تفسير سورة الصافات

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
سورة الصافات مكية
هي مكية، وعددها في المدني والشامي والكوفي مائة آية وآيتان وثمانون آية.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الصّافات
هذه السورة مكية وعدها في المدني والشامي والكوفي مائة آية واثنان وثمانون آية.
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧)
أقسم تعالى في هذه الآية بأشياء من مخلوقاته واختلف الناس في معناها، فقال ابن مسعود ومسروق وقتادة: هي الملائكة التي تصف في السماء في عبادة الله وذكره صفوفا وقالت فرقة: أراد كل من يصف من بني آدم في قتال في سبيل الله، أو في صلاة وطاعة، والتقدير والجماعات الصافات.
قال القاضي أبو محمد: واللفظ يحتمل أن يعم هذه المذكورات كلها، ومما أقسم به عز وجل «الزاجرات» واختلف الناس في معناها أيضا فقال مجاهد والسدي: هي الملائكة التي تزجر السحاب وغير ذلك من مخلوقات الله تعالى، وقال قتادة: «الزاجرات» هي آيات القرآن المتضمنة النواهي الشرعية، وقوله فَالتَّالِياتِ ذِكْراً معناه القارئات، وقال مجاهد والسدي: أراد الملائكة التي تتلو ذكره، وقال قتادة: أراد بني آدم الذين يتلون كتبه المنزلة وتسبيحه وتكبيره ونحو ذلك، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء في الذال، وهي قراءة ابن مسعود ومسروق والأعمش، وقرأ الباقون وجمهور الناس بالإظهار، وكذلك في كلها، قال أبو حاتم: والبيان اختيارنا وأما الحاملات وقرا والجاريات يسرا، فلا يجوز فيها الإدغام لبعد التاء من الحرفين، ثم بين تعالى المقسم عليه أنه توحيده وأنه واحد أي متحد في جميع الجهات التي ينظر فيها المفكر، ثم وصف تعالى نفسه بربوبيته جميع المخلوقات، وذكر الْمَشارِقِ لأنها مطالع الأنوار والعيون بها أكلف، وفي ذكرها غنية عن ذكر المغارب إذ معادلتها لها مفهومة عند كل ذي لب، وأراد تعالى مشارق الشمس وهي مائة وثمانون في السنة فيما يزعمون من أطول أيام السنة إلى أقصرها، ثم أخبر تعالى عن قدرته من تزيين السماء بالكواكب وانتظم في ذلك التزيين أن جعلها حِفْظاً وحرزا من الشياطين المردة وهم مسترقو السمع، وقرأ جمهور القراء «بزينة الكواكب» بإضافة الزينة إلى «الكواكب»، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم «بزينة الكواكب» بتنوين «زينة» وخفض «الكواكب» على البدل من الزينة وهي
قراءة ابن مسعود ومسروق بخلاف عنه وأبي زرعة بن عمر وابن جرير وابن وثاب وطلحة، وقرأ أبو بكر عن عاصم «بزينة» بالتنوين «الكواكب» بالنصب وهي قراءة ابن وثاب وأبي عمرو والأعمش ومسروق، وهذا في الإعراب نحو قوله عز وجل: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد: ١٤].
وحكى الزهراوي قراءة «بزينة» بالتنوين «الكواكب» بالرفع، و «المارد» المتجرد للشر ومنه شجرة مرداء لا ورق عليها، ومنه الأمرد وخص تعالى السماء الدنيا بالذكر لأنها التي تباشر بأبصارنا وأيضا فالحفظ من الشيطان إنما هو فيه وحدها، وَحِفْظاً نصب على المصدر وقيل مفعول من أجله والواو زائدة.
قوله تعالى:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨ الى ١٠]
لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)
الْمَلَإِ الْأَعْلى أهل السماء الدنيا فما فوقها، ويسمى الكل منهم أعلى بالإضافة إلى ملإ الأرض الذي هو أسفل، والضمير في يَسَّمَّعُونَ للشياطين، وقرأ جمهور القراء والناس «يسمعون» بسكون السين وتخفيف الميم، وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص وابن عباس بخلاف عنه وابن وثاب وعبد الله بن مسلم وطلحة والأعمش «لا يسّمّعون» بشد السين والميم بمعنى لا يتسمعون فينتفي على القراءة الأولى سمعهم وإن كانوا يستمعون وهو المعنى الصحيح، ويعضده قوله تعالى إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: ٢١٢] وينتفي على القراءة الآخرة أن يقع منهم استماع أو سماع، وظاهر الأحاديث أنهم يستمعون حتى الآن لكنهم لا يسمعون وإن سمع منهم أحد شيئا لم يفلت الشهاب قبل أن يلقي ذلك السمع إلى الذي تحته، لأن من وقت محمد ﷺ ملئت السماء حرسا شديدا وشهبا، وكان الرجم في الجاهلية أخف، وروي في هذا المعنى أحاديث صحاح مضمنها أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء فتقعد للسمع واحدا فوق آخر يتقدم الأجسر نحو السماء ثم الذي يليه فيقضي الله تعالى الأمر في الأمور في الأرض، فيتحدث به أهل السماء، فيسمعه منهم ذلك الشيطان الأدنى، فيلقيه إلى الذي تحته، فربما أحرقه شهاب وقد ألقى الكلام، وربما لم يحرقه جملة فينزل تلك الكلمة إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة، فتصدق تلك الكلمة، فيصدق الجاهلون الجميع، فلما جاء الله تعالى بالإسلام حرست السماء بشدة فلم يفلت شيطان سمع بتة، ويروى أنها لا تسمع شيئا الآن، والكواكب الراجمة هي التي يراها الناس تنقض منقضية، قال النقاش ومكي: وليست بالكواكب الجارية في السماء لأن تلك لا ترى حركتها وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وَيُقْذَفُونَ معناه ويرجمون، و «الدحور» الإصغار والإهانة لأن الدحر الدفع بعنف، وقال مجاهد مطرودين، وقرأ الجمهور «دحورا»، بضم الدال، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، «دحورا» بفتح الدال، و «الواصب» الدائم، قاله مجاهد وقتادة وعكرمة، وقال السدي وأبو صالح:
«الواصب» الموجع، ومنه الوصب، والمعنى هذه الحال الغالبة على جميع الشياطين، إلا من شذ فخطف خبرا ونبأ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ فأحرقه، وقرأ جمهور القراء «خطف» بفتح الخاء وكسر الطاء وتخفيفها، وقرأ الحسن وقتادة «خطّف» بكسر الخاء والطاء وتشديد الطاء، قال أبو حاتم: يقال إنها لغة بكر بن وائل وتميم بن مر، وروي عن ابن عباس «خطف» بكسر الخاء والطاء مخففة، و «الثاقب» النافذ بضوئه وشعاعه المنير، قاله قتادة والسدي وابن زيد، وحسب ثاقب إذا كان سنيا منيرا.
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١ الى ١٨]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨)
الاستفتاء نوع من أنواع السؤال وكأنه سؤال من يهتبل بقوله ويجعل حجة، وكذلك هي أقوالهم في هذا الفصل لأنهم لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن خلق من سواهم من الملائكة والجن والسماوات والأرض والمشارق وغير ذلك هو أشد من هؤلاء المخاطبين، وبأن الضمير في خَلَقْنا يراد به ما تقدم ذكره، قال مجاهد وقتادة وغيرهما وفي مصحف ابن مسعود «أم من عددنا» يريد من الصَّافَّاتِ وغيرها والسَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما [الصافات: ٥]، وكذلك قرأ الأعمش «أمن» مخففة الميم دون أَمْ، ثم أخبر تعالى إخبارا جزما عن خلقه لآدم الذي هو أبو البشر وأضاف الخلق من الطين إلى جميع الناس من حيث الأب مخلوق منه، وقال الطبري: خلق آدم من تراب وماء ونار وهواء وهذا كله إذا خلط صار طينا لازبا، واللازب أي يلزم ما جاوره ويلصق به، وهو الصلصال كالفخار، وعبر ابن عباس وعكرمة عن «اللازب» بالجر الكريم الجيد وحقيقة المعنى ما ذكرناه، يقال ضربة لازم وضربة لازب بمعنى واحد، وقرأ جمهور القراء «بل عجبت» بفتح التاء، أي عجبت يا محمد عن إعراضهم عن الحق وعماهم عن الهدى وأن يكونوا كافرين مع ما جئتهم به من عند الله، وقرأ حمزة والكسائي «بل عجبت» بضم التاء، ورويت عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن وثاب والنخعي وطلحة وشقيق والأعمش وذلك على أن يكون تعالى هو المتعجب، ومعنى ذلك من الله أنه صفة فعل، ونحوه قول النبي ﷺ «يعجب الله تعالى إلى قوم يساقون إلى الجنة في السلاسل»، وقوله عليه السلام «يعجب الله من الشاب ليست له صبوة»، فإنما هي عبارة عما يظهره تعالى في جانب المتعجب منه من التعظيم والتحقير حتى يصير الناس متعجبين منه، فمعنى هذه الآية بل عجبت من ضلالتهم وسوء نحلتهم، وجعلتها للناظرين، وفيما اقترن معها من شرعي وهداي متعجبا، وروي عن شريح أنه أنكر هذه القراءة وقال إن الله تعالى لا يعجب، وقال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال إن شريحا كان معجبا بعلمه وإن عبد الله أعلم منه، وقال مكي وعلي بن سليمان في كتاب الزهراوي: هو إخبار عن النبي ﷺ عن نفسه كأن المعنى قل بل عجبت، وقوله يَسْخَرُونَ أي وهم يسخرون من نبوءتك والحق الذي
عندك، وقوله تعالى وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ، يريد بالآية العلامة والدلالة، وروي أنها نزلت في ركانة وهو رجل من المشركين من أهل مكة لقيه رسول الله ﷺ في جبل خال وهو يرعى غنما له وهو أقوى أهل زمانه، فقال له رسول الله ﷺ «يا ركانة أرأيت إن صرعتك أتؤمن بي؟» قال: نعم، فصرعه رسول الله ﷺ ثلاثا ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها ونحو ذلك مما اختلف فيه العلماء وألفاظ الحديث، فلما فرغ من ذلك كله لم يؤمن وجاء إلى مكة فقال: يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فنزلت هذه الآية فيه وفي نظرائه، وقوله يَسْتَسْخِرُونَ معناه يطلبون أن يكونوا ممن يسخر، ويجوز أن يكون بمعنى يسخرون كقوله تعالى: وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن: ٦] فيكون فعل واستفعل بمعنى، وب «يسخرون» فسره مجاهد وقتادة، وفي بعض القراءات القديمة «يستسحرون» بالحاء غير منقوطة، وهذه عبارة عما قال ركانة لأنه استسحر النبي ﷺ وقرأ «متنا» بضم الميم أبو جعفر وابن أبي إسحاق وعاصم وأبو عمرو والعامة، وقرأ بكسر الميم الحسن والأعرج وشيبة ونافع، وقرأ أبو جعفر ونافع وشيبة أيضا «أو آباؤنا» بسكون الواو وهي «أو» التي هي للقسمة والتخيير، وقرأ الجمهور «أو آباؤنا» بفتح الواو وهي واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام، ثم أمره تعالى أن يجيب تقريرهم ب نَعَمْ وأن يزيدهم في الجواب أنهم مع البعث في صغار وذلة واستكانة، وقرأ ابن وثاب «نعم» بكسر العين، و «الداخر» الصاغر الذليل وقد تقدم غير مرة ذكر القراءات في قوله أَإِذا على الخبر والاستفهام وما يلحقها من مد وتركه وإظهار همز
وتسهيله.
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٩ الى ٢٦]
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣)
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)
هذا استئناف إخبار جره ما قبله، فأخبر تعالى أن بعثهم من قبورهم إنما هو زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، وهي نفخة البعث في الصور، وقوله يَنْظُرُونَ، يحتمل أن يريد بالأبصار أي ينظرون ما هم فيه وصدق ما كانوا يكذبون به، ويحتمل أن يكون بمعنى ينتظرون، أي ما يفعل بهم ويؤمرون به، ثم أخبر عنهم أنهم في تلك الحال يقولون يا وَيْلَنا ينادون الويل بمعنى هذا وقت حضورك وأوان حلولك، وروى أبو حاتم الوقف هاهنا وجعل قوله هذا يَوْمُ الدِّينِ من قول الله تعالى لهم أو الملائكة، ورأى غيره أن قوله تعالى: هذا يَوْمُ الدِّينِ هو من قول الكفرة الذين قالوا يا وَيْلَنا، والدِّينِ الجزاء والمقارضة كما يقولون كما تدين تدان، وأجمعوا أن قوله هذا يَوْمُ الْفَصْلِ إلى آخر الآية ليس من قول الكفرة وإنما المعنى يقال لهم، وقوله تعالى: وَأَزْواجَهُمْ معناه وأنواعهم وضرباؤهم، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس وقتادة ومنه قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة: ٧]، وقوله تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير: ٧] أي نوعت، وروي أنه يضم عند هذا الأمر كل شكل وصاحبه
من الكفرة إلى شكله وصاحبه ومعهم ما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من آدمي رضي بذلك ومن صنم ووثن توبيخا لهم وإظهارا لسوء حالهم، وقال الحسن: المعنى وأزواجهم المشركات من النساء وروي ذلك عن ابن عباس ورجحه الرماني، وقوله تعالى فَاهْدُوهُمْ. معناه قوموهم واجعلوهم على طريق الجحيم، والْجَحِيمِ طبقة من طبقات جهنم يقال إنها الرابعة، ثم يأمر تعالى بوقفهم، و «وقف» يتعدى بنفسه تقول وقفت ووقفت زيدا، وأمره بذلك على جهة التوبيخ لهم والسؤال واختلف الناس في الشيء الذي يسألون عنه فروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: يسألون هل يحبون شرب الماء البارد، وهذا على طريق الهزء بهم، وقال ابن عباس: يسألون عن لا إله إلا الله، وقال جمهور المفسرين: يسألون عن أعمالهم ويوقفون على قبحها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول متجه عام في الهزء وغيره وروى أنس بن مالك عن النبي عليه السلام أنه قال «أيما رجل دعا رجلا إلى شيء كان لازما له»، وقرأ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ، وروى ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال «لا تزول قدما عبد من بين يدي الله تعالى حتى يسأله عن خمس، عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله فيما أنفقه، وكيف كسبه، وعما عمل فيما علم»، ويحتمل عندي أن يكون المعنى على نحو ما فسره بقوله ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي أنكم مسؤولون عن امتناعهم عن التناصر، وهذا على جهة التوبيخ في هذا الفصل خاصة أعني الامتناع من التناصر، وقرأ «تناصرون» بتاء واحدة خفيفة، شيبة ونافع، وقرأ خلق «لا تتناصرون»، وكذلك في حرف عبد الله، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «لا تناصرون» بإدغام التاء من قراءة عبد الله بن مسعود وقال الثعلبي قوله: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ جواب أبي جهل حين قال في بدر نحن جميع منتصر، ثم أخبر تعالى عن أنهم في ذلك اليوم في حالة الاستسلام والإلقاء باليد.
قوله تعالى:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٢٧ الى ٣٤]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤)
هذه الجماعة التي يقبل بعضها على بعض هي إنس وجن، قاله قتادة، وتساؤلهم هو على معنى التقريع واللوم والتسخط، والقائلون إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ إما أن يكون الإنس يقولونها للشياطين وهذا قول مجاهد وابن زيد، وإما أن يكون ضعفة الإنس يقولونها للكبراء والقادة، واضطرب المتأولون في معنى قولهم عَنِ الْيَمِينِ وعبر ابن زيد وغيره عنه بطريق الجنة والخير ونحو هذا من العبارات التي هي تفسير بالمعنى لا تختص باللفظة وبعضهم أيضا نحا في تفسير الآية إلى ما يخصها، والذي يتحصل من ذلك معان، منها أن يريد ب الْيَمِينِ القوة والشدة فكأنهم قالوا إنكم كنتم تغووننا بقوة منكم وتحملوننا على طريق الضلالة بمتابعة منكم في شدة فعبر عن هذا المعنى ب الْيَمِينِ كما قالت العرب «بيدين ما
أورد»، وكما قالوا «اليد» في غير موضع عن القوة، وقد ذهب بعض الناس ببيت الشماخ هذا المذهب وهو قوله: [الوافر]
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
فقالوا معناه بقوة وعزمة، وإلا فكل أحد كان يتلقاها بيمينه، لو كانت الجارحة، وأيضا فإنما استعار الراية للمجد فكذلك لم يرد باليمين الجارحة، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا من الجهة التي يحسنها تمويهكم وإغواؤكم ويظهر فيها أنها جهة الرشد والصواب، فتصير عندنا كاليمين التي بيمين السانح الذي يجيء من قبلها.
قال القاضي أبو محمد: فكأنهم شبهوا أقوال هؤلاء المغوين بالسوانح التي هي عندهم محمودة، كأن التمويه في هذه الغوايات قد أظهر فيها ما يوشك أن يحمد به، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا إنكم كنتم تأتوننا أي تقطعون بنا عن أخبار الخير واليمن معبر عنها ب الْيَمِينِ، إذ اليمين هي الجهة التي يتيمن بكل ما كان منها وفيها، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا أنكم كنتم تجيئون من جهة الشهوات وعدم النظر، والجهة الثقيلة من الإنسان وهي جهة اليمين منه لأن كبده فيها، وجهة شماله فيها قلبه وهي أخف، وهذا معنى قول الشاعر: «تركنا لهم شق الشمال»، أي زلنا لهم عن طريق الهروب، لأن المنهزم إنما يرجع على شقه الأيسر إذ هو أخف شقيه، وإذ قلب الإنسان في شماله وثم نظره فكأنه هؤلاء كانوا يأتون من جهة الشهوات والثقل.
قال القاضي أبو محمد: وأكثر ما يتمكن هذا التأويل مع إغواء الشياطين وهو قلق مع إغواء بني آدم، وقيل المعنى تحلفون لنا وتأتوننا إتيان من إذا حلف صدقناه.
قال القاضي أبو محمد: فاليمين على هذا القسم، وقد ذهب بعض الناس في ذكر إبليس جهات بني آدم في قوله مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الأعراف: ١٧] إلى ما ذكرناه من جهة الشهوات فقال ما بين يديه هي مغالطته فيما يراه، وما خلفه هو ما يسارق فيه الخفاء، وعن يمينه هو جانب شهواته، وعن شماله هو موضع نظره بقلبه وتحرزه فقد يغلبه الشيطان فيه، وهذا فيمن جعل هذا في جهات ابن آدم الخاصة بيديه، ومن الناس من جعلها في جهات أموره وشؤونه فيتسع التأويل على هذا، ثم أخبر تعالى عن قول الجن المجيبين لهؤلاء بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي ليس الأمر كما ذكرتم بل كان لكم اكتساب الكفر به والبصيرة فيه وإنما نحن حملنا عليه أنفسنا وما كان لنا عليكم حجة ولا قوة إلا طغيانكم وإرادتكم الكفر فقد حق القول على جميعنا وتعين العذاب لنا وإنا جميعا لَذائِقُونَ، والذوق هنا مستعار وبنحو هذا فسر قتادة وغيره أنه قول الجن إلى غاوِينَ، ثم أخبر تعالى عن أنهم اشتركوا جميعا في العذاب وحصل كلهم فيه وأن هذا فعله بأهل الجرم واحتقاب الإثم والكفر.
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٣٥ الى ٤٠]
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)
هؤلاء أهل الجرم الذين جهلوا الله تعالى، وعظموا أصناما وأوثانا ف إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وهي كلمة الحق والعروة الوثقى أصابهم كبر وعظم عليهم أن يتركوا أصنامهم وأصنام آبائهم، ونحو هذا كان فعل أبي طالب حين قال له رسول الله ﷺ «أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله»، فقال أبو جهل: أترغب عن ملة عبد المطلب، فقال آخر ما قال: أنا على ملة عبد المطلب، ويعرض قول لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ جرت السنة في تلقين الموتى المحتضرين ليخالفوا الكفرة ويخضعوا لها، وأما الطائفة التي قالت أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ فهي من قريش، وإشارتهم بالشاعر المجنون هي إلى محمد ﷺ فرد الله تعالى عليهم أي ليس الأمر كما قالوا من أنه شاعر بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ من عند الله وصدق الرسل المتقدمة له كموسى وعيسى وإبراهيم وغيرهم عليهم الصلاة والسلام، ثم أخبر تعالى مخاطبا لهم ويجوز أن يكون التأويل قل لهم يا محمد إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ وقرأ قوم «لذائقو العذاب» نصبا ووجهها أنه أراد لذائقون فحذف النون تخفيفا وهي قراءة قد لحنت، وقرأ أبو السمال «لذائق» بالتنوين «العذاب» نصبا، والْأَلِيمِ المؤلم، ثم أعلمهم أن ذلك جزاء لهم بأعمالهم واكتسابهم، ثم استثنى عباد الله استثناء منقطعا وهم المؤمنون الذين أخلصهم الله تعالى لنفسه، وقرأ الجمهور «المخلصين» بفتح اللام، وقرأ الحسن وقتادة وأبو رجاء وأبو عمرو بكسر اللام، وقد رويت هذه التي في الصافات عن الحسن بفتح اللام.
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٤١ الى ٤٩]
أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥)
بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)
أُولئِكَ إشارة إلى العباد المخلصين، وقوله تعالى: مَعْلُومٌ، معناه عندهم فقد قرت عيونهم بعلم ما يستدر عليهم من الرزق وبأن شهواتهم تأتيهم لحينها، وإلا فلو كان ذلك معلوما عند الله تعالى فقط لما تخصص أهل المدينة بشيء وقوله وَهُمْ مُكْرَمُونَ تتميم بليغ للنعيم لأنه رب مرزوق غير مكرم، وذلك أعظم التنكيد، و «السرر» جمع سرير، وقرأ أبو السمال «على سرر» بفتح الراء الأولى، وفي هذا التقابل حديث مروي عن النبي ﷺ أنه قال في أحيان «وترفع عنهم ستور فينظر بعضهم إلى بعض» ولا محالة أن بعض أحيانهم فيها متخيرون في قصورهم، ويُطافُ معناه يطوف الوالدان حسبما فسرته آية أخرى، و «الكأس» قال الزجاج والطبري وغيرهما: هو الإناء الذي فيه خمر أو ما يجري مجراه من الأنبذة ونحوها، ولا تسمى كأسا إلا وفيها هذا المشروب المذكور، وقال الضحاك: كل كأس في القرآن
471
فهو خمر، وذهب بعض الناس إلى أن الكأس آنية مخصوصة في الأواني وهو كل ما اتسع فمه ولم يكن له مقبض، ولا يراعى في ذلك كونه بخمر أم لا، وقوله تعالى: مِنْ مَعِينٍ يريد من جار مطرد، فالميم في مَعِينٍ أصلية لأنه من الماء المعين، ويحتمل أن يكون من العين فتكون الميم زائدة أي مما يعين بالعين مستور ولا في خزن، وخمر الدنيا إنما هي معصورة مختزنة، وخمر الآخرة جارية أنهارا، وقوله بَيْضاءَ يحتمل أن يعود على الكأس ويحتمل أن يعود على الخمر وهو الأظهر، وقال الحسن بن أبي الحسن: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «صفراء» فهذا موصوف به الخمر وحدها، وقوله تعالى لَذَّةٍ أي ذات لذة فوصفها بالمصدر اتساعا، وقد استعمل هذا حتى قيل لذ بمعنى لذيذ، ومنه قول الشاعر: [الكامل]
بحديثك اللذ الذي لو كلّمت... أسد الفلاة به أتين سراعا
وقوله ولا فِيها غَوْلٌ، لم تعمل لا لأن الظرف حال بينها وبين ما شأن التبرية أن تعمل فيه، و «الغول» اسم عام في الأذى، يقال غاله كذا إذا أضره في خفاء، ومنه الغيلة في القتل وقال النبي ﷺ في الرضاع «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة» ومن اللفظة قول الشاعر: [الطويل]
مضى أولونا ناعمين بعيشهم... جميعا وغالتني بمكة غول
أي عاقتني عوائق، فهذا معنى من معاني الغول، ومنه قول العرب، في مثل من الأمثال، «ماله غيل» ما أغاله يضرب للرجل الحديد الذي لا يقوم لأمر إلا أغنى فيه، أو الرجل يدعى له بأن يؤذي ما آذاه، وقال ابن عباس ومجاهد وابن زيد في الآية «الغول» وجع في البطن، وقال ابن عباس أيضا وقتادة: هو صداع في الرأس.
قال القاضي أبو محمد: والاسم أعم من هذا كله فنفى عن خمر الجنة جميع أنواع الأذى إذ هي موجودة في خمر الدنيا، نحا إلى هذا العموم سعيد بن جبير، ومنه قول الشاعر: [المتقارب]
وما زالت الخمر تغتالنا... وتذهب بالأول الأول
أي تؤذينا بذهاب العقل، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «ينزفون» بفتح الزاي وكذلك في سورة الواقعة من قوله «نزف الرجل إذا سكر ونزفته الخمر»، والنزيف السكران ومنه قول الشاعر [جميل بن معمر] :[الكامل]
فلثمت فاها آخذا بقرونها... شرب النزيف لبرد ماء الحشرج
وبذهاب العقل فسر ابن عباس وقتادة يُنْزَفُونَ، وقرأ حمزة والكسائي «ينزفون» بكسر الزاي وكذلك في الواقعة من أنزف ينزف ويقال أنزف بمعنيين أحدهما سكر ومنه قول الأبيرد الرياحي. [الطويل]
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم... لبيس الندامى أنتم آل أبجرا
والثاني نزف شرابه يقال أنزف الرجل إذا تمّ شرابه فهذا كله منفي عن أهل الجنة، وقرأ عاصم هنا بفتح الزاي وفي الواقعة بكسر الزاي، وقرأ ابن أبي إسحاق «ينزفون» بفتح الياء وكسر الزاي، وقاصِراتُ
472
الطَّرْفِ
قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة معناه على أزواجهن أي لا ينظرن إلى غيرهم ولا يمتد طرف إحداهن إلى أجنبي، فهذا هو قصر الطرف، وعِينٌ جمع عيناء وهي الكبيرة العينين في جمال، وأما قوله كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ فاختلف الناس في الشيء المشبه به ما هو، فقال السدي وابن جبير: شبه ألوانهن بلون قشر البيضة من النعام وزهو بياض قد خالطته صفرة حسنة، قالوا: و «البيض» نفسه في الأغلب هو المكنون بالريش ومتى شدت به حال فلم يكن مكنونا خرج عن أن يشبه به، وهذا قول الحسن وابن زيد، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
كبكر مقاناة البياض بصفرة غذاها نمير المال غير محلل
وهذه المعنى كثير في أشعار العرب، وقال ابن عباس فيما حكى الطبري، «البيض المكنون» أراد به الجوهر المصون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يصح عندي عن ابن عباس لأنه يرده اللفظ من الآية، وقالت فرقة إنما شبههن تعالى ب «البيض المكنون» تشبيها عاما جملة المرأة بجملة البيضة وأراد بذلك تناسب أجزاء المرأة وأن كل جزء منها نسبته في الجودة إلى نوعه نسبة الآخر من أجزائه إلى نوعه فنسبة شعرها إلى عينها مستوية إذ هما غاية في نوعهما، والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء، لأنك من حيث جئتها فالنظر فيها واحد.
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣)
هذا التساؤل الذي بين أهل الجنة هو تساؤل راحة وتنعم يتذكرون أمورهم في الجنة وأمر الدنيا وحال الطاعة والإيمان فيها، ثم أخبر الله تعالى عن قول قائِلٌ مِنْهُمْ في قصته فهو مثال لكل من له قَرِينٌ سوء يعطي هذا المثال التحفظ من قرناء السوء، واستشعار معصيتهم وعبر عن قول هذا الرجل بالمضي من حيث كان أمرا متيقنا حاصلا لا محالة، وقال ابن عباس وغيره كان هذان من البشر مؤمن وكافر، وقالت فرقة: هما اللذان ذكر الله تعالى في قوله يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا [الفرقان: ٢٨] وقال مجاهد كان إنسيا وجنيا من الشياطين الكفرة.
قال القاضي أبو محمد: والأول أصوب، وقرأ جمهور الناس «من المصدقين» بتخفيف الصاد من التصديق، وقرأت فرقة «من المصّدقين» بشد الصاد من التصدق، وقال فرات بن ثعلبة البهراني في قصص هذين إنهما كانا شريكين بثمانية آلاف دينار فكان أحدهما يعبد الله ويقصد من التجارة والنظر وكان الآخر كافرا مقبلا على ماله فحل الشركة مع المؤمن وبقي وحده لتقصير المؤمن ثم إنه جعل كلما اشترى شيئا من دار وجارية وبستان ونحوه عرضه على ذلك المؤمن وفخر عليه به فيمضي المؤمن عند ذلك ويتصدق بنحو ذلك الثمن ليشتري به من الله في الجنة فكان من أمرهما في الآخرة ما تضمنته هذه الآية، قال الطبري: وهذا
الحديث يؤيد قراءة من قرأ «من المصّدّقين» بتشديد الصاد، و «مدينون» معناه مجازون محاسبون قاله ابن عباس وقتادة والسدي، والدين الجزاء وقد تقدم.
قوله تعالى:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٥٤ الى ٦١]
قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨)
إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١)
في الكلام حذف تقديره فقال لهذا الرجل حاضرون من الملائكة إن قرينك هذا في جهنم يعذب فقال عند ذلك هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ، ويحتمل أن يخاطب ب أَنْتُمْ الملائكة، ويحتمل أن يخاطب رفقاءه في الجنة، ويحتمل أن يخاطب خدمته وكل هذا، حكى المهدوي وقرأ جمهور القراء «مطّلعون» بفتح الطاء وشدها، وقرأ أبو عمرو في رواية حسين «مطلعون» بسكون الطاء وفتح النون، وقرأ أبو البرهسم بسكون الطاء وكسر النون علي أنها ضمير المتكلم ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره ولحنوها، وذلك أنها جمعت بين ياء الإضافة ونون المتكلم، والوجه أن يقال «مطلعي»، ووجه القراءة أبو الفتح بن جني وقال:
أنزل الفاعل منزل الفعل المضارع، وأنشد الطبري: [الوافر]
وما أدري وظن كل ظن... أمسلمني إلى قومي شراحي
وقال الفراء: يريد شراحيل، وقرأ الجمهور «فاطّلع» بصلة الألف وشد الطاء المفتوحة، وقرأ أبو عمرو في رواية حسين «فاطلع» بضم الألف وسكون الطاء وكسر اللام، وهي قراءة أبي البرهسم، قال الزجاج هي قراءة من قرأ «مطلعون» بكسر اللام، وروي أن لأهل الجنة كوى وطاقات يشرفون منها على أهل النار إذا شاؤوا على جهة النقمة والعبرة لأنهم لهم في عذاب أهل النار وتوبيخهم سرور وراحة، حكاه الرماني عن أبي علي، وسَواءِ الْجَحِيمِ وسطه قال ابن عباس والحسن: والناس، وسمي سَواءِ لاستواء المسافة منه إلى الجوانب، والْجَحِيمِ متراكم جمر النار، وروي عن مطرف بن عبد الله وخليد العصري أنه رآه قد تغير خبره وسيره أي تبدلت حاله ولولا ما عرفه الله إياه لم يميزه، فقال له المؤمن عند ذلك تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أي لتهلكني بإغوائك، والردى الهلاك ومنه قول الأعشى: [المتقارب].
أفي الطوف خفت علي الردى... وكم من رد أهله لم يرم
وفي مصحف عبد الله بن مسعود «إن كدت لتغوين» بالواو من الغي، وذكرها أبو عمرو الداني بالراء من الإغراء والتاء في هذا كله مضمومة، ورفع نِعْمَةُ رَبِّي بالابتداء وهو إعراب ما كان بعد لَوْلا عند سيبويه والخبر محذوف تقديره تداركته ونحوه، والْمُحْضَرِينَ معناه في العذاب، وقول المؤمن أَفَما نَحْنُ إلى قوله بِمُعَذَّبِينَ يحتمل أن يكون مخاطبة لرفقائه في الجنة لما رأى ما نزل بقرينه، ونظر إلى حاله في الجنة وحال رفقائه قدر النعمة قدرها فقال لهم على جهة التوقيف على النعمة أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ
ولا معذبين، ويجيء على هذا التأويل قوله إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إلى قوله الْعامِلُونَ، متصلا بكلامه خطابا لرفقائه، ويحتمل قوله أَفَما نَحْنُ إلى قوله بِمُعَذَّبِينَ أن تكون مخاطبة لقرينه على جهة التوبيخ، كأنه يقول أين الذي كنت تقول من أنا نموت وليس بعد الموت عقاب ولا عذاب، ويكون قوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ إلى الْعامِلُونَ يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه، وإليه ذهب قتادة، ويحتمل أن يكون من خطاب الله تعالى لمحمد ﷺ وأمته ويقوى هذا لأن قول المؤمن لمثل هذا فليعمل، والآخرة ليست بدار عمل يقلق إلا على تجوز كأنه يقول لمثل هذا كان ينبغي أن يعمل الْعامِلُونَ.
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦٢ الى ٧٠]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠)
الألف من قوله أَذلِكَ للتقرير، والمراد تقرير قريش والكفار، وجاء بلفظة التفضيل بين شيئين لا اشتراك بينهما من حيث كان الكلام تقريرا، والاحتجاج يقتضي أن يوقف المتكلم خصمه على قسمين:
أحدهما فاسد ويحمله بالتقرير على اختبار أحدهما ولو كان الكلام خبرا لم يجز ولا أفاد أن يقال الجنة خير من شَجَرَةُ الزَّقُّومِ وأما قوله تعالى خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان: ٢٤] فهذا على اعتقادهم في أن لهم مستقرا جيدا وقد تقدم إيعاب هذا المعنى.
قال القاضي أبو محمد: وفي بعض البلاد الجدبة المجاورة للصحارى شجرة مرة مسمومة لها لبن إن مس جسم أحد تورم، ومات منه في أغلب الأمر تسمى شجرة الزقوم، والتزقم في كلام العرب البلع على شدة وجهد، وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ قال قتادة والسدي ومجاهد: يريد أبا جهل ونظراءه وذلك أنه لما نزلت أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، قال الكفار، وكيف يخبر محمد عن النار أنها تنبت الأشجار وهي تأكلها وتذهبها ففتنوا بذلك أنفسهم وجهلة من أتباعهم، وقال أبو جهل: إنما الزقوم التمر بالزبد ونحن نتزقمه، وقوله فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ معناه ملاصق نهاياتها التي لها كالجدرات، وفي قراءة ابن مسعود «إنها شجرة ثابتة في أصل الجحيم»، وقوله تعالى: كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ اختلف الناس في معناه، فقالت فرقة: شبه بثمر شجرة معروفة يقال لها رُؤُسُ الشَّياطِينِ وهي بناحية اليمن يقال لها الأستق، وهو الذي ذكر النابغة في قوله: «تحيد من أستق سودا أسافله». ويقال إنه الشجر الذي يقال له الصوم وهو الذي يعني ساعدة بن جوبة في قوله:
وقالت فرقة: شبه ب رُؤُسُ صنف من الحيات يقال لها الشياطين وهي ذوات أعراف ومنه قول الشاعر: [الرجز]
عجيز تحلف حين أحلف... كمثل شيطان الحماط اعرف
وقالت فرقة: شبه بما استقر في النفوس من كراهة رُؤُسُ الشَّياطِينِ وقبحها، وإن كانت لم تر، وهذا كما تقول لكل شعث المنتفش الشعر الكريه المنظر هذا شيطان ونحو هذا قول امرئ القيس:
[الطويل]
أيقتلني والمشرفي مضاجعي... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فإنما شبه بما استقر في النفوس من هيبتها، و «الشوب» المزاج والخلط، قاله ابن عباس وقتادة، وقرأ شيبان النحوي «لشوبا»، بضم الشين، قال الزجاج: فتح الشين المصدر، وضمه الاسم، و «الحميم» السخن جدا من الماء ونحوه، فيريد به هاهنا شرابهم الذي هو طينة الخبال صديدهم وما ينماع منهم، هذا قول جماعة من المفسرين، وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ يحتمل أن يكون لهم انتقال أجساد في وقت الأكل والشرب، ثم يرجعون إلى معظم الجحيم وكثرته، ذكره الرماني وشبه بقوله تعالى: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: ٤٤]، ويحتمل أن يكون الرجوع إنما هو من حال ذلك الأكل المعذب إلى حال الاحتراق دون أكل، وبكل احتمال قيل، وفي مصحف ابن مسعود «وأن منقلهم لإلى الجحيم»، وفي كتاب أبي حاتم عنه «مقيلهم»، من القائلة وقوله تعالى: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ إلى آخر الآية تمثيل لقريش ويُهْرَعُونَ قال قتادة والسدي وابن زيد: معناه يسرعون كأنهم يساقون بعجلة وهذا تكسبهم للكفر وحرصهم عليه، والإهراع سير شديد قال مجاهد: كهيئة الهرولة.
قال القاضي أبو محمد: فيه شبه رعدة وكأنه أيضا شبه سير الفازع.
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧١ الى ٧٩]
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥)
وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)
مثل تعالى لقريش في هذه الآية بالأمم التي ضلت قديما وجاءها الإنذار وأهلكها الله بعذابه، وقوله تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ، يقتضي الإخبار بأنه عذبهم، ولذلك حسن الاستثناء في قوله إِلَّا عِبادَ اللَّهِ، ونداء نوح عليه السلام قد تضمن أشياء منها الدعاء على قومه، ومنها سؤال النجاة ومنها طلب النصرة، وفي جميع ذلك وقعت الإجابة، وقوله تعالى: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ يقتضي الخبر بأن الإجابة كانت على أكمل ما أراد نوح عليه السلام، والْكَرْبِ الْعَظِيمِ قال السدي: هو الغرق.
قال القاضي أبو محمد: ومن الْكَرْبِ تكذيب الكفرة وركوب الماء وهوله قال الرماني:
الْكَرْبِ: الحر الثقيل على القلب، وقوله تعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ قال ابن عباس وقتادة:
أهل الأرض كلهم من ذرية نوح، قال الطبري: والعرب من أولاد سام، والسودان من أولاد حام، والترك والصقلب وغيرهم من أولاد يافث، وروي عن سمرة بن جندب أن النبي ﷺ قرأ وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ فقال: «سام وحام ويافث»، وقالت فرقة: إن الله تعالى أبقى ذرية نوح ومد نسله وبارك في ضئضئه وليس الأمر بأن أهل الأرض انحصروا إلى نسله بل في الأمم من لا يرجع إليه، والأول أشهر عند علماء الأمة وقالوا نُوحٌ هو آدم الأصغر، وقوله وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ معناه ثناء حسنا جميلا آخر الدهر، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي، وقوله سَلامٌ على هذا التأويل رفع بالابتداء مستأنف سلم الله به عليه ليقتدي بذلك البشر، قال الطبري: هذه أمانة منه لنوح في العالمين أن يذكره أحد بسوء.
قال القاضي أبو محمد: هذا جزاء ما صبر طويلا على أقوال الكفرة الفجرة، وقال الفراء وغيره من الكوفيين: قوله سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ جملة في موضع نصب ب تَرَكْنا وهذا هو المتروك عليه، فكأنه قال وتركنا على نوح تسليما يسلم به عليه إلى يوم القيامة، وفي قراءة عبد الله «سلاما على نوح» على النصب ب تَرَكْنا صلى الله على نوح وعلى أهله وسلم تسليما وشرف وكرم وعلى جميع أنبيائه وفِي الْآخِرِينَ معناه في الباقين غابر الدهر، والقراءة بكسر الخاء وما كان من إهلاك فهو بفتحها.
قوله تعالى:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٨٠ الى ٩٠]
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤)
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠)
قوله تعالى: كَذلِكَ إشارة إلى إنعامه على نوح بالإجابة كما اقترح، وأثنى تعالى على نوح بالإحسان، لصبره على أذى قومه ومطاولته لهم وغير ذلك من عبادته وأفعاله صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ يقتضي أنه أغرق قوم نوح وأمته ومكذبيه، وليس في ذلك نص على أن الغرق عم جميع أهل الأرض، ولكن قد قالت جماعة من العلماء وأسندت أحاديث بأن الغرق عم جميع الناس إلا من كان معه في السفينة، وعلى هذا ترتب القول بأن الناس اليوم من ذريته، وقالوا لم يكن الناس حينئذ بهذه الكثرة لأن عهد آدم كان قريبا، وكانت دعوة نوح ونبوءته قد بلغت جميعهم لطول المدة واللبث فيهم فكان الجميع كفرة عبدة أوثان لم يثنهم الحق إلى نفسه فلذلك أغرق جميعهم، وقوله تعالى: مِنْ شِيعَتِهِ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: الضمير عائد على نوح، والمعنى في الدين والتوحيد، وقال الطبري وغيره عن الفراء: الضمير عائد على محمد ﷺ والإشارة إليه.
قال القاضي أبو محمد: وذلك كله محتمل لأن «الشيعة» معناها الصنف الشائع الذي يشبه بعضه بعضا والشيع الفرق وإن كان الأعرف أن المتأخر في الزمن هو شيعة للمتقدم ولكن قد يجيء من الكلام عكس ذلك قال الشاعر [الكميت] :
موكل بشدوق الصوم يرقبها من المغارب مخطوف الحشا زرم
وما لي إلا آل أحمد شيعة وما لي إلا مشعب الحق مشعب
فجعلهم شيعة لنفسه، وقوله تعالى: بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال المفسرون: يريد من الشرك والشك وجميع النقائص التي تلحق قلوب بني آدم كالغل والحسد والكبر ونحوه قال عروة بن الزبير: لم يلعن شيئا قط، وقوله أَإِفْكاً استفهام بمعنى التقرير أي أكذبا ومحالا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، ونصب آلِهَةً على البدل من قوله أَإِفْكاً وسهلت الهمزة الأصلية من الإفك وقوله تعالى: فَما ظَنُّكُمْ توبيخ وتحذير وتوعد، ثم أخبر تعالى عن نظرة إبراهيم عليه السلام في النجوم، وروي أن قومه كان لهم عيد يخرجون إليه فدعوا إبراهيم عليه السلام إلى الخروج معهم فنظر حينئذ واعتذر بالسقم وأراد البقاء خلافهم إلى الأصنام، وقال ابن زيد عن أبي أرسل إليه ملكهم أن غدا عيد فاحضر معنا فنظر إلى نجم طالع فقال إن هذا يطلع مع سقمي، فقالت فرقة معنى «نظر في النجوم» أي فيما نجم إليه من أمور قومه وحاله معهم، وقال الجمهور نظر نجوم السماء، وروي أن علم النجوم كان عندهم منظورا فيه مستعملا فأوهمهم هو من تلك الجهة، وذلك أنهم كانوا أهل رعاية وفلاحة، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم، واختلف أيضا في قوله إِنِّي سَقِيمٌ، فقالت فرقة هي كذبة في ذات الله تعالى أخبرهم عن نفسه أنه مريض وأن الكوكب أعطاه ذلك، وقال ابن عباس وغيره: أشار لهم إلى مرض وسقم يعدي كالطاعون ولذلك تولوا مُدْبِرِينَ أي فارين منه، وقال بعضهم بل تولوا مُدْبِرِينَ لكفرهم واحتقارهم لأمره.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا التأويل في أنها كذبة يجيء الحديث لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: قوله إِنِّي سَقِيمٌ، وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء: ٦٣] وقوله في سارة هي أختي، وقالت فرقة: ليست بكذبة ولا يجوز الكذب عليه ولكنها من المعاريض أخبرهم بأنه سقيم في المثال وعلى عرف ابن آدم لا بد أن يسقم ضرورة، وقيل أراد على هذا إِنِّي سَقِيمٌ النفس أي من أموركم وكفركم فظهر لهم من كلامه أنه أراد سقما بالجسد حاضرا وهكذا هي المعاريض.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل لا يرده الحديث وذكر الكذبات لأنه قد يقال لها كذب على الاتساع بحسب اعتقاد المخبر، والكذب الذي هو قصد قول الباطل، والإخبار بضد ما في النفس بغير منفعة شرعية، هو الذي لا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم.
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٩١ الى ٩٨]
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)
478
«راغ» معناه مال، ومنه قول عدي بن زيد: [الخفيف]
حيث لا ينفع الرياغ ولا ينفع إلا المصلق النحرير
وقوله تعالى: أَلا تَأْكُلُونَ هو على جهة الاستهزاء بعبدة تلك الأصنام، وروي أن عادة أولئك كانت أنهم يتركون في بيوت الأصنام طعاما، ويعتقدون أنها تصيب منه شميما ونحو هذا من المعتقدات الباطلة، ثم كان خدم البيت يأكلونه، فلما دخل إبراهيم وقف على الأكل، والنطق والمخاطبة للأصنام والقصد الاستهزاء بعابدها، ثم مال عند ذلك إلى ضرب تلك الأصنام بفأس حتى جعلها جذاذا واختلف في معنى قوله بِالْيَمِينِ فقال ابن عباس: أراد يمنى يديه، وقيل: أراد بقوته لأنه كان يجمع يديه معا بالفأس، وقيل أراد يمين القسم في قوله وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء: ٥٧] وضَرْباً نصب على المصدر بفعل مضمر من لفظه، وفي مصحف عبد الله عليهم «صفعا باليمين»، والضمير في «أقبلوا» لكفار قومه، وقرأ جمهور الناس «يزفون» بفتح الياء من زف إذا أسرع وزفت الإبل إذا أسرعت، ومنه قول الفرزدق:
[الطويل]
فجاء قريع الشول قبل افالها يزف وجاءت خلفه وهي زفف
ومنه قول الهذلي:
وزفت الشول من برد العشيّ كما زفت النعام إلى حفانه الروح
وقرأ حمزة وحده «يزفزن» بضم الياء من أزف إذا دخل في الزفيف وليست بهمزة تعدية هذا قول، وقال أبو علي: معناه يحملون غيرهم على الزفيف، وحكاه عن الأصمعي وهي قراءة مجاهد وابن وثاب والأعمش، وقرأ مجاهد وعبد الله بن زيد «يزفزن» بفتح الياء وتخفيف الفاء من وزف وهي لغة منكرة، قال الكسائي والفراء: لا نعرفها بمعنى زف، وقال مجاهد: الزفيف النسلان، وذهبت فرقة إلى أن يَزِفُّونَ معناه يتمهلون في مشيهم كزفاف العروس، والمعنى أنهم كانوا على طمأنينة من أن ينال أحد آلهتهم بسوء لعزتهم فكانوا لذلك متمهلين.
قال القاضي أبو محمد: وزف بمعنى أسرع هو المعروف، ثم إن إبراهيم عليه السلام قال لهم في جملة محاورة طويلة قد تضمنتها الآية أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ أي تجعلون إلها معظما شيئا صنعتموه من عود أو حجر وعملتموه بأيديكم أخبرهم بخبر لا يمكنهم إنكاره وهو قوله وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ واختلف المتأولون في قوله وَما تَعْمَلُونَ، فمذهب جماعة من المفسرين أن ما مصدرية والمعنى أن الله خلقكم وأعمالكم، وهذه الآية عندهم قاعدة في خلق أفعال العباد وذلك موافق لمذهب أهل السنة في ذلك، وقالت ما بمعنى الذي، وقالت فرقة ما استفهام، وقالت فرقة هي نفي بمعنى وأنتم لا تعملون شيئا في وقت خلقكم ولا قبله، ولا تقدرون على شيء.
قال القاضي أبو محمد: والمعتزلة مضطرة إلى الزوال عن أن تجعل ما مصدرية، و «البنيان» قيل
479
كان في موضع إيقاد النار، وقيل بل كان للمنجنيق الذي رمي عنه وقد تقدم قصص نار إبراهيم وجعلهم الله الْأَسْفَلِينَ، بأن غلبوا وذلوا ونالتهم العقوبات قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٩٩ الى ١٠٢]
وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢)
قالت فرقة: إن قول إبراهيم إِنِّي ذاهِبٌ كان بعد خروجه من النار، وإنه أشار بذهابه إلى هجرته من أرض بابل حيث كانت مملكة نمرود فخرج إلى الشام ويروى إلى بلاد مصر، وقالت فرقة: قوله إِنِّي ذاهِبٌ ليس مراده به الهجرة كما في آية أخرى وإنما مراده لقاء الله بعد الاحتراق ولأنه ظن أن النار سيموت فيها، فقال هذه المقالة قبل أن يطرح في النار، فكأنه قال إني سائر بهذا العمل إلى ربي، وهو سيهديني إلى الجنة، نحا إلى هذا المعنى قتادة، وللعارفين بهذا الذهاب تمسك واحتجاج في الصفاء وهو محمل حسن في إِنِّي ذاهِبٌ وحده، والأول أظهر من نمط الآية بما بعده، لأن الهداية معه تترتب، والدعاء في الولد كذلك، ولا يصح مع ذهاب الفناء، وقوله مِنَ الصَّالِحِينَ مِنَ للتبعيض أي ولدا يكون في عداد الصالحين، وقوله فَبَشَّرْناهُ قال كثير من العلماء منهم العباس بن عبد المطلب وقد رفعه وعلي وابن عباس وابن مسعود وكعب وعبيد بن عمرو هي البشارة المعروفة بإسحاق وهو الذبيح وكان أمر ذبحه بالشام، وقال عطاء ومقاتل ببيت المقدس، وقال بعضهم بل بالحجاز، جاء مع أبيه على البراق وقال ابن عباس والبشارة التي بعد هذه في هذه الآية هي بشارة بنبوته كما قال تعالى في موسى وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مريم: ٥٣] وهو قد كان وهبه له قبل ذلك، فإنما أراد النبوءة، فكذلك هذه، وقالت هذه الفرقة في قول الأعرابي: يا بن الذبيحين أراد إسحاق والعم أب، وقيل إنه أمر بذبحه بعد ما ولد له يعقوب، فلم يتعارض الأمر بالذبح مع البشارة بولده وولد ولده، وقالت فرقة: هذه البشارة هي بإسماعيل وهو الذبيح وأمر ذبحه كان بالحجاز بمنى ثم رمى إبراهيم الشيطان بالجمرات وقبض الكبش حين أفلت له وسن السنن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ابن عباس أيضا وابن عمرو وروي عن الشعبي والحسن ومجاهد ومعاوية بن أبي سفيان ورفعه معاوية إلى النبي ﷺ ومحمد بن كعب وبه كان أبي رضي الله عنه يقول، ويستدل بقول الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: يا بن الذبيحين، وبقوله ﷺ «أنا ابن الذبيحين» يعني إسماعيل وعبد الله أباه، ويستدل بأن البشارة اقترنت بأن من ورائه يعقوب، فلو قيل له في صباه اذبحه لناقض ذلك البشارة بيعقوب، ويستدل بظاهر هذه الآية أنه بشر بإسماعيل، وانقضى أمر ذبحه ثم بشر بإسحاق بعد ذلك، وسمعته رضي الله عنه يقول كان إبراهيم ﷺ يجيء من الشام إلى مكة على البراق زائرا ويعود من يومه وقد ذكر ذلك الثعلبي عن سعيد بن جبير ولم يذكر
أن ذلك على البراق وذكر القصة عن ابن إسحاق، وفيها ذكر البراق كما سمعت أبي يحكي وذكر الطبري أن ابن عباس قال: الذبيح إسماعيل، وتزعم اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود وذكر أيضا أن عمر بن عبد العزيز سأل رجلا يهوديا كان أسلم وحسن إسلامه فقال: الذبيح إسماعيل، وإن اليهود تعلم ذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن تكون هذه الآية والفضل والله في أبيكم. والسَّعْيَ في هذه الآية العمل والعبادة والمعونة، هذا قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد، وقال قتادة السَّعْيَ على القدم يريد سعيا متمكنا وهذا في المعنى نحو الأول، وقرأ الضحاك «معه السعي وأسر في نفسه حزنا» قال وهكذا في حرف ابن مسعود وهي قراءة الأعمش، قوله إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يحتمل أن يكون رأى ذلك بعينه ورؤيا الأنبياء وحي، وعين له وقت الامتثال، ويحتمل أن أمر في نومه بذبحه فعبر هو عن ذلك أي «إني رأيت في المنام» ما يوجب أن أَذْبَحُكَ، وقرأ جمهور الناس «ماذا ترى» بفتح والراء، وقرأ حمزة والكسائي «تري» بضم التاء وكسر الراء، على معنى ما يظهر منك من جلد أو جزع، وهي قراءة ابن مسعود والأسود بن يزيد وابن وثاب وطلحة والأعمش ومجاهد، وقرأ الأعمش والضحاك «ترى» بضم التاء وفتح الراء على بناء الفعل للمفعول، فأما الأولى فهي من رؤية الرأي، وهي رؤية تتعدى إلى مفعول واحد، وهو في هذه الآية إما ماذا، بجملتها على أن تجعل «ما» و «ذا» بمنزلة اسم واحد، وإما «ذا» على أن تجعله بمعنى الذي، وتكون «ما» استفهاما وتكون الهاء محذوفة من الصلة، وأما القراءة الثانية فيكون تقدير مفعولها كما مر في هذه، غير أن الفعل فيها منقول من رأى زيد الشيء وأريته إياه، إلا أنه من باب أعطيت فيجوز أن يقتصر على أحد المفعولين، وأما القراءة الثانية فقد ضعفها أبو علي وتتجه على تحامل، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «افعل ما أمرت به».
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٠٣ الى ١١١]
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١)
قرأ جمهور الناس «أسلما» أي أنفسهما واستسلما لله تعالى، وقرأ علي وعبد الله وابن عباس ومجاهد والثوري «سلما» والمعنى فوضا إليه في قضائه وقدره وانحملا على أمره، فأسلم إبراهيم ابنه وأسلم الابن نفسه واختلف النحاة في جواب «لما»، فقال الكوفيون الجواب نادَيْناهُ، والواو زائدة، وقالت فرقة الجواب وَتَلَّهُ والواو زائدة كزيادتها في قوله: وَفُتِحَتِ السَّماءُ [النبأ: ١٩] وقال البصريون: الجواب محذوف تقديره «فلما أسلم وتله»، وهذا قول الخليل وسيبويه، وهو عندهم كقول امرئ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل
التقدير فلما أجزنا ساحة الحي أجزنا وانتحى، وقال بعض البصريين: الجواب محذوف وتقديره فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أجزل أجرهما أو نحو هذا مما يقتضيه المعنى، وَتَلَّهُ وضعه بقوة ومنه الحديث في
481
القدح، فتله رسول الله ﷺ في يده أي وضعه بقوة، والتل من الأرض مأخوذ من هذه كأنه تل في ذلك الموضع، ولِلْجَبِينِ معناه لتلك الجهة وعليها كما يقولون في المثل لليدين والفم وكما تقول سقط لشقه الأيسر، وقال ساعدة بن جوبة «وظل تليلا للجبين والجبينان ما اكتنف الجبهة من هنا وهنا»، وروي في قصص هذه الآية أن الذبيح قال لأبيه اشدد رباطي بالحبل لئلا أضطرب واصرف بصرك عني، لئلا ترحمني ورد وجهي نحو الأرض، قال قتادة كبه لفيه وأخذ الشفرة، والتل للجبين ليس يقتضي أن الوجه نحو الأرض بل هي هيئة من ذبح للقبلة على جنبه، وقوله أَنْ يا إِبْراهِيمُ، أَنْ مفسرة لا موضع لها من الإعراب وقوله، قَدْ صَدَّقْتَ يحتمل أن يريد بقلبك على معنى كانت عندك رؤياك صادقة وحقا من الله فعملت بحسبها حين آمنت بها واعتقدت صدقها، ويحتمل أن يريد صدقت بعملك ما حصل عن الرؤيا في نفسك كأنه قال قد وفيتها حقها من العمل، والرُّؤْيا اسم لما يرى من قبل الله تعالى، والمنام والحلم اسم لما يرى من قبل الشيطان، ومنه الحديث الصحيح «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان»، وقوله إِنَّا كَذلِكَ إشارة إلى ما عمل إبراهيم، كأنه يقول إنا بهذا النوع من الإخلاص والطاعة نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وقوله تعالى إِنَّ هذا لَهُوَ يشير إلى ما في القصة من امتحان واختبار وسير معتقد، فيكون الْبَلاءُ على هذا المعنى الاختبار بالشدة، ويحتمل أن يشير إلى ما في القصة من سرور بالفدية وإنقاذ من تلك الشدة في إنفاذ الذبح، فيكون الْبَلاءُ بمعنى النعمة.
قال القاضي أبو محمد: وإلى كل احتمال قد أشارت فرقة من المفسرين، وفي الحديث أن الله تعالى أوحى إلى إسحاق أني قد أعطيتك فيها ما سألت فسلني فقال يا رب أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئا فأدخله الجنة، والضمير في فَدَيْناهُ عائد على الذبح، و «الذبح» اسم لما يذبح ووصفه بالعظم لأنه متقبل يقينا قاله مجاهد، وقال عمر بن عبيد: «الذبح» الكبش و «العظيم» لجري السنة، وكونه دينا باقيا آخر الدهر، وقال الحسن بن الفضل: عظم لأنه كان من عند الله، وقال أبو بكر الوراق: لأنه لم يكن عن نسل بل عن التكوين، وروي عن ابن عباس وعن سعيد بن جبير: أن كونه عظيما هو أنه من كباش الجنة، رعى فيها أربعين خريفا، وقال ابن عباس: هو الكبش الذي قرب ولد آدم، وقال ابن عباس والحسن: كان وعلا اهبط عليه من ثبير، وقال الجمهور: إنه كبش أبيض أقرن أعين وجده وراءه مربوطا بسمرة.
قال القاضي أبو محمد: وروي أنه انفلت لإبراهيم فاتبعه ورماه بحصيات في مواضع الجمرات فبذلك مضت السنة، وقال ابن عباس رجم الشيطان عند جمرة العقبة وغيرها وقد قدم هذا.
قال القاضي أبو محمد: وأهل السنة على أن هذه القصة نسخ فيها العزم على الفعل، والمعتزلة التي تقول إنه لا يصح نسخ إلا بعد وقوع الفعل افترقت في هذه الآية على فرقتين، فقالت فرقة وقع الذبح والتأم بعد ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كذب صراح، وقالت فرقة منهم: بل كان إبراهيم لم ير في منامه إلا أمارة الشفرة فقط، فظن أنه ذبح فجهز، فنفذ لذلك فلما وقع الذي رآه وقع النسخ.
482
قال القاضي أبو محمد: والاختلاف أن إبراهيم عليه السلام أمر الشفرة على حلق ابنه فلم تقطع، وروي أن صفيحة نحاس اعترضته فحز فيها والله أعلم كيف كان، فقد كثر الناس في قصص هذه الآية بما صحته معدومة، فاختصرته، وقد تقدم تفسير مثل قوله وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ وقوله كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ معناه أي هذا الفعل وباقي الآية بين.
قال القاضي أبو محمد: وما يستغرب في هذه الآية أن عبيد بن عمير قال: ذبح في المقام، وذكر الطبري عن جماعة لم يسمها أنها قالت: كان الأمر وإذاعة الذبح والقصة كلها بالشام، وقال الجمهور: ذبح بمنى، وقال الشعبي: رأيت قرني كبش إبراهيم معلقة في الكعبة.
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١٢ الى ١١٧]
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦)
وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧)
من قال إن الذبيح هو إسماعيل جعل هذه البشارة بولادة إسحاق وهي البشارة المترددة في غير ما سورة، ومن جعل الذبيح إسحاق جعل هذه البشارة بنفس النبوءة فقط، وقوله تعالى وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ توعد لمن كفر من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمنة، على موسى وهارون هي في النبوءة وسائر ما جرى معها من مكانتها عند الله تعالى والْكَرْبِ الْعَظِيمِ هو تعبد القبط لهم، ثم جيش فرعون لما قالت بنو إسرائيل إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: ٦١] ثم البحر بعد ذلك، والضمير في نَصَرْناهُمْ عائد على الجماعة المتقدم ذكرها وهم «موسى وهارون وقومهما»، وقال قوم: أراد موسى وهارون ولكن أخرج ضميرهما مخرج الجمع تفخيما، وهذا مما تفعله العرب تكني عمن تعظم بكناية الجمع، والْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ هو التوراة.
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١١٨ الى ١٢٥]
وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥)
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يريد به في هذه الآية طريق الشرع والنبوءة المؤدي إلى الله تعالى وقد تقدم القول في مثل قوله وَتَرَكْنا عَلَيْهِما، وإِلْياسَ نبي من أنبياء الله تعالى، قال قتادة وابن مسعود: هو إدريس عليه السلام، وقالت فرقة: هو من ولد هارون عليه السلام، قال الطبري هو إلياس بن نسي بن فنحاص بن العيزار بن هارون، وقرأ الجمهور من القراء «وإن إلياس» بهمزة مكسورة، وهو اسم، وقرأ
ابن عامر وابن محيصن وعكرمة والحسن والأعرج «وإن الياس» بغير همز بصلة الألف، وذلك يتجه على أحد وجهين: إما أن يكون حذف الهمزة كما حذفها ابن كثير من قوله تعالى إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ [المدثر:
٣٥] أراد «لإحدى» فنزل المنفصل منزلة المتصل، كما قد ينزل في كثير من الأمور، والآخر أن يجعلها الألف التي تصحب اللام للتعريف كاليسع، وفي مصحف أبي بن كعب «وإن إيليس» بألف مكسورة الهمزة وياء ساكنة قبل اللام المكسورة وياء ساكنة بعدها وسين مفتوحة، وكذلك في قوله «سلام على إيليس»، وقرأ نافع وابن عامر على «آل ياسين» وقرأ الباقون «سلام على إلياسين» بألف مكسورة ولام ساكنة، قرأ الحسن وأبو رجاء «على الياسين» موصولة فوجه الأولى أنها فيما يزعمون مفصولة في المصحف فدل ذلك على أنها بمعنى أهل و «ياسين» اسم أيضا ل إِلْياسَ وقيل هو اسم لمحمد ﷺ ووجه الثانية أنه جمع إلياسي كما قالوا أعجمي أعجميون، قال أبو علي: والتقدير إلياسين فحذف كما حذف من أعجميين، ونحوه من الأشعريين والنمريين والمهلبين، وحكى أبو عمرو أن مناديا نادى يوم الكلاب، هلك اليزيديون، ويروى قول الشاعر: «قدني من نصر الخبيبين قدي» بكسر الباء الثانية نسبة إلى أبي خبيب، ويقال سمي كل واحد من آل ياسين إلياس كما قالوا شابت مفارقة فسمي كل جزء من المفرق مفرقا، ومنه قولهم «جمل ذو عثانين»، وعلى هذا أنشد ابن جني: [الرجز]
مرت بنا أول من أموس... تميس فينا مشية العروس
فسمى كل جزء من الأمس أمس ثم جمع، وقال أبو عبيدة لم يسلم على آل أحد من الأنبياء المذكورين قبل فلذلك ترجح قراءة من قرأ «إلياسين» إذ هو اسم واحد له، وقرأ ابن مسعود والأعمش «وإن إدريس لمن المرسلين» و «سلام على إدريس» وروى هذه القراءة قطرب وغيره وإن إدراسين وإدراس لغة في إدريس كإبراهيم وإبراهام، وقوله أَتَدْعُونَ معناه أتعبدون، والبعل الرب بلغة اليمن قاله عكرمة وقتادة، وسمع ابن عباس رجلا ينشد ضالة فقال له رجل آخر: أنا بعلها، فقال ابن عباس الله أكبر أتدعون بعلا، وقال الضحاك وابن زيد والحسن بَعْلًا اسم صنم كان لهم وله يقال بعلبك وإليه نسب الناس، وذكر ابن إسحاق عن فرقة أن بَعْلًا اسم امرأة كانت أتتهم بضلالة، وقوله أَحْسَنَ الْخالِقِينَ من حيث قيل للإنسان على التجوز إنه يخلق وجب أن يكون تعالى أَحْسَنَ الْخالِقِينَ إذ خلقه اختراع وإيجاد من عدم وخلق الإنسان مجاز كما قال الشاعر: [الكامل أقذ].
ولأنت تفري ما خلقت... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٢٦ الى ١٣٨]
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨)
قرأ حمزة والكسائي وعاصم «الله» بالنصب «ربّكم وربّ آبائكم» كل ذلك بالنصب على البدل من قوله أَحْسَنَ الْخالِقِينَ [المؤمنين: ١٤، الصافات: ١٢٥]، وقرأ الباقون وعاصم أيضا «الله ربّكم وربّ آبائكم» كل ذلك بالرفع على القطع والاستئناف، والضمير في «كذبوه» عائد على قوم إلياس، و «محضرون» معناه مجمعون لعذاب الله وقد تقدم تفسير مثل ما بقي من الآية وتقدم القول أيضا في قوله سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ، و «لوط» عليه السلام هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام وقيل ابن أخته وقد تقدم تفسير قصته بكاملها، وامرأته هي العجوز المهلكة، وكانت كافرة فإما كانت متسترة منه عليه السلام، وإما كانت معلنة وكان نكاح الوثنيات والإقامة عليهن جائزا، و «الغابرون» الباقون، غبر بمعنى بقي ومعناه هنا بقيت في الهلاك، ثم خاطب تعالى قريشا أو هو على معنى قل لهم يا محمد وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
في الصباح وفي الليل فواجب أن يقع اعتباركم ونظركم ثم وبخهم تعالى بقوله أَفَلا تَعْقِلُونَ
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٣٩ الى ١٤٦]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦)
هذا يُونُسَ
بن متى صلى الله عليه وسلم، وهو من بني إسرائيل، وروي أنه نبىء ابن ثمانية وعشرين سنة فتفسخ تحت أعباء النبوءة كما يتفسخ الربع تحت الحمل، وقد تقدم شرح قصته ولكن نذكر منها ما تفهم به هذه الألفاظ، فروي أن الله بعثه إلى قومه فدعاهم مرة فخالفوه فوعدهم بالعذاب، وأعلمه الله تعالى بيومه فحدده يونس لهم، ثم إن قومه لما رأوا مخايل العذاب قبل أن يباشرهم تابوا وآمنوا فتاب الله عليهم وصرف العذاب عنهم، وكان في هذا تجربة ليونس فلحقت يونس غضبة، ويروى أنه كان في سيرتهم أن يقتلوا الكذاب إذا لم تقم له بينة، فخافهم يونس وغضب مع ذلك ف أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ
أي أراد الهروب ودخل في البحر وعبر عن هروبه بالإباق، من حيث هو عبد الله فر عن غير إذن مولاه، فهذه حقيقة الإباق، والْفُلْكِ
في هذا الموضع واحد، والْمَشْحُونِ
الموقر، وهنا قصص محذوف إيجازا واختصارا، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه لما حصل في السفينة وأبعدت في البحر ركدت ولم تجر، والسفن تجري يمينا وشمالا فقال أهلها إن فينا لصاحب ذنب وبه يحبسنا الله تعالى فقالوا لنقترع، فأخذوا لكل أحد سهما وقالوا اللهم ليطف سهم المذنب، ولتغرق سهام الغير فطفا سهم يونس، ففعلوا نحو هذا ثلاث مرات في كل مرة تقع القرعة عليه، فأزمعوا معه على أن يطرحوه في البحر فجاء إلى ركن من أركان السفينة ليقع منه فإذا بدابة من دواب البحر ترقبه وترصد له فرجع إلى الركن الآخر فوجدها كذلك حتى استدار أركان السفينة ليقع منه بالمركب وهي لا تفارقه فعلم أن ذلك عند الله فترامى إليها فالتقمته، وروي أنما
485
التقمته بعد أن وقع في الماء، وروي أن الله أوحى إلى الحوت أني لم أجعل يونس لك رزقا وإنما جعلت بطنك له حرزا وسجنا فهذا معنى فَساهَمَ
أي قارع وكذلك فسر ابن عباس والسدي، و «المدحض» الزاهق المغلوب في محاضة أو مساهمة أو مسابقة ومنه الحجة الداحضة، و «المليم» الذي أتى ما يلام عليه، ألام الرجل دخل في اللوم، وبذلك فسر مجاهد وابن زيد ومنه قول الشاعر: [الطويل]
وكم من مليم لم يصب بملامة ومتبع بالذنب ليس له ذنب
ومنه قول لبيد بن ربيعة: [الكامل]
سفها عذلت ولمت غير مليم وهداك قبل اليوم غير حكيم
ثم استنقذه الله من بطن الحوت بعد مدة واختلف الناس فيها، فقالت فرقة بعد ساعة من النهار، وقالت فرقة بعد سبع ساعات، وقال مقاتل بن حيان بعد ثلاثة أيام، وقال عطاء بن أبي رباح بعد سبعة أيام، وقالت فرقة بعد أربعة عشر يوما، وقال أبو مالك والسدي بعد أربعين يوما، وهو قول ابن جريج أنه بلغه وجعل تعالى علة استنقاذه مع القدر السابق تسبيحه، واختلف الناس في ذلك فقال ابن جريج هو قوله في بطن الحوت سبحان الله، وقالت فرقة بل التسبيح وصلاة التطوع، واختلفت هذه الفرقة، فقال قتادة وابن عباس وأبو العالية صلاته في وقت الرخاء نفعته في وقت الشدة، وقال هذا جماعة من العلماء، وقال الضحاك بن قيس على منبره اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة إن يونس كان عبدا لله ذاكرا فلما أصابته الشدة نفعه ذلك، قال الله عز وجل: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وإن فرعون كان طاغيا باغيا فلما أدركه الغرق قال آمنت فلم ينفعه ذلك، فاذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة. وقال قتادة في الحكمة: إن العمل يرفع صاحبه إذ عثر فإذا صرع وجد متكئا، وقال الحسن بن أبي الحسن: كانت سبحته صلاة في بطن الحوت، وروي أنه كان يرفع لحم الحوت بيديه ويقول يا رب لأبنين لك مسجدا حيث لم يبنه أحد قبلي ويصلي، وروى أنس عن النبي ﷺ أن يونس حين نادى في الظلمات، ارتفع نداؤه إلى العرش فقالت الملائكة: يا رب هذا صوت ضعيف من موضع غربة، فقال الله هو عبدي يونس فأجاب الله دعوته.
قال القاضي أبو محمد: وذكر الحديث وقال ابن جبير الإشارة بقوله مِنَ الْمُسَبِّحِينَ إلى قوله لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: ٨٧].
قال القاضي أبو محمد: وكثر الناس في هذا القصص بما اختصرناه لعدم الصحة، وروي أن الحوت مشى به في البحار كلها حتى قذفه في نصيبين من ناحية الموصل فنبذه الله في عراء من الأرض، و «العراء» الفيفاء التي لا شجر فيها ولا معلم ومنه قول الشاعر:
رفعت رجلا لا أخاف عثارها ونبذت بالبلد العراء ثيابي
وقال السدي وابن عباس في تفسير قوله وَهُوَ سَقِيمٌ، إنه كان كالطفل المنفوش بضعة لحم، وقال بعضهم كان كاللحم النيء إلا أنه لم ينقص من خلقه شيء فأنعشه الله في ظل «اليقطينة» بلبن أروية كانت
486
تغاديه وتراوحه، وقيل بل كان يتغذى من اليقطينة، ويجد منها ألوان الطعام، وأنواع شهواته واختلف الناس في «اليقطينة» فقالت فرقة هي شجرة لا نعرفها سماها الله باليقطينة وهي لفظة مأخوذة من قطن إذا أقام بالمكان، وقال سعيد بن جبير وابن عباس والحسن ومقاتل اليقطين كل ما لا يقوم على ساق من عود كالبقول والقرع والحنظل، والبطيخ ونحوه مما يموت من عامه، وروي نحوه عن مجاهد، وقال ابن عباس وأبو هريرة وعمرو بن ميمون «اليقطين» القرع خاصة.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذين القولين فإما أن يكون قوله شَجَرَةً تجوزا وإما أن يكون أنبتها عليه ذات ساق خرقا للعادة، لأن الشجرة في كلام العرب إنما يقال لما كان على ساق من عود، وحكى بعض الناس أنها كانت قرعة وهي تجمع خصالا برد الظل والملمس وعظم الورق وأن الذباب لا يقربها، وحكى النقاش أن ماء ورق القرعة إذا رش بمكان لم يقربه ذباب، ومشهور اللغة أن «اليقطين» القرع وقد قال أمية بن أبي الصلت في قصة يونس: [الطويل]
فأنبت يقطينا عليه برحمة من الله لولا الله ألفي ضاحيا
فنبت يونس عليه السلام وصح وحسن جسمه لأن ورق القرع أنفع شيء لمن تسلخ جلده كيونس صلى الله عليه وسلم، وروي أنه كان يوما نائما فأيبس الله تلك اليقطينة، وقيل بعث عليها الأرضة فقطعت عروقها فانتبه يونس لحر الشمس فعز عليه شأنها وجزع له، فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس أجزعت ليبس اليقطينة ولم تجزع لإهلاك مائة ألف أو يزيدون تابوا فتيب عليهم.
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤٧ الى ١٥٧]
وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١)
وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦)
فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧)
قال الجمهور إن هذه الرسالة إِلى مِائَةِ أَلْفٍ في رسالته الأولى التي أبق بعدها، ذكرها الله في آخر القصص تنبيها على رسالته، ويدل على ذلك قوله فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ، وتمتيع تلك الأمة هو الذي أغضب يونس حتى أبق، وقال قتادة وابن عباس أيضا هذه الرسالة أخرى بعد أن نبذ بالعراء وهي إلى أهل نينوى من ناحية الموصل، وقرأ جعفر بن محمد، «ويزيدون» بالواو، وقرأ الجمهور «أو يزيدون»، فقال ابن عباس «أو» بمعنى «بل»، وكانوا مائة ألف وثلاثين ألفا، وقال أبي بن كعب عن النبي ﷺ «كانوا مائة وعشرين ألفا»، وقال ابن جبير: كانوا مائة وسبعين ألفا، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «إلى مائة ألف بل يزيدون»، وقالت فرقة أَوْ هنا بمعنى الواو، وقالت فرقة هي للإبهام على المخاطب، كما تقول ما عليك أنت أنا أعطي فلانا دينارا أو ألف دينار، ونحو هذا قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ
شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ
[آل عمران: ١٢٨].
قال القاضي أبو محمد: وهذا المعنى قليل التمكن في قوله أَوْ يَزِيدُونَ، وقال المبرد وكثير من البصريين: المعنى على نظر البشر وحزرهم، أي من رآهم قال: هم مائة ألف أو يزيدون، وروي في قوله تعالى: فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ فمتعهم إِلى حِينٍ أنهم خرجوا بالأطفال وأولاد البهائم وفرقوا بينها وبين الأمهات وناحوا وضجوا وأخلصوا فرفع الله عنهم، والتمتيع هنا هو بالحياة و «الحين» آجالهم السابقة في الأزل، قاله قتادة والسدي، وقرأ ابن أبي عبلة «حتى حين»، وفي قوله تعالى: فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ مثال لقريش أي أن آمنوا كما جرى لهؤلاء، ومن هنا حسن انتقال القول والمحاورة إليهم بقوله، فَاسْتَفْتِهِمْ فإنما يعود ضميرهم على ما في المعنى من ذكرهم، والاستفتاء السؤال، وهو هنا بمعنى التقريع والتوبيخ، على قولهم على الله البهتان وجعلهم البنات لله تعالى عن ذلك وأمره بتوقيفهم على جهة التوبيخ أيضا هل شاهدوا أن الملائكة إناث فيصح لهم القول به، ثم أخبر تعالى عن فرقة منهم بلغ بها الإفك والكذب إلى أن قالت ولد الله الملائكة لأنه نكح في سروات الجن وهذه فرقة من بني مدلج فيما روي، وقرأ جمهور الناس «اصطفى» بالهمز وهو ألف الاستفهام وهذا على جهة التقرير والتوبيخ على نسبتهم إليه اختيار الأدنى عندهم، وقرأ نافع في رواية إسماعيل عنه «اصطفى» بصلة الألف على الخبر كأنه يحكي شنيع قولهم، ورواها إسماعيل عن أبي جعفر وشيبة، ثم قرر ووبخ وعرض للتذكر والنظر واستفهم عن البرهان والحجة على جهة التقرير وضمهم الاستظهار بكتاب أو أمر يظهر صدقهم، وقرأ الجمهور «أفلا تذكّرون» مشددة الذال والكاف، وقرأ طلحة بن مصرف «تذكرون» بسكون الذال وضم الكاف خفيفة.
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٥٨ الى ١٦٩]
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢)
إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧)
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩)
الضمير في قوله وَجَعَلُوا لفرقة من كفار قريش والعرب، قال ابن عباس في كتاب الطبري إن بعضهم قال إن الله تعالى وإبليس أخوان، وقال مجاهد: قال قوم لأبي بكر الصديق: إن الله تعالى نكح في سروات الجن، وقال بعضهم إن الملائكة بناته، ف الْجِنَّةِ على هذا القول الأخير يقع على الملائكة سميت بذلك لأنها مستجنة أي مستترة، وقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ من جعل الجنة الشياطين جعل العلامة في عَلِمَتِ لها، والضمير في إِنَّهُمْ عائد عليهم أي جعلوا الشياطين بنسب من الله والشياطين تعلم ضد ذلك من أنها ستحضر أمر الله وثوابه وعقابه، ومن جعل الجنة الملائكة جعل الضمير في إِنَّهُمْ للقائلين هذه المقالة أي علمت الملائكة أن هؤلاء الكفرة سيحضرون ثواب الله وعقابه وقد يتداخل هذان القولان، ثم نزه تعالى نفسه عما يصفه الناس ولا يليق به، ومن هذا استثنى العباد
المخلصين لأنهم يصفونه بصفاته العلى، وقالت فرقة استثناهم من قوله إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يصح على قول من رأى الجنة الملائكة، وقوله تعالى: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ بمعنى قل لهم يا محمد إنكم وأصنامكم ما أنتم بمضلين أحدا بسببها، وعليها الأمر سبق عليه القضاء وضمه القدر، بأنه يصلى الجحيم في الآخرة، وليس عليكم إضلال من هدى الله تعالى، وقالت فرقة عَلَيْهِ، بمعنى به، و «الفاتن» المضل في هذا الموضع وكذلك فسر ابن عباس والحسن بن أبي الحسن، وقال ابن الزبير على المنبر: إن الله هو الهادي والفاتن، ومَنْ في موضع نصب بِفاتِنِينَ، وقرأ الجمهور «صال الجحيم» بكسر اللام، من صال حذفت الياء للإضافة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «صال الجحيم» بضم اللام وللنحاة في معناه اضطراب، أقواه أنه صالون حذفت النون للإضافة، ثم حذفت الواو للالتقاء وخرج لفظ الجميع بعد لفظ الإفراد، فهو كما قال وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ [يونس: ٤٢] لما كانت «من» و «هو» من الأسماء التي فيها إبهام ويكنى بها عن أفراد وجمع ثم حكى قول الملائكة، وَما مِنَّا وهذا يؤيد أن الجنة أراد بها الملائكة كأنه قال ولقد علمت كذا أو أن قولها لكذا، وتقدير الكلام ما منا ملك، وروت عائشة عن النبي ﷺ «إن السماء ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي»، وقال ابن مسعود «موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه»، وقرأ ابن مسعود «وإن كلنا لما له مقام معلوم»، والصَّافُّونَ معناه الواقفون صفوفا، والْمُسَبِّحُونَ يحتمل أن يريد به الصلاة، ويحتمل أن يريد به قول سبحان الله، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أقيمت الصلاة صرف وجهه إلى الناس فيقول لهم: عدلوا صفوفكم وأقيموها فإن الله تعالى إنما يريد بكم هدي الملائكة، فإنها تقول وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ، ثم يرى تقويم الصفوف، وعند ذلك ينصرف ويكبر، قال الزهراوي: قيل إن المسلمين إنما اصطفوا منذ نزلت هذه الآية، ولا يصطف أحد من أهل الملل غير المسلمين، ثم ذكر عز وجل مقالة بعض الكفار، وقال قتادة والسدي والضحاك فإنهم قبل نبوة محمد ﷺ قالوا لو كان لنا كتاب أو جاءنا رسول لكنا من أتقى عباد الله وأشدهم إخلاصا فلما جاءهم محمد كفروا فاستوجبوا أليم العقاب.
قوله عز وجل:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٧٠ الى ١٨٢]
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤)
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩)
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)
قوله تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وعيد محض لأنهم تمنوا أمرا فلما جاءهم الله تعالى به كفروا واستهواهم الحسد، ثم أنس تعالى نبيه وأولياءه بأن القضاء قد سبق، والكلمة قد حقت في الأزل بأن رسل
489
الله تعالى إلى أرضه هم الْمَنْصُورُونَ على من ناوأهم المظفرون بإرادتهم المستوجبون الفلاح في الدارين، وقرأ الضحاك «كلماتنا» بألف على الجمع، وجند الله هم الغزاة لتكون كلمات الله هي العليا، وقال علي بن أبي طالب: جند الله في السماء الملائكة، وفي الأرض الغزاة وقوله تعالى، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وعد للنبي ﷺ وأمر بالموادعة، وهذا مما نسخته آية السيف، واختلف الناس في المراد ب «الحين»، هنا، فقال السدي: الحين المقصود يوم بدر ورجحه الطبري، وقال قتادة: الحين موتهم، وقال ابن زيد: الحين المقصود يوم القيامة، وقوله تعالى: وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ وعد للنبي ﷺ ووعيد لهم أي سوف يرون عقبى طريقتهم، ثم قرر تعالى نبيه على جهة التوبيخ لهم على استعجالهم عذاب الله، وقرأ جمهور الناس «فإذا نزل بساحتهم» على بناء الفعل للفاعل أي نزل العذاب، وقرأ ابن مسعود «نزل بساحتهم» على بنائه للمفعول، والساحة الفناء، والعرب تستعمل هذه اللفظة فيما يرد على الإنسان من خير أو شر، وسوء الصباح أيضا مستعمل في ورود الغارات والرزايا، ونحو ذلك ومنه قول الصارخ: يا صباحاه! كأنه يقول قد ساء لي الصباح فأغيثوني، وقرأ ابن مسعود «فبئس صباح»، ثم أعاد عز وجل أمر نبيه بالتولي تحقيقا لتأنيسه وتهمما به، وأعاد توعدهم أيضا لذلك، ثم نزه نفسه تنزيها مطلقا عن جميع ما يمكن أن يصفه به أهل الضلالات، والْعِزَّةِ في قوله رَبِّ الْعِزَّةِ هي العزة المخلوقة الكائنة، للأنبياء والمؤمنين وكذلك قال الفقهاء من أجل أنها مربوبة، وقال محمد بن سحنون وغيره: من حلف بعزة الله فإن كان أراد صفته الذاتية فهي يمين، وإن كان أراد عزته التي خلقها بين عباده وهي التي في قوله رَبِّ الْعِزَّةِ فليست بيمين، وروي عن النبي ﷺ أنه قال «إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين، فإنما أنا أحدهم»، وباقي الآية بين، وذكر أبو حاتم عن صالح بن ميناء قال:
قرأت على عاصم بن أبي النجود فلما ختمت هذه السورة سكت فقال لي: إيه اقرأ، قلت قد ختمت، فقال كذلك فعلت على أبي عبد الرحمن وقال لي كما قلت لك، وقال لي كذلك قال لي علي بن أبي طالب وقال: «وقل آذنتكم باذانة المرسلين لتسألن عن النبإ العظيم»، وفي مصحف عبد الله «عن هذا النبإ العظيم».
490
Icon