سورة الحج
ثمان وسبعون آية بعضها مدنية وأكثرها مكية
ﰡ
( يأيها الناس اتقوا ربكم( أي عقابه بأن تطيعوه ( إن زلزلة الساعة( أي تحريكها الأشياء على الإسناد المجازي أو تحركها فيها فأضيف إليها إضافة معنوية بتقدير في أو إضافة المصدر إلى الظرف على إجرائه مجرى المفعول به ( شيء عظيم( أي هائل أن مع صلتها في مقام التعليل علل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة ليتصوروها بعقولهم ويعلموا أنه لا يؤمنهم منها سوى التذرع بلباس التقوى، اختلفوا في هذه الزلزلة ؟ فقال علقمة والشعبي هذا من أشراط الساعة تكون قبل قيام الساعة، قال جلال الدين المحلي قبل طلوع الشمس من مغربها واختار هذا القول ابن العربي والقرطبي بقرينة قوله تعالى :( يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت }
( يوم ترونها( أي الساعة أو الزلزلة ظرف لقوله :( تذهل( بسببها ( كل مرضعة( أي امرأة ألقمت الرضيع ثديها، يقال امرأة مرضع بلا هاء إذا أريد بها الصفة مثل حائض وحامل يعني من شأنها أن ترضع وإذا أريد به الفعل حالا يقال مرضعة ( عما أرضعت( ما موصولة أو مصدرية يعني تدهش من هول تلك الزلزلة فتذهل عمن ترضعها وتنزع ثديها من فيه أو تذهل عن إرضاعها هذه الجملة خبر ثان لإن والرابط ضمير ترونها أو تعليل شأنها ( وتضع كل ذات حمل حملها( أي تسقط جنينها من هول تلك الزلزلة عطف على تذهل، قال الحسن تذهل المرضعة عن ولدها يعني فطام وتضع الحامل ما في بطنها من غير تمام ( وترى الناس سكارى( قال الحسن ترى الناس سكارى من الخوف ( وما هم بسكارى( من الشراب قرأ حمزة والكسائي سكرى وما هم بسكرى، مجرى العلل أفرد الضمير في ترى الناس بعد جمعه في ترونها لأن الساعة يراها الجميع وأثر السكر إنما يراه كل واحد على غيره ( ولكن عذاب الله شديد( فأرهقهم هو له بحيث طير عقولهم واذهب تميزهم استدراك لدفع توهم خفة الأمر الناشئ عن نفسي السكر قالوا هذه الآية تدل على أن هذه الزلزة تكون في الدنيا لأن عد البعث لا يكون حمل ولا رضاع ويرد عليه أن قوله تعالى :( يأيها الناس اتقوا( إما خطاب للناس عام وإما للموجودين عند نزول الآية خاصة وعلى كلا التقديرين كون زلزلة الساعة التي هي من شرائطها شديدة هائلة لا يصلح تعليلا للأمر بالتقوى في حق المخاطبين لأن شدتها وهولها لا تلحق إلا بالموحدين عندها لا بجميع الناس ولا بالموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس رضي الله عنه زلزلة الساعة قيامها وذلك بعد نفخة البعث وقيام الناس من قبورهم واختاره الحليمي وغيره قالوا : أخرج هذه الآية مخرج المجاز والتمثيل لشدة الهول والفزع لا على الحقيقة نظيره قوله تعالى :( يوما يجعل الولدان شيبا( ولا شيب فيه إنما مجاز لشدة الهول واستدلوا على ذلك بما أخرجه أحمد والترمذي وصححه عن عمران بن حصين قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت :( يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم( إلى قوله :( عذاب الله شديد( قال أتذرون أي يوم ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار " الحديث، وقال البغوي روي عن عمران بن حصين وأبي سعيد الخذري وغيرهما " أن هاتين الآيتيثن نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلا فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة فلما أصبحوا لم يحطوا السرج عن الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا قدرا والناس من بين باك أو جالس حزين متفكر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون يوم ذلك ؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال :" ذلك يوم يقول الله عز وجل لآدم قم فابعث بعث النار من ولدك، فيقول آدم من كل كم كم ؟ فيقول الله عز وجل من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد إلى الجنة " فكبر ذلك على المسلمين وبكوا وقالوا : فمن ينجوا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشروا وسددوا وقاربوا فإن معكم خليقيتين ما كانتا في قوم إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج، ثم قال إني لأرؤجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله ثم قال : لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وزإن اهل الجنة مائة وعشرين صفا ثمانون منها أمتي وما المسلمون في الكفار إلا كالشامة في جنب البعير وكالرقمة في ذراع الدابة بل كالشعرة السوداء في الثور الأبيض وكالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ثم قال : تدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب فقال عمر سبعون ألفا، قال نعم، ومع كل واحد سبعون ألفا فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله أن يجعلني الله نعم، فقال صلى الله عليه وسلم أنت منهم فقام رجل من الأنصار فقال ادع الله أن يجعلني منهم فقال صلى الله عليه وسلم ك " سبقك بها عكاشة " وأجاب أصحاب القول الأول أن هذا الحديث لا يدل على أن الزلزلة تكون حين الأمر ببعث النار بل يكون ذلك اليوم والأمر متأخر عنها فكأنه صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن الزلزلة التي كانت متقدمة عن النفخة الأولى ذكر ما يكون في ذلك اليوم من الأهوال العظام وهو قوله لآدم ابعث بعث النار فيكون ذلك في ألأثنماء ذلك اليومن ولا يقتضي أن يكون ذلك متصلا بالنفخة الأولى قلت : وهذا الجواب ضعيف لأن حديث أبي سعيد الذي أخرجه الشيخان في الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ورد بلفظ " يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك قال : أخرج بعث النار قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فعنده يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، قالوا : يا رسول الله وأينا ذلك الواحد ؟ قال : أبشروا فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألفن ثم قال : والذي نفسي بيده أرجوا أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبرنا فقال : أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبرنا، فقال : أرجوا أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبرنا، قال ما أنتم في الناس إلا كالشعرة، السوداء في جلد ثور أبيض وكشعرة بيضاء في جلد ثور أشود " فإن هذا الحديث في اقتران مشيب الصغير ووضع ذات حمل حملها بالأمر ببعث النار بل تقدم البعث على الزلزلة
( ومن الناس من يجادل في الله( أي في ذات الله وصفاته وأحكامه ( بغير علم( نزلت في النضر بن الحارث كان كثير الجدل وكان يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين وكان ينكر البعث وإحياء من صار ترابا كذا أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك ( ويتبع( في المجادلة في عامة أحواله ( كل شيطان( اعترضه من الجن والإنس ( مريد( المرد المتجرد العربي ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر والمريد والمارد بمعنى العاري من الخير المستقر في الشر وفي القاموس مرد كنصر وكرم مرود أو مرادة فهو مارد ومريد ومتمرد أقدم أوعتا أوه هو أن يبلغ الغاية التي تخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف ومرده قطعه ومرق عرضه وعلى الشيء مرن واستمر
( كتب( أي قضي ( عليه( أي على الشيطان ( أنه( أي الشأن ( من تولاه( أي تبعه ( فأنه يضله( أن المفتوحة مع جملتها خبر لمبتدأ محذوف والجملة بعد الفاء جزاء لمن إن كانت شرطية وجوابه إن كانت موصولة، والمعنى أن من تبع الشيطان فالأمر أن الشيطان يضل تابعه عن سواء السبيل فلم يجبل عليه ( وتهديه( أي يريه طريق النار أو يوصله ( إلى عذاب السعير( بالحمل إلى ما يوصله وقبل ضمير أنه راجع إلى الشيطان ومن موصولة مع صلتها أو صيغتها خبر لأن والضمير المنصوب في تولاه راجع إلى التابع والفاء في فإنه يضله للعطف على أنه من تولاه، والمعنى قضي على الشيطان أنه نفس تولى تابعه أو الذي تابعه أي أحبه أو استولى عليه فقضى على الشيطان يضله كذا قال الزجاج، وجملة ومن الناس من يجادل في الله حال من فاعل اتقوا تقديره يا أيها الناس اتقوا ومنكم من يجادل ولم يتق ففيه التفات من الخطاب على الغيبة أو معترضة.
( يأيها الناس إن كنتم في ريب( في شك ( من البعث( أي من إمكانه وكونه مقدورا لنا ( فإنا خلقناكم( يعني خلقنا جنسكم وهو شامل لمن يولد ومن يسقط لكونه مستعدا لأن يصير إنسانا يعني فانظروا في بدء خلقكم فإن يزيل ربكم فإنا خلقناكم من الأغذية التي تنبت من التراب التي يتولد منها المني ( ثم من نطفة( أي مني مشتق من النطف بمعنى الصب ( ثم من علقة( قطعة من الدم جامدة ( ثم من مضغة( قطعة من اللحم وهي في الأصل قدر ما يمضغ ( مخلفة وغير مخلفة( قال ابن عباس أي تامة الخلق وغير تامة الخلق، وقال مجاهد مصورة وغير مصورة، وقيل : المخلقة الولد يأتي به المرأة لوقته غير مخلقة السقط، فالمراد بغير المخلقة على هذا لأقوال السقط، وقيل : المخلقة المسواة أي التي نقص فيها ولا عيب وغير المخلقة ما فيه نقص وعيب كان الله كان الله عز وجل يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلق أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقتهم وصورهم وطولهم وقصرهم وكذا لهم ونقصانهم فعلى هذا ليس المراد بغير المخلقة السقط فحينئذ لا حاجة إلى ما قلنا أن السقط من جنس الإنسان من حيث الاستعداد لكن الصحيح هو الأول والمراد بغير المخلقة السقط، قال البغوي روى علقمة عن ابن مسعود قال : إن النطفة إذا استقرت في الرحمن أخذها ملك بكفه فقال : أي رب مخلقة أو غير مخلقة فإن قال غير مخلقة قذفها الرحم دما ولم يكن نسمة وإن قال مخلقة قال الملك أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد ؟ ما الأجل ما العمل ما الرزق ؟ فيقال له اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته ( لتبين لكم( تتعلق بخلقناكم مقيدا بما ذكر يعني لنبين وتظهر لكم بهذا التدريج كمال قدرتنا وحكمتنا حتى تستدلوا به على البعث بأن ما قبل التغير والفساد والتكون مرة في بدء الخلق قبلها ثانيا عند الإعادة ومن قدر على تغييره وتصويره أولا قدر على ذلك ثانيا وحذف المفعول إيماء إلى أن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وحكمته ما لا يحيط به الذكر، وقيل : معناه لتبين لكم ما تأتونه وما تذرونه وما تحتاجون إليه في العبادة يعني خلقناكم لأجل التكليف ( ونقر في الأرحام( حال بتقدير ونحن نقرا أو عطف على إنا خلقناكم يعني نثبت ونسكن في الأرحام فلا نمجه ولا تسقطه ( ما نشاء( أي مدة نشاء أن نقر فيه ( إلى أجل مسمى( أي معلوم عند الله تعالى وهو وقت الخروج من الرحم مولود ( ثم نخرجكم( من بطون أمهاتكم ( كفلا( أي أطفالا حال من الضمير المنصوب في نخرجنكم أجريت عليه بتأويل كل واحد أو الدلالة على الجنس أو لأنه في الأصل مصدر ( ثم لتبلغوا( متعلق بمحذوف تقديره ثم نربيكم لتبلغوا ( أشدكم( شدة كالنعم جمع نعمة يعني ليبلغوا كل شدة وكمال قدر لكم في القوة والعقل وغير ذلك قالوا وبلوغ الأشد ما بين ثلاثين إلى أربعين سنة ( ومنكم من يتوفى( عند بلوغ الأشد أو قبله جملة معترضة، أو حال أو معطوفة على ما سبق ( ومنكم من يرد إلى أرذل العمر( الهرم والحزن ( لكيلا يعلم من بعد علم شيئا( متعلق بيرد واللام للعاقبة يعني حتى يعود إلى الهيئة الأولى التي كانت في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما علمه وينكر ما عرفه، قال عكرمة من قرأ القرآن لم يصير بهذه الحالة والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة، فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره ( وترى الأرض هامدة( أي ميتة يابسة من همدت النار إذا صارت رمادا ( فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت( تحركت بالنبات ( وربت( أي زادت وانتفخت قرأ أبو جعفر ربأت بالهمزة وكذلك في حم السجدة أي علت وارتفعت قال المبرد أراد اهتز وربا نباتها فحذف المضاف لأن الاهتزاز في النبات أظهر ( وأنبثت من كل زوج( من زائدة أي أنبتت كل صنف ( بهيج( أي حسن، في القاموس البهيجة السرور بهيج ككرم فهو بهج وهو مبهاج ومخجل فرح فهو بهيج وبهج وكمنتع أفراد وسر كأبهج والابتهاج السرور، وجملة ترى الأرض عطف على أنا خلقناكم أو رد جملة فعلية ليدل على حدوث هذه الصفة مرة بعد أخرى فهذه دليل ثابت كررها الله تعالى في كتابه لظهوره وكونه مشاهدا
( ذلك( إشارة إلى ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مخالفة وتحويله على أحوال متضادة ومن إحياء الأرض بعد موتها وهو مبتدأ خبره ( بأن الله هو الحق( أي بسبب أن الله هو الثابت المتحقق في نفسه الواجب وجوده الذي به يتحقق الأشياء لولاه لاستحال خروج الممكن من مخدع العدم ( وأنه يحيي الموتى( منهç النطفة والأرض الموات ( وأنه على كل شيء قدير( لأن قدرته لذاته ونسبة ذاته إلى الكل سواء فلما دلت المشاهدة على قدرته على إحياء بعض الأموات لزم اقتداره على كلها وإن كان عظما رميما
( وأن الساعة( يعني ساعة انقراض الدنيا ( ءاتية لا ريب فيها( فإن التغيير من مقدمات الانصرام ( وأن الله يبعث من في القبور( بمقتضى وعده الذي لا يحتمل الخلف الجمل الثلاث الأول منها لبيان العلة الفاعلية لخلق الإنسان في أطوار مختلفة وتحويله على أحوال متضادة وإحياء الأرض بعد موتها والجملتين الأخيرتين لبيان العلة الغائبة أي ما هو بمنزلة العلة الغائبة، فإن خلق الإنسان ونحوه لمعرفة الله سبحانه وحسن عبادته وإلا لكان إيجاده عبثا وخلق سائر الكائنات لتكون برهانا لمعرفة الديان ويترتب على وجوب المعرفة وجوب العبادة وعليه يترتب الجزاء إذ لولا البعث والجزاء لزم التسوية بين المسلمين والمنكرين المجرمين فيختل أمر العدل قال الله تعالى :( أفتجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون( .
( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم( ضروري ( ولا هدى( أي استدلال يهدي إلى المعرفة ( ولا كتاب منير( مظهر للحق منزل مكن الله تعالى على أحد من الناس فإن أسباب العلم للإنسان غنما هو أحد هذه الأمور الثلاثة
( ثاني عطفه( العطف الجانب والعطفان الجانبان يمينا وشمالا وهو الموضع الذي يعطف الإنسان أي يلوي ويميله عند الإعراض قال مجاهد أي لاوي عنقه، حاصل المعنى معرضا عما يدعي غليه من الحق تكبرا أو تبخترا كذا قال ابن عطية وابن زيد وابن جريح ( ليضل عن سبيل الله( متعلق بيجادل حتى يضل غيره ( له في الدنيا خزي( وهو بالقتل والأسرن فقتل تضر بن الحارث وعقبه بن أبي معيط يوم بدر صبرا، وقتل معهما سبعون وأسر سبعون وقال جلال الدين المحلي نزلت الآية في أبي جهل فقتل يوم بدر ( ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق( أي المحرق وهو النار
{ ذلك بما قدمت يداك( التفات من الغيبة إلى الخطاب أو التقدير ويقال لهم يوم القيامة إذا عذبوا ذلك العذاب بسبب ما فعلته من الكفر والمعاصي ( وأن الله ليس بظلام للعبيد( أورد صيغة المبالغة نظرا إلى كثرة العبيد والجملة معطوفة على ما قدمت يداك، ونفي الظلم كناية عن العدل كما أن عدم الحب في قوله تعالى :( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول( كناية عن البغض والعدل سبب لمجازاة الكفر والمعاصي بالتعذيب أخرج البخاري وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال كان الرجل يقدم المدينة فيسلم فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال : هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء فأنزل الله تعالى :( ومن الناس من يبعد الله على حرف(
( ومن الناس من يعبد الله على حرف( قال المفسرون : معناه على شك من حرف الشيء وهو طرفه فالشاك والمنافق كأنه على طرف من الفريقين المؤمنين والكافرين قد يميل إلى هؤلاء وقد يميل إلى هؤلاء أو هو كالذي على طرف الجيش فإن أحس الظفر قر وإلا فر واخرج ابن أبي حاتم وكذا قال البغوي أنها نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة والمهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم الدينة فصح بها جسمه وقد أصبت فيه خيرا واطمأن إليه وهو المعنى قوله تعالى :( فإن أصابه خير اطمأن به( لي يتعبد الله والإسلام وإن صابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت رهاكه وقل ماله قال : كما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلا شرا فينقلب عن دينه، وهو المعنى لقوله تعالى :( وإن أصابته فتنة( بلاء وشدة ( انقلب على وجهه( أي ارتد عن دينه ورجع على عقبه إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر واخرج ابن مردويه من طريق عطية عن أبي سعيد قال أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فتشاءهم بالإسلام فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أقلني فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الإسلام لا يقال : فقال لم أصب من ديني هذا خيرا ذهب بصري ومالي ومات ولدي فنزلت الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا يهودي إن الإسلام يسبك الرجال كما يسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة، ( خسر الدنيا والآخرة( يعني هذا الذي ارتد من الدين لأجل بلاء في الدنيا خسر الدنيا لفوات ماله وولده وما كان يؤمل ولذهاب عصمته وخسر الآخرة بالخلود في النار وحبط عمله " ( ذلك هو الخسران المبين( لا خسران مثله
( يدعوا من دون الله ما لا يضره( إن لم يعبده ( وما لا ينفعه( إن عبده ( ذلك( الدعاء ( هو الضلال البعيد( عن الحق مستعار من ضل في التيه إذا أبعد عن الطريق المستقيم
( يدعوا لمن ضره( اللام زائدة والمعنى يدعو أمن ضره أي ضر عبادته هكذا قرأ ابن مسعود رضي الله عنه ( أقرب من نفعه( الموهوم الذي يتوقعه الكافر بعبادته وهو الشفاعة والتوسل بها على الله تعالى، وهذا على عادة العرب فإنهم يقولون لما لا يكون موجودا أصلا هذا الشيء بعيد ونظيره قوله تعالى :( ذلك رجع بعيد( أي لا رجع أصلا، ولما كان النفع من الصنم بعيدا بمعنى انه لا نفع فيه أصلا، قيل ضره أقرب من نفعه لأنه كائن لا محالة قيل يدعوا من تتمة الكلام السابق تكرير لقوله يدعوا في قوله ( يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه( تأكيد لفظي له وما بعده كلام مستأنف واللام في لمن ضره جواب لقسم محذوف والموصول مع صلته مبتدأ خبره ( لبئس المولى( أي الناصر وقيل : المعبود ( ولبئس العشير( أي لصاحب والمخالط يعني الوثن والعرب يسمي الزوج عشير الأجل المخالطة والجملتان إلزاميتان مستأنفتان على قراءة ابن مسعود وما في معناه وقيل اللام متعلقة ليدعوا من حيث إنه بمعنى يزعم والزعم قول مع اعتقاد أو يقال بدعوة داخلة على الجملة الواقعة مقولا إجراء له مجرى القول، وعلى هذين التقديرين اللام جواب قسم محذوف ومن مع صلته مبتدأ خبره لبئس المولى ولبئس العشير والمعنى يقول الكافر ذلك يوم القيامة حين يرى استضرار به، وقيل تقدير الكلام يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه يدعوا فحذف يدعوا الأخير احتزاء بالأول والمفعول ليدعوا الأول محذوف والموصول منصوب يدعوا الثاني واللام في لمن ضره وجواب قسم محذوف وقيل اللام بمعنى أن
( إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد( يعني أنه تعالى يريد إثابة المؤمن الصالح وعقاب المشرك ولا دافع لمراده ولا مانع لقضائه.
( من كان يظن أن لن ينصره الله( أي محمدا صلى الله عليه وسلم بمعنى الوهم يقتضي مفعولا واحدا وهو أن مع جملتها وإمكان الظن بمعناه فالجملة قائمة مقام المفعولين ( في الدنيا والآخرة( هذا كلام فيه اختصار تقديره إن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة فمن كان يظن خلاف ذلك ويتوقعه لأجل غيظه الرسول صلى الله عليه وسلم ( فليمدد بسبب( أي بحبل ( إلى السماء( سماء بيته يعني ليشدد حبى في سقف بيته ( ثم ليقطع( أي ليختنق من قطع إذا اختنق فإن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه يعني يستعض في إزالة غيظه وليفعل كل ما يفعل الممتلئ غيظا حتى يموت، وهذا أمر للتعجيز يقال للحاسد إن لم ترض بهذا فاختنق ومت غيظا، وقال ابن زيد المراد بالسماء السماء الدنيا، والمعنى من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ويكيده في أمره ليقطعه من أصله حتى يبلغ عنان السماء فيجتهد في دفع نصر الله إياه أو ليمدد بحبل إلى السماء الدنيا وليذهب السماء وليقطع الوحي الذي يأتيه من السماء قال البغوي روى أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وكان بينهم وبين اليهود حلف قالوا : لا يمكننا أن نسلم لأنا نخاف أن لا ينصر الله محمدا ولا يظهر أمره فينقطع الحلف بيننا وبين اليهود فلا يميروننا فنزلت هذه الآية، وقال مجاهد النصر بمعنى الرزق يقول العرب من نصرني نصره الله يعني من أعطاني أعطا الله وقال أبو عبيدة يقول العرب أرض منصورة أي ممطورة مرزوقة بالمطر والضمير المنصوب في ينصره راجع إلى الموصول والآية نزلت في من أساء الظن بالله وخاف أن لا يرزقه والمعنى مكن كان ليظن أن لن يرزقه الله فليمدد بحبل إلى سماء بيته ثم ليختنق ويمت غيظا على عدم تمزيقه أو ليمدد حبلا إلى السماء الدنيا ثم ليقطع به المسافة حتى يبلغ عنانا وليات من هناك رزقه، قرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر ثم ليقطع بكسر لام الأمر والباقون بجزمها ( فلينظر( فليتصور في نفسه بعد إرادة مد السبب وقطع المسافة أو الاختناق ( هل يذهبن كيده ما يغيظ( يعني هل يدفع فعله ذلك غيظه أو الذي يغيظه من نصر الله سماه كيدا لأنه منتهى سعيه، والاستفهام لإنكار وجملة من كان يظن إلى أرخها تأكيد لقوله :( إن الله يفعل ما يريد( يعني كما أن غيظ الحاسد لا يدفع ما أراد الله تعالى من نصر رسوله والمؤمنين في الدنيا والآخرة لا يدفع أحد شيئا مما أراد الله تعالى
( وكذلك( أي إنزالا مثل ذلك الإنزال أي مثل إنزالنا الآيات الدالة على إنكار البعث والتوحيد وصدق الرسول والوعد بنصره ( أنزلناه( أي القرآن كله حال كونه ( ءايات بينات( واضحات الدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء بع فلا منافاة بين هذه الآية وبين قوله تعالى :( منه ءايات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات( لاختفاء المراد منها مع ظهور إعجازها ( وأن الله يهدي من يريد( الجملة في محل الجر بلام التعليل معطوفة على محذوف متعلق بقوله أنزلناه، يعني أنزلناه لمصالح ولأن يهدي به أو يثبت على الهدى من يريد الله هدايته أو ثباته على الهداية، وجاز أن يكون في محل النصب عطفا على الضمير المنصوب في أنزلناه يعني وأنزلنا أن الله يهدي من يريد
( إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابرين والنصارى والمجوس والذين أشركوا( يعني عبدة الأوثان ( إن الله يفصل بينهم يوم القيامة( بالحكومة بينهم وإظهار المحق منهم من المبطل وبالجزاء فيجازي كلا ما يليق به ويدخل فريقا في الجنة وفريقا في السعير أدخلت كلمة أن على كل واحد من طرفي الجملة لمزيد التأكيد ثم أكده بقوله :( إن الله على كل شيء شهيد( عالم به بمرتقب لأحواله فلا يجوز أن يجعل المسلمين كالمجرمين ولا بمنزلة المحقق من المبطل مع كمال علمه بظواهر أحوال كل وبواطنها
( ألم تر( يعني ألم تعلم ( أن الله يسجد له من في السموات ومن في( من الإنس والجن يعني المؤمنين منهم وكلمة من وإن كان يعم المؤمن والكافر لكن خص منه الكافر بكلام مستقل وهو قوله تعالى :( وكثير حق عليه العذاب( فبقي المؤمنون مرادا وإنما فسرت هكذا لأن كلمة من لذوي العقول ولما عطف عليه قوله :( والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب( فإن حقيقة العطف للمغايرة وحمل البيضاوي كلمة من على العموم، وقال : من يجوز أن تعم أولي العقل وغيرهم أو على التغلب وقال أكثر المحققين إن من لا يعبر به عن غير الناطقين إلا إذا جمع بينهم وبين غيرهم فعلى تقدير إرادة العموم قوله والشمس الخ من قبيل عطف الخاص على العام أفردها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها، والمراد بالسجود عند المحدثين والعلماء المتقدمين الطاعة الاختيارية فإن الجمادات وإن كانت أمواتا عندنا لكن لها حياة ما وهي مطيعة طاعة اختيارية لله تعالى قال الله تعالى :( قالتا أتينا طائعين( وقال في وصف الحجارة :( وإن منها لما يهبط من خشية الله( وقال :( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم( وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الجبل ينادي الجبل يا فلان هل مر بك أحد يذكر الله " رواه الطبراني من حديث ابن مسعود قال البغوي هذا مذهب حسن موافق لقول أهل السنة ( وكثير من الناس( مبتدأ ( وكثير( تكرير للأول تأكيدا ومبالغة لقول أهل السنة ( حق عليه العذاب( لعدم انخراطهم في الساجدين فهذا الجملة مخصصة بكلمة من مخرجة للكافرين من أن يرادوا بها وقيل كلمة من قوله تعالى :( من في الأرض( بمعنى ما للعموم والمراد بالسجود كون الممكنات كلها مسخرة لقدرته غير آبية دالة بذراتها على عظمة تدبرها لقوله :( وكثير من الناس( مبتدأ خبره محذوف دل عليه بذواتها على حق لهم الثواب، أو فاعل لفعل محذوف ويسجد له سجود طاعة أي بوضع الجبهة على الأرض كثير من الناس، وعلى التقديرين قوله كثير من الناس جملة مستأنفة وقوله ( وكثير حق عليه العذاب( مستأنفة أخرى، ومن قال بجواز عموم المشترك يعني استعمال لفظ واحد مشترك في المعنيين في كل واحد من مفهوميه معا وإسناده باعتبار أحد المعنيين إلى أمر وباعتبار المعنى الآخر إلى أمر آخر قالوا قوله :( وكثير من الناس( مقرر معطوف على ما سبق والمعنى يسجد له سجود التسخر جميع الكائنات وسجود الطاعة كثير من الناس وكثير حق عليهم العذاب لأجل إبائهم عن سجود الطاعة جملة مستأنفة وجاز أن يكون مفردا معطوفا على الساجدين بالمعنى الأعم موصوفا بقوله حق عليهم العذاب ( ومن يهن الله( مبتدأ فيه معنى الشرط وخبره المتضمن بمعنى الجزاء قوله :( فما له من مكرم( يعني من يهينه الله بالشقاوة لا يكرمه أحد بالسعادة هذه الجملة معطوفة على الاسمية السابقة أو حال ( إن الله يفعل ما يشاء( من الإكرام والإهانة والسعادة والشقاوة مختصان بمشيئة الله تعالى.
( هذان خصمان( فوجان متخاصمان، يعني المؤمنون خصم الكافرون من الأنواع الخمسة خصم وهو يطلق على الواحد والجماعة ( اختصموا( أو رد صيغة الجمع حملا على المعنى ( في ربهم( أي في دينه أو في ذاته وصفاته وأمره، روي الشيخان في الصحيحين عن أبي ذر قال : نزلت قوله تعالى :( هذان خصمان اختصموا في ربهم( في حمزة وعبيدة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة " وأخرج البخاري والحاكم عن علي قال : فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر، وأخرج الحاكم عنه بوجه آخر قال نزلت في الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، وروى البغوي عن قيس بن عباد عن علي بن أبي طالب قال : أنا أول من بحثوا بين يدي الرحمة للخصومة يوم القيامة، قال قيس وفيهم نزلت هذه الآية، وقال قيس هم الذين بارزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، قال محمد بن إسحاق خرج يعني يوم بدر عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة حتى إذا وصلوا إلى الصف دعوا إلى المبارزة فخرج إليهم فتية من الأنصار ثلاثة عوف ومعاذ ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء وعبد الله بن رواحة فقالوا من أنتم فقالوا : رهط من الأنصار حين انتسبوا أكفاء كرام، ثم نادى مناديهم يا محمد أخرج إلينا أكفائنا من قومنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قم يا عبيدة بن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي بن أبي طالب " فلما دنوا قال : من أنتم ؟ فذكروا قالوا : نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة وبارز حمزة شيبة وبارز على الوليد بن عتبة، فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة وعلي الوليد واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان كلاهما أثبت صاحبه فكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فدفعا عليه واحتملا عبيدة إلى أصحابه وقد قطعت رجله ومنها ليسيل فلما أتوا بعبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألست شهيدا ؟ قال : بلى، فقال عبيدة لو كان أبو طالب حيا لعلم أنا أحق بما قاله منه حيث يقول :
كذبتم وبيت الله يبرئ محمدا ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله نذهل عن أبنائنا والحلائل
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة إن الآية نزلت في المسلمين وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب نحن أولى بالله منكم وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم وقال المؤمنون تحت أحق بالله آمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب وانتم تعرفون نبينا وكتابنا وكفرتم به حسدا فهذا خصومتهم في ربهم، وقال مجاهد وعطاء بن رباح الكلبي هم المؤمنون والكافرون من أي لمة كانوا قالوا بعضهم جعل الأديان سنة في قوله تعالى :( إن الذين ءامنوا والذين هادوا( الآية فجعل خمسة للنار وواحد للجنة فقوله هذا خصمان ينصرف إليهم فالمؤمنون خصم وسائر الخمسة خصم لأن الكفر ملة واحدة ومبنى هذين القولين عموم اللفظ وسياق القصة ولا شك أن العبرة لعموم اللفظ دون خصوص السبب وقال عكرمة هما الجنة والنار اختصما روى الشيخان في الصحيني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكيرين والمتبخرين وقالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا الضعفاء الناس وسقطهم وعرتهم قال الله تعالى للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء ولكل واحد منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله رجله تقول قط قط قط فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله تعالى ينشأ لها خلقا " ( فالذين كفروا( فصل لخصومتهم وهو المعنى لقوله تعالى : إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ( قطعت لهم ثياب من نار( أي قدرت لهم على مقادير حيثيتهم قال سعيد بن جبير ثياب من نحاس مذاب وليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حرا منه وتسمى باسم الثياب لأنها تحيط بأبدانهم كإحاطة الثياب وقال بعضهم يلبس أهل النار مقطعات من النار، روى أحمد بسند حسن عن جويرة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لبس الحرير في الدنيا ألبسه الله يوم القيامة ثوبا من نار " وأخرج والبزار وابن أبي حاتم والبيهقي بسند صحيح عن انس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من بعده وذريته من بعده وهو ينادي يا ثبوراه وهم ينادون يا ثبوراه حتى يقفوا على النار فيقال لهم لا تدعوا ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا " وأخرج أبو نعيم عن وهب بن منبه قال : كسي أهل النار والعري كان خبرا لهم وأعطوه الحياة والموت كان خيرا لهم، وأخرج عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب " رواه ابن ماجة بلفظ " إن النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع لها ثيابا من قرطان ودرعا من لهب النار " ( يصب من فوق رءوسهم الحميم( حال من الضمير في لهم أو خبر ثان والحميم الماء الحار الذي انتهى حرارته
( يصهر به( أي يذاب بذلك الحميم المنصب من فوقهم رؤوسهم ( ما في بطونهم( من الشحوم والأحشاء والجلود ويصهر به الجلود ضميرهم أخرج الترمذي وحسنه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى تخلص إلى جوفه فيسيل ما في جوفه ثم يهراق من بين قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان "
( ولهم مقامع من حديد( جمع مقمعة وحقيقتها ما يقمع به أي يكف بعنف قال الليث المقمعة شبه الجزر وهو بالفارسية كرز بالكاف الفارسي قال البغوي هو من قولهم قمعت رأسه إذا ضربته ضربا عنيفا والجملة حال من الضمير المجرور في بطونهم أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال يضربون بها أي بالمقامع كل عضو على حياله فيدعون بالثبور، وأخرج أحمد أبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي عن أبى سعيد الخذري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " " لو أن مقمعا من حديد وضع على الأرض فاجتمع الثقلان ما أقلوه من الأرض ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لعثت ثم عاد كما كان "
( كلما أرادوا أن يخرجوا منها( أي من النار من غم وكرب يلحقهم بأنفاسهم بسبب النار بدل اشتمال من الضمير المجرور بإعادة الجار ( أعيدوا فيها( تقديره كمال أرادوا أن يخرجوا منها فخرجوا منها فخرجوا منها أعيدوا فيها لأن الإعادة لا يكون إلا بعد الخروج، والجملة الشرطية أعني كلما أرادوا إلى آخرها صفة لمقامع والرابط محذوف أي أعيدوا بها فيهان وأخرج ابن أبي حاتم عن الفضيل بن عياض في الآية أنه قال والله ما طمعوا في الخروج لأن الأرجل مقيدة موبقة ولكن يرفعهم لهبها وتردهم مقامعها، قلت : لعل المراد بقوله :( أرادوا أن يخرجوا منها( أنهم يزعمون حين يرفعهم لهبها أن يقعوا خارج النار ولا يكون كذلك بل يردهم مقامعها، وأخرج البيهقي عن أبي صالح قال إذا القى الرجل في النار لم يكن له منتهى حتى يبلغ قعرها ثم تحيش به جهنم فترفعه إلى أعلى جهنم وما على عظامه مضغة لحم فتضرب الملائكة بالمقامع فيهوى بهم إلى قعرها فلا يزال كذلك، وذكر البغوي أن في التفسير أن جهنم لتحيش بهم فتقلبهم إلى أعلاها فيريد من الخروج منها فيضربهم الزبانية بمقامع الحديد فيهوون وفيها سبعون خريفا ( وذوقوا( هذه الجملة معطوفة على أعيدوا بتقدير وقيل لهم بمعنى المؤلم والوجيع بمعنى الوجع، قال الزجاج هؤلاء يعني الذين مر ذكرهم في تلك الآيات أحد الخصمين وقال في الاخر ( إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار(
( إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار( غير الأسلوب فيه وأسند الإدخال إلى الله تعالى وأكده بإن إحمادا لحال المؤمنين وتعظما لشأنهم ( يحلون( من حليت المرأة إذا ألبست الحلي حال من الموصول ( فيها( أي في الجنة ( من أسارو( جمع أسورة وهو جمع سوارصفة لمفعول محذوف يعني يحلون حليا كائنا من أساور ( من ذهب( بيان له ( ولؤلؤا( معطوف على أساور على قراءة نافع وعاصم بالنصب ها هنا وفي سورة فاطر حملا على محل أساور أو بإضمار الناصب يعني ويؤتون لؤلؤا والباقون بالجر حملا على لفظة أساور أو عطفا على ذهبن قال القرطبي قال المفسرون ليس أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاث أسورة سوار من ذهب وسوار من فضة وسوار من لؤلؤ قلت : والألف المكتوب في الرسم بعد الواو يؤيد النصب، وقال أبو عمرو ثبتوا الألف كما أثبتوا في قالوا وكانوا، وقال الكسائي ألف صورة الهمزة وترك أبو بكر وأبو عمرو إذا خفف الهمزة الأولى من لؤلؤ واللؤلؤ فقي جميع القرآن، وحمزة إذا وقف سهل الهمزتين على أصله وهشام يسهل الثانية في غير النصب على أصله والباقون يحققونهما أخرج الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي سعيد الخذري " أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى :( جنات عدن يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير( فقال عليهم التيجان إن أدنى لؤلؤ ليضيء ما بين المشرق والمغرب " وأخرج الطبراني الأوسط والبيهقي بسند حسن عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحلية أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله تعالى به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا " وأخرج أبو شيخ في العظمة عن كعب الأحبار قال : إن الله تعالى ملكا يصوغ حلي أهل الجنة من يوم خلقه إلى أن تقوم الساعة ولو أن حليا أخرج من حلي أهل الجنة لذهب بضوء الشمس وأخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " واخرج في الزهد من طريق عمران بن خالد عمن أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا من ترك لبس الذهب وهو يقدر عليه ألبسه الله إياه في حظيرة القدس ومن ترك الخمر وهو يقدر عليه سقاه الله إياه من حظير القدس، وأخرج النسائي والحاكم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلمن كان يمنع أهل الحلية والحرير ويقول :" عن كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها فلا تلبسوها في الدنيا " وعن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ليبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " ( ولباسهم فيها حرير( حال من فاعل يحلون أو عطف عليه وغير أسلوب الكلام للدلالة على أن الحرير لباسهم المعتاد أو للمحافظة على رؤوس الآي، اخرج البزار وأبو يعلى والطبراني من حديث جابر بسند صحيح عن أبي الخير مرثد بن عبد الله قال :" في الجنة شجرة تنبت السندس يكون ثياب أهل الجنة " روى النسائي والطيالسي والبزار والبيهقي بسند جيد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تنشق عنها يعني ثياب أهل الجنة ثمر الجنة مرتين " وأخرج ابن المبارك عن أبي هريرة قال : إن دار المؤمن درة مجوفة فيها أربعين بيتا في وسطها شجرة انبت الحلل فيذهب بأصبعه سبعين حلة منظم باللؤلؤ والزبرجد والمرجان.
فصل : وأخرج الشيخان عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " وأخرج الشيخان عن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " وأخرج مثله من حديث أمس والزبير، وأخرج النسائي والحاكم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب بها في الآخرة " واخرج الطيالسي بسند صحيح والنسائي وابن حيان والحاكم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لم يلبسه " واخرج ابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما منكم من أحد إلا انطلق به إلى طوبى فيفتح له أكمامها فياخذ من أي ذلك شاء إن شاء أبيض وإن شاء أحمر وغن شاء أخضر وإن شاء أصفر وإن شاء أسود مثل شقاق' النعمان وأرق وأحسن " وأخرج أيضا عن كعب قال لو أن ثوبا من ثياب الجنة لبس في الدنيا لصعق من ينظر إليه وما حملته أبصارهم واخرج الصابوني في المائتين عن عكرمة، قال : إن الرجل من أهل الجنة ليلبس الحلة فتكون من ساعته سبعون لونا، وأخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من يدخل الجنة فنعم فيها لا ييأس ولا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه "
( وهدوا إلى الطيب من القول( حال بتقدير قد من الموصول المفعول ليدخل يعني والحال أنهم قد هدوا في الدنيا إلى الطيب من القول يعني شهادة أن لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله كذا قال ابن عباس وقال السدي يعني هدوا إلى القرآن وقيل الماضي ها هنا بمعنى المستقبل يعني ويهدون في الجنة على الطيب من القول وهو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده ( وهدوا( أي قد هدوا في الدنيا ( إلى صراط الحميد( أي إلى دين الله وهو الإسلام والحميد هو الله المستحق للحمد لذاته أو المعنى ويهدون على صراط الجنة التي هي الحميد.
( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله( أي يمنعون الناس من أن يدخلوا في دين الإسلام لا يريد بالمضارع حالا ولا استقبالا وإنما يريد استمرارا لصد قولهم فلان يعطي ويمنع ولذلك حسن عطف على الماضي وقيل : هو حال من فاعل كفروا وخبر إن محذوف دل على آخر الآية إن نذقه من عذاب أليم ( والمسجد الحرام( عطف على سبيل الله أو على اسم الله والمراد بالمسجد الحرام خاصة عند الشافعي وعند أبي حنيفة رحمه الله الحرم كله في قوله تعالى :( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام( على ما قيل أن الإسراء من بيت أم هانىء أطلق المسجد على الحرم كله لأن الغرض الأصلي من عمران مكة إيقام الصلاة قال الله تعالى حكاية لقول إبراهيم عليه السلام :( ربنا أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة( وقد فسر الشافعي رحمه الله المسجد الحرام في قوله تعالى :( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا( بالحرم حيث قال : يمنع الكفار مطلقا عن دخول الحرم بهذه الآية قد وذكرنا الكلام عليه في سورة التوبة ويؤيد إرادة الحرم قوله تعالى :( الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبارد( قرأ ابن كثير بإثبات الياء في الحالين وورش وأبو بكر في الوصل فقط، وقرأ حفص سواء بالنصب على أنه مفعول ثان لجعلنا وللناس ظرف لغو أو حال من الضمير المستكن في للناس وللناس مفعول ثاني والعاكف مرفوع به وقرأ الباقون سواء بالرفع على أن العاكف مبتدأ وسواء خبره مقدم عليه أو سواء مبتدأ من قبيل الصفة والعاكف فاعله والجملة مفعول ثان لجعلناه وللناس حال من الهاء أو ظرف لغو، وجاز أن يكون للناس مفعولا ثانيا والجملة بيان لما سبق يعني جعلناه للناس بحيث مستو فيه المقيم والبادي أي المسافر المنسوب إلى البدون وقال في القاموس البدو والبادية والبداوة، والبداة خلاف الحضر يعني ليس أحد أحق بالمنزل فيه من غيره فمن سبق إلى مكان منه لا يجوز لغيره ؟أن يزعجه، كذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد قالوا : هما سواء في البيوت والمنازل، وقال عبد الرحمن بن سابط كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم، كذا قال البغوي قلت : روي أثر عمر عبد الرحمن بن عبد بن حميد بن نافع عن ابن عمر عنه وعن عمر بن الخطاب أن رجلا قال له عند المروة يا أمير المؤمنين اقطع مكانا لي فاعقب وأعرض عنه قال : هو حرم الله سواء العاكف فيه والباد إزالة الخفاء، وقال عد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد أن عمر قال : يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث شاء، وقال عبد الرزاق عن ابن جريح كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم واخبرني أن عمر نهى أن يبوب دور مكة لأن الحاج في عرضاتها فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو واعتذر لذلك لعمر فإن صح عن عمر انه اشترى دارا بمكة للسجن بأربعة آلاف درهم رواه البيهقي وكذا روى البيهقي عن ابن الزبير أنه اشترى حجرة سودة، وعن حكيم بن حزام أنه باع دار الندوة، وعن عمر أنه اشترى الدور من أهلها حتى وسع المسجد وكذل عن عثمان قال وكان الصحابة في رباط متوافرين ولم ينقل إنكار ذلك ؟ قلت : يحمل تلك الآثار على بيع بنائها فإن البناء ملك المباني لا محالة وإنما المنهي بيع الأرض ومن ها هنا قال أبو جنيفة وأحمد في أصح الروايتين عنه لا يجوز بيع رباع مكة ولا إجارة دورها فإن ارض الحرم عتيق غير مملوك لأحد قال الله تعالى :( ثم محلها إلى البيت العتيق( ولا شك أن المراد بالبيت العتيق أرض الحرم كله لاختصاص ارض الحرم بذبح الهدايا والقول بأن المعنى ثم محلها إلى مكان يقرب منه البيت العتيق تكلف وتقديره بلا ضرورة وكذا قال مالك لكن مبنى قوله أن مكة فتحت عنوة وكل بلدة فتحت عنوة فهي وقف لا يجوز بيع أرضها وقال الشافعي بيع دور مكة وإجارتها جائزة وهي مملوكة لأهلها وبه قال الحسن وطاووس وعمر وبن دينار وجماعة والمراد بالمسجد الحرام في الآية نفسه ومعنى الآية جعلناه للناس قبلة لصلاتهم ومنسكا متعبدا بحيث مستوفيه العاكف والبادي في تعظيم الكعبة، وفضل الصلاة في المسجد الحرام والطواف بالبيت قلنا : سياق الآية يقتضي اختصاص تسويته العاكف والبادي بالمسجد الحرام مع أن المساجد الحرام مع أن المساجد كلها هذه المثابة العاكف والبادي في جميع المساجد سواء يجب على كل أحد تعظيم كل مسجد وكل مسجد يستوي فيه ثواب الصلاة والطاعة لجميع الناس لا يختلف باختلاف الحضر والسفر، قال البغوي قال مجاهد وجماعة مثل ما قال الشافعي قلت : بل المروي عن مجاهد من قول أبي حنيفة رحمه الله روى الطحاوي من طريق إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد أنه قال مكة مباح لا يحل بيع رباعها ولا أجارة بيوتها وروى عبد الرزاق من طريق إبراهيم بن مذهاجر عن مجاهد عن ابن عمر لا يحل بيع بيوت مكة ولا أجارتها ومن الحجة لقولنا هذا ما رواه محمد في كتاب الآثار أخبرنا أبو جنيفة عن عبد الله بن أبي زياد عن أبي نجيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله حرمن مكة فحرام بيع رياعها وأكل ثمنها " ولذا روى ابن الجوزي في التحقيق بسنده عن أبي حنيفة لذلك السند مرفوعا بلفظ " مكة حرام وحرام رياعها حرام أجر بيوتها " قال الدارقطني وهم فيه أبو حنيفة رحمه الله والصحيح أنه موقوف دعوى الوهم على أبي حنيفة شهادة على النفي فلا يقبل وهو ثقة والرفع من الثقة مقبولة وروى محمد بذلك السند مرفوعا " من أكل من أجود بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا " ورواه الدارقطني بسنده عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه عن عبد الله بنم باباه عن عبد بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مكة مباح لا يباع رياعها ولا يؤجر بيوتها " قلت إسماعيل بن إبراهيم ضعفه يحيى والنسائي وأبوه إبراهيم بن مهاجر بن جابر النحلي ضعفه البخري وقال أبو حاتم منكر الحديث قال ابن المنذر والنسائي ليس بالقوى، لكن قال سفيان وأحمد ويحيى بن معين وابن مهدي لا بأس به، وقال أبو بكر البيهقي الصحيح أنت هذا الحديث موقوف وروى ابن الجوزي بسنده عن سعيد بن منصور قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن مكة حرام حرمها الله عز وجل لا يحل بيع رياعها ولا أجر بيوتها " وهذا مرسل والمرسل عندنا حجة، احتج الخصم بقوله تعالى :( الذين أخرجوا من ديارهم( وقوله صلى الله عليه وسلم :" من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " قاله يوم فتح مكة وجه الاحتجاج أن الإضافة تدل على الملك قالوا ولو كانت الدور غير مملوكة لهم لما كانوا مظلومين في الإخراج عنها، والجواب أن الإضافة للسكنى أو للبناء يقال مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد بني فلان وكون الإخراج ظلما لا يدل على أنهم أخرجوا عن ديار مملوكة لهم لتحقق الظلم بإخراجهم عن المسجد الحرام الذي جعل الله للناس كلهم فيه سواء ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها( وأقوى حججهم في الباب حديث أسامة بن زيد قال : قلت : يا رسول الله أين تنزل غدا في حجته ؟ فقال ك هل ترك عقيل منزلا ؟ قال : نحن نازلون غدا إن شاء الله بحنيف بني كنانة، ثم قال ك لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر " متفق عليه، وروى ابن الجوزي هذا الحديث، قال أسامة : يا رسول الله أتنزل دارك بمكة، قال :" وهل ترك عقيل من رياع أو دور ؟ قال الزهري وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرثه جعفر ولا على شيئا كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين يعني حتى مات أبو طالب، قال الجاحظ وفي رواية محمد بن أبى حفصة قال في آخره ويقال إن الدار التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم كانت دار هاشم بن عبد مناف ثم صارت لعبد المطلب ابنه فقسمها بين ولده حين عمر ثم صار للنبي صلى الله عليه وسلام حق أبيه عبد الله وفيها ولد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر استولى عقيل وطالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما لكونهما كانا لم يسلما وباعتبار ترك النبي صلى الله عليه وسلم حقه منها بالهجرة وقتل طالب ببدر فباع عقيل الدار كلها، وروى الفاكهاني أن عقيل لم يبع الدار وقال : إن الدار لم يزل بيد أولاد عقيل الدار باعوا لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار والجواب أن بيع عقيل الدار كافرا لا يكون حجة على جواز البيع وتأويل الحديث عندي أن الدار لعلها كانت مشغولة بحوائج عقيل إن لم يبع وبحوائج المشتري إن باع فالنبي صلى الله عليه وسلم يجدها خالية يسكن فيها ولدا، قال : وهل ترك لنا عقيل منزلا أي منزلا خاليا فحينئذ قول الراوي كان عقيل ورث أبا طالب وشبهه مبني على زعمه وقوله صلى الله عليه وسلم : لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر لعله واقعة حال آخر فضم الراوي الحديثين زعما منه أن قوله صلى الله عليه وسلم :" لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر " هو الباعث على قوله صلى الله عليه وسلم " وهل ترك لنا عقيل منزلا ؟ " فحينئذ قوله صلى الله عليه وسلم " لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر " كلام مستأنف فلا حجة في الحديث على كون رياع مكة مملوكة، ولو سلمنا أن الحديث تدل على كون رياع مكة جائز البيع فتقول أن ما ذكرنا من الأحاديث التي تدل على حرمة بيعها نص في الحرمة يدل بالعبارة وهذا الحديث يدل على إباحة البيع بالإشارة فدلالة ما روينا أقوى، ثم لو سلمنا التعارض فعند التعارض يجب تقديم المحرم على المبيح ولذلك قال أبو حنيفة بالكراهة تحريما على أصله ولو كان حصة عبد الله للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يتصور أن يصل تلك الحصة إلى عقيل إلا بالاستيلاء كما هو مذهب أبي حنيفة أن الكافر يملك مال المسلم بالاستيلاء ولم يقل به الشافعي ولو ملك بالاستيلاء فلا معنى لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث " لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر " ولو كانت كلها لأبي طالب فلا يتصور كونها للنبي صلى الله عليه وسلم ولو فرضنا كون أبي طالب مسلما لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن من ورثة أبي طالب فعلى كل من التقادير يجب صرف قوله صلى الله عليه وسلم " هل ترك لنا عقيل منزلا ؟ " عن ظاهره فما ذكرت من التأويل أولى وكيف لا يكون التأويل ما ذكرت فإنا لو سلمنا أن عليا وجعفرا لم يرثا أبا طالب وإنما ورثه عقيل فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له أن ينزل في علي وجعفر عارية كما كان له أن ينزل في ملك عقيل عارية ( ومن يرد فيه( أي في المسجد الحرام سواء كان المراد منه المسجد أو الحرم كله على القولين ( بإلحاد بظلم( وقيل : إلحاد في محل النصب على المفعولية والباء زائدة كما قوله تعالى :
( تنبت بالدهن( وقول الأعمش ضمنت برزق عيالنا أرماحنا وبظلم ظرف لغو متعلق ببرد أو ظرف مستقر صفة لإلحاد أو حال من فاعل يرد، وقيل مفعول يرد محذوف يتناول كل متناول تقديره من يرد قولا أو فعلا، فعلى هذا قوله :( بإلحاد بظلم( حالان مترادفان أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار أو صلة له أي يلحد بسبب الظلم أي بأن ارتكب منبها ولو شتم الخادم ( نذقه من عذاب أليم( جواب لمن روى البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى ا
( وإذ بوأنا لإبراهيم( أي عينا وجعلنا له ( مكان البيت( مبوءا أي منزلا كذا قال الزجاج، وقيل اللام زائدة ومكان ظرف والمعنى وإذا أنزلناه فيه، قال في القاموس بوأه منزلا وفيه أنزله والمباءة المنزل وإنما ذكر مكان البيت لأن الكعبة رفعت إلى السماء من الطوفان ثم لما أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بناء البيت لم يدر أين يبني فبعث الله ريحا خجوجا فنكست ما حول البيت عن الأساس كذا قال البغوي وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن السدي بعث الله ريحا يقال لها ريح الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية فنكست لها ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، وقال البغوي قال الكلبي بعث الله سبحانه بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن علي قدري فبنى عليه ( أن لا نشرك( أنم مصدرية متعلق بفعل محذوف أي عهدنا إلى إبراهيم أن لا تشرك أو المعنى فعلنا ذلك لأن لا نشرك أو مفسرة لبوأنا لأجل تضمنه معنى تعبد إذ التبوية لأجل التعبد والتعبد تشتمل الأمر والنهي فهو بمعنى القول بي أي بعبادتي ( شيئا وطهر( من الأوثان والأقدار ( ياتي( قرأ نافع وحفص وهشام بفتح الياء والباقون بإسكانها أضاف البيت إلى نفسه تشريفا ولكونه مهبطا التجليات مخصومة به قال المجدد للألف الثاني رضي الله عنه أن الكعبة بيت الله مع كونها متجسدا مرئيا لها شبه بما لا كيف له لأن جدرانها وتراب أرضه إلى الثرى ليست قبلة، ألا ترى أنه لو أزيل عن ذلك المكان جدرانها وترابها ونقلت إلى مكان آخر فالقبلة ذلك المكان لا المكان الذي نقلت غليه جدرانها وترابها ولو بني ذلك المكان بجدران آخر ونقل إلى ذلك ونقل إلى ذلك المكان تراب آخر فهو كذلك قبلة فعلم أن القبلة أمر لا كيف لها وينهبط هناك تجليات غير متكيفة يدركها من يدركها ( للطائفين( أي الذين يطوفون حوله ( والقائمين والركع السجود( جمع راكع وساجد ذكرهما بغير العاطف، فإن المراد به المصلين ولأن الركوع بلا سجود لم يعرف في الشرع عبادة، وعبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء الطهارة، وقالت الروافض إن الطهارة في الصلاة إنما يشترط في السجود لموضع الجبهة لا غير
( وأذن في الناس( أي أعلمهم وناد فيهم ( بالحج( الظاهر أنه عطف على طهر ذكر البغوي واخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه أن إبراهيم عليه السلام حين أمر به قال وما يبلغ صوتي ؟ قال الله تعالى عليك الأذان وعلينا البلاغ، فقام إبراهيم على المقام فارتفع القام حتى صار كأطول الجبال فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا، ةوقال : يا أيها الناس إن ربكم قد بنى بيتا كتب عليكم الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم فأجابه كل من يحج من أصل الإماء وارحام الأمهات لبيك اللهم لبيك، قال ابن عباس فأول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجا، وروي أن إبراهيم صعد أبا قبيس ونادى وقال ابن عباس عنى بالناس في هذه الآية أهل القبلة، قال البغوي وزعم الحسن أن قوله تعالى :( وأذن في الناس بالحج( كلام مستأنف والمخاطب النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا " ورواه مسلم وروى أحمد والنسائي والدارمي عن ابن عباس نحوه ( يأتوك( يعني يأتون حاجين لندائك بالحج مجزوم في جواب الأمر والمعنى أن تؤذن يأتوك ( رجالا( أي مشاة على أرجلهم جمع راجل كقائم وقيام ونائم ونيام وهذا إخبار عن الواقع وليس فيه إيجاب الحج على من لم يجد الراحلة، فليس فيه حجة لداود ولا لمالك وقد ذكرنا خلافهما في اشترط الزاد والراحلة في مسألة كون الحج فريضة وما يشترط للفرضية في سورة آل عمران في تفسير قوله تعالى :( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا(.
مسألة : الأفضل عند أبي حنيفة ح لمن يقدر على المشي أن يحج ماشيا لأن الله سبحانه قد ذكر الإتيان راجلا على الإتيان راكبا، ولأن المشقة في المشي أشد والخضوع والتواضع فيه أكثر لأنه صلى الله عليه وسلم أوجب على من نذر الحج ماشيا والهدي بفواته فعلم أن المشي في الحج طاعة وأداناه الندب وقال بعض العلماء الحج راكبا أفضل لأن بالمشي في الحج يختل كثير من العبادات ولا رهبانية في الدين ( وعلى كل ضامر( أي وركبانا على كل ضامر أي بعير مهزول أتعبه بعد السفر فصار مهزولا، أخرج ابن جرير عن مجاهد قال : كانوا لا يركبون فأنزل الله تعالى :( يأتوك رجالا وعلى كل ضامر( فأمرهم االزاد ورخص لهم في الركوب والمتجر ( يأتين( صفة لضامر محمولة على معناه حيث أضيف إليه لفظ كل أو صفة لكل والتأنيث حينئذ أيضا بالنظر إلى المعنى، يعني يأتوك على كل ضامر يأتين إلى مكة مركوب أن يحج ( من كل فج( أي طريق ( عميق( أي بعيد
( ليشهدوا( متعلق بأذن أو بيأتوك أي ليحضروا ( منافع لهم( دينية أو دنيوية وتنكيرها لأن المراد بها نوع من المنافع مخصوص بهذه العبادة، قال محمد بن علي بن الحسين بن علي الباقر عليهم السلام وسعيد بن المسيب المراد بها العفو والمغفرة وعن أبي هريرة قال، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " متفق عليه، وقال سعيد بن جبير والمراد بها التجارة وهي رواية عن زيد عن ابن عباس حيث قال : الأسواق وقال مجاهد التجارة وما يرضى الله به من أمر الدنيا والآخرة ( ويذكروا اسم الله( كنى بالذكر عن الذبح والنحر لاشتراطه في حل الذبائح وتنبيها على أنه المقصود مما يتقرب به إلى الله ( في أيام معلومات( يعني عشر ذي الحجة وهو قول أكثر المفسرين قبل لها معلومات للحرص على علمها بحسابها من أجل كون وقت الحج في آخرها، وروي عن علي رضي الله عنه أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده وفي رواية عطاء عن ابن عباس أنها يوم عرفة والنحر وأيام التشريق وقال مقاتل المعلومات التشريق ( على ما رزقهم من بهيمة الأنعام( يعني الهدايا والضحايا واجبة كانت أو مستحبة لإطلاق النص، علق الفعل بالمرزوق بينه بالبهيمة تحريضا على التقرب وتنبيها على مقتضى الذكر احتج الشافعي بهذه الآية على أنه لا يجوز ذبح شيء من الهدايا غير دم الإحضار إلا يوم النحر وثلاثة أيام بعده، قلنا : هذا القيد خرجت مخرج العادة ونحن لا نقول بالمفعول وفي تفسير الآية اختلاف كما ذكرنا والحجة لنا على عدم اشتراط يوم النحر وأيام التشريق في هدى التطوع والنذر والكفارة ما صح أنه صلى الله عليه وسلم ساق عام الحديبية سبعين بدنة يريد العمرة وكان ذلك في ذي القعدة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد المقام بمكة إلى يوم النحر، وهذا صريح في جواز نحر هدي التطوع في ذي القعدة وإذا ثبت كون النحر فيما عدا يوم النحر طاعة وكل طاعة مقصورة يكون واجبا بالنذر قثبت جواز نحر الهدي المنذور وأيضا في غير أيام النحر وكذا دم جزاء الصيد والكفارات لا يختص عندنا بيوم النحر لأن الكفارة، لا يكون إلا بعادة فإذا ثبت كونه عبادة جاز جعله كفارة، وقد قال الله تعالى في جزاء الصيد ( هديا بالغ الكعبة( من غير تقييد بيوم النحر ولا يجوز قيد في كتاب الله إذ هو في معنى النسخ، لكن دم القرآن والتمتع مختصان بيوم النحر وكذا دم الإحضار عند أبي حنيفة خلافا لأبي يوسف ومحمد وقد مرت المسألتين في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :( وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي( إلى قوله :( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي( ( فكلوا منها( أمر استحباب وليس للوجوب إجماعا وقال الشافعي أمر بالإباحة وغنما قال الله تعالى ذلك لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم.
مسألة : اتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعا لا يجوز للمهدي أني أكل منه لحديث طويل لجابر بن عبد الله في قصة الوداع وبه " وقدم علي ببدن من اليمن وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فنحر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين بدنة بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غير وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من ما غير وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها " رواه مسلم وهذا الحديث دليل على استحباب الأكل من الهدي إذ لو لم يكن الأكل من هديه مستحبا لما أمر أن يجعل من كل بدنة بضعة بل يكفيه لحم من واحدة.
مسألة : واتفقوا على عدم جواز الأكل من جزاء الصيد ولعله لأجل أن جزاء الصيد بدل من الصيد قال الله تعالى :( فجزاء مثل ما قتل من النعم( وقد ذكرنا بيان المماثلة من حيث الصورة أو من حيث القيمة في تفسير سورة المائدة، ولما كان الصيد عليه حراما كان بدله حراما مثله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم الشحوم جمعوه ثم باعوا وأكلوا ثمنه " متفق عليه من حديث جابر، وكذا لا يجوز الأكل من الهدايا واجبة كانت الهدايا كالتمتع والقرآن أو نافلة كما أشرنا إليه نظرا إلى إطلاق اللفظ وخص منها المنذور بالإجماع أو يقال الكلام في الحج والمنذور ليس من باب الحج في شيء، وأما جزاء الصيد ودماء الكفارات فإنها وإن كانت من باب الحج لكن الظاهر من حال المسلم الاجتناب من المحرمات فهي غير مرادة بهذه الآية إذ المأمور به الحج المرور والله أعلم.
( وأطعموا البائس( أي الذي اشتد بؤسه والبؤس شدة الفقر ( الفقير( بدل من الأول أو عطف بيان له.
( ثم ليقضوا( قرأ ورش وأبو عمرو وابن عمرو وابن عامر وقنبل بكسر اللام والباقون بإسكانها
( تفاثهم( أي يزيلوا وسخهم بحلق الرأس وقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال الأول وذلك قبل طواف الزيارة ويحل على المحرم بعد الخلق كل شيء إلا النساء وتحل النساء بعد الطواف كذا قال المفسرون، والقضاء في الأصل بمعنى الفعل والأداء يقال قضي دينه، وقال الله تعالى :( فإذا قضيتهم مناسككم( ( وفقضاهن سبع سموات( ويستلزمه الفراغ منه كما أيد بقوله تعالى :( أيما الأجلين قضيت( في إزالة الوسخ، الفراغ منه، قال البغوي قال ابن عمر وابن عباس قضاء التفت مناسك الحج كلها يعني أداء مناسك الحج، وقال مجاهد هو يعني التفت مناسك الحج وأخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقلم الأظفار، وقيل : التفت رمي الجمار فالمعنى فعل هذه الأمور وأداها، قال الزجاج : لا نعرف التفت ومعناه إلا من القرآن يعني هذا اللفظ غير مستعمل في كلام العرب غالبا ولفظه ثم يوجب تأخير الحلق والطواف من الذبح فهو حجة لأبي حنيفة رحمه الله حيث قال : الترتيب بين الرمي ونحر القارن والحلق واجب به قال سعيد بن جبير وقتادة والحسن والنخعي، فمن ترك الترتيب عمدا أو خطأ يجب عليه الدم لحديث ابن عباس من قدم " قدم شيئا من نسكه أو أخره فليهرق دما " رواه ابن أبي شيبة موقوفا والموقوف له حكم المرفوع لأن القضاء بمثل غير معقول لا يدرك بالرأي فإن قيل : في سند إبراهيم بن مهاجر قال أبو حاتم منكر الحديث وقال ابن المديني والنسائي ليس بالقوي وقال ابن عدي يكتب حديثه في الضعفاء ؟ قلنا : إنه صدوق من كبار التابعين أخرج له مسلم متابعة وقال سفيان واحمد وابن مهدي لا بأس به ثم الحديث ليس منحصرا عليه بل أخرجه الطحاوي من غير طريقه أيضا، قال : ثنا وهيب عن أيوب عن سعيد بن جبير عنه مثله، وقال أحمد الترتيب واجب يجب عليه الدم بتركه عمدا لكن يسقط وجوب الترتيب بالجهل والنسيان كذا روى الأثرم عنه وكذا يشعر كلام البخاري وهو المختار عندي للفتوى، وقال الشافعي وكثير من السلف الترتيب سنة ليس بواجب، وقال مالك تقديم الحلق على الرمي والذبح لا يجوز للشافعي قول مثله، احتج الشافعي بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والرمي والحلق والتقديم والتأخير فقال :" لا حرج " متفق عليه وفي رواية للبخاري قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فيقول " لاحرج " فسال رجل فقال : حلقت قبل أن أذبح ؟ " قال :" اذبح ولا حرج " قال رميت بعد ما أمسيت ؟ فقال : لا حرج " في رواية للبخاري أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : زرت قبل أن أرمي قال :" لا حرج " قال : ذبحت قبل أن أرمي ؟ قال : لا حرج " وروى الطبراني بلفظ أن رجلا قال : يا رسول الله طفت بالبيت قبل أن أرمي ؟ قال :" لا حرج " وروى الطبراني بلفظ أن رجلا قال : يا رسول الله طفت بالبيت قبل أن أرمي ؟ قال :" ارم ولا حرج " وقد ثبت بحديث علي رضي الله عنه التصريح بالسؤال بالطواف قبل الذبح أيضا رواه أحمد وجه الاحتجاج للشافعي أنه لو كان الترتيب واجبا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة ما قدم من المناسك لكون الوقت وقت أداء المناسك يوم النحر أو أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإراقة الدم ولو أمرهم بشيء من ذلك لنقل إلينا لاشتراك خلق كثير في الواقعة وحرص كل منهم على حفظه مناسك وتبليغها فلما لم ينقل علم أنه لم يأمر ولما لم يأمر علم أنه لم يجب لأنه وقت الحاجة وترك تبليغ الواجب مع الحاجة محال فظهر أنه ليس بواجب وما ليس بواجب لا بأس تركه عمدا قال أبو حنيفة من رواة هذه القصة ابن عباس رضي الله عنه وقد قال ابن عباس من قدم شيئا من نسكه أو أخره فليهرق لذلك دما وقول الراوي على خلاف روايته جرح في الحديث لدلالته على أن الراوي اطلع على الناسخ لكن هذا القول لا ينتهض دفعا لقول الشافعي إذ عنده قول الراوي على خلاف روايته ليس بحرج في الحديث بل على أصل أبي حنيفة أيضا لا ينتهض دفعا لأن قول الراوي على خلاف روايته إنما يكون جرحا إذا كان الموقوف في قوة المرفوع حتى يكون بمنزلة الناسخ والأمر ليس كذلك، قلت : لكن الجمع بين الأحاديث متى أمكن أولى من ترك العمل على بعضها فنحمل أثر ابن عباس وهو في حكم المرفوع وقد بلغ بالاعتصام درجة الحسن على ترك الترتيب عمدا، وما احتج به الشافعي على الجهل والنسيان فقلنا الترتيب واجب لكن يسقط بالجهل والنسيان كالترتيب في الفوائت من الصلوات واجب عند أبي حنيفة ويسقط بالنسيان والإمساك في الصوم واجب ويسقط بالنسيان وتكبيرا التشريق واجبة تسقط بالنسيان.
مسألة : الحلق من واجبات الإحرام ليس بكرن عند أبي حنيفة ح، وقال الشافعي ح وبعض العلماء أنه ركن من أركان الحج وفي رواية ضعيفة عن الشافعي وهي رواية عن أبي يوسف وعن أحمد وبه قال المالكية أنه ليس بنسك بل أمر مباح، وحجتنا وحجة الشافعي هذه الآية فإنه أمر بقضائه التفت والمراد به الحلق والأمر للوجوب فكان ركناة عنده قلنا : ثبوته وإن كان بالآية القطعية لكن دلالة الآية عليه إنما هي بتأويل ظني لاختلاف في تفسير الآية فلا يوجب القطع، وأيضا الشافعي الحلق تحلل من الإحرام والإحرام ركن للحج فكذا التحلل عنه كالسلام في الصلاة فإنه ركن عند الشافعي قلنا : كون الإحرام شرطا وركنا للحج لا يستلزم كون التحلل عنه كذلك وكون السلام ركنا ممنوع عندنا وأيضا هذا قياس مع الفارق لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل السلام انتهاء لتحريمه الصلاة حيث قال :" تحليلها التسليم " فلو لم يوجد التسليم ويتأتى على التحريم ما ينافيها بطلت التحريمة وأما التحريمة شرطا للصلاة، وركنا لها على اختلاف الأقوال فبطلت الصلاة ببطلان التحريمة واما إحرام الحج فلا يبطل. . . بالمحظورات كما يبطل إحرام الصلاة، ألا ترى أن الجماع قبل الوقوف بعرفة يوجب الفساد حتى يجب عليه القضاء ولا يوجب البطلان حتى يجب المضي في الفاسد.
مسالة : أول وقت الحلق الرمي من طلوع الفجر الثاني يوم النحر وعند الأكثر بعد مصف الليل من ليلة النحر، لنا حديث عروة بن مضرس فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من شهد معنا هذا الصلاة صلاة الفجر بمزدلفة وقد كان وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى نفثه " رواه أصحاب السنن الأربع والحاكم وقال صحيح على شرط كافة أهل الحديث ولم يخرجاه على أصلهما لأن عروة بن مضرس لم ير وعنه إلا الشعبي وقد وجحدنا عروة ابن الزبير قد حدث عنه واختلفوا في آخر وقته ؟ فقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد واكثر العلماء لا آخر لوقته، واختلفوا أيضا في أن الحرم هل هو شرط للحلق ؟ فقال أبو يوسف وزفر وأكثر العلماء ليس بشرط، وقال أبو حنيفة للحلق اعتبارات أحدهما أنه محلل للإحرام وثانيهما أنه نسك من مناسك الحج فباعتبار أنه محلل لا آخر لوقته ولا يختص أيضا بمكان وباعتبار أنه نسك يختص بيوم النحر وبالحرم لأنه كونه عبارة لا يدرك بالرأي فيراعى خصوصياته الواردة من الشارع وهو الزمان والمكان وأما كونه محللا فأمر يدرك بالرأي لأن المحلل إنما يكون ما يكون جناية في غير أوانه وهو كذلك، فغن وجد الحلق بعد وقته أو في غير الحرم يكون محللا من إحرامه ولا يكون عبادة فيلزم الدم لترك نسك واجب.
واحتج أبو يوسف بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" اذح ولا حرج " لمن قال حلقت قبل أن أذبح وأنه صلى الله عليه وسلم حلق عام الحديبية وهي من الحل قلنا قوله صلى الله عليه وسلم " اذبح ولا حرج " لمن قال حلقت قبل أن أذبح لبيان سقوط الترتيب لعلة الجهل والنسيان لا لتعميم الزمان لأن يوم النحر كان موجودا عند السؤال لأنه كان بعد الظهر يوم النحر، وحلق النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية لم يكن عند أبي حنيفة نسكا بل ليعرف استحكام الانصراف حيث لا يجب الحلق على المحصر عند أبي حنيفة والجواب عندي أن المحصر معذور لا يقاس عليه غيره ألا ترى أن الحلق قبل دخول وقته جائز للمحصر لا لغيره إجماعا فكذا الحلق في غير مكان، والحجة لنا في اشتراط الحرم للحلق قوله تعالى :( ثم محلها إلى البيت العتيق( وسيجيء تفسيره وقوله :( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ءامنين محلقين رؤوسكم ومقصرين( حيث جعل الحلق والتقصير من خواص دخول المسجد والتوارث فإن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده توارثوا على الحلق في الحج بمنى والعمرة عند مروة وهما من الحرم.
مسألة : واختلفوا في القدر الواجب من الحلق والتقصير ؟ فقال مالك وأحمد لا يتحلل ما لم يحلق أو يقصر كل الرأس وقال أبو حنيفة حلق ربع الرأس أو تقصيره يكفيه وقال الشافعي يكفيه إزالة شعرة واحدة أو ثلاث شعرات، قال الشافعي هذه الآية لإيجاب قضاء بعض التفث ولا شك أن قضاء بعض التفث يحصل بإزالة شعرة أو ثلاث شعرات وقال أو حنيفة لا يقال في العرب من أزال شعرة أو ثلاثا أنه حلق رأسه أو قضى تفثه فلا بد من قدر معتد به، شرعا وقد أقام ربع الرأس في الوضوء مقام الكل حيث أوجب مسح ربع الرأس وأوجب في سائر الأعضاء غسلها بتمامها كما ذكرنا تحقيقه في سورة المائدة في آية الوضوء فقلنا ها هنا بحلق ربع الرأس وقال مالك وأحمد لا نسلم ما قال أبو حنيفة من إقامة الرأس مقام الكل فإن الفريضة عندهم مسح كل الرأس ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة انه اقتصر على حلق بعض الرأس أو تقصيره.
مسألة : الحلق أفضل من التقصير إجماعا لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم ارحم المحلقين قالوا : والمقصرين يا رسول الله قال : اللهم ارحم المحلقين قالوا : والمقصرين يا رسول الله قال :" والمقصرين " في رواية قال في الرابعة والمقصرين، وحديث أبي هريرة نحوه والحديثان في الصحيحين ( وليوفوا( قرا ابن ذكوان بكسر اللام والباقون بإسكانها وقرأ أبو بكر عن عاصم ليوفوا بتشديد الفاء من التفعيل والباقون بالتخفيف من الأفعال ( نذورهم( قيل : أراد به الخروج عما وجب عليه نذرا ولم ينذر فإن العرب يقول لمن خرج عن الواجب عليه وفي بنذره والجمهور على أن المراد بالنذر ما أوجب إنسان على نفسه مما ليس بواجب عليه وهو على نوعين منجز كأن يقول لله علي أن أصلي ركعتين ومعلق بشرط، ثم المعلق بالشرط إن كان الشرط مرضيا كأن قال إن شفى الله مريضي أو قدم غائبي فعلي أن أصوم يسمى نذر تردد وإن كان الشرط مكروها كأن قال إن كلمت زيدا فعلي أن أحج يسمى نذر لجاج، وإذ علمت أن النذر إيجاب ما ليس بواجب عليه فإيجاب ما هو واجب من الله تعالى إخبار محض كمن قال الله علي أن أصوم رمضان أو أصلي الظهر فلا يترتب عليه شيء أصلا ولا يتغير وصف الواجب وقدره بتغير العبد فلو قال لله علي أن أؤدي زكاة كل مائتي درهم عشرة لا يلزمه إلا خمسة كم قال لله علي أن أصلي الظهر ست ركعات وكذا لو قال لله علي أن أصلي كل فريضة بوضوء جديد أو بجماعة لأن الله سبحانه أجزى الصلاة بغير هذه القيود فلو قلنا بعدم الإجزاء لعزم نسخ حكمم من أحكام الله تعالى ولو قلنا بإجزاء الصلاة بدونها فلا فائدة في القول بإيجاب هذه الأمور إذ لا يمكن قضائها بمثلها لعدم استقلالها وقضائها بمثل غير معقول يتوقف على ثبوتها من الشرع ولم يثبت وهذا معنى قولهم يشترط لل
( ذلك( خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف، أو فاعل لفعل محذوف أو منصوب بفعل محذوف يعني الأمر ذلك أو ذلك ثابت واجب الامتثال ووجب ذلك أو عرفت ذلك أو احفظ ذلك، وذلك إشارة إلى ما سبق من الأحكام ووجب ذلك أو عرفت ذلك أو احفظ ذلك، وذلك إشارة إلى ما سبق من الأحكام وهو وأمثاله يطلق للفصل بين كلامين ( ومن يعظم حرمات الله( يعني معاصي الله ومنهي عنه وتعظيمها أن يشق عليه اقترابها فإن المؤمن يرى خطيئته صدرت منه كمثل جبل على رأيه يخاف أن يقع عليه وإن المنافق يرى خطيئة كمثل ذباب على أنفه فعل بيده هكذا فطارت كذا وقع في الحديث، وقال الليث حرمات الله ما لا يحل انتهاكها يعني أو أمر الله ونواهيه وقال الزجاج الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه وهذه قوم إلى أن معنى حرمات الله المناسك وقال ابن زيد الحرمات ها هنا البلد الحرام والبيت الحرام والشهر الحرام ( فهو( يعني تعظيم الحرمات ( خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم( تحريمه حيث قال :( حرمت عليكم الميتة والدم( الآية يعني فلم يحرمون منها البحيرة والسائبة والوصيلة والمحامي وهذه جملة معترضة ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان( أي الرجس الذي هو الأوثان سماه رجسا أي قذرا لأن العقول والطباع السليمة ينتفر عنها كما ينفر المرء عن القاذورات فهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها وقيل : هو بمعنى الرجز وهو العذاب سماه رجسا لأنه سبب للتعذيب ( واجتنبوا قول الزور( يعني الكذب مشتاق من الزور بفتح الزاء بمعنى الانحراف كما أن الإفك من الإفك بمعنى الصرف، فإن الكذب منحرف مصروف عن الواقع والمراد ها هنا قولهم الملائكة بنات الله والأوثان شفعاؤنا عند الله وقوله في تلبيتهم لبيك لا شريك له إلا شريكا نملكه وما ملكه واللفظ عام يعم جميع أنواع الكذب في الحكايات والمعاملات روى أحمد وأبو داود وابن ماجة والطبراني وابن المنذر وغيرهم عن خريم بن فاتك الأسدي قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فلما انصرف قام قائدا فقال :" عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله ثلاث مرات " ثم قرأ ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به( قال قتادة كانوا في الشرك يحجون ويمنعون البنات والأمهات والأخوات وكانوا يسمون أنفسهم حنفاء والحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم عليه السلام.
( حنفاء لله( أي مخلصين له الدين من الحنيف محركة وهو الاستقامة كذا في القاموس والاستقامة على الحق هو الإخلاص لله والإعراض عما سواه ( غير مشركين به( في العبادة ولا في إثبات وجوب الوجود والألوهية يعني من أشرك لا يكون حنيفا ولا على إبراهيم فإن لم لك من المشركين قوله تعالى :( فاجتنبوا الرجس( مع ما عطف عليه معطوف على قوله ( ومن يعظم حرمات الله فهو خير له( متفرغ عليه وهو خير لفظ لكنه أمر معنى فإن معناه عظموا حرمات واجتنبوا الأوثان لأن عبادة الأوثان من أعظم المحرمات وأشدها فعلا، والقول بما كان المشركون يقولونها نذبا أعظمها وأشدها قولا ( ومن يشرك بالله( غيره ( فكأنما خر من السماء( يعني أن عبادة الله تعالى كمال ورفعة لا رفعة فوقه، فيفوق كل شيء كمن هو مستو على السماء فهو فوق كل شيء في الحس ولا يعدله غيره في الارتفاع ثم إذا عبد مع الله غيره من الممكنات فكأنما سقط من السماء إلى الحضيض إذ لا مذلة فوق من أذل نفسه حتى بعد ممكنا مثله بل دونه من الحجارة وأمثالها ( فتخطفه( قرأ نافع بفتح الخاء وتشديد الطاء من التفعيل للمبالغة والباقون بإسكان الخاء وتخفيف الطاء من المجرد ( الطير( استعارة بالكناية أراد بالطير الأهوية المردية فإنها تخطفه أي تسلبه وتوزع أفكاره ( أو تهوي به الريح( استعارة مثله أراد بالريح الشيطان فإنه يهوي ويطرح به في مكان من الضلالة ( سحيق( بعيد من الحق يعني من أشرك استولى عليه النفس أو الشيطان وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع، وقال البيضاوي أو للتويع فإن المشركين من لا خلاص له أصلا فكأنما اختطفه الطير فلم يبق من جسده شيء ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة كمن أوقعه الريح في مكان بعيد يمكن أن يأتي من هناك إلى مأواه والظاهر أنه من التشبيهات المركبة والمعنى أنه من يشرك بالله فهو كمن سقط من السماء فإنه لا يملك لنفسه حيلة ويهلك لا محالة إما باستلاب الطيران وإما بسقوطه في مكان سحيق قال الحسن شبه أعمال الكفار بهذا الحال في أنها تذهب وتبطل فلا يقدرون على شيء منها وعن البراء بن عازب في حديث طويل ذكرنا بعضه في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى :( لا تفتح لهم أبواب السماء( قوله صلى الله عليه وسلم في ذكر موت العبد الكافر " أن الملائكة يصعدون بروحه حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تفتح لهم أبواب السماء( الآية فيقول الله اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلي فيطرح روحه طرحا ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير( الآية
( ذلك( تفسيره مثل ما سبق ( ومن يعظم شعائر الله( قال ابن عباس شعائر الله البدن والهدي وأصلها من الإشعار وهو إعلامها ليعرف أنها هدى وتعظيمها استسمانها وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة، وروى أبو داود أن عمر رضي الله عنه أهدى بختية طلبت منه ثلاث مائة دينار ( فإنها( أي تعظيمها ( من تقوى القلوب( أي من الأفعال ذوي تقوى القلوب فحذف هذه المضافات وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور والآمرة بهما
( لكم فيها منافع( يعني لكم في تلك الشعائر أي البدن والهدي منافع يعني جاز لكم الانتفاع بها بركوبها والحمل عليها وشرب لبنها غير مضربها ( إلى أجل مسمى( أي وقت معلوم يعني إلى أن تنحروها كذا قال عطاء بن رباح وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق أنه جاز ركوب الهدي والحمل عليها وشرب لبنها غير مضربها، ويؤيده حديث أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال أركبها فقال : إنها بدنة قال ك اركبها قال : إنها بدنة قال : اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة " متفق عليه، وحديث أنس نحوه رواه البخاري وحديث ابن عمر رأى رجلا يسوق بدنة فقال : اركبها وما أنت بمستن سنة أهدى من سنة محمد صلى الله عليه وسلم رواه الطحاوي وقال أبو حنيفة لا يجوز ركوبها ولا الحمل عليها ولا شرب لبنها إلا لضرورة لأنه لما جعلها كلها لله تعالى فلا ينبغي أن يصرف منها شيئا لمنفعة نفسه وهذا المعنى يقتضي المنع مطلقا سواء كان به ضرورة أولا، ويؤيده قوله تعالى :( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب( ولا شك أن الركوب والحمل ينافي التعظيم والاستسمان لكن لما ثبت بالأحاديث جواز الركوب قلنا بالجواز في حالة الضرورة حملا للأحاديث المذكورة على تلك الحالة كيلا يلزم ترك العمل بالسنة، ويدل على اشتراط الضرورة ما روى الطحاوي بسندين عن حميد الطويل عتن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدعة وقد جهد قال : اركبها قال : يا رسول الله إنها بدنة فقال : اركبها وفي رواية قال اركبها وغن كانت، بمستن سنة هي أهدى من سنة محمد صلى الله عليه وسلم وروى مسلم عن أبي الزيبر قال :" سمعت جابر بن عبد الله يسال عن ركوب البدن قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" اركبها بالمعروف إذا التجأت إليها حتى تجد ظهرا " والمراد بالمنافع في الآية عندنا دفه الضرورة عند الإلجاء وقال مجاهد وقتادة والضحاك معنى الآية :( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى( أي موضع حلول أجلها يعني منحرها وقيل معناه وقت نحرها وحلول أجلها ومحلها معطوف على منافعها وكلمة ثم يحتمل التراخي في الوقت فإن وقت الانتفاع قبل وقت النحر، أو التراخي في الرتبة لأن المراد بالمنافع المنافع الدنيوية ونحوها للثواب وهو من المنافع الأخروية يعني لكن فيها منافع دنيوية ثم لكم فيها محلها يعني نحرها وهما مما ينتفع به في الآخرة ( إلى البيت العتيق( حال من محلها وهو فاعل للظرف المستقر بواسطة حرف العطف يعني لكم محلها كائنا إلى البيت العتيق وجاز أن يكون محلها مبتدأ محذوف الخبر والظرف حال منه على طريقة ضربي زيدا قائما يعني محلها كائن منتهيا إلى البيت العتيق، وجاز أن يكون محلها مبتدأ والظرف خبره والجملة معطوفة على جملة سابقة، والمراد بالبيت العتيق الحرم كله إذ هو في حكم البيت في كونه عتيقا غير مملوك لأحد هو حريم البيت ويقال في العرف بلغت البلد إذا بلغت فناءه وجاز أن يكون التقدير ثم محلها الحرم من أقصى أطرافه إلى البيت العتيق وهذه الآية حجة على جواز النحر في أي موضع شاء من الحرم وقال مالك لا ينحر الحاج إلا بمنى ولا المعتمر إلا بمروة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هكذا قلنا : نحر النبي صلى الله عليه وسلم في الحج بمنى لا ينفي جواز النحر في غيره إذا ثبت بالكتاب والسنة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " منى كلها منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر وكل عرفة وكل المزدلفة موقف " رواه أبو داود وابن ماجة من حديث جابر وقيل : شعائر الله أعلام دينه ولا شك أن تعظيمها من أفعال أهل التقوى وعلى هاذ التأويل قوله تعالى ( لكم فيها منافع( متصل بقوله تعالى :( وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم( أي في الأنعام منافع دنيوية تنتفعون بها إلى أجل مسمى وهو الموت ثم محلها منتهية إلى البيت الذي يرفع إليه الأعمال أو يكون فيه ثوابها وقيل : شعائر الله فرائض الحج ومشاهد مكة لكم فيها منافع دنيوية بالتجارة في الأسواق إلى أجل مسمى إلى وقت المراجعة والخروج من مكة ومنافع أخروية بالأجر والثواب في قضاء المناسك إلى أجل مسمى أي إلى انقضاء أيام الحج ثم محلها أي محل الناس فيها من إحرامهم منتهى إلى البيت العتيق أن يطوفوا فيه طواف الزيادة يوم النحر
( ولكل أمة( أي جماعة مؤمنة سلفت منكم ( جعلنا منسكا( قرأ حمزة والكسائي بكسر السين ها هنا وفي آخر السورة يعني موضع نسك أي متعبد والباقون بفتح السين بمعنى الموضع أو المصدر أي إراقة الدماء وذبح القرابين او قربانا يتقربون به إلى الله ( ليذكروا اسم الله( دون غيره ويجعلوا نسكهم لوجهه علل الجعل به تنبيها على أن المقصود من جعل المناسك تذكر المعبود وفيه دليل على كون الذكر شرطا للذبح ( على ما رزقناهم من بهيمة الأنعام( عند نحرها وذبحها سماها بهيمة لأنها لا تتكلم وقيدت بالنعام ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير ولا يجوز ذبح شيء منها في القرابين إلا الأنعام بل الأهلية منها إجماعا وهذه الجملة معترضة لتحريض أمة محمد صلى الله عليه وسلم على التأسي بمن سبق ( فألهكم إله واحد( يعني سموا على الذبائح اسم الله وحده إذ لا إله لكم غيره جملة معللة يعني جعلنا لكل أمة كمتعبدا ليذكروا الله وحده لأن إله كلهم واحد وإن كانوا أمما شتى ( فله( دون غيره ( أسلموا( انقادوا وأطيعوا يعني أخلصوا التقرب أو الذكر ولا تشوبوه بالإشراك ( وبشر المخبسين( عطف على قوله وأذن في الناس بالحج عن كان خطابا لنبينا صلى الله عليه وسلم وإلا فعلى وإذا بوأنا يعني اذكر وقت تبوئتنا ( وبشر المخئبتين( الخبيث الشيء الحقير يعني من خشع وعد نفسه حقيرا يقال أخبث إذا خشع وتواضع كذا في القاموس ومن ها هنا قال ابن عباس وقتادة معناه المتواضعين وقال الأخفش الخاشعين وقيل : الخبث المكان المطمئن من الأرض ومن ها هنا قال مجاهد المطمئنين إلى الله وقال النخعي المخلصين فإن الاطمئنان هو الإخلاص وقال الكلبي هم الرقيقة قلوبهم وقال عمرو بن أوس هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا
( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم( هيبة منه لإشراق أشعة جلاله عليها وعرفان عظمته ( والصابرين على ما أصابهم( من المصائب ( والمقيمين الصلاة( في أوقاتها ( ومما رزقناهم ينفقون( عطف على صلة اللام الموصول يعني بشر الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقناهم
( والبدن( جمع بدنة كخشب وخشية قال الجزري في النهاية البدنة يقع على الحمل والناقة والبقرة وهي بالإبل أشبه وسميت بدنة لعظمها وسمنها قال في القاموس البدنة محركة من الإبل والبقر وبه قال أبو حنيفة رحمه الله، وقال عطاء والسدي البدن الإبل والبقر وأما الغنم لا يسمى بدنة، وقال الشافعي هو من الإبل خاصة، قال البيضاوي إنما سميت بها افبل لعظم بدنها مأخوذة من بدن بدانة وقال البغوي سميت بدنة لعظمها وضخامتها يريد الإبل العظام الضخام الأجسام يقال بدن الرجل بدنا وبدانة إذا ضخم، وأما إذا أسن واسترخي يقال بدن تبدينا واحتج القائلون بأنها من افبل خاصة بحديث جابر قال :" نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البقر عن سبعة والبدنة عن سبعة " قوله والبدن مفعول أول منصوب بفعل مضمر يفسره ( جعلناها لكم( مفعول ثان ( من شعائر الله( أي كائنا من أعلام دينه التي شرعها الله حال من المفعول الأول قيل : سميت شعائر لأنها تشعر أي بطعن بحديدة في سنانها ليعلم أنها هدي ( لكم فيها خير( منافع دينية ودنيوية ( فاذكروا اسم الله عليها( روى الحاكم المستدرك عن ابن عباس موقوفا أنه قال : إن كانت بدنة فليقمها ثم ليقل الله أكبر الله أكبر الله أكبر اللهم منك ولك ثم ليسم الله ثم لينحر وروى أبو داود وابن ماجة والحاكم في المستدرك عن جابر مرفوعا " أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول " إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملة إبراهيم حنيفا وما أنا من المشركين إنه صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم منك ولك بسم الله والله أكبر " ( صواف( أي مصفوفة، قال في القاموس فواعل بمعنى مفاعل أي قياسا على ثلاثة قوائم فلصقت رجليها وإحدى يديها ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك، روى البخاري عن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها فقال ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في الأضاحي وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سنته عن أبي ظبيان قال سألت ابن عباس عن قوله ( فاذكروا اسم الله عليها صواف( قال إذا أردت أن تنحر البدنة فأقمها على ثلاث قوائم معقولة ثم قل بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك، وعلق البخاري قول ابن عباس صواف أي قياما وذكره سفيان بن عيينة في تفسيره عن عبد الله بن يزيد وأخرجه سعيد بن منصور وقال مجاهد الصواف إذا عقلت رجله اليسرى وقامت على ثلاث قوائم وقرأ أبي الحسن ومجاهد صوافي بالياء أي خوالص لوجه الله ( فإذا وجبت( أي سقطت على الأرض ( جنوبها( أي ماتت ( فكلوا منها( أمر بإباحة وقد مر مسألة جواز الأكل من الهدايا فيما سبق الجملة الشرطية معطوفة على فاذكروا يعني فاذكروا اسم الله عليها فكلوا منها إذا وجبت جنوبها ( وأطعموا القانع والمعتر( قال عكرمة وإبراهيم وقتادة القانع الجالس في بيته والمتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل والمعتر الذي سأل وروى العوفي عن ابن عباس القانع الذي لا يتعرض ولا يسأل والمعتر قنع قناعة إذا رضي بما قسم له، وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي القانع الذي يسأل والمعتر الذي يستعرض ولا يسأل فيكون القانع من قنع يقنع قنوعا إذا سأل وقرأ سؤالا وإما تعرضا وقال ابن زيد القانع المسكين والمعتر الذي ليس فيكون القانع من قنع يقنع قنوعا إذا سال وقرأ سؤالا وإما تعرضا وقال ابن زيد القانع المسكين والمعتر الذي ليس بمسكين ولا يكون له ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم كذلك أي تسخيرا مثل تسخير وصفناه من نحرها قياما ( سخرناها لكم( مع عظمتها وقوتها منقادة وتحبسونها صافة قوائمها ثم تطعنون في لباتها ( لعلكم تشكرون( إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص.
أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن ابن جرير قال كان أهل الجاهلية ينضحون البيت الحرام بلحوم الإبل دمائها فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنحن أحق أن ننضح فأنزل الله تعالى :( لن ينال الله( الآية،
واخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال كان المشركون إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء فينضحون بها نحو الكعبة فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك فأنزل الله تعالى :( إن الله يدافع عن الذين ءامنوا( قال مقاتل أي لن يرفع الله لحومها ولا دماؤها ( ولكن يناله( قرأ يعقوب لن تنال وتناله بالتاء المثناة من فوق فيهما والباقون بالياء المثناة من تحت أي ولكن يرفع الله ( التقوى منكم( يعني الأعمال الصالحة المترتبة على التقوى والإخلاص المراد بها وجه الله ( كذلك سخرها لكم( كرره تذكيرا للنعمة وتعليلا له بقوله ( لتكبروا الله( لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر غيره فتوحدوه بالكبرياء شكرا ( على ما هداكم( أرشدكم إلى معالم دينه ومناسك حجه وإلى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها، وما مصدرية أو موصولة وعلى متعلقة يتكبروا لتضمنه معنى الشكر وقيل المراد التكبير عند الإحلال والذبح على إنعام هداكم الله إلى تسخيرها ( وبشر المحسنين( قال ابن عباس يعني الموحدين عطف على بشر المخبثين.
( إن الله يدافع عن الذين ءامنوا( قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويدفع بفتح الياء والفاء وإسكان الدال والمفعول محذوف، أي يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم من المؤمنين والباقون يدافع من المفاعلة أي ببالغ في الدفع مبالغة مني غالب فيه ( إن الله لا يحب( أي يبغض ( كل خوان( في أمانة الله ( كفور( لنعمته قال ابن عباس خانوا الله يعني كفار مكة فجعلوا معه شريكا وكفروا نعمته وقال الزجاج من تقرب إلى الأصنام بذبيحة وذكر عليه اسم غير الله فهو خوان كفور ولهذه الجملة في مقام التعليل للدفع.
أخرج أحمد والترمذي والسدي والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر أخرجوا نبيهم ليهلكن فأنزل الله تعالى :( أذن( قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو على البناء للمفعول والباقون على البناء الفعال أي أذن الله ورخص في القتال ( للذين يقاتلون( قرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح التاء على البناء للمفعول يعني للمؤمنين الذين يقاتلهم المشركون والباقون بكسر التاء على البناء للفاعل يعني للمؤمنين الذين أذن لهم في الجاهد وأن يقاتلوا الكفار، قال البغوي قال المفسرون كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يزالون يجيئون بين مضروب ومشجوج ويشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال فنزلت هذه الآية بالمدينة، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنها أول آية نزلت في القتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية، وأخرجه ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير وأخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري وقال البغوي قال مجاهد نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فكانوا يمنعون فأذن الله لهم في قتال الكفار والذين يمنعونهم من الهجرة ( بأنهم( أي أذنوا في القتال بسبب أنهم ( ظلموا( أي اعتدوا عليهم بالإيذاء ومن ها هنا لا يجوز قتل نساء أهل الحرب بالإجماع إلا أن يكون ذوات رأي أو مال تعن الكفار بأموالهن على قتال المسلمين ولا يجوز قتل الشيخ الغاني ولا الرهبان ولا العميان ولا الزمني خلافا لأحد قولي الشافعي إلا أن يكون لهم رأي وتدبير فيجوز قتلهم اتفاقا، ولا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله قتل المرتدة بل تحبس أبدا حتى تموت أو تتوب وقال مالك والشافعي وأحمد الرجل والمرأة في حكم الردة سواء لنا حديث عبد الله بن عمر قال :" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان " متفق عليه، وحديث بن رباح بن الربيع قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلا فقال " ما كنت هذه تقاتل " وعلى المقدمة خالد بن الوليد فبعث رجلا فقال : قل لخالد لا تقتل امرأة ولا عسيفا " رواه أبو داود وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" انطلقوا بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا شيخا فانيا ولا كفلا صغيرا ولا امرأة " الحديث رواه أبو داود والمرأة في تلك الأحاديث مطلقة تحت النفي تعم الكافرة الأصلية والمرتدة وعلل في النص عدم قتلها بعدم حرابها قالت الحنفية الأصل في الأجزية أن تتأخر إلى دار الجزاء وهي الدار الآخرة، وأما دار الدنيا فهي دار التكليف والابتلاء قال الله تعالى :( لا إكراه في الدين( فكل ما شرع جزاء في هذه الدار إنما هو لمصالح تعود إلينا في هذه الدار كالقصاص وحد الشرب والقذف والزنى والسرقة فإنها شرعت لحفظ النفوس والأعراض والعقول والأنساب والأموال فالقتل بالردة لا يجب إلا لدفع شر حرابه لا جزاء على كفره لأن جزاء الكفر أعظم من ذلك عند الله فيختص القتل بمن يتأتى منه الحراب وهو الرجل ولو كان جزاء للكفر لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء أهل الحرب ولو كان جزاءا للكفر لزم تطهيره بالقتل كما في القصاص والحدود احتجوا على وجوب قتل المرتدة بعموم قوله صلى الله عليه وسلم " من بدل دينه فاقتلوه " رواه البخاري من حديث ابن عباس وفي الباب عن يهز بن حكيم عن أبيه عن جده في معجم الكبير للطبراني وعن عائشة في الأوسط وأجاب الحنفية بأنا خصصنا النساء عن عموم كلمة من لما ذكرنا من أحاديث النهي عن قتل النساء بعد أن عمومه مخصص بمن بدل دينه من الكفر إلى الإسلام أو من اليهودية إلى النصرانية قلت : لكن حديث ابن عباس رواه الحاكم وصححه بلفظ " من بدل دينه من المسلمين فاقتلوه " قال الحافظ هو من طريق حفص بن عمر العدني وهو مختلف فيه واحتجوا أيضا بحديث جابر أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت رواه الدارقطني من طريقين ولا في أحدهما فأبت أن تسلم فقتلت : قال الحافظ إسنادهما ضعيفان قال ابن همام الأول مضعف بعمر بن رواحة والثاني بعبد الله بن أدينة قال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به وروى حديث آخر عن عائشة ارتدت امرأة يوم أحد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تستتاب وإلا قتلت وفي سنده محمد بن عبد الملك قالوا فيه يضع الحديث ثم هذه الأحاديث معارضة بأحاديث آخر مثلها منها ما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " لا تقتل المرأة إذا ارتدت وفيه عبد الله بن علي الجزري قال الدارقطني كذاب يضع الحديث وعن أبي هريرة أخرج ابن عدي في الكامل أن امرأة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ارتدت فلم يقتلها وضعفه بحفص بن سليمان وأخرج الطبراني في معجمه عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن قال : أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن تاب فاقبل منه وإن لم يتب فاضرب عنقه وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن تابت فاقبل منها وإن أبت فاستتبها، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي رزين عن ابن عباس لا تقتل النساء إذا هن ارتدن عن الإسلام ولكن يحسبن ويدعين إلى الإسلام ويجبرن عليه وفي بلاغات محمد عن ابن عباس نحوه وروى عبد الرزاق أثر عمر أن امرأة تنصرت فأمر أن تباع في أرض ذات مؤنة عليها ولا تباع في أهل دينها فيبعث في دومة الجندل وروى الدارقطني أثر على المرأة تستتاب ولا تقتل وضعف بجلاس.
مسألة : لو أمر الإمام بقتل بعض من نساء أهل الحرب مرتدة كانت أو غيرها لمصلحة فلا بأس به وقد ذكرنا في تفسير سورة الفتح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى امرأته من المسلمين يوم الفتح حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لا تقتلوا أحدا إلا من قائلهم إلا نفرا سماهم فأمرهم بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وذكرنا هناك أسماءهم منهم نساء منهن قينتان لعبد الله بن خطل قرنة وقرينة فقتلت قرينة وأسلمت قرنة وكانتا مرتدين ومنهم سارة مولاة عمر بن هاشم وهند امرأة أبي سفيان كانتا كافرتين أصليتين أسلمتا يوم الفتح والله أعلم.
( وإن الله على نصرهم لقدير( وعد لهم بالنصر كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم
( الذين أخرجوا من ديارهم( التي كانت لهم بمكة الموصول مجرور بدل من الموصول في ( أذن للذين يقاتلون( أو منصوب بتقدير أعني أو مدح أو مرفوع بتقدير المبتدأ أي هم الذين أخرجوا أو على جميع التقادير المال واحد ( بغير حق( استحقوا به الجلاء ( إلا أن يقولوا ربنا الله( أن مع صلته في محل الجر بدل من الحق استثناء منه وإطلاق الحق عليه مبني على زعمهم الباطل الغرض منه التنبيه على رضوخ ظلمهم وكونهم على الباطل حيث زعموا ما هو بديهي البطلان وهو استحقاق الإخراج بالتوحيد حقا، وهذا نظير قوله فلان لا خير فيه إلا أنه يسيء بمن يحسن إليه يعني أنه يزعم الإساءة إلى من أحسن إليه خيرا فكيف يكون فيه خبر فهو بمنزلة الدعوى مع البرهان ونظيره قوله تعالى :( وما ننقم منا إلا أنم ءامنا( ونظيره قول الشاعر :
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وغلا العيس
وقيل هذا استثناء منقطع بمعنى لكنهم أخرجوا بسبب قولهم ( ربنا الله( وهذا القول حق فالإخراج به إخراج بغير حق، وجاز أن يكون استثناء من كلام محذوف تقديره ما أخرجوا الشيء إلا بأن قالوا ربنا الله وهذا القول حق فهو في مقام التعليل لما سبق ( ولولا دفع الله الناس بعضهم( بدل من الناس ( ببعض( أي ببعضهم بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين قرأ نافع لولا دفاع الله بكسر الدال وألف بعد الفاء بمعنى المدافعة للمبالغة والباقون بفتح الدال وإسكان الفاء من غير ألف ( لهدمت( قرا نافع وابن كثير بتخفيف الدال والباقون بتشديدها ( صوامع( أدغم حمزة والكسائي وأبو عمرو وابن ذكوان تاء هدمت في الصاد ولم يدغم غيرها قال مجاهد والضحاك يعني صوامع الرهبان وقال قتادة صوامع الصابئين ( واسع( جمع بيعة وهي كنيسة النصارى ( وصلوات( وهي كنائس اليهود يسمونها بالعبرانية صلوات ( مساجد( المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومعنى الآية لولا دفع الله الناس لهدمت في كل شريعة نبي مكان عبادتهم فهدمت في زمن موسى الكنائس وفي زمن عيسى البيع والصوامع وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد ( يذكر فيها( أي في المساجد أو في جميع الأربعة ( اسم الله كثيرا( صفة لمصدر محذوف أي ذكرا كثيرا ( ولينصرن الله من ينصره( أي ينصر دينه، جواب قسم محذوف والجملة معترضة للوعد ( إن الله لقوي( على نصرهم ( عزيز( لا يمكن ممانعته تأكيد للوعد
( الذين إن مكناهم( أن ها هنا بمعنى إذا بدليل ما سبق من الوعد بالدفع والنصر فهو إخبار ووعد بالتمكين ( في الأرض أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر( وصف للذين أخرجوا وهو ثناء قبل بلاء وهو برهان على صحة أمر الخلفاء الراشدين إذ لم يحصل المكنة في الأرض لغيرهم من المهاجرين وأما معاوية رضي الله عنه فلم يكن من الذين أخرجوا وقيل : الموصول بدل ممن ينصره والمعنى لينصرن الله من يكون هذا صفته ولا شك أن الله تعالى نصر الخلفاء الراشدين وأنجز وعده، حتى سلطهم على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورث المسلمين على عهدهم أرض الكفار وديارهم وأموالهم ( ولله عاقبة الأمور( فإن مرجعها إلى حكمه وفيه تأكيد لما وعده.
( وإن يكذبوك( يا محمد يعني كفار مكة ( فقد كذبت( تعليل لجزاء محذوف لشرط مذكور تقديره فإن كذبوك فلا تحزن لأنه ليس بأمر مبدع فقد كذبت ( قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين( جملة معترضة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:( وإن يكذبوك( يا محمد يعني كفار مكة ( فقد كذبت( تعليل لجزاء محذوف لشرط مذكور تقديره فإن كذبوك فلا تحزن لأنه ليس بأمر مبدع فقد كذبت ( قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين( جملة معترضة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:( وإن يكذبوك( يا محمد يعني كفار مكة ( فقد كذبت( تعليل لجزاء محذوف لشرط مذكور تقديره فإن كذبوك فلا تحزن لأنه ليس بأمر مبدع فقد كذبت ( قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين( جملة معترضة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم
{ وكذب موسى( غير فيه النظم وبنى المفعول لأن قومه بني إسرائيل لم يكذبوه وإنما كذبه القبط ولأن تكذيبه كان أشنع لكونه آياته أعظم وأشيع ( فأمليت للكافرين( أي أمهلتهم وأخàرت عقوبتهم عطف على كذبت ( ثم أخذتهم( بالعذاب عاقبة أمرهم ( فكيف كان نكير( أثبت الياء ورش في الوصل حيث وقعت والباقون حذفوها يعني كيف كان إنكاري عليهم بتغيير النعمة محنة والحياة هلاكا والعمارة خرابا استفهام للتعجيب أو التهويل أو التقرير أي هو واقع موقعه
( فكأين( فكم ( من قرية( كلمة كأين مرفوع بالابتداء أو منصوب بإضمار فعل يفسره ( أهلكناها( قرأ أبو عمرو ويعقوب أهلكتها بتاء مضمومة على صيغة المتكلم المتوحد والباقون بنون مفتوحة وألف بعدها على التعظيم يعني أهلكنا أهلها حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وكذا في قوله ( وهي( يعني وأهلها ( ظالمة( أي واضعة للعبادة في غير موضعها كافرة بالله مؤمنة بالطواغيث ( فهي( أي حيطانها ( خاوية( أي ساقطة ( على عروشها( أي سقوفها يعني تهدمت عمرانها فسقطت السقوف أولا ثم وقعت عليها الجدران فالظرف لغو متعلق بخاوية، أو المعنى خاوية أي خالية على عروشها يعني كائنة على عروشها أي مع بقاء عروشها وسلامتها وعلى هذا التأويل الظرف المستقر أما منصوب على الحال أو مرفوع خبر بعد خبر أي هي خالبة وهي معطلة على عروشها بأن سقطت وبقيت الحيطان مائلة مشرفة عليها، والجملة معطوفة على أهلكناها لا على وهي ظالمة فإنها حال والإهلاك ليس حال خوائها، وعلى تقدير نصب كأين لا محل لهذه الجملة من الإعراب ( وبئر( كانت في القرى أهلكنا أهل تلك الآبار فصارت كبئر ( معطلة( متروكة لا تسقى عطف على قرية أي وكم من بئر معطلة ( و( كم من ( قصر مشيد( أهلكنا أهلها يعني كم من قرية ساقطة عمر أن بعضها بعد خرابها ومرفوعة مشيدة عمران بعضها أهلكنا أهلها، قال قتادة والضحاك ومقاتل معنى مشيد رفيع طويل من قولهم شاد بناه إذا رفعه وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد أي مجص من الشديد وهو الجص وجملة كأين من قرية بدل من قوله :( فكيف كان نكير( ومن ثم عطف بالفاء، قال البغوي قيل : إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن أما القصر فعلى قلة جبل والبئر في صفحه ولكل واحد منهما قوم في نعمة فكفروا فأهلكهم الله وبقي القصر والبئر خاليين وروى أبو روق عن الضحاك أنه كان هذه البئر بحضرموت في بلدة يقال لها حاصورا وذلك أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه السلام فسمي حضرموت لأن صالحا لما حضره فبنوا حاصروا قعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلا فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا ثم إن أخلاقهم عبدوا الأصنام وكفروا فأرسل الله ‘ليهم نبيا يقال له حنظلة بن صفوان وكان حمالا فيهم فقتلوه في السوق فأهلكهم الله وعطلت بئرهم وخربت قصورهم
( أفلم يسروا في الأرض( عطف على محذوف وتقديره ألم يخرجوا من بيوتهم أفلم يسروا في الأرض ( فتكون( منصوب بتقدير أن معطوف على مصدر مدلول تضمنا لقوله : أفلم يسيروا يعني ألم يحصل منهم خروجهم من بيوتهم وسير في الأرض لأن تكون لهم قلوب وتكون إما تامة ولهم حال من فاعله وأما بمعنى تصير والظرف خبره وبعده اسمه ( يعقلون بها( صفة لقلوب والمفعول محذوف والمعنى يعقلون بها ما يجب تعقله من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال ( أو ءاذان( عطف على قلوب ( يسمعون بها( الاستفهام للإنكار والإنكار راجع إلى كون قلوبهم عاقلة بعد السير وآذانهم سامعة للحق وفي حث على التعقل والاستماع ( فإنها( الضمير للقصة أو مبهم يفسره الإبصار في قوله تعالى :( لا تعمى الأبصار( وفي تعمى ضمير راجع إلى الأبصار المقدم رتبة أو الظاهر أقيم مقامه والفاء للتعليل أي تعليل استعقاب السير كون قلوبهم عاقلة وآذانهم سامعة يعني ليست أبصارهم عامية حتى لا يروا مشاهد الآثار الخالية بعد السير ولما كان الكفار من عدم الاعتبار بعد ظهور الآيات ومشاهدة الآثار شاهدا على كونهم عميانا وموجبا لإنكار السامع لأبصارهم أكد هذه الجملة بأن وضمير القصة او الضمير المبهم المفسر بما بعده إنزالا للسامع منزلة المنكر لنفي العمى، ثم قال استدراكا لدفع توهم نفي العمى عنهم مطلقا وإزاحة لشبهة حارت عقول العقلاء في أنهم يرون آيات التوحيد ولا يعتقدون به ويسمعون براهين التحقيق ولا يصغون إليها ( ولكن تعمى القلوب التي في الصدور( ذكر الصدور للتأكيد ونفي احتمال التجوز كما في قوله تعالى :( طائر يطير بجناحيه( وفي تنبيه على أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الذي يخص المبصر، قال قتادة البصر الظاهر بلغة ومتعة وبصر القلب هو البصر النافع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " شر العمى عمى القلب " رواه البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عقبة بن عامر الجهني وأبو نصر السنجري في الإنابة عن أبي الدرداء ورواه الشافعي عن ابن مسعود موقوفا، وذكر في الآية عمى القلب وأراد سلب المشاعر كلها عن قلوبهم كأنه قال ولكن تعمى وتصم القلوب التي في الصدور قال البيضاوي قيل لما نزلت :( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى( قال ابن أم مكتوم يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى فنزلت هذه الآية قلت : وهذا ما أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قول ذكر لنا أنها نزلت في عبد الله بن زائدة يعني ابن أم مكتوم
( ويستعجلونك بالعذاب( المتوعد به هذه الآية في مقام الاستشهاد على عمى قلوبهم بهم فإن استعجال العذاب دليل على العمى قال البغوي نزلت في النضر بن الحارث حيث قال ( إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء( ( ولن يخلف الله وعده( لامتناع الخلف في خبره فيصيبهم ما أوعدهم به البتة ولو بعد حين لكونه صبورا لا يعجل بالعقوبة وأنجز الله الوعد يوم بدر والجملة حال أو معترضة وكذا قوله ( وإن يوما عند ربك( حال أو معترضة كأنه قال لم تستعجلونه وهو لا يجوز فواته وهذه الآية تدل على أنه كما لا يجوز الخلف في وعده لا يجوز التخلف في وعيده أيضا وذا لا ينافي المغفرة آيات الوعيد مخصوصة بالنصوص والإجماع بمن لا يتدراكه المغفرة ( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون( قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يعدون بالياء التحتانية ها هنا لقوله :( ويستعجلونك( وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية لأنه أعم لأنه خطاب للمستعجلين والمؤمنين جميعا، قال ابن عباس في رواية عطاء معنى الآية أن يوما عنده تعالى وألف سنة في الإمهال سواء لأنه قادر متى شاء أخذهم لا يفوته شيء بالتأخير فيستوي في قدرته وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخيره وقيل : معناه أن يوما من أيام العذاب الذي استعجلوه في الثقل والاستطالة والشدة كألف سنة مما تعدون فكيف يستعجلونه، وهذا كما يقال أيام الهموم طوال وأيام السرور فصار وقيل : إن بيان لتناهي صبره يعني أن الله لا يخلف وعده لكنه قد يؤخر العذاب إلى يوم هو هند ربك كألف سنة قال مجاهد وعكرمة يعني يوما من أيام الآخرة والدليل عليهما روى عن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وإن يوما عند ربك كألف سنة " رواه أحمد والترمذي وحسنه، وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمس مائة عام نصف يوم " رواه الترمذي
( وكأين( أي وكم ( من قرية( أي من أهل قرية حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب وإرجاع الضمائر والأحكام مبالغة في التعميم وأورد هذه الجملة معطوفة بالواو على قوله يستعجلونك ولن يخلف لأنه في مقام الاستشهاد لعدم التخلف وبيان أن المتوعد به واقع لا محالة، والتأخير مبني على عادة الله سبحانه، فإن كثيرا من القرى ( أمليت( أي أمهلت ( لها( كما أمهلتكم ( وهي ظالمة( مثلكم حال من القرية ( ثم اخذتها( بالعذاب ( وإلي المصير( يعني إلى حكمي مرجع الجميع
( قل( يا محمد لكفار مكة ( يأيها الناس إنما أنا لكم نذير( يعني لست بقادر على إتيان العذاب مبين أوضح لكم ما أنذركم به ولما كان الخطاب مع المشركين المستعجلين بالعذاب وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة في غيظهم اقتصر على ذكر الإنذار ويمكن أن يقال : إن الإنذار مقدم على الإيثار وعام للفريقين والإبشار يخص بمن أطاعه بعد ما أطاعه ولذلك اقتصر عليه، روى الشيخان في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما فقال يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاه فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم غنجوا، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصيحهم الجيش فأهلكهم واجتاحوا فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق " ]
( فالذين ءامنوا( بما جئت به ( وعملوا الصالحات( على حسب ما أمرتهم ( لهم مغفرة( لما سلف منهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الإسلام يهدم ما كان قبله " رواه مسلم عن عمرو بن العاص ( ورزق كريم( أي الجنة
( والذين سعوا في ءاياتنا( بالرد والإبطال ( معاجزين( حال من فاعل سعوا قرأ ابن كثير وأبو عمرو معجزين بالتشديد من التفعيل ها هنا وفي سورة سبأ أي مثبطين الناس عن الإيمان ينسبونهم إلى العجز والباقون بالألف من المفاعلة أي معاندين مشاقين قال قتادة معنى معجزين ظانين مقدرين أنهم يعجزوننا بزعمهم أن لا بعث ولا نشر ولا جنة، ولا نار أو معنى يعجزوننا أي يفوتوننا فلا نقدر عليهم وقيل معنى معاجزين مغالبين يريدون أن يظهروا عجزنا عن إدراكهم قلت يمكن أن يكون معناه معاجزين الرسول فإنه يمنعهم عن دخول النار وهم يقتحمون فيها ( أولئك أصحاب الجحيم( روى الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثلي كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها فأنا آخذ يحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها " واللفظ للبخاري ولمسلم نحوه.
قال البغوي قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسرين إنه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم تولى قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاء به من الله عز وجل تمنى في نفسه ان يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم فكان يوما في مجلس لقريش فأنزل الله سورة النجم فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله :( أفرءيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى( ألقى الشيطان على لسانه لما كان يحدث به في نفسه ويتمنى تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءة فقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وسعيد بن العاص فإنهما أخنا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جهتها وسجل عليه لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهة يقولون قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر قالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فإذا جعل لها محمد نصيبا فنحن معه فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبرائيل فقال يا محمد ماذا صنعت لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كثيرا فأنزل الله تعالى :( وما أرسلنا من قبلك( الآية يعزيه وكان به رحيما، وسمع من كان بحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود قريش وقيل أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا يحدثون به من إسلام أهل مكة كان باطلا فلم يدخل أحد إلا بجوار أو مستخفيا ( من رسول( من زائدة للتعميم قال البغوي الرسول هو الذي يأتيه جبرائيل عيانا ( ولا نبي( هو الذي يكون نبوته إلهاما أو مناما وقيل الرسول من بعثه الله بشريعة مجددة يدعوا الناس إليها والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله " أي الأنبياء كان أول ؟ قال : آدم، قلت : يا رسول الله ونبي كان ؟ قال : نعم نبي مكلم قلت : يا رسول الله كم المرسلون ؟ قال : ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا " وفي رواية عن أبي أمامة قال أبو ذر قلت يا رسول الله كم وفاء عدة الأنبياء ؟ قال مائة ألف و
أربعة وعشرون ألفا الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا " رواه أحمد وابن راهوية في مسنديهما وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك صحيح رواية أبي أمامة ( إلا إذا تمنى( قال بعض المفسرين معناه إذا أحب شيئا واشتهاه وحدث به نفسه ما لم يؤمر به، استثناء مفزع من رسول ونبي على الحال تقديره : وما أرسلنا من رسول ولا نبي في حال من الأحوال إلا مقدرا في شانه أنه إذا تمنى ( ألقى الشيطان( أي وسوس إليه ووجد إليه سبيلا وألقى في مراده، وما من نبي إلا إذا تمنى أن يؤمن قومه، ولم يتمنى ذلك نبي إلا ألقى الشيطان ( في أمنيته( عليه ما يرضى قومه، وقال البيضاوي إذا زور نفسه ما يهويه ألقى الشيطان فيما يشتهيه ما يوجب استغاله بالدنيا فينسخ الله ما يلقى الشيطان أي يبطله ويذهبه بعصمته عن الركون ويرشده إلى ما يزيحه فينسخ الله ما يلقى الشيطان أي يبطله ويذهبه بعصمته عن الركون ويرشده إلى ما يزيحه ( ثم يحكم الله ءاياته( الداعية إلى الاستغراق في أمر الآخرة، وقال أكثر المفسرين معنى قوله إلا إذا تمنى أي قرأ كتاب الله ألقى الشيطان في أمنيته أي في قراءته قال الشاعر في عثمان رضي الله عنه حين قتل شعر : تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حماما المقادر
فإن قيل : كيف يجوز الغلط في التلاوة على نبي محمد صلى الله عليه وسلم معصوما من الغلط في أصل الدين وقال الله تعالى :( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه( يعني إبليس ومن ها هنا قال البيضاوي هو يعني ما ذكر في شأن نزول الآية وإلقاء الشيطان في قراءة سورة النجم مردود عند المحققين لكن قال الشيخ جلال الدين السيوطي هذه القصة رواها البزار وابن مردويه والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قلت : يعني عن سعيد بن جبير عنه قلت : قال البزار لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد تفرد بوصلة أمية بن خالد وهو ثقة مشهور وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر بسند صحيح عن سعيد بن جبرير مرسلا قال :" قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم فلما بلغ ( أفرءيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى( ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى أن شفاعتهن لترتجى فقال المشركون ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا فنزلت ( وما أرسلنا من قبلك( الآية، وأخرجه النحاس عن ابن عباس متصلا بسند فيه الواقدي وأخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس وأورد ابن إسحاق في السيرة عن محمد بن كعب وموسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب وابن جرير عن محمد بن كعب ومحمد بن قيس وابن أبي حاتم عن السدي كلهم بمعنى واحد وكلها إما ضعيفة أو منطقة سوى طريق سعيد بن جبير الأول الذي ذكره البزار وابن مردويه والطبراني وقال الحافظ ابن حجر لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا مع أن لها طريقين صحيحين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين أحدهما ما أخرجه الطبراني من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب الزهري حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وثانيهما ما أخرجه أيضا من طريق المقيم بن سليمان وحماد بن سلمة عن داود عن أبي هند عن أبي العالية.
قلنا : اختلف العلماء في الجواب عن الإشكال فقال بعضهم ان الرسول لم يقرأ ولا سمع منه أصحابه ولكن الشيطان ألقى ذلك بين قراءته في أسماع المشركين فظن المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأه وقال قتادة أغفى النبي صلى الله عليه وسلم إغفاء فجرى على لسانه بإلقاء الشيطان على سبيل السهو والنسيان فلم يلبث حتى نبهه الله عليه قيل : إن شيطانا يقال له أبيض عمل هذا العمل وكان فتنة ومحنة والله يمتحن عباده بما يشاء فإن قيل : كلا التقديران سواء قرأ الشيطان وحسب الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ أو جرى على لسانه في حالة إغفائه يخل بالوثوق بالقرآن ؟ قلنا قد تكفل الله تعالى الوثوق بقوله ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان( أي يبطل ويذهبه ويظهر على الناس أنه من إلقاء الشيطان ثم يحكم الله آيته المنزلة أي يثبتها ويحفظها من لحوق الزيادة من الشيطان. فإن قيل : هذه الآية حينئذ أيضا يحتمله ؟ قلنا : إذا ضمت هذه الآية بالبرهان العقلي المستدعى صحة رسالة الرسل وعصمتهم عن الخطأ والزلل في أصول الذين يفيد يقينا في قوة البداهة أن هذه الآية وكلما أثبته الله وأحكمه من الآيات والشرائع والأحكام إنما أثبته وأحكمه الله ( وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبث له قلوبهم وإن الله لهاد الذين ءامنوا إلى صراط مستقيم( قال الله تعالى ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض( ( والله عليم( بأحوال الناس واستعداداتهم فيفعل بكل ما يستحقه من الهداية أو الإضلال ( حكيم( فيما يفعله لا يسع لأحد الاعتراف عليه أو عليم بما أوحى إلى نبيه ويقصد الشيطان حكيم لا يدعه حتى يكشفه ويزيله
( ليجعل ما يلقي( عليه بتمكين الشيطان منه ( فتنة( أي محنة وبلاء ( للذين في قلوبهم مرض( شك ونفاق ( والقاسية قلوبهم( أي المشركين ( وإن الظالمين( يعني أهل النفاق والشرك وضع الظاهر موضع ضميرهم قضاء عليهم بالظلم ( في شقاق( خلاف عن الحق أو عن الرسول والمؤمنين ( بعيد( قال البغوي لما نزلت هذه الآية قالت قريش ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك وكان الحرفان اللذان ألقى الشيطان في أمنيته صلى الله عليه وسلم قد رفع في فم كل مشرك فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم
( وليعلم( عطف على ليجعل اللام متعلق بمقدر يعني فعلنا تمكين الشيطان على الإلقاء ونسخ ما يلقي الشيطان لأمرين لنجعل ما يلقي الشيطان إلى آخره وليعلم وجاز أن يكون اللام متعلقا بقوله :( ألقى الشيطان( وحينئذ يكون اللام في ليجعل وليعلم للعاقبة كما في قوله تعالى :( فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا( ( الذين أوتوا العلم( بالله وأحكامه وقال السدي أي التصديق بنسخ الله ( أنه( أي الذي أحكمه الله من آيات القرآن هو ( الحق من ربك( النازل من عنده أو إنه أي تمكين الشيطان حق لأنه جرت به عادة الله في جنس الإنسان من لدن آدم عليه السلام ( فيؤمنوا به( أي بالقرآن ويعتقدوا أنه من الله أو بالله تعالى وعطف يؤمنوا على يعلم بالفاء دليل على أن مجرد العلم ليس بإيمان بل هو أمر وهبي مترتب على العلم غالبا يجري العادة ( فتخبث( أي تخشع ( له قلوبهم( بالانقياد والخشية وتطمئن عنده ( وإن الله لهاد الذين ءامنوا( فيما أشكل عليهم ( إلى صراط مستقيم( أي اعتقاد صحيح وطريق قويم وهو الإسلام أو الذين آمنوا أو مما ألقى الشيطان في أمنيته ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنه
( حتى تأتيهم الساعة( أي وقت الموت بغتة( أي إتيانا فجاءة ( أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ( أو يأتيهم عذاب عقيم( قال عكرمة والضحاك عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة، وقيل ك المراد بالساعة يوم القيامة وبيوم عقيم يوم بدر إذ لم يكن للكافرين في ذلك اليوم خير والعقيم في اللغة المنع ومنه الريح العقيم، وجاز أن يكون المراد بالساعة وبيوم عقيم واحدا وهو يوم القيامة فيكون الثاني وضع الظاهر موضع المضمر للتهويل
( الملك يومئذ( يوم نزول مريتهم ( لله( وحده ظرف مستقر ( بينهم( بالمجازاة جملة مستأنفة أو في محل النصب على الحال والضمير يعم المؤمنين والكافرين لتفصيله بقوله فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم
والذين كفروا وكذبوا بآيايتنا فأولئك لهم عذاب مهين إدخال الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيه على أن إثابة المؤمنين بالجنات تفضل من الله تعالى وعقاب الكافرين مسبب بأعمالهم ولذلك قال ( لهم عذاب( ولم يقل هم في عذاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لن ينجي أحدا عمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " رواه الشيخان في الصحيحين ورويا فيهما عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يدخل الجنة أحدا عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني بمغفرة ورحمة " ولمسلم من حديث جابر نحوه وقد ورد نحوه من حديث أبي سعيد عند أحمد وابن أبي موسى وشريك بن طارق وأسامة بن شريك والسد بن كرز عند الطبراني واما قوله تعالى :( ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون( فمحمول على أن للجنة منازل تنال بالأعمال وأما أصل دخولها والخلود فيها فيفضل الله المتعال أخرج هناد في الزهد عن ابن مسعود قال : تجوزون الصراط بعفو الله وتدخلون الجنة برحمة الله وتقسمون المنازل بأعمالكم وأخرج أبو نعيم عن عون بن عبد الله مثله
( والذين هاجروا( فارقوا الأوطان والعشائر ( في سبيل الله( في طلب مرضاته ( ثم قاتلوا( في الجهاد قرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد من التفعيل للتكثير والمبالغة والباقون بالتخفيف ( أو ماتوا( حنف أنوفهم ( ليرزقهم الله( أي والله ليرزقنهم الله في الجنة ( رزقا حسنا( أي نعيمها التي لا تنقطع فلا مثل لها ( وإن الله لهو خير الرازقين( فإنه يرزق بغير حساب
( ليدخلنهم مدخلا يرضونه( أي الجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ما لا عين رأت ولا أن سمعت ولا خطر ببال البشر وإن الله لعليم بأحوالهم وأحوال معانديهم ( حليم( لا يعاجل في العقوبة
( ذلك( أي الأمر ذلك أو ذلك حق أو تحقق ذلك أو عرفت ذلك الذي قصصنا عليك ( ومن عاقب بمثل ما عوقب به( أي جازي الظالم بمثل ما ظلم به عليه أطلق لفظ العقاب الذي هو الجزاء على ابتداء الظلم للازدواج أو للمشاكلة ثم بغي عليه بالمعاودة على الظلم ( لينصرنه الله( لا محالة ( إن الله لعفو غفور( للمنتصر حيث أتبع هواه في الانتقام وأعرض عما نذب الله إليه بقوله :( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور( وفيه تعريض بالحث على المغفرة فإنه تعالى مع كمال قدرته وعلو شأنه لما كان يعفو ويغفر فغيره بذلك أولى وتنبيه على أنه قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على العقوبة قال البغوي قال الحسن قوله تعالى ( ومن عاقب بمثل ما عوقب به( معناه قاتل المشركين كما قاتلوه ثم بغى عليه أي ظلم بإخراجه من منزلة وقيل نزلت الآية في قوم المشركين أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فكره المسلمون قتالهم وسألوهم أن يكفوا من القتال من أجل الشهر الحرام فأبى المشركون وقاتلوهم فلذلك بغيهم عليهم وثبت المسلمون فنصروا عليهم، قلت فعلى هذا قوله وإن الله لعفو غفور لهم في قتالهم في الشهر الحرام وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نحوه
( ذلك( النصر ( بأن الله( قادر على كل شيء وقد جرى عادته على المداوة بين الإباء المتعاندة ومن ذلك أنه ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل( يعني يزيد في أحد الملوين ما ينقص من الآخر أو يحصل ظلمة الليل مكان ضوء الإنهاء بمغيب الشمس وعكس ذلك بطلوعها وإن الله سميع يسمع أقوال المعاقب والمعاقب أو سميع دعاء المؤمنين فيجيبهم ( بصير( يرى أفعالهما فلا يهملهما
( ذلك( الاتصاف بكمال العلم والقدرة والسمع والبصر ( بأن الله هو الحق( الثابت في نفسه الواجب لذاته وحده لأن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان أن يكون مبدأ لكل ما يوجد سواه عالم بذاته وبما عداه متصف بجميع صفات الكمال إذ من ثبت ألوهيته لا يمكن إلا أن يكون قادرا عالما سميعا بصيرا ( وأن ما يدعون( قرا نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر هنا وفي لقمان في الموضعين بالتاء الفوقانية خطابا للمشركين والباقون بالياء التحتانية أي ما يدعونه أي المشركون ( من دونه( إلها ( هو الباطل( أي المعدوم الممتنع وجوده في حد ذاته أو باطل الألوهية ( وأن الله هو العلي( المتعالي من أن يكون له شريك ( الكبير( العظيم الذي ليس كمثله شيء
( ألم تر( أي ألم تبصروا أو ألم تعلم والاستفهام للإنكار يعني تعلم وتبصر ( أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة( يعني أصبحت مخضرة بالنبات أورد لفظ المضارع للماضي لاستحضار صورة ما مضى وللدلالة على بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان والجملة دليل آخر على كمال علمه وقدرته ( إن الله لطيف( يصل علمه أو لطفه إلى كل ما دق وجل ( خبير( بالتدابير الظاهرة والباطنة وبأحوال عباده وما احتاجوا إليه من الأرزاق
( له ما في السموات وما في الأرض( خلقا وملكا ( إن الله لهو الغني( في ذاته عن كل شيء ( الحميد( المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله أو المحمود في ذاته وإن لم يوجد حامد غيره
( ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض( أي جعلها مدللة لكم معداة لمنافعكم ( والفلك( بالنصب عطف على ما أو على اسم أن ( تجري في البحر بأمره( حال منها أو استئناف وقيل : معناه سخر لكم ما في الأرض من الدواب لتركبوها في البر وسخر لكم الفلك لتركبوه في البحر ( ويمسك السماء أن تقع على الأرض( يعني من أن تقع على الأرض ومن هذا يظهر أن الأجسام الفلكية مثل الأجسام الأرضية في الميل إلى ما تحته وإنما أمسكها الله تعالى بقدرته، وقال البيضاوي امسكها بأن خلقها على صور متداعية إلى الاستمساك ( إلا بإذنه( استثناء من مضمون قوله ( ويمسك السماء أن تقع على الأرض( يعني لا تقع على الأرض في حال من الأحوال إلا متلبسا بإذنه أي بمشيئته قال البيضاوي وذلك يوم القيامة قلت : ولم نعلم وقوع السماء على الأرض يوم القيامة بل الانشقاق والانفطار وكونه كالمهل ووردة الدهان وطيه كطي السجل، فالأولى أن يقال الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا وذلك لا يقضي وجود المستثنى، فمعنى الآية لا يقع السماء على الأرض بغير إذنه ولا يقتضي ذلك الإذن بالوقوع في قوت من الأوقات ولا وقوعها والله أعلم ( إن الله بالناس لرءوف رحيم( حيث جعل لهم أسباب الاستدلال وفتح عليهم أبواب المنافع ودفع عنهم أنواع المصائب
( وهو الذي أحياكم( بنفخ الأرواح في أجسادكم بعد أن كنتم جمادا عناصر ونطفا وعلقا ومضغا وأجسادا لا روح فيها ( ثم يميتكم( عند انقضاء آجالكم بنزع الأرواح من أجسادكم ( ثم يحييكم( في الآخرة بإعادة الأجسام ونفخ الأرواح فيها ( إن الإنسان( المشرك لكفور لجحود للنعم بعد ظهورها لا يعرف نعمة الإنشاء المبدىء للوجود ولا الإقناء المقرب إلى الموعود ولا الإحياء الموصل إلى المقصود أو المعنى كفور بربه مع قيام البراهين القاطعة على وجوده ووحدته وصفاته الكاملة.
( ولكل أمة جعلنا( لم يذكر ها هنا بالواو للعطف كما ذكر فيما سبق لأن هناك وقعت الآية مع ما يناسبها من الآي الواردة في النسائك فعطفت على أخواتها وهذه وقعت مع التباعد عن معناها فلم يعطف ( منسكا هم ناسكوه( قال ابن عباس يعني شريعة عاملون بها وروى أنه قال عبدا، وقال مجاهد وقتادة قربان يذبحون فيه وقيل : موضع عبادة، وقبل مألفا يألفونه والمنسك في كلام العرب الموضع المعتاد لعمل خير أو شر ومنه مناسك الحج لتردد الناس إلى أماكن الحج، وفي القاموس النسك العبادة ( وأرنا مناسكا( متعبداتنا ونفس النسك وموضع يذبح فيه والنسيكة أي الذبيحة والنسك المكان المألوف والمنسك المقعد ( فلا ينزغنك( سائر أرباب الملل ( في الأمر( أي في أمر الدين أو النسائك لأنهم إما جهال أو أهل عناد ولو لم يعاند أهل العلم منهم فلا سبيل لهم إلى منازعتك لأن أمر دينك أظهر من أن يقبل النزاع قال البغوي نزلت في بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن خنيس قالوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما لكم تأكلون مما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون مما قتله الله، قال الزجاج معنى قوله : لا ينازعك لا تنازعهم أنت كما يقال لا يخاصمنك فلان أي لا تخاصمه وهذا جائز فيما يكون بين اثنين فلا يجوز لا ضربنك زيد تريد لا تضربه وجاز لا يضاربنك زيد بمعنى لا تضربه وذلك لأن المنازعة والمخاصمة لا تتم إلا باثنين فإذا ترك أحدهما ذهبت المخاصمة ( وادع( الناس ( إلى ربك( إلى توحيده وعبادته، قلت : بل إلى حد ذاته والوصول إليه بلا كيف ( إنك لعلى هدى مستقيم( طريق سوي إلى الحق ومدارج القرب
( وإن جادلوك( بعد ظهور الحق ولزومه الحجة ( فقل الله أعلم بما تعملون( من المجادلة الباطلة وغيرها فمجازيكم عليها الجملة الشرطية معطوفة على قوله :( الله يحكم بينكم يوم القيامة(
{ الله يحكم بينكم يوم القيامة(
أي يقضي بين المؤمنين منكم والكافرين فيظهر الحق من الباطل بإثابة المؤمنين وعقاب الكافرين يوم القيامة كمما فصل بينهم في الدنيا بالحجج والآيات ( فيما كنتم فيه تختلفون( من أمر الدين الاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر
( ألم تعلم( استفهام تقرير ( أن الله يعلم ما في السماء والأرض( لا يخفى عليه شيء ( إن ذلك( أي الإحاطة به أو إثباته في اللوح أو المحكم بينكم ( على الله يسير( لأن علمه مقتضى ذاته ونسبة المعلومات كلها على علمه سواء
( ويعبدون( عطف على مضمون ما سبق من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى وكمال قدرته يعني أتعلمون تلك الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة في التوحيد والألوهية وهو مع ذلك يعبدون ( من دون الله ما لم ينزل( الله ( به سلطانا( أي حجة تدل على جواز عبادته ( وما ليس لهم به علم( حصل لهم من ضرورة العقل أو استدلالته أو بالنقل الصحيح المفيد للعلم من المخبر الصادق الذي دل على صدقه برهان أو المتواتر المنتهي إلى إحدى الحواس الخمس ( وما للظالمين( أي المشركين الذين ارتكبوا مثل هذا الظلم ( من نصير( يمنهم من عذاب الله
( وإذا تتلى عليهم( الشرط مع الجزاء معطوف على يعبدون ( ءاياتنا( من القرآن ( بينات( واضحات إتيانا من الله تعالى أو واضحات الدلالة على العقائد الحقة والأحكام الإلهية ( تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر( أي الإنكار يعني يظهر في وجوههم آثار الإنكار من العبوس والغيظ وضع المظهر موضع الضمير للدلالة على أن الباعث على الإنكار إنما هو شدة كفرهم لا غير ذلكن أو المراد بالمنكر ما يقصدونه بالمؤمنين من الشر ( يكادون( حال من الذين كفروا ( يسطون( أي يبطشون أو يبسطون إليهم أيديهم بالسوء وأصله من سطا الفرس يسطوا إذا قام على رجليه رافعا يديه إما مرحا أي أشرا وإما نزوا على الأنثى، وفي القاموس سطا عليه وبه سطوا وسطوة صال أو قهر بالبطش ( بالذين يتلون عليهم ءاياتنا( يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ( قل( يا محمد ( أفأنبئكم بشر( لكم وأكره إليكم ( من ذالكم( أي من هذا القرآن أو من غيظكم على التالين ومن سطوكم عليهم أو مما أصابكم من الضجر بسبب ما تلوا عليكم ( النار( أي هو النار كأنه جواب سائل ما هو ويجوز أن يكون مبتدأ خبره ( وعدها الله( أي وعدها الله ( الذين كفروا( بأن مصيرهم إليها وعلى الأول هذه الجملة مستأنفة ( وبئس المصير( النار.
( يأيها الناس ضرب مثل( أي بين لكم حال مستغرب أو قصة عجيبة ( فاستمعوا له( أي للمثل استماع تدبر وتفكر، وقيل : معنى الآية جعل لي مثل يعني جعل الكفار لله سبحانه مثلا مماثلا في استحقاق العبادة وهي الأصنام فاستمعوا حالها ثم أحكموا هل يجوز به التمثيل له تعالى ثم بين ذلك فقال :( إن الذين تدعون( قرأ يعقوب بالياء التحتانية والضمير راجع إلى الكفار والباقون بالتاء على الخطاب للكفار والراجح إلى الموصول محذوف يعني إن الذين تدعونها أيها الكفار آلهة كائنة ( من دون الله( وهي الأصنام ( لن تخلفوا ذبابا( أي لايقدرون على خلق ذباب واحد مع صغره وقلته وخسئه، لأن لن بما فيها من تأكيد النفي دالة على منافاة ما بين المنفي والمنفي عنه والذباب مشتق من الذب لأنه يذب وجمعه أذبة للقلة وذبان للكثرة كغراب وأغربة وغربان ( ولو اجتمعوا( أي الأصنام ( له( أي لخلق الذباب وهو بجوابه المقدر في موضع الحال جيء بها للمبالغة أي لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متعاونين عليه فكيف إذا كانوا منفردين
قالوا حينئذ للحال وقيل للعطف على معطوف محذوف تقديره مستو حالهم في عدم القدرة على الخلق لو لم يجتمعوا لخلقه ولو اجتمعوا له أي لا يقدرون عليه في شيء من الأحوال ( وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه( كانوا يطلبون الأصنام بالغفران ويضعون بين يديها الطعام وكانت الذباب تقع عليه وتسلب منه فقال الله تعالى إن يسلب الذباب شيئا منهم لا يقدرون على استنفاده ولا يقوون على مقاومته فضلا من أن يخلقوه جهل الله سبحانه الكفار غاية التجهيل حيث أشركوا بالله القادر على الممكنات كلها المنفرد بإيجاد الموجودات بأسرها أعجز الأشياء الذي لا يقدر على خلق أقل الإحياء وأذلها ولو اجتمعوا له بل لا يقوى على مقاومة هذا الأقل الأذل، ويعجز عن دفعه عن نفسها واستنفاذا ما يتخطفه منها ( ضعف الطالب والطلوب( قال ابن عباس الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب عن الصنم والمطلوب الصنم يطلب الذباب منه السلب ولا شك أن الطالب ضعيف والمطلوب أضعف منه، وقيل : على العكس الطالب طالب الاستنفاذ تقديرا والمطلوب الذباب وقال الضحاك الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم
( ما قدروا الله حق قدره( أي ما عظموه حتى تعظيه وما عرفوه حق معرفته وما وصفوه حق توصيفه حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه ( إن الله لقوي( على خلق الممكنات بأسرها ( عزيز( لا يغلبه شيء وآلهتهم عجزة عن أقلها مقهورة من أذليها،
( الله يصطفي( أي يختار ( من الملائكة رسلا( يتوسطون بينه وبين الأنبياء بالوحي وبين الناس يقبض الأرواح وإيصال الأرزاق وغير ذلك، قال البغوي هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وغيرهم ( ومن الناس( أي ويختار من الناس رسلا يدعون سائرهم إلى الحق ويبلغونهم ما نزل عليهم من الله تعالى أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم قال البغوي نزلت حين قال المشركون ( أءنزل عليه الذكر من بيننا( فأخبر أن الاختيار إلى الله تعالى يختار من يشاء من خلقه، وقال البيضاوي لما قرر وحدانيته ونفي أن يشاركه غيره في الألوهية وصفاتها بين أن له عبادا مصطفين للرسالة يتوصل بإجابتهم والاقتداء بهم إلى عبادته سبحانه وهو أعلى المراتب ومنتهى الدرجات لمن عداه من الموجودات تقريرا للنبوة وتزييفا لقولهم ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى( والملائكة بنات الله ونحوه ذلك ( إن الله سميع بصير( مدرك للأشياء كلها
( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم( قال ابن عباس يعني ما قدموا وما خلفوا، وقال الحسن ما عملوا وما هم عاملون بعد، قيل الضمير راجع إلى الرسل أي يعلم ما بين أيديهم أي الرسل أي ما قبل خلقهم ( وما خلفهم( أي ما هو كان بعد فنائهم ( وإلى الله ترجع الأمور( أي إليه مرجع الأمور كلها لأنه مالكها بالذات لا يسأل عما يفعل من الاصطفاء وغيره وهم يسالون
( يأيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا( أي صلوا عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لأنهما ركنان لها لازمان لا تنفك عنهما بخلاف غيرهما من الأركان فإن القراءة تسقط عن الأخرس والقيام عمن لا يستطيعه وأما الركوع والسجود فلا يسقطان أبدا عند أبي حنيفة رحمه الله حيث قال من لم يقدر على الإيماء برأسه للركوع والسجود يتأخر عنه الصلاة ولا يتأدى بالإيماء بالحاجب أو القلب ( واعبدوا ربكم( بكل ما يصلح كونه عبادة له تعالى :( وافعلوا الخير( قال ابن عباس هو صلة الرحم ومكارم الأخلاق والظاهر أنهه يعم الأفعال كلها يعني اختاروا ما هو خير وأصلح فيما تأتون به وما تذرونه ( لعلكم تفلحون( الجملة في محل النصب على الحال أي افعلوا هذه كلها وأنتم راجون الفلاح غير متيقنين له ولا واثقين بأعمالكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " وأوحي إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل قل لأهل طاعتي من امتك لا تكلوا على أعمالهم فإني لا أناصب عبدا لحساب يوم القيامكة أشاء إن أعذبه إلا عذبته وقل لأهل معصيتي من أمتك لا يلقوا بأيديهم فإني أغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي " رواه أبو نعيم عن علي عليه السلام، واخرج البزار عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم :" يخرج لابن آدم ثلاثة دواوين ديوان فيه العمل الصالح وديوان فيه ذنوبه وديوان فيه النعم من الله تعالى، يقول الله لأصغر نعمه في ديوان النعم خذي منك من العمل الصالح فتستوعب العمل الصالح فيقول : وعزتك استوعبت ويبقى الذنوب وقد ذهب العمل الصالح كله، فإذا أراد الله أن يرحم عبدا قال يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك ووهبت لك نعمتي ".
مسألة : اختلف أهل العلم في سجود التلاوة عند هذه الآية ؟ فقال أبو حنيفة ومالك وسفيان الثوري وغيرهم أنه لا سجود ها هنا لأن المراد بالسجود ها هنا السجود الصلاتي بدليل كونه مقرونا بالركوع والمعهود في مثله من القرآن ما هو ركن الصلاة بالاستقراء نحو :( واسجدي واركعي مع الراكعين( وقال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم لا بد ها هنا أن يسجد للتلاوة لحديث عقبة بن عامر قال قلت يا رسول الله " أفضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين قال " نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما " رواه أحمد وأبو داود والترمذي ( واللفظ له ) والدارقطني والبيهقي والحاكم وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف قال الترمذي إسناده ليس بالقوي وقال ابن الجوزي قال ابن وهب ابن لهيعة صدوق يعني إنما ضعفه لأجل حفظه وقال الحاكم عبد الله بن لهيعة أحد الأئمة وإنما تم اختلاطه في آخر عمره وقد تفرد به وروى أبو داود في المراسيل عنه صلى الله عليه وسلم قال :" فضلت سورة الحج بسجدتين " قال : وقد أسند هذا ولا يصح وحديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة آية سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي الحج سجدتان رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني والحاكم وحسنه المنذري والنووي وضعفه عبد الحق وابن القطان وفيه عبد الله بن منين الكلالي وهو مجهول والراوي عنه الحارث بن سعيد الثقفي المصري وهو لا يعرف أيضا، وقال ابن ماكولا ليس له غيره هذا الحديث وأكد الحاكم حديث عقبه بن عامر بأن الرواية صحت فيه من قول عمر ابنه وبن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى وعمار ثم ساقها موقوفة عليهم وأكده البيهقي بما رواه في المعرفة من طريق خالد بن معدان مرسلا وقال البغوي وهو قول عمرو علي وابن مسعود وابن عمر قلت : الموقوف في الباب له حكم المرفوع وقد ذكرنا مسائل سجود التلاوة في سورة الانشقاق
﴿ و جاهدوا ﴾ الجهد بالضم الوسع و الطاقة و بالفتح المشقة وقيل : المبالغة والغاية، وقيل : هما لغتان في الوسع والطاقة وأما في المشقة والغاية فالفتح لا غير الجهاد والمجاهدة مفاعلة منه، لما كان بناؤه للاشتراك بين اثنين استعمل في المحاربة مع الأعداء فإن فيه تحمل المشقة من الجانبين واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل والمبالغة فيه إلى غاية ( في الله( أي في سبيله وإعلان دينه وقضاء أحكامه وقيل معناه لله ( حق جهاده( منصوب على المصدرية ومعناه جهادا فيه حقا خالصا، أي حق ذلك الجهاد حقا وخلص خلوصا لوجهه الكريم، فعكس وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة كقولك هو حق عالم وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا أو لأنه مختص بالله من حيث إنه مفعول لوجه الله، ومن أجله قال ابن عباس هو استفراغ الطاقة فيه وأن لا يخافوا في الله لومة لائم فهو حق الجهاد، وقال الضحاك ومقاتل اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته وقال أكثر المفسرين حق الجهاد أن يكون نيته خالصة لله عز وجل وقال السدي أن يطاع فلا يعصى وقال عبد الله بن المبارك هو مجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر وهو حق الجهاد قال البغوي وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك قال رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قال البغوي أراد بالجهاد الأصغر لجهاد مع الكفار وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس وأخرج البيهقي في الزهد عن جابر رضي الله عنه، قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة فقال قد متم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الكبر قيل : وما الجهاد الأكبر ؟ قال : مجاهد العبد لهواه " قال البيهقي هذا إسناد فيه ضعف.
قلت : ليس المراد بالجهاد في هذه الآية المحاربة مع الكفار خاصة لأنه يأبى عنه سياق الآية لأن في نسق الآية ارتقاء من الأخص إلى الأعم في كل عطف حيث ذكر الصلاة أولا بقوله :( اركعوا واسجدوا( لكونها أهم العبادات ثم عطف عليه ( واعبدوا ربكم( وهو يشتمل العبادات كلها الصلاة وغيرها ثم قال :( وافعلوا الخير( وهو يشتمل أداء حقوق الله تعالى كلها من العبادات والعقوبات وغيرها ومحاربة الكفار وأداء حقوق الناس ومكارم الأخلاق وغير ذلك، وإتيان السنن والمستحبات كله ثم قال :( وجاهدوا في الله حق جهاده( فلا وجه لحمله على محاربة الكفار خاصة بل المراد منه الإخلاص في الأقوال والأعمال والأحوال كلها ويحصل ذلك بالجهاد مع النفس ومخالفة الهوى، فإن الإخلاص إنما يحصل بصفاء القلب وفناء النفس وهما بالجهاد مع النفس الأمارة بالسوء ومخالفة الهوى مع اقتباس أنوار النبوة وذلك في اصطلاح القوم يعبر بالسلوك والجذب وذلك الإخلاص هو المعنى من أقوال أوائل المفسرين المذكورة فإن الصوفي إذا صار من المخلصين بعد فناة النفس وصفاء القلب لا يخاف في الله لومة لائم ويبعد الله حق عبادته بلا رياء وسمعة بنية خالصة لله عز وجل ويطيع الله ولا يعصيه ولا شك أن ذلك هو الجهاد الأكبر، وأما الجهاد الأصغر يعني المحاربة مع الكفار فهو صورة الجهاد ولا يعتد به ولا بشيء من العبادات ما لم يكن خالصا لوجه الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " متفق عليه، من حديث عمر بن الخطاب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري فأنا منه بريء هو للذي عمله " رواه مسلم فائدة : قوله صلى الله عليه وسلم " قد متم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " يفيد أن الجهاد الأكبر يعين المجاهدة مع النفس إنما يتأتى للمريد بمصاحبة الشيخ الكامل المكمل، فإنهم لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد المحاربة مع الكفار اكتسبوا ببركة صحبته وانعكاس أشعة أمواره صفاء في القلب وفناء في النفس وقوله رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر الضمير المتكلم مع الغير والمراد منه إسناد الرجوع إلى من معه من الصحابة فإنهم كانوا في حالة الجهاد مشغولين بمحاربة الكفار وإن كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مصاحبته لكن كان غالب هممهم مدافعة الكفار ثم إذا صاروا في المدينة مقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حينئذ همهم إلا الاقتباس لأنواره والاقتفاء بمعالم آثاره وأخذ العلوم الظاهرة والباطنة من جنابه صلى الله عليه وسلم ( هو اجتباكم( أي اختاركم من بين الخلائق لمصاحبة نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم " إن الله اختارني واختار لي أصحابا واختار لي منهم أصهارا وأنصار " وعن وائلة بن أشقع قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم " رواه مسلم وفي رواية للترمذي " إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة ( وما جعل عليكم في الدين من حرج( أي ضيق وتكليف يشتد القيام به عليكم قيل معناه أن المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له مخرجا بعضها بالتوبة وبعضها برد المظالم والقصاص وبعضها بأنواع الكفارات فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلا إلى الخلاص من العقاب وكان فيما سبق من الأمم من الذنوب ما لا ثوبة لها، وقيل معناه ليس عليكم من ضيق في أوقات فرضوكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس عليكم وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا وقال مقاتل يعني الرخص عند الضرورات كقصر الصلاة في السفر والتيمم والإفطار في السفر والمرض وأكل الميتة عند الضرورة والصلاة قاعدا أو مستلقيا عند العجز وهو قول الكلبي وذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " وروي عن ابن عباس أنه قال : الحرج ما كان على بني إسرائيل من الآصار التي كانت عليهم وضعها الله عز وجل عن هذه الأمة، قلت : ويمكن أن يقال معنى قوله تعالى : ما جعل الله عليكم في الدين من حرج أنه تعالى رفع عنكم كلفة التكاليف الشرعية أرغب إليكم من المرغوبات الطبعية وذلك من لوازم الاجتباء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " جعلت قرة عيني في الصلاة " رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي عن أنس ( ملة أبيكم( منصوب على الإغراء أي عليكم ملة أبيكم أو على الاختصاص أي أعني بالدين ملة أبيكم أو على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبلها بحذف المضاف أي وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ( إبرهيم( عطف بيان والظاهر أنه خطاب للمؤمنين من قريش إذا السورة مكية ثم الناس تبع لهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم " متفق عليه من حديث أبي هريرة وفي رواية لمسلم عن جابر أنه قال صلى الله عليه وسلم قال :" الناس تبع لقريش في الخير والشر " وقيل : خطاب للعرب وكانوا من نسل إبراهيم وقيل خطاب لجميع المسلمين وإبراهيم كان أبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كالأب لأمته فإنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة ولأجل ذلك قال الله تعالى ( وأزواجه أمهاتهم( وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم فإذا أتى أحدكم الغائظ فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطيب بيمينه " رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن أبي هريرة ولما كان ملة إبراهيم ودينه مرغوبا لأهل مكة مؤمنهم وكافرهم وكانت الكافرون منهم يزعمون أنهم على دين إبراهيم عليه السلام لا غير ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين ءامنوا( ( هو( يعني الله سبحانه ( سماكم المسلمين من قبل( نزول القرآن في الكتب المتقدمة ( وفي هذا( القرآن سماكم مسلمين وقال ابن زيد هو يعني إبراهيم سماكم المسلمين من قبل هذا الوقت في أيامه حيث قال ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك( يعني أهل مكة، وتسميتهم مسلمين في القرآن وإن لم يكن من إبراهيم لكن كان بسبب تسميته من قبل : وقيل : تقدير الكلام وفي هذا القرآن بيان تسميته إياكم مسلمين هذه الجملة بيان لقوله تعالى :( هو اجتباكم( فإن الهداية إلى الإسلام الحقيقي والتسمية بالمسلمين مبني على الاجتباء ( ليكون الرسول( متعلق بمضمون ( هو سماكم المسلمين( أي أعطاكم الإسلام وجعلكم مسلمين ( ليكون الرسول( ( شهيدا عليكم( القيامة أن قد بلغكم، قلت : وجاز أن يكون متعلقا بقوله ( اركعوا واسجدوا( مع ما عطف عليه ( وتكونوا( أنتم ( شهداء على الناس( أن رسلهم قد بلغتهم أخرج ابن جرير وابن المنذر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنا وأمتى يوم القيامة على كئوم مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد إلا ود أنه منا وما من نبي إلا كذبه قومه ونحن نشهد انه قد بلغ رسالة ربه " واخرج ابن المبارك في الزهد أنبأنا رشد بن سعد حدثني ابن العم عن أبي حبلة بسنده قال : أول من يدعي يوم القيامة إسرافيل عهدي ؟ فيقول : نعم قد بلغته جبرائيل فيدعى جبرائيل فيقال : هل بلغك إسرافيل عهدي ؟ فيقول : نعم فيخلى إسرافيل فيقول لجبرائيل ما صنعت في عهدي فيقولون نعم فيقال لهم ما صنعتم في عهدي فيقولون بلغنا الأمم فيدعى الأمم فيقال لهم هل بلغكم الرسل ؟ فمكذب ومصدق فيقول الرسل لنا عليهم شهداء فيقول من ؟ فيقولون أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيدعى أمة محمد فيقال لهم أتشهدون أن الرسل قد بلغت الأمم ؟ فيقولون : نعم، فيقول الأمم يا ربنا كيف يشهد علينا من لم يدركنا ؟ فيقول الله تعالى كيف تشهدون عليهم ولم تدركون ؟ فيقولون : يا ربنا أرسلت إلينا رسولا وأنزلت علينا كتابا وقصصت علينا فيه أن قد بلغوا فذلك قوله :( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا( وقد ذكرنا ما رواه البخاري وغيره عن أبي سعيد الخذري في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :( وكذلك جعلناكم امة وسطا(.
( فأقيموا الصلاة( داوموا عليها ( وءاتوا الزكاة( يعني فتقربوا إلى الله بأنواع الطاعات لما خصكم بهذا الفضل والشرف ( واعتصموا بالله( يعني ثقوا به في جميع أموركم ولا تستعينوا في شيء إلا منه، وقال الحسن : معناه تمسكوا بدين الله وروي عن ابن عباس سلوا ربكم يعصمكم من كل ما يكره وقيل : معناه أدعوه ليثيبكم على دينه وقيل الاعتصام بالله هو التمسك بالكتاب والسنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله " رواه مالك في الموطأ مرسلا، وعن عصيف بن الحارث اليماني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنن فتمسك سنة خير من إحداث بدعة " رواه أحمد ( هو مولاكم( ناصركم وحافظكم ومتولي أموركم هذه الجملة في مقام التعليل للاعتصام ( فنعم المولى ونعم النصير( الفاء للسببية يعني إذا ثبت أن الله مولاكم ونصيركم فنعم المولى مولاكم ونعم النصير نصيركم إذ لا مثل له في الولاية والنصر بل لا مولى ولا نصير سواه في الحقيقة والله أعلم، تم تفسير سورة الحج من تفسير ال