تفسير سورة الحج

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الحج من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

شركهم إقفار قلوبهم من تقدير الله حق قدره، علما بأن الله يرسل رسلا من الملائكة ومن البشر لتبليغ الرسالة الإلهية على أتم وجه.
ثم عاد الكلام إلى بيان أحكام التشريع من أمر المؤمنين بفرائض جوهرية ثلاث: هي إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والجهاد في سبيل الله حق الجهاد، وأردف ذلك بالتذكير بسماحة الإسلام، وأن الدين يسر لا عسر، ثم أمرهم بالاعتصام بدين الله والقرآن والإسلام، وبيان أن الرسول شهيد على أمته يوم القيامة، وأن أمته تشهد على الأمم المتقدمة بتبليغ أنبيائهم لهم دعوة الله وتشريعه، وتلك مزية سامية لهذه الأمة.
فضلها:
قال العزيزي: وهي من أعاجيب السور، نزلت ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، محكما ومتشابها.
الأمر بتقوى الله تعالى
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤)
150
الإعراب:
يَوْمَ تَرَوْنَها
يَوْمَ
منصوب بتذهل. عَمَّا أَرْضَعَتْ
ما: موصولة أو مصدرية.
أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ في موضع رفع على أنه نائب فاعل، وهاء أَنَّهُ ضمير الشأن.
والحديث. ومَنْ: إما بمعنى الذي، وتَوَلَّاهُ: صلته، وهو وصلته مبتدأ، وقوله:
فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ خبره، ودخلت الفاء لأن الموصول يتضمن معنى الشرط والجزاء. ومن وصلته وخبره: خبر «أن» الأولى. وإما أن تكون مَنْ شرطية، وتَوَلَّاهُ: مجزوم بها، وجواب الشرط: فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ. ومن الشرطية وجوابها خبر «أن» الأولى. وأما فتح «أن» الثانية فهو على أن يكون خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فشأنه أنه يضله، أي فشأنه الإضلال.
البلاغة:
وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
تشبيه بليغ، حذف فيه أداة التشبيه والشبه، أي كالسكارى من شدة الهول.
شَيْطانٍ مَرِيدٍ استعارة، استعار لفظ الشيطان لكل طاغية عات متمرد على الله.
يُضِلُّهُ ويَهْدِيهِ بينهما طباق.
وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أسلوب تهكم.
المفردات اللغوية:
يا أَيُّهَا النَّاسُ أي يا أهل مكة وغيركم. اتَّقُوا رَبَّكُمْ احذروا عقابه، بأن تطيعوه.
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ تحريكها للأشياء، على الإسناد المجازي، والزلزلة: الحركة الشديدة للأرض، وقيل: تكون هذه الزلزلة حقيقة، ثم يكون بعدها طلوع الشمس من مغربها، وإضافتها إلى الساعة لأنها من أشراطها. شَيْءٌ عَظِيمٌ هائل، مزعج للناس، وهو نوع من العقاب. وقد علل أمر الناس بالتقوى بفظاعة الساعة، ليتصوروها بعقولهم، ويعلموا أن الأمان منها بالتدرع بلباس التقوى.
يَوْمَ تَرَوْنَها
الضمير للزلزلة. تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
أي تذهل كل مرضعة (وهي الأنثى حال الإرضاع) عن رضيعها وتنساه، أي تذهلها الزلزلة، والذهول: الذهاب عن الأمر بدهشة بسبب ما يطرأ من هم أو وجع أو غيره، والمقصود تصوير هولها والدلالة على ترك التعلق بأحب الأشياء. حَمْلَها
جنينها. سُكارى
كأنهم سكارى من شدة الخوف. وَما هُمْ بِسُكارى
على الحقيقة. وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
أي يرهقهم هوله ويذهب عقولهم وتمييزهم، فهم يخافونه.
151
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فيقولون: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، وينكرون البعث وإحياء من صار ترابا. وَيَتَّبِعُ في جداله وعامة أحواله. كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ متمرد عات، متجرد للفساد.
كُتِبَ عَلَيْهِ قضي على الشيطان. أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ اتبعه. فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ أي كتب عليه إضلال من يتولاه لأنه جبل عليه. وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي يدعوه إلى النار، ويحمله على ما يؤدي إليه.
نزول الآيتين (١- ٢) :
روي أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق، فقرأهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الناس، فلم ير باكيا أكثر من تلك الليلة، وأصبح الناس بين باك وجالس حزين متفكر.
نزول الآية (٣) :
وَمِنَ النَّاسِ: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ قال: نزلت في النضر بن الحارث.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى عباده بتقواه، ويخبرهم عما يستقبلون من أهوال القيامة وزلازلها وأحوال الآخرة، فيقول:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ أي يا أيها البشر قاطبة، احذروا عقاب ربكم، بطاعته وعدم عصيانه، فإن زلزلة القيامة أو حركتها الشديدة حين قيامها قبل قيام الناس من قبورهم شيء عظيم الهول، خطير الوقع. وذلك بدليل قوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة ٩٩/ ٢- ١] وقوله: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ، فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الحاقة: ٦٩/ ١٤- ١٥]
152
وقوله: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا، وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة ٥٦/ ٤- ٦].
وأوصاف ذلك اليوم هي:
١- يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
يوم تذهل الزلزلة كل مرضعة عن وليدها الرضيع. والذهول: الغفلة عن الشيء مع دهشة، والمرضعة:
التي هي في حال الإرضاع، ملقمة ثديها الصبي. والمرضع: المستعدة للإرضاع أو التي من شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع، في حال وصفها به، وقوله:
عَمَّا أَرْضَعَتْ
أي إرضاعها أو عن الطفل الذي ترضعه.
٢- وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
أي وتسقط الحامل جنينها من بطنها من شدة الهول والخوف والفزع.
قال الحسن البصري: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام.
٣- وَتَرَى النَّاسَ سُكارى..
أي وترى الناس كالسكارى من الخوف، وهم في الحقيقة والواقع غير سكارى من الشراب، ولكن شدة العذاب أفقدتهم عقولهم وتمييزهم.
ومع هذا التحذير الشديد ينكر بعض الناس البعث ويجادل في المغيبات بغير علم، فيقول تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي وبعض الناس من يجادل في صفات الله وأفعاله، وقدرته على البعث وغيره بغير علم صحيح، ولا عقل رشيد، ويتبع في جداله بالباطل خطوات كل شيطان متمرد عات، فهو لا يجادل بالحق، وإنما يجادل بالباطل.
153
قيل كما بينا: نزلت في النضر بن الحارث، وكان جدلا، يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء من بلي وصار ترابا.
والآية كما قال في الكشاف عامة في كل من تعاطى الجدال، فيما لا يجوز على الله، وما لا يجوز من الصفات والأفعال، ولا يرجع إلى علم، ولا يتّبع حجة ولا برهانا صحيحا، فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحق والباطل. والآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة، وهي المجادلة مع العلم، المرادة بقوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل ١٦/ ١٢٥]. أما المجادلة الباطلة فهي المراد من قوله تعالى: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [الزخرف ٤٣/ ٥٨].
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ.. أي قضي على من اتبع الشيطان، وجعله وليا ناصرا له أن يوقعه في الضلال، وأن ولايته له لم تثمر إلا الإضلال عن طريق الجنة، والهداية إلى النار، وإيصاله إلى جهنم. والمقصود أن اتباع الشيطان يؤدي إلى الضلال في الدنيا، وإلى عذاب النار في الآخرة، وكأنه تعالى قال: قضي على من يتبع الشيطان أن الشيطان يضله عن الجنة، ويهديه إلى النار، وهذا وعيد لمتبع الشيطان.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- وجوب التحلي بالتقوى وهي التزام الأوامر الإلهية، واجتناب النواهي، لاتقاء أهوال يوم القيامة ذات الخطر الشديد.
٢- إن وقع الساعة وتأثير القيامة على النفس شديد الأثر، حتى لتكون زلزلتها مذهلة (شاغلة) الأم الحنون عن طفلها الرضيع، ومسقطة الجنين من
154
بطن أمه، وجاعلة الناس كأنهم سكارى من شدة الخوف، وما هم في الحقيقة سكارى من الشراب.
٣- إن المشرك بالله هو الذي يجادل بالباطل وبغير علم صحيح في صفات الله وأفعاله، وقدرته على البعث، والإحياء بعد الإماتة، وهو في جداله يتبع كل شيطان متمرد، ومن يتبع الشياطين ويتولاهم فإنهم يوقعونه في الحيرة والضلال في النار، ويأخذون بيده إلى عذاب جهنم في الآخرة. وهذا يدل على تحريم المجادلة الباطلة القائمة على الجهل، وعلى الزجر من الله تعالى على اتباع خطوات الشيطان.
أما المجادلة بالحق وهي القائمة على العلم، فهي جائزة غير ممنوعة.
الاستدلال بخلق الإنسان والنبات على البعث
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥ الى ٧]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)
155
الإعراب:
بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً شَيْئاً: منصوب بالمصدر قبله، على قول البصريين لأنه الأقرب، وب يَعْلَمَ على قول الكوفيين لأنه الأول.
ذلِكَ بِأَنَّ.. ذا: إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الأمر كذلك، وإما منصوب على تقدير فعل، تقديره: فعل الله ذلك بأنه الحق. وقال البيضاوي: وهو مبتدأ، وخبره: بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.
البلاغة:
مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ بينهما طباق السلب.
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ استعارة تبعية، شبه الأرض بنائم، ثم يتحرك بنزول المطر عليه.
المفردات اللغوية:
يا أَيُّهَا النَّاسُ أي يا أهل مكة وأمثالكم. رَيْبٍ شك. مِنَ الْبَعْثِ من إمكانه وكونه مقدورا. فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ أي فانظروا في بدء خلقكم وأصلكم آدم، فإنه يزيح ريبكم.
مِنْ تُرابٍ أي خلق آدم منه، وخلق الأغذية التي يتكون منها المني. نُطْفَةٍ مني: وهو ما يخرج عند اللذة من صلب الرجل، سمي نطفة لقلته، مأخوذ من النّطف: أي الصب أو القطر.
عَلَقَةٍ قطعة من دم جامد. مُضْغَةٍ قطعة من اللحم، قدر ما يمضغ. مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ مصوّرة معالم الخلقة أو غير مصوّرة، أو مسوّاة لا نقص فيها ولا عيب، أي تامة الخلق، وغير مسوّاة. لِنُبَيِّنَ لَكُمْ بهذا التدرج في الخلقة كمال قدرتنا وحكمتنا، لتستدلوا بها في ابتداء الخلق على إعادته. وَنُقِرُّ أي نبقي، وهو كلام مستأنف. ما نَشاءُ أن نقرّه. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو وقت الوضع، وأدناه بعد ستة أشهر، وغالبة تسعة أشهر، وأقصاه في رأي أهل الخبرة سنة. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا عطفا على لِنُبَيِّنَ، أي نخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا.
وطِفْلًا: حال أجريت على تأويل كل واحد، أو الدلالة على اسم الجنس فيكون للواحد والجمع. ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي ثم نعمركم لتبلغوا الكمال في القوة والعقل وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين سنة، والأشد: كمال القوة والعقل والتمييز، وهو جمع شدة، كالأنعام جمع نعمة، وقال الزمخشري: هو من ألفاظ المجموع التي لم يستعمل لها واحد، كالأسدة والقتود والأباطيل وغير ذلك.
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى يموت قبل بلوغ الأشد. أَرْذَلِ الْعُمُرِ أدناه وأردؤه من الهرم والخرف. لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولة من سخافة العقل وقلة الفهم، فينسى ما علمه، وينكر من عرفه. قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة.
156
والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أطواره من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة، فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره.
هامِدَةً يابسة ميتة لا نبات فيها. اهْتَزَّتْ تحركت بالنبات. وَرَبَتْ ارتفعت وزادت وانتفخت بالماء والنبات. وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي أنبتت من كل صنف حسن رائق. ومِنَ: زائدة ذلِكَ أي المذكور من بدء خلق الإنسان إلى آخر إحياء الأرض.
بِأَنَّ اللَّهَ بسبب أن الله. هُوَ الْحَقُّ الثابت في نفسه، الدائم الذي يحق ثبوته، أي لأن الله هو الحق. وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى أي أنه يقدر على إحيائها، وإلا لما أحيى النطفة والأرض الميتة وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن قدرته لذاته، فمن قدر على إحياء بعض الأموات لزم اقتداره على إحياء كلها. لا رَيْبَ فِيها لا شك. وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى عن المشركين الجدل بغير علم في قضية البعث والحشر والنشر، وذمّهم على ذلك، أورد تعالى الأدلة على إثبات البعث بخلق الإنسان، وخلق النبات، فقال هنا عن الأول: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ الآية، وقال في آيات أخرى: قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس ٣٦/ ٧٩].
فَسَيَقُولُونَ: مَنْ يُعِيدُنا، قُلِ: الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء ١٧/ ٥١] وقال عن الثاني: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً...
التفسير والبيان:
بعد أن ذكر الله تعالى موقف المنكر للبعث، ذكر الدليل على قدرته على المعاد بما يشاهد من بدئه الخلق، فقال:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ أي يا أيها البشر المنكرون للبعث، إن كنتم في شك من إمكان البعث ومجيئه، يوم القيامة، فانظروا إلى بدء خلقكم، فمن قدر على البدء قدر على الإعادة بدليل المراحل والأدوار السبعة التي يمر بها الإنسان وهي:
157
١- فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلقنا أصلكم آدم من التراب، وخلقنا الأغذية التي يتكون منها المني من النبات المتولد من الماء والتراب.
٢- ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي ثم صار التوالد المعتاد بواسطة المني المتولد من الغذاء الناشئ من التراب.
٣- ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي ثم تتحول بإذن الله النطفة بعد أربعين يوما إلى قطعة دم مكثف أو جامد، أو علقة حمراء.
٤- ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ثم تصبح العلقة قطعة لحم، وتلك القطعة إما أن تتم منها أحوال الخلق، فتصير تامة الصورة والحواس والتخطيط لمعالم الجسد، وإما ألا تتم، وتسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط أو بعده، أو تبقى ناقصة الصور والحواس والتخطيطات وتتم ولادتها، قال الرازي:
فيجب أن تحمل مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ على من سيصير إنسانا لأنه تعالى قال في أول الآية: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ وذلك يبعد حمل قوله: غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ على السقط.
والخلاصة: أن المخلقة هي القطعة المسوّاة التي لا نقص فيها ولا عيب أي التامة الخلقة، وغير المخلقة: هي القطعة غير المسوّاة التي فيها عيب.
لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أي خلقناكم على هذا النحو من التدرج لنبين لكم كمال قدرتنا وحكمتنا، لتستدلوا بها على إمكان البعث، فإن من قدر على خلق البشر من تراب أولا، ثم من نطفة ثانيا- ولا تناسب بين الماء والتراب- وقدر على أن يجعل النطفة علقة- وبينهما تباين ظاهر- ثم يجعل العلقة مضغة، والمضغة عظاما، قدر على إعادة ما بدأه، بل هذا أهون، كما قال الزمخشري رحمه الله تعالى.
158
٥- ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أي ثم نخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا ضعافا في البدن والعقل والحواس، ثم ينمو كل طفل ويعطيه الله القوة شيئا فشيئا.
٦- ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثم تتكامل قواكم البدنية والعقلية، حتى تصلوا إلى حد الكمال في عنفوان الشباب.
٧- وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ... أي ومنكم من يموت قبل بلوغ الأشد أو في حال الشباب والقوة، ومنكم من يعيش حتى يصل إلى سن الشيخوخة والهرم، وضعف القوة والعقل والفهم، والخرف، حتى يعود إلى ما كان عليه حال الطفولة، ضعيفا، سخيف العقل، قليل الفهم، ينسى ما كان يعلمه، كما قال تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس ٣٦/ ٦٨].
والخلاصة: أن تدرج الخلق في مراحله المذكورة، وطروء الموت وعوارض الأحوال على الإنسان دليل قاطع على وجود الخالق القادر المهيمن، الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه في القياس والعقل، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً، يَخْلُقُ ما يَشاءُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم ٣٠/ ٥٤].
ثم ذكر الله تعالى الدليل الثاني على إمكان البعث بخلق النبات المشابه لخلق الإنسان فقال:
وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً... أي وإذا تأملت أيها الإنسان ترى الأرض «١» ميتة يابسة لا نبات فيها ولا زرع، فإذا أنزلنا عليها ماء المطر أو غيره، تحركت بالنبات وحييت بعد موتها، وازدادت وارتفعت وانتفخت بالماء والنبات، ثم
(١) خاطب تعالى الناس أولا بصيغة الجمع، فقال: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ ثم خاطب بصيغة الواحد، للتنويع فقال: وَتَرَى الْأَرْضَ فانفصل اللفظ عن اللفظ، ولكن المعنى متصل، للاحتجاج به على منكري البعث.
159
أنبتت من كل صنف من النبات والزرع، ذي منظر حسن وبهاء ورونق وطيب ريح، لاختلاف ألوان الثمار والزروع، وطعومها، وروائحها، وأشكالها، ومنافعها، فمن قدر على إحياء الأرض الميتة الهامدة التي لا ينبت فيها شيء، قادر على إحياء الموتى. ونتائج ما ذكر هي الأمور الخمسة التالية:
١- ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي ذلك المذكور الذي بينته لكم من خلق الإنسان والحيوان والنبات، وانتقال كل مخلوق من حال إلى حال، بسبب أن الله هو الحق الموجود الثابت الذي لا شك فيه، ولا يحول ولا يزول، الخالق المدبر الفعال لما يشاء. وأما ما عداه من جميع المخلوقات فضعيف عاجز لا يقدر على فعل شيء مما ذكر. وهذا دال على وجود الصانع المتفرد بالخلق.
٢- وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى أي وبأنه الإله القادر على إحياء الموتى، كما أحيى الإنسان والحيوان والنبات، فأنبت من الأرض الميتة ما فيه الحياة، وهذا تنبيه على أن من لم يعجزه إيجاد هذه الأشياء، فكيف يعجزه إعادة الأموات؟! إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت ٤١/ ٣٩].
٣- وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي وبأنه تعالى القادر على كل شيء، فمن كان قادرا على ما ذكر وعلى جميع الممكنات، فهو قادر على إعادة الأجساد بعد الفناء، وعالم بكل المعلومات: قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس ٣٦/ ٧٩].
٤- وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أي ولتعلموا أن من قدر على إحياء الموتى أو إعادتهم أحياء قادر على الإتيان بيوم القيامة، فالساعة كائنة لا شك فيها ولا مرية، كما وعدكم بها. فقوله: وَأَنَّ السَّاعَةَ معطوف على قوله:
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ من حيث اللفظ، وليس عطفا في المعنى، فلا بد من إضمار فعل يتضمنه، أي وليعلموا أن الساعة آتية.
160
٥- وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ أي ولتتيقنوا أن الله سيبعث أهل القبور، أي يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمما، ويوجدهم مرة أخرى أحياء، ليوم المحشر والحساب، والثواب والعقاب.
والخلاصة: أن بيان مراتب خلق الإنسان والحيوان، والنبات، دليل على أنه سبحانه قادر على كل الممكنات، وعالم بكل المعلومات، مما يثبت كون الإعادة ممكنة، وأن المعاد مقدور عليه.
فقه الحياة أو الأحكام:
الغاية من التنزيل القراني إثبات ثلاثة أمور أساسية في العقيدة، وهي توحيد الله، واتصافه بصفات الكمال، وتنزيهه عن كل نقص، وإثبات البعث والحياة الأخروية، وما فيها من ثواب وعقاب، وإثبات الوحي والنبوة ورسالات الأنبياء بالمعجزة الخارقة للعادة، لذا تكرر في القرآن التركيز على هذه الأصول، وجاءت الآيات هنا للاستدلال على الأمر الثاني.
١- استدل الله سبحانه وتعالى على إمكان حدوث البعث والقيامة وإحياء الموتى بإحياء الإنسان والحيوان والنبات بعد الموت والعدم، فمن خلق أصل الإنسان من تراب، ثم من ماء منشؤه الغذاء الناتج من التراب، ثم رعاه حتى خلقه في أحسن تقويم، ثم أعاده إلى الضعف، قادر على إعادة خلقه وإيجاده وتكوينه كما قال: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس ٣٦/ ٨٢].
ولقد أوضحت السنة أطوار الخلق،
جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه
161
وأجله وعمله وشقي أو سعيد»
وفي رواية: «يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم أربعين يوما علقة، ثم أربعين يوما مضغة، ثم يبعث الملك، فينفخ فيه الروح»
أي إن أطوار الجنين الأولى أربعة أشهر، قال ابن عباس: وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح، فذلك عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر.
ويلاحظ أن الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية، وأن النفخ سبب يخلق الله به الروح والحياة، وأن الخلق بقدرة الله واختراعه لقوله تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الأعراف ٧/ ١١]. وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر ٤٠/ ٦٤] وللآية هنا: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ... وتكون الحياة في المادة المنوية عند التقائها ببويضة المرأة حياة نباتية خلوية.
ولم يختلف العلماء أن نفخ الروح الحركية في الجنين يكون بعد مائة وعشرين يوما، أي بعد تمام أربعة أشهر، ودخول الشهر الخامس.
لذا ليست النطفة بشيء يقينا، كما قال القرطبي، ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة إذا لم تجتمع في الرحم، كما لو كانت في صلب الرجل، فإذا طرحته علقة، فقد تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال وجود الولد، فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل، تبرأ به الرحم، وتنقضي به العدّة، ويثبت به لها حكم أم الولد. وهذا مذهب مالك وأصحابه.
وقال الشافعي: لا اعتبار بإسقاط العلقة، وإنما الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط، أي بإلقاء المضغة المخلقة دون الأربعة أشهر «١». قال ابن زيد:
المخلّقة: التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين.
(١) تفسير القرطبي: ١٢/ ٨
162
وقال مالك رضي الله عنه: ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة أو ما يعلم أنه ولد إذا ضرب بطنها ففيه الغرّة «١». وقال الشافعي رضي الله عنه: لا شيء فيه حتى يتبين من خلقه شيء. وقال مالك: إذا سقط الجنين فلم يستهلّ صارخا ففيه الغرّة. فإذا استهل صارخا فقال هو والشافعي فيه الدية كاملة.
وذكر القاضي إسماعيل أن عدة المرأة تنقضي بالسقط الموضوع لأنه حمل، والله تعالى يقول: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق ٦٥/ ٤]. وقال ابن العربي: ولا يرتبط به شيء من الأحكام، إلا أن يكون مخلّقا لقوله تعالى: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ «٢».
٢- إن في مراحل خلق الإنسان المذكورة لدليلا واضحا وبيانا قاطعا يدل على كمال قدرة الله تعالى.
وفي رعاية الله للإنسان بولادته طفلا، ثم اكتمال جسده وعقله وقوته في سن الشباب نعمة تستحق الشكر والتقدير وعرفان حق الخالق.
ثم في الرد إلى الشيخوخة والهرم دون خرف أو مع الخرف عبرة وعظة تدل على إطلاق تصرف الله في خلقه،
وكان النبي صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه النسائي عن سعد- يدعو فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أردّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر».
٣- وهناك دليل أقوى على البعث وهو خلق النبات من الأرض الميتة إذا أنزل الله عليها الماء، فتخرج منه الزروع والثمار ذات المنظر أو اللون الحسن، وذات الرائحة العبقة، والطعم الشهي.
(١) الغرة: دية الجنين، وهي ما بلغ عوضه نصف عشر الدية، أي خمسين دينارا.
(٢) أحكام القرآن: ٣/ ١٢٦١
163
٤- إن خلق الإنسان والنبات حاصل بالله، وهو السبب في حصوله، ولو لاه لم يتصور وجوده، فإن الله هو الحق، أي الثابت الموجود، وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور، وأنه حكيم لا يخلف ميعاده، وقد وعد الساعة والبعث، فلا بد أن يفي بما وعد، وأنه عالم بكل شيء، وقادر على جمع ذرأت الإنسان المتفرقة في أنحاء الأرض أو قيعان البحار أو أجواف الحيوانات، أو في أي مكان.
أحوال الناس الجدال بالباطل والإيمان المضطرب وجزاء المؤمنين الصالحين
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٨ الى ١٤]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢)
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤)
164
الإعراب:
ثانِيَ عِطْفِهِ حال من ضمير. يُجادِلُ عائد على مِنَ والإضافة في تقدير أو نية الانفصال، أي ثانيا عطفه، ولذلك لم يكتسب التعريف بالإضافة.
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ من: فيه أربعة أوجه:
الأول- أنه منصوب ب يَدْعُوا واللام في غير موضعها، أي يدعو من لضرّه أقرب من نفعه، فقدمت اللام إلى (من) وضَرُّهُ: مبتدأ، وأَقْرَبُ: خبره. وهذا قول الكوفيين.
والثاني- أن مفعول يَدْعُوا محذوف، واللام في موضعها، أي يدعو إليها أي لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فمن: مبتدأ، وخبره: أَقْرَبُ والجملة صلة (من). ولَبِئْسَ الْمَوْلى:
خبر ثان ل: (من). وهو قول المبرّد.
والثالث- أن يَدْعُوا بمعنى يقول، وما بعده: مبتدأ وخبر، أي يقول لمن ضرّه عندكم أقرب من نفعه هو إلهي، فخبر المبتدأ محذوف، أي يقول الكافر: الصنم الذي تعدونه من جملة الضرر: إلهي.
والرابع- أن يَدْعُوا تكرار للأول، لطول الكلام، مثل لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ...
فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ [آل عمران ٣/ ١٨٨].
البلاغة:
ثانِيَ عِطْفِهِ كناية عن التكبر والخيلاء.
بِما قَدَّمَتْ يَداكَ مجاز مرسل، علاقته السببية لأن اليد هي التي تفعل الخير أو الشر.
مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ استعارة تمثيلية، شبه المنافقين وما هم فيه من اضطراب في دينهم بمن يقف على طرف هاوية يريد العبادة.
فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ مقابلة بديعة.
يَضُرُّهُ ويَنْفَعُهُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
هُدىً هو النظر الصحيح الموصل إلى المعرفة. كِتابٍ مُنِيرٍ الوحي المظهر للحق.
165
ثانِيَ عِطْفِهِ متكبرا عن الإيمان، معرضا عن القرآن كفرا وتعظما، ولاويا عنقه، والعطف: الجانب عن يمين أو شمال. عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دينه، وليضل: علة للجدال.
لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ عذاب وهوان وذل، فقتل يوم بدر أي أبو جهل المجادل. عَذابَ الْحَرِيقِ أي الإحراق بالنار. بِما قَدَّمَتْ يَداكَ عبر بهما دون غيرهما لأن أكثر الأفعال تزاول بهما، وهو وارد بطريق الالتفات، أو إرادة القول، أي يقال له يوم القيامة: ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي ليس بذي ظلم لأحد، فيعذبهم بغير ذنب، وإنما هو مجازيهم على أعمالهم، والمبالغة في (ظلام) لكثرة العبيد.
عَلى حَرْفٍ أي على طرف من الدين لا ثبات له فيه، وهذا تشبيه حال المنافقين بحال من يقف على حرف جبل في عدم ثباته، أو كالذي يكون على طرف الجيش، فإن أحس بظفر قرّ، وإلا فرّ، فهو على شك وضعف في العبادة. فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ صحة وسلامة في نفسه وماله.
فِتْنَةٌ محنة، وسقم في نفسه وماله. انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي رجع إلى الكفر وارتد. خَسِرَ الدُّنْيا ضيعها بفوات ما أمله منها، وبذهاب عصمته لارتداده. وَالْآخِرَةَ بالكفر وحبوط عمله. الْخُسْرانُ الْمُبِينُ البيّن، إذ لا خسران مثله.
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أي يقول، واللام زائدة: إن من ضرره بعبادته أقرب من نفعه، إن نفع بتخيله، هو إلهي. والضرر: هو استحقاق القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة، والنفع: هو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى. لَبِئْسَ الْمَوْلى الناصر أي لبئس هو الناصر. وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ الصاحب هو والمعاشر.
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الفروض والنوافل. إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من إثابة الموحد الصالح، وإكرام من يطيعه، وعقاب المشرك، وإهانة من يعصيه.
سبب النزول:
نزول الآية (٨) :
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ نزلت في أبي جهل، أنذره الله بالخزي (الذل والهوان) في الدنيا، فقتل يوم بدر، أو نزلت في النضر بن الحارث الذي قتل أيضا يوم بدر، ومعظم المفسرين على هذا كالآية الأولى.
166
نزول الآية (١١) :
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ: أخرج البخاري عن ابن عباس قال: كان الرجل يقدم المدينة، فيسلم، فإن ولدت امرأته غلاما، ونتجت خيله قال: هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولدا ذكرا، ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء، فأنزل الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ.
وأخرج ابن مردويه من طريق عطية عن ابن مسعود قال: أسلم رجل من اليهود، فذهب بصره وماله وولده، فتشاءم بالإسلام، فقال: لم أصب من ديني هذا خيرا، ذهب بصري ومالي، ومات ولدي، فنزلت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ [٣] حال الأتباع الجهال المقلّدين الذين يتبعون أهل الكفر والمعاصي والشياطين، ذكر هنا حال المتبوعين، الدعاة إلى الكفر والضلال، رؤساء الشر والابتداع.
وبعد بيان حال هؤلاء المجادلين في توحيد الله بلا حجة ولا برهان صحيح، أبان تعالى حال المنافقين مضطربي الإيمان، الذين لم تستقر عقيدتهم، من جماعة الأعراب القادمين إلى المدينة بقصد المنفعة المادية.
وبعد كشف حال عبادة المنافقين وحال معبوديهم من الأصنام والأوثان، أوضح الله تعالى صفة عبادة المؤمنين وصفة معبودهم، فعبادة الأولين خطأ غير صواب، ومعبودهم لا يضر ولا ينفع، أما عبادة المؤمنين فهي حق وحقيقة، ومعبودهم يعطيهم أعظم المنافع وهو الجنة.
167
التفسير والبيان:
تضمنت هذه الآيات أحوال ثلاث فئات من الناس، بعد بيان حال فئة هم الضلّال الجهال المقلدون في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ.
أما الفئة الأولى هنا فهم الدعاة إلى الضلال رؤساء الكفر والبدع، فقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أي وبعض الناس من يجادل في توحيد الله وأفعاله وصفاته، بلا عقل صحيح، ولا نقل صريح، بل بمجرد الرأي والهوى.
ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي أنه يجادل وهو مستكبر عن الحق وقبوله إذا دعي إليه، كما قال تعالى حكاية عن قول لقمان لابنه: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [لقمان ٣١/ ١٨] أي تميله عنهم استكبارا عليهم، وهدفه أو عاقبته صدّ الناس المؤمنين عن دين الله الذي فيه خيرهم. واللام في قوله: لِيُضِلَّ إما لام العاقبة لأنه لا يقصد ذلك، أي ليصير مآله ممن يضل عن سبيل الله، وإما لام التعليل، قال الزمخشري: تعليل للمجادلة، ولما أدّى جداله إلى الضلال، جعل كأنه غرضه.
ثم ذكر تعالى عقابه، فقال:
لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أي أن عقابه في الدنيا هو الخزي أي الهوان والذل، وقد قتل يوم بدر، وعقابه في الآخرة الزجّ به في عذاب النار المحرقة أو الإحراق في النار.
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي والسبب فيما مني به من خزي الدنيا وعذاب الآخرة هو ما قدّم من الكفر والمعاصي، وقد فعل
168
الله به ذلك عدلا في معاقبته الفجار وإثابته الصالحين لأن الله لا يظلم عباده.
أو يقال له هذا تقريعا وتوبيخا، كقوله تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان ٤٤/ ٤٧- ٥٠]. ونظير آية العدل: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم ٥٣/ ٣١].
والخلاصة: أن هذا العقاب حق وعدل بسبب جرم الكفر والإثم الفاحش.
وأما الفئة الثانية أهل الضلالة الأشقياء: فهم أهل الشك والنفاق والمصلحة والمنفعة المادية، وهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ.. أي وبعض الناس يعبد الله على شك وطرف من الدين لا في القلب، كمن يقف على حافة واد، أو على طرف الجيش ليفر عند الإحساس بالهزيمة، فهو مضطرب الإيمان، غير مطمئن القلب، غير واثق بهذا الدين، ولا صادق النية، ولا مخلص في العبادة، وهم صنف من المنافقين.
فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ.. أي فإن أصابه خير مادي من غنيمة ومال، وزيادة نتاج في الولد ونسل الحيوان، رضي عن هذا الدين. واطمأن إليه. وإن أصابه مرض أو لم تلد امرأته، ولا ماشيته، أي أحس بنقص في المال أو الأنفس، أو هلاك أو جدب في الثمرات والغلات، ارتد ورجع كافرا، وهذا هو النفاق بعينه.
خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أي ضيع الدنيا والآخرة، فلا هو حصل من الدنيا على شيء من عز وكرامة وغنيمة، ولا استفاد من ثواب الآخرة، لأنه كفر بالله العظيم، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة، وذلك هو الخسران البيّن الذي لا خسران مثله، أو هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة.
169
وتأكيدا لعظم تلك الخسارة قال تعالى:
يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ أي يعبد من غير الله آلهة من الأصنام والأنداد، يستغيث بها، ويستنصرها، ويسترزقها، وهي لا تضره إن لم يعبدها، ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها.
ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي ذلك الارتداد، وعبادة تلك الأصنام، هو الضلال الموغل في الضلالة، البعيد جدا عن طريق الصواب.
ثم زاد الأمر تأكيدا فقال:
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أي يدعو (تكرارا للأول) لمن ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها، وأما في الآخرة فضرره محقق متيقن، لبئس الناصر هو، ولبئس الصاحب هو. أو يقول الكافر حينما يتحقق من تضرره بعبادته هذا المعبود الخاسر الذي أدخله النار:
لبئس هذا المولى والناصر، ولبئس هذا العشير والصاحب.
وأما الفئة الثالثة: وهم الأبرار السعداء فهم الذين آمنوا بقلوبهم، وصدقوا إيمانهم بأفعالهم، كما قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. أي إن الله تعالى يكافئ المؤمنين الصادقي الإيمان، الذين عملوا الصالحات، أي الطاعات والقربات، وتركوا المنكرات، بإدخالهم روضات الجنات التي تجري من تحت أشجارها الأنهار.
إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ بإكرام أهل الطاعة وإثابتهم، وإهانة أهل المعصية وحرمانهم من فضله، يفعل وفق مراده ومشيئته المطلقة، فلا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، يدخل المؤمنين الجنة، ويدخل الكافرين النار.
170
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- تكرر نزول الآيات في النضر بن الحارث، فهو في جداله في الآية المتقدمة [٣] يريد إنكار البعث، وفي هذه الآية [٨] يريد إنكار النبوة وإنكار نزول القرآن من جهة الله. وقد قيل: نزلت فيه بضع عشرة آية. وكان من قوله: إن الملائكة بنات الله، وهذا جدال في الله تعالى. ووصف هنا بأنه أعرض عن القرآن والحق، ولوى عنقه مرحا وتعظما وتكبرا، وكانت عاقبته أنه يجادل فيضل عن دين الله تعالى.
وعقابه في الدنيا الهوان والذل مما يجري له من الذكر القبيح على ألسنة المؤمنين إلى يوم القيامة، وقتل يوم بدر، ويغشى في الآخرة نار جهنم، جزاء وفاقا للكفر والمعصية، ولا يظلم ربك أحدا. وفيه دليل على أن الله لا يعذب الأطفال بكفر آبائهم.
ودليل أيضا على أن العقاب بسبب عمل الإنسان وفعله، فإذا عاقبه بغير فعله كان ذلك محض الظلم. وهو على خلاف النص.
٢- يجب أن يكون الإيمان في القلب كالجبال الراسيات، لا يتأثر بحدوث ضرر، ولا بزوال نفع، أما المنافقون الماديون الذين ينتظرون حدوث النفع المادي من مال أو غنيمة، ويستاءون بما يتعرضون له من نقص في المال والثمرات، فهم الذين خسروا الدنيا، فلا حظ لهم في غنيمة ولا ثناء، وخسروا الآخرة بأن لا ثواب لهم فيها، بل لهم العقاب الدائم بسبب ردتهم ورجوعهم إلى الكفر.
والراجع إلى الكفر يعبد الصنم الذي لا ينفع ولا يضر، ويدعو من ضرره أدنى من نفعه في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار، ولم ير منه نفعا أصلا. أو
171
يقول الكافر: لمن ضره أقرب من نفعه في قول المسلمين: هو معبودي وإلهي، لبئس المولى في التناصر، ولبئس المعاشر والصاحب والخليل.
٣- يثيب الله من يشاء، ويعذب من يشاء، فللمؤمنين الجنة بحكم وعده الصدق وبفضله، وللكافرين النار بما سبق من عدله، لا أن فعل الرب معلل بفعل العبد.
٤- ما أروع هذه المقارنة والموازنة في الآيات بين حال المشركين وحال المنافقين، وحال المؤمنين في الآخرة! فالعاقل هو الذي ينحاز آليا لصف الإيمان ليبرأ في عالم الآخرة، والجاهل الغبي أو المعاند أو المتلاعب هو الذي يبقى في عكر العقيدة ومفاسدها وخبائثها، فيتلقى جزاءه عدلا، ولا ظلم في الحساب.
حال اليائس من نصرة الرسول وإنزال الآيات البينات
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٥ الى ١٦]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦)
الإعراب:
آياتٍ بَيِّناتٍ حال منصوب، وبَيِّناتٍ صفة، أي ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آيات واضحات.
وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي.. معطوف على هاء: أَنْزَلْناهُ.
172
المفردات اللغوية:
أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ أي أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة، فمن كان يظن خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ أي فليمدد حبلا إلى سقف بيته يشده فيه وفي عنقه، ثم ليختنق به، بأن يقطع أنفاسه من الأرض، والمراد: فليستقص في إزالة غيظه أو جزعه، بأن يفعل كل ما يفعله الممتلئ غضبا أو غيظا، حتى يمد حبلا إلى سماء بيته، فيختنق.
وليس هذا دعوة إلى الانتحار، وإنما كما يقول المثل العامي: اشرب البحر، للدلالة على عدم الفائدة من الفعل.
فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ أي فليتصور في نفسه، هل يذهبن كيده في عدم نصرة النبي صلّى الله عليه وسلم غيظه، والمعنى: فليختنق غيظا منها، فلا بد منها.
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي مثل إنزالنا الآية السابقة أَنْزَلْناهُ أي القرآن الباقي آياتٍ بَيِّناتٍ ظاهرات واضحات وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ هداه، أي ولأن الله يهدي به أو يثبّت على الهدى من يريد هدايته أو ثباته، أنزله كذلك مبينا.
المناسبة:
بعد بيان حال المشركين المجادلين بالباطل، والمنافقين، والمؤمنين، بيّن الله تعالى حال أمرين: هما نصرته رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة لييأس المجادلون، وإنزاله القرآن آيات واضحات ترشد إلى الحق والصواب.
التفسير والبيان:
من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلّى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فليمدد بحبل إلى سقف بيته، ثم ليختنق به، ثم ليتأمل ويتصور في نفسه: هل يذهب فعله الذي فعله غيظه من نصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ كلا.
وسمي الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع حياته، وسمي فعله وهو نصب المشنقة كيدا استهزاء لأنه لم يكد به محسوده، وإنما كاد به نفسه، أو لأنه كالكيد، حيث لم يقدر على غيره.
173
وقال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل في هذه الآية أن المعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلّى الله عليه وسلم، وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه، فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء، ثم ليقطع النصر إن تهيأ له، ثم لينظر هل يذهبن كيده وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلّى الله عليه وسلم؟. والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا، لم يصل إلى قطع النصر.
وعلى كلا المعنيين، إن الله ناصر دينه وكتابه ورسوله لا محالة، فليفعل أهل الغيظ ما شاؤوا.
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ أي ومثل ذلك الإنزال للآية المتقدمة أنزلنا القرآن كله آيات واضحات الدلالة على معانيها، ليتعظ بها المعتبر.
وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ أي ولأن الله يهدي به ويوفق الذين يعلم أنهم يؤمنون، ومستعدون للإيمان بما أنزل، ويريد الله هدايتهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى على حسم الموقف بين النبي صلّى الله عليه وسلم وبين معاديه، فالله تعالى لا محالة ناصر رسوله، ومؤيد دينه وكتابه ودعوته، ومحبط مكائد الأعادي، وقاطع أطماعهم، ورادّ كيدهم في نحورهم، فلا أمل لهم بعدئذ في إحباط دعوة الإسلام، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف ٦١/ ٩] وقال سبحانه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر ٤٠/ ٥١].
والله تعالى أيضا مؤيد رسوله صلّى الله عليه وسلم بوحيه، وبما أنزله عليه من الآيات البينات الواضحات، ليفهمها الناس، أي القرآن، وكذلك أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ قال القرطبي: علق وجود الهداية بإرادته، فهو الهادي لا هادي سواه.
174
وقال الزمخشري والبيضاوي: ولأن الله يهدي به الذين يعلم أنهم مؤمنون، أو يثبّت الذين آمنوا على الهدى.
الفصل الإلهي بين الأمم وخضوع كل ما في الكون لعزة الله
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٧ الى ١٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨)
الإعراب:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا.. وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا الخبر: إما محذوف، وإما قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ لأنها فيها معنى الجزاء، فحمل الخبر على المعنى.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إما معطوف على مَنْ في قوله تعالى: يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ لأن السجود بمعنى الانقياد، وكل مخلوق منقاد تحت قدرة الله تعالى، وإما مبتدأ وخبره:
إما مِنَ النَّاسِ أي من الناس الذين هم الناس على الحقيقة، وهم الصالحون المتقون، وإما محذوف، وهو مثاب، أي وكثير من الناس ثبت له الثواب، دل عليه خبر مقابله وهو قوله:
حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ.
البلاغة:
وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ بينهما طباق.
175
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ هادُوا هم اليهود وَالصَّابِئِينَ هم فرقة بين اليهود والنصارى، أو قوم يعبدون الملائكة، ويقرءون الزبور وَالْمَجُوسَ أتباع المتنبئ، قوم يعبدون الشمس والقمر والنار ويقولون: إن هناك إلهين اثنين للخير والشر وهما النور والظلمة. وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا عبدة الأصنام والأوثان يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يقضي بينهم لإظهار المحق من المبطل، فيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل غيرهم النار عَلى كُلِّ شَيْءٍ من عملهم شَهِيدٌ عالم به علم مشاهدة، مراقب لما يتعلق به.
يَسْجُدُ لَهُ يخضع له بما يراد منه، وهو السجود بالتسخير والانقياد لإرادته تعالى، وهناك سجود بالاختيار خاص بالإنسان. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة، فهو فاعل فعل مضمر، أو هو مبتدأ دل عليه قسيمه المقابل له بعده، وخبره: حق له الثواب، وهم المؤمنون بما هو أكثر من الخضوع في سجود الصلاة وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ أي وكثير منهم ثبت له العذاب، وهم الكافرون لأنهم أبوا السجود والخضوع لله بشرط الإيمان وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ أي ومن يجعله شقيا لما علم منه من اكتساب الشقاوة فما له أحد يكرمه ويسعده إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الإهانة والإكرام.
المناسبة:
هناك ارتباط عام وارتباط خاص بين هذه الآيات وما قبلها، أما الارتباط العام: فبعد أن ذكر تعالى أحوال المشركين والمنافقين والمؤمنين، أبان هنا أن الله يقضي بينهم جميعا ليبين المحق من المبطل، وأما الارتباط الخاص، فبعد أن ذكر تعالى في الآية السابقة أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ أتبعه في الآية الأولى ببيان من يهديه ومن لا يهديه.
ثم أردفه في الآية الثانية ببيان أنه ما كان ينبغي لأهل الأديان المختلفة أن يختلفوا لأن جميع العوالم خاضعة لسلطانه وقدرته، وساجدة لعظمته طوعا أو كرها.
176
التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا... إن الله تعالى يقضي بين أهل الأديان المختلفة من المؤمنين بالله ورسله، واليهود، والنصارى، والمجوس، والمشركين الذين يعبدون مع الله غيره، ويحكم بينهم بالعدل، فيدخل من آمن به الجنة، ومن كفر به النار، فإنه تعالى شهيد على أعمالهم، حفيظ لأقوالهم وأفعالهم، عليم بسرائرهم، وما تكنّ ضمائرهم.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ... أي ألم تعلم أن الله تعالى يخضع ويسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها، وسجود كل شيء بما يختص به، فيسجد له من في السموات: وهو الملائكة، ومن في الأرض وهم الإنس والجن، والشمس والقمر والنجوم من العوالم العلوية، والشجر والدوابّ (الحيوانات كلها) من العالم السفلي، وكثير من الناس حقّ له الثواب أو يسجد لله طوعا مختارا متعبدا بذلك، أي ثبت وتقرر، وكثير حق عليه العقاب، ممن امتنع وأبى واستكبر.
وقد نص على هذه الأشياء لأنها قد عبدت من دون الله، فأبان تعالى أنها تسجد لخالقها، وأنها مربوبة مسخرة منقادة لله تعالى.
ومن يهنه الله فيشقيه، أو من يهنه بالشقاء والكفر لسوء استعداده للإيمان، لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه، ولا يسعده أحد لأن الأمر بيده تعالى، يوفق من يشاء ويخذل من يريد.
إن الله تعالى يفعل في عباده ما يشاء من الإهانة والإكرام، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه.
ونظير الآية كثير، مثل: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ، عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ، سُجَّداً لِلَّهِ، وَهُمْ داخِرُونَ [النحل ١٦/ ٤٨].
177
ومثل وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء ١٧/ ٤٤].
وأما إطلاق المشيئة لله تعالى فيوضحه
ما رواه ابن أبي حاتم عن علي: أنه قيل لعلي: «إن هاهنا رجلا يتكلم في المشيئة، فقال له علي: يا عبد الله، خلقك الله كما يشاء، أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء، قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟
قال: بل إذا شاء، قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث شاء؟ قال: بل حيث يشاء، قال:
والله، لو قلت غير ذلك، لضربت الذي فيه عيناك بالسيف»
«١».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى على أن الله تعالى يقضي بالعدل بين أهل الأديان المختلفة، وهم المؤمنون بالله وبرسوله صلّى الله عليه وسلم، واليهود: وهم المنتسبون إلى ملة موسى عليه السلام، والصابئون: وهم قوم يعبدون النجوم، والنصارى: وهم المنتسبون إلى ملة عيسى، والمجوس: وهم عبدة النيران القائلون بأن للعالم أصلين: نور وظلمة، والمشركون: وهم العرب ونحوهم عبدة الأوثان. هذه الفرق الست: خمسة منها للشيطان، وواحدة منها للرحمن. وإنه تعالى يقضي ويحكم بينهم، فللكافرين النار، وللمؤمنين الجنة، إن الله تعالى شهيد على أعمال خلقه وحركاتهم وأقوالهم.
ودلت الآية الثانية على أن القلب والعقل يرى أن جميع ما في العوالم العلوية والسفلية من الكواكب والجمادات والنباتات والإنسان والحيوان يسجد لله تعالى سجود تذلل وانقياد لتدبير الله عز وجل في جميع الأحوال من ضعف وقوة، وصحة وسقم، وحسن وقبح، وسجود خضوع لعظمته وسلطانه وجبروته.
(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٢١١
178
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسجود، فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت، فلي النار».
ومن أهانه الله بالشقاء والكفر لسوء استعداده لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه، والذين حق عليهم العذاب، ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم، فيكون مكرما لهم.
وإن الله تعالى هو الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب. والمراد من بيان إطلاق المشيئة لله أن مصير الكافرين إلى النار فلا اعتراض لأحد عليه.
جزاء الكافرين والمؤمنين
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٩ الى ٢٤]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤)
179
الإعراب:
يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ: حال من ضمير لَهُمْ أو خبر ثان.
يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ: ما: نائب فاعل، وَالْجُلُودُ: معطوف عليه، وهاء بِهِ عائدة على الْحَمِيمُ. والجملة: حال من الْحَمِيمُ أو من ضمير «هم».
مِنْ غَمٍّ في موضع نصب لأنه بدل من قوله: مِنْها أي: كلما أرادوا أن يخرجوا من غم أعيدوا فيها.
وَذُوقُوا عَذابَ على حذف القول، أي: ويقال لهم: ذوقوا عذاب الحريق، وهذا كثير في كلام العرب.
مِنْ أَساوِرَ صفة مفعول محذوف.
وَلُؤْلُؤاً إما منصوب بتقدير فعل، أي ويعطون لؤلؤا، لدلالة يُحَلَّوْنَ عليه في أول الكلام. وإما معطوف على موضع الجار والمجرور من قوله: مِنْ أَساوِرَ كأن يقال: مررت بزيد وعمرا. وعلى قراءة الجر يكون معطوفا على أَساوِرَ أو على الذهب بأن يرصع اللؤلؤ بالذهب.
البلاغة:
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي في دين ربهم، فهو على حذف مضاف. وقوله: هذانِ للفظ، واخْتَصَمُوا للمعنى.
قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ استعارة عن إحاطة النار بهم كإحاطة الثوب بلابسه.
المفردات اللغوية:
هذانِ خَصْمانِ الخصم: من يعارض غيره في الرأي. وقد وصف به الفريق أو الفوج، فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان مختصمان متنازعان، وقوله: هذانِ للفظ، واخْتَصَمُوا
للمعنى، والمراد بهما: المؤمنون والكافرون. والخصم: يطلق على الواحد والجماعة.
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي في دينه أو في ذاته وصفاته قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ أي قدّرت لهم ثياب يلبسونها، والمراد: نيران تحيط بهم إحاطة الثياب الْحَمِيمُ الماء البالغ نهاية الحرارة يُصْهَرُ بِهِ يذاب ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ أي يؤثر من فرط حرارته في باطنهم تأثيره في ظاهرهم، فيذاب به
180
أحشاؤهم، كما يذاب أو يشوى به جلودهم مَقامِعُ مضارب أو سياط حديد يجلدون بها، جمع مقمعة.
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي من النار مِنْ غَمٍّ حزن شديد يلحقهم بها أُعِيدُوا فِيها ردوا إليها بالمقامع ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي ويقال لهم: ذوقوا العذاب البالغ نهاية الإحراق، أو العذاب المحرق.
مِنْ أَساوِرَ جمع أسورة، وهي جمع سوار، أي فالأساور جمع الجمع، وهي حلية تلبسها النساء في معاصمها وَلُؤْلُؤاً هو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف حَرِيرٌ هو المحرم لبسه على الرجال في الدنيا. وَهُدُوا أرشدوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وهو كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، أو هو قولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ [الزمر ٣٩/ ٧٤] أو كلام أهل الجنة مع بعضهم بعضا صِراطِ الْحَمِيدِ أي الطريق المحمود، وهو الإسلام أو طريق الجنة، أو آداب المعاشرة والاجتماع. والأصح أنه طريق الله الحميد أي المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة.
سبب النزول: نزول الآية (١٩) :
هذانِ خَصْمانِ: أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي ذر قال: نزلت هذه الآية: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ في حمزة وعبيدة وعلي بن أبي طالب، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة. أي الفريقين اللذين قاما بالمبارزة في بداية معركة بدر.
وأخرج الحاكم عن علي قال: فينا نزلت هذه الآية، وفي مبارزتنا يوم بدر:
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ إلى قوله: الْحَرِيقِ.
وأخرج الحاكم من وجه آخر عن علي قال: نزلت في الذين بارزوا يوم بدر:
حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس: أنها نزلت في أهل الكتاب قالوا
181
للمؤمنين: نحن أولى بالله منكم، وأقدم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، فقال المؤمنون:
نحن أحق بالله، آمنا بمحمد وبنبيكم، وبما أنزل الله من كتاب.
المناسبة:
بعد بيان أهل الفرق الستة وقضاء الله بينهم بالعدل، ذكر هنا تصنيفهم إلى فريقين: فريق الإيمان، وفريق الكفر، ثم محاورتهم فيما بينهم في الأهدى طريقا، ومآل كل من الفريقين إلى الجحيم أو إلى النعيم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن خصومة فريقين اختصموا في دين الله وذاته وصفاته فيقول: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي إن أهل الأديان المختلفة الستة المتقدم بيانهم هم فريقان متميزان: فريق المؤمنين، وفريق الكافرين الذين هم أتباع الديانات الخمس المتقدمة، تنازعوا وتجادلوا في شأن ربهم وفي دينه، وكل منهم يعتقد أنه على حق، وأن خصمه على الباطل ويبني على أساس ذلك جهاده وسلوكه وفكره.
والحق أن مصير الفريقين واضح، أما الفريق الأول وهم الكافرون فجزاؤهم: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ أي فالكافرون تحيط بهم النار إحاطة شاملة، وقد مثّل ذلك بأنه فصلت لهم مقطعات من نار تحيط بهم كإحاطة الثوب بلابسه، مما يومئ بشدة عذابهم واحتقار شأنهم، كما قال تعالى:
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف ٧/ ٤١] وقال سبحانه:
سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ، وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم ١٤/ ٥٠].
يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ أي يصب على رؤوسهم الماء البالغ درجة الغليان الذي يذيب ما في بطونهم من أحشاء، ويشوي جلودهم، فيحرق الباطن والظاهر.
182
روى ابن جرير والترمذي وابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الحميم ليصبّ على رؤوسهم، فينفذ الجمجمة، حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه، حتى يبلغ قدميه، وهو الصّهر، ثم يعاد كما كان».
وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ أي لهم مضارب أو سياط من حديد، يضربون بها على وجوههم ورؤوسهم وأعضائهم وأجسادهم.
أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لو أن مقمعا من حديد وضع في الأرض، فاجتمع له الثقلان، ما أقاموه من الأرض».
وأخرج عن أبي سعيد أيضا قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت، ثم عاد كما كان، ولو أن دلوا من غسّاق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا».
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ... أي كلما حاولوا الهرب من جهنم بسبب شدة العذاب والغم، أي الحزن الشديد، أعيدوا فيها كما كانوا، ويقال لهم: ذوقوا العذاب المحرق، وعذاب هذه النار المحرقة. قال الفضيل بن عياض:
والله ما طمعوا في الخروج، إن الأرجل لمقيدة، وإن الأيدي لموثقة، ولكن يرفعهم لهبها، وتردهم مقامعها.
وقوله: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ كقوله: وَقِيلَ لَهُمْ: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة ٣٢/ ٢٠] ومعنى الكلام: أنهم يهانون بالعذاب قولا وعملا.
وبعد بيان سوء حال الكافرين وما هم فيه من العذاب والنكال، والحريق والأغلال، ذكر تعالى حسن أهل الجنة، فقال:
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. أي إن الله يدخل المؤمنين الذين يعملون الصالحات أي الطاعات والقربات، ويتجنبون المنكرات
183
جنات عالية رفيعة تجري الأنهار من تحت أشجارها وجوانبها وقصورها، يوجهونها حيث أرادوا.
يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً أي وحليتهم التي يلبسونها أساور الذهب في أيديهم أو تكون مرصعة باللؤلؤ، ويؤتون لؤلؤا يزينون به هاماتهم ورؤوسهم، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء»
واللؤلؤ كما تقدم: هو ما يستخرج من البحر من جوف الصّدف.
وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ أي ويرتدون الحرير الذي كان محرما لباسه على الرجال في الدنيا، في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم، ويؤكدها آية أخرى: وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [فاطر ٣٥/ ٣٣].
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ أي أرشدوا إلى القول الطيب، وهو كلمة التوحيد أو قوله تعالى حين دخول الجنة: وَقالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر ٣٩/ ٧٤]. أو إلى تحية الملائكة لهم بالسلام، وهذا في مقابل أهل النار الذين يقرعون ويوبخون ويقال لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ.
وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي وأرشدوا إلى الطريق المحمود أو إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على نعمه وأفضاله، أو إلى السلوك الحسن المرضي ربهم في أقوالهم وأفعالهم، والأصح: إلى طريق الله الحميد أي المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه حال المؤمنين وحال الكافرين في الآخرة، أما الكافرون من الفرق الخمس الذين تقدم ذكرهم، فخيطت وسويت لهم ثياب شاملة من نار، أي أنها
184
تحيط بهم إحاطة كاملة، ويصب على رؤوسهم الماء الحار المغلي بنار جهنم، يذيب أحشاء بطونهم وشحومها، ويشوي الجلود أو يحرقها، فإن الجلود لا تذاب، فيضم في كل شيء ما يليق به، ويضربون ويدفعون بمضارب ثقيلة من حديد.
وإذا حاولوا الخروج من النار حين تفور بهم، فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها، فتعيدهم خزنة النار إليها بالمقامع، ويقولون لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي المحرق. والذوق: مماسّة يحصل معها إدراك الطعم، والمراد به إدراكهم الألم.
وأما المؤمنون فلهم ألوان عديدة من النعم، منها أنهم يحلون بأساور الذهب، ويحلون لؤلؤا يزينون به تيجانهم، قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ، ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت، أي الذي لا يخالطه غيره.
قال القرطبي: وهو ظاهر القرآن ونصه.
وجميع ما يلبسونه وينتفعون به من فرشهم ولباسهم وستورهم حرير، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير.
وأرشدوا إلى طيب القول، قال ابن عباس يريد لا إله إلا الله، والحمد لله، كما أرشدوا إلى صراط الله وهو في الدنيا دينه وهو الإسلام، وفي الآخرة الطيب من القول: وهو الحمد لله لأنهم يقولون غدا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف ٧/ ٤٣]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر ٣٥/ ٣٤] فليس في الجنة لغو ولا كذب، فما يقولونه فهو طيّب القول. وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله وهو الإسلام أو إلى طريق الجنة، إذ ليس في الجنة شيء من مخالفة أمر الله وقيل: الطيب من القول: ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة.
أما في الدنيا فالحرير والذهب محرم استعمالهما حلية على الرجال، حلال للنساء، أما الانتفاع بآنية الذهب والفضة كالأكل والشرب فهو حرام مطلقا على
185
الرجال والنساء.
روى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ومن شرب في آنية الذهب والفضة، لم يشرب فيها في الآخرة». ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة، وآنية أهل الجنة».
والحرمان من ذلك: إنما هو في حال عدم وجود التوبة، بدليل
حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة».
فإذا لم تحدث التوبة، فيحرم مما ذكر عملا بظاهر الحديث، وإن دخل الجنة، بدليل
ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة، ولم يلبسه هو». وكذلك «من شرب الخمر ولم يتب» و «من استعمل آنية الذهب والفضة»
وليس ذلك بعقوبة لأن الجنة ليست بدار عقوبة، ولا مؤاخذة فيها بوجه «١».
المنع من المسجد الحرام
[سورة الحج (٢٢) : آية ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥)
(١) تفسير القرطبي: ١٢/ ٣٠
186
الإعراب:
وَيَصُدُّونَ الواو: إما واو عطف أو واو حال، فإن كانت للعطف عطف المضارع على الماضي حملا على المعنى، على تقدير: إن الكافرين والصادّين. وإن كانت للحال، كان تقديره: إن الذين كفروا صادّين عن سبيل الله. وخبر إِنَّ مقدّر، أي معذّبون. والأصح هو الأول، قال البيضاوي: لا يريد به حالا ولا استقبالا، وإنما يريد استمرار الصدّ منهم، كقولهم: فلان يعطي ويمنع، ولذلك حسن عطفه على الماضي. وهذا مثل قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرعد ١٣/ ٢٨].
سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ الْعاكِفُ: مبتدأ، وَالْبادِ: عطف عليه، وسواء على قراءة الرفع: خبر مقدم. وعلى قراءة النصب: منصوب على المصدر، على تقدير: سوّينا، أو على الحال من هاء جَعَلْناهُ وهو عامل فيه، ورفع الْعاكِفُ به.
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ حالان مترادفان، ومفعول يُرِدْ: متروك ليتناول كل متناول كما قال الزمخشري، وهو الأولى كما قال الرازي.
البلاغة:
الْعاكِفُ والْبادِ بينهما طباق، إذ العاكف: المقيم في المدينة، والباد: المقيم في البادية.
المفردات اللغوية:
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ويمنعون عن دين الله وطاعته. والصد: المنع، والفعل يفيد استمرار المنع الْمَسْجِدِ الْحَرامِ مكة الَّذِي جَعَلْناهُ منسكا ومعبدا سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ أي تساوى فيه المقيم الملازم والطارئ من البادية بِإِلْحادٍ عدول عن القصد والاستقامة، والباء زائدة للتأكيد، أي إلحادا مثل تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون ٢٣/ ٢٠] بِظُلْمٍ بغير حق، أي بسببه، بأن ارتكب منهيا، ولو شتم الخادم نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي يتلقى بعض العذاب المؤلم، وهو جواب الشرط لمن يرد، ويفهم خبر إِنَّ من قوله نُذِقْهُ أي نذيقهم من عذاب أليم.
سبب النزول:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب
187
وأصحابه حين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية عن المسجد الحرام، وقد كره عليه الصلاة والسلام أن يقاتلهم، وكان محرما بعمرة، ثم صالحوه على أن يعود في العام المقبل.
وقوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ: روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: بعث النبي صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس مع رجلين: أحدهما مهاجر، والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام، وهرب إلى مكة، فنزلت فيه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ الآية.
المناسبة:
بعد بيان مآل الكفار والمؤمنين، عظم الله تعالى حرمة البيت الحرام، وعظم كفر المشركين الصادين عن الدخول إليه لأداء المناسك، مع ادعائهم أنهم حماته.
التفسير والبيان:
إن الذين كفروا بالله ورسوله، وهم مع كفرهم يصدون عن سبيل الله وعن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في الأمر نفسه، فهم يمنعونهم من الدخول إليه، مع أن الله تعالى جعله للناس جميعا لصلاتهم وعبادتهم، وطوافهم وأداء مناسكهم، يستوي في شأنه المقيم منهم فيه والطارئ عليه النائي عنه، من أهل البوادي وغيرهم.
ومن يرد فيه مرادا ما عادلا عن القصد والاستقامة، ظالما، أي يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار، عامدا قاصدا أنه ظلم غير متأول، وهو التعمد، نذقه يوم القيامة من العذاب المؤلم.
قال مجاهد: بِظُلْمٍ: يعمل فيه عملا سيئا. وقال ابن أبي حاتم: وهذا
188
من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي في الشر إذا كان عازما عليه، وإن لم يوقعه.
وروى ابن أبي حاتم عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «احتكار الطعام بمكة إلحاد».
وهذا بعض أمثلة الظلم، فإن هذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه، ومن نوى سيئة، ولم يعملها، لم يحاسب عليها إلا في مكة.
والخلاصة: أن الآية عامة تشمل كل أنواع المعصية، ويختص الحرم بعقوبة من همّ فيه بسيئة وإن لم يعملها، كما أن الله تعالى جعل الحرم مفتوحا ومنسكا لكل الناس، أي الذين يقع عليهم اسم الناس من غير فرق بين حاضر وباد، ومقيم وطارئ، ومكي وآفاقي.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ما يأتي:
١- حرية العبادة في الحرم المكي لجميع الناس، من أهل مكة وغيرهم، وهذا يومئ إلى أن من يمنع الناس من حج بيت الله الحرام، يكون من الذين كفروا لأن الله تعالى ذكر فريضة الحج عقب هذه الآية.
٢- كل من يرتكب معصية في مكة عدوانا وظلما، أو يعزم فيه على الشر، وإن لم يفعله، له يوم القيامة عذاب مؤلم شديد الألم أي فيعاقب الإنسان على ما ينويه من المعاصي بمكة، وإن لم يعمله.
قال الإمام أحمد: أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير، فقال: يا ابن الزبير: إياك والإلحاد في حرم الله، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيلحد فيه رجل من قريش لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت».
وقد استدل الحنفية بالآية على امتناع جواز بيع دور مكة وإجارتها، قائلين بأن المراد بالمسجد الحرام مكة، ومستدلين بما رواه ابن ماجه والدارقطني
189
عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر، وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن. وقال عبد الله بن عمرو- فيما رواه عنه عبد الرزاق: لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها، وقال: «من أكل من أجر بيوت مكة شيئا، فإنما يأكل نارا». وروى عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج قال: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم.
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر،
لحديث أسامة بن زيد في الصحيحين قال: قلت: يا رسول الله، أتنزل غدا في دارك بمكة؟ فقال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع» ؟
وقال فيما رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أسامة: «لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر»
وثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة، فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم.
وتوسط الإمام أحمد فقال: تملك وتورث، ولا تؤجر، جمعا بين الأدلة.
ومنشأ الخلاف: كيفية فتح مكة، هل كان فتحها عنوة؟ فتكون مغنومة، لكن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يقسمها وأقرها لأهلها، ولمن جاء بعدهم كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض سواد العراق، فتبقى على ذلك لا تباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي.
أو هل كان فتحها صلحا؟ وإليه ذهب الشافعي، فتبقى ديارهم بأيديهم، ويتصرفون في أملاكهم كيف شاؤوا، واستدل بقوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [الحج ٢٢/ ٤٠] فأضافها إليهم.
وقال صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فيما رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة: «من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان، فهو آمن».
ويلاحظ أنه لم يؤاخذ الله تعالى أحدا على الهم بالمعصية إلا في المسجد الحرام لقوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ لأنه مكان تطهير النفس والتوبة والنقاء والتخلص من الذنوب بالكلية لله عز وجل.
190
تعيين مكان البيت الحرام والأمر بالحج إليه
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)
الإعراب:
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ اللام: إما زائدة لأن بَوَّأْنا يتعدى إلى مفعولين، فإبراهيم هو المفعول الأول، ومَكانَ: هو المفعول الثاني، وإما ألا تكون زائدة، ويكون بَوَّأْنا محمولا على معنى (جعلنا) فكأنه قال: جعلنا لإبراهيم مكان البيت: ظرف، والمفعول محذوف، تقديره:
بوأنا لإبراهيم مكان البيت منزلا.
أَنْ لا تُشْرِكْ بِي أن: إما مخففة من الثقيلة في موضع نصب، أي بأنه لا تشرك بي، وإما مفسّرة بمعنى «أي» وإما زائدة.
يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ رِجالًا: حال منصوب من واو يَأْتُوكَ. وعَلى كُلِّ ضامِرٍ: جارّ ومجرور في موضع نصب على الحال، أي يأتوك رجالا وركبانا. ويَأْتِينَ: يعود إلى معنى كُلِّ وفعل غير العقلاء كفعل المؤنث، ودلت كُلِّ على العموم، فأتى الخبر على المعنى.
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ ذلِكَ: إما مجرور صفة للبيت العتيق، وإما مرفوع خبر مبتدأ
191
محذوف، أي الأمر ذلك، مثل قوله تعالى: ذلِكَ، وَمَنْ عاقَبَ [الحج ٢٢/ ٦٠] أي الأمر ذلك.
البلاغة:
عميق عتيق سحيق أي في الآية التالية سجع مستحسن في علم البديع.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ بَوَّأْنا أي واذكر إذ عيناه وبيناه مَكانَ الْبَيْتِ أي الكعبة ليبنيه، وكان قد رفع من زمن الطوفان في عهد نوح وَطَهِّرْ بَيْتِيَ من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلي فيه وَالْقائِمِينَ المقيمين به وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ المصلين، جمع راكع وساجد.
وَأَذِّنْ ناد بالحج، أي بالدعوة إليه، فنادى على جبل أبي قبيس: يا أيها الناس، إن ربكم بنى بيتا، وأوجب عليكم الحج إليه، فأجيبوا ربكم. والتفت بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا، فأجابه كل من كتب له أن يحج من أصلاب الرجال وأرحام الأمهات: لبيك اللهم لبيك. يَأْتُوكَ رِجالًا أي راجلين ماشين على الأقدام، جمع راجل، كتاجر وتجار وقائم وقيام، ويَأْتُوكَ:
جواب الأمر وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ أي وركبانا على كل بعير مهزول، بأن أتعبه بعد السفر فهزل.
والضامر: يطلق على الذكر والأنثى يَأْتِينَ اي الضوامر، أتى به جمعا حملا على المعنى مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أي طريق بعيد.
لِيَشْهَدُوا ليحضروا مَنافِعَ لَهُمْ منافع دينية في الآخرة، ودنيوية بالتجارة فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ هي عشر ذي الحجة، أو يوم عرفة أو يوم النحر إلى آخر أيام التشريق- أيام عيد الأضحى بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم التي تنحر في يوم العيد وما بعده من الهدايا والضحايا فَكُلُوا مِنْها من لحومها، أباح ذلك خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه، وهذا في المتطوع به، المستحب، دون الواجب الْبائِسَ الْفَقِيرَ أي الذي أصابه بؤس أي شدة، والفقير:
المحتاج، والأمر فيه للوجوب.
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ أي يزيلوا أو ساخهم وشعثهم كطول الظفر والشعر، ونتف الإبط، والمراد هنا: قص الأشعار وتقليم الأظفار. وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ما ينذرون به من البر في حجهم، ومن الهدايا والضحايا. والنذر: كل ما لزم الإنسان أو التزمه. وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي يطوفوا طواف الركن الذي به تمام التحلل أي طواف الإفاضة، فإنه قرينة قضاء التفث، وقيل:
طواف الوداع. والعتيق: القديم لأنه أول بيت وضع للناس.
192
سبب النزول: نزول الآية (٢٧) :
وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ: أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كانوا لا يركبون، فأنزل الله: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فأمرهم بالزاد، ورخص لهم في الركوب والمتجر.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى موقف المشركين من الصد عن المسجد الحرام، أراد تعالى بيان مكانة البيت الحرام وتوبيخ أولئك المشركين على فعلهم، فإن أباهم إبراهيم عليه السلام هو الذي بناه، وأمر بتطهيره للطائفين والمصلين، وأن يدعو الناس إلى الحج، للحصول على المنافع الدينية والدنيوية.
التفسير والبيان:
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ.. أي واذكر يا محمد للناس وقت أن جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة، أي مرجعا يرجع إليه للعبادة، وأرشده إليه وأذن له في بنائه. والمراد بذكر الوقت ذكر ما وقع فيه من حادث عظيم، ليتذكر المشركون، ويقلعوا عن عبادة الأوثان إلى عبادة الله الواحد الديان.
وفي هذا تقريع وتوبيخ لمن أشرك بالله في بقعة أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له.
وفيه دليل على أن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت العتيق، وأنه لم يبن قبله بعد رفعه وطمس معالمه في أثناء طوفان نوح عليه السلام، كما
ثبت في الصحيحين عن أبي ذرّ قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أول؟ قال:
«المسجد الحرام» قلت: ثم أي؟ قال: «بيت المقدس» قلت: كم بينهما؟
193
قال: «أربعون سنة».
وقد قال الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً الآيتين [آل عمران ٣/ ٩٦- ٩٧] وقال تعالى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة ٢/ ١٢٥].
أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ.. أي وقلنا له: ابنه على اسمي وحدي، ولا تشرك بي شيئا من خلقي في العبادة، وطهّر بيتي من الشرك والأوثان والأصنام والأقذار أن تطرح حوله، واجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له، فالطائف به يخص العبادة بالله تعالى، لا يفعل ببقعة من الأرض سواها، والقائم في الصلاة أو الدعاء لله، والراكع الساجد لله تعالى فيها.
وقد قرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت، فالطواف عنده، والصلاة إليه، فالقائمون: هم المصلون، وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها وهو القيام والركوع والسجود.
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ.. أي ناد في الناس بالحج، داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، يأتوك راجلين ماشين، وراكبين على كل بعير ضامر مهزول، من كل طريق بعيد. والأذان والتأذين: الاعلام برفع الصوت على نحو ما يكون للصلاة. والمراد هنا: النداء في الناس بأن الله قد كتب عليهم الحج ودعاهم إلى أدائه.
روي أنه لما أمر إبراهيم عليه السلام بالأذان للحج قال: يا ربّ، وما يبلغ صوتي؟ قال: أذّن وعليّ الإبلاغ، فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت، ليثيبكم به الجنة، ويجيركم من عذاب النار، فحجّوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء، لبّيك اللهم لبّيك «١». وهذا معجزة خارقة للعادة، فهو سبحانه قادر على إيصال صوت إبراهيم إلى من يشاء في أنحاء الأرض والسماء.
(١) تفسير القرطبي: ١٢/ ٣٨، وسيأتي تخريج الرواية.
194
وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم حيث قال في دعائه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم ١٤/ ٣٧]. فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحنّ إلى رؤية الكعبة والطواف، والناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.
وقد يستدل بقوله: رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ على أن الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبا لأنه قدّمهم في الذّكر، فدل على الاهتمام بهم، وقوة هممهم، وشدة عزمهم. قال ابن عباس: ما آسى على شيء فاتني، إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا لأن الله يقول: يَأْتُوكَ رِجالًا «١».
والذي عليه أكثر العلماء أن الحج راكبا أفضل، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنه حجّ راكبا، مع كمال قوته صلّى الله عليه وسلم.
وإنما قال: يَأْتُوكَ مع أن الإتيان للبيت الحرام، إشارة إلى أنه الداعي والقدوة لهم بعد، وفيه تشريف إبراهيم.
ثم أبان تعالى سبب النداء إلى الحج وحكمته فقال:
لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ، وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ.. أي أدعهم إلى الحج ليحضروا منافع لهم دينية بأن يحظوا برضوان الله، ودنيوية بما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات، وما يكون في ذلك الاجتماع العظيم من التعارف. وهذا دليل على جواز الاتجار في الحج.
وليذكروا اسم الله أي حمده وشكره والثناء عليه بالتكبير والتسبيح، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، وذلك في أيام معلومات هي أيام النحر الثلاثة أو الأربعة وهو قول الصاحبين ومالك، وقيل: عشر ذي
(١) رواه ابن سعد وابن أبي شيبة والبيهقي وجماعة عنه.
195
الحجة وهو رأي أبي حنيفة والشافعي. وإذا كان ذكر اسم الله بمعنى الحمد والشكر فتكون عَلى للتعليل، ورأى الزمخشري أن ذكر اسم الله كناية عن الذبح والنحر لأن أهل الإسلام لا ينفكّون عن ذكر اسمه إذا ذبحوا أو نحروا، وتكون عَلى للاستعلاء. وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرّب به إلى الله أن يذكر اسمه. واختير هذا الأسلوب ليشير إلى أن ذكر الله وحده دون شرك هو المقصود الأعظم وتوسيط الرزق للحث على الشكر والتقرب بتلك القربة والتهوين عليهم في الإنفاق.
ثم أمر الله تعالى بالأكل من تلك الذبائح أمر إباحة فقال:
فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ أي فاذكروا اسم الله على الذبائح، وكلوا من لحومها، وأطعموا البائس الذي أصابه بؤس أي شدة، الفقير المحتاج.
والأمر بالأكل من الذبائح كما ذكر لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من نسائكهم. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون ندبا، لما فيه من مساواة الفقراء ومواساتهم وإظهار التواضع، ومن هنا استحب الفقهاء أن يأكل الموسع من أضحيته مقدار الثلث.
وثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما نحر هديه، أمر من كل بدنة ببضعة (قطعة من اللحم) فتطبخ، فأكل من لحمها، وحسا من مرقها.
ومذهب الشافعي أن الأكل مستحب، والإطعام واجب، فإن أطعمها جميعها جاز وأجزأ. وقوله: فَكُلُوا التفات إليهم بالخطاب ليؤكد لهم إباحة الأكل من تلك الذبائح.
ثم أمر تعالى بالنظافة وإيفاء النذر والطواف، فقال:
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ، وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ، وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ هذه أوامر بواجبات ثلاثة على سبيل الإيجاب، أي ليزيلوا الأوساخ من على أجسادهم بقص الأظفار وحلق الأشعار ونحوه من الأغسال، وليوفوا نذورهم التي نذروها
196
تقربا إلى الله تعالى من أعمال البر، والنذر: كل ما لزم الإنسان أو التزمه، وليطوفوا طواف الركن أو الإفاضة، وقيل: طواف الوداع، بالبيت العتيق أي القديم، فهو أقدم بيت للعبادة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن بناء الكعبة المشرفة أو البيت الحرام على يد إبراهيم الخليل عليه السلام بأمر من الله تعالى له هدفان:
الأول- إعلان وحدانية الله تعالى وإظهار التوحيد الخالص من شوائب الشرك.
الثاني- تطهير البيت من جميع الأصنام والأوثان والأقذار وكل مظاهر الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء، كما قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج ٢٢/ ٣٠].
والأصح أن الخطاب في ذلك وما يأتي لإبراهيم، وليس لمحمد عليهما الصلاة والسلام.
٢- قوله: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ إعلام بفريضة الحج. وهذا يدل على أن الحج كان مفروضا في زمن إبراهيم عليه السلام، فإن كانت الفرضية باقية لم تنسخ في عهد نبي بعده، كانت الأوامر به في شريعتنا مؤكدة لتلك الفرضية.
وإن نسخت تلك الفرضية، كان وجوب الحج علينا بقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران ٣/ ٩٧]. وذلك في عام الوفود في السنة التاسعة.
وأما آية: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة ٢/ ١٩٦] النازلة في السنة
197
السادسة، فليست صريحة في الإيجاب إذ يحتمل أن المراد وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما، فيكون الشروع فيهما ليس واجبا.
وأما إن النبي صلّى الله عليه وسلم حج حجتين قبل الهجرة فهما نافلتان على ملة أبينا إبراهيم عليه السلام، ثم حج بعد الهجرة حجة الوداع في السنة العاشرة، وهي حجة الإسلام.
وأما إن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يبادر بالحج سنة تسع عام الفرضية لأن الوقت حينئذ كان زمن النسيء (تأخير أزمان الشهور) ولم يكن الزمن الحقيقي قد استقر حتى تعود عشر ذي الحجة إلى مركزها الصحيح من السنة، وقد علم النبي صلّى الله عليه وسلم أنها ستعود إلى مركزها الحقيقي في السنة العاشرة، فتأخر إليها كي يقع حجة في الوقت الحقيقي الذي فرض الله على الناس الحج فيه. وليس على أبي بكر الذي حج في السنة التاسعة ولا على غيره حرج في حجهم ما دام أمر الزمان مختلطا.
ونداء إبراهيم بالحج على جبل أبي قبيس وإسماع صوته إلى الآفاق معجزة، فالله قادر على إيصال صوت إبراهيم إلى من يشاء في أي مكان. أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قال: ربّ قد فرغت، فقال: أذّن في الناس بالحج، قال: يا رب، وما يبلغ صوتي؟ قال:
تعال أذّن، وعلي البلاغ، قال: ربّ كيف أقول؟ قال: قل: «يا أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق» فسمعه أهل السماء والأرض، ألا ترى أنهم يجيبون من أقصى البلاد، يلبّون.
٣- قوله: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ وعد بإجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب. وفيه دليل على جواز كل من المشي والركوب إلى الحج، ولا خلاف في ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل منهما:
198
فرأى بعض المالكية أن المشي أفضل، لما فيه من المشقة على النفس،
ولحديث ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: حجّ النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة
، ولقول ابن عباس المتقدم.
وذهب جمهور الفقهاء منهم الإمام مالك إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلم، ولكثرة النفقة، ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. وأما مجرد تقديم رِجالًا على الركبان فلا يدل على الأفضلية، لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب، ولجواز أن يكون تقديم الرجال على الركبان، للإشارة إلى مسارعة الناس في الامتثال، حتى إن الماشي ليكاد يسبق الراكب.
وترفع الأيدي عند رؤية البيت الحرام في مذهب أحمد وجماعة لما
روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ترفع الأيدي في سبعة مواطن: افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، والصّفا والمروة، والموقفين «١»، والجمرتين».
٤- دلّ قوله: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ على جواز التجارة في الحج قال مجاهد: المنافع: التجارة وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة. ونص الفقهاء على جواز التجارة للحجاج من غير كراهة إذا لم تكن هي المقصودة من السفر، بدليل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة ٢/ ١٩٨] والفضل: التجارة بلا خلاف.
وكلمة مَنافِعَ تدل على حكمة الحج، وأنه شرع لما فيه من منافع عظيمة في الدين والدنيا، فمناسك الحج من أعظم مظاهر الخشية والإخلاص لله في الذكر والدعاء والعبادة، وهي تدل على التجرد من مفاتن الدنيا وزينتها، وتبعث على عدم التعلق بشهواتها وزخارفها. كما أنها بواعث على الرحمة والإحسان، والعدل
(١) موقف عرفات والمشعر الحرام. [.....]
199
والمساواة، والتعاون، إذ يتعاون الناس في أسفارهم، ويتراحمون، ويتعارفون في هذا المؤتمر الأكبر، ويكونون متساوين لا فرق بين حاكم ومحكوم، ولا بين غني وفقير. ثم إنه كان وما يزال الحج محققا لمنافع معيشية لأهل الحجاز.
٥- يرى المالكية أن ذبح الهدي لا يجوز ليلا، للآية: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ لأن الله جعل ظرف النحر هو الأيام لا الليالي. والحق أن اليوم يطلق على النهار، وعلى مجموع النهار والليل. وغير المالكية يرون كراهة الذبح ليلا، لاحتمال الخطأ فيه بسبب الظلمة.
والأيام المعلومة في رأي الإمام مالك وأبي يوسف ومحمد: هي أيام النحر، وهي العيد واليومان بعده. وفي رأي أبي حنيفة والشافعي: هي عشر ذي الحجة، وهي معلومات لأن شأن المسلمين الحرص على معرفتها.
وأيام النحر عند الحنفية والمالكية ثلاثة أيام: العاشر ويومان بعده، وعند الشافعي: إنها أربعة: العاشر وما بعده. والرأي الأول مروي عن جمع من الصحابة. والثاني بدليل
ما روى البيهقي عن جبير بن مطعم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «وكلّ أيام التشريق ذبح»
وهي ثلاثة بعد يوم النحر، لكن الإمام أحمد ضعّف هذا الحديث.
ووقت الذبح بعد النحر في رأي مالك: بعد صلاة الإمام وذبحه، وعند أبي حنيفة: بعد الفراغ من الصلاة دون ذبح، وفي رأي الشافعي: بعد دخول وقت الصلاة ومقدار خطبتين. قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافا بين العلماء في أن من ذبح قبل الصلاة، وكان من أهل المصر أنه غير مضحّ،
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب: «من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم».
وأما أهل البوادي ومن لا إمام له: فمشهور مذهب مالك أنه يتحرى ذبح الإمام أو أقرب الأئمة إليه. وقال الحنيفة: يجزيهم من بعد الفجر.
200
٦- قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْها يراد منه الإباحة، مثل قوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة ٥/ ٢] وقوله: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة ٦٢/ ١٠] أو يراد منه الندب والاستحباب، فيستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته، وأن يتصدق بالأكثر، مع تجويز الصدقة بالكل وأكل الكل عند المالكية. وذلك خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج عن الأكل من الهدايا، فأباح النص الأكل منها أو ندب إليه لقصد مواساة الفقراء.
لكن جواز الأكل من الهدايا ليس عاما في كل هدي، فإن دم الجزاء لا يجوز لصاحبه الأكل منه اتفاقا، ودم التطوع يجوز الأكل منه اتفاقا.
أما دم التمتع والقران: فقال الشافعية: إنه دم جبر، فلا يجوز لصاحبه الأكل منه. ورأى الحنفية أنه دم شكر، فأباحوا لصاحبه الأكل منه، عملا بظاهر الآية، فإنها رتبت قضاء التفث على الذبح والطواف، ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة والقران، فإن سائر الدماء يجوز ذبحها قبل هذه الأفعال وبعدها، فدل ذلك على أن المراد في الآية دم المتعة والقران.
وثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم أكل من البدن التي ساقها في حجة الوداع، وقد كان قارنا على الراجح عندهم.
وإذا كان يجوز إطعام الأغنياء منها، جاز لصاحب الذبيحة أن يأكل منها، ولو كان غنيا.
ومشهور مذهب مالك رضي الله عنه أن صاحب الذبيحة لا يأكل من ثلاث من دماء الكفارات: جزاء الصيد، ونذر المساكين، وفدية الأذى، ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محلّه، واجبا كان أو تطوعا. وإذا أكل مما منع منه، يغرم في قول راجح للمالكية قدر ما أكل لأن التعدي إنما وقع على اللحم، وفي قول آخر: يغرم هديا كاملا.
٧- قوله تعالى: وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ظاهره وجوب إطعام الفقراء
201
من الهدايا، وبه أخذ الشافعي، وقال أبو حنيفة: إنه مندوب لأنها دماء نسك، فتتحقق القربة فيها بإراقة الدم، أما إطعام الفقراء فهو مندوب.
ويستحب عند أكثر العلماء أن يتصدق من أضحيته وهديه بالثلث، ويطعم الثلث، ويأكل هو وأهله الثلث. ولم يثبت هذا التقسيم عند مالك. والمسافر في رأي الجمهور يطالب بالأضحية كما يطالب بها الحاضر، لعموم الخطاب بها.
ولا يطالب بها عند أبي حنيفة. كما لا يطالب عند مالك من المسافرين الحاج بمنى، فلم ير عليه أضحية.
٨- لا يجوز بيع شيء من الهدايا، لاقتصار النص على الأكل والطعام، ولما
رواه البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال: «أمرني النبي صلّى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، فقال: اقسم جلودها وجلالها، ولا تعط الجازر منها شيئا»
فلا يجوز بيع شيء منها بالأولى.
٩- قوله: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ دليل على وجوب التحلل الأصغر، وذلك بالحلق أو التقصير.
١٠- قوله: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ يدل على وجوب الوفاء بالنذر وإخراجه إن كان دما أو هديا أو غيره، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه وفاء بالنذر. وكذلك جزاء الصيد، وفدية الأذى لأن المطلوب أن يأتي به كاملا من غير نقص لحم ولا غيره، فإن أكل من ذلك، كان عليه هدي كامل.
ولا وفاء بنذر المعصية
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد عن جابر: «لا وفاء لنذر في معصية الله»
وقوله فيما رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن عائشة: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه».
١١- قوله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ يدل على لزوم هذا الطواف، والمراد به طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج. قال الطبري: لا خلاف بين المتأولين في ذلك.
202
أما القول بأنه طواف الوداع (الصّدر) فهو بعيد لأن الطواف الذي يلي قضاء التفث إنما هو طواف الإفاضة، فلا مناسبة هنا لطواف الوداع.
وللحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع.
أما طواف القدوم فهو سنة عند الجمهور، واجب على الأصح عند المالكية، وعكسه طواف الوداع: مستحب عند المالكية، واجب عند الجمهور، وأما طواف الإفاضة فهو فرض وركن لا يتم الحج إلا به بالاتفاق، لقوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ.
تعظيم حرمات الله وشعائره
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٥]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤)
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)
203
الإعراب:
ذلِكَ خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر والشأن ذلك المذكور.
مِنَ الْأَوْثانِ مَنْ: لتبيين الجنس لأنه أعم في النهي.
حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ حُنَفاءَ: حال من ضمير فَاجْتَنِبُوا وهو عامله، وكذلك غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ.
مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ القراءة المشهورة جرّ الْقُلُوبِ بالإضافة، وتقرأ برفع الْقُلُوبِ بالمصدر لأن «التقوى» مصدر كالدعوى، فيرتفع به ما بعده.
البلاغة:
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ تأكيد بإعادة الفصل بالفعل، ويسمى الإطناب، للعناية بشأن كل منهما على حدة.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ تشبيه تمثيلي لأن وجه الشبه منتزع من متعدد، وكذا قوله: أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ تشبيه تمثيلي. والعطف فيه إما على قوله: خَرَّ مِنَ السَّماءِ أو على «تخطفه الطير».
وَجَبَتْ جُنُوبُها جناس ناقص.
المفردات اللغوية:
ذلِكَ أي الأمر هكذا، ويستعمل للفصل بين كلامين، كقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص ٣٨/ ٥٥] وَمَنْ يُعَظِّمْ التعظيم: العلم بوجوب تكاليف الشرع والعمل بموجبه. حُرُماتِ اللَّهِ جمع حرمة، والحرمة: الأحكام وسائر ما لا يحل انتهاكه، عن زيد بن أسلم: الحرمات خمس: الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمشعر الحرام. وقال المتكلمون: ولا تدخل النوافل في حرمات الله تعالى. فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي فالتعظيم خير ثوابا في الآخرة، للعلم بأنه يجب القيام بمراعاة الحرمات وحفظها.
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي أحل أكلها بعد الذبح. إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي إلا المتلو عليكم تحريمه في آية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة ٥/ ٣] وهو ما حرّم منها لعارض كالموت وغيره، فلا تحرموا منها غير ما حرّمه الله كالبحيرة والسائبة، والاستثناء منقطع، ويجوز أن يكون متصلا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ مَنْ للبيان، أي الذي هو الأوثان، كما تجتنب الأنجاس، وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها، والتنفير عن عبادتها. والرجس: القذر، أي اجتنبوا عبادة الأوثان.
204
والأوثان جمع وثن، وسمي الصنم وثنا لأنه ينصب ويركز في مكانه لا يبرح عنه، وقد يسمى الصنم تمثالا إذا كان على صورة الحيوان التي يحيى بها.
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ أي الشرك بالله في تلبيتكم، أو شهادة الزور،
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن خريم بن فاتك: «عدّت شهادة الزور الإشراك بالله» ثلاث مرات، وتلا هذه الآية.
والزور: الكذب والانحراف. وهو تعميم بعد تخصيص، فإن عبادة الأوثان رأس الزور، كأنه لما حث على تعظيم الحرمات، أتبعه بالنهي عن تعظيم الأوثان والافتراء على الله بأنه حكم بذلك.
حُنَفاءَ لِلَّهِ مخلصين لله، مسلمين، عادلين عن كل دين سوى دينه، جمع حنيف: وهو المائل عن الدين الباطل إلى الدين الحق غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ تأكيد لما قبله. خَرَّ سقط.
فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أي تأخذه بسرعة، والخطف: الاختلاس بسرعة. تَهْوِي تسقط.
سَحِيقٍ بعيد، أي فهو لا يرجى خلاصه، فإن الشيطان قد طرح به في الضلالة. وأو:
للتخيير، كما في قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ [البقرة ٢/ ١٩] أو للتنويع، فإن من المشركين من لا خلاص له أصلا، ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة، ولكن على بعد.
ذلِكَ خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك المذكور. وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ أي دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه، أو الهدايا لأنها من معالم الحج، والشعائر: جمع شعيرة أي علامة، ويراد بها الهدايا، وتعظيمها أن تختار من النوع الحسن السمين الغالي الثمن. وسميت شعائر لتعليمها بأنها هدي كالزينة أو الجرح البسيط.
فَإِنَّها أي فإن تعظيم البدن التي تهدى للحرم بأن تستحسن وتستسمن. مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات. وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور.
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كركوبها والحمل عليها ما لا يضرها. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي وقت نحرها. مَحِلُّها أي مكان حل نحرها. إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي عنده، والمراد: الحرم جميعه.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أي ولكل أهل دين تقدموا مَنْسَكاً المراد هنا متعبدا أو قربانا يتقربون به إلى الله تعالى وهو الذبح تقربا إلى الله، فهو اسم مكان، والأصل في النسك والمنسك: العبادة مطلقا، وشاع استعماله في أعمال الحج. عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ عند ذبحها. فَلَهُ أَسْلِمُوا انقادوا. الْمُخْبِتِينَ المطيعين الخاشعين المتواضعين. وَجِلَتْ خافت.
ما أَصابَهُمْ من البلايا. وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ في أوقاتها. يُنْفِقُونَ يتصدقون.
205
المناسبة:
الكلام مرتبط بما قبله بنحو واضح، فبعد أن أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بالنداء للحج، أبان ثواب تعظيم أحكام الله وشرعه ومنها مناسك الحج، وإباحة ذبح الأنعام وأكلها إلا ما استثني تحريمه، ثم أتبعه بالنهي عن تعظيم الأوثان، والافتراء على الله، والكذب في أداء الشهادات، وهلاك من يشرك بالله، ثم أوضح كون تعظيم الشعائر من علائم التقوى ودعائمها، وأن محل نحرها هو الحرم المكي، كما أن لكل أمة أو جماعة مؤمنة ذبائح يتقربون بها إلى الله تعالى.
التفسير والبيان:
ذلِكَ، وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ... أي ذلك هو المأمور به من الطاعات في أداء المناسك وثوابها الجزيل، ومن يعظم أحكام الله بالعلم بوجوبها والعمل بموجبها، بأن يجتنب المعاصي والمحارم، ويلتزم بالأوامر، فله على ذلك ثواب جزيل، والثواب يكون على الأمرين معا: فعل الطاعات، واجتناب المحظورات أو ترك المحرّمات.
والحرمات: جمع حرمة وهي بمعنى ما حرم الله من كل منهي عنه في الحج من الجدال والجماع والفسوق والصيد، وتعظيمها يكون باجتنابها. وقيل: الحرمات:
جميع التكاليف الشرعية في الحج وغيره، وقيل: هي مناسك الحج خاصة، وقيل: إنها حرمات خمس: المسجد الحرام (الكعبة) والبيت الحرام، والمشعر الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام. وتعظيمها باجتناب المعاصي، ومنها الاعتداءات فيها.
وضمير فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ راجع إلى التعظيم المفهوم من يُعَظِّمْ أي أن تعظيم هذه الأشياء سبب للمثوبة المضمونة عند الله تعالى، وعلى هذا لا يكون خَيْرٌ أفعل تفضيل.
206
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي وأبيح لكم أيها الناس ذبح الأنعام وأكلها إلا ما استثني وتلي عليكم في آية المائدة وغيرها، وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به.. إلخ ولم يحرم عليكم ما حرمه أهل الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. فلا يراد من قوله يُتْلى ما ينزل في المستقبل، كما هو ظاهر الفعل المضارع، بل المراد: ما سبق نزوله، ويكون التعبير بالمضارع للتنبيه على أن ذلك المتلو ينبغي استحضاره والالتفات إليه.
والاستثناء متصل إن أريد من المستثنى: المحرم من خصوص الأنعام، وهو منقطع إن أريد به ما يشمل الدم ولحم الخنزير وغيرهما، والراجح الأول والجملة معترضة لدفع الإيهام بأن تعظيم الحرمات يقضي باجتناب الأنعام، كما قضي باجتناب الصيد في الحرم وفي أداء المناسك في الحج والعمرة.
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ أي تجنبوا القذر من الأصنام، وسميت رجسا تقبيحا لها وتنفيرا منها، وابتعدوا عن عبادة الأوثان، فذلك رجس، والمراد من اجتنابها: اجتناب عبادتها وتعظيمها، وتأكيدا للأمر أوقع الاجتناب على ذاتها. والجملة مرتبطة بقوله: وَمَنْ يُعَظِّمْ.. أي إذا كان تعظيم حرمات الله فيه الخير ورضا الله تعالى، وكان من تعظيمها اجتناب ما نهى الله عنه، فاجتنبوا الأوثان، ولا تعظموها، ولا تذبحوا لها كما كان يفعل أهل الجاهلية.
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ أي وابتعدوا عن الكذب والباطل وشهادة الزور، فذلك كله يدخل تحت عبارة قَوْلَ الزُّورِ والأحسن التعميم، حتى يشمل شهادة الزور،
أخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» ثلاثا، وتلا هذه الآية.
207
وتمسكوا بهذه الأمور حنفاء لله، أي مخلصين له الدين، منحرفين عن الباطل، قصدا إلى الحق، دون إشراك بالله أحدا. والحنيف: المائل عن الديانات الباطلة إلى الدين الحق.
ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى بجملة مستأنفة مقررة لوجوب اجتناب الشرك، فقال: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ... أي ومن أشرك مع الله إلها آخر، وعبد غيره، فقد خسر خسرانا عظيما وهلك هلاكا مبينا، وهو في شركه شبيه بمن سقط من جو السماء، فتخاطفته الطيور، أي قطعته ومزقته في الهواء، وأخذ كل منها بقطعة منه، فتم هلاكه أي هو كمن عصفت به الريح، فهوت به في مكان بعيد مهلك، لا يكون له منه خلاص ولا نجاة. والغرض من هذين التشبيهين التمثيليين تقبيح حال الشرك والتنفير منه.
ثم ذكر الله تعالى سبب تعظيم الشعائر فقال:
ذلِكَ، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ، فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي الأمر ذلك المذكور، ومن يعظم الهدايا (المواشي التي تذبح هدية للحرم) لأنها من معالم الحج، بأن يختارها جسيمة سمينة غالية الثمن، أو من يعظم أوامر الله ومناسك الحج، ومنها تعظيم الهدايا والبدن باستسمانها واستحسانها، كما قال ابن عباس، فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها، كما ذكر في الكشاف. فقوله: فَإِنَّها عائد إلى حالة المعظم التي يدل عليها فعل وَمَنْ يُعَظِّمْ أو التعظيمة الواحدة. قال ابن العربي عن الشعائر: والصحيح أنها البدن.
روي أنه صلّى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة، فيها جمل لأبي جهل، في أنفه برة من ذهب، أي حلقة من ذهب.
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر قال: أهدى عمر نجيبا، فأعطي بها ثلاث مائة دينار، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال:
208
يا رسول الله، إني أهديت نجيبا، فأعطيت بها ثلاث مائة دينار، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا؟ قال: «لا، أنحرها إياها».
وكان ابن عمر يسوق البدن مجلّلة بالقباطي- ثياب مصرية غالية الثمن- فيتصدق بلحومها وجلالها.
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ أي لكم في البدن منافع دنيوية من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها وركوبها، إلى أجل مسمى أي إلى أن تنحر، ويتصدق بلحومها، ويؤكل منها.
ويجوز ركوبها، حتى بعد أن تسمى بدنا أو هديا لما
ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة قال: «اركبها» قال: إنها بدنة، قال: «اركبها ويحك» في الثانية أو الثالثة.
ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي ثم مكان حل نحر الهدي، وانتهاؤه عند البيت العتيق وهو الكعبة، أي الحرم جميعه، إذ الحرم كله في حكم البيت الحرام، كما قال تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة ٥/ ٩٥] وقال: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح ٤٨/ ٢٥]. وعلى هذا يكون المعطوف بثم في الآية كلاما تاما أريد به بيان المكان الذي تذبح فيه الهدايا بعد ما بين حكم تعظيمها والانتفاع بها إلى الأجل المعين.
وسبب تسميته بالبيت العتيق هو كما
أخرج البخاري في تاريخه، والترمذي والحاكم وابن جرير وغيرهم عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنما سماه الله البيت العتيق لأنه أعتقه من الجبابرة، فلم يظهر عليه جبار قط».
ثم أخبر الله تعالى عن مشروعية ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله في جميع الملل فقال:
ووَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً أي جعلنا لأهل كل دين سلف ذبحا
209
يذبحونه تقربا إلى الله تعالى، وذلك ليس خاصا بأمة محمد صلّى الله عليه وسلم وإنما هو في كل الملل. والصحيح كما قال ابن العربي أن المنسك: هو ما يرجع إلى العبادة والتقرب.
لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي شرعنا لهم سنة ذبح الأنعام، لكي يذكروا اسم الله حين ذبحها، أي عند الشروع فيه، ويشكروه على نعمه التي أنعم بها عليهم.
ويؤيده ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، فسمّى وكبّر، ووضع رجله على صفاحهما.
وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن زيد بن أرقم قال: قلت يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال:
«سنة أبيكم إبراهيم» قالوا: ما لنا منها؟ قال: «بكل شعرة حسنة» قال:
فالصوف؟ قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة».
فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، فَلَهُ أَسْلِمُوا، وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ أي فإن معبودكم واحد، وإن تنوعت شرائع الأنبياء، ونسخ بعضها بعضا، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال سبحانه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء ٢١/ ٢٥]. وقوله: فَإِلهُكُمْ..
بمثابة العلة لما قبله من تخصيص اسمه الكريم بالذكر لأن تفرده تعالى بالألوهية يقتضي ألا يذكر على الذبائح غير اسمه. وإنما قال: إِلهٌ واحِدٌ ولم يقل:
«فإلهكم واحد» لإفادة أنه تعالى واحد في ذاته وفي ألوهيته.
ومتى كان الإله واحدا فله أسلموا أي فيجب تخصيصه بالعبادة، والاستسلام له والانقياد له في جميع الأحكام. وقوله فَلَهُ أَسْلِمُوا مرتب بالفاء على الحكم بوحدانية الإله.
وبشر أيها النبي بالثواب الجزيل المخبتين، أي المتواضعين الخاشعين لله، من
210
الخبت وهو المطمئن المنخفض من الأرض. وسر تحول الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم هو إظهار عظمة الألوهية وقهرها في مقام الأمر والنهي للعباد، فلما انتهى أمر التكليف، وجه الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم لتبليغه الناس وعد الله للعاملين المخلصين.
وأوصافهم أربعة هي ما يأتي:
١- الخوف والخشوع عند ذكر الله: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي إذا ذكر الله خافت منه قلوبهم.
٢- الصبر على المصائب: وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ أي الذين يصبرون على الآلام والمشقات في طاعة الله تعالى.
٣- إقامة الصلاة: وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ أي الذين يؤدون الصلاة في أوقاتها تامة الأركان والشرائط، مع الخشوع لله تعالى.
٤- الإنفاق مما رزقهم الله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي وينفقون من بعض ما آتاهم الله من طيب الرزق، على أهليهم وأقاربهم وفقرائهم ومحاويجهم، ويحسنون إلى الخلق، مع محافظتهم على حدود الله تعالى.
وهذه بخلاف صفات المنافقين، فإنهم بالعكس من هذا كله.
ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال ٨/ ٢] وقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر ٣٩/ ٢٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
أفادت الآيات الأحكام التالية:
١- إن تعظيم حرمات الله أي أفعال الحج وغيرها من امتثال الأوامر
211
واجتناب النواهي خير عند الله من التهاون بشيء منها، وسبب للمثوبة والتكريم عند الله تعالى، فإن للأوامر حرمة المبادرة إلى الامتثال، وللنواهي حرمة الانكفاف والانزجار.
٢- إباحة الأكل من لحوم الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، إلا المذكور في القرآن من المحرّمات، وهي الميتة والموقوذة وأخواتها.
٣- يجب اجتناب عبادة الأصنام والأوثان، فإنها رجس أي شيء قذر، وهي نجسة نجاسة حكمية. والوثن: التمثال من خشب أو حديد أو ذهب أو فضة ونحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها. والنصارى تنصب الصليب وتعبده وتعظمه، فهو كالتمثال أيضا.
٤- ويجب أيضا اجتناب قول الزور، والزور: الباطل والكذب، وهو يشمل خلط أهل الجاهلية في تلبيتهم وقولهم فيها: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، ويشمل أيضا قولهم في البحائر والسوائب: إنها حرام، وإن تحريمها من الله، وكذلك يشمل شهادة الزور الباطلة.
ففي الآية وعيد على شهادة الزور، ولكن ليس في الآية ما يدل على تعزير شاهد الزور لأنها اقتصرت على تحريم شهادة الزور. وإنما يعزر من قبيل المصلحة والسياسة الشرعية، التي للحاكم أن يسير على نهجها لحفظ الحقوق العامة، وردع أهل الفساد. وهذا رأي المالكية وأبي يوسف ومحمد،
جاء في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور وقول الزور»
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم متكئا، فجلس، فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت.
٥- يلزم الإخلاص في العبادة لله، والاستقامة على أمره، فقوله:
حُنَفاءَ لِلَّهِ معناه مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق، تاركين الدين الباطل.
212
٦- المشرك هالك حتما، خاسر الآخرة، فهو يوم القيامة بمنزلة من لا يملك لنفسه نفعا، ولا يدفع عن نفسه ضرا ولا عذابا، فهو بمنزلة من خرّ من السماء، فهو لا يقدر أن يدفع شيئا عن نفسه، ونهايته الهلاك إما بأن تقطعه الطيور بمخالبها، أو تعصف به الريح، وتسقطه في مكان قفر بعيد لا نجاة له فيه.
٧- إن تعظيم شعائر الله (وهي الأنعام التي تساق هديا للكعبة، كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، أو هي جميع مناسك الحج، والصحيح أنها البدن كما قال ابن العربي) من علائم التقوى ودعائمها. وتعظيمها يكون باختيارها سمينة حسنة غالية الأثمان. والتقوى: هي الخشية التي تبعث على اتباع الأوامر واجتناب النواهي. والإخلاص والتقوى والخشية غاية ما يتمنى المرء أن يدركه في هذه الدنيا، ليصل به إلى سعادة الآخرة.
وفي الآية حث على التقوى، وبعث للهمم على الاهتمام بأمرها.
٨- يجوز الانتفاع بالبدن بالركوب والحلب وأخذ الصوف وغيرها، إلى وقت الذبح، فقد فسر الشافعية الأجل المسمى في الآية بوقت نحر الهدي.
وقالوا: إنما يجوز الانتفاع للحاجة، ولو لم يكن هناك اضطرار. ولا يجوز لغير حاجة، والأولى أن يتصدق بمنافعها، ولكن لا يضمن شيئا من منافع الهدي إلا إذا أدى الركوب إلى الإنقاص البين لقيمتها، ودليلهم
حديث أنس المتقدم المتفق عليه بين أحمد والشيخين: «اركبها ولو كانت بدنة»
وحديث جابر فيما رواه أبو داود: «اركبوا الهدي المعروف حتى تجدوا ظهرا».
وفسر الحنفية الأجل المسمى في الآية بوقت تعيينها وتسميتها هديا. ولا يجوز الانتفاع بها بعد السوق إلا في حالة الاضطرار، ودليلهم
ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر أنه سئل عن ركوب الهدي، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا»
فالجواز خاص بحالة الضرورة، فهو مقيد والمقيد يقضي على المطلق في حديث
213
أنس، فإن لم تكن ضرورة وجب ضمان ما ينتفع به لأنه ضار حقا للفقراء، فعليه أن يعوضهم مقدار قيمته.
والمشهور من مذهب المالكية أنه يكره الانتفاع بالبدن بركوبها ووبرها، ولو كان لبنها فاضلا عن حاجة أولادها. وهذا قريب من مذهب الحنفية.
وذهب بعض العلماء إلى وجوب ركوب البدنة،
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «اركبها».
وقد أخذ أحمد وإسحاق وأهل الظاهر بظاهر هذا الحديث. وهذا يغاير فعل النبي صلّى الله عليه وسلم لأنه لم يركب هديه ولم يركبه غيره.
٩- إن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي ينتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق. وأما ذبح البدن والهدي فلا يصح إلا في الحرم لأنه تعالى جعل محلها إلى البيت العتيق، قال عطاء: ينتهي إلى مكة.
١٠- الإخبار بجعل نسك الذبح لكل الأمم فيه تحريك النفوس إلى المسارعة إلى هذا البر، والاهتمام بهذه القربة، وفيه إشعار بأن أهل الجاهلية الذين كانوا يذبحون لأصنامهم، ويخلطون في التسمية على ذبائحهم، إنما كانوا يفعلون ذلك من عند أنفسهم، واتباعا لمحض شهواتهم وأهوائهم، فإن شرائع الله كلها قد اتفقت على أن التقرب إنما يكون لله وحده، وباسمه وحده إذ ليس للناس إلا إله واحد.
١١- الإله الواحد هو الرازق والمشرع والمكلّف بالتكاليف الدينية، فتجب إطاعته، والانقياد لحكمه، وأن يكون الذبح له، وأن يذكر اسمه عند الذبح، وأن يخلص الذبح له لا لغيره أو مع غيره لأنه رازق ذلك. وظاهر الآية:
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً وجوب ذكر اسم الله على الذبيحة، ووجوب اعتقاد أن الله واحد، ووجوب الإسلام بمعنى الإخلاص لله في العمل.
214
١٢- للمخبتين المتواضعين الخاشعين من المؤمنين البشارة بالثواب الجزيل.
وأوصافهم في الآية أربعة كما تقدم: وهي الخوف والخشوع عند ذكر الله لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم وكأنهم بين يديه، والصبر على المصائب ومشاق الطاعات، وإقامة الصلاة أهم التكاليف البدنية، والإنفاق مما رزقهم الله من فضله، وهذا يشمل الزكاة المفروضة التي هي أهم التكاليف المالية، وصدقة التطوع.
والخوف عند ذكر الله يحصل عند استحضار وعيد الله وعذابه، وفي حال أخرى يطمئن المؤمن الصادق بوعد الله، كما قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد ١٣/ ٢٨] فإذا ذكر وعد الله واستحضر رحمته وسعة عفوه، اطمأن قلبه، وسكن روعه، فلا يكون هناك تعارض بين الآيتين.
ويؤخذ من الآية أن التقوى والخشية والصبر على المكاره، والمحافظة على الصلاة، والرحمة بالفقراء والإحسان إليهم من أعظم موجبات نيل رضا الله تعالى.
التسمية عند ذبح البدن والأكل والإطعام منها
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)
215
الإعراب:
وَالْبُدْنَ منصوب بفعل مقدر، تقديره: وجعلنا البدن، جعلناها لكم فيها خير.
وخَيْرٌ مرفوع بالظرف ارتفاع الفاعل بفعله، تقديره: كائنا لكم فيها خير. وصَوافَّ حال من هاء وألف عَلَيْها وهو ممنوع من الصرف لأنه جمع بعد ألفه حرفان، أي مصطفّة.
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها قرئ ينال بالياء والتاء، فمن قرأ بالتذكير أراد معنى الجمع، ومن قرأ بالتاء بالتأنيث أراد معنى الجماعة، والفصل بين الفعل والفاعل بالمفعول يقوي التذكير ويزيده حسنا.
البلاغة:
الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ بينهما طباق لأن القانع: المتعفف، والمعتر: السائل.
الْمُحْسِنِينَ الْمُخْبِتِينَ- في الآية السابقة- سجع مستحسن.
المفردات اللغوية:
وَالْبُدْنَ جمع بدنة، وهي الإبل خاصة، ذكرا أو أنثى، لعظم بدنها، مثل ثمرة وثمر وثمر، ويشاركها البقرة في الحكم لا في الاسم لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه الجماعة عن جابر: «البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة». شَعائِرِ اللَّهِ أعلام دينه. لَكُمْ فِيها خَيْرٌ نفع في الدنيا، وأجر في العقبى، أي لكم فيها منافع دينية ودنيوية. فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها عند نحرها أو ذبحها، بأن تقولوا: الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، اللهم منك وإليك. صَوافَّ قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن، جمع صافّة وقرئ صوافن من صفن الفرس: إذا قام على ثلاث وطرف سنبك الرابعة لأن البدنة تعقل إحدى يديها وتقوم على ثلاث وقرئ أيضا صوافيا بالتنوين وصوافي أي خوالص لوجه الله.
وَجَبَتْ جُنُوبُها سقطت على الأرض بعد النحر، وهو وقت الأكل منها، وهو كناية عن الموت. فَكُلُوا مِنْها إن شئتم. وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ أي المتعفف الذي يقنع بما يعطى ولا يسأل ولا يتعرض، والمعتر: السائل أو المتعرض. كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ أي مثل ما وصفنا من نحرها قياما، سخرناها لكم مع عظمها وقوتها، بأن تنحر وتأخذوها منقادة.
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها أي لا يرفعان إليه. وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ أي يرفع إليه منكم العمل الصالح الخالص له، مع الإيمان. هَداكُمْ أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه. الْمُحْسِنِينَ الموحدين المخلصين لله.
216
سبب النزول: نزول الآية (٣٧) :
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: كان أهل الجاهلية يضمخون البيت بلحوم الإبل ودمائها، فقال أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم:
فنحن أحق أن نضمخ، فأنزل الله: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها الآية.
المناسبة:
بعد الترغيب والحث على التقرب إلى الله بالأنعام كلها، خص الله تعالى الإبل، لعظمها وكثرة منافعها.
التفسير والبيان:
يمتن الله تعالى على عباده بأن جعل البدن قربة عظيمة تهدى إلى بيته الحرام، بل هي أفضل ما يهدى إليه، فقال:
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي جعلنا لكم الإبل ومثلها البقر من علائم دين الله، وأدلة طاعته، ففي ذبحها في الحرم ثواب كبير في الآخرة، ونفع عظيم بلحومها للفقراء في الدنيا، وبالركوب عليها، وأخذ لبنها.
والبدن تطلق في رأي أبي حنيفة وآخرين من التابعين والصحابة على الإبل والبقر، روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أنه قال: كنا ننحر البدنة عن سبعة، فقيل: والبقرة؟ قال: وهل هي إلا من البدن. وقال ابن عمر رضي الله عنهما:
لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر.
ومذهب الشافعية: أنه لا تطلق البدن في الحقيقة إلا على الإبل، وإطلاقها على البقر مجاز، فلو نذر بدنة لا تجزئه بقرة، وبدليل قوله تعالى: صَوافَّ ووَجَبَتْ جُنُوبُها فنحر الحيوان قائما لم يعهد إلا في الإبل خاصة، ويؤيده
217
ما رواه أبو داود وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة»
فإن العطف يقتضي المغايرة. وأما قول جابر وابن عمر المتقدم فيحمل على أنهما أرادا اتحاد الحكم فيهما. وهذا هو الظاهر والأصح لغة.
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ أي فاذكروا اسم الله على البدن عند نحرها وكونها قائمات صافات الأيدي والأرجل، بأن تقولوا: بسم الله والله أكبر، اللهم منك وإليك.
فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها، فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ أي إذا سقطت على الأرض وزهقت روحها أو ماتت، فيباح لكم الأكل منها، وعليكم الإطعام منها للفقراء، سواء المتعفف عن السؤال، والسائل المتعرض، أي كلوا وأطعموا، وقوله: فَكُلُوا مِنْها أمر إباحة، وقال مالك: يستحب ذلك، وقال بعض العلماء: يجب، والظاهر أنه لا يجب الأكل منها، فإن السلف متفقون على أنه لا يجب الأكل من شيء من الهدايا، وإنما ذلك لرفع التحرج عن الأكل من الهدايا الذي كان عليه أهل الجاهلية، فالمراد: إباحة الأكل أو الندب.
وأما قوله: وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ فظاهره كما تقدم وجوب إطعام الفقراء من الهدي، وبه أخذ الشافعي، فأوجب إطعام الفقراء منها، وذهب أبو حنيفة إلى أن الإطعام مندوب لأنها دماء نسك، فتتحقق القربة منها بإراقة الدم، أما إطعام الفقراء فهو باق على حكمه العام وهو الندب.
كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي من أجل هذا المذكور من الخير في ذبح الأنعام والأكل منها وإطعام الفقراء أو مثل هذا التسخير، ذللناها لكم، مع عظمتها وقوتها، وجعلناها منقادة لكم، خاضعة لرغباتكم ومشيئتكم بالركوب والحلب والذبح، لكي تشكروا الله على نعمه، بالتقرب إليه، والإخلاص في
218
العمل. والخلاصة: أنها نعمة جليلة تستحق الشكر والحمد، فقوله تعالى:
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تعليل لما قبله. وكلمة «لعل» ليست للرجاء الذي هو توقع الأمر المحبوب لأنه مستحيل على الله تعالى لأنه ينبئ عن الجهل بعواقب الأمور، فتكون للتعليل بمعنى «كي». ونظير الآية قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً، فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ، أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس ٣٦/ ٧١- ٧٣].
ثم ذكر الله تعالى الهدف من ذبح الأنعام فقال:
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها.. أي إنما شرع الله لكم نحر هذه الهدايا والضحايا، لتذكروه عند ذبحها، ولن يصل إلى الله شيء من لحومها ولا من دمائها، ولكن يصله التقوى والإخلاص، وترفع إليه الأعمال الصالحة. وكان أهل الجاهلية إذا ذبحوها لآلهتهم، وضعوا عليها من لحوم قرابينهم، ونضحوا عليها من دمائها، وأراد المسلمون أن يفعلوا مثلهم، فنزلت الآية: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها..
ثم كرر تعالى ذكر تسخير الأنعام وتذليلها للناس لأن في الإعادة تذكيرا بالنعمة، الذي يبعث على شكرها، والثناء على الله من أجلها، والقيام بما يجب لعظمته وكبريائه، فقال:
كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ أي من أجل هذا سخر لكم البدن وذللها، أو هكذا سخرها، لتعظموا الله وتشكروه على ما أرشدكم إليه لدينه وشرعه، وما يحبه ويرضاه، ونهاكم عما يكره، ويأبى مما هو ضارّ غير نافع.
ثم وعد المهديين الراشدين بقوله:
219
وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ أي وبشر يا محمد بالجنة المحسنين في عملهم، القائمين بحدود الله، المتبعين ما شرع لهم، الطائعين أوامره، المصدقين رسوله فيما أبلغهم، وجاءهم به من عند ربه عز وجل.
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من الآيات ما يأتي:
١- يدل الاقتصار على البدن مع جواز نحر الهدي من بقية الأنعام على أن البدن في الهدايا أفضل من غيرها من البقر والغنم، ولقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ، وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ، وَلَا الْهَدْيَ، وَلَا الْقَلائِدَ، وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [المائدة ٥/ ٢].
وأما إطلاق البدنة على البعير، فمتفق عليه، وأما إطلاقها على البقرة ففيه قولان تقدما: قول لأبي حنيفة أنها تطلق، وقول للشافعي أنها لا تطلق، والأصح أنها لا تطلق عليها لغة، وإنما تطلق عليها شرعا، بدليل
الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن جابر بن عبد الله قال: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نشترك في الأضاحي: البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة».
٢- يندب نحر الإبل وهي قائمة معقولة إحدى القوائم لقوله تعالى:
صَوافَّ ولا يجوز أن يؤكل منها بعد نحرها حتى تفارقها الحياة.
٣- قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ أمر، ومقتضاه الوجوب، وقد أخذ بظاهره بعض الأئمة، فأوجبوا التسمية على الذبيحة، والأصح أنها مندوبة، والأمر مؤول على الندب، أو على الشكر والثناء.
ولا يجوز نحر الهدايا والأضاحي قبل الفجر من يوم النحر بالإجماع، فإذا طلع الفجر حلّ النحر بمنى، وليس على الحجاج انتظار نحر إمامهم بخلاف
220
الأضحية في سائر البلاد. والمنحر: منى لكل حاج، ومكة لكل معتمر، ولو نحر الحاج بمكة، والمعتمر بمنى لم يكن به بأس.
٤- فَكُلُوا مِنْها أمر معناه الندب، قال القرطبي: وكل العلماء قالوا:
يستحب أن يأكل الإنسان من هديه، وفيه أجر وامتثال إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم، كما تقدم.
وقال الشافعي: الأكل مستحب، والإطعام واجب في دماء التطوع، أما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا، كما تقدم.
وعلى هذا يكون ظاهر الأمر في الأكل إما الندب وإما الإباحة. وأما ظاهر الأمر في الإطعام فهو إما الوجوب كما قال الشافعي، وإما الندب كما قال أبو حنيفة.
٥- يجمع عند الذبح أو النحر بين التسمية، لقوله تعالى في الآية المتقدمة:
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها وبين التكبير، لقوله هنا: لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يجمع بينهما إذا نحر هديه، فيقول:
بسم الله والله أكبر،
وفي الحديث الصحيح عن أنس قال: ضحّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكبشين أملحين «١» أقرنين، ورأيته يذبحهما بيده، ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما «٢»، وسمّى وكبّر.
وقد أوجب أبو ثور التسمية، واستحب بقية العلماء ذلك. وكره المالكية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم عند التسمية في الذبح، وقالوا: لا يذكر هنا إلا الله وحده. وأجازها الشافعي عند الذبح.
(١) الأملح: الذي بياضه أكثر من سواده.
(٢) الصفاح: الجوانب، والمراد: الجانب الواحد من وجه الأضحية، وإنما ثني إشارة إلى أنه فعل ذلك في كل منهما.
221
وذهب الجمهور إلى أن قول المضحي: اللهم تقبل مني، جائز، وكره ذلك أبو حنيفة، ويرد عليه
الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، وفيه: «ثم قال: باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد» ثم ضحّى به.
وكره مالك قولهم: اللهم منك وإليك، وقال: هذه بدعة. وأجاز ذلك ابن حبيب من المالكية والحسن البصري، بدليل
ما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله: أنه صلّى الله عليه وسلم قال عند الذبح: «اللهم منك ولك عن محمد وأمته، باسم الله والله أكبر» ثم ذبح.
فلعل الإمام مالك لم يبلغه الخبر.
٦- لن يصل إلى الله لحوم الذبائح ولا دماؤها، وإنما يصل التقوى من عباده، فيقبله ويرفعه إليه ويسمعه. وقد امتن الله علينا بتذليل الإبل، وتمكيننا من تصريفها، وهي أعظم منا أبدانا، وأقوى أعضاء، ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما تظهر إلى العبد من التدبير. وإنما هي بحسب ما يدبرها العزيز القدير، وليعلم الخلق أن الغالب هو الله وحده القاهر فوق عباده.
٧- في الآية: لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ دلالة على أن التقوى وشكر الله تعالى والإحسان في العمل لله جل شأنه من أهم المطالب الشرعية التي لا يجوز لأحد إغفالها.
ويحسن ذكر حكم الأضحية بإيجاز، ذهب أبو حنيفة والثوري، ومالك في قول ضعيف عنه إلى القول بوجوب الأضحية على من ملك نصابا، وكان في رأي أبي حنيفة مقيما غير مسافر لما
رواه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعا: «من وجد سعة، فلم يضحّ، فلا يقربنّ مصلّانا» «١»
وروى الترمذي عن ابن عمر قال: «أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي».
وقال الجمهور، وذلك على المشهور عند المالكية لغير الحاج بمنى: لا تجب
(١) لكن فيه غرابة، واستنكره أحمد بن حنبل.
222
الأضحية، بل هي سنة مستحبة لما
جاء في الحديث: «ليس في المال حق سوى الزكاة» «١»
ولأنه صلّى الله عليه وسلم ضحى عن أمته، فأسقط ذلك وجوبها عنهم،
وقال: «إنها سنة أبيكم إبراهيم»
وقال أبو سريحة: كنت جارا لأبي بكر وعمر، فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما.
وروى الجماعة إلا البخاري عن أم سلمة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره»
ففيه تعليق الأضحية بالإرادة، والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب.
وروى أحمد والحاكم والدارقطني عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث هنّ علي فرائض، وهن لكم تطوع: الوتر، والنحر، وصلاة الضحى» «٢».
وروى الترمذي: «أمرت بالنحر، وهو لكم سنة».
دفاع الله عن المؤمنين وأسباب مشروعية القتال
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
(١) رواه ابن ماجه عن فاطمة بنت قيس، وهو ضعيف.
(٢) سكت عنه الحاكم، وفيه راو ضعيف ضعفه النسائي والدارقطني.
223
الإعراب:
الَّذِينَ أُخْرِجُوا في موضع جر صفة لقوله لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أي أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، الذين أخرجوا. ويكون قوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فصلا بين الصفة والموصوف، مثل: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ، لَوْ تَعْلَمُونَ، عَظِيمٌ [الواقعة ٥٦/ ٧٦] أي: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون.
إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ في موضع نصب لأنه استثناء منقطع، أي لكن لقولهم:
ربنا الله.
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بدل بعض من الناس.
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ.. إما في موضع جر، صفة أخرى لقوله: لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ وإما منصوب على البدل من مِنْ في قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أي هم.
وقوله: إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ شرط وجزاء، وهما صلة الموصول.
البلاغة:
خَوَّانٍ كَفُورٍ صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعول.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ فيه حذف لدلالة السياق عليه، أي أذن بالقتال للذين يقاتلون.
إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ فيه تأكيد المدح بما يشبه الذم، أي لا ذنب لهم إلا هذا، على طريقة قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
المفردات اللغوية:
يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أي يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه، وقرئ: يدفع أي غائلة المشركين خَوَّانٍ في أمانته وأمانة الله أي كثير الخيانة كَفُورٍ لنعمته، وهم المشركون، والمعنى: أنه يعاقبهم، وصيغة المبالغة لبيان واقع المشركين.
أُذِنَ رخّص لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ من قبل المشركين وهم المؤمنون، أي للمؤمنين أن يقاتلوا، والمأذون فيه وهو القتال محذوف لدلالته عليه، وقرئ بالبناء للمعلوم يُقاتَلُونَ أي
224
عدوهم المشركين. ذكر جماعة من المفسرين: أن هذه أول آية نزلت في الجهاد بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي بسبب أنهم ظلموا بظلم الكافرين إياهم وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وعد لهم بالنصر كما وعدهم بدفع أذى الكفار عنهم.
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني مكة بِغَيْرِ حَقٍّ أي بغير موجب في الإخراج استحقوا به إِلَّا أَنْ يَقُولُوا أي بقولهم رَبُّنَا اللَّهُ وحده، وهذا القول حق، فالإخراج به إخراج بغير حق، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين لَهُدِّمَتْ لخربت باستيلاء المشركين على أهل الملل، والقراءة بالتشديد للتكثير، وقرئ بالتخفيف صَوامِعُ للرهبان وهي الأديرة، جمع صومعة وَبِيَعٌ كنائس للنصارى، جمع بيعة وَصَلَواتٌ كنائس اليهود، سميت بها لأنها يصلى فيها، وقيل: أصلها: صلوتا بالعبرانية، فعرّبت وَمَساجِدُ معابد للمسلمين، جمع مسجد، والأرض كلها جعلت للنبي صلّى الله عليه وسلم مسجدا، وتربتها طهورا. يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً يذكر في المواضع الأربعة المذكورة، وتنقطع العبادة بخرابها وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ من ينصر دينه، وقد أنجز وعده، بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم، وأورثهم أرضهم وديارهم إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ القوي: القادر على كل شيء، ومنه نصرهم، والعزيز: المنيع في سلطانه وقدرته، لا يغلبه غالب.
إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ بنصرهم على عدوهم وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي إليه مرجعها في الآخرة.
سبب النزول:
نزول الآية (٣٨) :
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ: روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة، وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار، ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية.
نزول الآية (٣٩) :
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ الآية: أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه وابن سعد عن ابن عباس قال: خرج النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة، فقال
225
أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون! ليهلكنّ، فأنزل الله:
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أن الكفار صدوا المؤمنين عن دين الله وعن دخول مكة، ثم بيّن مناسك الحج وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، أردف ذلك ببيان ما يزيل الصدّ، ويؤمن معه التمكن من الحج، وهو دفع الله غائلة المشركين، والإذن بالقتال مع إيضاح الحكمة منه وأسباب مشروعيته، كالدفاع عن المقدسات، وحماية المستضعفين، وتمكين المؤمنين من عبادة الله تعالى.
التفسير والبيان:
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أي إن الله يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه، شر الأشرار، وكيد الفجار، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم على أعدائهم، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر ٤٠/ ٥١] وقال: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق ٦٥/ ٣] وقوله: يُدافِعُ صيغة مفاعلة إما للمبالغة في الدفع، أو للدلالة على تكرره فقط لأن صيغة المفاعلة تدل على تكرر الفعل.
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أي إنه تعالى لا يحب خائن العهد والميثاق والأمانة، جاحد النعم الذي لا يعترف بها، والمراد أن المؤمنين هم أحباء الله، وأن الله سيعاقب أعداءهم، فهو تعليل للوعد وللوعيد لأن نفي المحبة كناية عن البغض الموجب للعقاب. وخيانة الأمانة إما جميع الأمانات، وإما أمانة الله وهي أوامره ونواهيه.
وهذه الآية إما وعيد ضمنا، وبيان عاقبة الصادين عن المسجد الحرام الذين
226
ذكرهم الله قبل آيات الحج، فتكون كلاما متصلا بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ... وإما وعد للمؤمنين الذين تعطشوا إلى رؤية الحرم المقدس بعد منع المشركين لهم، فتكون كلاما متصلا بما قبله مباشرة، فإنهم أخرجوا رسول الله من وطنه الذي تعلق قبله به، حتى إنه نظر إليه حين خروجه من مكة وقال: «والله إنك لأحبّ أرض الله إليّ، وإنك لأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت».
والظاهر أن الآية وعد من الله عز وجل وبشارة للمؤمنين بنصر الله لهم وتمكينهم من عدوهم، وفي ضمنه وعيد شديد، وتهديد للمشركين بقهرهم وخذلانهم، وفيه تمهيد وتوطئة لمشروعية الجهاد.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي رخّص للمؤمنين المعتدى عليهم بالقتال بسبب ظلم المشركين إياهم، بإخراجهم من ديارهم وأموالهم، وإيذاء بعضهم بالضرب والشج، فكانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وسلم بين مضروب ومشجوج في رأسه، ويشتكون إليه، فيأمرهم بالصبر، ويقول لهم: «إني لم أومر بقتالهم» حتى هاجر فنزلت هذه الآية في السنة الثانية من الهجرة.
وهي في رأي كثير من السلف كابن عباس وعائشة ومجاهد والضحاك وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة والزهري: أول آية نزلت في القتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية، وهو الظاهر، ويؤيده سبب النزول المتقدم ذكره، وذكرت الآية بعد الوعد بالمدافعة والنصر.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية: أول آية نزلت في القتال: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ.. [البقرة ٢/ ١٩٠].
وفي الإكليل للحاكم: إن أول آية نزلت فيه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ.. [التوبة ٩/ ١١١].
227
فعلى القول الأول للأكثرين: يكون المقصود بالآية: أُذِنَ.. إباحة القتال ومشروعيته، والمأذون فيه هو القتال حقيقة، وحذف لدلالة السياق عليه، والمراد بهم المهاجرون، بدليل وصفهم بالإخراج من الديار بغير حق.
وعلى القول الثاني لبعضهم: يكون المراد حكاية الإذن الحاصل من قبل توطئة لبيان أسباب المشروعية.
وعلى قراءة المبني للمجهول يُقاتَلُونَ يكون وصفهم بالقتال الواقع عليهم فعلا على حقيقته، سواء قيل: إنها أول آية نزلت في القتال أم لا لأن قتال المشركين واضطهادهم لهم، كان حاصلا على كل حال.
وعلى قراءة المبني للمعلوم يقاتلون إذا قيل: إنها ليست أول آية نزلت في القتال يكون وصفهم بالقتال على حقيقته أيضا، وأما إذا قيل: إنها أول آية نزلت في الجهاد فيكون وصفهم بالقتال إما على معنى أو على تقدير: إرادة القتال، أي يريدون قتال المشركين ويحرصون عليه، وإما على إرادة استحضار ما يكون منهم في المستقبل، أي ما سيعدون أنفسهم عليه من لقاء المشركين.
وعلى كل حال يكون المراد بالآية بيان سبب الإذن في القتال وهو دفع الظلم والإيذاء، فإن المشركين آذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأشد أنواع الإيذاء الأدبية والجسدية، فإنهم اتهموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ووضعوا التراب على رأسه، وألقوا سلا جزور على كتفيه وهو ساجد بين يدي ربه، وأغرت ثقيف سفهاءهم حتى رموه بالحجارة وأدموه واختضب نعلاه بالدم. وآذوا أيضا أتباعه وأنصاره فعذبوهم بالضرب والجلد، والقتل، والإلقاء في حر الشمس في بطحاء مكة، ووضعوا الحجارة على صدورهم، وحاولوا فتنتهم عن دينهم، فلم يزدهم التعذيب إلا إصرارا على التمسك بعقيدتهم، فلا يصدر عنهم إلا القول: أحد أحد.
228
ثم وعد الله تعالى هؤلاء المعذبين المستضعفين بالنصر فقال:
وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ أي إن الله وحده هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكنه يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته، وهو حينئذ معهم يؤيدهم بنصره، وقد فعل، فأعزهم وأهلك أعداءهم. هذا رأي ابن كثير «١». ويكون المقصود تنبيه المسلمين إلى أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، وأنهم مدعوون للجهاد والكفاح، وإثبات الكفاءة والذات، وأن الجزاء مرتبط بالعمل. وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا وعد بالنصر، وتأكيد للوعد في الآية المتقدمة بالدفاع عن المؤمنين، وتصريح بأن الوعد السابق لا يراد منه مجرد تخليصهم من أيدي أعدائهم، بل نصرهم عليهم.
وإنما تأخر تشريع القتال إلى ما بعد الهجرة وإلى الوقت المناسب لأن المؤمنين في مكة كانوا قلة، وكان المشركون أكثر عددا، فلو أمر المسلمون- وهم أقل من العشر- بقتال المشركين، لشق عليهم.
ثم وصف الله تعالى حال هؤلاء المؤمنين بقوله:
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ أي إن هؤلاء المؤمنين المعتدى عليهم هم الذين أخرجهم المشركون من مكة إلى المدينة بغير حق، وهم محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وما كان لهم من إساءة إلى قومهم، ولا كان لهم ذنب إلا أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة ٦٠/ ١] وقال سبحانه في قصة أصحاب الأخدود: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج ٨٥/ ٨].
هذا أول أسباب المشروعية وهو الطرد من الأوطان بغير حق، ثم ذكر تعالى
(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٢٢٥
229
سببا آخر وهو الدفاع عن حرية العبادة في الأرض، وحماية الأماكن المقدسة، فقال:
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ.. هذه هي سنة التدافع من أجل الحفاظ على التوازن بين البشر، والقتال مشروع لحماية أماكن العبادة، وإقرار مبدأ حرية العبادة. والمعنى: لولا أنه تعالى يدفع بقوم عن قوم، ويكفّ شرور أناس من غيرهم، ولولا تشريع القتال دفاعا عن الوجود والحرمات، لهدّمت مواطن العبادة، سواء كانت معابد للرهبان أو للنصارى أو لليهود أو للمسلمين، التي يذكر فيها اسم الله ذكرا كثيرا.
ويلاحظ وجود التنقل في بيان مواضع العبادة من الأقل إلى الأكثر، ومن الأضيق إلى الأوسع، فإن المساجد أكثر ارتيادا، وأصح عبادة وأسلم قصدا.
وكذلك قدمت الصوامع والبيع في الكلام على المساجد لأنها أقدم وجودا. قال بعض العلماء: هذا ترقّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد، وهي أكثر عمّارا، وأكثر عبّادا، وهم ذوو القصد الصحيح «١».
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي وليؤيّدنّ الله بنصره الذين يقاتلون في سبيل إعلاء كلمة التوحيد ورفع لواء دينه، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ، وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [محمد ٤٧/ ٧- ٨].
وهذا إخبار من الله عز وجل عن مغيبات المستقبل وعما ستكون عليه سيرة المهاجرين رضي الله عنهم إن مكنهم في الأرض، وبسط لهم في الدنيا، وكيف يقومون بأمر الدين «٢».
(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٢٢٦
(٢) الكشاف: ٢/ ٣٥٠
230
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ أي إن الله هو القوي القادر على نصر أهل طاعته المجاهدين في سبيله، وهو المنيع الذي لا يقهر، ولا يغلبه غالب، كقوله تعالى:
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات ٣٧/ ١٧١- ١٧٣]. وقوله سبحانه: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة ٥٨/ ٢١].
ثم وصف الله تعالى المهاجرين المؤمنين الجديرين بالنصر فقال:
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ.. أي إن هؤلاء المهاجرين الذين بوأهم الله السلطة على الناس، وأعطاهم النفوذ بين العالم إن مكنهم من الأرض وأعطاهم السلطة، فإنهم يأتون بالأمور الأربعة: وهي إقامة الصلاة المفروضة على الوجه الأكمل، وإيتاء الزكاة الواجبة، والأمر بالمعروف (وهو ما أمر به شرعا وحسن عقلا) والنهي عن المنكر (وهو ما حظر شرعا وقبح عقلا) فدعوا إلى توحيد الله وإطاعته، ونهوا عن الشرك وقاوموا أهله. وهذه الآية كقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور ٢٤/ ٥٥].
وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي إن مرجع الأمور إلى حكمه تعالى وتقديره في الثواب والعقاب على ما عملوا، كقوله تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف ٧/ ١٢٨] وفيه تأكيد لما وعد تعالى من نصر أوليائه وإعلاء كلمتهم.
فمن تأمل النصر على الأعداء من اليهود وغيرهم، فليعمل بهذه الأوصاف الأربعة التي التزمها المهاجرون والمجاهدون الأولون.
ومجمل الآيات أنه إنما أحللت لهم القتال لأنهم ظلموا، ولم يكن لهم ذنب مع الناس إلا أن يعبدوا الله، وأنهم إذا ظهروا في الأرض أقاموا الصلاة.
231
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمات إلى غرر الأحكام التالية:
١- وعد الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى بالمدافعة عن المؤمنين، وبحفظهم وصونهم من شر الأشرار وكيد الفجار، وبنصرهم على أعدائهم، ثم نهى نهيا صريحا عن الخيانة والغدر وكفران النعم.
٢- أباح الله تعالى القتال لمن يصلح له لدفع أذى الكفار واعتدائهم، ودفاعا عن النفس وحق الحياة العزيزة الكريمة. قال الضحّاك: استأذن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة، فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ، فلما هاجر نزلت: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وهذا- كما يقول العلماء القدامى- ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك وصفح، وهي أول آية نزلت في القتال.
وكانت قريش قد اضطهدت المسلمين حتى فتنوهم عن دينهم، ونفوهم عن بلادهم، فهم بين مفتون في دينه، ومعذّب، وبين هارب في البلاد مغرّب، فمنهم من فرّ إلى أرض الحبشة، ومنهم من خرج إلى المدينة، ومنهم من صبر على الأذى»
. والخلاصة: لقد أذنوا بالقتال بسبب كونهم مظلومين، وكان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديدا، وكانوا يأتون رسول الله صلّى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه، فيقول لهم: اصبروا، فإني لم أومر بقتال، حتى هاجر، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية «٢».
وفي هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع، خلافا للمعتزلة لأن قوله: أُذِنَ معناه أبيح، وهو لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع.
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٣/ ١٢٨٥
(٢) تفسير الرازي: ٢٣/ ٣٩
232
٣- إن من مظاهر ظلم المشركين للمؤمنين هو إخراجهم من أوطانهم، لا لشيء، لكن لقولهم: ربنا الله وحده، فإن أهل الأوثان أخرجوهم من ديارهم بتوحيدهم.
وفي هذه الآية دليل على جواز نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه لأن الله تعالى نسب الإخراج إلى الكفار، كما في آية: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة ٩/ ٤٠].
٤- ومن أسباب مشروعية القتال: الدفاع عن الحرمات وأماكن العبادات، فلولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك على نواصي الأمور، وأشاعوا الفوضى، ودمروا مواضع العبادات، وتغلبوا على الحق في كل أمة.
وهذا يدل على أن الجهاد أمر قديم في الأمم، وبه صلحت الشرائع، وارتفعت به راية التوحيد، وظهرت بوادر الصلاح، ونواة التقدم والحضارة، وأرسيت معالم حرية الدين، وبرزت معالم الأخلاق القويمة والتهذيب البشري.
٥- تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم، لكن لا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن، ولا يزيدون في البنيان لا سعة ولا ارتفاعا، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا فيها، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها. وجاز أن ينقض المسجد ليعاد بنيانه وقد فعله عثمان رضي الله عنه بمسجد النبي صلّى الله عليه وسلم.
٦- إن الله تعالى القوي القادر، العزيز المنيع الجليل الشريف ينصر في حكمه وشرعه من ينصر دينه ونبيه، والله لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، بل كل شيء ذليل لديه، فقير إليه، ومن كان القوي العزيز ناصره فهو المنصور، وعدوه هو المقهور.
٧- إن المسلمين في جهادهم دعاة بناء ومجد وحضارة، وإصلاح وتقويم، فهم
233
إن كانت السلطة لهم في الدنيا لازموا أوصافا أربعة: هي إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف الذي هو خير، والنهي عن المنكر الذي هو شر محض.
قال سهيل بن عبد الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه. وليس على الناس أن يأمروا السلطان لأن ذلك لازم له، واجب عليه، ولا يأمروا العلماء، فإن الحجة قد وجبت عليهم.
٨- في قوله سبحانه: وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ دلالة على أن الذي تقدم ذكره من سلطنتهم وملكهم كائن لا محالة، وأن الأمور ترجع إلى الله تعالى بالعاقبة، فإنه سبحانه هو الذي لا يزول ملكه أبدا.
الاعتبار بهلاك الأمم السابقة
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٢ الى ٤٨]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨)
234
الإعراب:
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ: الكاف في موضع نصب بفعل مقدر يفسره الظاهر، وتقديره:
وكأين من قرية أهلكتها، وهذا إذا جعلت أهلكتها خبرا. فإن جعلتها صفة ل قَرْيَةٍ لم يجز أن تكون مفسرة لفعل مقدر لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف.
وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ معطوف بالجر على قوله قَرْيَةٍ وتقديره: وكم من بئر معطلة، وقيل: هو معطوف على عُرُوشِها.
المفردات اللغوية:
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ.. تسلية له صلّى الله عليه وسلم بأن قومه إن كذبوه فهو ليس وحده منفردا في التكذيب، فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومه. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ تأنيث قوم باعتبار المعنى. وَعادٌ قوم هود. وَثَمُودُ قوم صالح. وَأَصْحابُ مَدْيَنَ قوم شعيب.
وَكُذِّبَ مُوسى كذبه القبط، لا قومه بنو إسرائيل، لذا غيّر فيه النظم، وبني الفعل للمفعول لأن قومه لم يكذبوه، وإنما كذبه القبط، ولأن تكذيبه كان أشنع. فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أمهلتهم بتأخير العقاب لهم. ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعذاب أي أهلكتهم. نَكِيرِ إنكاري عليهم، بتغيير النعمة محنة، والحياة هلاكا، والعمارة خرابا. والاستفهام ب فَكَيْفَ للتقرير، أي هو واقع موقعه، ويراد به التعجب.
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي كم من قرية أهلكتها، أي بإهلاك أهلها. وَهِيَ ظالِمَةٌ أي أهلها بكفرهم. خاوِيَةٌ ساقطة. عَلى عُرُوشِها سقوفها، أي ساقطة حيطانها على سقوفها أو خالية. وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي وكم من بئر معطلة، أي متروكة بموت أهلها عطفا على قَرْيَةٍ. وَقَصْرٍ مَشِيدٍ رفيع أي مرفوع حال، بموت أهله، أو مجصص مبني بالشّيد أي الجصّ، أخليناه عن ساكنيه، وذلك يقوي أن معنى خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها خالية مع بقاء عروشها.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي كفار مكة، وهو حثّ لهم أن يسافروا، ليروا مصارع المهلكين، فيعتبروا. يَعْقِلُونَ بِها أي يدركون ما يجب أن يعقل، وما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال بما نزل بالمكذبين قبلهم. أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ما يجب أن يسمع من الوحي، والتذكير بحال من يشاهد آثارهم. فَإِنَّها الضمير عائد للقصة أو مبهم يفسره الإبصار، أي أن الضمير ضمير الشأن والقصة، وهو يجيء مذكرا ومؤنثا. وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي تعمى عن الاعتبار، أي ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما في سوء استعمال عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد. وذكر الصدور للتأكيد.
235
قال ابن عباس ومقاتل: لما نزلت: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، أنا في الدنيا أعمى، أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ المتوعد به. وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ بإنزال العذاب، لامتناع الخلف في خبره، فيصيبهم ما أوعدهم به ولو بعد حين، ولكنه صبور لا يعجل بالعقوبة.
وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ من أيام الآخرة بسبب العذاب. كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ في الدنيا، وهو بيان لتناهي صبره وتأنيه.
نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث، لقوله: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف ٧/ ٧٠] وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام، لقوله: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال ٨/ ٣٢].
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي من أهل قرية، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب. أَمْلَيْتُ لَها أمهلتها كما أمهلتكم. وَهِيَ ظالِمَةٌ مثلكم. ثُمَّ أَخَذْتُها بالعذاب أي أخذت أهلها. الْمَصِيرُ المرجع، أي وإلى حكمي مرجع الجميع.
المناسبة:
بعد أن بين الله تعالى أن المشركين الكفار أخرجوا المؤمنين من ديارهم بغير حق، وأذن في مقاتلتهم، وضمن للرسول والمؤمنين النصرة عليهم، أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم في الصبر على ما هم عليه من إيذائه وإيذاء المؤمنين بالتكذيب وغيره، ممن خالفه من قومه.
التفسير والبيان:
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ.. نَكِيرِ أي إن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون، فلست فريدا في هذا ولا بدعا من الرسل، وإنما هي سنة الأمم الغابرة، فقد كذبت قبلهم قوم نوح، وعاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وقوم إبراهيم ولوط، وأصحاب مدين قوم شعيب، وكذب القبط الذين أرسل إليهم موسى، مع ما جاءهم به أنبياؤهم من الآيات البينات والدلائل الواضحات، فأنظرت
236
العذاب عن الكافرين وأخرتهم إلى الوقت المعلوم عندي، ثم أخذتهم بالعذاب والعقوبة وأهلكتهم، فانظر كيف كان إنكاري عليهم بتدميرهم ومعاقبتي لهم؟! ويلاحظ أنه لم يقل: وقوم موسى لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط، وفرعون وقومه.
وما جرى على المثيل يجري على مثيله، فإني سأفعل بالمكذبين من قومك مثلما فعلت بأمثالهم، وإن أمهلتهم، فإني منجز وعدي فيهم: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج ٨٥/ ١٢] فلا تتعجل العذاب.
ذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه: أنا ربكم الأعلى، وبين إهلاك الله أربعون سنة.
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.
هذه هي سنة التكذيب، وأما العقاب فهو كما قال تعالى:
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ... قَصْرٍ مَشِيدٍ أي كم من قرية أهلكتها، وهي ظالمة أي مكذبة لرسلها، والمراد أهلها، فأصبحت ديارهم ساقطة حيطانها على سقوفها، أي قد قربت منازلها، وتعطلت حواضرها، أو أصبحت خالية من أهلها مع بقاء عروشها على حالها وسلامتها.
وكم من بئر معطلة أي لا يستقى منها، ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها، والازدحام عليها، وكم من قصر مشيد دمّر أو بقي بعد فناء أهله؟! والمشيد:
المجصص: المبيض بالجص، أو المرفوع البنيان.
والمعنى الإجمالي للآية: كم قرية أهلكناها، وكم بئر عطلناها عن سقاتها، وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه، فترك ذلك، لدلالة مُعَطَّلَةٍ عليه؟!
237
وذلك كما قال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً [الأنبياء ٢١/ ١١].
ثم لفت أنظارهم إلى ضرورة العبرة بما حدث وشاهدوا فقال: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها هذا حثّ على السفر، والاتعاظ بالفكر، والتأمل بالبصيرة، أي هلا يسافر هؤلاء في البلاد، فيتأملوا بما حدث من مصارع القوم، وينظروا بأعينهم ما وقع، ويشاهدوا آثارهم، ويفكروا بعقولهم في النتائج، ويسمعوا الأخبار بآذانهم، ليقفوا على الحقائق ويطلعوا على الأسباب، ويدركوا الأسرار، فيعتبروا بما شاهدوا ورأوا، ويقلعوا عما هم فيه من شرك وتكذيب لرسول الله، وينيبوا إلى ربهم الذي خلقهم، وأقام لهم الأدلة والبراهين في الكون على وجوده ووحدانيته.
فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي ولكنهم لم يفكروا ولم يعتبروا ولم ينظروا، لا لأنهم قوم عمي البصر، وإنما هم عمي البصائر، فليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت أبصارهم سليمة، فإنهم عطلوا قدراتهم الفكرية وعقولهم، فلم يتفحصوا حقائق الأمور، ولم ينفذوا إلى العبر.
ذكر الرازي أن الآية تدل على أن العقل هو العلم، وأن محل العلم هو القلب لأن المقصود من قوله: قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها العلم، وقوله:
يَعْقِلُونَ بِها كالدلالة على أن القلب آلة لهذا التعقل «١». وأضاف العقل إلى القلب لأنه محله، كما أن السمع محله الأذن.
وبعد أن أبان تعالى ما هم عليه من التكذيب، ذكر أنهم قوم طائشون، حمقى، يستهزئون بحلول العذاب، فقال:
(١) تفسير الرازي: ٢٣/ ٤٥
238
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ أي يتعجل وقوع العذاب الذي تنذرهم به هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر، كما قال تعالى: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال ٨/ ٣٢] وقال سبحانه:
وَقالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص ٣٨/ ١٦].
وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي والعذاب آت حالّ لا بد منه، فإن الله لا يخلف وعده الذي وعدهم به، وهو إقامة الساعة، والانتقام من أعدائه، والإكرام لأوليائه، وما وعده إياهم ليصيبنهم ولو بعد حين.
وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي إن الله تعالى حليم لا يعجل، ومن حلمه واستقصاره المدد الطوال أن يوما واحدا عنده كألف سنة مما تعدون، أي إن يوما من أيام العذاب عند ربك، التي تحل بهم في الآخرة يعادل لشدة عذابه ألف سنة من أيام الدنيا، فأين هم من عذاب ربك؟ وإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه، لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لا يفوته شيء، وإن أجّل وأنظر وأملى.
وهذه الآية كقوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة ٣٢/ ٥].
والخلاصة: أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة، وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه، فاقتضت حكمته الإمهال.
وتأكيدا للإنظار والإمهال، وإن طال الأمد، قال تعالى:
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ أي وكثيرا من القرى أملى الله لها، وأخّر عنها العذاب وإهلاكها، مع أنها مستمرة في
239
ظلمها وهو الكفر والمعصية، فاغتروا بذلك التأخير، ثم أخذتها بأن أنزلت العذاب بها، أي بأهلها، فتأخير العذاب من باب الإمهال، لا الإهمال، كما
جاء في الحديث الصحيح: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه، لم يفلته».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن نجاح النبي محمد صلّى الله عليه وسلم في رسالته متوقف أولا على الصبر على أذى قومه، لذا علمه ربه دروس الصبر، فكانت هذه الآيات تسلية له وتعزية، فقد كان قبله أنبياء كذّبوا، ذكر الله سبعة منهم، فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين، فما عليه إلا أن يقتدي بهم ويصبر.
٢- من حكمته تعالى وحلمه أنه كان يؤخر العقوبة عن أولئك الكفار المكذبين رسلهم، الملحدين الجاحدين ربهم، ثم يعاقبهم، فتكون عقوبتهم عبرة للمعتبر، مدعاة للنظر والتأمل: كيف كان تغييره ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك.
وكذلك يفعل بالمكذبين من قريش إذ ما جرى على النظير يجري على نظيره عقلا وعادة وعدلا.
٣- تدل هذه الآية فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ على أنه سبحانه يفعل بقوم النبي صلّى الله عليه وسلم كل ما فعل بالأقوام الآخرين الغابرين إلا عذاب الاستئصال، فإنه لا يفعله بقوم محمد صلّى الله عليه وسلم، وإن كان قد مكّنهم من قتل أعدائهم وثبّتهم.
قال الحسن البصري: السبب في تأخر عذاب الاستئصال عن هذه الأمة أن ذلك العذاب مشروط بأمرين:
240
أحدهما- أن عند الله حدا من الكفر من بلغه عذّبه، ومن لم يبلغه لم يعذبه.
والثاني- أن الله لا يعذب قوما حتى يعلم أن أحدا منهم لا يؤمن. فأما إذا حصل الشرطان: وهو أن يبلغوا ذلك الحد من الكفر، ويعلم الله أن أحدا منهم لا يؤمن، فحينئذ يأمر الأنبياء، فيدعون على أممهم، فيستجيب الله دعاءهم، فيعذبهم بعذاب الاستئصال، وهو المراد من قوله: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ أي من إجابة القوم، وقوله لنوح: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ. وإذا عذبهم فإنه ينجي المؤمنين لقوله: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي بالعذاب، نجينا هودا «١».
٤- كثير من أهل القرى أهلكهم الله، حال استمرارهم على الظلم وهو الكفر، فتصبح بيوتهم خاوية على عروشها، أي ساقطة أو خالية من أهلها، كما تصبح آبارهم معطلة عن وارديها وسقاتها، وقصورهم المرفوعة البنيان خربة أو خالية من سكانها، فتحل الوحشة محل الأنس، والإقفار بعد العمران.
وفي ذلك موعظة وعبرة وتذكرة، وتحذير من مغبّة المعصية، وسوء عاقبة المخالفة لأوامر الله تعالى ونواهيه.
٥- قوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ حثّ واضح على الاعتبار بآثار الأمم البائدة التي أهلكها الله بكفرها وظلمها، فإذا اعتبر الناس بذلك كانوا منتفعين بحق بحواسهم وإدراكاتهم وعقولهم، وإن لم يعتبروا كانوا معطلين لتلك الطاقات والنعم، فاستحقوا العقاب.
ومن كان في الدنيا أعمى بقلبه عن الإسلام، فهو في الآخرة في النار.
(١) تفسير الرازي: ٢٣/ ٤٣
241
٦- لو عرف الناس حال عذاب الآخرة، وأن يوم العذاب فيه لشدته كألف سنة من سني الدنيا، لما استعجلوه، فإن الله لا يخلف وعده في إنزال العذاب، قال الزجاج: استعجلوا العذاب فأعلمهم الله أنه لا يفوته شيء، وقد نزل بهم في الدنيا يوم بدر.
وقال عكرمة: أعلمهم الله إذا استعجلوا بالعذاب في أيام قصيرة، أنه يأتيهم به في أيام طويلة.
وقال الفرّاء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة.
والخلاصة: أن الآية ردّ على المشركين الذين استعجلوا العذاب تكذيبا واستهزاء، لعدم إيمانهم بيوم القيامة، وإعلام قاطع بوقوع العذاب.
٧- كثير من أهل القرى أمهلهم الله تعالى مع عتوهم، ثم أخذهم بالعذاب، وإلى الله المصير، أي إليه المرجع والمآب في الحكم والقضاء.
تحديد مهمة النبي صلّى الله عليه وسلم
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١)
البلاغة:
يوجد مقابلة بين فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ... وبين وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ....
المفردات اللغوية:
يا أَيُّهَا النَّاسُ أهل مكة وغيرهم. نَذِيرٌ مُبِينٌ بيّن الإنذار: وهو التخويف، وأنا
242
أيضا بشير المؤمنين، واقتصر على الإنذار مع عموم الخطاب بقوله: لَكُمْ ومع ذكر الفريقين:
المؤمنين والكافرين لأن صدر الكلام ومساقه للمشركين. وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة في غيظ أعدائهم المشركين.
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما بدر منهم من الذنوب. وَرِزْقٌ كَرِيمٌ هو الجنة، والكريم من كل نوع: ما يجمع فضائله. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا القرآن بالرد والإبطال والطعن بأنها سحر وشعر وأساطير. مُعاجِزِينَ أي مسابقين مغالبين لنا أي يظنون أن يفوتونا بإنكار البعث والعقاب، وقرئ معجزين أي مثبطين غيرهم عن الإيمان. الْجَحِيمِ النار الموقدة.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى استعجال المشركين العذاب تكذيبا له واستهزاء به لأنهم لا يؤمنون بيوم القيامة، أردف ذلك بإيضاح وظيفة الرسول صلّى الله عليه وسلم وهي الإنذار والتخويف، وأنه بعث للإنذار، فاستهزاؤهم بذلك لا يمنعه منه.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم بأن يقول للكفار حين طلبوا منه وقوع العذاب واستعجلوه به: يا أيها المشركون المستعجلون مجيء العذاب إنما أرسلني الله إليكم نذيرا لكم بين يدي عذاب شديد، وليس إلي من حسابكم شيء، بل أمركم إلى الله: إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب إليه، وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار، كما قال: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ [الرعد ١٣/ ٤١].
ومهمتي كما تشمل الإنذار تتضمن التبشير، وهذا مضمون الأمرين:
١- فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي فالذين آمنت قلوبهم، وصدقوا إيمانهم بأعمالهم لهم مغفرة لما سلف من سيئاتهم، وثواب حسن ولو على القليل من حسناتهم، وجنة عرضها السموات والأرض، فالرزق الكريم هو الجنة التي وصفها الله سبحانه بقوله: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ
243
الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ
[الزخرف ٤٣/ ٧١]
ووصفها الرسول صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
٢- وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي والذين جهدوا في إبطال آياتنا، وردّ دعوة الدين، والتكذيب بها، وثبطوا الناس عن متابعة النبي صلّى الله عليه وسلم، ظنا منهم أنهم يعجزوننا ويتفلتون من أمرنا وبعثنا لهم وأننا لا نقدر عليهم، فهم أهل النار الحارة الموجعة، الشديد عذابها ونكالها، المقيمون فيها على الدوام، كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ، بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل ١٦/ ٨٨]. وقد شبههم بالصاحب من حيث الدوام.
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من الآيات ما يأتي:
١- إن وظيفة الرسول صلّى الله عليه وسلم هي الإنذار والتبشير، إنذار من عصاه بالنار وتبشير من أطاعه بالجنة.
٢- للمؤمنين الذين يعملون الصالحات أي الطاعات والقربات الجنة والمغفرة للذنوب والرضوان.
٣- للكافرين المعاندين الظانين ألا بعث وأن الله لا يقدر عليهم النار المستعرة التي يخلدون فيها على الدوام.
244
إحكام الوحي وصونه عن الشياطين قصة الغرانيق
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٢ الى ٥٧]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧)
الإعراب:
وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ: الضمير في قُلُوبِهِمْ يعود إلى الآلف واللام في قوله:
الْقاسِيَةِ. وهذا يدل على أن الألف واللام في حكم الأسماء لأن الحروف لا حظّ لها في الضمير البتة، وتقديره: فويل للذين قست قلوبهم، ولهذا التقدير عاد الضمير. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ أي كائن مستقر لله، وهو ناصب للظرف.
البلاغة:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ جناس اشتقاق.
245
فَيَنْسَخُ يُحْكِمُ بينهما طباق. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ وضع الظاهر موضع المضمر، والأصل وإنهم قضاء عليهم بالظلم والمعاداة.
أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ في قوله عَقِيمٍ استعارة، شبه يوم القيامة الذي لا ليل بعده ولا نهار بالمرأة العقيم التي لا تلد، لانقضاء الزمان، بعكس ما قبله من الأيام التي تعقبها الليالي، فهي بمنزلة الولدان لليالي.
المفردات اللغوية:
رَسُولٍ هو نبي أمر بالتبليغ، أو في الأصح من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها، والنبي: أعم من الرسول، فهو من لم يؤمر بالتبليغ، أو في الأصح من بعثه الله بتقرير شرع سابق، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، ولذلك شبه النبي صلّى الله عليه وسلم علماء أمته بهم، ويدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الأنبياء
فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: ثلاث مائة وثلاثة عشر جما غفيرا.
تَمَنَّى قرأ أُمْنِيَّتِهِ قراءته، وألقى الشيطان أي ما ليس من المقروء الموحى به مما يرضاه المرسل إليهم فَيَنْسَخُ اللَّهُ يبطل ويزيل يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ يثبتها وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الناس وبإلقاء الشيطان ما ذكر حَكِيمٌ فيما يفعله بهم، فإنه يفعل ما يشاء.
فِتْنَةً أي محنة وابتلاء واختبارا مَرَضٌ شك ونفاق الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ هم الكفار الذي قست قلوبهم عن قبول الحق وَإِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ عداوة شديدة وبعد عن الحق، وخلاف طويل مع النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين.
الْعِلْمَ التوحيد والقرآن أو أهل العلم المجردون عن التعصب والعناد أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أن القرآن هو الحق النازل من عند الله فَيُؤْمِنُوا بِهِ أي بالقرآن أو بالله فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ تطمئن أو تنقاد وتخشى وتخضع صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو الطريق القويم وهو دين الإسلام، أو النظر الصحيح الذي يوصلهم إلى الحق.
مِرْيَةٍ شك مِنْهُ أي القرآن السَّاعَةُ القيامة أو الموت، أو أشراط الساعة بَغْتَةً فجأة يَوْمٍ عَقِيمٍ يوم منفرد عن سائر الأيام لشدته، والمراد به يوم حرب يقتلون فيه، كيوم بدر لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كالعقم، أو لأنه لا خير فيه كالريح العقيم التي لا تأتي بخير، أو هو يوم القيامة لا ليل بعده.
الْمُلْكُ السلطان والتصرف يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة، والتنوين فيه ينوب عن الجملة التي دلت عليها الغاية، أي يوم تزول مريتهم لِلَّهِ وحده يَحْكُمُ يقضي بين الكافرين
246
والمؤمنين مُهِينٌ شديد مذل بسبب كفرهم. ويلاحظ أن إدخال الفاء في خبر الذين الثاني:
فَأُولئِكَ دون الأول: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ تنبيه على أن إثابة المؤمنين بالجنات تفضل من الله تعالى، وأن عقاب الكفار مسبب عن أعمالهم، ولذلك قال: لَهُمْ عَذابٌ ولم يقل: في عذاب.
سبب النزول:
ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، ورجوع كثير من مهاجرة الحبشة إلى مكة، ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا. وذكروا روايات مختلفة، كلها من طرق مرسلة، وليست مسندة من وجه صحيح كما قال ابن كثير «١». منها ما رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير:
أن النبي صلّى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قومه، كثير أهله، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء، فينفروا عنه يومئذ، فأنزل الله عليه: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فقرأ، حتى إذا بلغ إلى قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ألقى الشيطان كلمتين: تلك الغرانيق «٢» العلا، وإن شفاعتهن لترتجى.
فتكلم بها، ثم مضى بقراءة السورة كلها، ثم سجد في آخر السورة، وسجد القوم جميعا معه، وقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ الآية.
ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته وسجد عليه، وكان شيخا كبيرا، فلما أمسى النبي صلّى الله عليه وسلم أتاه جبريل، فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين قال:
ما جئتك بهاتين، فأوحى الله إليه: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ، وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ
(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٢٢٩
(٢) تلك الغرانيق إما الأصنام وإما إشارة إلى الملائكة أي هم الشفعاء، لا الأصنام لأن الكفار كانوا يعتقدون أن الأوثان والملائكة بنات الله، كما حكى الله عنهم. [.....]
247
تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً فما زال مغموما حتى نزلت: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ.
قال ابن العربي وعياض: إن هذه الروايات باطلة لا أصل لها «١». وقال الرازي «٢» : أما أهل التحقيق فقد قالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة، واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول.
أما القرآن فوجوه منها قوله تعالى: قُلْ: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [يونس ١٠/ ١٥] وقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم ٥٣/ ٤- ٣] وقوله: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة ٦٩/ ٤٤- ٤٦] فلو أنه قرأ عقيب آية النجم المذكورة: تلك الغرانيق العلا، لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال، وذلك لا يقوله مسلم.
وأما السنة: فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة: أنه سئل عن هذه القصة، فقال: هذا وضع من الزنادقة. وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. وأيضا:
فقد روى البخاري في صحيحة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم، وسجد فيها المسلمون والمشركون، والإنس والجن
، وليس فيه حديث الغرانيق.
وأما المعقول فمن وجوه: منها: أن من جوز على الرسول صلّى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان، فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.
(١) انظر أحكام القرآن لابن العربي: ٣/ ١٢٨٨- ١٢٩٠، تفسير القرطبي: ١٢/ ٨٢
(٢) تفسير الرازي: ٢٣/ ٥٠
248
قال الرازي: وأقوى الوجوه: أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الامان عن شرعه، أي شرع الله، وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك، ويبطل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة ٥/ ٦٧] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه. فبهذا عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة.
التفسير والبيان:
تبين من الكلام السابق في سبب النزول أن قصة الغرانيق موضوعة مكذوبة وضعها الزنادقة، لذا يجب تفسير الآيات على نحو آخر، خلافا لما عليه كثير من المفسرين. ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة، ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء، لكن المقطوع به أن النبي صلّى الله عليه وسلم عملا بدلالة الآيات السابقة الدالة على عصمته، وأنه لا ينطق عن الهوى أنه لم يجار الشيطان فيما ألقاه، ولم يردد على لسانه ما وسوس به. وأحسن تأويل للآيات كما قال القرطبي: هو أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا، ويفصّل الآي تفصيلا في قراءته، كما روى الثقات عنه، فيمكن ترصّد الشيطان لتلك السكتات، ودسّه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكيا نغمة النبي صلّى الله عليه وسلم، بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنّوها من قول النبي صلّى الله عليه وسلم وأشاعوها، ولم يقدح ذلك عند المسلمين، لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلّى الله عليه وسلم في ذمّ الأوثان وعيبها ما عرف عنه «١».
وعلى هذا يكون معنى الآية: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ.. أي وما أرسلنا يا محمد قبلك رسولا ولا نبيا إلا إذا قرأ وتلا كلام الله، ألقى الشيطان في قراءته
(١) تفسير القرطبي: ١٢/ ٨٢- ٨٣
249
وتلاوته بعض الأقاويل والأباطيل. وقوله مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ دليل على تغاير الرسول والنبي، والفرق بينهما كما في الكشاف: أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول: من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله. وقد ذكرت في المفردات التعريف المشهور والأصح للرسول والنبي وعدد الرسل والأنبياء.
فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي فيزيل الله ما وسوس به الشيطان من الكلمات والخرافات التي تعلّق بها بعض الكفار، ثم يجعل آياته محكمة محصّنة مثبّتة، لا تقبل التشويه والتزييف أو الزيادة أو النقصان.
وهذا يشبه محاولات بعض القساوسة اليوم دسّ بعض الأكاذيب والشبهات في مبادئ الإسلام وتعاليمه، وقلب الحقائق، وتزييف الوقائع، وتأويل بعض الآيات على وجه غير صحيح، ثم تتبدد تلك المساعي الخبيثة، وتدحض تلك المفتريات على يد بعض العلماء الأثبات من المسلمين أو من غيرهم، وتدفن تلك الآراء المدسوسة في النشرات والكتب المدرسية وغيرها.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي والله عليم بكل شيء، وبما أوحى إلى نبيه، وبما يكون من الأمور والحوادث، لا تخفى عليه خافية، حكيم في تقديره وخلقه وأمره وأفعاله، له الحكمة التامة، والحجة البالغة، فيجازي المفتري بافترائه، ويظهر الحق للمؤمنين، وتتبدد الظلمة في نفوس المنافقين، وهذا ما أبانه الله تعالى في موقف الفريقين، فقال:
١- لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أي ليجعل ما يوسوس به الشيطان فتنة أي ابتلاء واختبارا للمنافقين الذين في قلوبهم شك وشرك وكفر ونفاق، وللمشركين أو اليهود المعاندين قساة
250
القلوب، حين فرحوا بإلقاء الشيطان بعض الكلمات، واعتقدوا أنه صحيح من عند الله، وإنما كان من الشيطان.
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي وإن هؤلاء الظالمين أنفسهم من المنافقين والكفار لفي مخالفة وعصيان، ومشاقة لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلم، وعناد بعيد من الحق والصواب.
٢- وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، فَيُؤْمِنُوا بِهِ، فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي ولكي يعلم أهل العلم النافع الذين يفرقون به بين الحق والباطل، والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك هو الحق الثابت الصحيح من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه، وصانه أن يختلط به غيره، فيصدقوا به وينقادوا له، وتخضع له قلوبهم، وتذل وتخشع له نفوسهم، وتعمل بأحكامه وآدابه وشريعته، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت ٤١/ ٤١- ٤٢].
وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي وإن الله لمرشد المؤمنين بالله ورسوله إلى طريق قويم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه بتأويل سليم للمتشابه في الدين، وتفصيل واضح للمجمل منه، وفي الآخرة يهديهم الطريق الصحيح الموصل إلى درجات الجنان، ويصرفهم عن دركات النيران.
ومصير الفريق الأول ما قال تعالى:
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ... عَقِيمٍ أي ولا يزال الكفار في شك وريب من هذا القرآن أو من الرسول، فضمير مِنْهُ راجع إلى القرآن أو الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو لا يزال الكفار في ريب منه أي مما ألقى الشيطان في قلوبهم حين قراءة القرآن عليهم، حتى تأتيهم الساعة، أي يوم القيامة أو مقدماتها أو
251
الموت، بغتة أي فجأة من غير أن يشعروا، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم، أي يوم القيامة أو يوم حرب مدمرة كيوم بدر. وجعل الساعة غاية لكفرهم وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء. وإنما وصف يوم القيامة بالعقيم لأنه لا يأتي بعده ليل، ووصف يوم الحرب بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه، فيصرن كأنهن عقم لم يلدن، أو لأن المقاتلين يقال لهم: أبناء الحرب، فإذا قتلوا وصف هذا اليوم بأنه عقيم، على سبيل المجاز. قال ابن كثير: القول الأول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به، ولهذا قال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ، يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ.
والمراد بالآية أن الكفار ما يزالون على كفرهم لا يؤمنون حتى يهلكوا.
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي السلطان والتصرف يوم القيامة يوم الجزاء والثواب والعقاب لله الواحد القهار، يقضي بينهم بالحق، وهو الحكم العدل جل شأنه، كما قال تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة ١/ ٤] وقال عز وجل:
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ، وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الفرقان ٢٥/ ٢٦].
ونتيجة الحكم تظهر ببيان جزاء كل من الفريقين، فقال تعالى:
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي فالذين آمنت قلوبهم وصدقوا بالله ورسوله وبالقرآن، وعملوا بمقتضى ما علموا من الأعمال الصالحة بإطاعة أوامره تعالى واجتناب نواهيه، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم، لهم جنات النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي والذين كفرت قلوبهم بالحق وجحدته، وكذبوا بالقرآن وبالرسول، وخالفوا الرسل، واستكبروا عن اتباعهم، فأولئك لهم عند ربهم عذاب مذلّ مخز، مقابل
252
استكبارهم عن الحق، وإبائهم النظر في آيات القرآن، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر ٤٠/ ٦٠] أي صاغرين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- هذه تسلية أخرى من الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم بعد قوله المتقدم: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ أي فلا تحزن ولا تتألم لما يردده الكفار على لسان الشيطان، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء.
٢- الآية تدل على إحكام الوحي وحفظ كتاب الله تعالى وحراسته من أقاويل الشيطان وأباطيله وخرافاته، فإنه إذا ألقى شيئا من الكلام في ثنايا آيات القرآن الكريم أو حديث النبي صلّى الله عليه وسلم في نفسه، فيبطل الله ما ألقى الشيطان، ويحكم آياته ويثبتها.
فقوله تعالى تَمَنَّى وأُمْنِيَّتِهِ أي قرأ وتلا، وقراءته. وروى البخاري عن ابن عباس في ذلك: إذا حدّث- أي النبي- ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان. والمعنى: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا حدّث نفسه، ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة، فيقول: لو سألت الله عز وجل أن يغنّمك ليتسع المسلمون ويعلم الله عز وجل أن الصلاح في غير ذلك، فيبطل ما يلقي الشيطان، أي أن المراد حديث النفس. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله.
٣- إن في إلقاء الشيطان حكمة وهو أن يجعل فتنة أي ابتلاء واختبارا لفئتين هما المنافقون والمشركون، وهم الظالمون أنفسهم، والظالمون أي الكافرون لفي خلاف وعصيان ومشاقة لله عز وجل ولرسوله صلّى الله عليه وسلم.
253
٤- قال الثعلبي في آية لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً..: وفي الآية دليل على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والغلط بوسواس الشيطان، أو عند شغل القلب حتى يغلط، ثم ينبّه ويرجع إلى الصحيح وهو معنى قوله: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ.
ولكن إنما يكون الغلط على حسب ما يغلط أحدنا، فأما ما ينسب إليه من قولهم: تلك الغرانيق العلا، فكذب على النبي صلّى الله عليه وسلم لأن فيه تعظيم الأصنام، ولا يجوز ذلك على الأنبياء، كما لا يجوز أن يقرأ بعض القرآن، ثم ينشد شعرا، ويقول: غلطت وظننته قرآنا.
٥- وحكمة أخرى لإلقاء الشيطان هي أن يعلم المؤمنون أن الذي أحكم من آيات القرآن هو الحق الصحيح الثابت من الله، فيؤمنوا به، وتخشع وتسكن قلوبهم، وإن الله يهدي المؤمنين إلى صراط مستقيم، أي يثبّتهم على الهداية.
٦- سيظل الكفار في شك من القرآن أو من الدين وهو الصراط المستقيم، أو من الرسول، أو مما ألقى الشيطان على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم، وهو لم يقله، فيقولون: ما باله ذكر الأصنام بخير، ثم ارتدّ عنها؟ ويستمر الشك إلى وقت مجيء زمن الإيمان القسري أو الملجئ فجأة وهو إما يوم القيامة وإما الموت، وإما يوم الحرب كبدر، وذلك يوم عقيم. وقد تبين لدينا أن الراجح في تفسير اليوم العقيم هو يوم القيامة، قال الضحاك: عذاب يوم لا ليلة له، وهو يوم القيامة. قال الرازي: وهذا القول أولى لأنه لا يجوز أن يقول الله تعالى:
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ ويكون المراد يوم بدر لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر. ولا يكون هناك تكرار بينه وبين قوله السَّاعَةُ لأن الساعة من مقدمات القيامة، واليوم العقيم هو ذلك اليوم نفسه، كما أن في الأول ذكر الساعة، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم. ويحتمل أن يكون المراد
254
بالساعة: وقت موت كل أحد، وبعذاب يوم عقيم: القيامة «١».
٧- الملك والسلطان لله وحده يوم القيامة، دون منازع، فهو الذي يقضي بالمجازاة بين العباد، ويكون قرار حكمه أن المؤمنين الذين يعملون الصالحات في جنات النعيم، وأن الكافرين المكذبين بآيات القرآن في عذاب مهين. وقوله:
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ من أقوى ما يدل على أن اليوم العقيم هو يوم القيامة.
وعده الكريم بالنصر والجنة للمهاجرين المقاتلين دفاعا عن النفس
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠)
الإعراب:
وَمَنْ عاقَبَ: مبتدأ مرفوع، بمعنى الذي، وصلته: عاقَبَ وخبره:
لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ. وليست مَنْ هاهنا شرطية لأنه لا لام فيها، كما في قوله تعالى: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف ٧/ ١٨].
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي تركوا أوطانهم في طاعة الله من مكة إلى المدينة.
ثُمَّ قُتِلُوا في الجهاد. رِزْقاً حَسَناً هو الجنة. خَيْرُ الرَّازِقِينَ أفضل المعطين، فإنه يرزق بغير حساب.
(١) تفسير الرازي: ٢٣/ ٥٦
255
مُدْخَلًا أي إدخالا، أو موضعا يدخلونه ويرضونه وهو الجنة. لَعَلِيمٌ بنياتهم وبأحوالهم. حَلِيمٌ عن عقابهم، فلا يعاجلهم في العقوبة.
ذلِكَ أي الأمر ذلك، أو ذلك الذي قصصناه عليك. وَمَنْ عاقَبَ جازى من المؤمنين. أي جازى الظالم بمثل ظلمه. بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ظلما من المشركين، أي قاتلهم كما قاتلوه في الشهر الحرام، ولم يزد في الاقتصاص. وإنما سمي الابتداء بالعقاب الذي هو الجزاء عقابا للازدواج والمشاكلة، أو لأنه سببه. ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ منهم، أي ظلم بإخراجه من منزله.
لَعَفُوٌّ عن المؤمنين. غَفُورٌ لهم عن قتالهم في الشهر الحرام. وفيه تعريض بالحث على العفو والمغفرة، فإنه تعالى مع كمال قدرته يعفو ويغفر، فغيره بذلك أولى، وفيه أيضا تنبيه على أنه قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.
سبب النزول: نزول الآية (٦٠) :
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ..: أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن مقاتل أنها نزلت في سرية بعثها النبي صلّى الله عليه وسلم، فلقوا المشركين لليلتين من المحرم، فقال المشركون بعضهم لبعض: قاتلوا أصحاب محمد، فإنهم يحرمون القتال في الشهر الحرام، فناشدهم الصحابة، وذكروهم بالله أن لا يتعرضوا لقتالهم، فإنهم لا يستحلون القتال في الشهر الحرام، فأبى المشركون ذلك، وقاتلوهم، وبغوا عليهم، فقاتلهم المسلمون، ونصروا عليهم، فنزلت هذه الآية.
وروى مجاهد أيضا أنها نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة، فتبعهم المشركون فقاتلوهم.
وظاهر الكلام للعموم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أن الملك له يوم القيامة، وأنه يحكم بين عباده المؤمنين والكافرين، وأنه يدخل المؤمنين الجنات، أتبعه بذكر وعده الكريم للمهاجرين
256
المجاهدين، وأفردهم بالذكر تفخيما لشأنهم. ثم ذكر وعدا كريما آخر لمن قاتل مبغيا عليه دفاعا عن نفسه، بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن، وابتدئ بالقتال.
التفسير والبيان:
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ... خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي والذين خرجوا مهاجرين في سبيل الله، وتركوا أوطانهم وديارهم ابتغاء مرضاة الله، وطلبا لما عنده، ثم قتلوا في الجهاد، أو ماتوا حتف أنفهم من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل، وليمنحنهم الله الجنة، وليرزقنهم من فضله منها، إن الله خير المعطين الرازقين، يعطي من يشاء بغير حساب، كما قال تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ، فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء ٤/ ١٠٠].
وهذا الرزق الحسن كما قال تعالى:
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ أي ليدخلن هؤلاء المهاجرين المجاهدين في سبيله موضعا كريما يرضونه وهو الجنة، كما قال تعالى:
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الواقعة ٥٦/ ٨٨- ٨٩] أي يحصل له الراحة والرزق وجنة النعيم. وإن الله لعليم بمن يهاجر ويجاهد في سبيله، وبمن يستحق ذلك، فهو عليم بالنيات والمقاصد والأحوال، وحليم أي يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب بهجرتهم إليه وتوكلهم عليه، ولا يعاجل هؤلاء المكذبين بالعقوبة، ليترك لهم الفرصة للتوبة والإنابة والإيمان بالله تعالى.
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ.. لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ أي ذلك الأمر الذي قصصنا عليك من إنجاز الوعد للمهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا، ومن قوتل ظلما، وجازى من المؤمنين من اعتدى عليه من المشركين، ثم بغي عليه بإلجائه إلى الهجرة ومفارقة
257
الوطن، وابتدائه بالقتال، لينصرنه الله نصرا مؤزرا، إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أي إن الله ليصفح عن المؤمنين ويغفر لهم خطأهم إذا تركوا ما هو الأجدر بهم وهو العفو والمغفرة عن المسيء. وفيه حث على العفو عن الجاني، كما قال تعالى:
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ، إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى ٤٢/ ٤٣] وقال:
فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى ٤٢/ ٤٠] وقال: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة ٢/ ٢٣٧] وفيه دلالة على أنه سبحانه بذكر العفو والمغفرة قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده، كما بينا.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على مزية صنفين من الناس: المهاجرين، والمقاتلين دفاعا عن أنفسهم.
أما المهاجرون: فهم الذين تركوا ديارهم وأوطانهم وأموالهم، وفارقوا مكة إلى المدينة، حبا في طاعة الله تعالى، وابتغاء رضوانه، فلهم من الله الفضل العظيم، والعطاء العميم، والرزق الحسن وهو الجنة، سواء قتلوا في الجهاد أو ماتوا من غير قتال. وأكد تعالى ذلك بقوله: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ أي الجنان. والله عليم بنياتهم، حليم عن عقابهم.
أما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر، فإنه شهيد حي عند ربه يرزق، كما قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران ٣/ ١٦٩].
وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فقد تضمنت هذه الآية الكريمة إجراء الرزق عليه، وعظيم إحسان الله إليه.
روي عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «المقتول في سبيل الله، والمتوفى في سبيل الله بغير قتل، هما في الأجر شريكان» «١».
(١) روى النسائي حديثا في معناه عن العرباض بن سارية.
258
وأما المقاتلون المدافعون عن أنفسهم: فإن الله وعدهم بالنصر في الدنيا، لبغي الكفار عليهم، وإن الله عفا عن المؤمنين ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام، وستر ذلك عليهم.
وسمي جزاء العقوبة عقوبة في قوله تعالى: وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ لاستواء الفعلين في الصورة، مثل: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى ٤٢/ ٤٠] ومثل: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة ٢/ ١٩٤].
من دلائل قدرة الله تعالى
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦١ الى ٦٦]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥)
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦)
259
الإعراب:
فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ تصبح: مرفوع لا منصوب، محمول على معنى أَلَمْ تَرَ ومعناه: انتبه يا ابن آدم! أنزل الله من السماء ماء، ولو صرح بقوله: انتبه، لم يجز فيه إلا الرفع، فكذلك ما هو بمعناه.
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ.. الآية: امتنان بتعداد النعم، والاستفهام للتقرير.
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بينهما طباق.
إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ صيغة مبالغة أي مبالغ في الجحود.
المفردات اللغوية:
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ أي ذلك النصر بسبب أنه قادر على أن يدخل كلا من الليل والنهار في الآخر، بأن يزيد به، وقادر على تغليب بعض الأمور على بعض. سَمِيعٌ بَصِيرٌ يسمع أقوال عباده المؤمنين والكفار، بصير بما يصدر عنهم من أفعال.
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي ذلك الوصف بكمال القدرة والعلم، والنصر أيضا، بسبب أن الله هو الثابت في نفسه، الواجب لذاته وحده، فإن وجوب وجوده، ووحدته يقتضيان أن يكون مبدأ لكل ما يوجد سواه، عالما بذاته وبما عداه، أو الثابت الألوهية، ولا يصلح لها إلا من كان قادرا عالما. مِنْ دُونِهِ إلها من الأصنام. هُوَ الْباطِلُ الزائل، المعدوم في حد ذاته، أو باطل الألوهية. الْعَلِيُّ العالي على الأشياء بقدرته. الْكَبِيرُ عن أن يكون له شريك، ولا شيء أعلى منه شأنا، وأكبر منه سلطانا، وهو الذي يصغر كل شيء سواه.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً أي ألم تعلم أن الله أنزل مطرا من السماء وهو استفهام تقرير، ولذلك رفع فَتُصْبِحُ.. عطف على أَنْزَلَ إذ لو نصب جوابا للاستفهام، لدل على نفي الاخضرار، كما في قولك: ألم تر أني جئتك فتكرمني، فإن نصبت فأنت ناف لتكريمه، وإن رفعته فأنت مثبت للتكريم، والمقصود إثباته. وإنما عدل ب فَتُصْبِحُ المضارع عن صيغة الماضي، للدلالة على بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان. لَطِيفٌ بعباده يصل علمه أو لطفه إلى كل ما جل ودق ومنه إخراج النبات. خَبِيرٌ بالتدابير الظاهرة والباطنة، وبما في قلوب العباد، ومنه قلقهم عند تأخير المطر.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا. الْغَنِيُّ في ذاته عن كل شيء.
الْحَمِيدُ المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله.
260
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ألم تعلم أن الله جعل جميع ما في الأرض مذللة لكم، معدّة لمنافعكم. وَالْفُلْكَ السفن. عطف على ما أو على اسم أَنَّ. تَجْرِي فِي الْبَحْرِ للركوب والحمل، والجملة: حال من الْفُلْكَ، أو خبر. الْفُلْكَ على قراءة الرفع على الابتداء. بِأَمْرِهِ بإذنه. أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ من أن تقع أو لئلا تقع، يأن خلقها على صورة متينة مستمسكة. إِلَّا بِإِذْنِهِ أي إلا بمشيئته، وذلك يوم القيامة، وفيه رد على القول باستمساكها بذاتها. رَحِيمٌ بتسخير ما في الأرض، وإمساك السماء، والتهيئة لعباده أسباب الاستدلال، وفتح أبواب المنافع عليهم، ودفع أنواع المضارّ عنهم.
أَحْياكُمْ بالإنشاء بعد أن كنتم جمادا: عناصر ونطفا. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انتهاء آجالكم.
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ في الآخرة عند البعث. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ لجحود للنعم مع ظهورها، تارك توحيد الله تعالى.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى عظيم قدرته على تحقيق النصر للمؤمنين، أتى بأنواع من الدلائل على قدرته البالغة، من إيلاج الليل في النهار وبالعكس وخلقه لهما وتصرفه فيهما وعلمه بما يجري فيهما، وإنزال المطر لإنبات النبات، وخلقه السموات والأرض وملكه لهما، وتسخيره ما في الأرض والفلك، وإمساك السماء من الوقوع على الأرض، والإحياء والإماتة ثم الإحياء.
التفسير والبيان:
أورد الله تعالى في هذه الآيات أنواعا من الدلائل على قدرته البالغة وعلمه الشامل، ومن كان قادرا على كل شيء، عالما بكل شيء، كان قادرا على النصر، فقال:
١- ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي ذلك النصر المذكور بسبب أنه قادر على كل شيء، فهو يولج ويدخل الليل في النهار ويولج ويدخل النهار في الليل، بمعنى زيادة أحدهما على حساب الآخر، فيزيد في أحدهما من الساعات ما ينقص من الآخر، فتارة يطول الليل ويقصر
261
النهار كما في الشتاء، وتارة يطول النهار ويقصر الليل كما في الصيف، فالقادر على ذلك قادر قطعا على نصرة المظلوم، وإثابة الطائع، ومجازاة العاصي.
وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي وذلك بسبب أن الله سميع لكل دعاء أو قول، بصير بكل عمل أو حال، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وهذا يعني أن الله تعالى هو الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء، الحاكم الذي لا معقب لحكمه، كما قال: قُلِ: اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [آل عمران ٣/ ٢٦- ٢٧].
وعلة هذه القدرة الفائقة ما قال:
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ أي ذلك الوصف المتقدم من القدرة الكاملة والعلم التام لله تعالى لأجل أن الله هو الحق، أي الموجود الثابت الواجب لذاته، بلا مثيل ولا شريك، بمعنى أنه هو مصدر الوجود، وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له لأنه ذو السلطان العظيم، وكل شيء فقير إليه، ذليل لديه، وأن ما يعبدون من دونه من الآلهة من الأصنام والأنداد والأوثان، وكل ما عبد من غير الله هو باطل، لا يقدر على صنع شيء، ولا يملك ضرا ولا نفعا لأنه عاجز ضعيف، ومصنوع مخلوق لربه القادر.
وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي ولأن الله تعالى المتعالي على كل شيء بقدرته وعظمته، الكبير عن أن يكون له شريك، إذ هو العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا شيء أعلى منه شأنا، الكبير الذي لا أكبر منه، ولا أعز ولا
262
أكبر منه سلطانا، كما قال تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة ٢/ ٢٥٥] وقال:
الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ [الرعد ١٣/ ٩].
والمقصود: كيف يصح لعبدة الأصنام وأمثالها عبادة من لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا، ويتركون عبادة من بيده كل شيء، وهو القادر على كل شيء؟! ٢- أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله يرسل الرياح، فتثير سحابا، فيمطر على الأرض الجرز التي لا نبات فيها، وهي هامدة يابسة، فتصبح زاهية نضرة، مخضرة بالنباتات والأزهار ذات الألوان البديعة، والأشكال الرائعة، بعد يبسها وجمودها، قال الخليل: المعنى انتبه! أنزل الله من السماء ماء، فكان كذا وكذا. وقوله:
مُخْضَرَّةً أي ذات خضرة، على وزن مفعلة كمبقلة ومسبعة، أي ذات بقل وسباع.
إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أي إن الله رحيم لطيف بعباده، يدبر لهم أمر المعاش، وأصل علمه أو فضله إلى كل شيء، عليم بما في أنحاء الأرض من الحب مهما صغر، خبير بمصالح خلقه ومنافعهم وأحوالهم، لا يخفى عليه خافية، فيحقق لهم المصلحة بتدبيره، كما قال تعالى حكاية عن لقمان: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان ٣١/ ١٦] وقال سبحانه: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ، وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [يونس ١٠/ ٦١].
٣- لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ جميع ما في السموات وما في الأرض لله سبحانه خلقا وملكا وعبيدا، أي جميع الأشياء هي
263
مخلوقة له، مملوكة له، عبيد له، منقادة خاضعة لأمره، متصرف فيها كيف يشاء، وهو غني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، عبد لديه. وهذا دليل آخر على القدرة الإلهية الشاملة.
٤- أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ أي ألم تعلم أن الله ذلل لكم أيها البشر جميع ما في ظاهر الأرض وباطنها، من حيوان وجماد ومعدن وزروع وثمار، لينتفع بها الإنسان في مصالحه المختلفة، كما قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية ٤٥/ ١٣] أي من إحسانه وفضله وامتنانه.
وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ أي وسخر لكم السفن، جارية في البحار، لنقل الركاب والبضائع، بتسخيره وتسييره، متنقلة من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، فيتم تبادل الحوائج والمنافع، ويتعايش الناس متعاونين، يحققون بها ما يحتاجون إليه ويريدون.
وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي ويحفظ السماء بما فيها من كواكب ونجوم بالجاذبية، وبتخصيص مدار ثابت خاص لكل منها، بمشيئته وإرادته، ولو شاء لأذن للسماء، فسقطت على الأرض، فهلك من فيها، ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء من أن تقع على الأرض إلا بإذنه وأمره، وذلك يوم القيامة حيث تتساقط الكواكب وتتصدع السموات، كما قال تعالى:
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [الانفطار ٨٢/ ١- ٢] ولولا هذا النظام الدقيق لا لاصطدمت الكواكب ببعضها، ودمرت الأرض بما عليها، لذا قال:
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي إن الله تعالى رؤف رحيم بالناس على ظلمهم، فمتعهم بجمال السماء والأرض، وأرشدهم إلى الاستدلال بآيات الكون على وجوده ووحدانيته.
264
٥- وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ أي وهو الذي أحياكم من العدم، وخلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا يذكر، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم وأعماركم، والموت ستر ونعمة، ثم يحييكم بالبعث يوم القيامة. ويلاحظ اختيار الصيغ المناسبة للتعبير، فهو أولا عبر بالماضي لأنه تم وحدث، ثم أشار إلى المرحلة المرتقبة وهو الموت، ثم الحياة الجديدة في عالم الآخرة.
إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أي إن الإنسان جحود نعم الله تعالى، فلم يقدر تلك النعم، ويهتدي بها إلى عبادة الله وتوحيده، وهجر كل ما عداه من الآلهة المزعومة، وهو مثل قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات ١٠٠/ ٦].
ونظير الآية قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة ٢/ ٢٨] وقوله: قُلِ: اللَّهُ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، لا رَيْبَ فِيهِ [الجاثية ٤٥/ ٢٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآيات الاستدلال على كمال قدرته تعالى وكمال علمه، وتلك الأدلة هي ما يأتي:
١- من آيات قدرة الله البالغة كونه خالقا لليل والنهار، ومتصرفا فيهما، فوجب أن يكون قادرا عالما بما يجري فيهما، وإذا كان قادرا عليما، كان قادرا على نصر من شاء من عباده، يفعل ما يلائم الحكمة والمصلحة، فهو يسمع الأقوال، ويبصر الأفعال، فلا يعزب عنه مثقال ذرّة، ولا دبيب نملة إلا يعلمها ويسمعها ويبصرها.
٢- ذلك الوصف المتقدم من قدرة الله على هذه الأمور لأجل أن الله هو الحق أي الموجود الواجب لذاته، الذي يمتنع عليه التغير والزوال، فيأتي بالوعد
265
والوعيد. أو أنه ذو الحق، فدينه الحق، وعبادته حق، والمؤمنون بحق يستحقون منه النصر بحكم وعده الحق.
وأما الأصنام فلا استحقاق لها في العبادات، والله هو العالي على كل شيء بقدرته، والعالي عن الأشباه والأنداد، المقدس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا تليق بجلاله. وهو الكبير المتعال أي الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن، الكبير عن أن يكون له شريك.
٣- ومن الأدلة على كمال قدرته إنزال المطر وإنبات النبات ذي الخضرة البديعة، السارّة لكل عين وقلب، ومن قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت كما قال الله عز وجل: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج ٢٢/ ٥].
وقوله فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة.
وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ قال ابن عباس: خبير بما ينطوي عليه العبد من القنوط عند تأخير المطر. وهو لطيف بأرزاق عباده.
٤- لله تعالى جميع ما في السموات وما في الأرض خلقا وملكا وعبيدا، وكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه، وإن الله لهو الغني الحميد، فلا يحتاج إلى شيء، وهو المحمود على كل حال، والكل منقاد له غير ممتنع من التصرف فيه، وهو غني عن الأشياء كلها، وعن حمد الحامدين أيضا لأنه كامل لذاته، والكامل لذاته غني عن كل ما عداه في كل الأمور.
٥- هناك نعم كثيرة من الله على عباده تدل أيضا على قدرته ورحمته
266
ولطفه، منها أنه سخر (ذلل) لعباده كل ما في الأرض مما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار، كما قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة ٢/ ٢٩]. وسخر لكم الفلك في حال جريها، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ، لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان ٣١/ ٣١] وتسخير الفلك: بتسخير الماء والرياح لجريها.
وهو تعالى يمسك السماء لئلا تقع على الأرض، فيهلك الناس، إلا بإذن الله لها بالوقوع أو السقوط، فتقع بإرادته وتخليته، إن الله بالناس لرؤوف رحيم في هذه الأشياء التي سخرها لهم.
٦- ومن دلائل القدرة الإلهية: الإحياء والإماتة، فالله هو الذي خلقنا بعد أن كنا نطفا، ثم يميتنا عند انقضاء آجالنا، ثم يحيينا للحساب والثواب والعقاب، ولكن الإنسان لجحود لما ظهر من الآيات الدالة على قدرته ووحدانيته تعالى. قال ابن عباس: يريد الأسود بن عبد الأسد وأبا جهل بن هشام والعاص بن هشام، وجماعة من المشركين. والأولى- كما ذكر الرازي- تعميمه في كل المنكرين، وإنما قال ذلك لأن الغالب على الإنسان كفران النعم، كما قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ ٣٤/ ١٣] وقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ زجر للإنسان عن الكفران، وبعث له على الشكر.
267
لكل أمة شريعة ومنهاج ملائمان
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٧ الى ٧٠]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠)
البلاغة:
فَلا يُنازِعُنَّكَ نهي يراد به النفي، أي لا ينبغي لهم منازعتك، فقد ظهر الحق وقامت أدلته.
المفردات اللغوية:
مَنْسَكاً شريعة ومنهاجا ومتعبدا ناسِكُوهُ عاملون به فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي لا ينبغي لهم أن ينازعوك في أمر الدين، ومنه أمر الذبيحة، إذ قالوا: ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم لأنهم إما جهال وأهل عناد، أو لأن أمر دينك أظهر من أن يقبل النزاع وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي إلى دينه وتوحيده وعبادته هُدىً مُسْتَقِيمٍ طريق إلى الحق سويّ أو دين قويم.
وَإِنْ جادَلُوكَ في أمر الدين، وقد ظهر الحق، ولزمت الحجة فَقُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من المجادلة الباطلة وغيرها، فمجازيكم عليها، وهو وعيد فيه رفق.
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين بالثواب والعقاب يوم القيامة، كما فصل في الدنيا بالحجج والآيات فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين، بأن يقول كل فريق خلاف قول الآخر.
أَلَمْ تَعْلَمْ استفهام تقرير يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ فلا يخفى عليه شيء إِنَّ
268
ذلِكَ فِي كِتابٍ
أي إن ما ذكر هو في اللوح المحفوظ مسجل فيه قبل حدوثه، فلا يهمنك أمرهم، مع علمنا به، وحفظنا له. إِنَّ ذلِكَ إن علم ما ذكر والإحاطة به وإثباته في اللوح المحفوظ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ سهل لأن علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل المعلومات على سواء.
سبب النزول:
قيل نزلت هذه الآية بسبب جدال الكفار في أمر الذبائح، وهم كفار خزاعة، قالوا للمسلمين: تأكلون ما ذبحتم، ولا تأكلون ما ذبح الله من الميتة، أو مالكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله؟! فكان ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم بسكاكينكم، فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة.
المناسبة:
بعد أن عدد الله تعالى نعمه، وأبان أنه رؤف رحيم بعباده، وإن كان منهم من يكفر بالله ولا يشكر النعمة، أتبعه بذكر نعمه بما كلّف، فقال: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ أي لكل أمة شريعة خاصة، وفيه زجر من نازع النبي صلّى الله عليه وسلم، بتمسكهم بما شرعوا من الشرائع، ثم أمره بالثبات على دينه الحق، فالله يحكم بين العباد يوم المعاد.
التفسير والبيان:
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكا هم عاملون به، أي شريعة، ومتعبّدا، ومنهاجا صالحا، يتلاءم مع مقتضيات الزمان والمكان، ومع سنة التدريج والتطور ونضوج العقل البشري، فأنزل التوراة على موسى بنحو من الشدة، لعلاج التمسك بالمادة، ثم أنزل الإنجيل متمما لحكم التوراة مع علاج الروح وإشاعة المحبة، والعناية بجوهر الدين، لا بمجرد المظاهر والشكليات والطقوس، ثم أنزل القرآن حينما نضج العقل البشري، لإرساء معالم دستور الحق، والجمع بين العناية بالمادة والروح، والتركيز على معايير
269
العلم، واستخدام العقل، فكان أول دين يضع أسس الحضارة الإنسانية الشاملة، وكان تشريعه وسطا بين الشرائع، وكانت هذه الأديان صالحة للزمان الذي جاءت فيه.
فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي إذا كان هذا هو شأن التدرج في الشرائع، فلا ينبغي لمعاصريك يا محمد أن ينازعوك في أمر الدين، فلكل أمة شريعة خاصة تناسب الزمان الذي جاءت فيه، ثم جاء هذا القرآن ناسخا تلك الشرائع التي لم تعد صالحة للعمل بها، وأدت دورها، وكانت مقصورة على أتباعها المتقدمين.
فلا تتأثر يا محمد بمنازعتهم لك، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق، واثبت على دينك ثباتا لا يتزعزع ولا يلين. والمراد بذلك تهييج حمية الرسول صلّى الله عليه وسلم، والمبالغة في تثبيته على دينه.
وَادْعُ إِلى رَبِّكَ، إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ أي وادع هؤلاء المنازعين وغيرهم، أي كل الناس إلى سبيل ربك ودينه الحق، فإنك على طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود، وهو سعادة الدنيا والآخرة، كقوله تعالى:
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ، وَادْعُ إِلى رَبِّكَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [القصص ٢٨/ ٨٧].
وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي فإن عدلوا عن هذه الأدلة إلى طريقة المراء والجدال بالباطل، بعد أن ظهر الحق، فقل لهم على سبيل التهديد والوعيد: الله عليم بما تعملون وبما أعمل، ومجاز كل واحد بعمله، وهذا كقوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس ١٠/ ٤١] وقوله سبحانه: هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ، كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأحقاف ٤٦/ ٨] لأنه ليس بعد إيضاح الأدلة إلا هذا اللون من الوعيد والتحذير، لذا قال تعالى:
270
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي الله يقضي بين المؤمنين منكم والكافرين يوم القيامة فيما اختلفتم فيه من أمر العقيدة والدين، بالجزاء الحاسم المتردد بين الجنة والنار، والثواب والعقاب، الأول لمن قبل، والثاني لمن رفض، فتعرفون حينئذ الحق من الباطل، والمحق من المبطل.
والخلاصة: إن الآيات آمرة باستمرار الدعوة إلى شرع الله ودينه، وعدم التمييز بين الناس، دون مبالاة بجدل المرائين وعرقلة المتخلفين، فإن الداعي على حق أبلج، كما قال تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَقُلْ: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى ٤٢/ ١٥].
ثم أخبر الله تعالى عن كمال علمه بخلقه وعلمه بالكائنات كلها قبل خلقها وبما يستحقه كل من المسيء والمحسن، فقال:
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي لقد علمت أيها الرسول- والخطاب وإن كان معه، فالمراد سائر الناس- أن علم الله محيط بما في السموات وما في الأرض، فلا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ. وكتابة كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، وعلمه الشامل، وفصله بين عباده يوم القيامة يسير سهل عليه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يلي:
١- لكل أمة من الأمم المتقدمة شريعة خاصة بها، صالحة لزمانها، أي أنه
271
كانت الشرائع في كل عصر، ومن الخطأ البيّن التمسك بما كان للأولين من شريعة التوراة والإنجيل لأن القرآن نسخ ما قبله من الشرائع.
٢- إن خاصم الناس بالباطل، كمخاصمة مشركي مكة محمدا صلّى الله عليه وسلم، فليقل المؤمن: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من الكفر والتكذيب، وهذا أمر من الله تعالى لنبيه بالإعراض عن مماراة قومه، صيانة له عن الاشتغال بتعنتهم، ولا جواب لصاحب العناد، فإنهم إن أبوا إلا المجادلة بعد الاجتهاد بتسوية النزاع، فليدفعوا بأن الله أعلم بأعمالكم وبقبحها، وبما تستحقون عليها من الجزاء، فهو مجازيكم به.
وهذا وعيد وإنذار، ولكن برفق ولين.
٣- الله تعالى هو الذي يحكم بين النبي صلّى الله عليه وسلم وقومه، وبين المؤمنين والكافرين فيما يختلفون فيه من أمر الدين، فيعرف حينئذ الحق من الباطل.
قال القرطبي: في هذه الآية أدب حسن علّمه الله عباده في الرد على من جادل تعنتا ومراء ألا يجاب ولا يناظر، ويدفع بهذا القول الذي علمه الله لنبيه صلّى الله عليه وسلم.
٤- على النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين من بعده الدعوة إلى دين الله الحق، فإن هذا الدين طريق واضح مستقيم مؤد إلى المقصود، وعلى كل داعية إلى الله وتوحيده وعبادته ألا يعبأ بالعثرات، وألا يهتم بمراء المجادلين، ومحاولاتهم الوقوف في وجه الدعوة.
٥- الله عليم بأحوال الناس وبما هم مختلفون فيه، وإن كل ما يجري في العالم هو مكتوب عند الله في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ، وإن العلم الشامل بما في السماء والأرض، والفصل بين المختلفين يسير جدا على الله تعالى.
ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء»
272
وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: وما اكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة».
فما العباد عاملون قد علمه الله تعالى قبل ذلك على الوجه الذي يفعلونه، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره، وهذا يعصي باختياره، وكتب ذلك عنده، وأحاط بكل شيء علما، وهو سهل عليه.
بعض أباطيل المشركين وتحديهم بخلق ذبابة
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧١ الى ٧٦]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦)
273
الإعراب:
قُلْ: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ النَّارُ: إما خبر مبتدأ محذوف، وتقديره هي النار، ووَعَدَهَا اللَّهُ: استئناف كلام، وإما أن يكون مبتدأ، والجملة الفعلية: وَعَدَهَا اللَّهُ خبره.
وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ منصوب على الحال بَيِّناتٍ حال.
البلاغة:
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ فيه استعارة، أي تستدل من وجوههم على المكروه وإرادة الفعل القبيح، مثل: عرفت في وجه فلان الشر.
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً تمثيل، أي مثل الكفار في عبادتهم لغير الله كمثل الأصنام التي لا تستطيع أن تخلق ذبابة واحدة. وقد سمي الذي جاء به مثلا تشبيها للصفة ببعض الأمثال.
المفردات اللغوية:
وَيَعْبُدُونَ أي المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً حجة وبرهانا سمعيا يدل على جواز عبادته وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أي حجة عقلية أنها آلهة، سواء أكان العلم من ضرورة العقل أو استدلاله وَما لِلظَّالِمِينَ بالإشراك مِنْ نَصِيرٍ أي ناصر ومعين يقرر مذهبهم أو يدفع عنهم العذاب.
آياتُنا من القرآن بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على العقائد الحقة والأحكام الإلهية الْمُنْكَرَ المستنكر من التجهم والانتفاخ، أو الإنكار لها، كالمكرم بمعنى الإكرام، أي أثره من الكراهة والعبوس ودلالة الغيظ والغضب، لفرط نكيرهم للحق، وهذا منتهى الجهالة. وإشعارا بذلك وضع الَّذِينَ كَفَرُوا موضع الضمير يَسْطُونَ أي يبطشون بهم من شدة الغيظ.
بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ من غيظكم على التالين، وبأكره إليكم من القرآن المتلو عليهم النَّارُ هو النار، كأنه جواب سائل قال: ما هو؟ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بأن مصيرهم إليها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هي النار.
يا أَيُّهَا النَّاسُ أهل مكة وغيرهم ضُرِبَ مَثَلٌ بيّن لكم حال مستغربة أو قصة رائعة أو جعل، ولذلك سماها مثلا، تشبيها لها ببعض الأمثال، والمثل: الشبه. فَاسْتَمِعُوا لَهُ للمثل أو
274
لبيانه استماع تدبر وتفكر إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تعبدون غيره وهم الأصنام ذُباباً اسم جنس، يقع على المذكر والمؤنث، واحده: ذبابة وجمعه أذبّة وذبّان، مثل غراب وأغربة وغربان، وسمي به لكثرة حركته. وقوله: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً أي لا يقدرون على خلقه مع صغره لأن لن بما فيها من تأكيد النفي دالة على المنافاة بين المنفي والمنفي عنه وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي لخلقه، أي لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متعاونين عليه، فكيف إذا كانوا منفردين؟!.
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً من الطيب والزعفران الملطخين به لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ لا يستردوه منه لعجزهم، فكيف يعبدون شركاء لله تعالى؟ هذا أمر مستغرب، عبر عنه بضرب المثل ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ العابد والمعبود.
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ما عظموه حق عظمته، إذ أشركوا به العاجز عن دفع الذباب عنه والانتصاف منه لَقَوِيٌّ قادر على خلق الممكنات بأسرها عَزِيزٌ غالب يَصْطَفِي يختار إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي إن الله سميع لمقالتهم، مدرك للأشياء كلها، بصير بمن يتخذه رسولا كجبريل وميكائيل وإبراهيم ومحمد وغيرهم عليهم السلام. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي ما قدموا وما أخروا وما عملوا وما هم عاملون بعد وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي إليه مرجع الأمور كلها لأنه مالكها بالذات، لا يسأل عما يفعل من اصطفاء الرسل وغيره، وهم يسألون.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أنه العليم بكل شيء، بيّن أن عبادة المشركين لغير الله تعالى لا تعتمد على دليل نقلي أو عقلي، وهم مع جهلهم وغباوتهم إذا أرشدوا إلى الحق ودليله، وتلي عليهم القرآن، ظهر في وجوههم الغيظ والغضب، وهموا أن يبطشوا بمن يتلو ويذكّرهم، ولكن ما ينالهم من النار أعظم مما يحصل لهم من الغم حين تلاوة الآيات.
ولما بين أنهم يعبدون من دون الله مالا حجة لهم فيه ولا علم، ذكر ما يدل على إبطال قولهم وجهلهم بعظمة الإله، ثم انتقل من الإلهيات إلى النبوات، وأبان أنه يختار الرسل من الملائكة والناس ممن يعلم أنه الأكفاء والأوفق: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام ٦/ ١٢٤].
275
التفسير والبيان:
هذه بعض أباطيل المشركين الدالة على جهلهم وكفرهم وسخافتهم فيقول تعالى:
١- وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أي ويعبد هؤلاء المشركون آلهة من غير الله، ليس لهم دليل نقلي ولا عقلي على عبادتها، فهو تعالى لم ينزل من السماء بجواز عبادتها حجة ولا برهانا، وهو المقصود بالدليل النقلي السمعي، والمراد من قوله: ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وليس لهم دليل عقلي وهو المراد بقوله: وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وإذا لم يكن هناك دليل مقبول، فهو عن تقليد للآباء والأسلاف، أو عن جهل وشبهه، وكل ذلك باطل.
ونظير الآية قوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ، فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١١٧]. وفي الآية إشارة إلى أن الكافر قد يكون كافرا، وإن لم يعلم كونه كافرا، ودلالة على فساد التقليد القائم على الجهل.
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي ليس للكافرين الظالمي أنفسهم من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العقاب أو العذاب.
٢- وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ أي وإذا ذكرت للمشركين آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله، وأن لا إله إلا الله، وأن رسله الكرام حق وصدق، ظهرت على وجوههم دلالة الغيظ والغضب، وامتلأت قلوبهم حقدا ونفورا.
يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا أي يكادون أو يقاربون
276
يبطشون بالذين يحتجون عليهم بدلائل القرآن الصحيحة، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء. وهذا يدل على غليان قلوبهم بالكفر، وسيطرة الجهالة والعناد والكفر عليها، حتى أصبحوا ميئوسا من علاجهم، وصاروا متمردين على الأنبياء والمؤمنين.
قُلْ: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين مقابلة لوعيدهم: ألا أخبركم بشر من غيظكم الذي ملأ قلوبكم؟ هو النار التي وعدها الله للكافرين، فعذابها ونكالها أشد وأشق وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا، بل هو أعظم مما تنالون منهم فعلا، إن نلتم بزعمكم وإرادتكم، وبئس المصير، أي وبئس النار موئلا ومقاما لكم، كما قال تعالى: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان ٢٥/ ٦٦].
ثم نبه الله تعالى على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها، وبيان حال هذه الأشباه والأمثال لله في زعمهم، فقال:
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا أي يا أيها البشر قاطبة جعل مثل أي شبه لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به، فأنصتوا وتفهموا حال تلك المعبودات، وإذا فهم حالها يكون حال عابديها أسوأ، فهم كالأصنام وأسوأ منها، وحالها هو:
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي إن ما تعبدون من غير الله من الأصنام والأنداد لن يقدروا على خلق ذبابة واحدة، حتى ولو تعاون واجتمع لهذه المهمة جميع تلك المعبودات.
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعا قال: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة»
ورواه الشيخان بلفظ آخر: «قال الله عز وجل:
من أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة»
.
277
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ أي كما أنهم عاجزون عن خلق ذبابة واحدة، هناك ما هو أبلغ من ذلك عاجزون من مقاومته والانتصار منه، فلو سلبوا شيئا مما عليها من الطيب، لا تقدر أن تستنقذوه منه، علما بأن الذباب أضعف مخلوقات الله، لذا قال:
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ أي عجز الطالب وهو الإله المعبود من استنقاذ الشيء المسلوب من الذباب المطلوب، أو ضعف عابد الصنم، والصنم المعبود.
وهذا يدل على جهالتهم وغباوتهم لأن العابد يتأمل عادة النفع أو دفع الضّرّ من المعبود، وعابد الصنم لا يحقق لنفسه شيئا، مما يدل على حقارة الصنم وضعفه، وغباء عابده، فكيف يصح جعله مثلا لله في العبادة. ثم قال تعالى مؤكدا عبثهم وجهلهم وعدم معرفتهم حق الله تعالى:
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ أي ما عرفوا قدر الله وعظمته، وما عظموه حق التعظيم، حين عبدوا معه غيره، كهذه المخلوقات الجمادات التي لا تقاوم الذباب لضعفها.
والله هو القوي القادر الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء، العزيز الذي عز كل شيء فقهره وغلبه، فلا يغالب ولا يمانع، لعزته وعظمته وسلطانه، فهو الجدير بالعبادة والتعظيم.
ونظائر الآية كثير منها: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم ٣٠/ ٢٧] إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ، إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج ٨٥/ ١٢- ١٣] إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات ٥١/ ٥٨].
ثم انتقل بيان الله تعالى من الإلهيات إلى النبوات فقال:
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ أي أن الله يختار من الملائكة رسلا لتبليغ الوحي إلى الأنبياء، ومن الناس لإبلاغ الرسالة إلى العباد،
278
حسبما يشاء وعلى وفق ما يريد. قيل: إن الوليد بن المغيرة قال: أو أنزل عليه الذكر من بيننا؟ فنزلت الآية.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي سميع لأقوال عباده، بصير بهم، عليم بمن يستحق اختياره للرسالة.
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم علما تاما بأحوال الملائكة والرسل والمكلفين، ما مضى منها، وما يأتي فلا يخفى عليه شيء من أمورهم، كما قال: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً- إلى قوله: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الجن ٧٢/ ٢٦- ٢٨].
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي وإليه يوم القيامة مرجع الأمور كلها، فلا أمر ولا نهي لأحد سواه وهذا إشارة إلى القدرة التامة، والتفرد بالألوهية والحكم. وقوله يَعْلَمُ.. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يتضمن مجموعها الزجر عن الإقدام على المعصية.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن عبدة الأوثان مثل كفار قريش يعبدون من غير الله آلهة، ليس لهم دليل سمعي نقلي أو عقلي، لذا توعدهم ربهم بقوله: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي ناصر ومعين.
٢- إن تأصل الكفر والعناد والاستكبار في نفوس أولئك الكفرة، جعلهم في أشد حالات الغضب والعبوس والحقد إذا تليت عليهم آيات القرآن، ويكادون
279
يبادرون إلى البطش الشديد بمن يحتج عليهم بدلائل القرآن، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء.
٣- أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يقابل وعيدهم بقوله: هل أخبركم بما هو أسوأ أو أشنع وأكره من تخويفكم المؤمنين وبطشكم بهم ومن هذا القرآن الذي تسمعون؟
إنه نار جهنم وعذابها ونكالها، وعدها الله الذين كفروا يوم القيامة، وبئس المصير، أي الموضع الذي يصيرون إليه وهو النار. فهذا وعيد لهم على سطواتهم بالذين يتلون القرآن.
٤- ضرب الله مثلا لحال الكفار وأصنامهم لأن حجج الله تعالى عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم، وهو في الحقيقة ليس مثلا، وإنما هو لما في صفتهم وحالهم من الاستغراب والتعجب سمي مثلا، تشبيها لتلك الصفة ببعض الأمثال السائرة.
والمعنى: ضربوا لله مثلا فاستمعوا قولهم يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره فكأنه قال: جعلوا لي شبيها في عبادتي، فاستمعوا خبر هذا التشبيه. فالكفار هم ضاربو المثل.
أو أن المعنى: يا أيها الناس، هذا مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابا، وإن سلبها الذباب شيئا لم تستطع أن تستنقذه منه، أي أن الله هو ضارب المثل.
والأدق في المعنى: ضرب الله عز وجل ما يعبد من دونه مثلا، أي بيّن الله لكم شبها ولمعبودكم، فالمثل يشمل العابد والمعبود.
٥- المثل: هو أن الذين تعبدون من دون الله وهي الأوثان التي كانت حول الكعبة، وعددها ثلاث مائة وستون صنما، لن يقدروا أن يخلقوا ذبابة واحدة،
280
ولن يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم أمام ذبابة إذا أراد أن يأخذ شيئا مما عليها- على الأوثان- من الطيب والزعفران الذي كانوا يطلون به أصنامهم.
لقد ضعف وعجز الطالب وهو الآلهة، والمطلوب: وهو الذباب، أو عابد الصنم والصنم المعبود، فالطالب: يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه، والصنم:
المطلوب إليه.
٦- ما عظّم هؤلاء المشركون الله حق عظمته، حيث جعلوا هذه الأصنام العاجزة شركاء له، وهو القادر القهار، القوي العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع، ومن يجرأ على مغالبته؟!.
٧- الاختيار المطلق لله عز وجل في اصطفاء الملائكة يتوسطون لإبلاغ الوحي إلى الأنبياء، وفي اصطفاء الرسل من البشر لتبليغ الرسالة إلى الناس.
والمراد بالآية: إن الله اصطفى محمدا صلّى الله عليه وسلم لتبليغ الرسالة فليس بعثه محمدا أمرا بدعيا.
إن الله سميع لأقوال عباده، بصير بمن يختاره من خلقه لرسالته. وهو سبحانه عليم بكل ما قدموا وما خلفوا، وإليه وحده مرجع الأمور كلها، فيجازي العباد على أعمالهم.
281
أوامر التشريع والأحكام
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
الإعراب:
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ مِلَّةَ: إما منصوب بفعل مقدر، أي اتبعوا ملة أبيكم، وإما منصوب على البدل من موضع الجار والمجرور، وهو قوله: فِي الدِّينِ لأنه منصوب بجعل.
وإما منصوب بنزع الخافض وهو الكاف، أي كملة أبيكم إبراهيم، أي وسع عليكم في الدين كملة إبراهيم، وهذا بعيد. ويجوز نصبه على الإغراء أو على الاختصاص. وإِبْراهِيمَ: عطف بيان.
هُوَ سَمَّاكُمُ... وَفِي هذا هُوَ: يراد به الله تعالى، أو يراد به إبراهيم. وَفِي هذا: أي سماكم المسلمين في هذا القرآن، وفاعل سَمَّاكُمُ ضمير يعود على الله أو على إبراهيم.
البلاغة:
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا مجاز مرسل، من إطلاق الجزء على الكل، أي صلوا باعتبار الركوع والسجود من أهم أركان الصلاة.
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ فيه ذكر العام بعد الخاص للعناية بشأن الخاص، ثم ذكر الأعم.
المفردات اللغوية:
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا أي صلوا. وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وحّدوه وتعبّدوه بسائر ما تعبدكم به.
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ أي افعلوا ما هو خير وأصلح فيما تأتون وتذرون، كنوافل الطاعات، وصلة
282
الأرحام، ومكارم الأخلاق. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي افعلوا هذه كلها، وأنتم راجون الفلاح، غير متيقنين له. والآية آية سجدة عند الشافعية، لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود،
ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «فضلت سورة الحج بسجدتين، من لم يسجدهما، فلا يقرأهما».
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ أي في سبيله ومن أجله أعداء دينه. حَقَّ جِهادِهِ أي جهادا حقا خالصا لوجهه، وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة، كقولك: هو حق عالم. وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا، أو لأنه مختص بالله. والجهاد: استفراغ الوسع في مجاهدة العدو، وهو ثلاثة أنواع: مجاهدة العدو الظاهر كالكفار، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس والهوى، وهذه أعظمها،
فقد أخرج البيهقي وغيره عن جابر قال: «قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوم غزاة، فقال: قدمتم خير مقدم، قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه».
وروي عنه صلّى الله عليه وسلم أنه رجع من غزوة تبوك، فقال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» «١».
هُوَ اجْتَباكُمْ اختاركم لدينه ولنصرته، وفيه تنبيه على مقتضي الجهاد والداعي إليه.
حَرَجٍ ضيق وعسر ومشقة، بتكليفكم ما يشق عليكم، بأن سهله عند الضرورات، كقصر الصلاة الرباعية، والتيمم، وأكل الميتة، والفطر للمريض والمسافر. وفيه إشارة إلى أنه لا عذر لأحد في ترك التكليف، فهو إما عزيمة، وإما رخصة،
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».
مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ أي شريعته، وإنما جعل أبا للمسلمين لأنه أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو كالأب لأمته، من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية، أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته، فغلّبوا على غيرهم.
مِنْ قَبْلُ أي من قبل القرآن في الكتب المتقدمة. وَفِي هذا أي القرآن. هُوَ سَمَّاكُمُ الضمير يعود إلى الله، بدليل قراءة: الله سماكم أو لإبراهيم، لقوله المتقدم: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ. لِيَكُونَ الرَّسُولُ متعلق بسماكم. شَهِيداً عَلَيْكُمْ يوم القيامة بأنه بلّغكم، فيدل على قبول شهادته لنفسه، اعتمادا على عصمته. وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ بتبليغ الرسل إليهم، أي تكونوا أنتم شهداء على الناس أن رسلهم بلّغوهم.
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي فتقربوا إلى الله بأنواع الطاعات، لما خصكم بأنواع الفضل والشرف. وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أي وثقوا به في مجامع أموركم، ولا تطلبوا الإعانة والنصرة إلا منه.
هُوَ مَوْلاكُمْ ناصركم ومتولي أموركم. فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ هو إذ لا مثل له في الولاية والنصرة، بل لا مولى ولا ناصر سواه في الحقيقة.
(١) انظر تخريج الحديث ودرجة ضعفه في كشف الخفا.
283
المناسبة:
بعد أن تكلم الله تعالى في الإلهيات، ثم في النبوات، أتبعه بالكلام في الشرائع والأحكام من نواح أربع هي:
١- تعيين المأمور: وهم المكلفون: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
٢- وأقسام المأمور به: وهي أربعة: الصلاة، وعبادة الله وحده، وفعل الخير، والجهاد.
٣- وما يوجب قبول تلك الأوامر: وهو ثلاثة: الاجتباء، وكون التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم عليه السلام، وتسميتكم مسلمين في القرآن وسائر الكتب المتقدمة عليه.
٤- تأكيد ذلك التكليف بالأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والاعتصام بالله تعالى، أي الاستعانة به.
التفسير والبيان:
هذه أوامر تكليفية إلهية يراد بها توثيق الصلة بالله تعالى، وتهذيب النفس، وجهاد الأعداء، وإقامة صرح العدالة الاجتماعية في شرع الله ودينه، فقال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. تُفْلِحُونَ أي يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، وآمنوا باليوم الآخر صلوا صلاتكم المفروضة المشتملة على الركوع (الانحناء لله عز وجل) والسجود (الخضوع بأشرف أجزاء الإنسان وهو الوجه لله تعالى) واعبدوه بسائر ما تعبدكم به كمناسك الحج والصيام ونحوها، وتحروا فعل الخير الذي يرضي ربكم ويقربكم منه من أداء نوافل الطاعات، وصلة الأرحام، ومكارم الأخلاق، وهذا يشمل كل فضيلة في الإسلام، وفعل الخيرات عام للتكاليف جميعها، يشمل
284
ما يصلح علاقة العبد بالرب، وما يصلح علاقات الناس بعضهم مع بعض. لذا جمعت الآية أسمى درجات التهذيب النفسي والاجتماعي، فكل ما أمر الله به خير، لذا قال معللا ذلك الأمر بقوله:
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لتفلحوا أو افعلوا هذا راجين الفوز والفلاح بما عند الله من الثواب والرضوان. والفلاح: الظفر بنعيم الآخرة.
وتأكيدا لإعداد الذات المؤمنة وتهذيبها، وصونا للجماعة المؤمنة من كيد أعدائها أمر الله بالجهاد، فقال:
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ أي وجاهدوا في سبيل نصرة دين الله، ومن أجل إرضاء الله، جهادا حقا خالصا لوجهه الكريم، لا يشوبه رياء، ولا يثني عنه لوم لائم، فالجهاد في الله: معناه الجهاد في سبيله ومن أجل دينه، والأولى أن يحمل الجهاد على المعنى العام الذي يشمل جميع أنواعه.
والجهاد أنواع ثلاثة كما بينا: جهاد النفس والهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار المعتدين والمنافقين المرجفين. ويكون الجهاد الأخير بالأموال والألسن والأنفس،
أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»
وجهاد اللسان يكون بالحجة والبيان والاعلام، والجهاد بالنفس بحمل السلاح يكون للمعتدين، وهو فرض كفاية على المسلمين، يجزئ فيه قيام بعضهم به متى حققوا المطلوب، وإلا فعلى حسب رأي الحاكم ولو بالنفير العام.
وجهاد النفس أصل لجهاد العدو الظاهر، فهو الجهاد الأكبر كما وصفه الرسول صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم، ولهذا كان فرض عين على كل مسلم. وكذلك جهاد أهل الظلم والبدع فريضة على كل مكلف على قدر طاقته، كما
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم- فيما يرويه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله
285
عنه-: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
ونظير الآية: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً، فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ، وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الفرقان ٢٥/ ٥١- ٥٢].
والآية محكمة غير منسوخة بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن ٦٤/ ١٦] فليس المقصود بقوله: حَقَّ جِهادِهِ الغاية القصوى التي تتجاوز الوسع وحد الاستطاعة، وإنما المراد الإخلاص لإعلاء دين الله، وتأييد شرعه، والتدرع بالقوة والعزيمة والصبر، والترفع عن المطامع المادية كالغنيمة أو غيرها من شهوات الدنيا.
وإضافة حَقَّ إلى «جهاد» في قوله تعالى: حَقَّ جِهادِهِ من إضافة الصفة للموصوف، كما بينا، وإضافة «جهاد» للضمير في قوله:
جِهادِهِ يراد بها اختصاص المضاف بالمضاف إليه، وهو جعل الجهاد مطلوبا لله ومن أجل دينه.
ثم ذكر الله تعالى علة الأمر بالجهاد وهي ثلاثة أنواع:
١- هُوَ اجْتَباكُمْ أي لأن الله أيتها الأمة اختاركم من بين سائر الأمم للقيام بهذه المهمة، وفضلكم وشرفكم، وخصكم بأكرم رسول، وأكمل شرع، ولكنه غير شاق، لذا قال:
وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي لم يجعل الدين ضيقا حرجا شاقا، وإنما جعله سهلا يسيرا، فلم يكلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشق عليكم، وهذا تأكيد لوجوب الجهاد، والحفاظ على الدين الذي اختاركم لحمايته.
والآية كالجواب عن سؤال يذكر، وهو أن التكليف والاجتباء تشريف من الله
286
للعبد، لكنه شديد شاق على النفس؟ فأجاب الله تعالى عنه بقوله:
وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
لكن المشقة المرفوعة في التكاليف الشرعية: هي المشقة الزائدة غير المعتادة التي تصل إلى حد الحرج. أما المشقة المعتادة المألوفة فهي غير مرفوعة من التكاليف، بل لا يتحقق التكليف إلا بها لأن التكليف هو إلزام ما فيه كلفة ومشقة، ولا يخلو عنها أي تكليف، لكنه سهل يسير على النفس، تطيق تحمله دون انزعاج.
ومظاهر التيسير ودفع الحرج والمشقة عامة شاملة العبادات والمطعومات والمعاملات. ففي العبادات: يجوز قصر الصلاة الرباعية في السفر، فتصلي ثنتين، والصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة، كما ورد به الحديث، وتصلى رجالا وركبانا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وكذا النافلة في السفر تصلى إلى القبلة وغيرها. ويسقط القيام في الصلاة لعذر المرض، فيصلي المريض جالسا أو مضطجعا أو على جنب أو بالإيماء.
ويجوز في صيام رمضان الإفطار لعذر لكل من المسافر والمريض والشيخ الهرم، والحامل والمرضع.
وفي المطعومات: يجوز الأكل والشرب من المحرّمات المحظورات للضرورة، كالميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك.
وفي المعاملات: يجوز بعض التصرفات للحاجة أو للضرورة.
وهكذا تشرع الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات، لهذا
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد عن جابر: «بعثت بالحنيفية السّمحة»
وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن فيما أخرجه البخاري ومسلم: «بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا».
287
والآيات في هذا المعنى كثيرة، مثل قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة ٢/ ١٨٥] وقوله سبحانه: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [البقرة ٢/ ٢٨٦] وقوله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن ٦٤/ ١٦].
٢- مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ أي اتبعوا أو الزموا ملتكم التي هي كملة أبيكم إبراهيم عليه السلام في حنيفيتها وسماحتها وبعدها عن الشرك. والمراد بالملة:
الأحكام الأصلية الاعتقادية، فهي واحدة في شريعتنا وشريعة إبراهيم عليه السلام، بل هي واحدة في جميع الشرائع قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى ٤٢/ ١٣] وقال تعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء ٢١/ ٢٥]
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد: «الأنبياء أولاد علّات»
أي أن إيمانهم واحد، وشرائعهم مختلفة.
وسبب تخصيص إبراهيم عليه السلام بالذكر هو التشابه في السماحة والتوحيد بين الملتين، وكون أكثر العرب من نسل إبراهيم عليه السلام، فهم يحبونه، والحب مدعاة التمسك بشريعته وشريعة محمد صلّى الله عليه وسلم التي هي شريعة أبيهم إبراهيم عليه السلام، وبما أن إبراهيم هو أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكان أبا لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده.
ونظير الآية قوله عز وجل: قُلْ: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [الأنعام ٦/ ١٦١].
٣- هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا أي إن الله- وقيل: إبراهيم-، هو الذي سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة، وفي القرآن. قال ابن كثير
288
مرجحا المعنى الأول بعود الضمير إلى الله: وهذا هو الصواب لأنه تعالى قال:
هُوَ اجْتَباكُمْ، وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. وفي قراءة: الله سماكم.
واما دليل من قال بعود الضمير إلى إبراهيم عليه السلام: فهو قوله تعالى:
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا، أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة ٢/ ١٢٨].
لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عدولا خيارا مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم، ليكون الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم شهيدا عليكم يوم القيامة بتبليغه ما أرسل به إليكم أي أنه قد بلغكم، ولتكونوا شهداء على الناس في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم.
واللام في قوله: لِيَكُونَ إما لام العاقبة، وهي متعلقة بقوله:
سَمَّاكُمُ وإما لام التعليل، وتكون عَلَى في قوله: عَلَيْكُمْ بمعنى اللام، مثل قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة ٥/ ٣] وتكون شهادة الرسول لهم: أن يزكيهم عند الله يوم القيامة، ويشهد بعدالتكم إذا شهدوا على الأمم السابقة.
والراجح أنه لا داعي لوصف اللام بما ذكر، ويكون قبول شهادة الرسول صلّى الله عليه وسلم على الأمة علة في الحكم وهو تسميتها أمة مسلمة.
وقبول شهادة النبي صلّى الله عليه وسلم وشهادة أمته يوم القيامة فيه تشريف للنبي صلّى الله عليه وسلم وتشريف لأمته، فإن الله تعالى يصدّق قوله على أمته في دعوى تبليغه إياها، ويجعل أمته أهلا للشهادة على سائر الأمم.
وإنما قبلت شهادتهم على الأمم لأنهم لم يفرقوا بين أحد من الرسل، وعلموا أخبارهم من القرآن الكريم، ورد أنه يؤتى بالأمم وأنبيائهم، فيقال للأنبياء: هل
289
بلّغتم أممكم؟ فيقولون: نعم بلغناهم، فينكرون، فيؤتى بهذه الأمة، فيشهدون أنهم قد بلغوا، فتقول الأمم لهم: من أين عرفتم؟ فيقولون: عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق.
ومقابلة لهذه النعمة العظيمة على الأمة ووجوب شكرها، طلب الله منها دوام عبادته والاعتصام به، فقال:
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أي فقابلوا هذه النعمة الجليلة بالقيام بشكرها، فأدّوا حقّ الله عليكم بطاعته فيما افترض وأوجب، وترك ما حرم، ومن أهم ذلك إقامة الصلاة أي أداؤها تامة الأركان والشروط بخشوع كامل وخضوع تام لله، فهي صلة بينكم وبين ربكم، وإيتاء الزكاة التي هي طهرة للنفس والمال، وإحسان واجب إلى خلق الله المستحقين، وهي دليل التعاون والتضامن والإخاء، واستعينوا بالله والجؤوا إليه في جميع أموركم. والاعتصام بالله: هو الثقة به، والالتجاء إليه، والاستعانة بقوته العظمى على دفع كل مكروه، وهو ناصركم على من يعاديكم. والمولى: هو الحافظ والناصر والمالك والخالق.
فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ أي نعم المولى المتولي أموركم، ونعم الناصر، العظيم النصرة، الكامل المعونة، هو أي الله تعالى. وهو المخصوص بالمدح.
فقه الحياة أو الأحكام:
ظاهر هذه الآيات التي ختمت بها سورة الحج أنها جمعت أنواع التكاليف الدينية والاعتقادية والاجتماعية، وأحاطت بفروع الشريعة، وعنيت بأمر الصلاة لأنها عماد الدين، ولم تكتف بطلبها في عموم العبادات.
ودلت على ما يأتي:
290
١- وجوب أربعة أمور: هي الصلاة المشتملة على أهم أركانها وهو الركوع والسجود، وعبادة الله دون غيره، وفعل الركوع والسجود وسائر الطاعات على وجه العبادة، وفعل الخير كصلة الرحم ومكارم الأخلاق. وقد اختلف العلماء في قوله: وَاسْجُدُوا أهو سجود الصلاة أم سجود التلاوة؟ فقال الشافعية والحنابلة: هذه سجدة تلاوة لأنه يمكن حمل اللفظ على حقيقته مع عدم صارف يصرفه إلى معنى آخر، ومعنى السجود: وضع الجبهة على الأرض، ولما
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «فضّلت سورة الحج بسجدتين، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما».
وأخرج أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصّل، وفي الحج سجدتان.
وذهب الحنفية والمالكية إلى أن هذه الآية ليست آية سجدة لأن اقتران السجود بالركوع دليل على أن المراد به سجود الصلاة، كما في قوله تعالى:
وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران ٣/ ٤٣]. ولما روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه عدّ السجدات التي سمعها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعدّ في الحج سجدة واحدة. وأما حديثا عقبة وعمرو فضعيفان.
ويكون المراد بالآية على هذا الرأي الصلاة المفروضة، وخص الركوع والسجود تشريفا للصلاة، وهو ما سرت عليه في التفسير والاستنباط.
٢- وجوب عبادة الرب تعالى، أي امتثال أوامره.
٣- الندب إلى فعل الخير فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها شرعا.
٤- وجوب الجهاد بأنواعه الثلاثة: جهاد الهوى والنفس وجهاد الشيطان ومطاردة وساوسه، وجهاد أهل الظلم والبدع، وهي كلها فرض عين على كل فرد
291
مسلم.
روى الترمذي وابن حبان عن فضالة بن عبيد أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المجاهد: من جاهد نفسه لله عز وجل».
وروى أحمد وابن ماجه والطبراني والبيهقي عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»
وقد ذكرت
حديث: «من رأى منكم منكرا... ».
وجهاد الكفار والمنافقين بالحجة والبيان، وبالسيف والسنان واجب أيضا، وهو فرض كفاية على جماعة المسلمين، يجزي فيه قيام بعضهم إذا تحقق المقصود، وطرد العدو، وتم دفعه عن بقية المسلمين وأموالهم وأعراضهم وبلادهم، فإن لم يتحقق ذلك كان فرض عين على كل واحد من القادرين على القتال. وهذا حينما كان الاعتماد على العنصر البشري في الحروب أمرا ضروريا وأساسيا، أما اليوم حيث تطورت وسائل القتال، فلا يصح حشد المسلمين في جبهة واحدة مثلا لحصادهم بقنبلة واحدة أو بغيرها من الوسائل الحربية الفتاكة الحديثة، وإنما ينظر الحاكم فيما يحقق المصلحة، وتقتضيه الحاجة، بعد الأخذ بوسائل الإعداد الحديثة المكافئة لما هو موجود عند الأعداء.
٥- علة التكليف بالتكاليف السابقة ثلاثة أمور:
أ- الاجتباء أي الاصطفاء والاختيار للدفاع عن الدين والتزام أمره، وهذا تأكيد للأمر بالمجاهدة، أي وجب عليكم أن تجاهدوا لأن الله اختاركم له.
وزيادة في التأكيد والترغيب رفع الله الحرج، أي الضيق والعسر عن الناس في المطالب الشرعية، وهذا عام في كثير من الأحكام، وهو مما خص الله به هذه الأمة. قال قتادة: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي: كان يقال للنبي:
اذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الأمة: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. والنبي شهيد على أمته، وقيل لهذه الأمة: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة ٢/ ١٤٣]. ويقال للنبي: سل تعطه، وقيل لهذه الأمة:
292
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر ٤٠/ ٦٠].
فرفع الحرج من الأسس التي قام عليها التشريع الإسلامي، قال العلماء:
رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، واما السلابة والسّرّاق وأصحاب الحدود، فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين.
ب- كون ملتنا كملة أبينا إبراهيم عليه السلام، وهو أبو العرب قاطبة.
ج- تسمية الله لنا بالمسلمين في الكتب المتقدمة وفي القرآن.
٦- تقبل شهادة الرسول صلّى الله عليه وسلم على الأمة بتبليغه إياهم أحكام شرع الله، وقبول شهادته علة لعدالة الحكم وهو التسمية بالمسلمين، وكذلك قبول شهادة أمته على الأمم الأخرى ان رسلهم قد بلغتهم علة في تسميتها مسلمة كذلك، وقبول الشهادتين تشريف للنبي صلّى الله عليه وسلم ولأمته.
٧- إن قبول شهادة الأمة المسلمة على الأمم الأخرى نعمة عظمي تستوجب الشكر بأداء الفرائض واجتناب النواهي المحظورات، ومن أهم ذلك إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله، أي الثقة به، والاستعانة بقوته الجبارة على دفع السوء لأنه مالكنا وخالقنا، وحافظنا وحامينا، وناصرنا على أعدائنا.
آمنت بالله انتهى الجزء السابع عشر
293

[الجزء الثامن عشر]

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة المؤمنون
مكية، وهي مائة وثمان عشرة آية.
تسميتها وفضلها:
سميت سورة المؤمنون لافتتاحها بقول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ثم ذكر أوصاف المؤمنين السبعة وجزاءهم العظيم في الآخرة وهو ميراث الفردوس.
روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي والحاكم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان إذا نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم الوحي، يسمع عند وجهه كدويّ النحل، فلبثنا ساعة، فاستقبل القبلة، ورفع يديه وقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا، ثم قال: لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن «١» دخل الجنة ثم قرأ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حتى ختم العشر».
وروى النسائي في تفسيره عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة أم المؤمنين: كيف كان خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم القرآن، فقرأت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ- حتى انتهت إلى- وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ قالت: هكذا كان خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
(١) من أقامهن: أي من أقام عليهن ولم يخالف ما فيهن كما تقول: فلان يقوم بعمله.
5
مناسبة السورة لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بسورة الحج من نواح هي:
١- ختمت سورة الحج بجملة من الأوامر الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، منها قوله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وهو مجمل فصّل في فاتحة هذه السورة، فذكر تعالى خصال الخير التي من فعلها فقد أفلح، فقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الآيات العشر.
٢- ذكر في أول سورة الحج قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ، فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ الآية لإثبات البعث والنشور، ثم زاد هنا بيانا ضافيا في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ
الآيات. فما أجمل أو أوجز هناك، فصل وأطنب هنا.
٣- في كل من السورتين أدلة على وجود الخالق ووحدانيته.
٤- في السورتين أيضا ذكرت قصص بعض الأنبياء المتقدمين للعبرة والعظة، في كل زمن وعصر ولكل فرد وجيل.
ما اشتملت عليه السورة:
تضمنت السورة الكلام عن أصول الدين من وجود الخالق وتوحيده وإثبات الرسالة والبعث.
وابتدأت بالإشادة بخصال المؤمنين المصدقين بالله ورسوله التي استحقوا بها ميراث الفردوس الأعلى في الجنان.
ثم أبانت الأدلة على وجود الله تعالى والقدرة الإلهية والوحدانية من خلق الإنسان مرورا بأطواره المتعددة، وخلق السموات البديعة، وإنزال الماء منها
6
لإنبات الجنات أو البساتين التي تزهو بالنخيل والأعناب، والزيتون والرمان، والفواكه الكثيرة، وإيجاد الأنعام ذات المنافع العديدة للإنسان، وتسخير السفن لحمل الركاب والبضائع.
ثم أوردت قصص بعض الأنبياء والمرسلين كنوح وهود وموسى وهارون وعيسى وأمه مريم، لتكون نماذج للعبرة والعظة عبر الأجيال، وتسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى المشركين من قريش، مع توبيخهم ووعيدهم على استكبارهم عن الحق، ووصفهم النبي صلّى الله عليه وسلم بالجنون وغيره، وعدم إيمانهم برسالته، وإخبارهم بما يلقونه من العذاب والنكال يوم القيامة، وإقناعهم بالأدلة والبراهين على حدوث البعث والنشور.
وفي خلال ذلك أوضحت بعض الآيات يسر التكليف وسماحته وعدم المطالبة إلا بما فيه الوسع والقدرة، والتذكير بما أنعم الله به على الإنسان من نعم الحواس والمشاعر، والإنكار الشديد على نسبة الولد والشريك لله تعالى.
ثم طمأنت الآيات النبي صلّى الله عليه وسلم عن نجاته من القوم الظالمين، ووضعت له أسلوب الدعوة إلى الله تعالى، وعرفته طريق الاعتصام بالله من همزات الشياطين.
وعرضت السورة في خاتمتها لموقف الحساب الرهيب وأهواله وشدائده، وما فيه من معايير النجاة والخسران، من ثقل الموازين وخفتها، وقسمة الناس إلى فريقين: سعداء وأشقياء، وعدم إفادة الأنساب في شيء، وتمني الكفار العودة لدار الدنيا ليعملوا صالحا، وتذكيرهم بسخريتهم وضحكهم من المؤمنين، وسؤالهم عن مدة لبثهم في الدنيا، وتوبيخهم على إنكار البعث، وإعلان تفرد الإله الملك القاهر بالحساب ومحاورته أهل النار، وبيان خسارة من عبد مع الله إلها آخر، ونجاة أهل الإيمان والعمل الصالح، وإفاضة رحمة الله عليهم ومغفرته لهم.
7
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي