تفسير سورة يس

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة يس من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة يس

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - ﴿يس﴾، قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد يا إنسان، قال: وهي بلغة طي، وهو قول الكلبي وعكرمة والضحاك ومقاتل والحسن (١).
وقال ابن الحنفية: يا محمد، وهو قول سعيد بن جبير (٢).
وقال أبو العالية: يا رجل (٣). وهذان القولان كالأول، تفسير لذلك الإنسان المنادى.
وقال عطاء: هي بالسريانية. وقيل: بالحبشة. روي ذلك أيضًا عن ابن عباس (٤). فمن قال بهذا، قال: إنهم يقولون: يس، ويريدون به يا إنسان، ثم تكلمت العرب به فصار من لغتهم، كما ذكر أنها من لغة طي، ووجهه من العربية أنه اكتفى بالسين من إنسان كما يكتفي بالحرف الواحد من الكلمة.
وقال مجاهد: ﴿يس﴾ فواتح من كلام الله يفتح بها كلامه (٥).
(١) انظر: "اللغات في القرآن" ص ٥٣، "الطبري" ٢٢/ ١٤٨، "الماوردي" ٥/ ٥، "زاد
المسير" ٣/ ٧، "تفسير مقاتل" ١٠٥ أ.
(٢) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٣٢ أ، "الماوردي" ٥/ ٥، "المحرر الوجيز" ٤/ ٥٤٥، "زاد المسير" ٧/ ٣.
(٣) انظر: "البغوي" ٤/ ٥، "مجمع البيان" ٨/ ٦٠٥.
(٤) انظر: "المارودي" ٥/ ٥، "القرطبي" ١٥/ ٤، "المحرر الوجيز" ٤/ ٥٤٥، "زاد المسير" ٧/ ٣، "البحر المحيط" ٧/ ٣١٠.
(٥) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٤٨، "بحر العلوم" ٣/ ٩٣، "الماوردي" ٥/ ٥.
واختلف القراء في إظهار النون من ﴿يس﴾ وإخفائه، فقرأوا بالوجهين، وكلامه جائز صحيح، فمن أظهر فلأن هذه الحروف مبنيَّة علي الوقف يدل على ذلك استجازتهم فيها الجمع (١) بين ساكنين كما يجتمعان في الكلم التي يوقف عليها، فلما جاز فيها الجمع بين ساكنين من حيث كان التقدير فيها الوقف استجيز معها تبيين النون في الإدراج وإن كانت النون الساكنة تجيء مع حروف الفم؛ لأن التقدير بها الوقف. ومن أخفى فلأنه وإن كان في التقدير الوقف لم يقطع فيه همزة الوصل، وذلك قولهم: ألم الله، ألا ترى أنهم حذفوا همزة الوصل كما تحذف في الكلم التي توصل، فلا يكون التقدير فيها الوقوف عليها، وكذلك قالوا: واحد اثنان، فحذفوا همزة الوصل، وإذا صار في تقدير الوصل أوجب أن لا تبين معها النون (٢).
٢، ٣ - قوله تعالى: ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: أقسم الله بالقرآن المحكم أنك لمن المرسلين، وذلك أن كفار مكة قالوا له: لست مرسلاً، وما أرسل الله إلينا رسولاً، فأقسم الله بالقرآن أن محمدًا من المرسلين (٣).
٤ - ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: على [دين] (٤)
(١) في (أ): (الجميع)، وهو خطأ.
(٢) انظر هذا الكلام بنصه مع اختلاف يسير في "الحجة" ٦/ ٣٥، وانظر: "حجة القراءات" ص ٥٩٥، "الحجة في القراءات السبع" ٢٩٧.
(٣) انظر: "القرطبي" ١٥/ ٥، "تفسير مقاتل" ١٠٥ أ، وذكره غير منسوب: البغوي ٥/ ٥، الطبري في "مجمع البيان" ٨/ ٦٥٠.
(٤) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
مستقيم، يعني دين الإسلام؛ لأن الأديان كلها غير الإسلام [ليس] (١) بمستقيم (٢).
قال أبو إسحاق: (أي على طريق الأنبياء الذين تقدموك، قال: وأحسن ما في العربية أن يكون ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ خبر إن، ويكون ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ خبرًا ثانيًا والمعنى: إنك لمن المرسلين، وإنك على صراط مستقيم. قال: ويجوز أن يكون على صراط من ملة المرسلين، فيكون المعنى: إنك من المرسلين الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة (٣). وذكر الفراء أيضًا الوجهين في قوله: ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ كما ذكر الزجاج (٤).
٥ - وقوله: ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ تنزيل يقرأ بالرفع والنصب، فمن قرأ بالنصب فعلى المصدر، على معنى: نزل الله ذلك تنزيلًا من العزيز الرحيم، ثم أضيف المصدر فصار معرفة، كما قال: ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ [محمد: ٤] على معنى: فضربًا للرقاب. وهذا قول الزجاج وأبي علي وصاحب النظم (٥).
ومن قرأ بالرفع فعلى معنى: الذي أنزل إليك تنزيل العزيز الرحيم، وهو تنزيل، أو على: تنزيل العزيز. هذا قول مقاتل (٦): هذا القرآن هو تنزيل
(١) ما بين المعقوفين ساقط في (ب).
(٢) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "تفسير مقاتل" ١٠٥ أ.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧٧.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٢٧٢.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧٨، "الحجة" ٦/ ٣٦.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٠٥ أ.
العزيز في ملكه الرحيم بخلقه. وقال الكلبي: العزيز بالنقمة من (١) لم يجب الرسل الرحيم بالمؤمنين (٢).
٦ - وقوله تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا﴾ قال صاحب النظم: هذا متصل بقوله: ﴿نَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) لِتُنْذِرَ قَوْمًا﴾
قوله تعالى: ﴿مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ فيه قولان: قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد كما أنذر آباؤهم من لدن إبراهيم وإسماعيل (٣).
وقال مقاتل: كما أنذر آباؤهم الأولون (٤).
وقال عكرمة: مثل ما أنذر آباؤهم (٥).
القول الثاني: قال قتادة: لتنذر قومًا لم يأتهم نذير قبلك (٦). ونحو هذا قال الكلبي (٧) وهو قول عامة المفسرين (٨). و ﴿مَا﴾ على هذا القول تكون [جحدًا] (٩). وذكر الفراء والأخفش والزجاج القولين، قال الفراء: (لتنذر [قومًا] (١٠) لم ينفع (١١) آباؤهم ولا أتاهم رسول قبلك، ويقال: لتنذرهم بما
(١) هكذا في النسخ! وهو خطأ، والصواب: لمن.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ٣٦٩، "القرطبي" ١٥/ ٦.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٠٥ أ.
(٥) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٥٠، "القرطبي" ١٥/ ٦، "مجمع البيان" ٨/ ٦٥٠.
(٦) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٥٠، "الماوردي" ٥/ ٦، "مجمع البيان" ٨/ ٦٥٠.
(٧) لم أقف عليه.
(٨) انظر: "الثعلبي" ٣/ ٢٣٢ ب، "الطبري" ٢٢/ ١٥٠، "الماوردي" ٥/ ٦، "بحر العلوم" ٣/ ٩٣.
(٩) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
(١٠) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(١١) هكذا في النسخ، وهو خطأ، والصواب: لم يُنذر آباؤهم.
أنذر آباؤهم فتلقي الباء، فيكون ﴿مَا﴾ في موضع نصب كما قال: ﴿أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً﴾ [فصلت: ١٣]) (١).
وقال الأخفش: (أي لم تنذر آباءهم؛ لأنهم كانوا في الفترة، قال: وقال بعضهم: لتنذر الذي أنذر آباؤهم، ثم اختار القول الأول؛ لقوله: ﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾، ودخول الفاء على المعنى الثاني كأنه لا يجوز، وهو على الأول أحسن) (٢) هذا كلامه. ومعناه: أنك إذا جعلت ﴿مَا﴾ إثباتًا بمعنى الذي، لم يحسن دخول الفاء في ﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ فإذا جعلته نفيًا حسن.
قال أبو إسحاق: (الاختيار أن ﴿مَا﴾ جحدٌ؛ لأن قوله: ﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ دليل على معنى لم ينذر آباؤهم، وإذا كان قد أنذر آباءهم كان في قوله: ﴿فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ بُعدٌ. قال: ودليل النفي قوله: ﴿وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ﴾ [سبأ: ٤٤] (٣).
٧ - وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ قال مقاتل: (وجب العذاب على أكثر أهل مكة، قال: ويعني بالقول قوله لإبليس: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ﴾ [ص: ٨٥]) (٤).
قال أبو إسحاق: (القول هاهنا -والله أعلم- مثل قوله: ﴿وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الزمر: ٧١]) (٥).
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٢.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٤٨٨.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧٨
(٤) "تفسير مقاتل" ١٠٥ أ.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧٨.
وقال صاحب النظم: القول هاهنا: إيماء (١) إلى القدر مقتصًا من قوله: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [السجدة: ١٣] هذا كلامه. والمعنى أن قوله: ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ﴾ إشارة إلى الإرادة الأزلية السابقة بكفرهم، وإذا سبقت الإرادة بكفرهم فمتى يؤمنون؟ وهو قوله ﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
قال الزجاج: بكفرهم وعنادهم أضلهم ومنعهم الهدى فهم لا يؤمنون (٢). [قال الزجاج: بكفرهم وعنادهم فهم لا يؤمنون] (٣).
٨ - قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ في هذه الآية والتي بعدها مذهبان: أحدهما: مذهب المفسرين، وهو أن الآية نزلت في أبي جهل، قصد النبي -صلى الله عليه وسلم- بحجر ليدمغه وهو يصلي، فيبست يده إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه، فذلك قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا﴾. وهذا قول مقاتل والكلبي (٤). والثاني: مذهب أهل المعاني: وهو أن هذا على طريق المثل ولم يكن هناك غل (٥)، أراد:
(١) في (ب): (أبا).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧٨.
(٣) ما بين المعقوفين تكرار، وهو في جميع النسخ.
(٤) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٥٢، "بحر العلوم" ٣/ ٩٤، "الماوردي" ٥/ ٧، "البغوي" ٤/ ٦، "زاد المسير" ٧/ ٦، وأصل الحديث في البخاري "كتاب التفسير"، تفسير سورة إقرأ عند قوله تعالى: ﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾ ٤/ ١٨٩٦ رقم الحديث (٤٦٧٥) من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الكشاف" ٣/ ١٦١: رواه أبو نعيم في "دلائل النبوة" قال: وهو في أوائل سيرة ابن هشام من قول ابن إسحاق في كلام طويل.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٧٢، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٤٧٥، "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٢٨٠.
454
منعناهم عن الإيمان بموانع، وهذا قول أبي عبيدة (١).
وقال الفراء: معناه إنا حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله (٢). وكان هذا الوجه أوضح؛ لقوله فيما بعد: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ الآية.
﴿فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ﴾ قال الفراء: (هي كناية عن الإيمان ولم يذكر، وذلك أن الغل لا يكون إلا في اليمين والعنق، جامعًا لليمين والعنق فكفى ذكر أحدهما عن صاحبه كما قال: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ [البقرة: ١٨٢] فضم الورثة إلى الوصي ولم يذكروا؛ لأن الصلح بما بقى من الوصي والورثة، ومثله قول الشاعر:
وما أدري إذا يممت وجهًا أريد الخير أيهما يليني (٣)
وإنما ذكر الخبر وحده، ثم قال: [أيهما] (٤) وذلك أن الشر يذكر مع الخير، وهي في قراءة عبد الله (إنا جعلنا في أيمانهم) فكفت الأيمان عن ذكر الأعناق في حرف عبد الله، وكفت الأعناق في قراءة العامة) (٥) عن ذكر الأيمان ونحو هذا قال الزجاج سواء، قال: (ومثل هذا قوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ ولم يذكر البرد؛ لأن ما يقي الحر يقي البرد) (٦).
(١) انظر: "القرطبي" ١٥/ ٨، "فتح القدير" ٤/ ٣٦١.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٢٧٣.
(٣) البيت من الوافر، وهو للمثقب العبدي في نونيته، في "ديوانه" ص ٢١٢، "الخزانة" ١١/ ٨٠، وبلا نسبة في: "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٧٢، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٤/ ٢٧٩.
(٤) هكذا جاء في النسخ، وما بين المعقوفين يظهر أنه زائد؛ لأنه ليس في "معاني القرآن" للفراء، ولا معنى له كذلك.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٢ - ٣٧٣.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٠.
455
وقوله: ﴿فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾. قال الفراء: المقمح: الغاض بصره بعد رفع رأسه. (١) (٢) هذا قول.
ونحو ذلك قال أبو إسحاق (٣). ومعنى الإقماح في اللغة: رفع الرأس وغض البصر، يقا ل: أقمح البعير رأسه وقمح.
قال أبو عبيد: يقمح البعير قمح قموحًا إذا رفع رأسه ولم يشرب الماء (٤).
وقال الأصمعي: بعير قامح، إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب، وجمعه قماح (٥). وأنشد الفراء وجميع أهل اللغة قول بشر (٦) يصف سفينة:
ونحن على جوانبها قعود نغض (٧) الطرف كالإبل القماح
(١) في (ب): (صوته)، وهو خطأ.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٣.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧٩.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٨١ (قمح)، "اللسان" ٢/ ٥٦٦ (قمح).
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٨١ (قمح)، "اللسان" ٢/ ٥٦٦ (قمح).
(٦) هو: بشر بن أبي خازم عمرو بن عوف الأسدي، أبو نوفل، شاعر جاهلي فحل، عدَّه ابن سلام في الطبقة الثانية من طبقات فحول أهل الجاهلية، وهو من شجعان أهل نجد، مات سنة ٢٢ قبل الهجرة.
انظر: "الشعر والشعراء" ١/ ١٩٠، "طبقات فحول الشعراء" ١/ ٩٧، "الخزانة" ٢/ ٢٦٢.
والبيت من الوافر، وهو في: "ديوان بشر" ص ٤٨، "لسان العرب" ٢/ ٥٦٦. (قمح)، "تاج العروس" ٧/ ٦٣ (قمح)، "تهذيب اللغة" ٤/ ٨١ (قمح)، "أساس البلاغة" ص ٣٧٧ (قمح).
(٧) في (أ): (يفض)، وهو خطأ.
456
قال أبو إسحاق: (وقيل للكانونين: (١) شهرا قماح لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رأسها لشدة برده (٢)) (٣).
وأنشد أبو زيد للهذلي:
فتًى ما الابن الأعر إذا استويا وحب الراد سميا في شهري قماح (٤) (٥)
لكراهة كل ذي كبد شرب الماء، والقمح نحو من قمح.
قال الأزهري: وأراد جل وعز أن أيديهم إنما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل رافعة رأسها (٦). هذا كلامه وتأويله: فهم مقمحون أي: مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها، يدل عليه قول قتادة في تفسير ﴿مُقْمَحُونَ﴾ قال: مغلولون (٧).
٩ - قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾ ومضى
(١) يقصد: شهري كانون أول وكانون ثاني.
(٢) في (ب): (برد)، وهو خطأ.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٧٩.
(٤) هكذا ورد البيت في النسخ، وهو خطأ، والصواب:
فتًى ما ابن الأغر إذا شتونا وحُبَّ الزاد في شهري قُماح
والبيت لخالد بن مالك الهذلي، وهو من الوافر، في "ديوان الهذليين" ٣/ ٥، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ص ٥٣٢، "تهذيب اللغة" ٤/ ٨١، "اللسان" ٢/ ٥٦٦ (قمح)، "البحر المحيط" ٧/ ٣١٢.
(٥) انظر: "الدر المصون" ٥/ ٤٧٦، "البحر المحيط" ٧/ ٣١٢.
(٦) "تهذيب اللغة" ٤/ ٨١.
(٧) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٥١، "بحر العلوم" ٣/ ٩٤، "مجمع البيان" ٨/ ٦٥١.
457
الكلام في تفسير السد والقراءة فيه (١).
قال مقاتل: لما عاد أبو جهل إلى أصحابه ولم يصل إلى ما قصد من النبي -صلى الله عليه وسلم-. وسقط الحجر من يده، أخذ الحجر رجل آخر من بني مخزوم وقال: أنا أقتله بهذا الحجر، فلما دنا من النبي -صلى الله عليه وسلم- طمس الله على بصره فلم ير النبي -صلى الله عليه وسلم- ورجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه، فذلك وقوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ حين لم ير أصحابه (٢). ونحو هذا قال الكلبي (٣). وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد يمنعهم [من الهدى] (٤) لما سبق في علمه (٥) عليهم (٦). وهذا موافق لمذهب أهل المعاني.
وقوله: ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ﴾، قال الفراء: ألبسنا أبصارهم غشاوة (٧). قال ابن قتيبة: أي عيونهم وأعميناهم عن الهدى (٨). والتأويل: أغشينا أعينهم بالعمى، فحذف المضاف والمفعول الثاني للعلم بأن ما يلبس العين إنما هو العمى.
(١) عند الآية: ٩٤: الكهف، وهي قوله تعالى: ﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾. قال المؤلف هناك رحمه الله: قرئ بالفتح والضم. قال أبو عبيدة: السد بالضم، إذا كان مخلوقًا من فعل الله تعالى، فإن كان من فعل الآدميين فهو سَد بالفتح، وهذا قول عكرمة والأخفش. وقال الكسائي: ضم السين وفتحها سواء.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٠٥ ب.
(٣) انظر: "بحر العلوم" ٣/ ٩٤.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) في (أ): (علمهم)، وهو خطأ.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٣.
(٨) "تفسير غريب القرآن" ص ٣٦٣.
458
وقوله ﴿فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾، قال ابن عباس: يريد سبيل الهدى (١). وذكر أبو إسحاق المذهبين فقال: (هذا فيه وجهان: أحدهما: قد جاء في التفسير وهو أن جماعة أرادوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- سوءًا فحال الله بينهم وبين ذلك، فجعلوا بمنزلة من هذه حالة ممن غلت يده وسط (٢) طريقه من بين يديه ومن خلفه وجعل على بصره غشاوة، قال: ويجوز أن يكون وَصَفَ إضلالهم أي: أضللناهم فأسكنا أيديهم عن النفقة في سبيل الله والسعي فيما يقرب إلى الله كما قال -عز وجل-: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة: ٧] قال: ودليل هذا القول قوله في أثر هذا.
١٠ - ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ الآية أي: من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار) (٣)، إنما ينفع الإنذار من ذكر في قوله: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ أي: إنما ينفع إنذارك هذا إلا (٤) من منعه الله عن الهدى، فخصه الله بإنذار هؤلاء لما لم ينفع الإنذار من غيرهم موقعه، فصار كأنه لم ينذرهم حيث لم ينفعهم، لذلك قال:
١١ - ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ أي: من استمع القرآن واتبعه. ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ خاف الله -عز وجل- من حيث لا يراه أحد. ﴿فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ﴾ لذنوبهم. ﴿وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ حسن، وهو الجنة.
(١) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ٣٦٩، وأورد هذا القول ونسبه لقتادة القرطبي ١٤/ ١٠، وأورده غير منسوب: البغوي ٤/ ٦.
(٢) هذا في جميع النسخ، والصواب: وسُدَّ، كما في "معاني القرآن وإعرابه"
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٠.
(٤) يظهر أن (إلا) هنا زائدة؛ لأنها تفسد المعنى، وأن هناك حرف ساقط، وتكون الجملة حسب ما يظهر لي هكذا: أي لا ينفع إنذارك هذا من منعه الله عن الهدى.
١٢ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى﴾ قال ابن عباس: يريد البعث (١).
﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا﴾ قال مقاتل: من خيرٍ أو شر فاقتدى بها (٢) من بعدهم. وهذا اختيار الفراء والزجاج (٣).
وهو قول سعيد بن جبير، قال: ﴿وَآثَارَهُمْ﴾: ما سنوا (٤).
وقال ابن عباس في رواية عطاء: ما آثروا من أثر خير أو شر (٥). كقوله: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ [القيامة: ١٣].
وقال أنس وابن عباس في رواية عكرمة: نزلت هذه الآية في بني سلمة، أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانت منازلهم بعيدة، فلما نزلت قالوا: بل نمكث مكاننا (٦). فعلى هذا معنى آثارهم: خطاهم.
(١) لم أقف عليه.
(٢) هنا نلحظ أن المؤلف اختصر في نقله عن مقاتل، وهذا الاختصار قد يكون موهمًا، ففي "تفسير مقاتل". ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا﴾ من خير وشر ﴿وَآثَارَهُمْ﴾ ما استنوه من سنة خيرًا وشرًّا، فاقُتدي به من بحد موتهم ا. هـ.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٣، "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨١.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٤٨١، "الماوردي" ٥/ ٩، وأورده السيوطي في "الدر" ٦/ ٤٨، ونسبه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٥) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٦٩.
(٦) هذا الحديث ورد بعدة طرق، منها: ما ورد عن أنس وقد أخرج ابن ماجه في "سننه" أبواب المساجد، باب الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرًا ١/ ١٤١ رقم (٧٦٨)، وأخرجه ابن شيبة في "المصنف" ٢/ ٢٠٧، ومنها ما ورد عن ابن عباس، وقد أخرجه ابن ماجه أيضًا في "سننه" أبواب المساجد، باب: الأبعد فالأبعد عن المسجد أعظم أجرًا ١/ ١٤١ رقم (٧٦٩). وأورده السيوطي في "الدر" ٧/ ٤٦، وقال: أخرج الفرياني وأحمد في "الزهد"، وعبد بن حميد، وإبن ماجه، وابن =
460
وهو قول الحسن (١)، ومجاهد في رواية ابن أبي نجيح (٢)، وقتادة (٣).
وقال عمر بن عبد العزيز: لو كان الله تاركًا لابن آدم شيئًا لترك ما عبث (٤) عليه الرياح من أثر (٥).
وقال مسروق: ما خطأ رجل خطوة إلا كتب حسنة أو سيئة (٦).
وروي عن مجاهد قال: ما قدموا من خير، وآثارهم: وما أورثوا من الضلالة (٧). فعلى هذا ما قدموا بالخير وخص الآثار ما يبقى بعدهم من آثار الضلالة وسنتها.
وقوله: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾ قال الفراء: القراء يجمعون على نصب كل
= جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، عن ابن عباس.
وهناك رواية أخرى للحديث، أخرجها الإمام مسلم في "صحيحه" "كتاب الصلاة"، باب فضل كثرة الخطأ إلى المساجد ١/ ٤٦٢ رقم (٦٦٥) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-
(١) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٥٤، "القرطبي" ١٥/ ١٢، "ابن كثير" ٣/ ٥٦٥.
(٢) "تفسير مجاهد" ص ٥٣٣، وانظر: "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٤٨١، "الماوردي" ٥/ ٩.
(٣) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٥٥، "القرطبي" ١٥/ ٢١، "ابن كثير" ٣/ ٥٦٥.
(٤) هكذا في النسخ، والصواب: عفت.
(٥) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ١٤٠، "زاد المسير" ٧/ ٨ وأخرج هذا الأثر الطبري ٢٢/ ١٥٥ عن قتادة، وأورده السيوطي في "الدر" ٧/ ٤٧ ونسبه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٦) انظر: "الدر المنثور" ٧/ ٤٧، وقد نسبه لعبد بن حميد.
(٧) انظر "فتح القدير" ٤/ ٤٦٢، وقد أورد هذا القول بعض المفسرين لكنه منسوب لغير مجاهد فأورده الماوردي ٥/ ٩ ونسبه لسعيد بن جبير، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٩ ونسبه لابن عباس وسعيد بن جبير، قال: وهو اختيار الفراء وابن قتيبة والزجاج.
461
لما وقع من الفعل على راجع (١). يعني الكناية في قوله: ﴿أَحْصَيْنَاهُ﴾ والاختيار أن يقول: (٢) ضربت زيدًا وعمرًا كلمته، ينتصب عمرًا لسبق الفعل قبله، وهاهنا أيضًا سبق الفعل، وهو قوله: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا﴾. ويجوز الرفع على الاستئناف (٣).
وقال مقاتل: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾ من الأعمال ما (٤) ﴿أَحْصَيْنَاهُ﴾ بيناه.
قال ابن عباس: حفظناه (٥).
ومعنى الإحصاء في اللغة: العد، والعد يكون للبيان ويكون للحفظ (٦).
وقوله تعالى: ﴿فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: في اللوح المحفوظ (٧).
وقال مجاهد: يعني أم الكتاب (٨).
قال أهل المعاني (٩): وفي ذلك اعتبار الملائكة إذ قابلوا به ما يحدث
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٢٧٣.
(٢) في (ب): (تقول).
(٣) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٨٦، "الدر المصون" ٥/ ٤٧٧.
(٤) (ما) زائدة هنا وليست هي في "تفسير مقاتل". وانظر: "تفسير مقاتل" ١٠٥ ب.
(٥) لم أقف عليه عن ابن عباس. وقد أورده ابن الجوزي في "زاد المسير" ٨/ ٧ ولم ينسبه.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" ٥/ ١٦٤ (حصا)، "اللسان" ١٤/ ١٨٤ (حصى).
(٧) "تفسير ابن عباس" هامش المصحف ص ٣٦٩، "تفسير مقاتل" ١٠٥ ب، وأورده الماوردي ٥/ ٩ ونسبه للسدي، والقرطبي ١٥/ ١٣، ونسبه لمجاهد وقتادة وابن زيد.
(٨) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٥٥، "الماوردي" ٥/ ٩.
(٩) لم أقف على هذا القول عند أحد من أهل المعاني، قوله وهم من المؤلف.
462
من الأمور، وكان فيه دليل على معلومات الله -عز وجل- التفصيل.
١٣ - وقوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾ قال ابن عباس: يريد لقومك (١). وقال مقاتل: صف لهم يا محمد شبها يعني -لأهل مكة- أصحاب القرية (٢).
قال أبو إسحاق: أصحاب القرية بدل من مثل، كأنه قال: اذكر لهم أصحاب القرية (٣). أي خبر أصحاب القرية، هي أنطاكية (٤) في قول الجميع (٥).
وقوله: ﴿إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ يعني: رسل عيسى -عليه السلام-، وذلك أنه بعث رسولين من الحواريين إلى أنطاكية يدعوا الناس إلى عبادة الله -عز وجل-
١٤ - وقوله: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا﴾، ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا﴾ بدل من قوله: ﴿إِذْ جَاءَهَا﴾ والمعنى: إذ جاؤها (٦) بإرسالنا إليهم اثنين وكانا رسولي عيسى، وأضاف الله تعالى الإرسال إلى نفسه؛ لأن عيسى أرسلهما
(١) "تفسير ابن عباس" هامش المصحف ص ٣٦٩.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٠٥ أ.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨١ بمعناه.
(٤) أنطاكية: بلد من بلدان الجمهورية العربية السورية. قال ياقوت في "معجم البلدان" ١/ ٢٦٦: أول من بني أنطاكية انطيخس، وهو الملك الثالث بعد الإسكندر، فتحها أبو عبيدة عامر بن الجراح وكانت العرب إذا أعجبها شيء نسبته إلى أنطاكية؛ لأنها من أعيان البلاد وأمهاتها، موصوفة بالنزاهة، والحسن، وطيب الهواء، وعذوبة الماء، وكثرة الفواكة، وسعة الخير.
(٥) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٥٥، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٤٨٢، "الماوردي" ٥/ ١٠، "القرطبي" ١٥/ ١٤، وقد استشكل الحافظ ابن كثير هذا القول ورده من وجوه. انظر: "تفسيره" ٣/ ٥٦٩.
(٦) في (أ): (جائها).
463
بأمر الله تعالى. قال الكلبي: وكان ذلك حين رفع إلى السماء (١).
وقوله: ﴿فَكَذَّبُوهُمَا﴾ قال ابن عباس: فضربوهما وحبسوهما (٢).
﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾ قال أبو إسحاق: (فقوينا وشددنا الرسالة برسول ثالث) (٣). وهو قول جميع المفسرين (٤).
قال المبرد وأبو علي: من قرأ فعززنا بالتشديد، فالمعنى: شددنا وقوينا. ومن قرأ بالتخفيف، فمعناه: قهرنا (٥) وعلينا من قوله -عز وجل-: ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ [ص: ٢٣]، وأنشد أبو علي لجرير:
أُعُزُّك بالحجاز وإن تَسَهَّل يعزز (٦) الأرض يُنَتهب انتهابًا (٧) (٨)
قال أبو عبيد: وقراءتنا بالتشديد. لأن تأويل عززنا: غلبنا (٩). والتفسير الأول أشبه بالمعنى. [وقال الفراء: عززنا] (١٠). وعززنا كقولك: شددنا وشددنا بالتخفيف والتثقيل (١١). ونحو ذلك قال الزجاج. ﴿فَقَالُوا﴾:
(١) لم أقف عليه.
(٢) انظر: "الوسيط" ٣/ ٥١١. "مجمع البيان" ٨/ ٦٥٤.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٢.
(٤) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٥٦، "الماوردي" ٥/ ١٠، "زاد المسير" ٧/ ١١، "القرطبي" ١٥/ ١٤.
(٥) في (ب): (قهرنا).
(٦) هكذا في النسخ، والصواب كما في "الديوان والحجة": بغور.
(٧) البيت من الوافر، لجرير في "ديوانه" ص٦٥، وهو من قصيدة طويلة يهجو بها الراعي النميري، "الحجة" ٦/ ٣٨.
(٨) لم أقف على قول المبرد. وانظر: "الحجة" ٦/ ٣٨.
(٩) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٨٣ (عز).
(١٠) ما بين المعقوفين مكرر في (أ).
(١١) "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٤.
464
يعني الرسل لأهل أنطاكية. ﴿إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ﴾. قالوا لهم:
١٥ - ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ قال مقاتل: يعني ما نرى لكم علينا من فضل في شيء. ﴿وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ﴾ يعني: لم يرسل رسولاً. ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ﴾ بأنكم رسول الله (١).
١٦ - ﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾ وإن كذبتمونا.
١٧ - ﴿وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾: وما علينا إلا أن نبلغ ونبين لكم بان الله الواحد [لا شريك] (٢) له.
١٨ - فقال القوم للرسل: ﴿إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾ يعني: تشاءمنا بكم، وذلك أن المطر حبس عليهم فقالوا: أصابنا هذا الشر من قبلكم. ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا﴾ لئن لم تسكنوا. ﴿لَنَرْجُمَنَّكُمْ﴾ لنقتلنكم. قال الفراء: (كقوله: ﴿وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾ [هود: ٩١] يريد القتل، وعامة الرجم في القرآن القتل) (٣).
١٩ - ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾ قال ابن عباس: يريد شؤمكم معكم (٤). وهو لفظ الزجاج (٥). وقال الضحاك عن ابن عباس: طائركم حظكم من الخير والشر (٦). واختاره الفراء، فقال: (أي ما كان من خير وشر فهو في رقابكم لازم لكم) (٧).
(١) "تفسير مقاتل" ١٠٦ أ
(٢) ما بين المعقوفين مكرر في (ب).
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٤.
(٤) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ٣٧٠، أورده السيوطي في "الدر" ٧/ ٥١ وعزاه لابن المنذر.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٢.
(٦) انظر: "الطبري" ١٥/ ١٦، "البغوي" ٤/ ٩.
(٧) "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٤.
وهذا معنى قول مقاتل، يعني الذي أصابكم كان مكتوبًا في أعناقكم (١). وهذان القولان في الطائر ذكرنا استقصاهما عند قوله: ﴿أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الأعراف: ١٣١]. وقوله: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣]. وتم الكلام هاهنا، ثم قال لهم: ﴿أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ﴾ قال مقاتل: أين وعظتم بالله وتطيرتم (٢) بنا، وجواب الاستفهام محذوف، وهو ما ذكره مقاتل (٣).
قال أبو علي: (كأنهم قالوا أين ذكرتم تشائمتم (٤)، فحذف الجواب لتقدم ما يدل عليه وهو قوله: ﴿تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾؛ لأن معنى تطيرنا تشائمنا) (٥). ثم بينوا أن الأمر ليس على ما قالوا وشؤمهم إياهم من قبلهم، وهو قوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾.
قال ابن عباس ومقاتل: مشركون باللهِ (٦). يعني: أنهم جاوزوا الحد حين أشركوا بالله.
٢٠ - وقوله: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى﴾ قال المفسرون (٧): هو حبيب النجار، وكان قد آمن بالرسل عند (٨) ورودهم القرية. قال وهب:
(١) "تفسير مقاتل" ١٥٦ أ.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٠٦ أ. والواو في قوله: وتطيرنا، زائدة من النساخ.
(٣) وهو قوله: تطيرتم بنا.
(٤) في (ب): (شائمتم).
(٥) "الحجة" ٦/ ٣٩.
(٦) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ٣٧٠، "تفسير مقاتل" ١٠٦ أ.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٦ أ، "الطبري" ٢٢/ ١٥٨، "بحر العلوم" ٣/ ٩٧، "الماوردي" ٥/ ١٣.
(٨) في (ب): (حين)
وكان منزله عند أقصى باب من أبواب القرية، فلما بلغه أن قومه قد كذبوا الرسل وهموا بقتلهم جاءهم وقال: ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ (١).
وقال قتادة ومقاتل: إنه كان رجلاً يعبد الله في غارٍ فلما سمع بالرسل جاءهم فقال: أتسألون أجرًا على ما جئتم به؟ قالوا: لا. فقال لقومه:
٢١ - ﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ يعني: الرسل (٢).
قال محمد بن إسحاق: أي ما يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ فاتبعوهم تهتدوا بهداهم (٣).
قال مقاتل: فلما قال، هذا أخذوه فرفعوه إلى الملك، فقال له: برئت منا وتبعت عدونا (٤).
وقال ابن عباس: قال لهم (٥) الملك: أفأنت تتبعهم؟
٢٢ - ٢٥ - فقال ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ إلى قوله: ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾ (٦).
قال محمد بن إسحاق: إني آمنت بربكم الذي كفرتم به، فاسمعوا قولي (٧).
(١) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٥٨، "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٥٠، "القرطبي" ١٥/ ١٨.
(٢) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٥٩، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٤٨٧، "تفسير مقاتل" ١٠٦ ب.
(٣) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٥٩، "ابن كثير" ٣/ ٥٦٨.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٠٦ ب.
(٥) هكذا جاءت في النسخ، ومقتضى السياق: له.
(٦) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٦٠.
(٧) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٦٠، "ابن كثير" ٣/ ٥٦٨.
467
وقال كعب: إنه قال لقومه: ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ إلى قوله: ﴿إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾. ثم أقبل على الرسل فقال: ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾ ليشهدهم على إيمانه (١). فعلى هذا الخطاب للرسل، وعلى ما قال محمد بن إسحاق الخطاب لقومه.
وقال الكلبي: ﴿فَاسْمَعُونِ﴾ يريد: فاشهدوا لي (٢).
ومعنى فاسمعوا: اسمعوني، أي: اسمعوا مني. قال ذلك أبوعبيد (٣).
وقال المبرد: فاسمعون أي: اسمعوا مني (٤). وهذا مثل قولك: سمعت فلانًا يقول، وإنما المسموع قوله، ولكنه من المختصر المحذوف، وهو أكثر الكلام يجري على الألسنة، وحق الكلام أن تقول: سمعت من فلان ما قال. قال ابن عباس: فوثب عليه أهل مملكته حتى قتلوه (٥).
وقال مقاتل: وطئ حبيب حتى خرج أمعاؤه من دبره، ثم ألقي في البئر وهو الرس، فهم أصحاب الرس، وقتلوا الرسل الثلاثة (٦).
وقال محمد بن إسحاق: وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه واستضعفوه لضعفه وسقمه، وكان رجلاً قد أسرع فيه الجذام ولم (٧) له أحد
(١) انظر: "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٥١، "القرطبي" ١٥/ ١٩، وأورده السيوطي في "الدر" ٧/ ٥١، وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر.
(٢) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "زاد المسير" ٧/ ١٣.
(٣) انظر: "زاد المسير" ٧/ ١٣.
(٤) لم أقف عليه
(٥) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٦١، "ابن كثير" ٣/ ٥٦٨.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٠٦ ب.
(٧) هكذا في النسخ، ويبدو أن هناك كلمة ساقطة وهي: يكن.
468
يدفع عنه (١).
وقال ابن مسعود: وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره (٢).
قال كعب: أخذ فقذف في النار (٣).
وقال قتادة: هذا رجل دعا قومه إلى الله -عز وجل- ومحضهم النصيحة فقتلوه على ذلك وأقبلوه يرجمونه، وهو يقول: اللهم اهد قومي، فأدخله الله الجنة وهو حي فيها يرزق (٤). وهو قوله:
٢٦ - ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ﴾. قال أبو إسحاق: المعنى فلما عذبوه (٥) قومه، قيل: ادخل الجنة، فلما شاهدها قال: ﴿قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾ (٦).
وقال مقاتل: لما ذهب بروح حبيب إلى الجنة ودخلها وعاين ما فيها من النعيم، تمنى فقال (٧):
٢٧ - ﴿قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ اختلفوا فيها؛ فقال الكسائي: بالذي غفر لي ربى أي: بمعرفته، فعلى هذا هو ما المصدر؛ لأنه مع الفعل بمنزلة المصدر (٨). قال الفراء: ولو جعلت ﴿وَمَا﴾
(١) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٦١، "ابن كثير" ٣/ ٥٦٨.
(٢) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٦١، "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٥١، "زاد المسير" ٧/ ١٣.
(٣) أورده السيوطي في "الدر" ٧/ ٥١، ونسبه لابن أبي شيبة وابن المنذر.
(٤) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٦٠، وقد ذكر القول إلى قوله: اللهم اهد قومي. وأورد هذا القول بتمامه: القرطبي ١٥/ ١٩ ونسبه للحسن. الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٣ عن قتادة.
(٥) هكذا في النسخ، وهو خطأ، والصواب: عذبه.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٣.
(٧) "تفسير مقاتل" ١٠٦ ب.
(٨) انظر "الدر المصون" ٥/ ٤٧٩، "القرطبي" ١٥/ ١٩، "البحر المحيط" ٧/ ٣١٦.
469
في موضع أي كان صوابا، ويكون المعنى: ليتهم يعلمون بأي شيء غفر لي ربي (١). فقال الكسائي: لو كانت كذلك لكانت ﴿بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي﴾ بنقصان الألف كما تقول: سل عم شئت (٢)، وكقوله: ﴿فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾. قال الفراء: (يجوز أن يكون تمامًا وهو استفهام، وأنشد:
إنا قتلنا بقتلانا سراتكم أهل اللواء ففيم يكثر القتل) (٣)
وذكر أبو إسحاق الوجهين فقال: (أي بمغفرة ربي قال: وقيل: أي ليتهم يعلمون بالعمل والإيمان الذي غفر لي به ربي. قال: وحذف الاَّلف في هذا المعنى أجود) (٤). وهذا قول مقاتل قال: يعني بأي شيء غفر لي ربي، أي: إنما غفر لي باتباعي المرسلين، فلو علموا لآمنوا بالرسل، فنصح لهم في حياته وبعد موته (٥). وروى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال: قال محمد -صلى الله عليه وسلم-: "نصح لقومه حيًّا وميتًا" (٦). وقال قتادة: تمنى الرجل -والله أعلم- أن يعلم قومه ما عاين من كرامة الله، وذلك قوله:
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٤، وانظر: "المصادر السابقة".
(٢) انظر: "المصادر السابقة".
(٣) البيت من البسيط، وهو لكعب بن مالك في "ديوانه" ص ٢٥٥، "خزانة الأدب" ٦/ ١٠٦.
والشاهد فيه: قوله: ففيما، حيث أثبت ألف ما الاستفهامية المتصلة بحرف الجر، وسراة القوم: خيارهم. والقول والقيل واحد. "الخزانة" ٦/ ١٠٧.
وكلام الفراء في "معاني القرآن" ٢/ ٢٧٥.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٣.
(٥) "تفسير مقاتل" ١٠٦/ ب.
(٦) انظر: "ابن كثير" ٣/ ٥٦٨، وقد أورد السمرقندي في "بحر العلوم" ٣/ ٩٨، وابن عطية في "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٥١ غير منسوب لأحد.
470
﴿وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ أي: من المدخلين الجنة (١). قاله الزجاج (٢). وحبيب هذا الذي يقال له: صاحب يس، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سباق الأمم ثلاثة: صاحب يس حبيب النجار [مؤمن] (٣) آل يس، وحزقيل مؤمن آل فرعون، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم" (٤).
وروي عن علي بن زيد بن جدعان أن عروة بن مسعود الثقفي صعد سور الطائف، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فرماه رجل من قومه بسهم فقتله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل صاحب يس" (٥).
(١) انظر: "الطبري" ٢٢/ ١٦١، "القرطبي" ١٥/ ٢٠.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٣.
(٣) ما بين المعقوفين بياض في (ب).
(٤) هذا الأثر أخرجه الثعلبي في "تفسيره" ٣/ ٢٣٥ أ، بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه. وأورده الطبرسي في "مجمع البيان" ٨/ ٦٥٩، ونسبه للثعلبي، وأورده الزمخشري في "الكشاف" ٣/ ٢٨٣. وقال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" ٣/ ١٦٢: رواه الطبراني بنقص في "معجمه" من حديث حسين بن حسن الأشقر، عن سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، ورواه كذلك ابن مردويه في "تفسيره"، والعقيلي في "الضعفاء" وأعله بحسين الأشقر وقال: إنه شيعي متروك، ولا يعرف هذا إلا من جهته، وهو حديث منكر، ورواه بلفظ المصنف الثعلبي من حديث عمرو بن جميع، عن محمد بن أبي ليلى، عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه. قال: وفيه عمرو بن جميع، وهو متروك ا. هـ.
(٥) هذا الأثر أورده ابن كثير ٣/ ٥٦٨، ونسبه لابن أبي حاتم، وذكره ابن حجر في "الإصابة" ٢/ ٤٧ عن ابن إسحاق، وكذا ابن عبد البر في "الاستيعاب" ٣/ ١١٢، وابن الأثير في "أسد الغابة" ٣/ ٤٠٦
471
قال ابن مسعود: فلما قتلوا حبيبًا، غضب الله لاستضعافهم إياه غضبًا لم يبق من القوم شيئًا، وعجل الله لهم (١) النقمة بما استحلوا منه فقال قومه:
٢٨ - ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ يعني: الملائكة (٢). قاله مقاتل (٣).
وقال ابن مسعود: أي ما كابدناهم بالجوع، أي: الأمر أيسر علينا من ذلك (٤).
وقال الكلبي: لم يبعث إليهم الملائكة (٥).
وقال الضحاك: ما استغثنا بأهل السماء عليهم (٦).
وقال أبو إسحاق: لم ننتصر للذين (٧) قتلوه بجند (٨).
هذا الذي ذكرنا قول جميع أهل العلم والتفسير.
وقال مجاهد: أي لم نبعث إليهم رسالة بعده من السماء ولا أتاهم نبي (٩). والقول ما عليه الناس. وقوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ﴾ على قوله: {وَمَا
(١) في (ب): (عليهم).
(٢) انظر: "الطبري" ٢٣/ ١.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٠٦/ ب.
(٤) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ١٠/ ٣١٩٢، "القرطبي" ١٥/ ٣٠.
(٥) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "البغوي" ٤/ ١١، "زاد المسير" ٧/ ١٤، "القرطبي" ١٥/ ٢٠.
(٦) لم أقف عليه عن الضحاك، وقد ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" ١٠/ ٣١٩٣ عن ابن مسعود.
(٧) هكذا في النسخ، والصواب: للذي.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٣.
(٩) انظر: "تفسير مجاهد" ص ٥٣٤.
أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ}، والباقون: جعلوا هذا توكيدًا لأول الكلام (١).
وأنكر صاحب النظم القولين جميعًا فقال: لا يجوز أن يكون المعنى لم ينزل على أحد جندا؛ لأنه أنزل الجند على أهل بدر وحنين، ولا يجوز أن يكون مكررًا على ما قبله؛ لأنه لا يكون نظمًا حسيا، وفيه أيضًا حمل الكلام على التكرير ولكن (ما) هاهنا اسم، والمعنى: لم ينزل عليهم حتى أهلكناهم جندًا من السماء ﴿وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ﴾ ولا ما كنا ننزله على من قبلهم من الأمم، إذ أهلكناهم بمثل الماء للغرق والصاعقة والريح، وهذا في النظم كقوله: ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا﴾ ولا (٢) على الذي فطرنا. وعلى ما ذكر صاحب النظم ما يكون معطوفًا على قوله: من جندٍ، أي: لم ينزل عليهم [جندًا] (٣) ولا ريحًا ولا صاعقة ولا ماء، ثم بين أيش (٤) كانت عقوبتهم فقال:
٢٩ - ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ قال ابن عباس ومقاتل والكلبي: كانت صيحة من جبريل، أخذ بعضادتي باب المدينة ثم صاح بهم صيحة فإذا هم ميتون لا يسمع لهم صوت، مثل النار إذا أطفأت (٥).
قال ابن مسعود: أهلك الله ذلك الملك وأهل أنطاكية، فبادوا عن
(١) في (ب): (للكلام)، وهو خطأ.
(٢) (لا) ساقطة من (ب).
(٣) ما بين المعقوفين طمس في (ب).
(٤) يعني: أي شيء.
(٥) ذكر هذا القول البغوي ٤/ ١١، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ١٤، وابن كثير في "تفسيره" ٣/ ٥٦٩، والشوكاني في "فتح القدير" ٤/ ٣٦٧، ونسبوه لأكثر المفسرين.
وجه الأرض ولم يبق منهم باقية (١). وقال قتادة: ما نوظروا بعد قتلهم إياه حتى أخذتهم الصيحة (٢).
قال الزجاج: (ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة فإذا خامدون: أي ساكتون، قد ماتوا وصاروا بمنزلة الرماد الخامد) (٣).
٣٠ - وقوله تعالى: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ معنى الحسرة في اللغة: أشد الندامة، وذكرنا اشتقاقها فيما تقدم (٤)، وهذه نكرة موصوفة، قال الفراء: (والعرب إذا نادت نكرة موصولة بشيء آثرت النصب، يقولون: يا رجلاً كريمًا أقبل، ويا راكبًا على البعير أقبل) (٥).
وقال المبرد: نصبه كنصب نداء النكرة، كقولك: يا رجلاً أقبل، ومثله قول الصلتان:
فيا شاعرًا لا شاعرَ اليومَ مثلُه (٦) جريرٌ (٧) ولكن في كليبٍ تواضعُ (٨)
(١) انظر: "ابن كثير" ٣/ ٥٦٩.
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٥٢، "ابن كثير" ٣/ ٥٦٩.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٣.
(٤) عند قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [سورة مريم: ٣٩]. قال المؤلف رحمه الله هناك: والحسرة هي الندامة، يتحسر المسيء هلَّا أحسن العمل، ولم يذكر اشقاق الحسرة فعله وهم رحم الله حينما أحال على ذلك الموضع.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٥.
(٦) هكذا في النسخ، والصواب: (أيا شاعرًا لا شاعر اليوم مثله).
(٧) في (ب) زيادة في أول الشطر الثاني: (ومعنى)، وهو خطأ.
(٨) البيت الطويل. وهو للصلتان العبدي في "الكامل" ٣/ ١١١١، "المقتضب" =
ومعنى نداء الحسرة تنبيه لأن يتمكن علم المخاطب بالحسرة، كما يقال: يا عجبًا أتفعل كذا، والمعنى: يا عجيب أقبل، فإنه من أمامك، ونداء العجب أبلغ في الفائدة كذلك نداء الحسرة، وهو معنى قول أبي إسحاق (١).
قال ابن عباس: يا حسرة على العباد في الآخرة باستهزائهم بالرسل في الرسل (٢) (٣). ثم بين سبب الحسرة فقال: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ﴾ أي: في الدنيا، ﴿إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾. ثم خوف كفار مكة مثل عذاب الأمم الخالية في الدنيا ليعتبروا [فقال] (٤).
٣١ - وقوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ قال أبو إسحاق: (موضع كم نصب بأهلكنا؛ لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها، خبرًا كانت أو استخبارًا. وقوله: ﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ أنهم بدل من معنى ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ والمعنى: ألم يروا أن القرون التي أهلكنا أنهم لا يرجعون) (٥).
= ٤/ ٢١٥، "الشعر والشعراء" ص ٣١٤، "الكتاب" ٢/ ٢٣٧، "معاهد التنصيص" ١/ ٧٥.
والشاهد فيه قوله: أيا شاعرًا، حيث نصب المنادى من قبيل الشبيه بالمضاف؛ لأنه موصوف بجملة.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٤. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٣/ ٣٩١، "الفريد في إعراب القرآن" ٤/ ١٠٦، "الكشاف" ٣/ ٢٨٥.
(٢) هكذا في جميع النسخ، وهو تصحيف، ولعل الصواب: الدنيا.
(٣) لم أقف على من نسب القول لابن عباس. وقد أورد المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٥١٣، ونسبه لمجاهد ومقاتل، وهو في "تفسير مقاتل" ١٠٦ ب، "تفسير مجاهد" ص ٥٣٤.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، وهذه الكلمة لا يحتاجها السياق.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٥.
والتفسير: لم يعتبروا بمن أهلكنا من قبلهم من القرون فيخافوا أن يعجل لهم في الدنيا مثل الذي عجل لغيرهم ممن أهلك، وأنهم مع ذلك لا يعودون إلى الدنيا أبدًا.
٣٢ - وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ قرئ: لما بالتخفيف والتشديد، فمن خفف فما زائدة (١) مؤكدة، والمعنى: وإن كل لجميع لدينا محضرون، ومن شدد جعل لما بمعنى إلا تقول: سألتك لما
(١) ما نقله المؤلف رحمه الله هنا عن الزجاج من القول بأن (ما) زائدة، قال به أيضًا الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٢٩٥، وذكره أيضًا السمين في "الدر" ٦/ ٤٠١، ولكن هذا القول لا ينبغي أن يقال؛ لأنه ينافي الأدب مع القرآن، فالقول بأن هذا الحرف زائد يوحي بأنه لا فائدة له، وهذا ليس صحيحًا في حق كلام الله جل وعلا. يقول ابن هشام في كتابه "الإعراب عن قواعد الإعراب" ص ١٠٨ - ١٠٩: وينبغي أن يتجنب المعرب أن يقول في حرف من كتاب الله: إنه زائدة لأنه يسبق إلى الأذهان أن الزائد هو الذي لا معنى له، وكلام الله سبحانه منزه عن ذلك. والزائد عند النحويين معناه الذي لم يؤت به إلا لمجرد التقوية والتوكيد لا المهمل، وكثير من المتقدمين يسمون الزائد صلة، وبعضهم يسميه لغوًا، لكن اجتناب هذه العبارة في التنزيل واجب ا. هـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" ١٦/ ٥٣٧ بعد أن تكلم عن التكرار والزيادة في كلام العرب: (فليس في القرآن من هذا شيء ولا يذكر فيه لفظًا زائدًا إلا لمعنى زائد، وإن كان في ضمن ذلك التوكيد، وما يجيء به من زيادة اللفظ في مثل قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ [سورة آل عمران: ١٥٩] وقوله: ﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾ [المؤمنون: ٤٠] وقوله: ﴿قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ ﴿الأعراف: ٣﴾ فالمعنى مع هذا أزيد من المعنى بدونه، فزيادة اللفظ لزيادة المعنى، وقوة اللفظ لقوة المعنى) ا. هـ.
وانظر: "التأويل النحوي في القرآن الكريم" ٢/ ١٢٧٧ وما بعدها. "البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن" ص ٣٠٢، "البرهان" للزركشي ٢/ ١٧٧.
476
فعلته، وإلا فعلت، هذا قول الزجاج (١).
وقال الفراء: (الوجه التخفيف؛ لأنها ما أدخلت عليها لام يكون جوابًا لأن كأنك قلت: وإن كل لجميع. وأما من ثقل فإنه يجعل لما بمنزلة إلا مع أن خاصة، كأنها ضمت إليها ما (٢) فصار جميعًا استثناء وخرجتا من حد الجحد إذا جمعتا فصارتا حرفًا واحدًا) (٣) هذا كلامه. ومعنى قوله: بمنزلة إلا مع أن خاصة، يعني أن إلا كلمتان أولاهما التي هي جحد بمنزلة ما ولا أيضًا جحد جمع بينهما فصارتا استثناء، وكذلك لما جحد إن اجتمعتا لم وما فتشابهتا في هذا المعنى، وهذا كلام صاحب النظم في شرح ما ذكره الفراء قال: وكان الكسائي ينفي هذا القول، ويقول: لا أعرف جهة لما بالتشديد في القراءة (٤). وقد ذكرنا استقصاء هذه المسألة في سورة هود عند قوله: ﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ [هود: ١١١] وتفسير مقاتل موافق لمذهب من شدد لما؛ لأنه يقول: وما إلا جميع لدينا محضرون (٥). ومن خفف لما كان أن في قوله: ﴿وَإِنَّ كُلًّا﴾ بمنزلة المشددة، ولكنها إذا خففت لم تنصب، وهذه الجملة قد أشبعنا الكلام فيها في سورة هود.
قال أبو إسحاق: (تفسير الآية: أنهم يحضرون يوم القيامة فيقفون على ما عملوا) (٦).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٦.
(٢) (ما) ساقطة من (ب).
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٧.
(٤) انظر: "الدر المصون" ٤/ ١٤٠، "البحر المحيط" ٧/ ٣١٩، "القرطبي" ١٥/ ٢٤.
(٥) لم أقف على هذا التفسير عن مقاتل.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٦.
477
٣٣ - ثم وعظ كفار مكة أن يتفكروا في صنعه ليعرفوا توحيده، فقال: (١) ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا﴾ إلى قوله: ﴿لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ﴾. واختلفوا في الكناية في قوله: ﴿ثَمَرِهِ﴾. فقال أبو عبيدة: (العرب تذكر الإثنين ثم تقتصر على الخبر عن أحدهما، كقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا﴾.
وقال الأزرق بن طرفة بن العَمرَّد (٢):
رماني بأمر كنت منه ووالدي بري ومن أجل الطوي رماني
فاقتصر على خبر واحد، وقد أدخل الآخر معه) (٣). فعلى قول الكناية تعود إلى مضمر مراد في اللفظ وهو الماء؛ لأن قوله:
٣٤ - ﴿وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ﴾ تقديره: وفجرنا فيها ماء من العيون.
٣٥ - ﴿لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ﴾ لأن الثمار لا تكون إلا من الماء وبالماء.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ يجوز أن تكون (٤) ما موصولة
(١) في (ب) زيادة: (وقوله تعالى)، وهي زيادة لا يحتاجها السياق.
(٢) لم أقف له على ترجمة.
والبيت من الطويل، مختلف في نسبته، فالأكثر ينسبه لعمر بن أحمر وهو في "ديوانه" ص ١٨٧، "الدرر" ٢/ ٦٢، "الكتاب" ١/ ٧٥، ونسبه أبو عبيدة لطرفة بن العمرَّد كما في "مجاز القرآن" ٢/ ١٦١، وله أو لابن أحمر كما في "اللسان" ١١/ ١٣٢ (حول). وهو غير منسوب في "المصون من الأدب" ص ٨٤.
والشاهد فيه: حذف خبر كان، والتقدير: كنت منه بريئًا، وعليه فبريئًا الموجود خبر لكان المحذوفة مع اسمها.
ومعنى رماني: أي قذفني بأمر أكرهه، والطوي: هي البئر المطوية بالحجارة. "الكتاب" ١/ ٧٥.
(٣) "مجاز القرآن" ٢/ ١٦١.
(٤) في (أ): (يكون).
478
بمعنى الذي، ويكون في موضع خفض (١) عطفًا على التمر: ليأكلوا من ثمره ومما عملت أيديهم. وهذا معنى قول ابن عباس؛ لأنه قال: يريد من الغروس، يعني أن الغروس من عمل أيدينا (٢).
قال صاحب النظم: المعنى ويأكلوا بما عملت أيديهم بالمقاساة بالحراثة كما قال -عز وجل-: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ﴾ [الواقعة: ٦٣] فأضاف الحراثة إليهم. وعلى هذا العائد من الصلة إلى الموصول محذوف على قول (٣) من قرأ: عملت بغير هاء، وأكثر ما جاء في التنزيل من هذا على حذف كقوله: ﴿أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا﴾ و ﴿وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ و ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ و ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾. وكل هذا على إرادة الهاء وحذفها، وقد جاء الإثبات في قوله: ﴿إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ ويكون هذا كقول (٤) من قرأ: عملته بالهاء، في أنه ردَّ الكناية من الصلة إلى الموصول. ويجوز أن يكون في قوله: ﴿وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ نفيًا على معنى: ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيديهم ولكن من فعلنا.
وقال الضحاك: أي وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها (٥).
قال الفراء: (إذا جعلت (ما) جحدًا لم تجعل لها موضعًا، ويكون
(١) في (أ): (خفين)، وهو تصحيف.
(٢) انظر:: "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٤٩٢، "القرطبى" ١٥/ ٢٥، "ابن كثير" ٣/ ٥٧٠.
(٣) في (أ): (قوله)، وهو خطأ.
(٤) في (أ): (كقوله)، وهو خطأ.
(٥) انظر: "الماوردي" ٥/ ١٦، "البغوي" ٤/ ١٢،"مجمع البيان" ٨/ ٦٦١.
479
المعنى: إنا جعلنا لهم الجنات والنخيل والأعناب، ولم تعملها أيديهم) (١) ويقوي هذا الوجه قوله: ﴿أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾. ومن قدر هذا التقدير لم يكن ﴿عَمِلَتْهُ﴾ صلة، وإذا لم يكن صلة لم يقتض الهاء الراجعة إلى الموصول، ويجوز أيضًا أن تكون (ما) نافية على قراءة من أثبت الهاء في عملته، وتكون الهاء كناية عن لفظ الثمر والتمر لم تعمله أيدي الناس، إنما ظهر بقدرة الله وإيجاده. وهذا الذي ذكرنا معنى قول الفراء (٢)، والزجاج (٣)، وأبي علي (٤) رحمهم الله.
وقوله: ﴿أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾ قال ابن عباس: أفلا يطيعون (٥).
قال مقاتل: أفلا يشكرون رب هذه النعم ويوحدونه (٦).
٣٦ - ثم نزه نفسه وعجب خلقه فقال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا﴾ قال ابن عباس: والحبوب.
﴿مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ قال قتادة ومقاتل: يعني الذكر والأنثى، والأزواج من النبات أجناسه، ومن الأنفس الذكر والأنثى (٧).
وقوله: ﴿وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ قال الكلبي: من سائر الخلق (٨).
(١) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٧.
(٢) المصدر السابق.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٦.
(٤) "الحجة" ٤٥/ ٦.
(٥) لم أقف عليه عن ابن عباس.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٠٧ أ.
(٧) "تفسير مقاتل" ١٠٧ أ، ولم أقف عليه عن قتادف
(٨) لم أقف عليه عن الكلبي، وذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ١٧ نحوه ولم ينسبه.
وقال مقاتل: [ومما لا يعلمون من الخلق] (١) (٢).
وقال الزجاج: (ومما لا يعلمون مما خلق الله من جميع الأنواع والأشباه) (٣)، والمعنى: أن الله خالق الأنواع مما يعلمون، وهو ما ذكر من النبات والأنفس، ومما لا يعلمون بما لا يقف عليها من دواب البر والبحر وغيرها من الأشياء التي لا نعلمها (٤).
٣٧ - وقوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ﴾ أي: علامة تدل على قدرتنا. ﴿اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ﴾ قال الكلبي ومقاتل: [..] (٥) ويذهب به (٦). قال أبو عبيدة: (نخرج ونميز منه فيجيء الظلمة، يقال للرجل: سلخه الله من دينه) (٧). وقال الفراء: (معناه نسلخ عنه النهار فرمي بالنهار عنه فيأتي بالظلمة) (٨). وقال الزجاج: (نخرج منه النهار إخراجًا لا يبقى معه شيء في ضوء النهار (٩). هذا كلامه.
ومعنى السلخ في اللغة: كشطك الإهاب، ثم تستعمل فيه أشياء كثيرة تكون بمعنى الإخراج، والإنسلاخ: الخروج، كقوله: ﴿فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ [الأعراف: ١٧٥] وانسلخت الشمس أي استكملت أيامه (١٠). وقد مر
(١) ما بين المعقوفين مكرر في (أ) منسوبًا للزجاج، وهو خطأ.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٠٧ أ.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه"" ٤/ ٢٨٧.
(٤) في (أ): (يعلمها)، وهو تصحيف.
(٥) قدر كلمة في جميع النسخ غير واضحة، والظاهر والله أعلم أنها: ينزعه.
(٦) انظر: "تفسير التعلبي" ٣/ ٢٣٥ ب
(٧) "مجاز القرآن" ٢/ ١٦١.
(٨) "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٨.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٧.
(١٠) انظر: "تهذيب اللغة" ٧/ ١٧٠، "اللسان": ٣/ ٥٤ (سلخ)، "عمدة الحفاظ" ٢/ ٢٤١.
الكلام في هذا (١).
وتحقيق معنى نسلخ (٢) من النهار: أن الظلمة هي الأصل والنهار داخل عليها يسترها بضوئه، فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل، أي كشط وأزيل كما يكشط (٣) الشيء الطارئ على الشيء، فجعل ذهاب الضوء ظهور الظلمة كالسلخ من الشيء فيظهر المسلوخ بعد سلخ إهابه (٤).
قال أبو علي: (وآية ترتفع بالإبتداء، ولهم صفة للنكرة، والخير مضمر تقديره: وآية لهم في المشاهدة أو في الوجود) (٥).
وقوله تعالى: ﴿اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ﴾ وقوله: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي﴾ الآية كما أن قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ تفسير للوصية) [النساء: ١١]
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾ أي: داخلون في الظلمة. يقال: أظلمنا، أي: دخلنا في ظلام الليل، وجاء فلان مظلمًا أي بليل.
٣٨ - قوله تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي﴾ قال أبو إسحاق: المعنى وآية لهم الشمس تجري لمستقر لها (٦).
(١) عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة التوبة: ٥].
(٢) في (ب): (لنسلخ)، وهو خطأ.
(٣) في (أ): (يكشف)، وهو تصحيف.
(٤) في (ب): (منه).
(٥) "الحجة" ٦/ ٤٠.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٧.
482
قال المبرد وابن قتيبة: أي إلى مستقر لها، كما تقول: هو (١) يجري لغايته وإلى غايته (٢).
واختلفوا في مستقر الشمس، فروى أبو ذر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في هذه الآية: "مستقرها تحت العرش" (٣) وهو قول ابن عباس قال: يريد تحت عرش الرحمن (٤).
وعلى هذا هي إذا غربت كل نهار استقرت تحت عرش الرحمن إلى أن تطلع، يدل عليه ما روى أبو ذر أنه قال: كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد عند غروب الشمس فقال: "أتدري أين تغرب؟ " فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: "يذهب بها حتى ينتهي تحت العرش ثم تستأذن فيؤذن بها، ويوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها" (٥).
وقال قتادة: إلى وقت وأجل لها لا تعدوه (٦). ونحو هذا قال مقاتل (٧)
(١) في (أ): (هم)، وهو تصحيف.
(٢) "تفسير غريب القرآن" ص ٣٦٥، "تأويل المشكل" ص ٣١٦، ولم أقف على قول المبرد.
(٣) الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب التوحيد" باب قول الله تعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ وقوله جل ذكره: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ ٦/ ٢٧٠٣ رقم ٦٩٩٦، والإمام مسلم في "صحيحه" كتاب: الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان ١/ ١٣٩ رقم ٢٥١.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) رواه الإمام أحمد في "مسنده" ٥/ ١٢٥ - ١٧٧، والترمذي في "سننه" "كتات التفسير"، تفسير سورة يس ٥/ ٤٢ رقم ٣٢٨٠. وقال هذا حديث حسن صحيح.
(٦) انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٣٥ ب، "الطبري" ٢٣/ ٦، "الماوردي" ٥/ ١١.
(٧) "تفسير مقاتل" ١٠٧ أ.
483
وعلى هذا مستقرها انتهاء سيرها عند إنقضاء الدنيا، وهو اختيار أبي إسحاق فقال: (لمستقرها أي: لأجل قد أجل لها) (١).
وقال الكلبي: تسير في منازلها حتى تنتهي إلى آخر مستقرها الذي لا تجاوزه، ثم ترجع إلى منازلها حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع، فذلك مستقرها؛ لأنها لا تجاوزه (٢). وعلى هذا (لمستقرها) أي: لمستقر لسيرها لا يزيد إذا انتهى إليه انصرف ورجع.
وقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ قال مقاتل: ذلك الذي ذكره من أمر الليل والنهار والشمس. ﴿تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ﴾ في ملكه ﴿الْعَلِيمِ﴾ بما قدر من أمرها.
٣٩ - قوله تعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ قرئ: والقمر بالرفع والنصب، فالرفع بتقدير: وآية لهم القمر، كما ذكرنا في قوله: ﴿اللَّيْلُ نَسْلَخُ﴾ و ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي﴾. ويجوز أن يكون ابتداء وقدرناه الخبر، والنصب على: وقدرنا القمر قدرناه، وقد حمله سيبويه على: زيدًا أضربته، قال: وهو عربي. هذا كلام أبي إسحاق وأبي علي (٣).
وقال الفراء: في القمر (٤) أعجب إلى؛ لأنه قال: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ﴾ ثم جعل الشمس والقمر متبعين الليل، وهما آيتان مثله (٥).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٧.
(٢) انظر: "الماوردي" ٥/ ١٧، "زاد المسير" ٧/ ١٩، وأورد هذا القول ولم ينسبه: ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٥٤، والطبرسي في "مجمع البيان" ٨/ ٦٦٣.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٧، "الحجة" ٦/ ٣٩ - ٤٠.
(٤) هكذا في جميع النسخ، وهو خطأ، والصواب كما في "معاني القرآن" للفراء: الرفع في القمر..
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٨.
484
وقال أبو عبيدة: النصب أحب إلي؛ للفعل المتقدم قبله والمتأخر بعده، فالمتقدم قوله: ﴿نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ﴾، والمتأخر قوله: ﴿قَدَّرْنَاهُ﴾ والتقدير في الآية: قدرناه ذا منازل، كما ذكرنا في قوله: ﴿قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ (١) ثم حذف المضاف (٢). ومنازل القمر معروفة، وهي: ثمانية وعشرون منزلة، من أول الشهر إلى ثمان وعشرين ليلة منه تم فإذا صار في آخر منازله دق وذلك (٣)
قوله: (٤) ﴿حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾. قال أبو إسحاق: (العرجون عود العذق الذي تركبه الشماريخ من العذق، وهو فعلول من الانعراج، وإذا جف وقدم دق وصغر، يشبه (٥) به الهلال في آخر الشهر وفي أول مطلعه) (٦). واستقوس (٧) فشبه القمر ليلة ثماني وعشرين، والآية مختصرة؛ لأن التقدير: فسار في منازله حتى عاد كالعرجون، ودل قوله: ﴿قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ (٨) على هذا المحذوف وهو السير؛ لأن كونه ذا منازل يقتضي سيره
(١) في (أ): (وقدرناه) بزيادة الواو، وهو خطأ.
(٢) لم أقف على قول أبي عبيد. وانظر في توجيه هذه القراءة: القراءات وعلل النحويين فيها ٢/ ٥٦٤، "الحجة في القراءات السبع" ص ٢٩٨، "الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها"، "حججها" ص ٢١٦.
(٣) في (ب): (فذلك).
(٤) في (أ) زيادة بعد قوله: (وقوله)، وهو خطأ.
(٥) في (أ): (يشبهه).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٨.
(٧) هكذا جاء الكلام في جميع النسخ، والذي يظهر أن هناك عدم ترابط بين كلام أبي إسحاق وكلام المؤلف بسبب سقط كلمة أو نحوها.
(٨) في (ب): (وقدرناه) زيادة الواو، وهو خطأ.
485
فيها. وقال الكلبي: كالعرجون اليابس قد حال عليه الحول فتوش (١) (٢). ونحو هذا قال مقاتل (٣).
والعرجون على ما ذكر أبو إسحاق من الثلاثي؛ لأنه (٤) جعل النون زائدة، وذكره الليث في باب الرباعي فقال: العرجون أصل العذق، وهو أصفر عريض يشبه به الهلال إذا انمحق. قال: والعرجنة تصوير عراجين النخل (٥).
وقال رؤبة:
في خدر مياس الدجى معرجن (٦)
أي: مصور فيه صورة النخل (٧) والدمى.
٤٠ - قوله تعالى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾ قال الكلبي: لا تجري الشمس في سلطان القمر فيذهب بصره. ﴿وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾ فيجئ قبل وقته (٨).
وقال مقاتل: يقول: فلا يدرك سواد الليل ضوء النهار فيغلبه على
(١) هكذا في النسخ، ولعل الصواب: (فتقوس).
(٢) لم أقف عليه.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٠٧ أ.
(٤) في (ب): (لا أنه)، وهو خطأ.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٢٠ (عرجن).
(٦) عجز بيت من الرجز، وصدره:
أوذكر ذات الرَّبد المعهن.
وهو لرؤبة في "ديوانه" ص ١٦١، "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٢٠، "اللسان" ١٣/ ٢٨٤ (عوجن).
(٧) في (ب): (القتل)، وهو خطأ.
(٨) لم أقف عليه منسوبًا للكلبي. وانظر: "البغوي" ٤/ ١٣، "زاد المسير" ٧/ ٢٠.
486
ضوئه (١). وحقيقة المعنى ما ذكره أبو إسحاق فقال: أي لا يذهب أحدهما بمعنى الآخر (٢).
وشرح ابن قتيبة معنى ما ذكره المفسرون فقال: (في هذه الآية يقول الله تعالى إنهما يسيران الدهر دائبين لا يجتمعان، فسلطان القمر بالليل وسلطان الشمس بالنهار، ولو أدركت الشمس القمر لذهب ضوئه، وبطل سلطانه، ودخل النهار على الليل، وقد قال الله تعالى حين ذكر يوم القيامة: ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ وذلك عند إبطال هذا التدبير ونقض هذا التأليف، وكما لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه، وهو قوله: ﴿وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾ أي: هما يتعاقبان، فلا يذهب الليل قبل مجيء النهار (٣) وهذا معنى آخر سوى الأول.
وقوله: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ أي: يجرون، يعني الشمس والقمر والنجوم. وقال أبو إسحاق: (أي يسيرون فيه بانبساط، وكل من انبسط في شيء فقد سبح فيه، ومن ذلك: السباحة في الماء) (٤). وسبق في سورة الأنبياء تفسير قوله: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (٥).
(١) "تفسير مقاتل" ١٠٧ أ.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٨.
(٣) "تأويل مشكل القرآن" ٣١٧ - ٣١٨.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٨.
(٥) آية ٣٣.
وانظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ٣/ ٢٤٢ أ، قال: والفلك في كلام العرب: كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك. هذا معنى الفلك في قول أهل اللغة، وأما المفسرون فقال السدي في قوله: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ﴾ أي كل في مجرى واستدراجه. وقال الكلبي: الفلك استدارة السماء، وكل شء استدار فهو فلك وعلى هذا، المراد بالفلك السماء، والسماء مستديرة والنجوم تدور فيها، وهذا معنى قول مجاهد.
487
٤١ - وقوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ﴾. قال مقاتل: وعلامة لكفار مكة. ﴿أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ يعني: ذرية أهل مكة في أصلاب آبائهم وعلى هذا المراد بالذرية: الأولاد وأولادهم كانوا في أصلاب من حمل مع نوح في سفينة (١). وقال آخرون: المراد بالذرية هاهنا الآباء والأجداد، والمعنى: حملنا آبائهم الذين هؤلاء من نسلهم في الفلك المشحون. قال ثعلب: الذرية تقع على الآباء، واحتج بهذه الآية (٢).
وقال (٣) الفراء: جعل ذرية التي كانت مع نوح لأهل مكة؛ لأنها أجل لهم (٤).
وقال الزجاج: قيل لأهل مكة حملنا ذريتهم؛ لأن من حمل مع نوح فهم آباؤهم وذرياتهم (٥). فهذه الأقوال تدل على أن الآباء يجوز أن تسمى ذرية الأبناء.
وقد كشف صاحب النظم على هذا فقال: جعل الله تعالى الآباء ذرية للأبناء، وجاز ذلك. لأن الذرية مأخوذة من: ذرأ (٦) الله الخلق، فسمى الولد ذرية؛ لأنه ذرى من الأب، فكما جاز أن يقال للولد: ذرية لأبيه، لأنه ذري منه، وكذلك يجوز أن يقال للأب: ذرية للابن؛ لأن ابنه ذري
(١) "تفسير مقاتل" ١٠٧ أ.
(٢) لم أقف عليه عن ثعلب، والقول في "تهذيب اللغة" ١٥/ ٤ (ذرأ) عن الليث
(٣) (الواو) ساقطة في (ب).
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٩.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٨.
(٦) في (ب): (ذر الله).
منه، فالفعل يتصل به من أحد الوجهين، وهذا كما تقول في المصدر فإنه سمي (١) به الفاعل مرة والمفعول أخرى، نحو: درهم ضرب الأمير، ونسج اليمن، وكقول ﴿إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾ [الملك: ٣٠] أي: غائرًا وهو كثير، وكذلك يضاف المصدر (٢) إلى الفاعل مرة ومرة إلى المفعول، لاشتماله عليهما واشتراكهما في التسمية به. والمشحون: المملوء.
قال أبو عبيدة: يقال: شحنت المدينة وأشحنتها، إذا ملأتها (٣). قال مقاتل: يعني الموقر من الناس والدواب (٤).
٤٢ - وقوله: ﴿وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد السفن مثل مركب نوح. وهذا قول مقاتل والحسن وأبي صالح والسدي عن أبي مالك. كل هؤلاء قالوا: يعني السفن الصغار، فإنها عملت بعد سفينة نوح على صنعتها (٥).
وقال آخرون: يعني الإبل. وهو قول عكرمة وعبد الله بن شداد (٦).
وذكر الكلبي القولين جميعًا، وقال: في البحر السفن، وفي البر الإبل (٧). والظاهر القول الأول؛ لأنه قال: ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾، والسفن هي التي
(١) في (ب): (سعى)، وهو تصحيف.
(٢) جاءت العبارة في (أ) هكذا: وكذلك يضاف المصدر إلى المصدر مرة إلى الفاعل ومرة إلى المفعول، وهو خطأ.
(٣) "مجاز القرآن" ٢/ ١٦٣.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٠٧ أ.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ١٠٧ أ، "الطبري" ٢٣/ ١٠، "الماوردي" ٥/ ١٩، "بحر العلوم" ٣/ ١٠١.
(٦) انظر: "الطبري" ٢٣/ ١١، "الماوردي" ٥/ ٢٠، "زاد المسير" ٧/ ٢٢.
(٧) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "القرطبي" ١٥/ ٣٥، "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٥٥.
تشبه ما عمله نوح، وهي أيضًا من الخشب الذي هو من خشب سفينة نوح. ومن ذهب إلى الإبل احتاج أن يجعل (مِنْ) زائدة، ويجعل الإبل من (١) السفينة في أنها تحمل الإنسان في البر كما تحمله السفينة في البحر، فهو مثلها في العمل والحمل لا في الصورة والخلقة، ويدل على صحة القول الأول:
٤٣ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾ والإغراق يكون بالماء في البحر، والمراد بهذا أن الله تعالى ذكر منته على أنه خلق لهم الخشب حتى عملوا مثل سفينة نوح وركبوه للتجارات، ثم ذكر أنه بفضله يحفظهم ولو شاء أغرقهم فلم (٢) يغثهم أحد ولم ينقذهم، وهو قوله: ﴿فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ﴾ الآية. قال ابن عباس: لا مغيث لهم. وهو قول الجميع (٣). والصريخ هاهنا بمعنى المصرخ. ﴿وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ﴾ هو أي: من الغرق. يقال: أنقذه واستنقذه إذا خلصه، وتقدير قوله: ﴿فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ﴾: فليس لهم صريخ، كما تقول: إن شاء ضربك فلا ناصر لك. ﴿وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ﴾ قال ابن عباس: ولا أحد ينقذهم من عذابي (٤).
٤٤ - وقوله: ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ أي: إلا أن يرحمهم (٥) ويمنعهم إلى آجالهم. قال ابن عباس: وذلك أن الكافر متعه الله في الدنيا
(١) هكذا جاءت في النسخ، والذي يظهر أنها: (مثل) وليست (من).
(٢) في (ب): (ولم).
(٣) انظر: "الطبري" ٢٣/ ١١، "الماوردي" ٥/ ٢٠، "البغوي" ٤/ ١٤، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٤٩٩.
(٤) انظر: "الوسيط" ٣/ ٥١٤، "البغوي" ٤/ ١٤.
(٥) في (ب): (نرحمهم).
ورزقه فيها وجعلها جنته، فإذا ركب السفينة سلمه الله ورزقه حتى يموت (١). وكل نبي إذا كذبه قومه عجل لهم العذاب، إلا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فإنه أخر العذاب عمن كذبه إلى الموت وإلى القيامة، وهو معنى قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧].
قال أبو إسحاق: (رحمة منصوب مفعول لها المعنى: لا ينقذون إلا لرحمة منا ولمتاع إلى حين) (٢). وهذا ليس بالظاهر القوي.
قال أبو عبيدة: ﴿وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلَّا رَحْمَةً﴾ مجازها مجاز المصدر الذي فعله بغير لفظه، وأنشد قول رؤبة:
إن نزارًا أصبحت نزارا دعوةَ أبرارٍ دعوا أبرارًا (٣) " (٤)
يعني: دعوا دعوة أبرار، كذلك المعنى في الآية: إلا أن يرحمهم رحمة، والمتاع هاهنا اسم أقيم مقام المصدر كالأداء والسراج.
٤٥ - وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ﴾ اختلفوا في هذا، فقال مقاتل وقتادة: ما بين أيديكم عذاب الأمم الخالية، وما خلفكم عذاب الآخرة (٥). وعكس الكلبي فقال: ما بين أيديكم من أمر
(١) أورده المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٥١٥، ولم أقف عليه عند غيره.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٩.
(٣) البيت من الرجز، لرؤبة في "الكتاب" ١/ ٣٨٢، "مجاز القرآن" ٢/ ١٦٢، وبلا نسبة في: "شرح المفصل" ١/ ١٧٧، "المخصص" ١٥/ ١٣٧. ومعنى البيت: أن ربيعة ومضر ابني نزار كانت بينهما حرب وتقاطع، فلما اصطلحوا انتموا كلهم إلى أبيهم نزار وجعلوه شعارهم، فجعل دعوتهم برَّة بذلك.
(٤) "مجاز القرآن" ٢/ ١٦٢.
(٥) "تفسير مقاتل" ١٠٧ ب. وانظر: "الطبري" ٢٣/ ١٢، "الماوردي" ٥/ ٢١، "البغوي" ٤/ ١٤.
الآخرة فاعملوا لها، وما خلفكم من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بما فيها من زهرتها (١).
وقال مجاهد: ما بين أيديكم ما يأتي من الذنوب، وما خلفكم ما مضى منها (٢). وذكر أبو إسحاق على القلب من هذا فقال: ما بين أيديكم ومما أسلفتم من ذنوبكم، وما خلفكم وما تعملونه فيما تستقبلون (٣).
وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: لكي ترحموا (٤).
وقال أهل المعاني: لتكونوا على رجاء رحمته، وهو قول أبي إسحاق (٥).
وذكرنا هذا فيما تقدم أولاً (٦)، وجواب إذا محذوف على التقدير: إذا قيل لهم هذا أعرضوا، يدل على هذا المحذوف قوله: ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ﴾ أي: عبرة ودلالة تدل على صدق محمد -صلى الله عليه وسلم- كاشتقاق (٧) القمر وغيره من الآيات.
٤٦ - وقوله: ﴿إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ قال الفراء: (هذا جواب لقوله: ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ﴾. وفيه جواب لقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُم﴾؛ لأن المعنى: إذا قيل
(١) انظر: "بحر العلوم" ٣/ ١٠١.
(٢) "تفسير مجاهد" ص ٥٣٥.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٩.
(٤) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٨١، "تفسير مقاتل" ١٠٧ ب. وانظر: "مجمع البيان" ٨/ ٦٦٧.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٣٠٦.
(٦) ذكر المؤلف رحمه الله ذلك عند تفسير للآية: ١٥٥ من سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
(٧) هكذا جاء في النسخ، وهو تصحيف، والصواب: كانشقاق القمر.
لهم اتقوا أعرضوا، وإذا أتتهم آية أعرضوا) (١). ونحو هذا قال الكسائي: إن هذا جواب لقوله: ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ﴾ وفيه معنى جواب ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ (٢) (٣).
٤٧ - وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ قال الكلبي: كان [من] (٤) أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتمعون إليه بمكة وهم يومئذ فقراء، فيخرجون فيسألون، فيقول أهل مكة: لا والله لا نتصدق عليكم بشيء وأنتم على غير ديننا حتى ترجعوا إليه، فأنزل الله هذه الآية (٥).
وقال مقاتل: إن المؤمنين قالوا لكفار قريش: انفقوا على المساكين ما زعمتم من أموالكم أنه لله، وذلك أنهم كانوا يقولون هذا على حد الاستهزاء (٦). وذكر غيره أنهم ذهبوا في قولهم أن الله تعالى لما كان قادرًا على إطعامهم وليس يشاء إطعامهم فنحن أحق بذلك، على أي وجه قالوه فقد أخطأوا؛ لأنهم إن قالوه استهزاء فلا إيمان لهم بمشيئة الله. ويقوي هذا الوجه ما روى معمر عن الكلبي: أنها نزلت في الزنادقة (٧). وإن قالوه على
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٩.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) في (ب): زيادة قوله: (ولا لزوم لها).
(٤) هكذا في النسخ، والذي يظهر أن ما بين المعقوفين زائد.
(٥) لم أقف على هذا القول منسوبًا للكلبي. وذكر نحوه الماوردي ٥/ ٢١، وابن عطية في "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٥٦، والبغوي في "تفسيره" ٤/ ١٤، وذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٢٤ قولاً نسبه للكلبي، وهو أن الآية نزلت في العاص بن وائل، كان إذا سأله مسكين قال: اذهب إلى ربك فهو أولى بك مني، ويقول: قد منعه الله أطعمه أنا؟.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٠٧ أ.
(٧) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ١٤٤، وقد أورده الماوردي ٥/ ٢١ عن قتادة، وكذا =
أنهم يوافقون مشيئة الله، فلا يطعمون من لم يطعمها الله، فقد أخطأوا؛ لأن الله تعالى لو شاء لأغنى الخلق كلهم ولكنه قسم المعيشة بينهم، فأغنى بعضًا وأفقر بعضا؛ ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له من ماله من الزكاة وندبه إليه من التطوع بالمساواة؛ ليصح التكليف والابتلاء وأن يعترض (١) على المشيئة.
قوله تعالى: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ قال ابن عباس: يريدون المؤمنين (٢).
وقال مقاتل بن سليمان، ومقاتل بن حيان: ثم قالوا لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ قالوا في اتباعكم محمدًا وترك ديننا (٣).
وقال الكلبي: يقول الله: ﴿إِنْ أَنْتُمْ﴾ يا أهل مكة ﴿إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ أي خطأ بين (٤) (٥).
٤٨ - وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ قال
= ابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٢٤، والطبرسي في "مجمع البيان" ٨/ ٦٦٧، وأورده القرطبي ١٥/ ٣٧ ونسبه لابن عباس.
(١) هكذا في النسخ، هو خطأ، ولعل الصواب: وأن لا يعترض.
(٢) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره أكثر المفسرين ولم ينسبه أحد حسب علمي لابن عباس، بل نسبه بعضهم لقتادة انظر مثلاً: الماوردي ٥/ ٢٢، "مجمع البيان" ٨/ ٦٦٧. ومنهم من ذكره ولم ينسبه لأحد. انظر: "الطبري" ٢٣/ ١٢، "القرطبي" ٢٧/ ١٥، "بحر العلوم" ٣/ ١٠٢.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٠٧ ب. انظر: "القرطبي" ١٥/ ٣٧.
(٤) في (ب): زيادة (أي خاط خطأ بين)، وهو خطأ.
(٥) لم أقف على من نسبه للكلبي. وانظر: "الطبري" ٢٣/ ١٢، "بحر العلوم" ٣٠/ ١٠٢، "القرطبي" ١٥/ ٣٧.
مقاتل: يعني العذاب. ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أن العذاب نازل (١). وقال الكلبي: متى هذا الوعد الذي تعدنا به من القيامة إن كنتم صادقين في ذلك (٢).
قال أبو إسحاق: أي: متى إنجاز هذا الوعد، إن كنتم صادقين فأرونا ذلك (٣).
٤٩ - قال الله تعالى: [..] (٤) ﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد النفخة الأولى (٥). والمعنى أن القيامة تأتيهم بغتة، تأخذهم الصيحة وهم يخصمون، أىِ: يختصمون. قال ابن عباس: يريد البيع والشراء (٦).
قال الكلبي: يتكلمون ويتبايعون في أسواقهم (٧).
وقال مقاتل: وهم أعز ما كانوا يتكلمون في الأسواق والمجالس (٨).
وقال قتادة: تهيج الساعة بالناس والرجل يسقي ماشيته، والرجل يصلح حوضه، والرجل يقيم سلعته، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه،
(١) "تفسير مقاتل" ١٠٧ ب.
(٢) لم أقف عليه عن الكلبي، وقد أورده الماوردي ٥/ ٢٢ عن يحيى بن سلام.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٩.
(٤) في (أ): زيادة قوله تعالى، وهو تكرار لا لزوم له بل إثباته خطأ؛ لأنه يجعل (قوله تعالى) مقولًا لـ (قال الله تعالى)، فيكون قرآنًا وهو ليس كذلك. وقد تكررت في بعض المواضع في باقي السورة.
(٥) انظر: "البغوي" ٤/ ١٤، "مجمع البيان" ٨/ ٦٦٨.
(٦) ورد بنحوه في "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٧٢.
(٧) لم أقف عليه عن ابن عباس، وأورده الماوردي ٥/ ٢٢ عن السدي.
(٨) "تفسير مقاتل" ١٠٧ ب.
495
فيصيح (١) بهم وهم كذلك (٢).
وقال أبو إسحاق: تقوم الساعة وهم متشاغلون في تصرفاتهم (٣).
وفي قوله: ﴿يَخِصِّمُونَ﴾ وجوه من القراءة، أجودها فتح الخاء مع تشديد الصاد، والأصل: يختصمون، فألقيت حركة الحرف المدغم -وهو التاء- على الساكن الذي قبله -وهو الخاء- وهذا أحسن الوجوه بدلالة قولهم: ردَّ وفرَّ وغضَّ، [فألقوا حركة العين على الساكن، وذلك أن الأصل: ردد وافرر واغضض] (٤). ويلي الوجه الأول في الجودة قراءة من قرأ بكسر الخاء، ووجهه أنه حرك الخاء بالكسر لالتقاء الساكنين؛ لأنه لم يلق حركة التاء على الفاء. وقرأ أهل المدينة بالجمع بين ساكنين والخاء والحرف المدغم. قال الزجاج: وهو أشد الوجود وأردؤها (٥).
وقال أبو علي: من زعم أن ذلك ليس في طاقة اللسان إدغامًا يعلم فساده بغير استدلال (٦).
وقرأ حمزة: يخصمون، ساكنة الخاء مخففة الصاد، وهي قراءة يحيى ابن وثاب.
قال الفراء: (من قرأ على قراءة يحيى فيكون تفعلون من الخصومة،
(١) في (ب): (فيهيج).
(٢) انظر: "الطبري" ٢٣/ ١٣، وأورده السيوطي في "الدر" ٧/ ٦١ وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٠.
(٤) ما بين المعقوفين مكرر في (أ).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٠.
(٦) "الحجة" ٦/ ٤٢.
496
كأنه قال: وهم يتكلمون. قال: ووجه آخر: وهم في أنفسهم يخصمون من وعدهم الساعة، وهم يغلبون عند أنفسهم من قال لهم أن الساعة آتية) (١).
وذكر (٢) أبو إسحاق هذين الوجهين فقال: (في هذه القراءة أنها جيدة أيضًا، ومعناها أنها تأخذهم وبعضهم يخصم بعضًا. قال: ويجوز أن يكون تأخذهم وهم عند أنفسهم يخصمون، فتقديره: يخصم بعضهم بعضًا، فحذف المضاف، وحذف المفعول به كثير في التنزيل وغيره. قال: ويجوز أن يكون المعنى: يخصمون مجادلهم عند أنفسهم، فحذف المفعول به، ومعنى يخصمون يعلنون خصومهم في الخصام (٣) انتهى كلامه.
والوجه الأول في معنى هذه القراءة كمعنى سائر الوجوه من القراءة؛ لأنه بمعنى يخصم بعضهم بعضًا في تخاصمهم ومكالمتهم في متصرفاتهم (٤) يغلب بعضهم بعضًا متشاغلين بكلامهم، وليس بمعنى الغلبة في الخصومة في الساعة كما ذكر في الوجه الثاني (٥).
فإن قيل: إن هؤلاء الذين أخبر عنهم ما هم قالوا متى هذا الوعد انقرضوا صاروا رمادًا، فكيف يخبر عنهم بأن الساعة تقوم عليهم وهم يختصمون؟ قيل: يراد بهذا من هو على مثل حالهم من المكذبين بالساعة،
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٣٧٩.
(٢) في (ب): (وقال)، وهو خطأ.
(٣) لم أقف على هذا الكلام عن أبي إسحاق، ويظهر أنه كلام أبي علي وإنما وهم المؤلف رحمه الله فنسبه لأبي إسحاق. انظر: "الحجة" ٦/ ٤٢.
(٤) في (ب): (متصرتهم)، وهو خطأ.
(٥) انظر: "الحجة" ٦/ ٤١ - ٤٣، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٧٩، "علل القراءات" ٢/ ٥٦٦، "الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها" ص ٢١٧.
497
والقوم إذا كان أمرهم واحداً كان الخبر عن بعضهم في ذلك الأمر كالخبر عن جميعهم.
٥٠ - ثم ذكر أن الساعة إذا (١) أخذتهم بغتة لم يقدروا على الإيصاء بشيء، فقال: ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾ قال مقاتل: يقول عجلوا عن الوصية فماتوا (٢). وقال أبو إسحاق: لا يستطيع أحد أن يوصي وصية في شيء من أمره (٣).
﴿وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ لا يلبث أن يصير إلى أهله ومنزله، يموت في مكانه.
وقال مقاتل: يقول ولا إلى منازلهم يرجعون من الأسواق (٤). وهذا قول المفسرين (٥).
وقال الكلبي: ولا إلى أهلهم يرجعون الكلام (٦).
وذكر الفراء هذا القول أيضًا فقال: أي لا يرجعون إلى أهليهم قولًا (٧).
٥١ - قال مقاتل: أخبرهم الله بما يقولون في النفخة الأولى، ثم
(١) في (ب): (أوذا)، وهو خطأ.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٠٧ أ. ب.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٥.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٠٧ ب.
(٥) انظر: "الطبري" ٢٣/ ١٥، "بحر العلوم" ٣/ ١٠٢، "الماوردي" ٥/ ٢٢.
(٦) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٣٠٥، "القرطبي" ١٥/ ٣٩.
(٧) "معاني القرآن" ٢/ ٣٨٠.
498
أخبرهم بما يقولون في النفخة الثانية إذا بعثوا بعد الموت، وذلك قوله (١): ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ قال ابن عباس: يريد النفخة الثانية (٢).
﴿فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ﴾ يعني: القبور، واحدها جدث. قال أبو عبيدة: وهي لغة أهل العالية، وهي أهل نجد يقولون: جدث (٣).
﴿إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ قال مقاتل: يخرجون إلى الله من قبورهم أحياء (٤). وقال الزجاج: ينسلون يخرجون بسرعة (٥).
قال المبرد (٦): يقال للإنسان إذا غدا عجلا: نسل، والريب ينسل وينسل، وأنشد الجعدي:
عَسَلاَن الذئبِ أمسى قاربًا برد الليل عليه فَنَسلْ (٧)
(١) "تفسير مقاتل" ١٠٧ ب.
(٢) لم أقف عليه عن ابن عباس، وأكثر المفسرين قالوا: إنها النفخة الثانية. انظر: "الطبري" ٢٣/ ١٥، "الماوردي" ٥/ ٢٣، "بحر العلوم" ٣/ ١٠٢، "القرطبي" ١٥/ ٣٩.
(٣) كلام أبي عبيدة كما في "المجاز" ٢/ ١٦٣: وهي لغة أهل العالية، وأهل نجد يقولون: جدف.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٠٧ ب.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٠.
(٦) "الكامل" ١/ ٣٢١ - ٣٢٢.
(٧) البيت من الرمل، وهو للنابغة الجعدي في "ديوانه" ٩٠، "تهذيب اللغة" ٢/ ٩٦، وينسب للبيد، وهو في "ديوانه" ص ٢٠٠، "لسان العرب" ١١/ ٤٤٦ (عسل)، "الكامل" ١/ ٣٢١. وبلا نسبة في "جمهرة اللغة" ص ٣٠٥، ٨٤٢، "المخصص" ٧/ ١٢٦، "الخصائص" ٢/ ٤٨. يقال: عسل الذئب والثعلبي يعسِل عسلًا وعسلانًا، مضى مسرعًا واضطرب في عدوه وهزَّ رأسه. وقاربًا نقرب: أي نطلب والأصل في هذا طلب الماء ثم توسع فيه. والنسل: هو الإسراع في المشي.
499
ابن السكيت: يقال: نسل في العدو ينسل نسلانًا (١).
وقد يقال في مصدره: النسل، ومنه الحديث: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الضعف فقال: "عليكم بالنسل" (٢).
وقال ابن الأعرابي: النسل ينشط، وهو الإسراع في المشي (٣).
٥٢ - قال مقاتل: فلما رأوا البعث ذكروا قول الرسل في الدنيا أن البعث حق (٤). فقالوا: ﴿يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا﴾. قال المفسرون: إنما يقولون هذا؛ لأن الله رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين فيرقدون.
قال مقاتل: إن أرواح الكفار كانت تعرض على منازلها من النار طرفي النهار (٥) وكل يوم، فلما كان بين النفختين رفع فرقد تلك الأرواح، فلما بعثوا في النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة دعوا بالويل (٦) فقالوا: ﴿وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾.
قال أبي بن كعب: ينامون قبل البعث نومة (٧).
(١) انظر: "تهذيب اللغة" ١٢/ ٤٢٨ (نسل).
(٢) أخرجه الخطابي في "غريب الحديث" ٢/ ٣٧١، وابن الأثير في "غريب الحديث" ٥/ ٤٩ (نسل)، والزمخشري في "الفائق في غريب الحديث" ٣/ ٤٢١ (نسل)، وابن الجوزي في "غريب الحديث" ٢/ ٤٠٥ باب النون مع السين.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ١٢/ ٤٢٨ (نسل)، "اللسان" ١١/ ٦٦١ (نسل).
(٤) "تفسير مقاتل" ١٠٧ ب.
(٥) (الواو) هنا زائدة، وليست في "تفسير مقاتل".
(٦) "تفسير مقاتل" ١٠٧ ب.
(٧) انظر: "الطبري" ٢٣/ ١٦، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٥٠٥، "زاد المسير" ٧/ ٢٥. وأورده السيوطي في "الدر" ٧/ ٦٣ وزاد نسبته للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
500
قال أبو هريرة: إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر عليهم ماء من تحت العرش، فينبتون منه كما ينبت الزرع من الماء، حتى إذا تكاملت أجسادهم نفخ فيها الروح، ثم تلقى عليهم نومة، فبينما هم في قبورهم إذ نفخ في الصور، فجلسوا وهم يجدون طعم النوم في رؤسهم وأعينهم كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه، فعند ذلك يقولون: (١) ﴿يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾. وأكثر القراء وأهل المعاني على أن الوقف تام عند قوله (٢): ﴿مَرْقَدِنَا﴾، ثم يبتدئ فيقول: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ﴾. قال ابن عباس: تقول الملائكة: هذا ما وعد الرحمن على ألسنة الرسل أن يبعث بعد الموت، ﴿وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ بأن البعث حق (٣).
وذهب آخرون إلى أن هذا من قول المؤمنين. روي عن أبي بن كعب أنه قال: فيقول المؤمن: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ (٤).
وقال قتادة: أولها للكافرين وآخرها للمؤمنين قال الكافر: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا، وقال المسلم: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون،
(١) لم أقف عليه.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٨٠، "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٨٠،"القطع والائتناف" ص ٩١،"منار الهدى" ص ٣٢٠، "المكتفى في الوقف والابتداء" ص ٤٧٣.
(٣) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٧٢. وأكثر المفسرين ذكروا هذا القول، ولمن لم أقف على من نسبه لابن عباس. انظر: "الماوردي" ٥/ ٢٤، "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٥٨، "زاد المسير" ٧/ ٢٦، "ابن كثير" ٣/ ٥٧٤.
(٤) لم أقف على هذا القول عن أبي، وقد ذكر المفسرون هذا القول عن قتادة ومجاهد. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ١٤٥، "الطبري" ٢٣/ ١٦ - ١٧، "الماوردي" ٥/ ٢٤، "معانى القرآن" للنحاس ٥/ ٥٠٥.
501
ونحو هذا قال مجاهد (١)، واختاره الزجاج (٢). والقول الأول اختيار الفراء (٣). وهذا في موضع رفع، كأنك قلت: هذا وعد الرحمن.
وذهب قوم إلى أن الوقف على قوله هذا، على أن يكون هذا من نعت مرقدنا، ثم تبتدئ: ما وعد الرحمن، حكى ذلك النحاس (٤)، وذكره الفراء (٥)، والزجاج. قال الزجاج: (إذا وقفت على قوله هذا، كان ما وعد الرحمن على ضربين أحدهما على إضمار هذا. والثاني على إضمار حق، فيكون المعنى: حق ما وعد الرحمن. قال: والقول الأول -أعني ابتداء هذا- عليه التفسير، وهو قول أهل اللغة) (٦).
٥٣ - ثم ذكر النفخة الثانية فقال: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ الآية، وهي ظاهرة، وكذلك ما بعدها، ثم ذكر جل وعز أوليائه فقال:
٥٤ - ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ﴾ قال ابن عباس: يريد في الآخرة (٧).
﴿فِي شُغُلٍ﴾ وقرئ: شُغْل، وهما لغتان (٨).
(١) انظر: "المصادر السابقة".
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩١.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٣٨٠.
(٤) "القطع والائتناف" ص ٩١.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٣٨٠.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩١.
(٧) في "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٤٤٤ قال: يوم القيامة. ولم أقف على من نسب هذا القول لابن عباس. وانظر: "بحر العلوم" ٣/ ١٠٣، "زاد المسير" ٧/ ٢٧، "ابن كثير" ٣/ ٥٧٥.
(٨) انظر: "علل القراءات" ٢/ ٥٦٦، "الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها" ص٢٩١.
502
قال ابن عباس في رواية عطاء وعكرمة: يريد افتضاض العذارى والأبكار (١).
وقال مقاتل: شغلوا بافتضاض العذارى عن أهل النار، فلا يذكرونهم ولا يهتمون لهم (٢).
وروى مجاهد عن ابن عباس: شغلوا بفضة العذارى (٣).
وقال أبو الأحوص (٤): شغلوا بافتضاض (٥) الأبكار على السرر في الحجال.
وقوله: ﴿فَاكِهُونَ﴾ قال ابن عباس: ناعمون (٦).
(١) انظر: "الطبري" ٢٣/ ١٨،"بحر العلوم" ٣/ ١٠٣، "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٥٨.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٠٨ أ.
(٣) انظر: "زاد المسير" ٧/ ٢٧، وأورده الطبري ٢٣/ ١٨ برواية عكرمة عن ابن عباس.
(٤) لم أستطع تحديده، فهناك أبو الأحوص: قاضي عُكبر، أبو عبد الله محمد بن الهيثم بن حماد الثقفي مولاهم البغدادي المشهور بأبي الأحوص. حدَّث عن أبي نُعيم، وعبد بن رجاء وخلق غيرهما وروى عنه ابن ماجه حديثًا واحداً وأبو عوانة وعثمان بن السَّمَّاك وغيرهم. قال الدارقطني عنه: إنه من الحفَّاظ الثقات. توفي بعكبرى سنة ٢٧٩ هـ.
انظر: "تاريخ بغداد" ٣/ ٣٦٢، "تهذيب الكمال" ٢٦/ ٥٧١، "سير أعلام النبلاء" ١٣/ ١٥٦، أو لعله: الإمام الثقة سلاَّم بن سليم الحنفي مولاهم الكوفي، وقد تقدمت ترجمته.
(٥) في (ب): (بافتضاض).
(٦) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٧٢، ولم أقف على من نسبه لابن عباس، وقد ذكره أكثر المفسرين عن مقاتل وقتادة والسدي.
انظر: "تفسير الثعلبي" ٣/ ٢٣٧ أ، "الماوردي" ٥/ ٢٥، "بحر العلوم" ٣/ ١٠٣، "زاد المسير" ٧/ ٢٨، "القرطبي" ١٥/ ٤٤.
503
وقال مقاتل وقتادة: أي معجبون بما هم فيه. وهو قول الحسن والكلبي (١). وهذان القولان عليهما أهل التفسير، ولكل منهما أصل في اللغة، فمن قال: فاكهون ناعمون (٢). فأصله من الفكيهة والفاكهة، وهي المزاح والكلام الطيب، يقال: فاكهت القوم بملح الكلام مفاكهة.
روى أبو عبيد عن أبي زيد: الفكه الطيب النفس الضحوك. روى شمر عنه: رجل فكه وفاكهة (٣)، وهو الطيب النفس المزاح (٤)، وأنشد أبو عبيدة:
فكه العشي إذا تأدب رحله رَكْبُ الشتاءِ مسامح في الميسر (٥)
[وأنشد أيضًا]: (٦)
فكِهٌ لدى جنبِ الخِوانِ إذا أتت نكباءَ تقلعُ ثابت الأطنابِ (٧)
قال الفراء والزجاج والكسائي: الفاكه والفكه كالحاذر والحذر
(١) "تفسير مقاتل" ١٠٨ أ. وانظر المصادر السابقة.
(٢) في (أ): فاكين ناعمين، وهو خطأ.
(٣) هكذا في النسخ، وهو خطأ، والصواب: فاكه.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ٦/ ٢٦ (فكه)، "اللسان" ١٣/ ٥٢٣ (فكه).
(٥) البيت من الكامل وهو لصخر بن عمرو بن الشريد، اْخو الخنساء، في "مجاز القرآن" ٢/ ١٦٣، "أساس البلاغة" ص ٣٤٦ (فكه).
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٧) لعل نسبه هذا البيت لأبي عبيدة خطأ من المؤلف تابع فيه الأزهري، فقد نسبه لأبي عبيدة كما في "تهذيب اللغة" ٦/ ٢٦، أما ابن منظور في "اللسان" فقال أنشده أبو عبيد. والبيت من "الكامل"، وهو بلا نسبة في: "تهذيب اللغة" ٦/ ٢٦، "اللسان" ١٣/ ٥٢٤ (فكه)، "أساس البلاغة" ص ٣٤٦ (فكه). والخوان: هو الذي يؤكل عليه معرَّب، والجمع أخون، "اللسان" ١٣/ ١٤ (خون)، والنكباء: كل ريح من الرياح الأربع انحرفت ووقعت بين ريحين، وهي تلك المال وتحبس القطر. "اللسان" ١/ ٧٧١ (نكب).
504
والفاره والفره ولم يسمع في الثلاثي فعل (١).
قال الأخفش: ولم أسمع فكه يفكه (٢). ويجوز أن تكون الفاكه كاللابن والتامر، وهو قول أبي عبيدة والأخفش.
قال أبو عبيدة: (من قرأها فاكهون، معناه صاحب فاكهة، أي: كثير الفاكهة، وأنشد للحطيئة فقال:
وغررتني وزعمت أنك لابن بالصيف تأمر (٣)) (٤).
وقال أبو الحسن: فاكهون به وفاكهة وذو الفاكهة ناعم (٥). فلذلك قال المفسرون في تفسير الفاكه: أنه الناعم، ومن قال: الفاكه المعجب، فإن العرب تقول: فكهنا من كذا، أي: تعجبنا، ومنه: قوله تعالى: ﴿فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ﴾ [الواقعة: ٦٥] أي: تعجبون (٦).
٥٦ - وقوله: ﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ﴾ يعني حلائلهم من الحور العين [..] (٧).
ومنه قوله: ﴿ظِلَالٍ﴾، قال مقاتل: يعني أكنان القصور (٨). وذكرنا
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٣٨٠، "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩١، ولم أقف على قول الكسائي.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) البيت من مجزوء "الكامل"، وهو للحطيئة في "ديوانه" ص ٣٣، "مجاز القرآن" ٢/ ١٦٤، "الكتاب" ٢/ ٨٨، "المقتضب" ٣/ ٥٨، "الخصائص" ٣/ ٢٨٢، وهذا البيت من قصيدة يهجو بها الزبرقان بن بدر.
(٤) "مجاز القرآن" ٢/ ١٦٤.
(٥) لم أقف على قول أبي الحسن.
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" ٦/ ٢٦ (فكه)، "اللسان" ١٣/ ٥٢٣ (فكه).
(٧) ما بين المعقوفين -قدر كلمة أو كلمتين- لم أستطع قراءتها أو فهمها في جميع النسخ.
(٨) "تفسير مقاتل" ١٠٨ أ.
505
معنى الظلال عند قوله: (يتفيأ ظلاله) [النحل: ٤٨].
وقرئ: ظلل، وذكرنا معناها عند قوله: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [البقرة: ٢١٠] (١). وتفسير الأرائك مذكور في سورة الكهف (٢).
قال أبو علي الفارسي: (الظلل جمع ظلة، مثل غرفة وغرف، والظلال يجوز أن يكون جمع ظلة أيضًا كعبلة وعلاب، [وجفرة] (٣) وجفار، وبرمة وبرام. ويجوز أن يكون جمع ظلل) (٤).
قال أبو عبيدة في هذه الآية: (في ظلال واحدها ظلة والجمع الظلل، وهو الكن لا يصحوا، وقال: الأرائك واحدها أريكة، وهي الفرش في الحجال، وأنشد قول ذي الرمة:
حدود جفت في السير حتى كأنما يباشرن بالمعزاء مس الأرائك (٥)) (٦)
(١) قال هناك: الظُلل: جمع ظلة مثل: هلة وهُللَ والظُلة: ما يستظل به من الشمس ويسمى السحاب ظلة؛ لأنه يستظل بها، منه قوله: ﴿عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾ أرد غيمًا تحت سموم.
(٢) عند الآية (٣١)، وهي قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا﴾.
(٣) ما بين المعقوفين طمس في (أ)، والجفرة تأنيث جَفْر، وهو من أولاد الشاء إذا عظم وفصل عن أمه "اللسان"٤/ ١٤٢.
(٤) "الحجة" ٦/ ٤٣ - ٤٤
(٥) البيت من الطويل، وهو لذي الرمة في "شرح ديوانه" ٣/ ١٧٢٩، "مجاز القرآن" ١/ ٤٠١، ٢/ ١٦٤.
ومعنى البيت: جفت في السير: أي لم تطمئن فيه، والأرائك: جح أريكة وهي الأسرة، والمعزاء: أرض غليظة ذات حصى. يقول: كأنهن إذا وقعّن على المعزاء وجدن بها مس الأرائك من التعب والإعياء. "ديوان ذي الرمة" شرح أبي نصر الباهلي ص ١٧٢٩.
(٦) "مجاز القرآن" ٢/ ١٦٤.
506
ونحو هذا قال أبو إسحاق (١). وأما المفسرون فإنهم قالوا في تفسير الأرائك: إنها السرر عليها الحجال، وهو قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل (٢).
وقال أحمد بن يحيى: الأريكة لا تكون إلا سريرًا في قبة علية شواره ومخدة (٣).
وقال الكلبي: الأرائك السرر في الحجال، لا تكون أريكة إلا إذا اجتمعتا، فإذا تفرقتا فليس بأريكة (٤).
٥٧ - وقوله: ﴿وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ﴾ قال أبو عبيدة: ما يتمنون، تقول العرب: ادع على ما شئت، أي: تمن (٥)، ونحو هذا قال ابن قتيبة (٦). والزجاج قال: هو مأخوذ من الدعا، المعنى: كل ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم (٧).
قال ابن عباس: يريد ما يتمنون وما يشتهون (٨). وهو قول مقاتل (٩).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٢.
(٢) انظر: "الطبري" ٢٣/ ٢٠، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٥٠٨، "المحرر الوجيز" ٤/ ٤٥٩، "تفسير مقاتل" ١٠٨ أ.
(٣) انظر: "زاد المسير" ٥/ ١٣٨،"فتح القدير" ٤/ ٣٦٥. ومعنى شواره: أي زينته. انظر. "اللسان" ٤/ ٤٣٤ (شور).
(٤) انظر: "بحر العلوم" ٣/ ١٠٣.
(٥) "مجاز القرآن" ٢/ ١٦٤.
(٦) "تفسير غريب القرآن" ص ٣٦٧.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٢.
(٨) انظر: "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ٣٧٢.
(٩) "تفسير مقاتل" ١٠٨ أ.
وقال الكلبي: يسألون، من التحف والتمني (١). والسؤال معنى وليس بتفسير. وحقيقة تفسيره ما ذكره الزجاج: أي ما يدعونه أهل الجنة فهو لهم؛ لأن الادعا افتعال من الدعا، فيدعون بمعنى يدعون (٢).
٥٨ - وقوله: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا﴾. قال أبو إسحاق: سلام بدل من ما، المعنى: لهم سلام بقوله عز وجل ﴿قَوْلًا﴾ (٣). وهذا الذي ذكره الزجاج معنى قول أبي عبيدة: سلام رفع على لهم عملت فيه، وقولًا خرجت مخرج المصدر الذي يخرج من غير لفظ فعله (٤). أي: يقولون ذلك قولًا. ونحو هذا قال الفراء والكسائي (٥).
قال ابن عباس: يرسل الرحيم إليهم بالسلام (٦).
وقال الكلبي: يرسل إليهم ربهم الملائكة في جناتهم بالتحف من عنده وبالسلام (٧).
وقال مقاتل: إن الملائكة يدخلون على أهل الجنة من كل باب، يقولون سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم (٨). فهؤلاء قالوا: إن الله يرسل إليهم بالسلام.
(١) لم أقف عليه عن الكلبي، وقد ذكر الماوردي ٥/ ٢٦ نحوه عن أبي عبيدة.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٢.
(٣) المصدر السابق.
(٤) "مجاز القرآن" ٢/ ١٦٤.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٣٨٠، ولم أقف على قول الكسائي.
(٦) ذكر نحوه أبو حيان في "البحر المحيط" ٧/ ٣٢٧ عن ابن عباس.
(٧) لم أقف عليه عن الكلبي. وانظر: "تفسير هود بن محكم" ٣/ ٤٣٨، "مجمع البيان" ٨/ ٦٧١ فقد ذُكر نحو هذا القول غير منسوب.
(٨) "تفسير مقاتل" ١٠٨ أ.
وروى جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يشرف على أهل الجنة فيقول: السلام عليكم يا أهل الجنة". فذلك قوله: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ (١). وهو قول كعب القرظي (٢).
٥٩ - وقوله: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)﴾ أي: انقطعوا وتميزوا منهم، يقال: أمزت الشيء من الشيء أميزه، إذا عزلته عنه، فانماز وامتاز، وميزته فتميز (٣).
وقال ابن عباس: يقول تنحوا أيها المشركون (٤).
وقال مقاتل: اعتزلوا اليوم -يعني: في الآخرة- من الصالحين (٥).
وقال السدي: كونوا على حده (٦). وهذا قول أكثر المفسرين (٧)، واختيار أبي إسحاق قال: معناه: انفردوا عن المؤمنين (٨).
وقال الضحاك: هم يفرد كل واحد من أهل النار بيتاً ويرد بابه،
(١) رواه ابن ماجه في "سننه" باب: ما أنكرت الجهمية ١/ ٣٦ رقم ١٧٢. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ٩٨: رواه البزار، وفيه الفضل بن عيسى الرقاشي، وهو ضعيف.
(٢) انظر: "الطبري" ٢٣/ ٢١، وأورده السيوطي في "الدر" ٧/ ٦٦، وزاد نسبته لأبي نصر السجزي في "الإبانة".
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ١٣/ ٢٧٢ (ماز)، "اللسان" ٥/ ٤١٢ (ميز).
(٤) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكر الماوردي نحوه ٥/ ٢٦ عن الكلبي، وذكره هود بن محكم ٣/ ٤٣٨ ولم ينسبه.
(٥) "تفسير مقاتل" ١٠٨ أ.
(٦) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٥١٧. وانظر: "البغوي" ٤/ ١٦، "مجمع البيان" ٨/ ٦٧١.
(٧) المصادر السابقة. وانظر كذلك: "بحر العلوم" ٣/ ١٠٤، "زاد المسير" ٧/ ٣٠.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٢.
فيكون فيه أبدًا، لا يَرى ولا يُرى. وعلى هذا امتيازهم: أن يمتازوا بعضهم من بعض (١).
٦٠ - وقوله: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ أي: ألم آمر ولم أوص، كقوله: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ﴾ [طه: ١١٥] وقد مر.
قال ابن عباس: ألم أقدم إليكم (٢).
وقال الزجاج: ألم أتقدم إليكم، يعني على لسان الرسل (٣). ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾ قال مقاتل: يعني الذين أمروا بالاعتزال (٤).
﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ أي: لا يطيعوا إبليس في الشرك. ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ من العداوة إخراج أبويكم من الجنة. قاله ابن عباس (٥). قال سعيد بن جبير والكلبي: من أطاع الشيطان فقد عبده (٦).
٦١ - ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي﴾ يعني: ألم أعهد إليكم أن اعبدوني. قال ابن عباس: أطيعوني (٧). وقال مقاتل: وحدوني (٨). ﴿هَذَا﴾ يريد الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-. ﴿صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ (٩) يعني: دين الإسلام. ثم ذكر عداوته لبني
(١) انظر: "الماوردي" ٥/ ٢٦، "البغوي" ٤/ ١٦، "القرطبي" ١٥/ ٤٦.
(٢) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٧٢.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٢.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٠٨ أ.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) لم أقف عليه عنهما. وذكره السمرقندي في "بحر العلوم" ٣/ ١٠٤ ونسبه لابن عباس.
(٧) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "بحر العلوم" ٣/ ١٠٤، "زاد المسير" ٧/ ٣٠، "البغوي" ٤/ ١٧.
(٨) "تفسير مقاتل" ١٠٨ أ.
(٩) قوله: (مستقيم) غير مثبت في (ب).
آدم فقال: [..] (١)
٦٢ - ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا﴾ أي: عن الهدى. ﴿جِبِلًّا كَثِيرًا﴾ فيه وجوه من القراءة: جُبُلًا وجُبْلَّا بالضم وتشديد اللام قال: وجبل وجِبِلَّة لغات كلها (٢). ونحو هذا قال أبو عبيدة، قال: ومعناها: الخلق والجماعة (٣).
وقال الليث: الجبلة الخلق خلقهم الله فهم مجبولون، وأنشد: بحيث شد الجبابل المجابلا (٤).
أي: حيث شد أسر خلقه (٥). وجبل الإنسان على هذا الأمر، أي: طبع، فهو مجبول عليه.
قال ابن عباس ومجاهد والمفسرون: خلقًا كثيرًا (٦).
قوله: ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾. قال ابن عباس: يريد ما رأيتم من الأمم قبلكم ألم تعقلوا فتعتبروا بما رأيتم من الأمم قبلكم (٧).
(١) في (أ): زيادة (قوله تعالى) وهو هنا زائد لا يحتاج السياق.
(٢) "الحجة" ٦/ ٤٤ - ٤٥، "الحجة في القراءات السبع" ص ٢٩٩، "علل القراءات" ٢/ ٥٦٧.
(٣) "مجاز القرآن" ٢/ ١٦٤.
(٤) شطر بيت لم أقف على تمامه ولا قائله، وهو في "تهذيب اللغة" ١١/ ٩٦، "اللسان" ١١/ ٩٨.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ١١/ ٩٦ (جبل)، "اللسان" ١١/ ٩٨ (جبل).
(٦) "تفسير ابن عباس" بهاش المصحف ص ٣٧٢، "تفسير مجاهد" ص ٥٣٦. وانظر: "البغوي" ٢٣/ ٢٣، "الماوردي" ٥/ ٢٧، "بحر العلوم" ٣/ ١٠٤.
(٧) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "الوسيط" ٣/ ٥١٧، "بحر العلوم" ٣/ ١٠٤، "البغوى" ٤/ ١٧، "زاد المسير" ٧/ ٣١.
٦٣ - قال مقاتل: فلما دنوا من النار، قال لهم خزنتها: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ بها في الدنيا فتكذبون (١).
٦٤ - ﴿اصْلَوْهَا﴾: قاسوا حرها وشدتها. ﴿الْيَوْمَ﴾ يعني: في الآخرة. ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ بكفرهم بما كان في الدنيا.
٦٥ - وقوله: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ﴾. قال مقاتل والكلبي: وذلك أنهم أنكروا الشرك والتكذيب، فيختم الله على أفواههم، وتكلمت جوارحهم بإذن لها في الكلام، فشهدت عليهم بما عملوا (٢).
٦٦ - وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ ذكرنا معنى الطمس في سورة النساء ويونس (٣). قال أبو عبيدة (٤) والمبرد (٥) والزجاج (٦) في هذه الآية: يقال: عين طمس ومطموس، وهو الذي لا يرى شق عينه ولا يتبين جفنه. وذكرنا في تفسير هذه الآية قولين. قال مقاتل: يقول: لو نشاء لحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا طريق الهدى، ثم
(١) "تفسير مقاتل" ١٠٨ أ.
(٢) المصدر السابق، ولم أقف عليه عن الكلبي.
(٣) في سورة النساء: الآية ٤٧، وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ الآية، وهذه الآية مع آية أخرى ناقصة من المخطوط.
وفي سورة يونس: آية ٨٨ قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ وقال المؤلف هناك بعد أن أحال على آية النساء. قال الزجاج: تأويل طمس الشيء: إذهابه عن صورته والانتفاع به على الحال الأولى التي كانت عليها.
(٤) "مجاز القرآن" ٢/ ١٦٥.
(٥) لم أقف على هذا القول عن المبرد.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٣.
512
قال: ﴿فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾ يقول: فمن أين يبصرون طريق الهدى، ولم أعم عليهم طريق الكفر؟ (١). ونحو هذا قال الكلبي (٢).
القول الثاني: أن معنى الآية لو نشاء لأعميناهم وتركناهم عميًا يترددون، وكيف يبصرون الطريق حينئذ؟ وهذا قول الحسن وقتادة والسدي (٣). وهو الاختيار لأن الله تعالى يهددهم بهذه الآية كالتي بعدها كما قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٥] يقول: كما أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة. وهذا القول اختيار المبرد والزجاج.
قال المبرد: تأويل الآية قال: راموا الاستباق إلى المنهاج، فمن أين لهم أبصار؟ (٤).
وقال الزجاج: أي لو (٥) نشاء لأعميناهم فعدلوا عن الطريق، فمن أين (٦) يبصرون؟.
وذكرنا معنى الاستباق عند قوله: ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ﴾ [يوسف: ٢٥]. والاستباق هاهنا معناه غير معنى ما تقدم. قال الأزهري: ﴿فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ﴾ فجازوا الصراط وخلفوه، وهذا الاستباق من واحد والذي في سورة يوسف
(١) "تفسير مقاتل" ١٠٨ أ.
(٢) انظر: "بحر العلوم" ٣/ ١٠٤، ونسبه بعض المفسرين لقتادة القائل. انظر: "البغوي" ٤/ ٣٦، "زاد المسير" ٧/ ٣٢، "القرطبي" ١٥/ ٤٩.
(٣) انظر: "الطبري" ٢٣/ ٢٥، "الماوردي" ٥/ ٢٩، "البغوي" ٤/ ٣٦.
(٤) لم أقف على قول المبرد.
(٥) في (ب): (ولو نشاء).
(٦) في (أ) كرر قول الزجاج ولكنه قال في آخر مرة: فمن أين لهم أبصار، وقال في الأخرى: فمن أين يبصرون. كما أثبته وكما هو في "معاني الزجاج" ٤/ ١٩٣.
513
من اثنين؛ لأن هذا بمعنى سبقوا، والأول بمعنى المسابقة (١) هذا كلامه ويدل على صحته قول أبي إسحاق (٢): عدلوا عن الطريق [في هذه الآية] (٣) ومعنى عدلوا عن الطريق ما ذكره الأزهري: جازوا الصراط وخلفوه.
ويدل على صحة القول الثاني ما ذكره عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال: إن الأسود بن عبد الأسود أخذ حجرًا وجماعة من بني مخزوم معه ليطرحوه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي، فطمس الله بصره وألصق الحجر بيده، فما أبصر ولا اهتدى (٤). ومعنى الاستباق في هذا القول ما ذكروا في القول الأول معناه: فاهتدوا الطريق.
قال الكلبي: فاستبقوا إلى الصراط المستقيم (٥). وفي هذا القول عدول عن الظاهر؛ لأن قوله: ﴿لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ﴾ يقتضي طمس الأعين الظاهرة مع أنه ليس يليق بما بعده، وهو قوله (٦):
٦٧ - ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا﴾. قال ابن عباس: يريد لمسخت أبا جهل وكل من معه، على مكانتهم: يريد بالموضع الذي كانوا فيه قعودًا (٧).
(١) "تهذيب اللغة" ٨/ ٤١٨ (شق).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ١٩٣.
(٣) ما بين المعقوفين زيادة من (أ).
(٤) انظر: "القرطبي" ١٥/ ٥٠.
(٥) لم أقف عليه عن الكلبي، وقد ذكر القرطبي نحوه عن ابن عباس ١٥/ ٤٩، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٣٢ وقال: روى عن جماعة منهم مقاتل.
(٦) في (ب): (واو) زائدة، (وقوله)، وهو خطأ.
(٧) انظر: "الطبري" ٢٣/ ٢٩، "الماوردي" ٥/ ٢٦، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٥١٤.
قال أبو عبيدة (١) والزجاج (٢): المكانة والمكان واحد. وهذا مما تقدم القول فيه.
وقال مقاتل: لو شئت لمسختهم حجارة في منازلهم ليس فيها أرواح.
﴿فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ﴾ قال: يقول لا يتقدمون ولا يتأخرون (٣). وقال ابن عباس: لم يتقدموا ولم يتأخروا (٤).
وقال أبو إسحاق: أي لم يقدروا على ذهاب ولا مجيء (٥). هذا الذي ذكرنا هو الصحيح في تفسير الآية، وقال قتادة: يقول لو نشاء لجعلناهم كسحا لا يقومون (٦). والكسح جمع الأكسح، وهو المقعد. والقول هو الأول؛ لأن معنى المسخ تحويل الصورة إلى صورة ذي روح كالقرد والخنزير، ولم يصح عنده هذا المسخ في الآية مع قوله: ﴿فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا﴾ فعدل إلى المسخ بالإقعاد، وليس كما ظن فإنه؛ يقال: مسخه الله حجرًا، وقد أوضح ذلك مقاتل.
٦٨ - قوله تعالى: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ وقرئ: نُنَكَّسه، بالتشديد، يقال: نَكسته (٧) أنكسه وأنكسه، ونكسته
(١) "مجاز القرآن" ٢/ ١٦٥.
(٢) "مجاز القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٣.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٠٨ أ.
(٤) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٧٣، "زاد المسير" ٧/ ٣٣. وانظر: "الطبري" ٢٣/ ٢٦، "الماوردي" ٥/ ٢٩.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٣.
(٦) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٤٦١، "المحرر الوجيز" ٤/ ١٤٥، "زاد المسير" ٧/ ٣٣.
(٧) في (ب): (نكسه).
515
أنكسه (١). وقد ذكرنا معنى النكس عند قوله: ﴿ثُمَّ نُكِسُوا﴾ [الأنبياء. ٦٥] (٢). قال الأخفش: ننكسه هو كلام العرب، ولا يكادون يقولون: نكسته، إلا لما يقلب فيجعل (٣) رأسه أسفله (٤). قال مقاتل: يعني أدرك العمر (٥).
وقال أبو إسحاق: من أطلنا عمره نكسنا خلقه، فصار بدل القوة ضعفًا وبدل الشباب هرمًا (٦). وهذا معنى قول قتادة: هو الهرم يتغير بصره وقوته، كما رأيت قوله في رواية معمر (٧). وهذا عام في كل من يهرم، تتراجع قوته ويتغير عما كان عليه في شبابه.
وقال الكلبي (٨): من نعمره حتى يدركه الهرم يرده في الخلق الأول الذي كان لا يعقل فيه شيئًا. وروي ذلك عن قتادة (٩) قال: ننكسه في الخلق لكي لا يعلم بعد علم شيئًا، يعني: الهرم. وهذا لا يعم؛ لأنه ليس كل من عمر صار إلى الفند، على أن ابن عباس خص الآية بالكافر فقال في رواية
(١) انظر: "الطبري" ٢٣/ ٢٧، "الحجة" ٦/ ٤٥.
(٢) انظر: "البسيط" النسخة الأزهرية ٣/ ٢٤٦ أ.
(٣) في (ب): (فنجعل).
(٤) انظر: "الحجة" ٦/ ٤٥، "الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها" ٢/ ٢٢٠.
(٥) لم أقف على قول مقاتل، وليس هو في "تفسيره".
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٣.
(٧) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ١٤٥،"الطبري" ٢٣/ ٢٦، "معاني القرآن" للنحاس ٥/ ٥١٤.
(٨) لم أقف على قول الكلبي. وذكر ابن أبي حاتم في "تفسيره" ١٠/ ٣٢٠٠ نحوه عن قتادة.
(٩) انظر: "مجمع البيان" ٨/ ٦٧٤، "القرطبي" ١٥/ ٥١.
516
عطاء: ومن نعمره يريد المشركين، نرده إلى ذهاب العقل، كما قال ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ [التين: ٥] يريد الكافرين من ولد آدم (١). فالنكس على هذا القول ردّه من حالة العلم إلى حالة الجهل، وعلى القول الأول من القوة إلى الضعف ومن الشباب إلى الشيب، ومن الزيادة إلى النقصان.
وقوله: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ أي: فليس لهم عقل فيعتبروا فيعلموا أن الذي قدر على هذا من تصريف أحوال الإنسان، قدر على البعث بعد الموت، ومن قرأ بالتاء، فلقوله: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ﴾.
٦٩ - قوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ قال الكلبي (٢) ومقاتل (٣): نزلت في مشركي مكة، حين قالوا: إن القرآن شعر، وإن محمدًا شاعر ساحر كذاب، فقال الله تكذيبًا لهم: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾. قال ابن عباس: يريد ما (٤) ينبغي له الشعر، ما كان يروي بيت شعر ولا يقومه مستقيماً (٥). قال أبو إسحاق: وما يتسهل ذلك (٦).
وأصل (ينبغي) من قولهم: بغيت الشيء أبغيه، أي: طلبته، فابتغى لي ذلك الشيء أن تسهل وحصل، كما تقول: كسرته فانكسر (٧). وكان
(١) لم أقف عليه.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٠٨ ب، "البغوي" ٤/ ١٨، "زاد المسير" ٧/ ٣٤.
(٤) في (ب): (وما).
(٥) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "الطبري" ٢٧/ ٢٣، "بحر العلوم" ٣/ ١٠٥. البغوي ٤/ ١٨، "مجمع البيان" ٨/ ٦٧٤.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٣.
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" ٨/ ٢١٢ (بغي)، "اللسان" ١٤/ ٧٦ (بغا).
517
النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصفة التي وصفه الله بها ما كان يقرن له بيت شعر، حتى إنه إذا تمثل بيت شعر جرى على لسانه منكسراً، فقد روي أنه كان يتمثل بقول العباس بن مرداس فيقول:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة (١)
وكان يتمثل بقول عبد بني الحسحاس (٢) يقول:
كلي (٣) الإسلام والشيب للمرء ناهيًا (٤)
وكان يتكلم ببيت طرفة فيقول:
ويأتيك من لم تزود بالأخبار (٥)
(١) البيت من المتقارب وصحته: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع. وهو في "ديوان العباس" ٨٤، "لسان العرب" ١/ ٧٧٤ (نهب)، "تاج العروس" ٤/ ٣١٩ (نهب)، "خزانة الأدب" ١/ ١٥٣. وذكر هذا الأثر القرطبي في "تفسيره" ١٥/ ٥٢.
(٢) عبد بني الحسحاس، اسمه سحيم، وكان عبداً أسود نوبياً أعجميًا، وهو من المخضرمين، أدرك الجاهلية والإسلام ولا يعرف له صحبة قُتل في خلافة عثمان -رضي الله عنه-، قتله بنو الحسحاس لأنه أحبَّ امرأة منهم وطفق يتغزل فيها، فقتلوه خشية العار.
انظر: "الخزانة" ٢/ ١٠٢، "الأغاني" ٢٢/ ٣٠٥، "الشعر والشعراء" ص ٢٤١.
(٣) هكذا في النسخ، وهو خطأ، والصواب: كفى.
(٤) البيت من الطويل، وصحته:
عميرة ودع إن تجهزت غازيًا كفى الشيبُ والإسلام للمرء ناهياً
وهو لسحيم في: "البيان والتبيين" ١/ ٧١، "الكامل" ١/ ٢٨٥، "الخزانة" ١/ ٢٦٧، ٢/ ١٠٢، "الأغاني" ٢٢/ ٣٠٧، "سر صناعة الإعراب" ١/ ١٤١.
وذكر هذا الأثر الإمام محمد بن يوسف الصالحين الشامي في "سبل الهدى والرشاد في سيرة خبر العباد" ٩/ ٣٥٢، وقال: أخرجه ابن سعد عن الحسن البصري، والقرطبي في "تفسيره" ١٥/ ٥٢.
(٥) البيت من الطويل، وصحته: =
518
فيعاد عليه مستويًا فيقول: إني "لست بشاعر ولا ينبغي لي" (١). والمفسرون ذهبوا إلى أنه ما كان يتسهل له أن يأتي ببيت موزون؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾. وما روي عنه من الأراجز كقوله: "هل أنت إلا أصبع دميت" (٢).
وقوله: "لبيك إن العيش عيش الآخرة" (٣).
= ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وهو لطرفة بن العبد في معلقته المشهورة في: "ديوانه" ص ٤١، "أشعار الشعراء الستة الجاهلين" ٢/ ٥٧،"لسان العرب" ٢/ ٨ (تبت)، "تاج العروس" ١٥/ ١٥٠.
(١) رواه الإمام أحمد في "مسنده" ٦/ ٣١، ١٤٦، والنسائي في "عمل اليوم واليلة" ص ٥٤٩، والترمذي في "سننه" أبواب الآداب، ما جاء في إنشاد الشعر ٤/ ٢١٨ رقم ٣٠٠٦. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٨/ ١٢٨: رواه الترمذي عن عائشة، ورواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، ورواه البزار، والطبراني، عن ابن عباس، ورجالهما رجال الصحيح.
(٢) هذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد"، باب من ينكب في سبيل الله ٣/ ١٠٣١ رقم ٢٦٤٨، وفي "كتاب الأدب"، باب ما يجوز من الشعر ٥/ ٢٢٧٦ رقم ٥٧٩٤ من حديث جندب بن سفيان. والإمام مسلم في "صحيحه" كتاب الجهاد، باب ما لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين ٣/ ١٤٢١ رقم ١٧٩٦ من حديث جندب بن سفيان.
(٣) أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب الجهاد"، باب التحريض على القتال ٣/ ١٠٤٣ رقم ٢٦٧٩، وفي باب البيعة في الحرب ألا يفروا ٣/ ١٠٨١ رقم ٢٨٠١ عن أنس، وفي "كتاب الرقاق"، باب ما جاء في الصحة والفراغ وأن لا عيش إلا عيش الآخرة ٥/ ٢٣٥٧ رقم ٦٠٥٠ عن أنس، ورقم ٦٠٥١ عن سهل بن سعد الساعدي. وأخرجه الإمام مسلم في "صحيحه" "كتاب الجهاد" باب غزوة الأحزاب ٣/ ١٤٣١ رقم ١٨٠٤ من حديث أنس.
519
فالرجز جنس من الكلام ليس بشعر (١).
وقال أبو إسحاق: (ليس يوجب هذا أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتمثل ببيت شعر قط، وإنما يوجب هذا أنه ليس بشاعر، وأن يكون القرآن أتى به مباينًا لكلام المخلوقين وأوزان أشعار العرب) (٢). وعلى ما ذكر قوله: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ معناه: وما يسهل له إنشاء الشعر من قبل نفسه.
قوله: ﴿إِنْ هُوَ﴾ قال مقاتل: القرآن (٣). ﴿إِلَّا ذِكْرٌ﴾ قال ابن عباس: موعظة. ﴿وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ قال: يريد فيه الفرائض والحدود والأحكام (٤).
٧٠ - ﴿لِيُنْذِرَ﴾ أي: القرآن، ومن قرأ بالتاء فهو خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم-
(١) ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" ٨/ ٣٨ في شرحه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". قال: وقد أجيب عن مقالته -صلى الله عليه وسلم- هذا الرجز بأجوبة: أحدها: أنه نظمه غيره وأنه كان فيه: أنت النبي لا كذب أنت عبد المطلب، فذكره بلفظ أنا في الموضعين. ثانيها: أن هذا رجز وليس من أقسام الشعر، وهذا مردود. ثالتها: أنه لا يكون شعراً حتى يتم قِطْعَة. وهذه كلمات يسيرة لا تسمى شعرًا. رابعها: أنه خرج موزونًا ولم يقصد به الشعر، وهذا أعدل الأجوبة.
وقال الإمام القرطبي في "تفسيره" ١٥/ ٥٢: وإصابته -صلى الله عليه وسلم- الوزن أحياناً لا يوجب أنه يعلم الشعر، وكذلك ما يأتي أحيانًا من نثر كلامه ما يدخل في وزن... فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن وفي كل كلام وليس ذلك شعراً ولا في معناه.
وانظر للاستزادة في الموضوع: "فتح الباري" ٨/ ٣٨، ١٠/ ٦٦٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١٥/ ٥١، "الشعر الإسلامي في صدر الإسلام" ص ٢٤ وما بعدها.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٤.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٠٨ ب.
(٤) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٧٣. وانظر: "البغوي" ٤/ ١٩، "زاد المسير" ٧/ ٣٣.
أي: لتنذر يا محمد بما في القرآن من الوعيد (١). ﴿مَنْ كَانَ حَيًّا﴾ قال ابن عباس: يريد مؤمنًا (٢).
وقال مقاتل: من كان مهتديًا في علم الله (٣).
وقال أبو إسحاق: أي من يعقل ما يخاطب به، فإن الكافر كالميت، وإنه لا يتدبر (٤).
وقال أبو علي الفارسي: (يعني المؤمنين؛ لأن الكفار أموات كما قال ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ ﴿النحل: ٢٦﴾. وقال: ﴿أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا لِيُنْذِرَ﴾ [الأنعام: ١٢٢]) (٥).
وقوله: ﴿وَيَحِقَّ الْقَوْلُ﴾ أي: ويجب الحجة بالقرآن على الكافرين، ثم وعظهم ليعتبروا فقال: [..] (٦)
٧١ - ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا﴾ أي: مما تولينا خلقه.
﴿أَيْدِينَا﴾ بإبداعنا وإنشائنا واختراعنا، لم نشارك في خلقه ولا خلقناه بإعانة معين ولا إرشاد دليل. وذكر الأيدي هاهنا يدل هذه المعاني التي (٧) ذكرنا وإنما خاطبنا بما نعقل، والألفاظ التي تستعمل نستعملها في مخاطبتنا، والواحد منا إذا قال: عملت هذا بيدي، دل ذلك على توليته
(١) انظر: "الحجة" ٦/ ٤٧، "الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها" ٢/ ٢٢٠.
(٢) لم أقف عليه عن ابن عباس. وانظر: "الماوردي" ٥/ ٣٠، "زاد المسير" ٧/ ٣٧.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٠٨ ب.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٤.
(٥) "الحجة" ٦/ ٤٧.
(٦) في (أ): زيادة (قوله)، وهي زيادة لا يحتاجها السياق.
(٧) في (ب): (الذي).
بعمله وانفراده به (١).
وأراد بالأنعام: الإبل والبقر والغنم. وقال المفسرون في قوله: ﴿عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾: عملناه.
قوله تعالى: ﴿فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ قال مقاتل: يعني لضابطين (٢). وقال الزجاج: (مالكون ضابطون؛ لأن القصد إلى أنها ذليلة لهم، ألا ترى إلى قوله:
٧٢ - ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ﴾، ومثله قول الشاعر:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير ان نفرا (٣)
أي: لا أضبط رأس البعير) (٤).
وقوله: ﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ﴾. قال الليث: الركوب بفتح الراء كل دابة نركب، والركوبة اسم يجمع ما يركب، كالحمولة والركوبة والحلوبة (٥).
وقال أبو عبيدة: ركوبهم ما ركبوا، والحلوبة ما حلبوا (٦).
قال الأزهري (٧): فعول أكثر ما يجيء الفاعل كالمغفور والشكور،
(١) سبق أن يينا خطأ المؤلف رحمه الله في تفسير مثل هذه الآية، حيث إنه يؤول بعض الصفات وأهل السنة والجماعة يثبتون لله جل وعلا ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم-، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٠٨ ب.
(٣) البيت من المنسوخ وهو للربيع بن ضبع الفزاري في: "الخزانة" ٧/ ٣٨٤، "الكتاب" ١/ ٨٩، "لسان العرب" ١٣/ ٢٥٩ (ضمن).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٤.
(٥) انظر:"تهذيب اللغة" ٨/ ٢١٨ (ركب).
(٦) "مجاز القرآن" ٢/ ١٦٥.
(٧) "تهذيب اللغة" ٨/ ٢١٦.
ويجيء بمعنى مفعول كالركوب والحلوب، وربما أدخلوا الهاء في هذا الباب، وقد يجيء اسمًا لا صفة كالذنوب، وهو النصيب أو الدلو، وقد يجيء مصدرًا كالقبول والولوغ والزروع [والوزوع] (١).
قال مقاتل: (فمنها ركوبهم، يعني: حلوبتهم الإبل والبقر، ومنها يأكلون: الغنم) (٢).
٧٣ - ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ قال ابن عباس والكلبي: يعني بالركوب والحمل والأصواف والأوبار والأشعار والسحال (٣) والفصلان ومنافع كسبها وظهورها (٤). ﴿وَمَشَارِبُ﴾ من ألبانها. ﴿أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾ رب هذه النعم فيوحدونه.
٧٤ - ثم ذكر جهلهم وغرتهم (٥) فقال: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ﴾ (٦) أي: لعلهم يمنعون من العذاب باتخاذ الآلهة.
٧٥ - ثم بين أن الأمر ليس على ما يقدرون فقال: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ﴾.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٢) "تفسير مقاتل" ١٠٨ ب.
(٣) السحال: جمع سحليل، وهو الناقة العظيمة الضرع التي ليس في الإبل مثلها، فتلك ناقة سحليل. وأما الفصلان: جمع فصيل، وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه، وأكثر ما يطلق في الإبل، وقد يقال في البقر (فصل) "اللسان" ١١/ ٥٢٢.
(٤) لم أقف عليه عنهما، وقد أورده بعض المفسرين غير منسوب. انظر: "القرطبي" ١٥/ ٥٦، "زاد المسير" ٧/ ٣٩.
(٥) لعله من التَّغرير، وهو حمل النفس على الغَرَرِ، والغُرور: بالضم الأباطيل. "اللسان" / ١٢ (غرر).
(٦) قوله: (آلهة) غير مثبت في النسخ، وهو خطأ.
523
قال ابن عباس: يريد أن الأصنام لا تقدر على نصرهم (١).
وقال مقاتل: لا تقدر الآلهة أن تمنعهم من العذاب (٢). ﴿وَهُمْ﴾ يعني: الكفار. ﴿لَهُمْ﴾ الآلهة. ﴿جُنْدٌ مُحْضَرُونَ﴾.
وقال ابن عباس ومقاتل: وهم لهم جند يغضبون لهم ويحضرونهم في الدنيا (٣). وهذا قول قتادة والحسن، واختيار أبي إسحاق.
قال قتادة: يغضبون للآلهة في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم (٤) خيرًا ولا تدفع عنهم شرًّا إنما هي أصنام (٥).
وقال الحسن: محضرون لآلهتهم يدفعون عنهم ويمنعونهم (٦).
وقال أبو إسحاق: أي هم للأصنام ينتصرون، والأصنام لا تستطيع نصرهم (٧). وهذا القول هو الاختيار (٨). وفيه قول آخر، وهو أن المعنى: والآلهة جند للعابدين محضرون معهم في النار، يريد أن العابدين والمعبودين كلهم مجتمعون في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض ولا ينتفع الكفار بعبادتهم ورجائهم نصرتهم. وهذا معنى قول الكلبي، (٩) ورواية معمر
(١) "تفسير ابن عباس" بهامش المصحف ص ٣٧٣، وانظر: "الوسيط" ٩/ ٥١٣، "البغوي" ٤/ ٢٠.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٠٨ ب.
(٣) انظر لم أقف عليه منسوبًا لابن عباس، وهو في "تفسير مقاتل" ١٠٨ ب.
(٤) في (ب): (لهم).
(٥) انظر: "الطبري" ٢٣/ ٢٩، "بحر العلوم" ٣/ ١٠٦، "زاد المسير" ٧/ ٣٩.
(٦) انظر: "القرطبي" ١٥/ ٢٩٠.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٥.
(٨) وهو ما رجحه الإمام الطبري ٢٣/ ٣٠.
(٩) انظر: "زاد المسير" ٧/ ٣٩.
524
عن الحسن (١). وعلى هذا القول ﴿هُمْ﴾ كناية عن الآلهة، والكناية في هم الكفار والخلق لفظ للجند على الآلهة بزعمهم، وعلى ما كانوا يقدرون من أنها لهم جند تمنعهم، فقيل: إنهم لهم جند محضرون معهم النار. ثم عزى نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال: [..] (٢)
٧٦ - ﴿فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ في ضمائرهم من الشرك والتكذيب. ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ بألسنتهم. ومعنى أنا نعلم ذلك، ثم إذا علم أثاب نبيه على صبره على أذاهم وجازاهم بسوء صنيعهم، وكأنه قال: لا يحزنك ما يقولون، فإنا نثيبك ونجازيهم.
٧٧ - وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء (٣): يريد أبي ابن خلف. وهو قول مقاتل (٤)، والأكثرين (٥).
وقال سعيد بن جبير (٦): هو العاص بن وائل.
وقال الحسن (٧): هو أمية بن خلف، خاصم النبي -صلى الله عليه وسلم- في إنكار البعث، وأتاه بعظم حائل ففته بين يديه، وقال (٨): أيحي هذه الله بعدما
(١) انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ١٤٦، "زاد المسير" ٧/ ٣٩.
(٢) في (أ): زيادة (وقوله تعالى) وهي زيادة لا يحتاجها السياق.
(٣) انظر: "بحر العلوم" ٣/ ١٠٧، وأورده السيوطي في "الدر" ٧/ ٣٩ وعزاه لابن مردويه عن ابن عباس.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٠٨ ب.
(٥) فقد قال به مجاهد وقتادة والسدي وعكرمة والكلبي. انظر: "الطبري" ٢٣/ ٣٠، "الماوردي" ٥/ ٣٣، "بحر العلوم" ٣/ ١٠٧. وقال ابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٤١: وبه قال الجمهور. وعليه المفسرون.
(٦) انظر: "الطبري" ٢٣/ ٣٠، "زاد المسير" ٧/ ٤٠، "القرطبي" ١٥/ ٧٠.
(٧) انظر: "مجمع البيان" ٨/ ٦٧٨، "زاد المسير" ٧/ ٤١، "فتح القدير" ٤/ ٣٨٣.
(٨) في (ب): (فقال).
رم (١) وبلي فأنزل الله [وقوله] (٢): ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ يعني: ألا يرى أنه مخلوق من نطفة ثم هو يخاصم، وهذا تعجب من جهله وإنكار عليه خصومته، أي: كيف لا يتفكر في بدء خلقه حتى يدع خصومته (٣). وهذا كقوله: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ [النحل: ٤]. وقد مر تفسيره.
٧٨ - ثم أكد الإنكار عليه بقوله: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا﴾. قال مقاتل (٤): وصف لنا شبها، يعني: أنه ضرب المثل في إنكار البعث بالعظم الحائل، ففته وبذره وينكر إحيائه بعد بلائه ويتعجب ممن يقول: إن الله يحييه. فهذا معنى ضرب المثل هاهنا، وهو أنه بين بما فعله إنكار البعث واعتقداه في استحالة الإعادة، وكان ذلك ضرب مثل الله. أي: فإن قدر على الإحياء والإعادة فليحي هذا العظم.
قوله تعالى: ﴿وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾. قال مقاتل: يقول: وترك النظر في خلق نفسه ءأذا خلق من نطفة ولم يك قبل ذلك شيئاً (٥). ثم بين أيش (٦) كان ذلك
(١) في (ب): (ورمى).
(٢) ما بين المعقوفين غير مثبت في (أ).
(٣) هذه الأقوال التي ذكرها المؤلف رحمه الله فيمن نزلت هذه الآية هي بعض مقاله المفسرون. وقد قال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" ٣/ ٥٨١ بعد أن ذكر الأقوال: وعلى كل تقدير سواء كانت هذه الآيات قد نزلت في أبي بن خلف أو العاص بن وائل أو فيهما، فهي عامه في كل من أنكر البعث، والألف واللام في قولى تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ﴾ للجنس، فيعم كل منكر للبعث. اهـ.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٠٩ أ.
(٥) المصدر السابق.
(٦) أصل الكلمة: أي شيء.
المثل بقوله [..] (١): ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾. قال أبو عبيد: الرميم مثل الرمة، يقال منه: رم العظم، وهو يرم رما، وهو رميم (٢). وقال ابن الأعرابي: رمت عظامه وأرمت إذا بليت (٣).
وقال أبو عبيدة: الرميم الرفات (٤). وإنما قال رميم بغير هاء، وهو صفة العظام؛ لأنه منقول عن فاعل، فهو غير مبني على الفعل، وإذا لم يبن على الفعل لم يدخله عليه علامة التأنيث.
٧٩ - ثم ذكر جواب المنكر بقوله: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾. قال ابن عباس: يريد ابتدأها أول مرة (٥).
قال أبو إسحاق: والقدرة في الإبتداء أبين من الإعادة (٦).
وقوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ قال ابن عباس: يريد حين ابتدأه وحين يعيده (٧).
وقال مقاتل: عليهم بخلقهم في الدنيا وعليم بخلقهم بعد الموت (٨).
٨٠ - ثم زاد في البيان وأخبر عن عجيب صنعه مما يشاهدون؛ ليعتبروا ويستدلوا فقال: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا﴾. قال
(١) في (أ): زياد: ﴿قَوْلُهُ﴾ وهي زيادة لا يحتاجها السياق.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ١٥/ ١٩١ (رمم).
(٣) انظر: "اللسان" ١٢/ ٢٥٣ (رمم).
(٤) "مجاز القرآن" ٢/ ١٦٥.
(٥) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره المؤلف في "الوسيط" ٣/ ٥٢٠ ولم ينسبه، وكذا الماوردي ٥/ ٣٢.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٥.
(٧) لما أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره الماوردي في "تفسيره" ٥/ ٣٢ ولم ينسبه.
(٨) "تفسير مقاتل" ١٠٩ أ.
الكسائي والفراء (١): ذكر الشجر هاهنا، وفي قوله: ﴿لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢)﴾ [الواقعة: ٥٢] ذكرها بالتأنيث، ثم ذكر أيضًا في قوله: ﴿وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ [النحل: ١٠]، والشجر يؤنث ويذكر كالنخل و [(٢)] قد تقدم الكلام فيه (٣).
وقوله: ﴿نَارًا﴾ يعني: ما جعل من النار في المرخ والعفار، وهما شجرتان تتخذ الأعراب وقودها منهما. وقال ابن عباس: ليس من شجر إلا وفيها نار إلا الشجرة (٤) التي كلم الله موسى منها، وهي العناب (٥).
وقوله: ﴿فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ أي: تقدحون النار وتوقدونها من ذلك الشجر. قال مقاتل: والذي يخرج من الشجر نارًا وأنتم تبصرونه، والنار تأكل الحطب، فهو قادر على البعث (٦). ومعنى الآية أنه يدلهم على قدرته على البعث بخلقه النار في الشجر الأخضر، ثم إيقادهم النار من الشجر الأخضر. قال مقاتل: ثم ذكر ما هو أعظم خلقا من الإنسان (٧)، فقال: [..] (٨)
٨١ - ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى﴾
(١) لم أقف على قول الكسائي. وانظر قول الفراء في: "معاني القرآن له" ٢/ ٣٨٢.
(٢) قدر كلمة في جميع النسخة غير واضحة.
(٣) لم أقف على الموضع الذي أحال المؤلف رحمه الله إليه.
(٤) في (أ): (شجرة).
(٥) لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد ذكره الماوردي ٥/ ٣٤ عن الكلبي، والطبرسي في "مجمع البيان" ٨/ ٦٧٩ عن الكلبي أيضًا، والبغوي ٤/ ٢١ عن الحكماء.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٠٩ أ.
(٧) المصدر السابق.
(٨) في (أ): زيادة (قوله تعالى)، وهي زيادة لا يحتاجها السياق.
هذا استفهام معناه التقرير، يقول: أو لا يقدر من خلق السموات والأرض على أن يخلق مثلهم. قال مقاتل: أن يخلق في الآخرة مثل خلقهم في الدنيا (١). وعلى هذا المضاف مقدر، وهذا كقوله: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: ٥٧].
ثم أجاب هذا الاستفهام بقوله: ﴿بَلَى﴾ أي: هو قادر على ذلك. ﴿وَهُوَ الْخَلَّاقُ﴾ خلقهم في الدنيا ويخلقهم في الآخرة خلقًا جديدًا. ﴿الْعَلِيمُ﴾ قال ابن عباس: بجميع ما خلق (٢).
ثم ذكر قدرته على إيجاد الشيء فقال: [..] (٣)
٨٢ - ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾. وهذا كقوله في سورة النحل: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل ٤٠] (٤) الآية وقد تقدم الكلام فيها.
٨٣ - ثم نزه فيها نفسه عن قولهم أنه لا يقدر، فقال: ﴿فَسُبْحَانَ﴾. قال أبو إسحاق: أي تنزيه من السوء، ومن أن يوصف بغير القدرة (٥). ﴿الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾. قال مقاتل: يعني خلق كل شيء (٦). قال عطاء: ملك كل شيء (٧).
(١) المصدر السابق.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) في (أ): زيادة (قوله تعالى)، وهي زيادة لا يحتاجها السياق.
(٤) في جميع النسخ: (أمرنا)، وهو خطأ.
(٥) انضر: "البسيط" النسخة الأزهرية ٣/ ١٢٤ ب.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٦.
(٧) "تفسير مقاتل" ١٠٩ أ.
529
وقال الزجاج: أي القدرة على كل شيء (١). ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي: هو يبعثكم بعد موتكم.
وقال عطاء: يريد مصير عبادي إلى (٢). والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
[والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليمًا] (٣).
(١) لم أقف عليه.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٢٩٦.
(٣) ما بين المعقوفين غير مثبت في (ب).
530
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عمادة البحث العلمي
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
من أول سورة الصافات إلى آخر سورة ص
تحقيق
د. محمد بن عبد الله بن سابح الطيار
من أول سورة الزمر إلى آخر سورة الشورى
تحقيق
د. على بن عمر السجيباني
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز بن بسطام آل سعود أ. د. تركي بن سهول العتيبي
الجزء التاسع عشر
1
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عمادة البحث العلمي
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
من أول سورة الصافات إلى آخر سورة ص
تحقيق
د. محمد بن عبد الله بن سابح الطيار
من أول سورة الزمر إلى آخر سورة الشورى
تحقيق
د. على بن عمر السجيباني
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز بن بسطام آل سعود أ. د. تركي بن سهول العتيبي
الجزء التاسع عشر
2
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ١٤٣٠ هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
الواحدي، علي بن أحمد
التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد
الواحدي (ت ٤٦٨ هـ)./ محمد بن عبد الله بن سابح الطيار؛ علي بن
عمر السحيباني، الرياض ١٤٣٠ هـ.
٢٥مج. (سلسلة الرسائل الجامعية)
ردمكـ: ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٥ - ٨٧٦ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج ١٩)
١ - القرآن تفسير... ٢ - الواحدي، علي بن أحمد
أ- العنوان... ب- السلسلة
ديوي ٢٢٧. ٣... ٨٦٨/ ١٤٣٠
رقم الإيداع: ٨٦٨/ ١٤٣٠ هـ
ردمكـ: ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٥ - ٨٧٦ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج ١٩)
3
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
[١٩]
4

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

5
التَّفْسِيرُ البَّسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
من أول سورة الصافات إلى آخر سورة ص
تحقيق
د. محمد بن عبد الله بن سابح الطيار
من أول سورة الزمر إلى آخر سورة الشورى
6
Icon