون يمشون على وجوههم لأن الذي أمشاهم على أرجلهم يقدر أن يمشيهم على وجوههم، وعلى ما يشاء من أعضائهم.
ثم قال: ﴿مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ / كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً﴾.
4295
أي: مصيرهم إلى جهنم ومسكنهم جهنم وقال ابن عباس معناه: هم وقودها. ومعنى خبت: سكنت، قاله ابن عباس. وعنه أيضاً: كلما أحرقتهم يسعر لهم حطبها، فإذا أحرقتهم فلم تبق منهم شيئاً صارت جمراً تتوهج، فذلك خبوها، فإذا بدلوا خلقاً جديداً عاودتهم.
وقال مجاهد: " خبت " طفيت "، وقال قتادة: معناه كلما أحرقت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.
وأهل اللغة يقولون: خبت النار، تخبو خبوءاً إذا سكن لهبها، فإن سكن لهبها وعلا جمرها، قيل: كبت تكبو كبوءاً. فإن طفى بعض الجمر وسكن اللهب قيل خمدت تخمد خموداً. فإن طفيت لها قيل: همدت تهمد هموداً.
4296
ومعنى: ﴿زِدْنَاهُمْ سَعِيراً﴾ أي: زدنا هؤلاء الكفار استعاراً بالنار في جلودهم.
وليس خبوتها فيه نقص من عذابها ولا راحة لهم وإنما هم في زيادة أبداً لقوله: ﴿وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا﴾ [فاطر: ٣٦] لا يفتر عنهم.
وقال المبرد: جعل موضع خبوت نار جهنم اسعاراً فهي مخالفة لما تفعل من نار الدنيا، ولا راحة لهم فيها إذا خبت بل يزيد عليهم العذاب.
قوله: ﴿ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا﴾.
معناه: هذا العذاب جزاء هؤلاء المشركين لأنهم كفروا بآيات الله. أي: جحدوها وأنكروها ولم يؤمنوا بها. وأنكروا البعث والثواب والعقاب. ﴿وَقَالُواْ﴾ على الإنكار منهم والاستبعاد: ﴿أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً﴾ [الإسراء: ٤٩] أي: عظاماً [بالية] وقيل تراباً. و ﴿أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً﴾ [الإسراء: ٤٩] أي لا نبعث. وقد تقدم تفسير هذا بأشبع منه في صدر السورة.
قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾.
والمعنى: أَوَلَم ينظر هؤلاء المنكرون البعث أن الله [ تعالى] الذي ابتدع خلق السموات والأرض من غير شيء وأقامها بقدرته، قادر بتلك القدرة على أن يخلق أشكالهم وأمثالهم من الخلق. وإن إعادتهم لا تتعذر على من يقدر هذه القدرة.
ثم قال: ﴿وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ﴾.
أي: جعل الله لهلاكهم أجلاً لا شك في وقوعه بهم ﴿فأبى الظالمون إِلاَّ كُفُوراً﴾ أي [إلا] جحوداً بربهم.
قال تعالى: ﴿قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي﴾.
أي: قل يا محمد: لهؤلاء المشركين لو أنكم أنتم تملكون خزائن أملاك ربكم إذاً
لبخلتم بذلك خشية الفقر قال ابن عباس. وقال قتادة: خشية الفاقة.
والرحمة هنا المال. وقيل النعم، حكى أهل اللغة أنفق الرجل وأصرح وأعدم وافتر إذا قلّ ماله.
ثم قال: ﴿وَكَانَ الإنسان قَتُوراً﴾.
يعني الكافر خاصة، بمنزلة قوله: ﴿إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات: ٦].
ومعنى " قتوراً ": بخيلاً قاله ابن عباس. وقال قتادة: ممسكاً. يقال أقتر يقتر وقتر يقتر ويقتر بمعنى.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾.
أي: تبين لمن رآها أنها لموسى عليه السلام، شاهدة له على صدقه قال ابن عباس: هي يده وعصاه ولسانه والبحر والطوفان والجراد والقمل / والضفادع والدم.
4299
وقال الضحاك: ألقى عصاه مرتين عند فرعون، ونزع يده، والعقدة التي كانت بلسانه، وخمس آيات في الأعراف: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
قال محمد بن كعب القرظي: سألني عمر بن عبد العزيز عن التسع آيات، فقلت له: هن الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم و [البحر و] عصاه والطمسة والحجر. فقال: وما الطمسة؟، فقلت: دعا موسى وأمنّ هارون، فقال الله ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا﴾ [يونس: ٨٩]. فقال عمر: كيف يكون الفقه إلا كذا. يعني بالطمسة قولها: ﴿رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ [واشدد على قُلُوبِهِمْ]﴾ [يونس: ٨٨] قال: فدعا عمر بخريطة كانت لعبد العزيز ابن مروان، أصيبت بمصر فإذا فيها " الجوزة والبيضة والعدسة ما تنكر، مسخت حجارة، كانت من أموال فرعون أصيبت بمصر.
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: هي الحجر، والعصا واليد والطوفان
4300
والجراد والقمل والضفادع و [الدم و] الطور. وقال مالك: الطوفان الماء.
وروى مطرف عن مالك في قوله " تسع آيات بينات " أنه قال: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا ويده والبحر والجبل إذ نتقه عليهم.
وقال عكرمة: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وهو قول الشافعي. وكذلك روى قتادة عن ابن عباس أيضاً قال: منها سبعة متتابعة في الأعراف. واليد والعصا. وقال الحسن مثل ذلك، إلا أنه جعل السنين ونقص من الثمرات آية، وجعل التاسعة تلقف العصا ما يأفكون.
وروي عن صفوان بن عسال: " أن يهوديين سألا النبي ﷺ عن التسع الآيات فقال: هن ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببرئ إلى سلطان ليقتله، ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تولوا الفرار بعد الزحف وعليكم خاصة يهود ألا تعتدوا في السبت فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي، فقال: وما يمنعكما أن
4301
تتبعاني؟ فقالا: إن داود دعا ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود ".
ثم قال: ﴿فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ﴾.
أي إذ جاءهم موسى. قال الحسن: سؤالك إياهم نظرك في القرآن.
وقيل هو خطاب للنبي ﷺ يراد به الشاك من أمته.
وقرأ ابن عباس ﴿فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ على الخبر، يعني سأل موسى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل.
ثم قال تعالى: ﴿فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً﴾.
معناه: أن فرعون لما رأى الآيات ولم يكن له فيها مدفع قال: إن موسى ذو سحر، وإن ما تفعل يا موسى من العجائب من سحرك.
4302
وقيل: هو مفعول في موضع فاعل أي: ساحر، بمنزلة ﴿حِجَاباً مَّسْتُوراً﴾ [الإسراء: ٤٥] أي: ساتراً. وقيل: معناه مخدوعاً.
قوله: ﴿[قَالَ] لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض﴾.
معناه: قال / موسى لقد علمت يا فرعون أن هذه الآيات ما أنزلها الله إلا بصائر للعباد وتصديق هذه المعاني قوله: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ﴾ [النمل: ١٤].
وهذا: على قراءة من قرأ بفتح التاء في: علمت ".
ومن ضم التاء فمعناه: أن موسى ﷺ يخبر عن نفسه أنه على يقين أن
4303
الآيات، الله أنزلها بصائر لعباده. ويكون هذا من موسى ﷺ جواباً لقول فرعون له: ﴿إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً﴾ [الإسراء: ١٠١] أي: قد سحرت فلا تدري ما تقول. فقال: موسى لقد علمت أنا أن الله أنزل هذه الآيات بصائر لعباده ولست بمسحور.
ونصب بصائر على الحال أي: أنزلها حججاً وهي جمع بصيرة.
ثم قال: ﴿وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً﴾.
وقال ابن عباس: " مثبوراً " ملعوناً، أي: ممنوعاً من الخير، وهو قول: الضحاك. وقال مجاهد وقتادة: مثبوراً هالكاً. وقال عطية العوفي: " مثبوراً ": مبدلاً أي مغيراً وقال ابن زيد: " مثبوراً ": مخبولاً لا عقل لك.
وعن الضحاك: " مثبوراً ": مسحوراً. رد [عليه] موسى ﷺ، مثل ما
4304
قاله فرعون بغير اللفظ، والمعنى سواء.
قال [تعالى]: ﴿فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض﴾. أي: أراد فرعون أن يزيل موسى وبني إسرائيل من أرض مصر إما بقتل أو غيره ﴿فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً﴾. ونجينا بني إسرائيل وموسى منه. ﴿وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ﴾ أي: من بعد هلاكه ﴿لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض﴾ أي: أرض الشام. ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة﴾ أي: قيام الساعة ﴿جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً﴾ أي: مختلطين، قد التف بعضكم على بعض لا تتعارضون، ولا ينحاز أحد منك إلى قبيلته.
وقال ابن عباس: " لفيفاً ": جميعاً. وقال غيره: [لفيفاً] من كل قوم. وقال قتادة: " لفيفاً " جميعاً أولكم وآخركم، وكذلك قال: الضحاك.
واللفيف جمع لا واحد له كالجميع. وقيل: هو مصدر لففت فلذلك واحد في موضع الجمع.
قال: ﴿وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ﴾.
أي: أنزل هذا القرآن بالحق لأن فيه الأمر بالعدل والإنصاف والأخلاق الجميلة ﴿وبالحق أَنْزَلْنَاهُ﴾ أي: وبذلك نزل من عند الله [ تعالى] على نبيه عليه السلام.
ثم قال: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾.
أي: مبشراً بالجنة من أطاعك ومنذراً بالنار من عصاك.
قال تعالى: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ﴾.
قال ابن عباس: " فرقناه " فصلناه. وقيل: معنى [فرقناه] فرقنا به بين الحق والباطل والمؤمن والكافر.
وقرأ: ابن عباس وعكرمة والشعبي وقتادة " فرقناه " بالتشديد على معنى أنزل به آية بعد آية.
4306
قال ابن عباس: أنزل القرآن جملة واحد إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. وهو قوله: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً﴾.
ونصب " قرآناً " عند البصريين بإضمار فعل يفسره ما بعده. ونصبه عند غير البصريين على العطف " مبشراً ونذيراً ".
وقرآناً يتأول بمعنى: رحمة. لأن القرآن رحمة. فلا يحسن الوقف على هذا التقدير على نذيراً. ويقف عليه على القول الأول.
و/ معنى ﴿لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ﴾ على تؤده، وترتله وتبينه فلا تعجل في تلاوته فلا يفهم عنك. قال ابن عباس: " على مكث " على تأن. وقال
4307
مجاهد على ترسل. وقال مالك " على مكث " على تثبت وترسل.
ومعنى ﴿وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً﴾ أي نزلناه شيئاً [بعد] شيء. وقال الحسن نزل القرآن قبل أن يهاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة بثماني سنين. وبالمدينة عشر سنين.
قوله: ﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا﴾.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين آمنوا بهذا القرآن أو لا تؤمنوا فإن إيمانكم لا يزيد في خزائن رحمة ربي. وفي الكلام تهدد ووعيد، والمعنى: فإن تكفروا، فإن الذين أوتوا العلم بالله من قبله، أي: من قبل القرآن، يعني به مؤمني أهل الكتاب، إذا يتلى عليهم هذا القرآن، يخرون، تعظيماً له، للأذقان سجداً. قال مجاهد: هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد ﷺ قالوا: ﴿سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً﴾.
وقال ابن زيد ﴿مِن قَبْلِهِ﴾ من قبل النبي ﷺ.
4308
وقال ابن جريج: ﴿إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ﴾ يعني: كتابهم.
وقيل: عني بقوله: ﴿الذين أُوتُواْ العلم﴾ محمداً ﷺ. وقيل: هم قوم من ولد اسماعيل ﷺ تمسكوا بدينهم إلى بعث محمد ﷺ منهم زيد بن عمرو بن نفيل. وورقة ابن نوفل.
وقوله: ﴿يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً﴾.
قال ابن عباس: للوجوه، وكذلك قال قتادة. وقال الحسن " للأذقان " للجبين.
ثم قال: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً﴾.
أي: ويخر هؤلاء الذين أوتوا العلم، من مؤمنين أهل الكتاب من قبل نزول القرآن، إذا يتلى عليهم القرآن لأذقنانهم يبكون. ويزيدهم وعظ القرآن خشوعاً لله
4309
[ تعالى].
وهذه مثل قوله في مريم: ﴿إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً﴾ [مريم: ٥٨].
وقوله: ﴿إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً﴾.
أي: ما كان وعد ربنا من ثواب وعذاب إلا مفعولاً. وقيل: معناه: إن كان وعد ربنا أن يبعث محمداً ﷺ لمفعولاً.
قال: ﴿قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن﴾.
معنى الآية: أن النبي ﷺ كان يدعو ربه فيقول: مرة يا الله، ومرة: يا رحمن. فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعو الهين. فأنزل الله تعالى هذه الآية احتجاجاً عليهم.
قال ابن عباس: سمع المشركون النبي ﷺ يدعو في سجوده يا رحمن يا
4310
رحيم: فقالوا: [إن] هذا يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو مثنى مثنى. فأنزل الله [ تعالى] الآية: ﴿قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن﴾.
وروي: أن أبا جهل سمع النبي ﷺ وهو ساجد يقول في دعائه يا الله يا رحمن فقال: يا معشر قريش، محمد ينهانا أن نعبد إلهين وهو يعبد إلهاً آخر يقال له الرحمن، فأنزل الله [ تعالى] الآية.
وقوله: ﴿أَيّاً مَّا تَدْعُواْ﴾.
ما صلة، و (ايا) منصوب بتدعوا. وتدعوا جزم بالشرط وقيل [" ما "] بمعنى أي كررت لاختلاف [اللفظ كما تقول ما إن رأيتكما الليلة. فإن بمعنى ما كررت لاختلاف]. اللفظين.
وقال الأخفش ﴿أَيّاً مَّا تَدْعُواْ﴾ معناه: أي الدعاءين تدعوا كأنه يجعل ما اسماً.
4311
وقال أبو إسحاق: المعنى: أي الأسماء تدعو إن / دعوت الله أو الرحمن فكله اسم لله لأن له الأسماء الحسنى.
ويلزم في هذين القولين ألا تنون " أي ": وأن تكون مضافة إلى " ما ". وفي إجماع المصاحف والقراء على تنوين " أي ": ما يدل على صحة كون " ما " زائدة للتأكيد وكونها بمعنى " أي " أعيد للتأكيد وحسن ذلك لاختلاف اللفظ.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ﴾.
قالت عائشة رضي الله عنها، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير وعروة بن الزبير: نزلت في الدعاء. فالصلاة هنا الدعاء على قولهم.
وقال الضحاك: هي منسوخة بقوله: ﴿واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً﴾ [الأعراف: ٢٠٥]. الآية، وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً: أن " الصلاة " هنا: القراءة في الصلاة، قال: كان
4312
النبي ﷺ إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون، سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به. فقال الله [ تعالى] لنبيه ﷺ ﴿ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ﴾ فيسمع المشركون ﴿وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا﴾ حتى لا يسمعك أصحابك ﴿وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً﴾ أي: اطلب بين الإعلان والتخافت طريقاً.
قال الضحاك: هذا كان بمكة.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: نزلت هذه الآية في التشهد. وكذلك قال ابن سيرين، قال: كانت العرب ترفع أصواتها بالتشهد، فنزلت هذه الآية في ذلك.
وقال عكرمة والحسن: كان النبي ﷺ يصلي بمكة جهاراً [فأمر] بإخفائها.
4313
وقال قتادة: معناه ولا تحسن صلاتك مرائياً في العلانية، ولا تخافت [بها] تسيئها في السريرة.
وعن ابن عباس أنه قال: لا تصل مراءاة للناس، ولا تدعها مخافة الناس.
واختار الطبري قول من قال: أنه الدعاء [لأنه] أتى عقيب قوله: ﴿[قُلِ] ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن﴾، فهي محكمة، لأن رفع الصوت بالدعاء مكروه، وهو قول أبي هريرة وأبي موسى الأشعري وعائشة رضي الله عنهم.
وقد روي عن النبي ﷺ: النهي عن رفع الصوت بالدعاء فقال: " إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً ".
4314
والمخافتة الإخفاء.
قال تعالى: ﴿وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل﴾.
[أي]: لم يحالف أحداً ولا يبتغي نصر أحد، قاله مجاهد:
قال قتادة: بلغنا أن النبي عليه السلام كان يعلم أهله الصغير والكبير ﴿وَقُلِ الحمد لِلَّهِ﴾ إلى آخر السورة.
وقال ابن عباس: التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل ثم تلى
﴿لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ﴾ [الإسراء: ٢٢].
وهذه الآية: رد وإنكار على أصحاب الأديان: فقوله: ﴿لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً﴾. رد على اليهود والنصارى، وبعض كفار العرب. لأنهم قالوا: المسيح ابن الله، وقالوا
4315
عزير ابن الله، وقالت العرب: الملائكة بنات الله [سبحانه وتعالى علواً كبيراً] وقوله: ﴿وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك﴾ رد على العرب لأنهم قالوا في تلبيتهم: إلا شريكاً هو لك تملكه. وما ملك، وجعلوا لله شركاء الجن وغيرهم وقوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل﴾ رد على الصابئين والمجوس لأنهم قالوا: لولا أولياء الله لذل / وقوله: ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً﴾ أي: كبرّة أنت يا محمد عما يقولون تكبيراً. أي: عظمه ونزهه عن قول الكفار فيه.
وَرُوِيَ: " أن رجلاً أتى النبي ﷺ فشكا إليه كثرة الدين وكثرة الهم فقال له النبي ﷺ: " اقرأ آخر [سورة] بني إسرائيل ﴿قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن﴾ ثم قال: قل توكلت على [الله، توكلت على] الحي الذي لا يموت ثلاث مرات " ".
4316

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الكهف مكية
من رواية ابن وهب أن النبي - ﷺ - قال: "ألا أخبركم بسورة عظمها ما بين السماوات والأرض، لمن جاء بها من الأجر مثل ذلك؟ قالوا: يا نبي الله، أي سورة هي: قال: سورة الكهف. من قرأ [بها] يوم الجمعة أعطي بها نوراً بين السماوات والأرض، ووقي بها فتنة القبور.
وعن بعض أهل المدينة أنه قال: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أعطي نوراً ما بينه وبين مكة، وغفر له ما بين الجمعتين ووقي فتنة الدجال ".
4317
Icon