تفسير سورة سورة فصلت من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
المعروف بـالتحرير والتنوير
.
لمؤلفه
ابن عاشور
.
المتوفي سنة 1393 هـ
تسمى ﴿ حم السجدة ﴾ بإضافة ﴿ حم ﴾ إلى ﴿ السجدة ﴾ كما قدمناه في أول سورة المؤمن، وبذلك ترجمت في صحيح البخاري وفي جامع الترمذي لأنها تميزت عن السور المفتتحة بحروف ﴿ حم ﴾ بأن فيها سجدة القرآن. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن خليل بن مرة١ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ : تبارك، وحم السجدة٢.
وسميت هذه السورة في كثير من التفاسير ﴿ سورة السجدة ﴾، وهو اختصار قولهم ﴿ حم السجدة ﴾ وليس تمييزا لها بذات السجدة.
وسميت هذه السور في كثير من التفاسير ﴿ سورة فصلت ﴾.
واشتهرت تسميتها في تونس والمغرب ﴿ سورة فصلت ﴾ لوقوع كلمة ﴿ فصلت آياته ﴾ في أولها فعرفت بها تمييزا لها من السور المفتتحة بحروف ﴿ حم ﴾. كما تميزت ﴿ سورة المؤمن ﴾ باسم ﴿ سورة غافر ﴾ عن بقية السور المفتتحة بحروف ﴿ حم ﴾.
وقال الكواشي : وتسمى ﴿ سورة المصابيح ﴾ لقوله تعالى فيها ﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ﴾، وتسمى ﴿ سورة الأقوات ﴾ لقوله تعالى ﴿ وقدر فيها أقواتها ﴾.
وقال الكواشي في التبصيرة : تسمى ﴿ سجدة المؤمن ﴾ ووجه هذه التسمية قصد تمييزها عن سورة ﴿ الم السجدة ﴾ المسماة ﴿ سورة المضاجع ﴾ فأضافوا هذه إلى السورة التي قبلها وهي ﴿ سورة المؤمن ﴾، كما ميزوا ﴿ سورة المضاجع ﴾ باسم ﴿ سجدة لقمان ﴾ لأنها واقعة بعد ﴿ سورة لقمان ﴾.
وهي مكية بالاتفاق نزلت بعد ﴿ سورة غافر ﴾ وقبل ﴿ سورة الزخرف ﴾، وعدت الحادية والستين في ترتيب نزول السور.
وعدت آيها عند المدينة وأهل مكة ثلاثا وخمسين، وعند أهل الشام والبصرة اثنتين وخمسين، وعند أهل الكوفة أربع وخمسين.
أغراضها
التنويه بالقرآن والإشارة إلى عجزهم عن معارضته.
وذكر هديه، وأنه معصوم من أن يتطرقه الباطل، وتأييده بما أنول إلى الرسل من قبل الإسلام.
وتلقى المشركين له بالإعراض وصم الآذان.
وإبطال مطاعن المشركين فيه وتذكيرهم بأن القرآن نزل بلغتهم فلا عذر لهم أصلا في عدم انتفاعهم بهديه.
وزجر المشركين وتوبيخهم على كفرهم بخالق السماوات والأرض مع بيان ما في خلقها من الدلائل على تفرده بالإلهية.
وإنذارهم بما حل بالأمم المكذبة من عذاب الدنيا.
ووعيدهم بعذاب الآخرة وشهادة سمعهم وأبصارهم وأجسادهم عليهم.
وتحذيرهم من القرناء المزينين لهم الكفر من الشياطين والناس وأنهم سيندمون يوم القيامة على اتباعهم في الدنيا.
وقوبل ذلك بما للموحدين من الكرامة عند الله.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفعهم بالتي هي أحسن وبالصبر على جفوتهم وأن يستعيذ بالله من الشيطان.
وذكرت دلائل تفرد الله بخلق المخلوقات العظيمة كالشمس والقمر.
ودلائل إمكان البعث وأنه واقع لا محالة ولا يعلم وقته إلا الله تعالى.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بتأييد الله إياهم بتنزل الملائكة بالوحي، وبالبشارة للمؤمنين.
وتخلل ذلك أمثال مختلفة في ابتداء خلق العوالم وعبر في تقلبات أهل الشرك. والتنويه بإيتاء الزكاة.
وسميت هذه السورة في كثير من التفاسير ﴿ سورة السجدة ﴾، وهو اختصار قولهم ﴿ حم السجدة ﴾ وليس تمييزا لها بذات السجدة.
وسميت هذه السور في كثير من التفاسير ﴿ سورة فصلت ﴾.
واشتهرت تسميتها في تونس والمغرب ﴿ سورة فصلت ﴾ لوقوع كلمة ﴿ فصلت آياته ﴾ في أولها فعرفت بها تمييزا لها من السور المفتتحة بحروف ﴿ حم ﴾. كما تميزت ﴿ سورة المؤمن ﴾ باسم ﴿ سورة غافر ﴾ عن بقية السور المفتتحة بحروف ﴿ حم ﴾.
وقال الكواشي : وتسمى ﴿ سورة المصابيح ﴾ لقوله تعالى فيها ﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ﴾، وتسمى ﴿ سورة الأقوات ﴾ لقوله تعالى ﴿ وقدر فيها أقواتها ﴾.
وقال الكواشي في التبصيرة : تسمى ﴿ سجدة المؤمن ﴾ ووجه هذه التسمية قصد تمييزها عن سورة ﴿ الم السجدة ﴾ المسماة ﴿ سورة المضاجع ﴾ فأضافوا هذه إلى السورة التي قبلها وهي ﴿ سورة المؤمن ﴾، كما ميزوا ﴿ سورة المضاجع ﴾ باسم ﴿ سجدة لقمان ﴾ لأنها واقعة بعد ﴿ سورة لقمان ﴾.
وهي مكية بالاتفاق نزلت بعد ﴿ سورة غافر ﴾ وقبل ﴿ سورة الزخرف ﴾، وعدت الحادية والستين في ترتيب نزول السور.
وعدت آيها عند المدينة وأهل مكة ثلاثا وخمسين، وعند أهل الشام والبصرة اثنتين وخمسين، وعند أهل الكوفة أربع وخمسين.
أغراضها
التنويه بالقرآن والإشارة إلى عجزهم عن معارضته.
وذكر هديه، وأنه معصوم من أن يتطرقه الباطل، وتأييده بما أنول إلى الرسل من قبل الإسلام.
وتلقى المشركين له بالإعراض وصم الآذان.
وإبطال مطاعن المشركين فيه وتذكيرهم بأن القرآن نزل بلغتهم فلا عذر لهم أصلا في عدم انتفاعهم بهديه.
وزجر المشركين وتوبيخهم على كفرهم بخالق السماوات والأرض مع بيان ما في خلقها من الدلائل على تفرده بالإلهية.
وإنذارهم بما حل بالأمم المكذبة من عذاب الدنيا.
ووعيدهم بعذاب الآخرة وشهادة سمعهم وأبصارهم وأجسادهم عليهم.
وتحذيرهم من القرناء المزينين لهم الكفر من الشياطين والناس وأنهم سيندمون يوم القيامة على اتباعهم في الدنيا.
وقوبل ذلك بما للموحدين من الكرامة عند الله.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفعهم بالتي هي أحسن وبالصبر على جفوتهم وأن يستعيذ بالله من الشيطان.
وذكرت دلائل تفرد الله بخلق المخلوقات العظيمة كالشمس والقمر.
ودلائل إمكان البعث وأنه واقع لا محالة ولا يعلم وقته إلا الله تعالى.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بتأييد الله إياهم بتنزل الملائكة بالوحي، وبالبشارة للمؤمنين.
وتخلل ذلك أمثال مختلفة في ابتداء خلق العوالم وعبر في تقلبات أهل الشرك. والتنويه بإيتاء الزكاة.
١ - هو خليل بن مرة الضبعي ( بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة) البصري الرقي، روى عن عطاء وقتادة، وروى عنه الليث وابن وهب وأحمد بن حنبل. قال البخاري: هو منكر الحديث توفي سنة ستين ومائة..
٢ - المعروف هو حديث الترمذي عن جابر: " كان رسول الله لا ينام حتى يقرأ: آلم تنزيلـ وتبارك الذي بيده الملك" ولا منافاة بين الحديثين..
٢ - المعروف هو حديث الترمذي عن جابر: " كان رسول الله لا ينام حتى يقرأ: آلم تنزيلـ وتبارك الذي بيده الملك" ولا منافاة بين الحديثين..
ﰡ
وَقُوبِلَ ذَلِكَ بِمَا لِلْمُوَحِّدِينَ مِنَ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ.
وَأمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَفْعِهِمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَبِالصَّبْرِ عَلَى جَفْوَتِهِمْ وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَذَكَرَتْ دَلَائِلَ تَفَرُّدِ اللَّهَ بِخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَدَلَائِلَ إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وتثبيت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِتَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ بِالْوَحْيِ، وَبِالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ أَمْثَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْعَوَالِمِ وَعِبَرٌ فِي تَقَلُّبَاتِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّنْوِيهُ بإيتاء الزَّكَاة.
[١]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١]
الْقَوْلُ فِي الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فَاتِحَةَ هَذِهِ السُّورَةِ كَالْقَوْلِ فِي الم.
[٢- ٤]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٢ إِلَى ٤]
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤)
افْتُتِحَ الْكَلَامُ بِاسْمٍ نَكِرَةٍ لِمَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ التَّعْظِيمِ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلٌ
مُبْتَدَأٌ سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فَكَانَتْ بِذَلِكَ كَالْمَوْصُوفَةِ وَقَوْلُهُ:
مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ خَبَرٌ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: كِتابٌ بَدَلٌ مِنْ تَنْزِيلٌ فَحَصَلَ مِنَ الْمَعْنَى:
أَنَّ التَّنْزِيلَ مِنَ اللَّهِ كِتَابٌ، وَأَنَّ صِفَتَهُ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ، مَوْسُومًا بِكَوْنِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّ الْقُرْآنَ منزّل من الرحمان الرَّحِيمِ مُفَصَّلًا عَرَبِيًّا.
وَأمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَفْعِهِمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَبِالصَّبْرِ عَلَى جَفْوَتِهِمْ وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَذَكَرَتْ دَلَائِلَ تَفَرُّدِ اللَّهَ بِخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَدَلَائِلَ إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وتثبيت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِتَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ بِالْوَحْيِ، وَبِالْبِشَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ أَمْثَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْعَوَالِمِ وَعِبَرٌ فِي تَقَلُّبَاتِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّنْوِيهُ بإيتاء الزَّكَاة.
[١]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١)الْقَوْلُ فِي الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فَاتِحَةَ هَذِهِ السُّورَةِ كَالْقَوْلِ فِي الم.
[٢- ٤]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٢ إِلَى ٤]
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤)
افْتُتِحَ الْكَلَامُ بِاسْمٍ نَكِرَةٍ لِمَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ التَّعْظِيمِ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلٌ
مُبْتَدَأٌ سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِهِ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فَكَانَتْ بِذَلِكَ كَالْمَوْصُوفَةِ وَقَوْلُهُ:
مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ خَبَرٌ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: كِتابٌ بَدَلٌ مِنْ تَنْزِيلٌ فَحَصَلَ مِنَ الْمَعْنَى:
أَنَّ التَّنْزِيلَ مِنَ اللَّهِ كِتَابٌ، وَأَنَّ صِفَتَهُ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ، مَوْسُومًا بِكَوْنِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الْأُسْلُوبِ أَنَّ الْقُرْآنَ منزّل من الرحمان الرَّحِيمِ مُفَصَّلًا عَرَبِيًّا.
229
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ: مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْمُبْتَدَأِ وَتَجْعَلَ قَوْلَهُ: كِتابٌ خَبَرَ الْمُبْتَدَأ، وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ هُوَ أُسْلُوبٌ فَخْمٌ وَقَدْ مَضَى مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: ١، ٢].
وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ مُنَزَّلٌ، فَالْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشُّعَرَاء: ١٩٢، ١٩٣] وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِهِ فَعَلَ اللَّهُ تَنْزِيلَهُ، تَحْقِيقًا لِكَوْنِهِ مُوحًى بِهِ وَلَيْسَ مَنْقُولًا مِنْ صُحُفِ الْأَوَّلِينَ. وَتَنْكِيرُ تَنْزِيلٌ وكِتابٌ لِإِفَادَةِ التَّعْظِيمِ.
وَالْكِتَابُ: اسْمٌ لِمَجْمُوعِ حُرُوفٍ دَالَّةٍ عَلَى أَلْفَاظٍ مُفِيدَةٍ وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ كِتَابًا لِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى بِأَلْفَاظِهِ وَأمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَكْتُبَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ اتخذ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتَّابًا يَكْتُبُونَ لَهُ كُلَّ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَإِيثَارُ الصِّفَتَيْنِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الصِّفَاتِ الْعَلِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّنْزِيلَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِعِبَادِهِ لِيُخْرِجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام: ١٥٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٧] وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:
٥١].
وَالْجَمْعُ بَيْنَ صِفَتَيِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مُتَعَلِّقَهَا مُنْتَشِرٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَالْبَسْمَلَةِ. وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى اسْتِحْمَاقِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهَذَا الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ رَحْمَةٍ، وَأَنَّ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ هُمْ أَهْلُ الْمَرْحَمَةِ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت: ٤٤].
وَمَعْنَى: فُصِّلَتْ آياتُهُ بُيِّنَتْ، وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ وَالْإِخْلَاءُ مِنَ الِالْتِبَاسِ.
وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ مُنَزَّلٌ، فَالْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشُّعَرَاء: ١٩٢، ١٩٣] وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي كَوْنِهِ فَعَلَ اللَّهُ تَنْزِيلَهُ، تَحْقِيقًا لِكَوْنِهِ مُوحًى بِهِ وَلَيْسَ مَنْقُولًا مِنْ صُحُفِ الْأَوَّلِينَ. وَتَنْكِيرُ تَنْزِيلٌ وكِتابٌ لِإِفَادَةِ التَّعْظِيمِ.
وَالْكِتَابُ: اسْمٌ لِمَجْمُوعِ حُرُوفٍ دَالَّةٍ عَلَى أَلْفَاظٍ مُفِيدَةٍ وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ كِتَابًا لِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى بِأَلْفَاظِهِ وَأمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَكْتُبَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ اتخذ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتَّابًا يَكْتُبُونَ لَهُ كُلَّ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَإِيثَارُ الصِّفَتَيْنِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الصِّفَاتِ الْعَلِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّنْزِيلَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِعِبَادِهِ لِيُخْرِجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام: ١٥٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٧] وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:
٥١].
وَالْجَمْعُ بَيْنَ صِفَتَيِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مُتَعَلِّقَهَا مُنْتَشِرٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَالْبَسْمَلَةِ. وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى اسْتِحْمَاقِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِهَذَا الْكِتَابِ بِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ رَحْمَةٍ، وَأَنَّ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ هُمْ أَهْلُ الْمَرْحَمَةِ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت: ٤٤].
وَمَعْنَى: فُصِّلَتْ آياتُهُ بُيِّنَتْ، وَالتَّفْصِيلُ: التَّبْيِينُ وَالْإِخْلَاءُ مِنَ الِالْتِبَاسِ.
230
وَالْمُرَادُ:
أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَاضِحَةُ الْأَغْرَاضِ لَا تَلْتَبِسُ إِلَّا عَلَى مُكَابِرٍ فِي دَلَالَةِ كُلِّ آيَةٍ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَفِي مَوَاقِعِهَا وَتَمْيِيزِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فِي الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِ فُنُونِ الْمَعَانِي الَّتِي تَشْتَمِلُ
عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي طَالِعَةِ سُورَةِ هُودٍ.
وَمِنْ كَمَالِ تَفْصِيلِهِ أَنَّهُ كَانَ بِلُغَةٍ كَثِيرَةِ الْمَعَانِي، وَاسِعَةِ الْأَفْنَانِ، فَصِيحَةِ الْأَلْفَاظِ، فَكَانَتْ سَالِمَةً مِنَ الْتِبَاسِ الدَّلَالَةِ، وَانْغِلَاقِ الْأَلْفَاظِ، مَعَ وَفْرَةِ الْمَعَانِي غَيْرِ الْمُتَنَافِيَةِ فِي قِلَّةِ التَّرَاكِيبِ، فَكَانَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالتَّفْصِيلِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ كَقَوْلِهِ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: ١٩٥] وَلِهَذَا فُرِّعَ عَلَيْهِ ذَمُّ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِ هُنَا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَوْلُهُ هُنَالِكَ: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [الشُّعَرَاء:
٢٠٠، ٢٠١].
وَالْقُرْآنُ: الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ الْمَتْلُوُّ. وَكَوْنُهُ قُرْآنًا مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ سَهْلُ الْحِفْظِ، سَهْلُ التِّلَاوَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [الْقَمَر: ٢٢] وَلِذَلِكَ كَانَ شَأْن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِفْظَ الْقُرْآنِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَكَانَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ فِي ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْهِمَمِ وَالْمُكْنَاتِ، وَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ إِلَى تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ. وَكَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يُقَدِّمُ فِي لَحْدِ شُهَدَائِهِ مَنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ تَنْبِيهًا عَلَى فَضْلِ حِفْظِ الْقُرْآنِ زِيَادَةً عَلَى فَضْلِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ.
وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَلَى النَّعْتِ الْمَقْطُوعِ لِلِاخْتِصَاصِ بِالْمَدْحِ وَإِلَّا لَكَانَ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَالِثٌ أَوْ صِفَةٌ لِلْخَبَرِ الثَّانِي، فَقَوْلُهُ: قُرْآناً مَقْصُودٌ بِالذِّكْرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ عَرَبِيٌّ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٩٥] بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ.
وَقَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ صِفَةٌ لِ قُرْآناً ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، أَيْ كَائِنًا لِقَوْمٍ
أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَاضِحَةُ الْأَغْرَاضِ لَا تَلْتَبِسُ إِلَّا عَلَى مُكَابِرٍ فِي دَلَالَةِ كُلِّ آيَةٍ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَفِي مَوَاقِعِهَا وَتَمْيِيزِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فِي الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِ فُنُونِ الْمَعَانِي الَّتِي تَشْتَمِلُ
عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي طَالِعَةِ سُورَةِ هُودٍ.
وَمِنْ كَمَالِ تَفْصِيلِهِ أَنَّهُ كَانَ بِلُغَةٍ كَثِيرَةِ الْمَعَانِي، وَاسِعَةِ الْأَفْنَانِ، فَصِيحَةِ الْأَلْفَاظِ، فَكَانَتْ سَالِمَةً مِنَ الْتِبَاسِ الدَّلَالَةِ، وَانْغِلَاقِ الْأَلْفَاظِ، مَعَ وَفْرَةِ الْمَعَانِي غَيْرِ الْمُتَنَافِيَةِ فِي قِلَّةِ التَّرَاكِيبِ، فَكَانَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالتَّفْصِيلِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ كَقَوْلِهِ: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: ١٩٥] وَلِهَذَا فُرِّعَ عَلَيْهِ ذَمُّ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِ هُنَا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَوْلُهُ هُنَالِكَ: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [الشُّعَرَاء:
٢٠٠، ٢٠١].
وَالْقُرْآنُ: الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ الْمَتْلُوُّ. وَكَوْنُهُ قُرْآنًا مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ سَهْلُ الْحِفْظِ، سَهْلُ التِّلَاوَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [الْقَمَر: ٢٢] وَلِذَلِكَ كَانَ شَأْن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِفْظَ الْقُرْآنِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَكَانَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ فِي ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْهِمَمِ وَالْمُكْنَاتِ، وَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ إِلَى تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ. وَكَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يُقَدِّمُ فِي لَحْدِ شُهَدَائِهِ مَنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ تَنْبِيهًا عَلَى فَضْلِ حِفْظِ الْقُرْآنِ زِيَادَةً عَلَى فَضْلِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ.
وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَلَى النَّعْتِ الْمَقْطُوعِ لِلِاخْتِصَاصِ بِالْمَدْحِ وَإِلَّا لَكَانَ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَالِثٌ أَوْ صِفَةٌ لِلْخَبَرِ الثَّانِي، فَقَوْلُهُ: قُرْآناً مَقْصُودٌ بِالذِّكْرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ عَرَبِيٌّ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٩٥] بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ.
وَقَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ صِفَةٌ لِ قُرْآناً ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، أَيْ كَائِنًا لِقَوْمٍ
231
يَعْلَمُونَ بِاعْتِبَارِ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ: قُرْآناً عَرَبِيًّا مِنْ مَعْنَى وُضُوحِ الدَّلَالَةِ وَسُطُوعِ الْحُجَّةِ، أَوْ يَتَعَلَّقُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بِقَوْلِهِ: تَنْزِيلٌ أَوْ بِقَوْلِهِ: فُصِّلَتْ آياتُهُ على معنى أَن فَوَائِدِ تَنْزِيلِهِ وَتَفْصِيلِهِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُنْزَلْ إِلَّا لَهُمْ، أَيْ فَلَا بِدْعَ إِذَا أَعْرَضَ عَنْ فَهْمِهِ الْمُعَانِدُونَ فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يُونُس: ١٠١] وَقَوْلُهُ: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣] وَقَوْلُهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يُوسُف: ٢] وَقَوْلُهُ: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: ٤٩].
وَالْبَشِيرُ: اسْمٌ لِلْمُبَشِّرِ وَهُوَ الْمُخْبِرُ بِخَبَرٍ يَسُرُّ الْمُخْبَرَ. وَالنَّذِيرُ: الْمُخْبِرُ بِأَمْرٍ مُخَوِّفٍ، شَبَّهَ الْقُرْآنَ بِالْبَشِيرِ فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَشِّرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَبِالنَّذِيرِ فِيمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لِلْكَافِرِينَ وَأَهْلِ الْمَعَاصِي، فَالْكَلَامُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَلَيْسَ: بَشِيراً أَوْ نَذِيراً اسْمَيْ فَاعِلٍ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَقِيلَ: مُبَشِّرًا وَمُنْذِرًا.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ: بَشِيراً ونَذِيراً مِنْ قَبِيلِ محسن الطّباق. وانتصب بَشِيراً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنْ كِتابٌ أَوْ صِفَةٌ لِ قُرْآناً، وَصِفَةُ الْحَالِ فِي مَعْنَى الْحَالِ، فَالْأَوْلَى كَوْنُهُ حَالًا ثَانِيَةً.
وَجِيءَ بِقَوْلِهِ: نَذِيراً مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ مَوْقِعِ كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ فَهُوَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ وَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَنَذِيرٌ لِآخَرِينَ، وَهُمُ الْمُعْرِضُونَ عَنْهُ، وَلَيْسَ هُوَ جَامِعًا بَيْنَ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ لِطَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْوَاوُ هُنَا كَالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّحْرِيم: ٥] بَعْدَ قَوْلِهِ: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ [التَّحْرِيم: ٥].
وَتَفْرِيعُ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ. وَضَمِيرُ أَكْثَرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَالْمَعْنَى:
فَأَعْرَضَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ عَمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْهُدَى فَلَمْ يَهْتَدُوا، وَمِنَ الْبِشَارَةِ فَلَمْ يُعْنَوْا بِهَا، وَمِنَ النِّذَارَةِ فَلَمْ يَحْذَرُوهَا، فَكَانُوا فِي أَشَدِّ الْحَمَاقَةِ، إِذْ لَمْ
وَالْبَشِيرُ: اسْمٌ لِلْمُبَشِّرِ وَهُوَ الْمُخْبِرُ بِخَبَرٍ يَسُرُّ الْمُخْبَرَ. وَالنَّذِيرُ: الْمُخْبِرُ بِأَمْرٍ مُخَوِّفٍ، شَبَّهَ الْقُرْآنَ بِالْبَشِيرِ فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَشِّرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَبِالنَّذِيرِ فِيمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لِلْكَافِرِينَ وَأَهْلِ الْمَعَاصِي، فَالْكَلَامُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَلَيْسَ: بَشِيراً أَوْ نَذِيراً اسْمَيْ فَاعِلٍ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَقِيلَ: مُبَشِّرًا وَمُنْذِرًا.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ: بَشِيراً ونَذِيراً مِنْ قَبِيلِ محسن الطّباق. وانتصب بَشِيراً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ ثَانِيَةٌ مِنْ كِتابٌ أَوْ صِفَةٌ لِ قُرْآناً، وَصِفَةُ الْحَالِ فِي مَعْنَى الْحَالِ، فَالْأَوْلَى كَوْنُهُ حَالًا ثَانِيَةً.
وَجِيءَ بِقَوْلِهِ: نَذِيراً مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ مَوْقِعِ كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ فَهُوَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ وَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَنَذِيرٌ لِآخَرِينَ، وَهُمُ الْمُعْرِضُونَ عَنْهُ، وَلَيْسَ هُوَ جَامِعًا بَيْنَ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ لِطَائِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْوَاوُ هُنَا كَالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّحْرِيم: ٥] بَعْدَ قَوْلِهِ: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ [التَّحْرِيم: ٥].
وَتَفْرِيعُ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ. وَضَمِيرُ أَكْثَرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَالْمَعْنَى:
فَأَعْرَضَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ عَمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْهُدَى فَلَمْ يَهْتَدُوا، وَمِنَ الْبِشَارَةِ فَلَمْ يُعْنَوْا بِهَا، وَمِنَ النِّذَارَةِ فَلَمْ يَحْذَرُوهَا، فَكَانُوا فِي أَشَدِّ الْحَمَاقَةِ، إِذْ لَمْ
232
يُعْنَوْا بِخَيْرٍ، وَلَا حَذِرُوا الشَّرَّ، فَلَمْ يَأْخُذُوا بِالْحِيطَةِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَيْسَ عَائِدًا لقوم يَعْلَمُونَ لِأَنَّ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ لَا يُعْرِضُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى الْإِعْرَاضِ، أَيْ فَهُمْ لَا يُلْقُونَ أَسْمَاعَهُمْ لِلْقُرْآنِ فَضْلًا عَنْ تَدَبُّرِهِ، وَهَذَا إِجْمَالٌ لِإِعْرَاضِهِمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَلَا يَسْمَعُونَ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الحكم وتأكيده.
[٥]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٥]
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥)
عَطْفُ وَقالُوا على فَأَعْرَضَ [فصلت: ٤] أَوْ حَالٌ من أَكْثَرُهُمْ [فصلت:
٤] أَوْ عَطْفٌ عَلَى لَا يَسْمَعُونَ [فصلت: ٤]، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا مُصَرِّحِينَ بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ وَبِالِانْتِصَابِ لِلْجَفَاءِ وَالْعَدَاءِ. وَهَذَا تَفْصِيلٌ لِلْإِعْرَاضِ عَمَّا
وُصِفَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُقَرِّبَهُمْ إِلَى تَلَقِّيهِ لَا أَنْ يَبْعُدُوا وَيُعْرِضُوا وَقَدْ جَاءَ بِالتَّفْصِيلِ بِأَقْوَالِهِمُ الَّتِي حَرَمَتْهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ وَاحِدًا وَاحِدًا كَمَا سَتَعْلَمُهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْقُلُوبِ: الْعُقُولُ، حُكِيَ بِمُصْطَلَحِ كَلَامِهِمْ قَوْلُهُمْ إِذْ يُطْلِقُونَ الْقَلْبَ عَلَى الْعَقْلِ.
وَالْأَكِنَّةُ: جَمْعُ كِنَانٍ مِثْلُ: غِطَاءٍ وَأَغْطِيَةٍ وَزْنًا وَمَعْنًى، أُثْبِتَتْ لِقُلُوبِهِمْ أَغْطِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِ، وَشُبِّهَتِ الْقُلُوبُ بِالْأَشْيَاءِ الْمُغَطَّاةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ حَيْلُولَةُ وَصُولِ الدَّعْوَةِ إِلَى عُقُولِهِمْ كَمَا يَحُولُ الْغِطَاءُ وَالْغِلَافُ دُونَ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَهُ.
وَمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يَعُمُّ كُلَّ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْمَدْلُولَاتِ وَأَدِلَّتِهَا، وَمِنْهَا دَلَالَةُ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ وَمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ دَلَالَةِ أُميَّة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: ٤٨].
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى الْإِعْرَاضِ، أَيْ فَهُمْ لَا يُلْقُونَ أَسْمَاعَهُمْ لِلْقُرْآنِ فَضْلًا عَنْ تَدَبُّرِهِ، وَهَذَا إِجْمَالٌ لِإِعْرَاضِهِمْ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَلَا يَسْمَعُونَ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الحكم وتأكيده.
[٥]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٥]
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥)
عَطْفُ وَقالُوا على فَأَعْرَضَ [فصلت: ٤] أَوْ حَالٌ من أَكْثَرُهُمْ [فصلت:
٤] أَوْ عَطْفٌ عَلَى لَا يَسْمَعُونَ [فصلت: ٤]، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا مُصَرِّحِينَ بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ وَبِالِانْتِصَابِ لِلْجَفَاءِ وَالْعَدَاءِ. وَهَذَا تَفْصِيلٌ لِلْإِعْرَاضِ عَمَّا
وُصِفَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُقَرِّبَهُمْ إِلَى تَلَقِّيهِ لَا أَنْ يَبْعُدُوا وَيُعْرِضُوا وَقَدْ جَاءَ بِالتَّفْصِيلِ بِأَقْوَالِهِمُ الَّتِي حَرَمَتْهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْقُرْآنِ وَاحِدًا وَاحِدًا كَمَا سَتَعْلَمُهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْقُلُوبِ: الْعُقُولُ، حُكِيَ بِمُصْطَلَحِ كَلَامِهِمْ قَوْلُهُمْ إِذْ يُطْلِقُونَ الْقَلْبَ عَلَى الْعَقْلِ.
وَالْأَكِنَّةُ: جَمْعُ كِنَانٍ مِثْلُ: غِطَاءٍ وَأَغْطِيَةٍ وَزْنًا وَمَعْنًى، أُثْبِتَتْ لِقُلُوبِهِمْ أَغْطِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِ، وَشُبِّهَتِ الْقُلُوبُ بِالْأَشْيَاءِ الْمُغَطَّاةِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ حَيْلُولَةُ وَصُولِ الدَّعْوَةِ إِلَى عُقُولِهِمْ كَمَا يَحُولُ الْغِطَاءُ وَالْغِلَافُ دُونَ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَهُ.
وَمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يَعُمُّ كُلَّ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْمَدْلُولَاتِ وَأَدِلَّتِهَا، وَمِنْهَا دَلَالَةُ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ وَمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ دَلَالَةِ أُميَّة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: ٤٨].
233
وَجُعِلَتِ الْقُلُوبُ فِي أَكِنَّةٍ لِإِفَادَةِ حَرْفٍ فِي مَعْنَى إِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ.
وَكَذَلِكَ جُعِلَ الْوَقْرُ فِي الْقُلُوبِ لِإِفَادَةِ تَغَلْغُلِهِ فِي إدراكهم.
و (من) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ بِمَعْنَى (عَنْ) مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: ٢٢] وَقَوْلِهِ: قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [الْأَنْبِيَاء: ٩٧]، وَالْمَعْنَى: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ فَهِيَ بَعِيدَةٌ عَمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ لَا يَنْفُذُ إِلَيْهَا.
وَالْوَقْرُ بِفَتْحِ الْوَاوِ: ثِقَلُ السَّمْعِ وَهُوَ الصَّمَمُ، وَكَأَنَّ اللُّغَةَ أَخَذَتْهُ مِنَ الْوِقْرِ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَهُوَ الْحِمْلُ لِأَنَّهُ يُثْقِلُ الدَّابَّةَ عَنِ التَّحَرُّكِ، فَأَطْلَقُوهُ عَلَى عَدَمِ تَحَرُّكِ السَّمْعِ عِنْدَ قَرْعِ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ فَفَتَحُوا لَهُ الْوَاوَ تَفْرِقَةً بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْعَضِّ الْحَقِيقِيِّ وَعَظِّ الدَّهْرِ بِأَنْ صَيَّرُوا ضَادَهُ ظَاءً. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَكِنَّةِ وَالْوَقْرِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً فِي الْأَنْعَامِ [٢٥] وَفِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٤٦].
وَالْحِجَابُ: السَّاتِرُ لِلْمَرْئِيِّ مِنْ حَائِطٍ أَوْ ثَوْبٍ. أَطْلَقُوا اسْمَ الْحِجَابِ عَلَى مَا يَمْنَعُ نُفُوسَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِالدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَرَاهِيَةِ دِينِهِ وَتَجَافِي تَقَلُّدِهِ بِجَامِعِ أَنَّ الْحِجَابَ يَحُولُ بَيْنَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ فَلَا يَنْظُرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ، وَمُرَادُهُمُ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ. مَثَّلَ نُبُوَّ قُلُوبِهِمْ عَنْ تَقَبُّلِ الْإِسْلَامِ وَاعْتِقَادِهِ بِحَالِ مَا هُوَ فِي أَكِنَّةٍ، وَعَدَمَ تَأَثُّرِ أَسْمَاعِهِمْ بِدَعْوَتِهِ بِصُمِّ الْآذَانِ، وَعَدَمَ التَّقَارُبِ بَيْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ بِالْحِجَابِ
الْمَمْدُودِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَلَا تَلَاقِيَ وَلَا تَرَائِيَ.
وَقَدْ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ فِي التَّمْثِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
وَاجْتِلَابُ حَرْفِ مِنْ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ لِتَقْوِيَةِ مَعْنَى الْحِجَابِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَتَمَكُّنِ لَازِمِهِ الَّذِي هُوَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ الَّتِي بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ لِأَنَّ مِنْ هَذِهِ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ.
وَكَذَلِكَ جُعِلَ الْوَقْرُ فِي الْقُلُوبِ لِإِفَادَةِ تَغَلْغُلِهِ فِي إدراكهم.
و (من) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ بِمَعْنَى (عَنْ) مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: ٢٢] وَقَوْلِهِ: قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [الْأَنْبِيَاء: ٩٧]، وَالْمَعْنَى: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ فَهِيَ بَعِيدَةٌ عَمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ لَا يَنْفُذُ إِلَيْهَا.
وَالْوَقْرُ بِفَتْحِ الْوَاوِ: ثِقَلُ السَّمْعِ وَهُوَ الصَّمَمُ، وَكَأَنَّ اللُّغَةَ أَخَذَتْهُ مِنَ الْوِقْرِ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَهُوَ الْحِمْلُ لِأَنَّهُ يُثْقِلُ الدَّابَّةَ عَنِ التَّحَرُّكِ، فَأَطْلَقُوهُ عَلَى عَدَمِ تَحَرُّكِ السَّمْعِ عِنْدَ قَرْعِ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ، وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ فَفَتَحُوا لَهُ الْوَاوَ تَفْرِقَةً بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْعَضِّ الْحَقِيقِيِّ وَعَظِّ الدَّهْرِ بِأَنْ صَيَّرُوا ضَادَهُ ظَاءً. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَكِنَّةِ وَالْوَقْرِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً فِي الْأَنْعَامِ [٢٥] وَفِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٤٦].
وَالْحِجَابُ: السَّاتِرُ لِلْمَرْئِيِّ مِنْ حَائِطٍ أَوْ ثَوْبٍ. أَطْلَقُوا اسْمَ الْحِجَابِ عَلَى مَا يَمْنَعُ نُفُوسَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِالدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَرَاهِيَةِ دِينِهِ وَتَجَافِي تَقَلُّدِهِ بِجَامِعِ أَنَّ الْحِجَابَ يَحُولُ بَيْنَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ فَلَا يَنْظُرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ، وَمُرَادُهُمُ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ. مَثَّلَ نُبُوَّ قُلُوبِهِمْ عَنْ تَقَبُّلِ الْإِسْلَامِ وَاعْتِقَادِهِ بِحَالِ مَا هُوَ فِي أَكِنَّةٍ، وَعَدَمَ تَأَثُّرِ أَسْمَاعِهِمْ بِدَعْوَتِهِ بِصُمِّ الْآذَانِ، وَعَدَمَ التَّقَارُبِ بَيْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ بِالْحِجَابِ
الْمَمْدُودِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَلَا تَلَاقِيَ وَلَا تَرَائِيَ.
وَقَدْ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ فِي التَّمْثِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
وَاجْتِلَابُ حَرْفِ مِنْ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ لِتَقْوِيَةِ مَعْنَى الْحِجَابِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَتَمَكُّنِ لَازِمِهِ الَّذِي هُوَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ الَّتِي بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ لِأَنَّ مِنْ هَذِهِ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ.
234
وَضَمِيرُ بَيْنِنا عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضمير أَكْثَرُهُمْ [فصلت: ٤].
وَعَطْفُ وَبَيْنِكَ تَأْكِيدٌ لِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ مُغْنِيَةٌ عَنْهُ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ (بَيْنَ) أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ مِثْلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف: ٣٨].
وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ (مِنْ) الدَّاخِلَةَ عَلَى (قَبْلُ) وَ (بَعْدُ) زَائِدَةً فَيَكُونُ (بَيْنَ) مَقِيسًا عَلَى (قَبْلُ) وَ (بَعْدُ) لِأَنَّ الْجَمِيعَ ظُرُوفٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِ قالُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ حَكَاهُ عَنْهُمْ بِالْمَعْنَى، فَجَمَعَ الْقُرْآنُ بِإِيجَازِهِ وَبَلَاغَتِهِ مَا أَطَالُوا بِهِ الْجِدَالَ وَأَطْنَبُوا فِي اللَّجَاجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَكَاهُ بِلَفْظِهِمْ فَيَكُونُ مِمَّا قَالَه أحد بلغائهم فِي مَجَامِعِهِمُ الَّتِي جَمَعَتْ بَيْنَهُمْ وَبَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَا فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ قَالُوهُ اسْتِهْزَاءً وَأَنَّ اللَّهَ حَكَاهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا تَلَقَّفُوهُ مِمَّا سَمِعُوهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَصْفِ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَتَبَاعُدِهِمْ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٤٦]، فَإِنَّ سُورَةَ الْإِسْرَاءِ مَعْدُودَةٌ فِي النُّزُولِ قَبْلَ سُورَةِ فُصِّلَتْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٤٥] أَيْضًا، فَجَمَعُوا ذَلِكَ وَجَادَلُوا بِهِ الرَّسُولَ. فَيَكُونُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْبَلَاغَةِ قَدِ اقْتَبَسُوهُ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى. قِيلَ: إِنَّ قَائِلَهُ أَبُو جَهْلٍ فِي مَجْمَعٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلِذَلِكَ أَسْنَدَ الْقَوْلَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّهُمْ مُشَائِعُونَ لَهُ.
وَقَدْ جَاءَ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِهِمْ مَا فِيهِ تَفْصِيلُ مَا يُقَابِلُ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ وَهِيَ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [فصلت: ٢، ٣]، فَإِنَّ كَوْنَهُ تَنْزِيلا من الرحمان الرَّحِيمِ يَسْتَدْعِي تَفَهُّمَهُ وَالِانْتِفَاعَ بِمَا فِيهِ، فَقُوبِلَ بِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَكَوْنُهُ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ يَسْتَدْعِي تَلَقِّيَهَا وَالِاسْتِمَاعَ إِلَيْهَا فَقُوبِلَ بِقَوْلِهِمْ:
فِي آذانِنا وَقْرٌ، أَيْ فَلَا نَسْمَعُ تَفْصِيلَهُ، وَكَوْنُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا أَشَدُّ إِلْزَامًا لَهُمْ بِفَهْمِهِ فَقُوبِلَ ذَلِكَ بِمَا يَقْطَعُ هَذِهِ الْحُجَّةَ
وَعَطْفُ وَبَيْنِكَ تَأْكِيدٌ لِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ مُغْنِيَةٌ عَنْهُ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ (بَيْنَ) أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ مِثْلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف: ٣٨].
وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ (مِنْ) الدَّاخِلَةَ عَلَى (قَبْلُ) وَ (بَعْدُ) زَائِدَةً فَيَكُونُ (بَيْنَ) مَقِيسًا عَلَى (قَبْلُ) وَ (بَعْدُ) لِأَنَّ الْجَمِيعَ ظُرُوفٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِ قالُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ حَكَاهُ عَنْهُمْ بِالْمَعْنَى، فَجَمَعَ الْقُرْآنُ بِإِيجَازِهِ وَبَلَاغَتِهِ مَا أَطَالُوا بِهِ الْجِدَالَ وَأَطْنَبُوا فِي اللَّجَاجِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَكَاهُ بِلَفْظِهِمْ فَيَكُونُ مِمَّا قَالَه أحد بلغائهم فِي مَجَامِعِهِمُ الَّتِي جَمَعَتْ بَيْنَهُمْ وَبَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَا فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ قَالُوهُ اسْتِهْزَاءً وَأَنَّ اللَّهَ حَكَاهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا تَلَقَّفُوهُ مِمَّا سَمِعُوهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَصْفِ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَتَبَاعُدِهِمْ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٤٦]، فَإِنَّ سُورَةَ الْإِسْرَاءِ مَعْدُودَةٌ فِي النُّزُولِ قَبْلَ سُورَةِ فُصِّلَتْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٤٥] أَيْضًا، فَجَمَعُوا ذَلِكَ وَجَادَلُوا بِهِ الرَّسُولَ. فَيَكُونُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْبَلَاغَةِ قَدِ اقْتَبَسُوهُ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى. قِيلَ: إِنَّ قَائِلَهُ أَبُو جَهْلٍ فِي مَجْمَعٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلِذَلِكَ أَسْنَدَ الْقَوْلَ إِلَيْهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّهُمْ مُشَائِعُونَ لَهُ.
وَقَدْ جَاءَ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِهِمْ مَا فِيهِ تَفْصِيلُ مَا يُقَابِلُ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ وَهِيَ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [فصلت: ٢، ٣]، فَإِنَّ كَوْنَهُ تَنْزِيلا من الرحمان الرَّحِيمِ يَسْتَدْعِي تَفَهُّمَهُ وَالِانْتِفَاعَ بِمَا فِيهِ، فَقُوبِلَ بِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَكَوْنُهُ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ يَسْتَدْعِي تَلَقِّيَهَا وَالِاسْتِمَاعَ إِلَيْهَا فَقُوبِلَ بِقَوْلِهِمْ:
فِي آذانِنا وَقْرٌ، أَيْ فَلَا نَسْمَعُ تَفْصِيلَهُ، وَكَوْنُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا أَشَدُّ إِلْزَامًا لَهُمْ بِفَهْمِهِ فَقُوبِلَ ذَلِكَ بِمَا يَقْطَعُ هَذِهِ الْحُجَّةَ
235
وَهُوَ مِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ أَيْ فَلَا يَصِلُ كَلَامُهُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَتَطَرَّقُ جَانِبَهُمْ، فَهَذِهِ تَفَاصِيلُ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ صِفَاتِ الْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُمْ: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى تَأْيِيسِهِمُ الرَّسُولَ مِنْ قَبُولِهِمْ دَعْوَتَهُ وَجَعَلَ قَوْلَهُمْ هَذَا مُقَابِلَ وَصْفِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ لِظُهُورِ أَنَّهُ تَعَيَّنَ كَوْنُهُ نَذِيرًا لَهُمْ بِعَذَابٍ عَظِيمٍ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا فَحُكِيَ مَا فِيهِ تَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّهُم لَا يعبأون بِنِذَارَتِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَذًى فَلْيُؤْذِهِمْ بِهِ وَهَذَا كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ».
وَحَذَفَ مَفْعُولَا (اعْمَلْ) وعامِلُونَ لِيَعُمَّ كُلَّ مَا يُمْكِنُ عَمَلُهُ كُلٌّ مَعَ الْآخَرِ مَا يُنَاسِبُهُ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْمَلْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْوِيَة كَقَوْلِه عَنْتَرَةَ بْنِ الْأَخْرَسِ الْمَعْنِيِّ:
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت: ٤٠].
وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّنا عامِلُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ.
[٦، ٧]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٦ الى ٧]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧)
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ.
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ هُوَ تلقين الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ قَوْلَهُمْ: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت: ٥] الْمُفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: ٥] إِلَى آخِرِهِ جَوَابُ الْمُتَبَرِّئِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَوْلٌ وَقُوَّةٌ لِيَعْمَلَ فِي إِلْجَائِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ لِمَا أَبَوْهُ إِذْ مَا هُوَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُهُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ لَا حَوْلَ لَهُ عَلَى تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ الضَّالَّةِ، إِلَى الْهُدَى، وَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ. وَهَذَا الْخَبَرُ يُفِيدُ كِنَايَةً عَنْ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ فِي الْعَمَلِ
وَقَوْلُهُمْ: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى تَأْيِيسِهِمُ الرَّسُولَ مِنْ قَبُولِهِمْ دَعْوَتَهُ وَجَعَلَ قَوْلَهُمْ هَذَا مُقَابِلَ وَصْفِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ لِظُهُورِ أَنَّهُ تَعَيَّنَ كَوْنُهُ نَذِيرًا لَهُمْ بِعَذَابٍ عَظِيمٍ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا فَحُكِيَ مَا فِيهِ تَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّهُم لَا يعبأون بِنِذَارَتِهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَذًى فَلْيُؤْذِهِمْ بِهِ وَهَذَا كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ».
وَحَذَفَ مَفْعُولَا (اعْمَلْ) وعامِلُونَ لِيَعُمَّ كُلَّ مَا يُمْكِنُ عَمَلُهُ كُلٌّ مَعَ الْآخَرِ مَا يُنَاسِبُهُ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْمَلْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْوِيَة كَقَوْلِه عَنْتَرَةَ بْنِ الْأَخْرَسِ الْمَعْنِيِّ:
أَطِلْ حَمْلَ الشَّنَاءَةِ لِي وَبُغْضِي | وَعِشْ مَا شِئْتَ فَانْظُرْ مَنْ تُضِيرُ |
وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّنا عامِلُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهْدِيدِ.
[٦، ٧]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٦ الى ٧]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧)
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ.
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ هُوَ تلقين الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ قَوْلَهُمْ: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت: ٥] الْمُفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: ٥] إِلَى آخِرِهِ جَوَابُ الْمُتَبَرِّئِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَوْلٌ وَقُوَّةٌ لِيَعْمَلَ فِي إِلْجَائِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ لِمَا أَبَوْهُ إِذْ مَا هُوَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُهُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ لَا حَوْلَ لَهُ عَلَى تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ الضَّالَّةِ، إِلَى الْهُدَى، وَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ. وَهَذَا الْخَبَرُ يُفِيدُ كِنَايَةً عَنْ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ فِي الْعَمَلِ
236
بِجَزَائِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَمَاذَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَعْمَلَ مَعَكُمْ فَإِنِّي رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ فَحِسَابُكُمْ عَلَى اللَّهِ.
فَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِي إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تُفِيدُ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ أَنَا مَقْصُورٌ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ دُونَ التَّصَرُّفِ فِي قُلُوبِ النَّاس. وبيّن مِمَّا تَمَيَّزَ بِهِ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَتَلَقَّفُوا قَوْلَهُ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَلَقُّفَ مَنْ حَصَلَ عَلَى اعْتِرَافِ خَصْمِهِ بِنُهُوضِ حُجَّتِهِ بِمَا يُثْبِتُ الْفَارِقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَهُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ يُوحى إِلَيَّ وَذَلِكَ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ إِبْطَالَ زَعْمِهِمُ الْمَشْهُورِ الْمُكَرَّرِ أَنَّ كَوْنَهُ بَشَرًا مَانِعٌ مِنْ إِرْسَالِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لقَولهم:
مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً
[الْفرْقَان: ٧]، وَنَحْوَهُ مِمَّا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ. وَمِثْلُ هَذَا الِاحْتِرَاسِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ لِرُسُلِهِمْ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [إِبْرَاهِيم: ١٠، ١١].
وَحِرْصًا عَلَى إِبْلَاغِ الْإِرْشَادِ إِلَيْهِمْ بَيَّنَ لَهُ مَا يُوحَى إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ إِعَادَةً لِمَا أَبْلَغَهُمْ إِيَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، شَأْنَ الْقَائِمِ بِهَدْيِ النَّاسِ أَنْ لَا يُغَادِرَ فُرْصَةً لِإِبْلَاغِهِمُ الْحَقَّ إِلَّا انْتَهَزَهَا. وَنَظِيرُهُ مَا جَاءَ فِي مُحَاوَرَةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشُّعَرَاء: ٢٣- ٢٨].
وإِنَّما مَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ أُخْتُ إِنَّما الْمَكْسُورَةِ وَإِنَّمَا تُفْتَحُ هَمْزَتُهَا إِذَا وَقَعَتْ مَعْمُولَةً لِمَا قَبْلَهَا وَلَمْ تَكُنْ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا تُفْتَحُ هَمْزَةُ (أَنَّ) وَتُكْسَرُ هَمْزَةُ (إِنَّ) لِأَنَّ إِنَّمَا أَوْ (أَنَّمَا) مُرَكَّبَانِ مِنْ (إِنَّ) أَوْ (أَنَّ) مَعَ (مَا) الْكَافَّةِ الزَّائِدَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى (مَا) وَ (إِلَّا) حَتَّى ذَهَبَ وَهَلُ بَعْضِهِمْ أَنَّ (مَا) الَّتِي مَعَهَا هِيَ النَّافِيَةُ اغْتِرَارًا بِأَنَّ مَعْنَى الْقَصْرِ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ لِلْمَذْكُورِ وَنَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ مِثْلَ (مَا) وَ (إِلَّا) وَلَا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ فِي كَوْنِ أَنَّمَا الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ مُفِيدَةً الْقَصْرَ
فَصِيغَةُ الْقَصْرِ فِي إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تُفِيدُ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ أَنَا مَقْصُورٌ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ دُونَ التَّصَرُّفِ فِي قُلُوبِ النَّاس. وبيّن مِمَّا تَمَيَّزَ بِهِ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَتَلَقَّفُوا قَوْلَهُ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَلَقُّفَ مَنْ حَصَلَ عَلَى اعْتِرَافِ خَصْمِهِ بِنُهُوضِ حُجَّتِهِ بِمَا يُثْبِتُ الْفَارِقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَهُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ يُوحى إِلَيَّ وَذَلِكَ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ إِبْطَالَ زَعْمِهِمُ الْمَشْهُورِ الْمُكَرَّرِ أَنَّ كَوْنَهُ بَشَرًا مَانِعٌ مِنْ إِرْسَالِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لقَولهم:
مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً
[الْفرْقَان: ٧]، وَنَحْوَهُ مِمَّا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ. وَمِثْلُ هَذَا الِاحْتِرَاسِ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ لِرُسُلِهِمْ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [إِبْرَاهِيم: ١٠، ١١].
وَحِرْصًا عَلَى إِبْلَاغِ الْإِرْشَادِ إِلَيْهِمْ بَيَّنَ لَهُ مَا يُوحَى إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ إِعَادَةً لِمَا أَبْلَغَهُمْ إِيَّاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، شَأْنَ الْقَائِمِ بِهَدْيِ النَّاسِ أَنْ لَا يُغَادِرَ فُرْصَةً لِإِبْلَاغِهِمُ الْحَقَّ إِلَّا انْتَهَزَهَا. وَنَظِيرُهُ مَا جَاءَ فِي مُحَاوَرَةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشُّعَرَاء: ٢٣- ٢٨].
وإِنَّما مَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ أُخْتُ إِنَّما الْمَكْسُورَةِ وَإِنَّمَا تُفْتَحُ هَمْزَتُهَا إِذَا وَقَعَتْ مَعْمُولَةً لِمَا قَبْلَهَا وَلَمْ تَكُنْ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا تُفْتَحُ هَمْزَةُ (أَنَّ) وَتُكْسَرُ هَمْزَةُ (إِنَّ) لِأَنَّ إِنَّمَا أَوْ (أَنَّمَا) مُرَكَّبَانِ مِنْ (إِنَّ) أَوْ (أَنَّ) مَعَ (مَا) الْكَافَّةِ الزَّائِدَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى (مَا) وَ (إِلَّا) حَتَّى ذَهَبَ وَهَلُ بَعْضِهِمْ أَنَّ (مَا) الَّتِي مَعَهَا هِيَ النَّافِيَةُ اغْتِرَارًا بِأَنَّ مَعْنَى الْقَصْرِ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ لِلْمَذْكُورِ وَنَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ مِثْلَ (مَا) وَ (إِلَّا) وَلَا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ فِي كَوْنِ أَنَّمَا الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ مُفِيدَةً الْقَصْرَ
237
مِثْلَ أُخْتِهَا الْمَكْسُورَةِ الْهُمَزَةِ وَبِذَلِكَ جَزَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا رَدَّهُ أَبُو حَيَّانَ عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ مُجَازَفَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [١٠٨].
فَقَوْلُهُ: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ إِدْمَاجٌ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ فِي خِلَالِ الْجَوَابِ حِرْصًا عَلَى الْهَدْيِ.
وَكَذَلِكَ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ فَإِنَّهُ إِتْمَامٌ لِذَلِكَ الْإِدْمَاجِ بِتَفْرِيعِ فَائِدَتِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ إِثْبَاتَ أَنَّ اللَّهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ إِنَّمَا يَقْصِدُ مِنْهُ إِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ وَنَبْذَ الشِّرْكِ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَوْجِيهِ ارْتِبَاطِ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ بِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: ٥] إِلَخْ.
وَمَوْقِعُ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أَنَّهُ نَائِبُ فَاعِلِ يُوحى إِلَيَّ، أَيْ يُوحَى إِلَيَّ مَعْنَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَهُوَ حَصْرُ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنَّهُ وَاحِدٌ، أَيْ دُونَ شَرِيكٍ.
وَمُمَاثَلَتُهُ لَهُمْ: الْمُمَاثَلَةُ فِي الْبَشَرِيَّةِ فَتُفِيدُ تَأْكِيدَ كَوْنِهِ بَشَرًا.
وَالِاسْتِقَامَةُ: كَوْنُ الشَّيْءِ قَوِيمًا، أَيْ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ وَتُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا خَالِصًا لَيْسَتْ فِيهِ شَائِبَةُ تَمْوِيهٍ وَلَا بَاطِلٍ. وَعَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ صَادِقًا فِي مُعَامَلَتِهِ أَوْ عَهْدِهِ غَيْرَ خَالِطٍ بِهِ شَيْئًا مِنَ الْحِيلَةِ أَوِ الْخِيَانَةِ، فَيُقَالُ: فُلَانٌ رَجُلٌ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ صَادِقُ الْخُلُقِ، وَإِنْ أُرِيدَ صِدْقُهُ مَعَ غَيْرِهِ يُقَالُ: اسْتَقَامَ لَهُ، أَيِ اسْتَقَامَ لِأَجْلِهِ، أَيْ لِأَجْلِ مُعَامَلَتِهِ مِنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التَّوْبَة: ٧] وَالِاسْتِقَامَةُ هُنَا بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى) لِأَنَّهَا كَثِيرًا مَا تُعَاقِبُ اللَّامَ، يُقَالُ: ذَهَبَتْ لَهُ وَذَهَبَتْ إِلَيْهِ، وَالْأَحْسَنُ أَنَّ إِيثَارَ (إِلَى) هُنَا لِتَضْمِينِ (اسْتَقِيمُوا) مَعْنَى: تَوَجَّهُوا، لِأَنَّ التَّوْحِيدَ تَوَجُّهٌ، أَيْ صَرْفُ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: ٧٩]، أَوْ ضُمِّنَ (اسْتَقِيمُوا) مَعْنَى: أَنِيبُوا، أَيْ تُوبُوا مِنَ الشِّرْكِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عَطْفُ وَاسْتَغْفِرُوهُ.
فَقَوْلُهُ: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ إِدْمَاجٌ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ فِي خِلَالِ الْجَوَابِ حِرْصًا عَلَى الْهَدْيِ.
وَكَذَلِكَ التَّفْرِيعُ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ فَإِنَّهُ إِتْمَامٌ لِذَلِكَ الْإِدْمَاجِ بِتَفْرِيعِ فَائِدَتِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ إِثْبَاتَ أَنَّ اللَّهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ إِنَّمَا يَقْصِدُ مِنْهُ إِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ وَنَبْذَ الشِّرْكِ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَوْجِيهِ ارْتِبَاطِ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ بِقَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: ٥] إِلَخْ.
وَمَوْقِعُ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أَنَّهُ نَائِبُ فَاعِلِ يُوحى إِلَيَّ، أَيْ يُوحَى إِلَيَّ مَعْنَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَهُوَ حَصْرُ صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنَّهُ وَاحِدٌ، أَيْ دُونَ شَرِيكٍ.
وَمُمَاثَلَتُهُ لَهُمْ: الْمُمَاثَلَةُ فِي الْبَشَرِيَّةِ فَتُفِيدُ تَأْكِيدَ كَوْنِهِ بَشَرًا.
وَالِاسْتِقَامَةُ: كَوْنُ الشَّيْءِ قَوِيمًا، أَيْ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ وَتُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا خَالِصًا لَيْسَتْ فِيهِ شَائِبَةُ تَمْوِيهٍ وَلَا بَاطِلٍ. وَعَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ صَادِقًا فِي مُعَامَلَتِهِ أَوْ عَهْدِهِ غَيْرَ خَالِطٍ بِهِ شَيْئًا مِنَ الْحِيلَةِ أَوِ الْخِيَانَةِ، فَيُقَالُ: فُلَانٌ رَجُلٌ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ صَادِقُ الْخُلُقِ، وَإِنْ أُرِيدَ صِدْقُهُ مَعَ غَيْرِهِ يُقَالُ: اسْتَقَامَ لَهُ، أَيِ اسْتَقَامَ لِأَجْلِهِ، أَيْ لِأَجْلِ مُعَامَلَتِهِ مِنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التَّوْبَة: ٧] وَالِاسْتِقَامَةُ هُنَا بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى) لِأَنَّهَا كَثِيرًا مَا تُعَاقِبُ اللَّامَ، يُقَالُ: ذَهَبَتْ لَهُ وَذَهَبَتْ إِلَيْهِ، وَالْأَحْسَنُ أَنَّ إِيثَارَ (إِلَى) هُنَا لِتَضْمِينِ (اسْتَقِيمُوا) مَعْنَى: تَوَجَّهُوا، لِأَنَّ التَّوْحِيدَ تَوَجُّهٌ، أَيْ صَرْفُ الْوَجْهِ إِلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا حُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: ٧٩]، أَوْ ضُمِّنَ (اسْتَقِيمُوا) مَعْنَى: أَنِيبُوا، أَيْ تُوبُوا مِنَ الشِّرْكِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عَطْفُ وَاسْتَغْفِرُوهُ.
238
وَالِاسْتِغْفَارُ: طَلَبُ الْعَفْوِ عَمَّا فَرَطَ مِنْ ذَنْبٍ أَوْ عِصْيَانٍ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْغَفْرِ وَهُوَ السَّتْرُ.
وَالْمَعْنَى: فَأَخْلِصُوا إِلَى اللَّهِ فِي عِبَادَتِهِ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ غَيْرَهُ وَاسْأَلُوا مِنْهُ الصَّفْحَ عَمَّا فَرَطَ مِنْكُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْعِنَادِ.
وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) وَعِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِسُوءِ الْحَالِ وَالشَّقَاءِ فِي الْآخِرَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الَّذِي أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُعْتَرِضًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ وَجُمْلَة قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ [فصلت: ٩] أَيْ أَجِبْهُمْ بِقَوْلِكَ: أَنا بشر مثلك يُوحَى إِلَيَّ وَنَحْنُ أَعْتَدْنَا لَهُمُ الْوَيْلَ وَالشَّقَاءَ إِنْ لَمْ يَقْبَلُوا مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ هَذَا إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَذِكْرُ الْمُشْرِكِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَيُسْتَفَادُ تَعْلِيقُ الْوَعِيدِ عَلَى اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْوَيْلِ بِكَوْنِهِ ثَابِتًا لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمَوْصُوفِينَ بِالَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَبِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِالْبَعْثِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَقِّ يُؤْذِنُ بِعَلِيَّةِ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ، وَلِأَنَّ الْمَوْصُولَ يُؤْذِنُ بِالْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ. فَأَمَّا كَوْنُ الشِّرْكِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ مُوجِبَيْنِ لِلْوَيْلِ
فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُ عَدَمِ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ مُوجِبًا لِلْوَيْلِ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَمَلَ عَلَيْهِمْ مَا قَارَنَ الْإِشْرَاكَ وَإِنْكَارَ الْبَعْثِ مِنْ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ، فَذِكْرُ ذَلِكَ هُنَا لِتَشْوِيهِ كُفْرِهِمْ وَتَفْظِيعِ شِرْكِهِمْ وَكُفْرَانِهِمْ بِالْبَعْثِ بِأَنَّهُمَا يَدْعُوَانِهِمْ إِلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ، أَيْ إِلَى الْقَسْوَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الضُّعَفَاءِ وَإِلَى الشُّحِّ بِالْمَالِ وَكَفَى بِذَلِكَ تَشْوِيهًا فِي حُكْمِ الْأَخْلَاقِ وَحُكْمِ الْعُرْفِ فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ يَتَعَيَّرُونَ بِاللُّؤْمِ، وَلَكِنَّهُمْ يَبْذُلُونَ الْمَالَ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ وَيَحْرِمُونَ مِنْهُ مُسْتَحِقِّيهِ.
وَالْمَعْنَى: فَأَخْلِصُوا إِلَى اللَّهِ فِي عِبَادَتِهِ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ غَيْرَهُ وَاسْأَلُوا مِنْهُ الصَّفْحَ عَمَّا فَرَطَ مِنْكُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالْعِنَادِ.
وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) وَعِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِسُوءِ الْحَالِ وَالشَّقَاءِ فِي الْآخِرَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ الَّذِي أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُعْتَرِضًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً بَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ وَجُمْلَة قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ [فصلت: ٩] أَيْ أَجِبْهُمْ بِقَوْلِكَ: أَنا بشر مثلك يُوحَى إِلَيَّ وَنَحْنُ أَعْتَدْنَا لَهُمُ الْوَيْلَ وَالشَّقَاءَ إِنْ لَمْ يَقْبَلُوا مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ هَذَا إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَذِكْرُ الْمُشْرِكِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ وَيُسْتَفَادُ تَعْلِيقُ الْوَعِيدِ عَلَى اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْوَيْلِ بِكَوْنِهِ ثَابِتًا لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمَوْصُوفِينَ بِالَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَبِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ بِالْبَعْثِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَقِّ يُؤْذِنُ بِعَلِيَّةِ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ، وَلِأَنَّ الْمَوْصُولَ يُؤْذِنُ بِالْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ. فَأَمَّا كَوْنُ الشِّرْكِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ مُوجِبَيْنِ لِلْوَيْلِ
فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُ عَدَمِ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ مُوجِبًا لِلْوَيْلِ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَمَلَ عَلَيْهِمْ مَا قَارَنَ الْإِشْرَاكَ وَإِنْكَارَ الْبَعْثِ مِنْ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ، فَذِكْرُ ذَلِكَ هُنَا لِتَشْوِيهِ كُفْرِهِمْ وَتَفْظِيعِ شِرْكِهِمْ وَكُفْرَانِهِمْ بِالْبَعْثِ بِأَنَّهُمَا يَدْعُوَانِهِمْ إِلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ، أَيْ إِلَى الْقَسْوَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الضُّعَفَاءِ وَإِلَى الشُّحِّ بِالْمَالِ وَكَفَى بِذَلِكَ تَشْوِيهًا فِي حُكْمِ الْأَخْلَاقِ وَحُكْمِ الْعُرْفِ فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ يَتَعَيَّرُونَ بِاللُّؤْمِ، وَلَكِنَّهُمْ يَبْذُلُونَ الْمَالَ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ وَيَحْرِمُونَ مِنْهُ مُسْتَحِقِّيهِ.
239
وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ حَظٌّ مِنَ الْوَيْلِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الْمُشْرِكُونَ لِمَنْعِهِمُ الزَّكَاةَ فِي ضِمْنِ شِرْكِهِمْ، وَلِذَلِكَ رَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ مِمَّنْ لَمْ يَرْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَمَنَعُوا الزَّكَاةَ مَعَ الْمُرْتَدِّينَ، وَوَافَقَهُ جَمِيعُ أَصْحَاب رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ف الزَّكاةَ فِي الْآيَةِ هِيَ الصَّدَقَةُ لِوُقُوعِهَا مَفْعُولَ يُؤْتُونَ، وَلَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ زَكَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ الصَّدَقَةِ دُونَ تَعْيِينِ نُصُبِ وَلَا أَصْنَافِ الْأَرْزَاقِ الْمُزَكَّاةِ، وَكَانَتِ الصَّدَقَةُ مَفْرُوضَةً عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلِبَعْضِ الصَّدَقَةِ مِيقَاتٌ وَهِيَ الصَّدَقَةُ قَبْلَ مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:
١٢].
وَجُمْلَةُ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُؤْتُونَ وَإِمَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الصِّلَةِ. وَضَمِيرُ هُمْ كافِرُونَ ضَمِيرُ فَصْلٍ لَا يُفِيدُ هُنَا إِلَّا تَوْكِيدَ الْحُكْمِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُنَا تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا لَا ضَمِيرَ فَصْلٍ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٣٧]، وَقَوْلُهُ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ فِي سُورَةِ طه [١٤].
وَتَقْدِيمُ بِالْآخِرَةِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ كافِرُونَ لإِفَادَة الاهتمام.
[٨]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنِ الْوَعِيدِ الَّذِي تُوُعِّدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا بِالِاسْتِقَامَةِ إِلَى اللَّهِ وَاسْتِغْفَارِهِ عَمَّا فَرَطَ مِنْهُمْ، كَأَنَّ سَائِلًا يَقُولُ: فَإِنِ اتَّعَظُوا وَارْتَدَعُوا فَمَاذَا يَكُونُ جَزَاؤُهُمْ، فَأُفِيدَ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَكُونُونَ مِنْ زُمْرَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، وَفِي هَذَا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَتَقْدِيمُ لَهُمْ لِلِاهْتِمَامِ بِهِمْ.
ف الزَّكاةَ فِي الْآيَةِ هِيَ الصَّدَقَةُ لِوُقُوعِهَا مَفْعُولَ يُؤْتُونَ، وَلَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ زَكَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ الصَّدَقَةِ دُونَ تَعْيِينِ نُصُبِ وَلَا أَصْنَافِ الْأَرْزَاقِ الْمُزَكَّاةِ، وَكَانَتِ الصَّدَقَةُ مَفْرُوضَةً عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلِبَعْضِ الصَّدَقَةِ مِيقَاتٌ وَهِيَ الصَّدَقَةُ قَبْلَ مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:
١٢].
وَجُمْلَةُ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُؤْتُونَ وَإِمَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الصِّلَةِ. وَضَمِيرُ هُمْ كافِرُونَ ضَمِيرُ فَصْلٍ لَا يُفِيدُ هُنَا إِلَّا تَوْكِيدَ الْحُكْمِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُنَا تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا لَا ضَمِيرَ فَصْلٍ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٣٧]، وَقَوْلُهُ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ فِي سُورَةِ طه [١٤].
وَتَقْدِيمُ بِالْآخِرَةِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ كافِرُونَ لإِفَادَة الاهتمام.
[٨]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنِ الْوَعِيدِ الَّذِي تُوُعِّدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا بِالِاسْتِقَامَةِ إِلَى اللَّهِ وَاسْتِغْفَارِهِ عَمَّا فَرَطَ مِنْهُمْ، كَأَنَّ سَائِلًا يَقُولُ: فَإِنِ اتَّعَظُوا وَارْتَدَعُوا فَمَاذَا يَكُونُ جَزَاؤُهُمْ، فَأُفِيدَ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَكُونُونَ مِنْ زُمْرَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، وَفِي هَذَا تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَتَقْدِيمُ لَهُمْ لِلِاهْتِمَامِ بِهِمْ.
وَالْأَجْرُ: الْجَزَاءُ النَّافِعُ، عَنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، أَوْ هُوَ مَا يُعْطَوْنَهُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ.
وَالْمَمْنُونُ: مَفْعُولٌ مِنَ الْمَنِّ، وَهُوَ ذِكْرُ النِّعْمَةِ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِهَا، وَالتَّقْدِيرُ غَيْرُ مَمْنُونٍ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ أُعْطُوهُ شُكْرًا لَهُمْ عَلَى مَا أَسْلَفُوهُ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ، يَعْنِي: أَنَّ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمْ فِي الْجَنَّةِ تُرَافِقُهُ الْكَرَامَةُ وَالثَّنَاءُ فَلَا يُحِسُّونَ بِخَجَلِ الْعَطَاءِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَة: ٢٦٤]، فَأَجْرُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الْمَمْلُوكِ لَهُمُ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُمْ أَحَدٌ وَذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
غُضْفٌ كَوَاسِبُ لَا يُمَنُّ طَعَامُهَا أَيْ تَأْخُذُ طَعَامَهَا بِأَنْفُسِهَا فَلَا مِنَّةَ لأحد عَلَيْهَا.
[٩]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٩]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩)
بَعْدَ أَنْ أَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُ بَشَرٌ يُوحَى إِلَيْهِ فَمَا يَمْلِكُ إِلْجَاءَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ أَمَرَهُ عَقِبَ ذَلِكَ بِمُعَاوَدَةِ إِرْشَادِهِمْ إِلَى الْحَقِّ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، مُدْمِجًا فِي ذَلِكَ تَذْكِيرَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ، بِطَرِيقَةِ التَّوْبِيخِ عَلَى إِشْرَاكِهِمْ بِهِ فِي حِينِ وُضُوحِ الدَّلَائِلِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَاتِّصَافِهِ بِتَمَامِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ.
فَجُمْلَةُ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ إِلَى آخِرِهَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ ثَانٍ هُوَ جَوَابٌ ثَانٍ عَنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِمْ: إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت: ٥].
وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الْمُفْتَتَحُ بِهَا الْكَلَامُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّوْبِيخِ فَقَوْلُهُ: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ.
وَفِي الِافْتِتَاحِ بِالِاسْتِفْهَامِ وَحَرْفَيِ التَّوْكِيدِ تَشْوِيقٌ لِتَلَقِّي مَا بَعْدَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ
وَالْمَمْنُونُ: مَفْعُولٌ مِنَ الْمَنِّ، وَهُوَ ذِكْرُ النِّعْمَةِ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِهَا، وَالتَّقْدِيرُ غَيْرُ مَمْنُونٍ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ أُعْطُوهُ شُكْرًا لَهُمْ عَلَى مَا أَسْلَفُوهُ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ، يَعْنِي: أَنَّ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمْ فِي الْجَنَّةِ تُرَافِقُهُ الْكَرَامَةُ وَالثَّنَاءُ فَلَا يُحِسُّونَ بِخَجَلِ الْعَطَاءِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَة: ٢٦٤]، فَأَجْرُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الْمَمْلُوكِ لَهُمُ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُمْ أَحَدٌ وَذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
غُضْفٌ كَوَاسِبُ لَا يُمَنُّ طَعَامُهَا أَيْ تَأْخُذُ طَعَامَهَا بِأَنْفُسِهَا فَلَا مِنَّةَ لأحد عَلَيْهَا.
[٩]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٩]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩)
بَعْدَ أَنْ أَمَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُ بَشَرٌ يُوحَى إِلَيْهِ فَمَا يَمْلِكُ إِلْجَاءَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ أَمَرَهُ عَقِبَ ذَلِكَ بِمُعَاوَدَةِ إِرْشَادِهِمْ إِلَى الْحَقِّ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، مُدْمِجًا فِي ذَلِكَ تَذْكِيرَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ، بِطَرِيقَةِ التَّوْبِيخِ عَلَى إِشْرَاكِهِمْ بِهِ فِي حِينِ وُضُوحِ الدَّلَائِلِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَاتِّصَافِهِ بِتَمَامِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ.
فَجُمْلَةُ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ إِلَى آخِرِهَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ ثَانٍ هُوَ جَوَابٌ ثَانٍ عَنْ مَضْمُونِ قَوْلِهِمْ: إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت: ٥].
وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الْمُفْتَتَحُ بِهَا الْكَلَامُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّوْبِيخِ فَقَوْلُهُ: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ.
وَفِي الِافْتِتَاحِ بِالِاسْتِفْهَامِ وَحَرْفَيِ التَّوْكِيدِ تَشْوِيقٌ لِتَلَقِّي مَا بَعْدَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ
241
عَلَى أَنَّ أَمْرًا مُهِمًّا سَيُلْقَى إِلَيْهِمْ، وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ أَوِ التَّعْجِيبِيِّ اسْتِعْمَالٌ وَارِدٌ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، لِيَكُونَ الْإِنْكَارُ لِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ، وَهُوَ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ وَعَلَى تَجَاهُلِهِمُ الْمُلَازَمَةَ بَيْنَ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ وَبَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الْإِفْرَادِ بِالْعِبَادَةِ فَأُعْلِمُوا بِتَوْكِيدِ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ، وَبِتَوْبِيخِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَالتَّوْبِيخُ الْمُفَادُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ مُسَلَّطٌ عَلَى تَحْقِيقِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَذَلِكَ مِنَ الْبَلَاغَةِ بِالْمَكَانَةِ الْعُلْيَا، وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيدُ مُسَلَّطًا عَلَى التَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ قَلْبٌ لِنِظَامِ الْكَلَامِ.
وَمَجِيءُ فِعْلِ «تَكْفُرُونَ» بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ أَنَّ تَجَدُّدَ كُفْرِهِمْ يَوْمًا فَيَوْمًا مَعَ سُطُوعِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْإِقْلَاعَ عَنْهُ أَمْرٌ أَحَقُّ بِالتَّوْبِيخِ. وَمَعْنَى الْكُفْرِ بِهِ الْكُفْرُ بِانْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَلَمَّا أَشْرَكُوا مَعَهُ آلِهَةً كَانُوا وَاقِعِينَ فِي إِبْطَالِ إِلَهِيَّتِهِ لِأَنَّ التَّعَدُّدَ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا وُجُودَهُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا صِفَاتِ ذَاتِهِ فَقَدْ تَصَوَّرُوهُ عَلَى غَيْرِ كُنْهِهِ.
وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَال بَيَان ابْتِدَاء خَلْقِ هَذِهِ الْعَوَالِمِ، فَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِهَا فَهُوَ إِدْمَاجٌ.
والْأَرْضَ: هِيَ الْكُرَةُ الْأَرْضِيَّةُ بِمَا فِيهَا مِنْ يَابِسٍ وَبِحَارٍ، أَيْ خَلْقُ جِرْمِهَا.
وَالْيَوْمَانِ: تَثْنِيَةُ يَوْمٍ، وَهُوَ الْحِصَّةُ الَّتِي بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ وَطُلُوعِهَا ثَانِيَةً.
وَالْمُرَادُ: فِي مُدَّةِ تَسَاوِي يَوْمَيْنِ مِمَّا عَرَفَهُ النَّاسُ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ لِأَنَّ النُّور والظلمة اللَّذَان يُقَدَّرُ الْيَوْمُ بِظُهُورِهِمَا عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَظْهَرَا إِلَّا بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَإِنَّمَا ابْتُدِئَ بِذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ لِأَنَّ آثَارَهُ أَظْهَرُ لِلْعِيَانِ وَهِيَ فِي مُتَنَاوَلِ الْإِنْسَانِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِ الْأَرْضِ أَسْبَقَ نُهُوضًا. وَلِأَنَّ النِّعْمَةَ بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ الْأَرْضُ أَقْوَى وَأَعَمُّ فَيَظْهَرُ قُبْحُ الْكُفْرَانِ بِخَالِقِهَا أَوْضَحَ وَأَشْنَعَ.
وَعَطْفُ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً عَلَى لَتَكْفُرُونَ تَفْسِيرٌ لِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ. وَكَانَ
وَمَجِيءُ فِعْلِ «تَكْفُرُونَ» بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ أَنَّ تَجَدُّدَ كُفْرِهِمْ يَوْمًا فَيَوْمًا مَعَ سُطُوعِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي الْإِقْلَاعَ عَنْهُ أَمْرٌ أَحَقُّ بِالتَّوْبِيخِ. وَمَعْنَى الْكُفْرِ بِهِ الْكُفْرُ بِانْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَلَمَّا أَشْرَكُوا مَعَهُ آلِهَةً كَانُوا وَاقِعِينَ فِي إِبْطَالِ إِلَهِيَّتِهِ لِأَنَّ التَّعَدُّدَ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا وُجُودَهُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا صِفَاتِ ذَاتِهِ فَقَدْ تَصَوَّرُوهُ عَلَى غَيْرِ كُنْهِهِ.
وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَال بَيَان ابْتِدَاء خَلْقِ هَذِهِ الْعَوَالِمِ، فَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِهَا فَهُوَ إِدْمَاجٌ.
والْأَرْضَ: هِيَ الْكُرَةُ الْأَرْضِيَّةُ بِمَا فِيهَا مِنْ يَابِسٍ وَبِحَارٍ، أَيْ خَلْقُ جِرْمِهَا.
وَالْيَوْمَانِ: تَثْنِيَةُ يَوْمٍ، وَهُوَ الْحِصَّةُ الَّتِي بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ وَطُلُوعِهَا ثَانِيَةً.
وَالْمُرَادُ: فِي مُدَّةِ تَسَاوِي يَوْمَيْنِ مِمَّا عَرَفَهُ النَّاسُ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ لِأَنَّ النُّور والظلمة اللَّذَان يُقَدَّرُ الْيَوْمُ بِظُهُورِهِمَا عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَظْهَرَا إِلَّا بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَإِنَّمَا ابْتُدِئَ بِذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ لِأَنَّ آثَارَهُ أَظْهَرُ لِلْعِيَانِ وَهِيَ فِي مُتَنَاوَلِ الْإِنْسَانِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِخَلْقِ الْأَرْضِ أَسْبَقَ نُهُوضًا. وَلِأَنَّ النِّعْمَةَ بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ الْأَرْضُ أَقْوَى وَأَعَمُّ فَيَظْهَرُ قُبْحُ الْكُفْرَانِ بِخَالِقِهَا أَوْضَحَ وَأَشْنَعَ.
وَعَطْفُ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً عَلَى لَتَكْفُرُونَ تَفْسِيرٌ لِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ. وَكَانَ
242
مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنَّ فِي التَّفْسِيرِ لَا يُعْطَفُ فَعَدَلَ إِلَى عَطْفِهِ لِيَكُونَ مَضْمُونُهُ مُسْتَقِلًّا بِذَاتِهِ.
وَالْأَنْدَادُ: جَمْعُ نِدٍّ بِكَسْرِ النُّونِ وَهُوَ الْمِثْلُ. وَالْمُرَادُ: أَنْدَادٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجَلَالَةِ بِالْمَوْصُولِ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَعْلِيلِ التَّوْبِيخِ، لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ إِلَى «الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ» وَفِي الْإِشَارَةِ نِدَاءٌ عَلَى بَلَادَةِ رَأْيِهِمْ إِذْ لَمْ يَتَفَطَّنُوا إِلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّهُ خَالِقُ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا، وَلَا إِلَى أَنَّ رُبُوبِيَّتَهُ تَقْتَضِي انْتِفَاءَ النِّدِّ وَالشَّرِيكِ، وَإِذَا كَانَ هُوَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ رَبُّ مَا دُونُ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَجْنَاسِ الَّتِي هِيَ أَحَطُّ مِنَ الْعُقَلَاءِ كَالْحِجَارَةِ وَالْأَخْشَابِ الَّتِي مِنْهَا صُنِعَ أَصْنَامُهُمْ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفَاتِ على الصِّلَة.
[١٠]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١٠]
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠)
عَطْفٌ عَلَى فِعْلِ الصِّلَةِ لَا عَلَى مَعْمُولِ الْفِعْلِ، فَجُمْلَةُ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ إِلَخْ صِلَةٌ ثَانِيَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِفِعْلٍ آخَرَ غَيْرِ فِعْلِ (خَلَقَ) لِأَنَّ هَذَا الْجَعْلَ تَكْوِينٌ آخَرُ حَصَلَ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَهُوَ خَلْقُ أَجْزَاءٍ تَتَّصِلُ بِهَا إِمَّا مِنْ جِنْسِهَا كَالْجِبَالِ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا كَالْأَقْوَاتِ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:
٩].
وَالرَّوَاسِي: الثَّوَابِتُ، وَهُوَ صِفَةٌ لِلْجِبَالِ لِأَنَّ الْجِبَالَ حِجَارَةٌ لَا تَنْتَقِلُ بِخِلَافِ الرِّمَالِ وَالْكُثْبَانِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ. وَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ لِدَلَالَةِ الصِّفَةِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ [الشورى: ٣٢] أَيِ السُّفُنُ الْجَوَارِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ
وَالْأَنْدَادُ: جَمْعُ نِدٍّ بِكَسْرِ النُّونِ وَهُوَ الْمِثْلُ. وَالْمُرَادُ: أَنْدَادٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجَلَالَةِ بِالْمَوْصُولِ دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَعْلِيلِ التَّوْبِيخِ، لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ إِلَى «الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ» وَفِي الْإِشَارَةِ نِدَاءٌ عَلَى بَلَادَةِ رَأْيِهِمْ إِذْ لَمْ يَتَفَطَّنُوا إِلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّهُ خَالِقُ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا، وَلَا إِلَى أَنَّ رُبُوبِيَّتَهُ تَقْتَضِي انْتِفَاءَ النِّدِّ وَالشَّرِيكِ، وَإِذَا كَانَ هُوَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ رَبُّ مَا دُونُ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَجْنَاسِ الَّتِي هِيَ أَحَطُّ مِنَ الْعُقَلَاءِ كَالْحِجَارَةِ وَالْأَخْشَابِ الَّتِي مِنْهَا صُنِعَ أَصْنَامُهُمْ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفَاتِ على الصِّلَة.
[١٠]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١٠]
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠)
عَطْفٌ عَلَى فِعْلِ الصِّلَةِ لَا عَلَى مَعْمُولِ الْفِعْلِ، فَجُمْلَةُ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ إِلَخْ صِلَةٌ ثَانِيَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِفِعْلٍ آخَرَ غَيْرِ فِعْلِ (خَلَقَ) لِأَنَّ هَذَا الْجَعْلَ تَكْوِينٌ آخَرُ حَصَلَ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَهُوَ خَلْقُ أَجْزَاءٍ تَتَّصِلُ بِهَا إِمَّا مِنْ جِنْسِهَا كَالْجِبَالِ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا كَالْأَقْوَاتِ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:
٩].
وَالرَّوَاسِي: الثَّوَابِتُ، وَهُوَ صِفَةٌ لِلْجِبَالِ لِأَنَّ الْجِبَالَ حِجَارَةٌ لَا تَنْتَقِلُ بِخِلَافِ الرِّمَالِ وَالْكُثْبَانِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ. وَحُذِفَ الْمَوْصُوفُ لِدَلَالَةِ الصِّفَةِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ [الشورى: ٣٢] أَيِ السُّفُنُ الْجَوَارِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ
243
وَوَصْفُ الرَّوَاسِي بِ مِنْ فَوْقِها لِاسْتِحْضَارِ الصُّورَةِ الرَّائِعَةِ لِمَنَاظِرِ الْجِبَالِ، فَمِنْهَا الْجَمِيلُ الْمَنْظَرِ الْمُجَلَّلُ بِالْخُضْرَةِ أَوِ الْمَكْسُوُّ بِالثُّلُوجِ، وَمِنْهَا الرَّهِيبُ الْمَرْأَى مِثْلَ جِبَالِ النَّارِ (الْبَرَاكِينِ)، وَالْجِبَالِ الْمَعْدِنِيَّةِ السُّودِ.
وبارَكَ فِيها جَعَلَ فِيهَا الْبَرَكَةَ. وَالْبَرَكَةُ: الْخَيْرُ النَّافِعُ، وَفِي الْأَرْضِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا رِزْقُ الْإِنْسَانِ وَمَاشِيَتِهِ، وَفِيهَا التُّرَابُ وَالْحِجَارَةُ وَالْمَعَادِنُ، وَكُلُّهَا بَرَكَاتٌ. وقَدَّرَ جَعَلَ قَدْرًا، أَيْ مِقْدَارًا، قَالَ تَعَالَى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطَّلَاق: ٣].
وَالْمِقْدَارُ: النِّصَابُ الْمَحْدُودُ بالنوع أَو بالكمية، فَمَعْنَى قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أَنَّهُ خَلَقَ فِي الْأَرْضِ الْقُوَى الَّتِي تَنْشَأُ مِنْهَا الْأَقْوَاتُ وَخَلَقَ أُصُولَ أَجْنَاسِ الْأَقْوَاتِ وَأَنْوَاعَهَا مِنَ الْحَبِّ لِلْحُبُوبِ، وَالْكَلَأِ وَالْكَمْأَةِ، وَالنَّوَى لِلثِّمَارِ، وَالْحَرَارَةِ الَّتِي يَتَأَثَّرُ بِهَا تَوَلُّدُ الْحَيَوَانِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ، وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْحِيتَانُ وَدَوَابُّ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ.
وَمِنَ التَّقْدِيرِ: تَقْدِيرُ كُلِّ نَوْعٍ بِمَا يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْأَوْقَاتِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوِ اعْتِدَالٍ.
وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] وَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْل: ٨١] وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً [النَّحْل: ٨٠] الْآيَةَ.
وَجَمْعُ الْأَقْوَاتِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْأَرْضِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ جَمِيعُ أَقْوَاتِهَا وَعُمُومُهُ
بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْمُقْتَاتِينَ، فَلِلدَّوَابِّ أَقْوَاتٌ، وَلِلطَّيْرِ أَقْوَاتٌ، وَلِلْوُحُوشِ أَقْوَاتٌ، وَلِلزَّوَاحِفِ أَقْوَاتٌ، وَلِلْحَشَرَاتِ أَقْوَاتٌ، وَجُعِلَ لِلْإِنْسَانِ جَمِيعُ تِلْكَ الْأَقْوَاتِ مِمَّا اسْتَطَابَ مِنْهَا كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٩].
وَقَوْلُهُ: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَذْلَكَةٌ لِمَجْمُوعِ مُدَّةِ خَلْقِ الْأَرْضِ جِرْمِهَا، وَمَا عَلَيْهَا مِنْ رَوَاسِيَ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْقُوَى، فَدَخَلَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَيَّامِ الْيَوْمَانِ اللَّذَانِ فِي قَوْلِهِ: فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ فَتِلْكَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، فَقَوْلُهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَذْلَكَةٌ، وَعُدِلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى مَا فِي نَسْجِ الْآيَةِ لِقَصْدِ الْإِيجَازِ
وبارَكَ فِيها جَعَلَ فِيهَا الْبَرَكَةَ. وَالْبَرَكَةُ: الْخَيْرُ النَّافِعُ، وَفِي الْأَرْضِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا رِزْقُ الْإِنْسَانِ وَمَاشِيَتِهِ، وَفِيهَا التُّرَابُ وَالْحِجَارَةُ وَالْمَعَادِنُ، وَكُلُّهَا بَرَكَاتٌ. وقَدَّرَ جَعَلَ قَدْرًا، أَيْ مِقْدَارًا، قَالَ تَعَالَى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطَّلَاق: ٣].
وَالْمِقْدَارُ: النِّصَابُ الْمَحْدُودُ بالنوع أَو بالكمية، فَمَعْنَى قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أَنَّهُ خَلَقَ فِي الْأَرْضِ الْقُوَى الَّتِي تَنْشَأُ مِنْهَا الْأَقْوَاتُ وَخَلَقَ أُصُولَ أَجْنَاسِ الْأَقْوَاتِ وَأَنْوَاعَهَا مِنَ الْحَبِّ لِلْحُبُوبِ، وَالْكَلَأِ وَالْكَمْأَةِ، وَالنَّوَى لِلثِّمَارِ، وَالْحَرَارَةِ الَّتِي يَتَأَثَّرُ بِهَا تَوَلُّدُ الْحَيَوَانِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ، وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْحِيتَانُ وَدَوَابُّ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ.
وَمِنَ التَّقْدِيرِ: تَقْدِيرُ كُلِّ نَوْعٍ بِمَا يَصْلُحُ لَهُ مِنَ الْأَوْقَاتِ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوِ اعْتِدَالٍ.
وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] وَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْل: ٨١] وَقَوْلُهُ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً [النَّحْل: ٨٠] الْآيَةَ.
وَجَمْعُ الْأَقْوَاتِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْأَرْضِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ جَمِيعُ أَقْوَاتِهَا وَعُمُومُهُ
بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْمُقْتَاتِينَ، فَلِلدَّوَابِّ أَقْوَاتٌ، وَلِلطَّيْرِ أَقْوَاتٌ، وَلِلْوُحُوشِ أَقْوَاتٌ، وَلِلزَّوَاحِفِ أَقْوَاتٌ، وَلِلْحَشَرَاتِ أَقْوَاتٌ، وَجُعِلَ لِلْإِنْسَانِ جَمِيعُ تِلْكَ الْأَقْوَاتِ مِمَّا اسْتَطَابَ مِنْهَا كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٩].
وَقَوْلُهُ: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَذْلَكَةٌ لِمَجْمُوعِ مُدَّةِ خَلْقِ الْأَرْضِ جِرْمِهَا، وَمَا عَلَيْهَا مِنْ رَوَاسِيَ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْقُوَى، فَدَخَلَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَيَّامِ الْيَوْمَانِ اللَّذَانِ فِي قَوْلِهِ: فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ فَتِلْكَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، فَقَوْلُهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَذْلَكَةٌ، وَعُدِلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى مَا فِي نَسْجِ الْآيَةِ لِقَصْدِ الْإِيجَازِ
244
وَاعْتِمَادًا عَلَى مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ١٢]، فَلَوْ كَانَ الْيَوْمَانِ اللَّذَانِ قَضَى فِيهِمَا خَلْقَ السَّمَاوَاتِ زَائِدَيْنِ عَلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ انْقَضَتْ فِي خَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا لَصَارَ مَجْمُوعُ الْأَيَّامِ ثَمَانِيَةً، وَذَلِكَ يُنَافِي الْإِشَارَةَ إِلَى عِدَّةِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، فَإِنَّ الْيَوْمَ السَّابِعَ يَوْمُ فَرَاغٍ مِنَ التَّكْوِينِ. وَحِكْمَةُ التَّمْدِيدِ لِلْخَلْقِ أَنْ يَقَعَ عَلَى صِفَةٍ كَامِلَةٍ مُتَنَاسِبَةٍ.
وسَواءً قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ أَيَّامٍ أَيْ كَامِلَةً لَا نَقْصَ فِيهَا وَلَا زِيَادَةَ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ بِتَقْدِيرِ: هِيَ سَوَاءٌ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ مَجْرُورًا على الْوَصْف ل أَيَّامٍ.
ولِلسَّائِلِينَ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنْ أَفْعَالِ جَعَلَ وبارَكَ وقَدَّرَ فَيَكُونُ لِلسَّائِلِينَ جَمْعُ سَائِلٍ بِمَعْنَى الطَّالِبِ لِلْمَعْرِفَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ بَيَّنَّا ذَلِكَ لِلسَّائِلِينَ وَيَجُوزُ أَن يكون ل السَّائِلِينَ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّائِلِينَ الطالبين للقوت.
[١١]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١١]
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١)
ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَهَمُّ مَرْتَبَةً مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَعَوَالِمُهَا أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ، فَجِيءَ بِحَرْفِ التَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ بَعْدَ أَنْ قُضِيَ حَقُّ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ حَتَّى يُوَفَّى الْمُقْتَضِيَانِ حَقَّهُمَا. وَلَيْسَ هَذَا بِمُقْتَضٍ أَنَّ الْإِرَادَةَ تَعَلَّقَتْ بِخَلْقِ السَّمَاءِ بَعْدَ تَمَامِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَلَا مُقْتَضِيًا أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ وَقَعَ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَالِاسْتِوَاءُ: الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ تَوًّا لَا يَعْتَرِضُهُ شَيْءٌ آخَرُ. وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِتَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِيجَادِ السَّمَاوَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٩]. وَرُبَّمَا كَانَ فِي قَوْلِهِ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى تَوَجَّهَتْ إِرَادَتُهُ لِخَلْقِ
وسَواءً قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ أَيَّامٍ أَيْ كَامِلَةً لَا نَقْصَ فِيهَا وَلَا زِيَادَةَ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ بِتَقْدِيرِ: هِيَ سَوَاءٌ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ مَجْرُورًا على الْوَصْف ل أَيَّامٍ.
ولِلسَّائِلِينَ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنْ أَفْعَالِ جَعَلَ وبارَكَ وقَدَّرَ فَيَكُونُ لِلسَّائِلِينَ جَمْعُ سَائِلٍ بِمَعْنَى الطَّالِبِ لِلْمَعْرِفَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ بَيَّنَّا ذَلِكَ لِلسَّائِلِينَ وَيَجُوزُ أَن يكون ل السَّائِلِينَ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّائِلِينَ الطالبين للقوت.
[١١]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١١]
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١)
ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَهَمُّ مَرْتَبَةً مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَعَوَالِمُهَا أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ، فَجِيءَ بِحَرْفِ التَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ بَعْدَ أَنْ قُضِيَ حَقُّ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ حَتَّى يُوَفَّى الْمُقْتَضِيَانِ حَقَّهُمَا. وَلَيْسَ هَذَا بِمُقْتَضٍ أَنَّ الْإِرَادَةَ تَعَلَّقَتْ بِخَلْقِ السَّمَاءِ بَعْدَ تَمَامِ خَلْقِ الْأَرْضِ وَلَا مُقْتَضِيًا أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ وَقَعَ بَعْدَ خَلْقِ الْأَرْضِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَالِاسْتِوَاءُ: الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ تَوًّا لَا يَعْتَرِضُهُ شَيْءٌ آخَرُ. وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِتَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِيجَادِ السَّمَاوَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٩]. وَرُبَّمَا كَانَ فِي قَوْلِهِ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى تَوَجَّهَتْ إِرَادَتُهُ لِخَلْقِ
245
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَوَجُّهًا وَاحِدًا ثُمَّ اخْتَلَفَ زَمَنُ الْإِرَادَةِ التَّنْجِيزِيُّ بِتَحْقِيقِ ذَلِكَ فَتَعَلَّقَتْ إِرَادَتُهُ تَنْجِيزًا بِخَلْقِ السَّمَاءِ ثُمَّ بِخَلْقِ الْأَرْضِ، فَعَبَّرَ عَنْ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ تَنْجِيزًا لِخَلْقِ السَّمَاءِ بِتَوَجُّهِ الْإِرَادَةِ إِلَى السَّمَاءِ، وَذَلِكَ التَّوَجُّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالِاسْتِوَاءِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَفِعْلُ ائْتِيا أَمْرٌ لِلتَّكْوِينِ.
وَالدُّخَانُ: مَا يَتَصَاعَدُ مِنَ الْوَقُودِ عِنْدَ الْتِهَابِ النَّارِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: وَهِيَ دُخانٌ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ وَهِيَ مِثْلُ الدُّخَانِ، وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهَا كَانَتْ عَمَاءَ»
. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالدُّخَانِ هُنَا شَيْئًا مُظْلِمًا، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» مِنْ قَوْلِهَا: «وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ» وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْوُجُودِ مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا الْعَمَاءُ، وَالْعَمَاءُ: سَحَابٌ رَقِيقٌ، أَيْ رُطُوبَةٌ دَقِيقَةٌ وَهُوَ تَقْرِيبٌ لِلْعُنْصُرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ الْمَوْجُودَاتِ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ كَوْنَ السَّمَاءِ مَخْلُوقَةً قَبْلَ الْأَرْضِ.
وَمَعْنَى: وَهِيَ دُخانٌ أَنَّ أَصْلَ السَّمَاءِ هُوَ ذَلِكَ الْكَائِنُ الْمُشَبَّهُ بِالدُّخَانِ، أَيْ أَنَّ السَّمَاءَ كُوِّنَتْ مِنْ ذَلِكَ الدُّخَانِ كَمَا تَقُولُ: عَمَدْتُ إِلَى هَاتِهِ النَّخْلَةِ، وَهِيَ نَوَاةٌ، فَاخْتَرْتُ لَهَا أَخْصَبَ تُرْبَةٍ، فَتَكُونُ مَادَّةُ السَّمَاءِ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِ الْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ تَفْرِيعٌ عَلَى فِعْلِ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَيَكُونُ الْقَوْلُ مُوَجَّهًا إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حِينَئِذٍ، أَيْ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ لَا مَحَالَةَ وَقَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَوْلَ لَهَا مُقَارِنًا الْقَوْلَ لِلسَّمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ تَكْوِينٍ. أَيْ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَيْ بِمَادَّةِ تَكْوِينِهِمَا وَهِيَ الدُّخَانُ لِأَنَّ السَّمَاءَ تَكَوَّنَتْ مِنَ الْعَمَاءِ بِجُمُودِ شَيْءٍ مِنْهُ سُمِّيَ جِلْدًا فَكَانَتْ مِنْهُ السَّمَاءُ وَتَكَوَّنَ مَعَ السَّمَاءِ الْمَاءُ وَتَكَوَّنَتِ الْأَرْضُ بِيُبْسٍ ظَهَرَ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ كَمَا جَاءَ الْإِصْحَاحُ الْأَوَّلُ مِنْ «سِفْرِ التَّكْوِينِ» مِنَ التَّوْرَاةِ.
وَالْإِتْيَانُ فِي قَوْلِهِ: ائْتِيا أَصْلُهُ: الْمَجِيءُ وَالْإِقْبَالُ وَلَمَّا كَانَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ غَيْرَ
وَالدُّخَانُ: مَا يَتَصَاعَدُ مِنَ الْوَقُودِ عِنْدَ الْتِهَابِ النَّارِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: وَهِيَ دُخانٌ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ وَهِيَ مِثْلُ الدُّخَانِ، وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهَا كَانَتْ عَمَاءَ»
. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالدُّخَانِ هُنَا شَيْئًا مُظْلِمًا، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» مِنْ قَوْلِهَا: «وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ» وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْوُجُودِ مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا الْعَمَاءُ، وَالْعَمَاءُ: سَحَابٌ رَقِيقٌ، أَيْ رُطُوبَةٌ دَقِيقَةٌ وَهُوَ تَقْرِيبٌ لِلْعُنْصُرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ الْمَوْجُودَاتِ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ كَوْنَ السَّمَاءِ مَخْلُوقَةً قَبْلَ الْأَرْضِ.
وَمَعْنَى: وَهِيَ دُخانٌ أَنَّ أَصْلَ السَّمَاءِ هُوَ ذَلِكَ الْكَائِنُ الْمُشَبَّهُ بِالدُّخَانِ، أَيْ أَنَّ السَّمَاءَ كُوِّنَتْ مِنْ ذَلِكَ الدُّخَانِ كَمَا تَقُولُ: عَمَدْتُ إِلَى هَاتِهِ النَّخْلَةِ، وَهِيَ نَوَاةٌ، فَاخْتَرْتُ لَهَا أَخْصَبَ تُرْبَةٍ، فَتَكُونُ مَادَّةُ السَّمَاءِ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِ الْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ تَفْرِيعٌ عَلَى فِعْلِ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَيَكُونُ الْقَوْلُ مُوَجَّهًا إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حِينَئِذٍ، أَيْ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ لَا مَحَالَةَ وَقَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَوْلَ لَهَا مُقَارِنًا الْقَوْلَ لِلسَّمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ تَكْوِينٍ. أَيْ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَيْ بِمَادَّةِ تَكْوِينِهِمَا وَهِيَ الدُّخَانُ لِأَنَّ السَّمَاءَ تَكَوَّنَتْ مِنَ الْعَمَاءِ بِجُمُودِ شَيْءٍ مِنْهُ سُمِّيَ جِلْدًا فَكَانَتْ مِنْهُ السَّمَاءُ وَتَكَوَّنَ مَعَ السَّمَاءِ الْمَاءُ وَتَكَوَّنَتِ الْأَرْضُ بِيُبْسٍ ظَهَرَ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ كَمَا جَاءَ الْإِصْحَاحُ الْأَوَّلُ مِنْ «سِفْرِ التَّكْوِينِ» مِنَ التَّوْرَاةِ.
وَالْإِتْيَانُ فِي قَوْلِهِ: ائْتِيا أَصْلُهُ: الْمَجِيءُ وَالْإِقْبَالُ وَلَمَّا كَانَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ غَيْرَ
246
مُرَادٍ لِأَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَأْتِيَا، وَلَا يُتَصَوَّرَ مِنْهُمَا طَوَاعِيَةٌ أَوْ كَرَاهِيَةٌ إِذْ لَيْسَتَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ وَالْإِدْرَاكَاتِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ اللَّهَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي خُرُوجَهُمَا عَن قدرته بادىء ذِي بَدْءٍ تَعَيَّنَ الصَّرْفُ عَنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَذَلِكَ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ لَهُمَا مِنَ
الْبَلَاغَةِ الْمَكَانَةُ الْعُلْيَا:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ مُسْتَعَارًا لِقَبُولِ التَّكْوِينِ كَمَا اسْتُعِيرَ لِلْعِصْيَانِ الْإِدْبَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى [النازعات: ٢٢]،
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُسَيْلِمَةَ حِينَ امْتَنَعَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فِي وَفْدِ قَوْمِهِ بَنِي حَنِيفَةَ «لَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ»
، وَكَمَا يُسْتَعَارُ النُّفُورُ وَالْفِرَارُ لِلْعِصْيَانِ. فَمَعْنَى ائْتِيا امْتَثِلَا أَمْرَ التَّكْوِينِ. وَهَذَا الِامْتِثَالُ مُسْتَعَارٌ لِلْقَبُولِ وَهُوَ مِنْ بِنَاءِ الْمَجَازِ عَلَى الْمَجَازِ وَلَهُ مَكَانَةٌ فِي الْبَلَاغَةِ، وَالْقَوْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَعَارٌ لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢].
وَقَوْلُهُ: طَوْعاً أَوْ كَرْهاً كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْبُدِّ مِنْ قَبُولِ الْأَمْرِ وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِتَمَكُّنِ الْقُدْرَةِ مِنْ إِيجَادِهِمَا عَلَى وَفْقِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَلِمَةُ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَمْثَالِ. وطَوْعاً أَوْ كَرْهاً مَصْدَرَانِ وَقَعَا حَالَيْنِ مِنْ ضَمِيرِ ائْتِيا أَيْ طَائِعَيْنِ أَوْ كَارِهَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً مُسْتَعْمَلَةً تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَكْوِينِ السَّمَاءِ وَالْأَرْض لِعَظَمَة خلقهما بِهَيْئَةِ صُدُورِ الْأَمْرِ مِنْ آمِرٍ مُطَاعٍ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالْحُضُورِ لِعَمَلٍ شَاقٍّ أَنْ يَقُولَ لَهُ: ائْتِ لِهَذَا الْعَمَلِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، لِتَوَقُّعِ إِبَائِهِ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَهَذَا مِنْ دُونِ مُرَاعَاةِ مُشَابَهَةِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُرَكَّبَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِأَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، فَلَا قَوْلَ وَلَا مَقُولَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ، وَيَكُونُ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً عَلَى هَذَا مِنْ تَمام الْهَيْئَة الْمُشبه بهَا وَلَيْسَ لَهُ مُقَابل فِي الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ.
وَالْمَقْصُودُ عَلَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَنُفُوذِهَا فِي الْمَقْدُورَاتِ دَقَّتْ أَوْ جَلَّتْ.
الْبَلَاغَةِ الْمَكَانَةُ الْعُلْيَا:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ مُسْتَعَارًا لِقَبُولِ التَّكْوِينِ كَمَا اسْتُعِيرَ لِلْعِصْيَانِ الْإِدْبَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى [النازعات: ٢٢]،
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُسَيْلِمَةَ حِينَ امْتَنَعَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فِي وَفْدِ قَوْمِهِ بَنِي حَنِيفَةَ «لَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ»
، وَكَمَا يُسْتَعَارُ النُّفُورُ وَالْفِرَارُ لِلْعِصْيَانِ. فَمَعْنَى ائْتِيا امْتَثِلَا أَمْرَ التَّكْوِينِ. وَهَذَا الِامْتِثَالُ مُسْتَعَارٌ لِلْقَبُولِ وَهُوَ مِنْ بِنَاءِ الْمَجَازِ عَلَى الْمَجَازِ وَلَهُ مَكَانَةٌ فِي الْبَلَاغَةِ، وَالْقَوْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَعَارٌ لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢].
وَقَوْلُهُ: طَوْعاً أَوْ كَرْهاً كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْبُدِّ مِنْ قَبُولِ الْأَمْرِ وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِتَمَكُّنِ الْقُدْرَةِ مِنْ إِيجَادِهِمَا عَلَى وَفْقِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَلِمَةُ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَمْثَالِ. وطَوْعاً أَوْ كَرْهاً مَصْدَرَانِ وَقَعَا حَالَيْنِ مِنْ ضَمِيرِ ائْتِيا أَيْ طَائِعَيْنِ أَوْ كَارِهَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً مُسْتَعْمَلَةً تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَكْوِينِ السَّمَاءِ وَالْأَرْض لِعَظَمَة خلقهما بِهَيْئَةِ صُدُورِ الْأَمْرِ مِنْ آمِرٍ مُطَاعٍ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالْحُضُورِ لِعَمَلٍ شَاقٍّ أَنْ يَقُولَ لَهُ: ائْتِ لِهَذَا الْعَمَلِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، لِتَوَقُّعِ إِبَائِهِ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَهَذَا مِنْ دُونِ مُرَاعَاةِ مُشَابَهَةِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُرَكَّبَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِأَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، فَلَا قَوْلَ وَلَا مَقُولَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ، وَيَكُونُ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً عَلَى هَذَا مِنْ تَمام الْهَيْئَة الْمُشبه بهَا وَلَيْسَ لَهُ مُقَابل فِي الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ.
وَالْمَقْصُودُ عَلَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَنُفُوذِهَا فِي الْمَقْدُورَاتِ دَقَّتْ أَوْ جَلَّتْ.
247
وَأَمَّا قَوْلُهُ: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُسْتَعَارًا لِدَلَالَةِ سُرْعَةِ تَكَوُّنِهِمَا لِشِبْهِهِمَا بِسُرْعَةِ امْتِثَالِ الْمَأْمُورِ الْمُطِيعِ عَنْ طَوَاعِيَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَدَّدُ وَلَا يَتَلَكَّأُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ وَالتَّخْيِيلِ مِنْ بَابِ قَوْلِ الرَّاجِزِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ تَعْيِينُهُ:
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي وَهُوَ كَثِيرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ تَكَوُّنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَكْوِينِهِمَا بِهَيْئَةِ الْمَأْمُورِ بِعَمَل تقبله سَرِيعا عَنْ طَوَاعِيَةٍ. وَهُمَا اعْتِبَارَانِ مُتَقَارِبَانِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ، وَالْإِتْيَانَ، وَالطَّوْعَ، عَلَى الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ تَكُونُ مَجَازَاتٍ، وَعَلَى الِاعْتِبَارِ الثَّانِي
تَكُونُ حَقَائِقَ وَإِنَّمَا الْمَجَازُ فِي التَّرْكِيبِ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَجَازِ الْمُفْرَدِ وَالْمَجَازِ الْمُرَكَّبِ فِي فَنِّ الْبَيَانِ.
وَإِنَّمَا جَاءَ قَوْلُهُ: طائِعِينَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِأَنَّ لَفْظَ السَّمَاءِ يَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعِ سَمَاوَاتٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِثْرَ هَذَا فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فصلت: ١٢] فَالِامْتِثَالُ صَادِرٌ عَنْ جَمْعٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ فَلِأَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لَيْسَ لَهُمَا تَأْنِيثٌ حَقِيقِيٌّ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ فَذَلِكَ تَرْشِيحٌ لِلْمَكْنِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يُوسُف: ٤].
[١٢]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١٢]
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ.
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا [فصلت: ١١].
وَالْقَضَاءُ: الْإِيجَادُ الْإِبْدَاعِيُّ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِتْمَامِ وَالْحُكْمِ، فَهُوَ يَقْتَضِي الِابْتِكَارَ وَالْإِسْرَاعَ، كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
وَضَمِيرُ فَقَضاهُنَّ عَائِدٌ إِلَى السَّمَاوَاتِ عَلَى اعْتِبَارِ تَأْنِيثِ لَفْظِهَا، وَهَذَا تَفَنُّنٌ.
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي وَهُوَ كَثِيرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ تَكَوُّنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَكْوِينِهِمَا بِهَيْئَةِ الْمَأْمُورِ بِعَمَل تقبله سَرِيعا عَنْ طَوَاعِيَةٍ. وَهُمَا اعْتِبَارَانِ مُتَقَارِبَانِ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ، وَالْإِتْيَانَ، وَالطَّوْعَ، عَلَى الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ تَكُونُ مَجَازَاتٍ، وَعَلَى الِاعْتِبَارِ الثَّانِي
تَكُونُ حَقَائِقَ وَإِنَّمَا الْمَجَازُ فِي التَّرْكِيبِ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَجَازِ الْمُفْرَدِ وَالْمَجَازِ الْمُرَكَّبِ فِي فَنِّ الْبَيَانِ.
وَإِنَّمَا جَاءَ قَوْلُهُ: طائِعِينَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِأَنَّ لَفْظَ السَّمَاءِ يَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعِ سَمَاوَاتٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِثْرَ هَذَا فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فصلت: ١٢] فَالِامْتِثَالُ صَادِرٌ عَنْ جَمْعٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ فَلِأَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لَيْسَ لَهُمَا تَأْنِيثٌ حَقِيقِيٌّ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ فَذَلِكَ تَرْشِيحٌ لِلْمَكْنِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يُوسُف: ٤].
[١٢]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١٢]
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ.
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا [فصلت: ١١].
وَالْقَضَاءُ: الْإِيجَادُ الْإِبْدَاعِيُّ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِتْمَامِ وَالْحُكْمِ، فَهُوَ يَقْتَضِي الِابْتِكَارَ وَالْإِسْرَاعَ، كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا | دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ |
248
وَانْتَصَبَ سَبْعَ سَماواتٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ «قَضَّاهُنَّ» أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ، وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ «قَضَاهُنَّ» لِتَضْمِينِ «قَضَاهُنَّ» مَعْنَى صَيَّرَهُنَّ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٩] فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ.
وَكَانَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ فِي يَوْمَيْنِ قَبْلَ أَرْبَعَةِ الْأَيَّامِ الَّتِي خُلِقَتْ فِيهَا الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوَاعِدِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا كَانَتْ مُدَّةُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ أَقْصَرَ مِنْ مُدَّةِ خَلْقِ الْأَرْضِ مَعَ أَنَّ عَوَالِمَ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِكَيْفِيَّةٍ أَسْرَعَ فَلَعَلَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ كَانَ بِانْفِصَالِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ وَتَفَرْقَعَ أَحْجَامُهَا بَعْضُهَا عَنْ خُرُوجِ بَعْضٍ آخَرَ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي قَرَّبَهُ حُكَمَاءُ الْيُونَانِ الْأَقْدَمُونَ بِمَا سَمَّوْهُ صُدُورَ الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، وَكَانَتْ سُرْعَةُ انْبِثَاقِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ
مَعْلُولَةً لِأَحْوَالٍ مُنَاسِبَةٍ لِمَا تَرَكَّبَتْ بِهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ. وَأَمَّا خَلْقُ الْأَرْضِ فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ بِطَرِيقَةِ التَّوَلُّدِ الْمُبْطِئِ لِأَنَّهَا تَكَوَّنَتْ مِنَ الْعَنَاصِرِ الطَّبِيعِيَّةِ فَكَانَ تُوَلُّدُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ أَيْضًا وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: ٣١].
وَهَذِهِ الْأَيَّامُ كَانَتْ هِيَ مَبْدَأَ الِاصْطِلَاحِ عَلَى تَرْتِيبِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَقَدْ خَاضَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ مَبْدَأِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَأَمَّا كُتُبُ الْيَهُودِ فَفِيهَا أَنَّ مَبْدَأَ هَذِهِ الْأَيَّامِ هُوَ الْأَحَدُ وَأَنَّ سَادِسَهَا هُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَأَنَّ يَوْمَ السَّبْتِ جَعَلَهُ اللَّهُ خِلْوًا مِنَ الْخَلْقِ لِيُوَافِقَ طُقُوسَ دِينِهِمُ الْجَاعِلَةَ يَوْمَ السَّبْتِ يَوْمَ رَاحَةٍ لِلنَّاسِ وَدَوَابِّهِمُ اقْتِدَاءً بِإِنْهَاءِ خَلْقِ الْعَالَمِينَ. وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ جَرَى الْعَرَبُ فِي تَسْمِيَةِ الْأَيَّامِ ابْتِدَاءً مِنَ الْأَحَدِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى أَوَّلٌ أَوْ وَاحِدٌ، وَاسْمُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الْقَدِيمَةِ (أَوَّلٌ) وَذَلِكَ سَرَى إِلَيْهِمْ مِنْ تَعَالِيمِ الْيَهُودِ أَوْ مِنْ تَعَالِيمَ أَسْبَقَ كَانَتْ هِيَ الْأَصْلَ الْأَصِيلَ لِاصْطِلَاحِ الْأُمَّتَيْنِ. وَالَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْأَخْبَارُ مِنَ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَة وَأَنه آخر أَيَّام الْأُسْبُوع، وَأَنَّهُ خَيْرُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَأَفْضَلِهَا، وَأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اخْتَلَفُوا فِي
وَكَانَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ فِي يَوْمَيْنِ قَبْلَ أَرْبَعَةِ الْأَيَّامِ الَّتِي خُلِقَتْ فِيهَا الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوَاعِدِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا كَانَتْ مُدَّةُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ أَقْصَرَ مِنْ مُدَّةِ خَلْقِ الْأَرْضِ مَعَ أَنَّ عَوَالِمَ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِكَيْفِيَّةٍ أَسْرَعَ فَلَعَلَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ كَانَ بِانْفِصَالِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ وَتَفَرْقَعَ أَحْجَامُهَا بَعْضُهَا عَنْ خُرُوجِ بَعْضٍ آخَرَ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي قَرَّبَهُ حُكَمَاءُ الْيُونَانِ الْأَقْدَمُونَ بِمَا سَمَّوْهُ صُدُورَ الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، وَكَانَتْ سُرْعَةُ انْبِثَاقِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ
مَعْلُولَةً لِأَحْوَالٍ مُنَاسِبَةٍ لِمَا تَرَكَّبَتْ بِهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ. وَأَمَّا خَلْقُ الْأَرْضِ فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ بِطَرِيقَةِ التَّوَلُّدِ الْمُبْطِئِ لِأَنَّهَا تَكَوَّنَتْ مِنَ الْعَنَاصِرِ الطَّبِيعِيَّةِ فَكَانَ تُوَلُّدُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ أَيْضًا وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: ٣١].
وَهَذِهِ الْأَيَّامُ كَانَتْ هِيَ مَبْدَأَ الِاصْطِلَاحِ عَلَى تَرْتِيبِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَقَدْ خَاضَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ مَبْدَأِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَأَمَّا كُتُبُ الْيَهُودِ فَفِيهَا أَنَّ مَبْدَأَ هَذِهِ الْأَيَّامِ هُوَ الْأَحَدُ وَأَنَّ سَادِسَهَا هُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَأَنَّ يَوْمَ السَّبْتِ جَعَلَهُ اللَّهُ خِلْوًا مِنَ الْخَلْقِ لِيُوَافِقَ طُقُوسَ دِينِهِمُ الْجَاعِلَةَ يَوْمَ السَّبْتِ يَوْمَ رَاحَةٍ لِلنَّاسِ وَدَوَابِّهِمُ اقْتِدَاءً بِإِنْهَاءِ خَلْقِ الْعَالَمِينَ. وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ جَرَى الْعَرَبُ فِي تَسْمِيَةِ الْأَيَّامِ ابْتِدَاءً مِنَ الْأَحَدِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى أَوَّلٌ أَوْ وَاحِدٌ، وَاسْمُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ الْقَدِيمَةِ (أَوَّلٌ) وَذَلِكَ سَرَى إِلَيْهِمْ مِنْ تَعَالِيمِ الْيَهُودِ أَوْ مِنْ تَعَالِيمَ أَسْبَقَ كَانَتْ هِيَ الْأَصْلَ الْأَصِيلَ لِاصْطِلَاحِ الْأُمَّتَيْنِ. وَالَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْأَخْبَارُ مِنَ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَة وَأَنه آخر أَيَّام الْأُسْبُوع، وَأَنَّهُ خَيْرُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَأَفْضَلِهَا، وَأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اخْتَلَفُوا فِي
249
تَعْيِينِ الْيَوْمِ الْأَفْضَلِ مِنَ الْأُسْبُوعِ، وَأَنَّ اللَّهَ هَدَى إِلَيْهِ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَهَذَا الْيَوْمُ (أَيِ الْجُمُعَةُ) هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَيْهِ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ»
. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ بَعْدَ تَمَامِ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ خَلْقِهِ هُوَ الْيَوْمَ السَّابِعَ. وَقَدْ
رَوَى مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ اللَّهَ ابْتَدَأَ الْخَلْقَ يَوْمَ السَّبْتِ»
. وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ بِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ حَدَّثَ بِهِ أَبَا هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ رُوَاةِ سَنَدِهِ فَظَنَّهُ مَرْفُوعًا.
وَلِهَذِهِ تَفْصِيلَاتٌ لَيْسَ وَرَاءَهَا طَائِلٌ وَإِنَّمَا ألممنا بهَا هُنَا لِئَلَّا يَعْرُوَ التَّفْسِيرُ عَنْهَا فَيَقَعَ مَنْ يَرَاهَا فِي غَيْرِهِ فِي حَيْرَةٍ وَإِنَّمَا مَقْصِدُ الْقُرْآنِ الْعِبْرَةُ.
وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً.
وَأَوْحى عَطْفٌ عَلَى فَقَضاهُنَّ.
وَالْوَحْيُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ، وَيُطْلَقُ الْوَحْيُ عَلَى حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ فِي نَفْسِ مَنْ يُرَادُ حُصُولُهَا عِنْدَهُ دُونَ قَوْلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّاءَ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ [مَرْيَم: ١١] أَيْ أَوْمَأَ إِلَيْهِم بِمَا يدل عَلَى مَعْنَى: سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. وَقَول أبي دؤاد:
ثُمَّ يُتَوَسَّعُ فِيهِ فَيُطْلَقُ عَلَى إِلْهَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَخْلُوقَاتِ لِمَا تَتَطَلَّبُهُ مِمَّا فِيهِ صَلَاحُهَا كَقَوْلِهِ: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [النَّحْل: ٦٨] أَيْ جَبَلِهَا عَلَى إِدْرَاكِ ذَلِكَ وَتَطَلُّبِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى تَسْخِيرِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ لِقَبُولِ أَثَرِ قُدْرَتِهِ كَقَوْلِهِ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: ١] إِلَى قَوْلِهِ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: ٥].
وَالْوَحْيُ فِي السَّمَاءِ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازَاتِهِ، فَهُوَ أَوْحَى فِي السَّمَاوَاتِ بِتَقَادِيرِ نُظُمِ جَاذِبِيَّتِهَا، وَتَقَادِيرِ سَيْرِ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَهَذَا الْيَوْمُ (أَيِ الْجُمُعَةُ) هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ إِلَيْهِ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ»
. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ بَعْدَ تَمَامِ خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ خَلْقِهِ هُوَ الْيَوْمَ السَّابِعَ. وَقَدْ
رَوَى مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ اللَّهَ ابْتَدَأَ الْخَلْقَ يَوْمَ السَّبْتِ»
. وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ بِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ حَدَّثَ بِهِ أَبَا هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ رُوَاةِ سَنَدِهِ فَظَنَّهُ مَرْفُوعًا.
وَلِهَذِهِ تَفْصِيلَاتٌ لَيْسَ وَرَاءَهَا طَائِلٌ وَإِنَّمَا ألممنا بهَا هُنَا لِئَلَّا يَعْرُوَ التَّفْسِيرُ عَنْهَا فَيَقَعَ مَنْ يَرَاهَا فِي غَيْرِهِ فِي حَيْرَةٍ وَإِنَّمَا مَقْصِدُ الْقُرْآنِ الْعِبْرَةُ.
وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً.
وَأَوْحى عَطْفٌ عَلَى فَقَضاهُنَّ.
وَالْوَحْيُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ، وَيُطْلَقُ الْوَحْيُ عَلَى حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ فِي نَفْسِ مَنْ يُرَادُ حُصُولُهَا عِنْدَهُ دُونَ قَوْلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ زَكَرِيَّاءَ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ [مَرْيَم: ١١] أَيْ أَوْمَأَ إِلَيْهِم بِمَا يدل عَلَى مَعْنَى: سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. وَقَول أبي دؤاد:
يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطُّوَالِ وَتَارَةً | وَحْيَ الْمَلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ |
وَالْوَحْيُ فِي السَّمَاءِ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازَاتِهِ، فَهُوَ أَوْحَى فِي السَّمَاوَاتِ بِتَقَادِيرِ نُظُمِ جَاذِبِيَّتِهَا، وَتَقَادِيرِ سَيْرِ
250
كَوَاكِبِهَا، وَأَوْحَى فِيهَا بِخَلْقِ الْمَلَائِكَةِ فِيهَا، وَأَوْحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِمَا يَتَلَقَّوْنَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِمَا يَعْمَلُونَ، قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٧] وَقَالَ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٢٠].
وأَمْرَها بِمَعْنَى شَأْنِهَا، وَهُوَ يَصْدُقُ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ مُلَابَسَاتِهَا مِنْ سُكَّانِهَا وَكَوَاكِبِهَا وَتَمَاسُكِ جِرْمِهَا وَالْجَاذِبِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا يُجَاوِرُهَا. وَذَلِكَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي خَلْقِ الْأَرْضِ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها [فصلت: ١٠]. وَانْتَصَبَ أَمْرَها عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِأَمْرِهَا أَوْ عَلَى تَضْمِينِ أَوْحَى مَعْنَى قَدَّرَ أَوْ أَوْدَعَ.
وَوَقَعَ الِالْتِفَاتُ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ إِلَى طَرِيقِ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ السَّامِعِينَ لِطُولِ اسْتِعْمَالِ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ ابْتِدَاءً من قَوْله: بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] مَعَ إِظْهَارِ الْعِنَايَةِ بِتَخْصِيصِ هَذَا الصُّنْعِ الَّذِي يَنْفَعُ النَّاسَ دِينًا وَدُنْيَا وَهُوَ خَلْقُ النُّجُومِ الدَّقِيقَةِ وَالشُّهُبِ بِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ عُمُومِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، فَمَا السَّمَاءُ الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ السَّمَاوَاتِ، وَمَا النُّجُومُ وَالشُّهُبُ إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ أَمْرِهَا.
وَالْمَصَابِيحُ: جَمْعُ مِصْبَاحٍ، وَهُوَ مَا يُوقَدُ بِالنَّارِ فِي الزَّيْتِ لِلْإِضَاءَةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّبَاحِ لِأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ أَنْ يَجْعَلُوهُ خَلَفًا عَنِ الصَّبَاحِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَصَابِيحِ: النُّجُومُ، اسْتُعِيرَ لَهَا الْمَصَابِيحُ لِمَا يَبْدُو مِنْ نُورِهَا.
وَانْتَصَبَ حِفْظاً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ زَيَّنَّا.
وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَاهَا حِفْظًا. وَالْمُرَادُ: حِفْظًا لِلسَّمَاءِ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ لِلسَّمْعِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها [فصلت: ١٠] إِلَى قَوْلِهِ: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً.
وأَمْرَها بِمَعْنَى شَأْنِهَا، وَهُوَ يَصْدُقُ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ مُلَابَسَاتِهَا مِنْ سُكَّانِهَا وَكَوَاكِبِهَا وَتَمَاسُكِ جِرْمِهَا وَالْجَاذِبِيَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا يُجَاوِرُهَا. وَذَلِكَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي خَلْقِ الْأَرْضِ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها [فصلت: ١٠]. وَانْتَصَبَ أَمْرَها عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِأَمْرِهَا أَوْ عَلَى تَضْمِينِ أَوْحَى مَعْنَى قَدَّرَ أَوْ أَوْدَعَ.
وَوَقَعَ الِالْتِفَاتُ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ إِلَى طَرِيقِ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ السَّامِعِينَ لِطُولِ اسْتِعْمَالِ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ ابْتِدَاءً من قَوْله: بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] مَعَ إِظْهَارِ الْعِنَايَةِ بِتَخْصِيصِ هَذَا الصُّنْعِ الَّذِي يَنْفَعُ النَّاسَ دِينًا وَدُنْيَا وَهُوَ خَلْقُ النُّجُومِ الدَّقِيقَةِ وَالشُّهُبِ بِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ عُمُومِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، فَمَا السَّمَاءُ الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ السَّمَاوَاتِ، وَمَا النُّجُومُ وَالشُّهُبُ إِلَّا مِنْ جُمْلَةِ أَمْرِهَا.
وَالْمَصَابِيحُ: جَمْعُ مِصْبَاحٍ، وَهُوَ مَا يُوقَدُ بِالنَّارِ فِي الزَّيْتِ لِلْإِضَاءَةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّبَاحِ لِأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ أَنْ يَجْعَلُوهُ خَلَفًا عَنِ الصَّبَاحِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَصَابِيحِ: النُّجُومُ، اسْتُعِيرَ لَهَا الْمَصَابِيحُ لِمَا يَبْدُو مِنْ نُورِهَا.
وَانْتَصَبَ حِفْظاً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ زَيَّنَّا.
وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَاهَا حِفْظًا. وَالْمُرَادُ: حِفْظًا لِلسَّمَاءِ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ لِلسَّمْعِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها [فصلت: ١٠] إِلَى قَوْلِهِ: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً.
251
وَالتَّقْدِيرُ: وَضْعُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ يس. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ إِيثَارِ وَصْفَيِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ بِالذِّكْرِ.
[١٣، ١٤]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ١٣ الى ١٤]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ.
بَعْدَ أَنْ قَرَعَتْهُمُ الْحُجَّةُ الَّتِي لَا تَتْرُكُ لِلشَّكِّ مَسْرَبًا إِلَى النُّفُوسِ بَعْدَهَا فِي أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِإِيجَادِ الْعَوَالِمِ كُلِّهَا. وَكَانَ ثُبُوتُ الْوَحْدَانِيَّةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُزِيلَ الرِّيبَةَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ مَا كَفَرُوا بِهِ إِلَّا لِأَجْلِ إِعْلَانِهِ بِنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا اسْتَبَانَ ذَلِكَ كَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَفِيئُوا إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَأَنْ يُقْلِعُوا عَنْ إِعْرَاضِهِمُ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [فصلت: ٤] إِلَخْ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ بَعْدَ تِلْكَ الْحُجَجِ أَمْرًا مَفْرُوضًا كَمَا يُفْرَضُ الْمُحَالُ، فَجِيءَ فِي جَانِبِهِ بِحَرْفِ (إِنَّ) الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَوْقِعِ الَّذِي لَا جَزْمَ فِيهِ بِحُصُولِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: ٥] فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنْ).
فَمَعْنَى فَإِنْ أَعْرَضُوا إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى إِعْرَاضِهِمْ بَعْدَ مَا هَدَيْتُهُمْ بِالدَّلَائِلِ الْبَيِّنَةِ وَكَابَرُوا فِيهَا، فَالْفِعْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِمْرَارِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: ١٣٦].
وَالْإِنْذَارُ: التَّخْوِيفُ، وَهُوَ هُنَا تَخْوِيفٌ بِتَوَقُّعِ عُقَابٍ مِثْلِ عِقَابِ الَّذِينَ شَابَهُوهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ خَشْيَةَ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنْ تَجْرِيَ أَفْعَالُ اللَّهِ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ هُوَ وَعِيدًا لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تُصِبْهُمْ صَاعِقَةٌ مِثْلُ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ سَاوَوْهُمَا فِي التَّكْذِيبِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الرُّسُلِ وَفِي التَّعَلُّلَاتِ الَّتِي تَعَلَّلُوا بِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٤] وَأَمْهَلَ اللَّهُ قُرَيْشًا حَتَّى آمَنَ كَثِيرٌ
مِنْهُمْ وَاسْتَأْصَلَ كُفَّارَهُمْ بِعَذَابٍ خَاصٍّ.
[١٣، ١٤]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ١٣ الى ١٤]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ.
بَعْدَ أَنْ قَرَعَتْهُمُ الْحُجَّةُ الَّتِي لَا تَتْرُكُ لِلشَّكِّ مَسْرَبًا إِلَى النُّفُوسِ بَعْدَهَا فِي أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِإِيجَادِ الْعَوَالِمِ كُلِّهَا. وَكَانَ ثُبُوتُ الْوَحْدَانِيَّةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُزِيلَ الرِّيبَةَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ مَا كَفَرُوا بِهِ إِلَّا لِأَجْلِ إِعْلَانِهِ بِنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا اسْتَبَانَ ذَلِكَ كَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَفِيئُوا إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَأَنْ يُقْلِعُوا عَنْ إِعْرَاضِهِمُ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [فصلت: ٤] إِلَخْ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ بَعْدَ تِلْكَ الْحُجَجِ أَمْرًا مَفْرُوضًا كَمَا يُفْرَضُ الْمُحَالُ، فَجِيءَ فِي جَانِبِهِ بِحَرْفِ (إِنَّ) الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَوْقِعِ الَّذِي لَا جَزْمَ فِيهِ بِحُصُولِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: ٥] فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنْ).
فَمَعْنَى فَإِنْ أَعْرَضُوا إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى إِعْرَاضِهِمْ بَعْدَ مَا هَدَيْتُهُمْ بِالدَّلَائِلِ الْبَيِّنَةِ وَكَابَرُوا فِيهَا، فَالْفِعْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِمْرَارِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: ١٣٦].
وَالْإِنْذَارُ: التَّخْوِيفُ، وَهُوَ هُنَا تَخْوِيفٌ بِتَوَقُّعِ عُقَابٍ مِثْلِ عِقَابِ الَّذِينَ شَابَهُوهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ خَشْيَةَ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنْ تَجْرِيَ أَفْعَالُ اللَّهِ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ هُوَ وَعِيدًا لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تُصِبْهُمْ صَاعِقَةٌ مِثْلُ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ سَاوَوْهُمَا فِي التَّكْذِيبِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الرُّسُلِ وَفِي التَّعَلُّلَاتِ الَّتِي تَعَلَّلُوا بِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٤] وَأَمْهَلَ اللَّهُ قُرَيْشًا حَتَّى آمَنَ كَثِيرٌ
مِنْهُمْ وَاسْتَأْصَلَ كُفَّارَهُمْ بِعَذَابٍ خَاصٍّ.
252
وَحَقِيقَةُ الصَّاعِقَةِ: نَارٌ تَخْرُجُ مَعَ الْبَرْقِ تُحْرِقُ مَا تُصِيبُهُ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩]. وَتُطْلَقُ عَلَى الْحَادِثَةِ الْمُبِيرَةِ السَّرِيعَةِ الْإِهْلَاكِ، وَلَمَّا أُضِيفَتْ صَاعِقَةٌ هُنَا إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ، وَعَادٌ لَمْ تُهْلِكْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَإِنَّمَا أَهْلَكَهُمُ الرِّيحُ وَثَمُودُ أُهْلِكُوا بِالصَّاعِقَةِ فَقَدِ اسْتَعْمَلَ الصَّاعِقَةَ هُنَا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، أَوْ هُوَ مِنْ عُمُومِ الْمُجَاوِزِ وَالْمُقْتَضِي لِذَلِكَ عَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ قَصْدَ الْإِيجَازِ، وَلِيَقَعَ الْإِجْمَالُ ثُمَّ التَّفْصِيلُ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا عادٌ [فصلت: ١٥] إِلَى قَوْلِهِ: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [فصلت: ١٧].
وإِذْ ظَرْفٌ لِلْمَاضِي، وَالْمَعْنَى مِثْلُ صَاعِقَتِهِمْ حِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ كلم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ خِلَافِ قَوْمِهِ فَتَلَا عَلَيْهِم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حَتَّى بَلَغَ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: ١- ١٣] الْآيَةَ، فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فَم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ:
«نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ»
. وَضَمِيرُ جاءَتْهُمُ عَائِدٌ إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمَا. وَجَمْعُ الرُّسُلِ هُنَا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم:
٤]، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ غَيْرُ عَزِيزٍ، وَإِنَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولَانِ هُودٌ وَصَالِحٌ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ تَمْثِيلٌ لِحِرْصِ رَسُولِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى هُدَاهُمْ بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ وَسِيلَةً يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى إِبْلَاغِهِمُ الدِّينَ إِلَّا تَوَسَّلَ بِهَا. فَمُثِّلَ ذَلِكَ بِالْمَجِيءِ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمْ تَارَةً مِنْ أَمَامِهِ وَتَارَةً مِنْ خَلْفِهِ لَا يَتْرُكُ لَهُ جِهَةً، كَمَا يَفْعَلُ الْحَرِيصُ عَلَى تَحْصِيلِ أَمْرٍ أَنْ يَتَطَلَّبَهُ وَيُعِيدَ تَطَلُّبَهُ وَيَسْتَوْعِبَ مَظَانَّ وُجُودِهِ أَوْ مَظَانَّ سَمَاعِهِ، وَهَذَا التَّمْثِيلُ نَظِيرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الشَّيْطَانِ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الْأَعْرَاف: ١٧].
وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جِهَتَيْنِ وَلَمْ تُسْتَوْعَبِ الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ كَمَا مُثِّلَ حَالُ الشَّيْطَانِ فِي وَسْوَسَتِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا تَمْثِيلُ الْحِرْصِ فَقَطْ وَقَدْ حَصَلَ، وَالْمَقْصُودُ
وإِذْ ظَرْفٌ لِلْمَاضِي، وَالْمَعْنَى مِثْلُ صَاعِقَتِهِمْ حِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ كلم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ خِلَافِ قَوْمِهِ فَتَلَا عَلَيْهِم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حَتَّى بَلَغَ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: ١- ١٣] الْآيَةَ، فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فَم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ:
«نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ»
. وَضَمِيرُ جاءَتْهُمُ عَائِدٌ إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمَا. وَجَمْعُ الرُّسُلِ هُنَا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم:
٤]، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ غَيْرُ عَزِيزٍ، وَإِنَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولَانِ هُودٌ وَصَالِحٌ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ تَمْثِيلٌ لِحِرْصِ رَسُولِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى هُدَاهُمْ بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ وَسِيلَةً يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى إِبْلَاغِهِمُ الدِّينَ إِلَّا تَوَسَّلَ بِهَا. فَمُثِّلَ ذَلِكَ بِالْمَجِيءِ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمْ تَارَةً مِنْ أَمَامِهِ وَتَارَةً مِنْ خَلْفِهِ لَا يَتْرُكُ لَهُ جِهَةً، كَمَا يَفْعَلُ الْحَرِيصُ عَلَى تَحْصِيلِ أَمْرٍ أَنْ يَتَطَلَّبَهُ وَيُعِيدَ تَطَلُّبَهُ وَيَسْتَوْعِبَ مَظَانَّ وُجُودِهِ أَوْ مَظَانَّ سَمَاعِهِ، وَهَذَا التَّمْثِيلُ نَظِيرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الشَّيْطَانِ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الْأَعْرَاف: ١٧].
وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جِهَتَيْنِ وَلَمْ تُسْتَوْعَبِ الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ كَمَا مُثِّلَ حَالُ الشَّيْطَانِ فِي وَسْوَسَتِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا تَمْثِيلُ الْحِرْصِ فَقَطْ وَقَدْ حَصَلَ، وَالْمَقْصُودُ
253
فِي الْحِكَايَةِ عَنِ الشَّيْطَانِ تَمْثِيلُ الْحِرْصِ مَعَ التَّلَهُّفِ تَحْذِيرًا مِنْهُ وَإِثَارَةً لِبُغْضِهِ فِي نُفُوسِ النَّاس.
وأَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ تَفْسِيرٌ لِجُمْلَةِ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ لِتَضَمُّنِ الْمَجِيءِ مَعْنَى الْإِبْلَاغِ بِقَرِينَةِ كَوْنِ فَاعِلِ الْمَجِيءِ مُتَّصِفًا بِأَنَّهُمْ رُسُلٌ، فَتَكُونُ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً لِ جاءَتْهُمُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ
كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذْ فَسَّرَ الْحَاجَةَ بِأَنْ يَقْرَأَ السَّلَامَ عَلَى أَسْمَاءَ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْحَاجَةِ الرِّسَالَةَ، وَهَذَا جَرْيٌ عَلَى رَأْيِ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ تَقَدُّمِ جُمْلَةٍ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ بَلِ الِاكْتِفَاءُ بِتَقَدُّمِ مَا أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْقَوْلِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جُمْلَةً خِلَافًا لِمَا أَطَالَ بِهِ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» مِنْ أَبْحَاثٍ لَا يَرْضَاهَا الْأَرِيبُ، أَوْ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ عُنْوَانُ الرُّسُلُ مِنْ إِبْلَاغِ رِسَالَةٍ.
قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ حِكَايَةُ جَوَابِ عَادٍ وَثَمُودَ لِرَسُولَيْهِمْ فَقَدْ كَانَ جَوَابًا متماثلا لِأَنَّهُ ناشىء عَنْ تَفْكِيرٍ مُتَمَاثِلٍ وَهُوَ أَنَّ تَفْكِيرَ الْأَذْهَانِ الْقَاصِرَةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبْنَى عَلَى تَصَوُّرَاتٍ وَهْمِيَّةٍ وَأَقْيِسَةٍ تَخْيِيلِيَّةٍ وَسُفِسْطَائِيَّةٍ، فَإِنَّهُمْ يَتَصَوَّرُونَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالَهُ عَلَى غَيْرِ كُنْهِهَا وَيَقِيسُونَهَا عَلَى أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلِذَلِكَ يَتَمَاثَلُ فِي هَذَا حَالُ أَهْلِ الْجَهَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: ٥٢، ٥٣]، أَيْ بَلْ هُمْ مُتَمَاثِلُونَ فِي الطُّغْيَانِ، أَيِ الْكُفْرِ الشَّدِيدِ فَتُمْلِي عَلَيْهِمْ أَوْهَامُهُمْ قَضَايَا مُتَمَاثِلَةً.
وَلِكَوْنِ جَوَابِهِمْ جَرَى فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ أَتَتْ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ بِأُسْلُوبِ الْمُقَاوَلَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠]
وأَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ تَفْسِيرٌ لِجُمْلَةِ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ لِتَضَمُّنِ الْمَجِيءِ مَعْنَى الْإِبْلَاغِ بِقَرِينَةِ كَوْنِ فَاعِلِ الْمَجِيءِ مُتَّصِفًا بِأَنَّهُمْ رُسُلٌ، فَتَكُونُ (أَنْ) تَفْسِيرِيَّةً لِ جاءَتْهُمُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ
كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِنْ تَحْمِلَا حَاجَةً لِي خِفٌ مَحْمِلُهَا | تَسْتَوْجِبَا مِنَّةً عِنْدِي بِهَا ويدا |
أَن تقرءان عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا | مِنِّي السَّلَامَ وَأَنْ لَا تُشْعِرَا أَحَدًا |
قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ حِكَايَةُ جَوَابِ عَادٍ وَثَمُودَ لِرَسُولَيْهِمْ فَقَدْ كَانَ جَوَابًا متماثلا لِأَنَّهُ ناشىء عَنْ تَفْكِيرٍ مُتَمَاثِلٍ وَهُوَ أَنَّ تَفْكِيرَ الْأَذْهَانِ الْقَاصِرَةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبْنَى عَلَى تَصَوُّرَاتٍ وَهْمِيَّةٍ وَأَقْيِسَةٍ تَخْيِيلِيَّةٍ وَسُفِسْطَائِيَّةٍ، فَإِنَّهُمْ يَتَصَوَّرُونَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالَهُ عَلَى غَيْرِ كُنْهِهَا وَيَقِيسُونَهَا عَلَى أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلِذَلِكَ يَتَمَاثَلُ فِي هَذَا حَالُ أَهْلِ الْجَهَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: ٥٢، ٥٣]، أَيْ بَلْ هُمْ مُتَمَاثِلُونَ فِي الطُّغْيَانِ، أَيِ الْكُفْرِ الشَّدِيدِ فَتُمْلِي عَلَيْهِمْ أَوْهَامُهُمْ قَضَايَا مُتَمَاثِلَةً.
وَلِكَوْنِ جَوَابِهِمْ جَرَى فِي سِيَاقِ الْمُحَاوَرَةِ أَتَتْ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ بِأُسْلُوبِ الْمُقَاوَلَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠]
254
فَإِنَّ قَوْلَ الرُّسُلِ لَهُمْ: لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَدْ حُكِيَ بِفِعْلٍ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْقَوْلِ، وَهُوَ فِعْلُ جاءَتْهُمُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
فَقَوْلُهُمْ: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ رِسَالَةِ الْبَشَرِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَفْعُولُ شاءَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ لَوْ شَاءَ رَبُّنَا أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مِنَ السَّمَاءِ مُرْسَلِينَ إِلَيْنَا، وَهَذَا حَذْفٌ خَاصٌّ هُوَ غَيْرُ حَذْفِ مَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ الشَّائِعِ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَحْذُوفُ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِجَوَابِ لَوْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [الْأَنْعَام: ١٤٩]، وَنُكْتَتُهُ الْإِبْهَامُ ثُمَّ الْبَيَانُ، وَأَمَّا الْحَذْفُ فِي الْآيَةِ فَهُوَ لِلِاعْتِمَادِ عَلَى قَرِينَةِ السِّيَاقِ وَالْإِيجَازِ وَهُوَ حَذْفٌ عَزِيزٌ لِمَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ، وَنَظِيرُهُ
قَوْلُ الْمَعَرِّيِّ:
وَتَضَمَّنَ كَلَامُهُمْ قِيَاسًا اسْتِثْنَائِيًّا تَرْكِيبُهُ: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا لَأَرْسَلَ مَلَائِكَةً يُنْزِلُهُمْ مِنَ السَّمَاءِ لَكِنَّهُ لَمْ يُنْزِلْ إِلَيْنَا مَلَائِكَةً فَهُوَ لَمْ يَشَأْ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْنَا رَسُولًا. وَهَذَا إِيمَاءٌ إِلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وَلِهَذَا فَرَّعُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُمْ: فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أَيْ جَاحِدُونَ رِسَالَتَكُمْ وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَن التَّكْذِيب.
[١٥، ١٦]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (١٦)
بَعْدَ أَنْ حَكَى عَنْ عَادٍ وَثَمُودَ مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الأمتان من الكابرة وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ فَصَّلَ هُنَا بَعْضَ مَا اخْتَصَّتْ بِهِ كُلُّ أُمَّةٍ مِنْهُمَا مِنْ صُورَةِ الْكُفْرِ، وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَهُ مُنَاسَبَةٌ لِمَا حَلَّ بِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْعَذَابِ.
فَقَوْلُهُمْ: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَ رِسَالَةِ الْبَشَرِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَفْعُولُ شاءَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ لَوْ شَاءَ رَبُّنَا أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مِنَ السَّمَاءِ مُرْسَلِينَ إِلَيْنَا، وَهَذَا حَذْفٌ خَاصٌّ هُوَ غَيْرُ حَذْفِ مَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ الشَّائِعِ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَحْذُوفُ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِجَوَابِ لَوْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [الْأَنْعَام: ١٤٩]، وَنُكْتَتُهُ الْإِبْهَامُ ثُمَّ الْبَيَانُ، وَأَمَّا الْحَذْفُ فِي الْآيَةِ فَهُوَ لِلِاعْتِمَادِ عَلَى قَرِينَةِ السِّيَاقِ وَالْإِيجَازِ وَهُوَ حَذْفٌ عَزِيزٌ لِمَفْعُولِ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ، وَنَظِيرُهُ
قَوْلُ الْمَعَرِّيِّ:
وَإِنْ شِئْتَ فَازْعُمْ أَنَّ مَنْ فَوْقَ ظَهْرِهَا | عَبِيدُكَ وَاسْتَشْهِدْ إِلَهَكَ يَشْهَدِ |
[١٥، ١٦]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (١٦)
بَعْدَ أَنْ حَكَى عَنْ عَادٍ وَثَمُودَ مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الأمتان من الكابرة وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ فَصَّلَ هُنَا بَعْضَ مَا اخْتَصَّتْ بِهِ كُلُّ أُمَّةٍ مِنْهُمَا مِنْ صُورَةِ الْكُفْرِ، وَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَهُ مُنَاسَبَةٌ لِمَا حَلَّ بِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْعَذَابِ.
255
وَالْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت: ١٤] الْمُقْتَضِيَةِ أَنَّهُمْ رَفَضُوا دَعْوَةَ رَسُولَيْهِمْ وَلَمْ يَقْبَلُوا إِرْشَادَهُمَا وَاسْتِدْلَالَهُمَا.
وَأَمَّا حَرْفُ شَرْطٍ وَتَفْصِيلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦]. وَالْمَعْنَى: فَأَمَّا عَادٌ فَمَنَعَهُمْ مِنْ قَبُولِ الْهُدَى اسْتِكْبَارُهُمْ.
وَالِاسْتِكْبَارُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْكِبْرِ، أَيِ التَّعَاظُمُ وَاحْتِقَارُ النَّاسِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ: اسْتَجَابَ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ لِلْعَهْدِ، أَيْ أَرْضُهُمُ الْمَعْهُودَةُ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ مِنْ مَسَاوِيهِمُ الِاسْتِكْبَارُ لِأَنَّ تكبرهم هُوَ الَّذين صَرَفَهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ رَسُولِهِمْ وَعَنْ تَوَقُّعِ عِقَابِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ الْحَقِّ زِيَادَةُ تَشْنِيعٍ لِاسْتِكْبَارِهِمْ، فَإِنَّ الِاسْتِكْبَارَ لَا يَكُونُ بِحَقٍّ إِذْ لَا مُبَرِّرَ لِلْكِبْرِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْمُغْرِيَاتِ بِالْكِبْرِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ وَالسُّلْطَانِ وَالْقُوَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تُبْلِغُ الْإِنْسَانَ مَبْلَغَ الْخُلُوِّ عَنِ النَّقْصِ وَلَيْسَ لِلضَّعِيفِ النَّاقِصِ حَقٌّ فِي
الْكِبْرِ وَلِذَلِكَ كَانَ الْكِبْرُ مِنْ خَصَائِصِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُمْ قَدِ اغْتَرُّوا بِقُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ وَعَزَّةِ أُمَّتِهِمْ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ لَا يَغْلِبُهُمْ أَحَدٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً فَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ هُوَ سَبَبُ اسْتِكْبَارِهِمْ لِأَنَّهُ أَوْرَثَهُمُ الِاسْتِخْفَافَ بِمَنْ عَدَاهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ هُودٌ بِإِنْكَارِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالطُّغْيَانِ عَظُمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا الْعُجْبَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ فَكَذَّبُوا رَسُولَهُمْ.
فَلَمَّا كَانَ اغْتِرَارُهُمْ بِقُوَّتِهِمْ هُوَ بَاعِثَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَكَانَ قَوْلُهُمْ: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً دَلِيلًا عَلَيْهِ خُصَّ بِالذِّكْرِ. وَإِنَّمَا عُطِفَ بِالْوَاوِ مَعَ أَنَّهُ كَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ إِشَارَةً إِلَى اسْتِقْلَالِهِ بِكَوْنِهِ مُوجِبَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ هُوَ بِمُفْرَدِهِ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ فَذُكِرَ بِالْعَطْفِ عَلَى فِعْلِ «اسْتَكْبَرُوا» لِأَنَّ شَأْنَ الْعَطْفِ أَنْ يَقْتَضِيَ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَيُعْلِمَ أَنَّهُ بَاعِثُهُمْ عَلَى الِاسْتِكْبَارِ بِالسِّيَاقِ.
وَأَمَّا حَرْفُ شَرْطٍ وَتَفْصِيلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦]. وَالْمَعْنَى: فَأَمَّا عَادٌ فَمَنَعَهُمْ مِنْ قَبُولِ الْهُدَى اسْتِكْبَارُهُمْ.
وَالِاسْتِكْبَارُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْكِبْرِ، أَيِ التَّعَاظُمُ وَاحْتِقَارُ النَّاسِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ: اسْتَجَابَ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ لِلْعَهْدِ، أَيْ أَرْضُهُمُ الْمَعْهُودَةُ. وَإِنَّمَا ذُكِرَ مِنْ مَسَاوِيهِمُ الِاسْتِكْبَارُ لِأَنَّ تكبرهم هُوَ الَّذين صَرَفَهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ رَسُولِهِمْ وَعَنْ تَوَقُّعِ عِقَابِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ الْحَقِّ زِيَادَةُ تَشْنِيعٍ لِاسْتِكْبَارِهِمْ، فَإِنَّ الِاسْتِكْبَارَ لَا يَكُونُ بِحَقٍّ إِذْ لَا مُبَرِّرَ لِلْكِبْرِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْمُغْرِيَاتِ بِالْكِبْرِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ وَالسُّلْطَانِ وَالْقُوَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تُبْلِغُ الْإِنْسَانَ مَبْلَغَ الْخُلُوِّ عَنِ النَّقْصِ وَلَيْسَ لِلضَّعِيفِ النَّاقِصِ حَقٌّ فِي
الْكِبْرِ وَلِذَلِكَ كَانَ الْكِبْرُ مِنْ خَصَائِصِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُمْ قَدِ اغْتَرُّوا بِقُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ وَعَزَّةِ أُمَّتِهِمْ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ لَا يَغْلِبُهُمْ أَحَدٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً فَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ هُوَ سَبَبُ اسْتِكْبَارِهِمْ لِأَنَّهُ أَوْرَثَهُمُ الِاسْتِخْفَافَ بِمَنْ عَدَاهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ هُودٌ بِإِنْكَارِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالطُّغْيَانِ عَظُمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا الْعُجْبَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ فَكَذَّبُوا رَسُولَهُمْ.
فَلَمَّا كَانَ اغْتِرَارُهُمْ بِقُوَّتِهِمْ هُوَ بَاعِثَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَكَانَ قَوْلُهُمْ: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً دَلِيلًا عَلَيْهِ خُصَّ بِالذِّكْرِ. وَإِنَّمَا عُطِفَ بِالْوَاوِ مَعَ أَنَّهُ كَالْبَيَانِ لِقَوْلِهِ: فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ إِشَارَةً إِلَى اسْتِقْلَالِهِ بِكَوْنِهِ مُوجِبَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ هُوَ بِمُفْرَدِهِ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ فَذُكِرَ بِالْعَطْفِ عَلَى فِعْلِ «اسْتَكْبَرُوا» لِأَنَّ شَأْنَ الْعَطْفِ أَنْ يَقْتَضِيَ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَيُعْلِمَ أَنَّهُ بَاعِثُهُمْ عَلَى الِاسْتِكْبَارِ بِالسِّيَاقِ.
256
وَجُمْلَةُ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَالْمَعْنَى: إِنْكَارُ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً حَيْثُ أَعرضُوا عَن رِسَالَة رَسُولِ رَبِّهِمْ وَعَنْ إِنْذَارِهِ إِيَّاهُمْ إِعْرَاضَ مَنْ لَا يَكْتَرِثُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُمْ لَوْ حَسَبُوا لِذَلِكَ حِسَابَهُ لَتَوَقَّعُوا عَذَابَهُ فلأقبلوا على النّظر فِي دَلَائِل صدق رسولهم. وَإِجْرَاءُ وَصْفِ الَّذِي خَلَقَهُمْ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ لِجَهْلِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَقْوَى مِنْهُمْ فَإِنَّ كَوْنَهُمْ مَخْلُوقِينَ مَعْلُومٌ لَهُمْ بِالضَّرُورَةِ، فَكَانَ الْعِلْمُ بِهِ كَافِيًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَحْسِبُوا لِغَضَبِهِ حِسَابَهُ فَيَنْظُرُوا فِي أَدِلَّةِ صِدْقِ رَسُولِهِ إِلَيْهِمْ.
وَضَمِيرُ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَهُوَ مُفِيدٌ تَقْوِيَةَ الْحُكْمِ بِمَعْنَى وُضُوحِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُحَقَّقًا كَانَ عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِمُقْتَضَاهُ أَشْنَعَ وَعُذْرُهُمْ فِي جَهْلِهِ مُنْتَفِيًا.
وَالْقُوَّةُ حَقِيقَتُهَا: حَالَةٌ فِي الْجِسْمِ يَتَأَتَّى بِهَا أَنْ يَعْمَلَ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ، وَتُطْلَقُ عَلَى لَازِمِ ذَلِكَ مِنَ الْقُدْرَةِ وَوَسَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ إِطْلَاقِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٥]، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيُّ وَالْكِنَائِيُّ وَالْمَجَازِيُّ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ تَصْرِيحًا وَكِنَايَةً، وَمَجَازُهُ لِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ وَسَائِلِ تَذْلِيلِ صِعَابِ الْأُمُورِ لِقُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ وَقُوَّةِ عُقُولِهِمْ. وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ بِعَادٍ فِي أَصَالَةِ آرَائِهِمْ فَيَقُولُونَ:
أَحْلَامُ عَادٍ، قَالَ النَّابِغَةُ:
وَيَقُولُونَ فِي وَصْفِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَقِلُّ صُنْعُ أَمْثَالِهَا: عَادِيَّةٌ يَقُولُونَ: بِئْرٌ عَادِيَّةٌ، وَبِنَاءٌ عَادِيٌّ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْقُوَّةُ تَسْتَلْزِمُ سِعَةَ الْقُدْرَةِ أَسْنَدَ الْقُوَّةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى أَنَّ قُدْرَتَهُ تَعَالَى لَا يَسْتَعْصِي عَلَيْهَا شَيْءٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَتُهُ تَعَالَى، وَهَذَا الْمُرَادُ هُنَا فِي قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً أَيْ هُوَ أَوْسَعُ قُدْرَةً مِنْ قُدْرَتِهِمْ فَإِطْلَاقُ الْقُوَّةِ
وَضَمِيرُ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَهُوَ مُفِيدٌ تَقْوِيَةَ الْحُكْمِ بِمَعْنَى وُضُوحِهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُحَقَّقًا كَانَ عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِمُقْتَضَاهُ أَشْنَعَ وَعُذْرُهُمْ فِي جَهْلِهِ مُنْتَفِيًا.
وَالْقُوَّةُ حَقِيقَتُهَا: حَالَةٌ فِي الْجِسْمِ يَتَأَتَّى بِهَا أَنْ يَعْمَلَ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ، وَتُطْلَقُ عَلَى لَازِمِ ذَلِكَ مِنَ الْقُدْرَةِ وَوَسَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ إِطْلَاقِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخُذْها بِقُوَّةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٥]، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيُّ وَالْكِنَائِيُّ وَالْمَجَازِيُّ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ تَصْرِيحًا وَكِنَايَةً، وَمَجَازُهُ لِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ وَسَائِلِ تَذْلِيلِ صِعَابِ الْأُمُورِ لِقُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ وَقُوَّةِ عُقُولِهِمْ. وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ بِعَادٍ فِي أَصَالَةِ آرَائِهِمْ فَيَقُولُونَ:
أَحْلَامُ عَادٍ، قَالَ النَّابِغَةُ:
أَحْلَامُ عَادٍ وَأَجْسَامٌ مُطَهَّرَةٌ | مِنَ الْمَعَقَّةِ وَالْآفَاتِ وَالْإِثَمِ |
وَلَمَّا كَانَتِ الْقُوَّةُ تَسْتَلْزِمُ سِعَةَ الْقُدْرَةِ أَسْنَدَ الْقُوَّةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى أَنَّ قُدْرَتَهُ تَعَالَى لَا يَسْتَعْصِي عَلَيْهَا شَيْءٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَتُهُ تَعَالَى، وَهَذَا الْمُرَادُ هُنَا فِي قَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً أَيْ هُوَ أَوْسَعُ قُدْرَةً مِنْ قُدْرَتِهِمْ فَإِطْلَاقُ الْقُوَّةِ
257
عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، أَيْ عُمُومُ تَأْثِيرِهَا وَتَعَلُّقِهَا بِالْمُمْكِنَاتِ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ لَا يَسْتَعْصِي عَلَى تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ شَيْءٌ مُمْكِنٌ، وَكَمَالُ غِنَاهُ عَنِ التَّأَثُّرِ لِلْغَيْرِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٥٢].
وَجُمْلَةُ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ، وَالْوَاوُ فِيهَا اعْتِرَاضِيَّةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ مُعْجِزَاتُ رَسُولِهِمْ هُودٍ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا وَأَصَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْآنُ لِهُودٍ آيَاتٍ سِوَى أَنَّهُ أَنْذَرَهُمْ عَذَابًا يَأْتِيهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَحْقَاف: ٢٤] فَذَلِكَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِأَوَائِلِ الْآيَاتِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي فِي دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ وَتَذْكِيرُهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً [الْأَعْرَاف: ٦٩]، وَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشُّعَرَاء: ١٣٢، ١٣٤].
وَدَلَّ فِعْلُ كانُوا عَلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ بِالْآيَاتِ مُتَأَصِّلٌ فِيهِمْ. وَدَلَّتْ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَجْحَدُونَ أَنَّ الْجَحْدَ مُتَكَرِّرٌ فِيهِمْ مُتَجَدِّدٌ. وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ وَصْفَ عِقَابِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَأَشَارَتِ الْفَاءُ إِلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ كَانَ مُسَبَّبًا عَلَى حَالَةِ كُفْرِهِمْ بِصِفَتِهَا فَإِنَّ بَاعِثَ كُفْرِهِمْ كَانَ اغْتِرَارَهُمْ بِقُوَّتِهِمْ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِمَا لَا يَتَرَقَّبُ النَّاسُ الْهَلَاكَ بِهِ فَإِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يُؤْبَهُ بِهِ: هُوَ رِيحٌ، لِيُرِيَهُمْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْقُوَّةِ وَأَنَّهُ يَضَعُ الْقُوَّةَ فِي الشَّيْءِ الْهَيِّنِ مِثْلِ الرِّيحِ لِيَكُونَ عَذَابًا وَخِزْيًا، أَيْ تَحْقِيرًا كَمَا قَالَ: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَأَيُّ خِزْيٍ أَشَدُّ مِنْ أَنْ تَتَرَامَاهُمُ الرِّيحُ فِي الْجَوِّ كَالرِّيشِ، وَأَنْ تُلْقِيَهُمْ هَلْكَى عَلَى التُّرَابِ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ فَيُشَاهِدُهُمُ الْمَارُّونَ
وَجُمْلَةُ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ، وَالْوَاوُ فِيهَا اعْتِرَاضِيَّةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ مُعْجِزَاتُ رَسُولِهِمْ هُودٍ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا وَأَصَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْآنُ لِهُودٍ آيَاتٍ سِوَى أَنَّهُ أَنْذَرَهُمْ عَذَابًا يَأْتِيهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَحْقَاف: ٢٤] فَذَلِكَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِأَوَائِلِ الْآيَاتِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي فِي دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ وَتَذْكِيرُهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً [الْأَعْرَاف: ٦٩]، وَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشُّعَرَاء: ١٣٢، ١٣٤].
وَدَلَّ فِعْلُ كانُوا عَلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ بِالْآيَاتِ مُتَأَصِّلٌ فِيهِمْ. وَدَلَّتْ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَجْحَدُونَ أَنَّ الْجَحْدَ مُتَكَرِّرٌ فِيهِمْ مُتَجَدِّدٌ. وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ وَصْفَ عِقَابِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَأَشَارَتِ الْفَاءُ إِلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ كَانَ مُسَبَّبًا عَلَى حَالَةِ كُفْرِهِمْ بِصِفَتِهَا فَإِنَّ بَاعِثَ كُفْرِهِمْ كَانَ اغْتِرَارَهُمْ بِقُوَّتِهِمْ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِمَا لَا يَتَرَقَّبُ النَّاسُ الْهَلَاكَ بِهِ فَإِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يُؤْبَهُ بِهِ: هُوَ رِيحٌ، لِيُرِيَهُمْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْقُوَّةِ وَأَنَّهُ يَضَعُ الْقُوَّةَ فِي الشَّيْءِ الْهَيِّنِ مِثْلِ الرِّيحِ لِيَكُونَ عَذَابًا وَخِزْيًا، أَيْ تَحْقِيرًا كَمَا قَالَ: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَأَيُّ خِزْيٍ أَشَدُّ مِنْ أَنْ تَتَرَامَاهُمُ الرِّيحُ فِي الْجَوِّ كَالرِّيشِ، وَأَنْ تُلْقِيَهُمْ هَلْكَى عَلَى التُّرَابِ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ فَيُشَاهِدُهُمُ الْمَارُّونَ
258
بِدِيَارِهِمْ جُثَثًا صَرْعَى قَدْ
تَقَلَّصَتْ جُلُودُهُمْ وَبَلِيَتْ أَجْسَامُهُمْ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٌ.
وَالرِّيحُ: تَمَوُّجٌ فِي الْهَوَاءِ يَحْدُثُ مِنْ تَعَاكُسِ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَتَنْتَقِلُ مَوْجَاتُهُ كَمَا تَنْتَقِلُ أَمْوَاجُ الْبَحْرِ وَالرِّيحُ الَّذِي أَصَابَ عَادًا هُوَ الرِّيحُ الدَّبُورُ، وَهُوَ الَّذِي يَهُبُّ مِنْ جِهَةِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، سُمِّيَتْ دَبُورًا بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ لِأَنَّهَا تَهُبُّ مِنْ جِهَةِ دُبُرِ الْكَعْبَةِ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ»
. وَإِنَّمَا كَانَتِ الرِّيحُ الَّتِي أَصَابَتْ عَادًا بِهَذِهِ الْقُوَّةِ بِسَبَبِ قُوَّةِ انْضِغَاطٍ فِي الْهَوَاءِ غَيْرِ مُعْتَادٍ فَإِنَّ الِانْضِغَاطَ يُصَيِّرُ الشَّيْءَ الضَّعِيفَ قَوِيًّا، كَمَا شُوهِدَ فِي عَصْرِنَا أَنَّ الْأَجْسَامَ الدَّقِيقَةَ مِنْ أَجْزَاءٍ كِيمْيَاوِيَّةٍ تُسَمَّى الذَّرَّةَ تَصِيرُ بِالِانْضِغَاطِ قَادِرَةً عَلَى نَسْفِ مَدِينَةٍ كَامِلَةٍ، وَتُسَمَّى الطَّاقَةَ الذَّرِّيَّةَ، وَقَدْ نُسِفَ بِهَا جُزْءٌ عَظِيمٌ مِنْ بِلَادِ الْيَابَانِ فِي الْحَرْبِ الْعَامَّةِ.
وَالصَّرْصَرُ: الرِّيحُ الْعَاصِفَةُ الَّتِي يَكُونُ لَهَا صَرْصَرَةٌ، أَيْ دَوِيٌّ فِي هُبُوبِهَا مِنْ شِدَّةِ سُرْعَةِ تَنَقُّلِهَا. وَتَضْعِيفُ عَيْنِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّتِهَا بَيْنَ أَفْرَادِ نَوْعِهَا كَتَضْعِيفِ كُبْكِبَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَبَّ. وَأَصْلُهُ صَرَّ، أَيْ صَاحَ، وَهُوَ وَصْفٌ لَا يُؤَنَّثُ لَفْظُهُ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي إِلَّا عَلَى الرِّيحِ وَهِيَ مُقَدَّرَةُ التَّأْنِيثِ.
وَالنَّحِسَاتُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْحَاءِ: جَمْعُ نَحِسٍ بِدُونِ تَأْنِيثٍ لِأَنَّهُ مصدر أَو اسْم مَصْدَرٌ لِفِعْلِ نَحِسَ كَعَلِمَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [الْقَمَر: ١٩].
وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِسِكُونِ الْحَاءِ. وَيَجُوزُ كَسْرُ الْحَاءِ وَبِهِ قَرَأَ الْبَقِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ (نَحْسٍ) إِذَا أَصَابَهُ النَّحْسُ إِصَابَةَ سُوءٍ أَوْ ضُرٍّ شَدِيدٍ. وَضِدُّهُ الْبَخْتُ فِي أَوْهَامِ الْعَامَّةِ، وَلَا حَقِيقَةَ لِلنَّحْسِ وَلَا لِلْبَخْتِ وَلَكِنَّهُمَا عَارِضَانِ لِلْإِنْسَانِ، فَالنَّحْسُ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ مزاجه أَوْ مِنْ تَفْرِيطِهِ أَوْ مِنْ فَسَادِ بِيئَتِهِ أَوْ قَوْمِهِ، وَالْبَخْتُ يَعْرِضُ مِنْ جَرَّاءِ عَكْسِ ذَلِكَ. وَبَعْضُ النَّوْعَيْنِ أُمُورٌ اتِّفَاقِيَّةٌ وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهَا جَزَاءً مِنَ اللَّهِ عَلَى عَمَلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مِنْ عِبَادِهِ أَوْ فِي دِينِهِ
تَقَلَّصَتْ جُلُودُهُمْ وَبَلِيَتْ أَجْسَامُهُمْ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٌ.
وَالرِّيحُ: تَمَوُّجٌ فِي الْهَوَاءِ يَحْدُثُ مِنْ تَعَاكُسِ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَتَنْتَقِلُ مَوْجَاتُهُ كَمَا تَنْتَقِلُ أَمْوَاجُ الْبَحْرِ وَالرِّيحُ الَّذِي أَصَابَ عَادًا هُوَ الرِّيحُ الدَّبُورُ، وَهُوَ الَّذِي يَهُبُّ مِنْ جِهَةِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، سُمِّيَتْ دَبُورًا بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ لِأَنَّهَا تَهُبُّ مِنْ جِهَةِ دُبُرِ الْكَعْبَةِ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ»
. وَإِنَّمَا كَانَتِ الرِّيحُ الَّتِي أَصَابَتْ عَادًا بِهَذِهِ الْقُوَّةِ بِسَبَبِ قُوَّةِ انْضِغَاطٍ فِي الْهَوَاءِ غَيْرِ مُعْتَادٍ فَإِنَّ الِانْضِغَاطَ يُصَيِّرُ الشَّيْءَ الضَّعِيفَ قَوِيًّا، كَمَا شُوهِدَ فِي عَصْرِنَا أَنَّ الْأَجْسَامَ الدَّقِيقَةَ مِنْ أَجْزَاءٍ كِيمْيَاوِيَّةٍ تُسَمَّى الذَّرَّةَ تَصِيرُ بِالِانْضِغَاطِ قَادِرَةً عَلَى نَسْفِ مَدِينَةٍ كَامِلَةٍ، وَتُسَمَّى الطَّاقَةَ الذَّرِّيَّةَ، وَقَدْ نُسِفَ بِهَا جُزْءٌ عَظِيمٌ مِنْ بِلَادِ الْيَابَانِ فِي الْحَرْبِ الْعَامَّةِ.
وَالصَّرْصَرُ: الرِّيحُ الْعَاصِفَةُ الَّتِي يَكُونُ لَهَا صَرْصَرَةٌ، أَيْ دَوِيٌّ فِي هُبُوبِهَا مِنْ شِدَّةِ سُرْعَةِ تَنَقُّلِهَا. وَتَضْعِيفُ عَيْنِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّتِهَا بَيْنَ أَفْرَادِ نَوْعِهَا كَتَضْعِيفِ كُبْكِبَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَبَّ. وَأَصْلُهُ صَرَّ، أَيْ صَاحَ، وَهُوَ وَصْفٌ لَا يُؤَنَّثُ لَفْظُهُ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي إِلَّا عَلَى الرِّيحِ وَهِيَ مُقَدَّرَةُ التَّأْنِيثِ.
وَالنَّحِسَاتُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْحَاءِ: جَمْعُ نَحِسٍ بِدُونِ تَأْنِيثٍ لِأَنَّهُ مصدر أَو اسْم مَصْدَرٌ لِفِعْلِ نَحِسَ كَعَلِمَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [الْقَمَر: ١٩].
وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِسِكُونِ الْحَاءِ. وَيَجُوزُ كَسْرُ الْحَاءِ وَبِهِ قَرَأَ الْبَقِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ (نَحْسٍ) إِذَا أَصَابَهُ النَّحْسُ إِصَابَةَ سُوءٍ أَوْ ضُرٍّ شَدِيدٍ. وَضِدُّهُ الْبَخْتُ فِي أَوْهَامِ الْعَامَّةِ، وَلَا حَقِيقَةَ لِلنَّحْسِ وَلَا لِلْبَخْتِ وَلَكِنَّهُمَا عَارِضَانِ لِلْإِنْسَانِ، فَالنَّحْسُ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ مزاجه أَوْ مِنْ تَفْرِيطِهِ أَوْ مِنْ فَسَادِ بِيئَتِهِ أَوْ قَوْمِهِ، وَالْبَخْتُ يَعْرِضُ مِنْ جَرَّاءِ عَكْسِ ذَلِكَ. وَبَعْضُ النَّوْعَيْنِ أُمُورٌ اتِّفَاقِيَّةٌ وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهَا جَزَاءً مِنَ اللَّهِ عَلَى عَمَلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مِنْ عِبَادِهِ أَوْ فِي دِينِهِ
259
كَمَا حَلَّ بِعَادٍ وَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَعَامَّةُ الْأُمَمِ يَتَوَهَّمُونَ النَّحْسَ وَالْبَخْتَ مِنْ نَوْعِ الطِّيَرَةِ وَمِنَ التَّشَاؤُمِ وَالتَّيَمُّنِ، وَمِنْهُ الزَّجْرُ وَالْعِيَافَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمِنْهُ تَطَلُّعُ الْحَدَثَانِ مِنْ طَوَالِعِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَيَّامِ عِنْدَ مُعْظَمِ الْأُمَمِ الْجَاهِلَةِ أَوِ الْمُخْتَلَّةِ الْعَقِيدَةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ أَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ، أَيْ كَشَفَ بُطْلَانَهُ، بِمَا لَمْ يَسْبِقْهُ تَعْلِيمٌ مِنَ الْأَدْيَانِ الَّتِي ظَهَرَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
فَمَعْنَى وَصْفِ الْأَيَّامِ بِالنَّحِسَاتِ: أَنَّهَا أَيَّامُ سُوءٍ شَدِيدٍ أَصَابَهُمْ وَهُوَ عَذَابُ الرِّيحِ،
وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة: ٧]، فَالْمُرَادُ: أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ بِخُصُوصِهَا كَانَتْ نَحْسًا وَأَنَّ نَحْسَهَا عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لِأَنَّ عَادًا هُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالْعَذَابِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ مِنْ كُلِّ عَامٍ هِيَ أَيَّامُ نَحْسٍ عَلَى الْبَشَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ لِاقْتِضَائِهِ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْأُمَمِ حَلَّ بِهَا سُوءٌ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ. وَوُصِفَتْ تِلْكَ الْأَيَّامُ بِأَنَّهَا نَحِساتٍ لِأَنَّهَا لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا إِلَّا السُّوءُ لَهُمْ مِنْ إِصَابَةِ آلَامِ الْهَشْمِ الْمُحَقَّقِ إِفْضَاؤُهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَمُشَاهَدَةِ الْأَمْوَاتِ مِنْ ذَوِيِهِمْ، وَمَوْتِ أَنْعَامِهِمْ، وَاقْتِلَاعِ نَخِيلِهِمْ.
وَقَدِ اخْتَرَعَ أَهْلُ الْقِصَصِ تَسْمِيَةَ أَيَّامٍ ثَمَانِيَةٍ نِصْفُهَا آخِرُ شَهْرِ (شَبَاطَ) وَنِصْفُهَا شَهْرُ (آذَارَ) تَكْثُرُ فِيهَا الرِّيَاحُ غَالِبًا دَعَوْهَا أَيَّامَ الْحُسُومِ ثُمَّ رَكَّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا الْمَوْصُوفَةُ بِحُسُومٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [٧] سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، فَزَعَمُوا أَنَّهَا الْأَيَّامُ الْمُوَافِقَةُ لِأَيَّامِ الرِّيحِ الَّتِي أَصَابَتْ عَادًا، ثُمَّ رَكَّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا أَيَّامُ نَحْسٍ مِنْ كُلِّ عَامٍ وَكَذَبُوا عَلَى بَعْضِ السَّلَفِ مِثْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَكَاذِيبَ فِي ذَلِكَ وَذَلِكَ ضِغْثٌ عَلَى إِبَالَةٍ، وَتَفَنُّنٌ فِي أَوْهَامِ الضَّلَالَةِ.
وَجُمِعَ نَحِساتٍ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِجَمْعِ غَيْرِ الْعَاقِلِ وَهُوَ أَيَّامٍ.
وَاللَّامُ فِي لِنُذِيقَهُمْ لِلتَّعْلِيلِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ (أَرْسَلْنَا). وَالْإِذَاقَةُ تَخْيِيلٌ لِمَكْنِيَّةٍ، شُبِّهَ الْعَذَاب بِطَعَام هيّيء لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ كَمَا سَمَّى عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ الْغَارَةَ قِرًى فِي قَوْلِهِ:
فَمَعْنَى وَصْفِ الْأَيَّامِ بِالنَّحِسَاتِ: أَنَّهَا أَيَّامُ سُوءٍ شَدِيدٍ أَصَابَهُمْ وَهُوَ عَذَابُ الرِّيحِ،
وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة: ٧]، فَالْمُرَادُ: أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ بِخُصُوصِهَا كَانَتْ نَحْسًا وَأَنَّ نَحْسَهَا عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لِأَنَّ عَادًا هُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالْعَذَابِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ مِنْ كُلِّ عَامٍ هِيَ أَيَّامُ نَحْسٍ عَلَى الْبَشَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ لِاقْتِضَائِهِ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْأُمَمِ حَلَّ بِهَا سُوءٌ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ. وَوُصِفَتْ تِلْكَ الْأَيَّامُ بِأَنَّهَا نَحِساتٍ لِأَنَّهَا لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا إِلَّا السُّوءُ لَهُمْ مِنْ إِصَابَةِ آلَامِ الْهَشْمِ الْمُحَقَّقِ إِفْضَاؤُهُ إِلَى الْمَوْتِ، وَمُشَاهَدَةِ الْأَمْوَاتِ مِنْ ذَوِيِهِمْ، وَمَوْتِ أَنْعَامِهِمْ، وَاقْتِلَاعِ نَخِيلِهِمْ.
وَقَدِ اخْتَرَعَ أَهْلُ الْقِصَصِ تَسْمِيَةَ أَيَّامٍ ثَمَانِيَةٍ نِصْفُهَا آخِرُ شَهْرِ (شَبَاطَ) وَنِصْفُهَا شَهْرُ (آذَارَ) تَكْثُرُ فِيهَا الرِّيَاحُ غَالِبًا دَعَوْهَا أَيَّامَ الْحُسُومِ ثُمَّ رَكَّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا الْمَوْصُوفَةُ بِحُسُومٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ [٧] سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، فَزَعَمُوا أَنَّهَا الْأَيَّامُ الْمُوَافِقَةُ لِأَيَّامِ الرِّيحِ الَّتِي أَصَابَتْ عَادًا، ثُمَّ رَكَّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا أَيَّامُ نَحْسٍ مِنْ كُلِّ عَامٍ وَكَذَبُوا عَلَى بَعْضِ السَّلَفِ مِثْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَكَاذِيبَ فِي ذَلِكَ وَذَلِكَ ضِغْثٌ عَلَى إِبَالَةٍ، وَتَفَنُّنٌ فِي أَوْهَامِ الضَّلَالَةِ.
وَجُمِعَ نَحِساتٍ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِجَمْعِ غَيْرِ الْعَاقِلِ وَهُوَ أَيَّامٍ.
وَاللَّامُ فِي لِنُذِيقَهُمْ لِلتَّعْلِيلِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ (أَرْسَلْنَا). وَالْإِذَاقَةُ تَخْيِيلٌ لِمَكْنِيَّةٍ، شُبِّهَ الْعَذَاب بِطَعَام هيّيء لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ كَمَا سَمَّى عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ الْغَارَةَ قِرًى فِي قَوْلِهِ:
260
قَرِينَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ | قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونًا |
وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ. وَإِضَافَةُ عَذابَ إِلَى الْخِزْيِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى، أَيْ أَشَدُّ إِخْزَاءً مِنْ إِخْزَاءِ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْخِزْيَ وَصْفٌ لِلْعَذَابِ مِنْ بَابِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ أَوِ اسْمِ الْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْعَذَابِ مُخْزِيًا لِلَّذِي يُعَذَّبُ بِهِ. وَمَعْنَى كَوْنِ الْعَذَابِ مُخْزِيًا: أَنَّهُ سَبَبُ خِزْيٍ فَوَصْفُ الْعَذَابِ بِأَنَّهُ خِزْيٌ بِمَعْنَى مُخْزٍ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَيُقَدَّرُ قَبْلَ الْإِضَافَةِ: لِنُذِيقَهُمْ عَذَابًا خِزْيًا، أَيْ مُخْزِيًا، فَلَمَّا أُرِيدَتْ إِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ قِيلَ:
عَذابَ الْخِزْيِ، لِلْمُبَالَغَةِ أَيْضًا لِأَنَّ إِضَافَةَ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ مُبَالَغَةٌ فِي الِاتِّصَافِ حَتَّى جُعِلَتِ الصِّفَةُ بِمَنْزِلَةِ شَخْصٍ آخَرَ يُضَافُ إِلَيْهِ الْمَوْصُوفُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مُحَسِّنِ التَّجْرِيدِ
فَحَصَلَتْ مُبَالَغَتَانِ فِي قَوْلِهِ: عَذابَ الْخِزْيِ مُبَالَغَةُ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، وَمُبَالَغَةُ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ.
وَجُمْلَةُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يَحْسَبَ السَّامِعُونَ أَنَّ حَظَّ أُولَئِكَ مِنَ الْعِقَابِ هُوَ عَذَابُ الْإِهْلَاكِ بِالرِّيحِ فَعَطَفَ عَلَيْهِ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَخْزَى، أَيْ لَهُمْ وَلِكُلِّ مَنْ عُذِّبَ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا لِغَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَأَخْزَى: اسْمُ تَفْضِيلٍ جَرَى عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَقِيَاسُهُ أَنْ يُقَالَ: أَشَدُّ إِخْزَاءً، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: خَزَاهُ، بِمَعْنَى أَخْزَاهُ، أَيْ أَهَانَهُ، وَمِثْلُ هَذَا فِي صَوْغِ اسْمِ التَّفْضِيلِ كَثِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ تَذْيِيلٌ، أَيْ لَا يَنْصُرُهُمْ مَنْ يَدْفَعُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ، وَلَا مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ، وَلَا مَنْ يُخْرِجُهُمْ مِنْهُ بعد مهلة.
261
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١٧]
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧)بَقِيَّةُ التَّفْصِيلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا [فصلت: ١٥].
وَلَمَّا كَانَ حَالُ الْأُمَّتَيْنِ وَاحِدًا فِي عَدَمِ قَبُولِ الْإِرْشَادِ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت: ١٤] كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ ثَمُودَ بِأَنَّ اللَّهَ هَدَاهُمْ مُقْتَضِيًا أَنَّهُ هَدَى عَادًا مِثْلَ مَا هَدَى ثَمُودَ وَأَنَّ عَادًا اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى مِثْلَ مَا اسْتَحَبَّتْ ثَمُودُ. وَالْمَعْنَى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ هِدَايَةَ إِرْشَادٍ بِرَسُولِنَا إِلَيْهِمْ وَتَأْيِيدِهِ بِآيَةِ النَّاقَةِ الَّتِي أَخْرَجَهَا لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ.
فَالْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ هُنَا: الْإِرْشَادُ التَّكْلِيفِيُّ، وَهِيَ غَيْرُ مَا فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر: ٣٧] فَإِنَّ تِلْكَ الْهِدَايَةَ التَّكْوِينِيَّةَ لِمُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [غَافِر: ٣٣].
وَاسْتَحَبُّوا الْعَمى مَعْنَاهُ: أَحَبُّوا، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُهُمَا فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [فصلت: ١٥]، أَيْ كَانَ الْعَمَى مَحْبُوبًا لَهُمْ. وَالْعَمَى: هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلضَّلَالِ فِي الرَّأْيِ، أَيِ اخْتَارُوا الضَّلَالَ بِكَسْبِهِمْ. وَضُمِّنَ (اسْتَحَبُّوا) مَعْنَى:
فَضَلُّوا، وَهَيَّأَ لِهَذَا التَّضْمِينِ اقْتِرَانُهُ بِالسِّينِ وَالتَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْمَحَبَّةِ تَسْتَلْزِمُ التَّفْضِيلَ عَلَى بَقِيَّةِ الْمَحْبُوبَاتِ فَلِذَلِكَ عُدِّيَ (اسْتَحَبُّوا) بِحَرْفِ عَلَى، أَيْ رَجَّحُوا
بِاخْتِيَارِهِمْ. وَتَعْلِيقُ عَلَى الْهُدى بِفِعْلِ (اسْتَحَبُّوا) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: فَضَّلُوا وَآثَرُوا.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ، وَكَانَ الْعِقَابُ مُنَاسِبًا لِلْجُرْمِ لِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَ الَّذِي هُوَ مِثْلُ الْعَمَى، فَمَنْ يَسْتَحِبُّهُ فَشَأْنُهُ أَنْ يُحِبَّ الْعَمَى، فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ بِالصَّاعِقَةِ لِأَنَّهَا تُعْمِي أَبْصَارَهُمْ فِي حِينِ تُهْلِكُهُمْ قَالَ تَعَالَى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ [الْبَقَرَة: ٢٠].
وَالْأَخْذُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِصَابَةِ الْمُهْلِكَةِ لِأَنَّهَا اتِّصَالٌ بِالْمُهْلَكِ يُزِيلُهُ مِنَ الْحَيَاةِ فَكَأَنَّهُ أَخْذٌ بِالْيَدِ.
وَالصَّاعِقَةُ: الصَّيْحَةُ الَّتِي تَنْشَأُ فِي كَهْرَبَائِيَّةِ السَّحَابِ الْحَامِلِ لِلْمَاءِ فَتَنْقَدِحُ مِنْهَا نَارٌ تُهْلِكُ مَا تُصِيبُهُ. وَإِضَافَةُ صاعِقَةُ إِلَى الْعَذابِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا صَاعِقَةٌ تُعَرَّفُ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ إِذْ لَا يُعَرَّفُ بِهَا إِلَّا مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، أَيْ صَاعِقَةٌ خَارِقَةٌ لِمُعْتَادِ الصَّوَاعِقِ، فَهِيَ صَاعِقَةٌ مُسَخَّرَةٌ مِنَ اللَّهِ لِعَذَابِ ثَمُودَ، فَإِنَّ أَصْلَ مَعْنَى الْإِضَافَةِ أَنَّهَا بِتَقْدِيرِ لَامِ الِاخْتِصَاصِ فَتَعْرِيفُ الْمُضَافِ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَّا بَيَانَ اخْتِصَاصِهِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ.
والْعَذابِ هُوَ: الْإِهْلَاكُ بِالصَّعْقِ، وَوُصِفَ بِ الْهُونِ كَمَا وُصِفَ الْعَذَابُ بِالْخِزْيِ فِي قَوْلِهِ: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ [فصلت: ١٦]، أَيِ الْعَذَابَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْهُونِ. والْهُونِ: الْهَوَانُ وَهُوَ الذُّلُّ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ هَوَانًا أَنَّهُ إِهْلَاكٌ فِيهِ مَذَلَّةٌ إِذِ اسْتُؤْصِلُوا عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ وَتُرِكُوا صَرْعَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَهْلِكِ عَادٍ. أَيْ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ فِي اخْتِيَارِهِمُ الْبَقَاءَ عَلَى الضَّلَالِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ وَعَنْ دَلَالَةِ آيَاتِهِ.
وَيُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ فِي شَأْنِ عَادٍ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى [فصلت: ١٦] أَنَّ لِثَمُودَ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْأُمَّتَيْنِ تَمَاثَلَتَا فِي الْكُفْرِ فَلَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ هُنَا اكْتِفَاءً بِذِكْرِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَهَذَا مُحَسِّنُ الِاكْتِفَاءِ، وَهُوَ مُحَسِّنٌ يَرْجِعُ إِلَى الإيجاز.
[١٨]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١٨]
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)
الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى التَّفْصِيلِ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا [فصلت: ١٥] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت: ١٧] لِأَنَّ مَوْقِعَ هَاتِهِ الْجُمْلَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ إِنْجَاءَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَذَابِ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ عَذَابُ عَادٍ وَعَذَابُ ثَمُودَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى إِنْجَاءُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ قَوْمِ عَادٍ وَقَوْمِ ثَمُودَ، فَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِيهِ مَعْنَى اسْتِثْنَاءٍ
مِنْ عُمُومِ أُمَّتَيْ عَادٍ وَثَمُودَ فَيَكُونُ لَهَا حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاقِبَةٍ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِهَا
وَالصَّاعِقَةُ: الصَّيْحَةُ الَّتِي تَنْشَأُ فِي كَهْرَبَائِيَّةِ السَّحَابِ الْحَامِلِ لِلْمَاءِ فَتَنْقَدِحُ مِنْهَا نَارٌ تُهْلِكُ مَا تُصِيبُهُ. وَإِضَافَةُ صاعِقَةُ إِلَى الْعَذابِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا صَاعِقَةٌ تُعَرَّفُ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ إِذْ لَا يُعَرَّفُ بِهَا إِلَّا مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، أَيْ صَاعِقَةٌ خَارِقَةٌ لِمُعْتَادِ الصَّوَاعِقِ، فَهِيَ صَاعِقَةٌ مُسَخَّرَةٌ مِنَ اللَّهِ لِعَذَابِ ثَمُودَ، فَإِنَّ أَصْلَ مَعْنَى الْإِضَافَةِ أَنَّهَا بِتَقْدِيرِ لَامِ الِاخْتِصَاصِ فَتَعْرِيفُ الْمُضَافِ لَا طَرِيقَ لَهُ إِلَّا بَيَانَ اخْتِصَاصِهِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ.
والْعَذابِ هُوَ: الْإِهْلَاكُ بِالصَّعْقِ، وَوُصِفَ بِ الْهُونِ كَمَا وُصِفَ الْعَذَابُ بِالْخِزْيِ فِي قَوْلِهِ: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ [فصلت: ١٦]، أَيِ الْعَذَابَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْهُونِ. والْهُونِ: الْهَوَانُ وَهُوَ الذُّلُّ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ هَوَانًا أَنَّهُ إِهْلَاكٌ فِيهِ مَذَلَّةٌ إِذِ اسْتُؤْصِلُوا عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ وَتُرِكُوا صَرْعَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَهْلِكِ عَادٍ. أَيْ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ فِي اخْتِيَارِهِمُ الْبَقَاءَ عَلَى الضَّلَالِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ وَعَنْ دَلَالَةِ آيَاتِهِ.
وَيُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ فِي شَأْنِ عَادٍ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى [فصلت: ١٦] أَنَّ لِثَمُودَ عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْأُمَّتَيْنِ تَمَاثَلَتَا فِي الْكُفْرِ فَلَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ هُنَا اكْتِفَاءً بِذِكْرِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَهَذَا مُحَسِّنُ الِاكْتِفَاءِ، وَهُوَ مُحَسِّنٌ يَرْجِعُ إِلَى الإيجاز.
[١٨]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ١٨]
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)
الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى التَّفْصِيلِ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا [فصلت: ١٥] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت: ١٧] لِأَنَّ مَوْقِعَ هَاتِهِ الْجُمْلَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ إِنْجَاءَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَذَابِ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ عَذَابُ عَادٍ وَعَذَابُ ثَمُودَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى إِنْجَاءُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ قَوْمِ عَادٍ وَقَوْمِ ثَمُودَ، فَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِيهِ مَعْنَى اسْتِثْنَاءٍ
مِنْ عُمُومِ أُمَّتَيْ عَادٍ وَثَمُودَ فَيَكُونُ لَهَا حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ الْوَارِدِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاقِبَةٍ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِهَا
فَإِنَّ جُمْلَتَيِ التَّفْصِيلِ هُمَا الْمَقْصُودُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود: ٥٨] وَقَالَ: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ هُودٍ كَيْفَ أَنْجَى اللَّهُ هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَصَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ.
وَقَوْلُهُ: (وَكانُوا يَتَّقُونَ)، أَيْ كَانَ سُنَّتُهُمُ اتِّقَاءَ اللَّهِ وَالنَّظَرَ فِيمَا يُنْجِي مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَالْمُتَّقِينَ.
[١٩- ٢١]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ١٩ الى ٢١]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا مَا جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا مَا جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَمَّا فَرَغَ مِنْ مَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ بِحَالِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ مِنْ قَبْلِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ بِعَذَابٍ يَحِلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا حَلَّ بِأُولَئِكَ لِيَكُونَ لَهُمْ ذَلِكَ عِبْرَةً فَإِنَّ لِاسْتِحْضَارِ الْمُثُلِ وَالنَّظَائِرِ أَثَرًا فِي النَّفْسِ تَعْتَبِرُ بِهِ مَا لَا تَعْتَبِرُ بِتَوَصُّفِ الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ، انْتَقَلَ إِلَى إِنْذَارِهِمْ بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَجُمْلَةُ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ الْآيَاتِ، مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: ١٣] الْآيَاتِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ نَحْشُرُ أَعْدَاءَ اللَّهِ إِلَى النَّارِ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمُقَدَّرِ قَوْلُهُ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً إِلَخْ، أَيْ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ عِقَابِ الْآخِرَةِ.
وَأَعْدَاءُ اللَّهِ: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ لِأَنَّهُمْ أَعدَاء رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١] يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ:
يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة: ١]، وَلِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ كِتَابِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى قُرَيْشٍ يُعْلِمُهُمْ بتهيّؤ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَزْوِ مَكَّةَ وَلِقَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ [فصلت: ٢٨] بَعْدَ قَوْلِهِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦].
وَقَوْلُهُ: (وَكانُوا يَتَّقُونَ)، أَيْ كَانَ سُنَّتُهُمُ اتِّقَاءَ اللَّهِ وَالنَّظَرَ فِيمَا يُنْجِي مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْوَصْفِ مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَالْمُتَّقِينَ.
[١٩- ٢١]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ١٩ الى ٢١]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا مَا جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا مَا جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَمَّا فَرَغَ مِنْ مَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ بِحَالِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ مِنْ قَبْلِهِمْ وَإِنْذَارِهِمْ بِعَذَابٍ يَحِلُّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا كَمَا حَلَّ بِأُولَئِكَ لِيَكُونَ لَهُمْ ذَلِكَ عِبْرَةً فَإِنَّ لِاسْتِحْضَارِ الْمُثُلِ وَالنَّظَائِرِ أَثَرًا فِي النَّفْسِ تَعْتَبِرُ بِهِ مَا لَا تَعْتَبِرُ بِتَوَصُّفِ الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ، انْتَقَلَ إِلَى إِنْذَارِهِمْ بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَجُمْلَةُ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ الْآيَاتِ، مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: ١٣] الْآيَاتِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ نَحْشُرُ أَعْدَاءَ اللَّهِ إِلَى النَّارِ. وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمُقَدَّرِ قَوْلُهُ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً إِلَخْ، أَيْ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ عِقَابِ الْآخِرَةِ.
وَأَعْدَاءُ اللَّهِ: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ لِأَنَّهُمْ أَعدَاء رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١] يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ:
يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة: ١]، وَلِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ كِتَابِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى قُرَيْشٍ يُعْلِمُهُمْ بتهيّؤ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَزْوِ مَكَّةَ وَلِقَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ [فصلت: ٢٨] بَعْدَ قَوْلِهِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦].
264
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ أَعْداءُ اللَّهِ جَمِيعُ الْكُفَّارِ مِنَ الْأُمَمِ بِحَيْثُ يَدْخُلُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ دُخُولَ الْبَعْضِ فِي الْعُمُومِ لِأَنَّ ذَلِكَ
الْمَحْمِلَ لَا يَكُونُ لَهُ مَوْقِعٌ رَشِيقٌ فِي الْمَقَامِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَنْ ذِكْرِ مَا أَصَابَ عَادًا وَثَمُودَ هُوَ تَهْدِيدُ مُشْرِكِي مَكَّةَ بِحُلُولِ عَذَابٍ مِثْلِهِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوهُ وَرَأَوْا آثَارَهُ فَلِلتَّهْدِيدِ بِمِثْلِهِ مَوْقِعٌ لَا يَسَعُهُمُ التَّغَافُلُ عَنْهُ، وَأَمَّا عَذَابُ عَادٍ وَثَمُودَ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مَوْعُودٌ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُجْعَلَ مَوْعِظَةً لِقُرَيْشٍ بَلِ الْأَجْدَرُ أَنْ يَقَعَ إِنْذَارُ قُرَيْشٍ رَأْسًا بِعَذَابٍ يُعَذَّبُونَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ أُطِيلَ وَصْفُهُ لِتَهْوِيلِهِ مَا لَمْ يُطَلْ بِمِثْلِهِ حِينَ التَّعَرُّضِ لِعَذَابِ عَادٍ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى [فصلت: ١٦] الْمُكْتَفَى بِهِ عَنْ ذِكْرِ عَذَابِ ثَمُودَ. وَلِهَذَا فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: أَعْداءُ اللَّهِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مِنْ ضَمِيرِ عَادٍ وَثَمُودَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ مَفْعُولًا لِفِعْلِ (وَاذْكُرْ) مَحْذُوفًا مِثْلَ نَظَائِرِهِ الْكَثِيرَةِ. وَالْحَشْرُ: جَمْعُ النَّاسِ فِي مَكَانٍ لِمَقْصِدٍ.
وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: إِلَى النَّارِ بِ نَحْشُرُ لِتَضْمِينِ نَحْشُرُ مَعْنَى: نُرْسِلُ، أَيْ نُرْسِلُهُمْ إِلَى النَّارِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ يُوزَعُونَ عَطْفٌ وَتَفْرِيعٌ عَلَى نَحْشُرُ لِأَنَّ الْحَشْرَ يَقْتَضِي الْوَزْعَ إِذْ هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ عُرْفًا، إِذِ الْحَشْرُ يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ عَدَدِ الْمَحْشُورِينَ وَكَثْرَةُ الْعَدَدِ تَسْتَلْزِمُ الِاخْتِلَاطَ وَتَدَاخُلَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ فَلَا غِنَى لَهُمْ عَنِ الْوَزْعِ لِتَصْفِيفِهِمْ وَرَدِّ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ. وَالْوَزْعُ: كَفُّ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ وَمَنْعُهُمْ مِنَ الْفَوْضَى، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [١٧]، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْمَحْشُورِينَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ نَحْشُرُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ أَعْداءُ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَائِبِ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وَهِيَ مُفِيدَةٌ لِمَعْنَى الْغَايَةِ فَهِيَ حِرَفُ انْتِهَاءٍ فِي الْمَعْنَى وَحَرْفُ
الْمَحْمِلَ لَا يَكُونُ لَهُ مَوْقِعٌ رَشِيقٌ فِي الْمَقَامِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَنْ ذِكْرِ مَا أَصَابَ عَادًا وَثَمُودَ هُوَ تَهْدِيدُ مُشْرِكِي مَكَّةَ بِحُلُولِ عَذَابٍ مِثْلِهِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوهُ وَرَأَوْا آثَارَهُ فَلِلتَّهْدِيدِ بِمِثْلِهِ مَوْقِعٌ لَا يَسَعُهُمُ التَّغَافُلُ عَنْهُ، وَأَمَّا عَذَابُ عَادٍ وَثَمُودَ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مَوْعُودٌ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُجْعَلَ مَوْعِظَةً لِقُرَيْشٍ بَلِ الْأَجْدَرُ أَنْ يَقَعَ إِنْذَارُ قُرَيْشٍ رَأْسًا بِعَذَابٍ يُعَذَّبُونَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ أُطِيلَ وَصْفُهُ لِتَهْوِيلِهِ مَا لَمْ يُطَلْ بِمِثْلِهِ حِينَ التَّعَرُّضِ لِعَذَابِ عَادٍ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى [فصلت: ١٦] الْمُكْتَفَى بِهِ عَنْ ذِكْرِ عَذَابِ ثَمُودَ. وَلِهَذَا فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: أَعْداءُ اللَّهِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ مِنْ ضَمِيرِ عَادٍ وَثَمُودَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ مَفْعُولًا لِفِعْلِ (وَاذْكُرْ) مَحْذُوفًا مِثْلَ نَظَائِرِهِ الْكَثِيرَةِ. وَالْحَشْرُ: جَمْعُ النَّاسِ فِي مَكَانٍ لِمَقْصِدٍ.
وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: إِلَى النَّارِ بِ نَحْشُرُ لِتَضْمِينِ نَحْشُرُ مَعْنَى: نُرْسِلُ، أَيْ نُرْسِلُهُمْ إِلَى النَّارِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ يُوزَعُونَ عَطْفٌ وَتَفْرِيعٌ عَلَى نَحْشُرُ لِأَنَّ الْحَشْرَ يَقْتَضِي الْوَزْعَ إِذْ هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ عُرْفًا، إِذِ الْحَشْرُ يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ عَدَدِ الْمَحْشُورِينَ وَكَثْرَةُ الْعَدَدِ تَسْتَلْزِمُ الِاخْتِلَاطَ وَتَدَاخُلَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ فَلَا غِنَى لَهُمْ عَنِ الْوَزْعِ لِتَصْفِيفِهِمْ وَرَدِّ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ. وَالْوَزْعُ: كَفُّ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ وَمَنْعُهُمْ مِنَ الْفَوْضَى، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [١٧]، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْمَحْشُورِينَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ نَحْشُرُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ أَعْداءُ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَائِبِ مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وَهِيَ مُفِيدَةٌ لِمَعْنَى الْغَايَةِ فَهِيَ حِرَفُ انْتِهَاءٍ فِي الْمَعْنَى وَحَرْفُ
265
ابْتِدَاءٍ فِي اللَّفْظِ، أَيْ أَنَّ مَا بَعْدَهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وإِذا ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِجَوَابِهِ، وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ بَعْدَ إِذا تُفِيدُ تَوْكِيدَ مَعْنَى إِذا مِنَ الِارْتِبَاطِ بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَ إِذا سَوَاءٌ كَانَتْ شَرْطِيَّةً كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَمْ كَانَتْ لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: ٣٧]. وَيَظْهَرُ أَنَّ وُرُودَ مَا بَعْدَ إِذا يُقَوِّي مَعْنَى الشَّرْطِ فِي إِذا، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ مَعْنَى الشَّرْطِ حِينَئِذٍ نَصًّا احْتِمَالًا.
وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ الْغَائِب فِي جاؤُها عَائِدٌ إِلَى النَّارِ، أَيْ إِذَا وَصَلُوا إِلَى جَهَنَّمَ.
وَجُمْلَةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ إِلَخْ يَقْتَضِي كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا جَوَابُ إِذا، فَاقْتَضَى الِارْتِبَاطُ بَيْنَ شَرْطِهَا وَجَوَابِهَا وَتَعْلِيقِهَا بِفِعْلِ الْجَوَابِ. وَاسْتَشْعَرُوا أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِمْ تَكُونُ قَبْلَ أَنْ يُوَجَّهُوا إِلَى النَّارِ، فَقَدَّرُوا فِعْلًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَسُئِلُوا عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَ فَأَنْكَرُوا فَشَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ، يَعْنِي: سَأَلَهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ.
وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ جَوَابَ إِذا مَحْذُوفٌ لِلتَّهْوِيلِ وَحَذْفُ مِثْلِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَيَكُونُ جُمْلَةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ إِلَى آخِرِهَا مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَشَأَ عَنْ مَفَادِ حَتَّى مِنَ الْغَايَةِ لِأَنَّ السَّائِلَ يَتَطَلَّبُ مَاذَا حَصَلَ بَيْنَ حَشْرِهِمْ إِلَى النَّارِ وَبَيْنَ حُضُورِهِمْ عِنْدَ النَّارِ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ حُوسِبُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَأَنْكَرُوهَا فَشَهِدَتْ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ وَأَجْسَادُهُمْ. أَوْ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إِذا قَوْلَهُ: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت:
٢٤] إِلَخْ.
وَجُمْلَةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ. وَشَهَادَةُ جَوَارِحِهِمْ وَجُلُودِهِمْ عَلَيْهِمْ: شَهَادَةُ تَكْذِيبٍ وَافْتِضَاحٍ لِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ شَهَادَةً يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا النَّارَ اعْتَذَرُوا بِإِنْكَارِ بَعْضِ ذُنُوبِهِمْ طَمَعًا فِي تَخْفِيفِ
وَضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ الْغَائِب فِي جاؤُها عَائِدٌ إِلَى النَّارِ، أَيْ إِذَا وَصَلُوا إِلَى جَهَنَّمَ.
وَجُمْلَةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ إِلَخْ يَقْتَضِي كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا جَوَابُ إِذا، فَاقْتَضَى الِارْتِبَاطُ بَيْنَ شَرْطِهَا وَجَوَابِهَا وَتَعْلِيقِهَا بِفِعْلِ الْجَوَابِ. وَاسْتَشْعَرُوا أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِمْ تَكُونُ قَبْلَ أَنْ يُوَجَّهُوا إِلَى النَّارِ، فَقَدَّرُوا فِعْلًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَسُئِلُوا عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَ فَأَنْكَرُوا فَشَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ، يَعْنِي: سَأَلَهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ.
وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ جَوَابَ إِذا مَحْذُوفٌ لِلتَّهْوِيلِ وَحَذْفُ مِثْلِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَيَكُونُ جُمْلَةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ إِلَى آخِرِهَا مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَشَأَ عَنْ مَفَادِ حَتَّى مِنَ الْغَايَةِ لِأَنَّ السَّائِلَ يَتَطَلَّبُ مَاذَا حَصَلَ بَيْنَ حَشْرِهِمْ إِلَى النَّارِ وَبَيْنَ حُضُورِهِمْ عِنْدَ النَّارِ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ حُوسِبُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَأَنْكَرُوهَا فَشَهِدَتْ عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ وَأَجْسَادُهُمْ. أَوْ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إِذا قَوْلَهُ: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت:
٢٤] إِلَخْ.
وَجُمْلَةُ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ. وَشَهَادَةُ جَوَارِحِهِمْ وَجُلُودِهِمْ عَلَيْهِمْ: شَهَادَةُ تَكْذِيبٍ وَافْتِضَاحٍ لِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ شَهَادَةً يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا النَّارَ اعْتَذَرُوا بِإِنْكَارِ بَعْضِ ذُنُوبِهِمْ طَمَعًا فِي تَخْفِيفِ
266
الْعَذَابِ وَإِلَّا فَقَدَ عَلِمَ اللَّهُ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَشَهِدَتْ بِهِ الْحفظَة وقرىء عَلَيْهِمْ كِتَابُهُمْ، وَمَا أُحْضِرُوا لِلنَّارِ إِلَّا وَقَدْ تَحَقَّقَتْ إِدَانَتُهُمْ، فَمَا كَانَتْ شَهَادَةُ جَوَارِحِهِمْ إِلَّا زِيَادَةَ خِزْيٍ لَهُمْ وَتَحْسِيرًا وَتَنْدِيمًا عَلَى سُوءِ اعْتِقَادِهِمْ فِي سِعَةِ عِلْمِ اللَّهِ.
وَتَخْصِيصُ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْجُلُودِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى هَؤُلَاءِ دُونَ بَقِيَّةِ الْجَوَارِحِ لِأَنَّ لِلسَّمْعِ اخْتِصَاصًا بِتَلَقِّي دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَقِّي آيَاتِ الْقُرْآنِ، فَسَمْعُهُمْ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْرِفُونَهُ عَنْ سَمَاعِ ذَلِكَ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت:
٥]، وَلِأَنَّ لِلْأَبْصَارِ اخْتِصَاصًا بِمُشَاهَدَةِ دَلَائِلِ الْمَصْنُوعَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ فَذَلِكَ دَلِيلُ وَحْدَانِيَّتِهِ فِي إِلَهِيَّتِهِ، وَشَهَادَةِ الْجُلُودِ لِأَنَّ الْجِلْدَ يَحْوِي جَمِيعَ الْجَسَدِ لِتَكُونَ شَهَادَةُ الْجُلُودِ عَلَيْهِمْ شَهَادَةً عَلَى أَنْفُسِهَا فَيَظْهَرُ اسْتِحْقَاقُهَا لِلْحَرْقِ بِالنَّارِ لِبَقِيَّةِ الْأَجْسَادِ دُونَ اقْتِصَارٍ عَلَى حَرْقِ مَوْضِعِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ. وَلِذَلِكَ اقْتَصَرُوا فِي تَوْجِيهِ الْمَلَامَةِ عَلَى جُلُودِهِمْ لِأَنَّهَا حَاوِيَةٌ لِجَمِيعِ الْحَوَاسِّ وَالْجَوَارِحِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى شَهَادَةِ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْجُلُودِ هُنَا بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ النُّورِ [٢٤] يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، لِأَنَّ آيَةَ النُّورِ تَصِفُ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ وَهُمُ الَّذِينَ اخْتَلَقُوا تُهْمَةَ الْإِفْكِ وَمَشَوْا فِي الْمَجَامِعِ يُشِيعُونَهَا بَيْنَ النَّاسِ وَيُشِيرُونَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى مَنِ اتَّهَمُوهُ إِفْكًا.
وَإِنَّمَا قَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا دُونَ أَنْ يَقُولُوهُ لِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لِأَنَّ الْجُلُودَ مُوَاجِهَةٌ لَهُمْ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهَا بِالْمَلَامَةِ. وَإِجْرَاءُ ضَمَائِرِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْجُلُودِ بِصِيغَتَيْ ضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ لِأَنَّ التَّحَاوُرَ مَعَهَا صَيَّرَهَا بِحَالَةِ الْعُقَلَاءِ يَوْمَئِذٍ. وَمِنْ غَرِيبِ التَّفْسِيرِ قَوْلُ مَنْ زَعَمُوا أَنَّ الْجُلُودَ أُرِيدَ بِهَا الْفُرُوجُ وَنُسِبَ هَذَا لِلسُّدِّيِّ وَالْفَرَّاءِ، وَهُوَ تَعَنُّتٌ فِي مَحْمِلِ الْآيَةِ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ بِحَالٍ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ بَنَى أَحْمَدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابِ «كِنَايَاتِ الْأُدَبَاءِ» فَعَدَّ الْجُلُودَ مِنَ الْكِنَايَاتِ عَنِ الْفُرُوجِ وَعَزَاهُ لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ فَجَازَفَ فِي التَّعْبِيرِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِمْ: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَلَامَةِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ
وَتَخْصِيصُ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْجُلُودِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى هَؤُلَاءِ دُونَ بَقِيَّةِ الْجَوَارِحِ لِأَنَّ لِلسَّمْعِ اخْتِصَاصًا بِتَلَقِّي دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَلَقِّي آيَاتِ الْقُرْآنِ، فَسَمْعُهُمْ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْرِفُونَهُ عَنْ سَمَاعِ ذَلِكَ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت:
٥]، وَلِأَنَّ لِلْأَبْصَارِ اخْتِصَاصًا بِمُشَاهَدَةِ دَلَائِلِ الْمَصْنُوعَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ فَذَلِكَ دَلِيلُ وَحْدَانِيَّتِهِ فِي إِلَهِيَّتِهِ، وَشَهَادَةِ الْجُلُودِ لِأَنَّ الْجِلْدَ يَحْوِي جَمِيعَ الْجَسَدِ لِتَكُونَ شَهَادَةُ الْجُلُودِ عَلَيْهِمْ شَهَادَةً عَلَى أَنْفُسِهَا فَيَظْهَرُ اسْتِحْقَاقُهَا لِلْحَرْقِ بِالنَّارِ لِبَقِيَّةِ الْأَجْسَادِ دُونَ اقْتِصَارٍ عَلَى حَرْقِ مَوْضِعِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ. وَلِذَلِكَ اقْتَصَرُوا فِي تَوْجِيهِ الْمَلَامَةِ عَلَى جُلُودِهِمْ لِأَنَّهَا حَاوِيَةٌ لِجَمِيعِ الْحَوَاسِّ وَالْجَوَارِحِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى شَهَادَةِ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْجُلُودِ هُنَا بِخِلَافِ آيَةِ سُورَةِ النُّورِ [٢٤] يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، لِأَنَّ آيَةَ النُّورِ تَصِفُ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ وَهُمُ الَّذِينَ اخْتَلَقُوا تُهْمَةَ الْإِفْكِ وَمَشَوْا فِي الْمَجَامِعِ يُشِيعُونَهَا بَيْنَ النَّاسِ وَيُشِيرُونَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى مَنِ اتَّهَمُوهُ إِفْكًا.
وَإِنَّمَا قَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا دُونَ أَنْ يَقُولُوهُ لِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ لِأَنَّ الْجُلُودَ مُوَاجِهَةٌ لَهُمْ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهَا بِالْمَلَامَةِ. وَإِجْرَاءُ ضَمَائِرِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْجُلُودِ بِصِيغَتَيْ ضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ لِأَنَّ التَّحَاوُرَ مَعَهَا صَيَّرَهَا بِحَالَةِ الْعُقَلَاءِ يَوْمَئِذٍ. وَمِنْ غَرِيبِ التَّفْسِيرِ قَوْلُ مَنْ زَعَمُوا أَنَّ الْجُلُودَ أُرِيدَ بِهَا الْفُرُوجُ وَنُسِبَ هَذَا لِلسُّدِّيِّ وَالْفَرَّاءِ، وَهُوَ تَعَنُّتٌ فِي مَحْمِلِ الْآيَةِ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ بِحَالٍ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ بَنَى أَحْمَدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابِ «كِنَايَاتِ الْأُدَبَاءِ» فَعَدَّ الْجُلُودَ مِنَ الْكِنَايَاتِ عَنِ الْفُرُوجِ وَعَزَاهُ لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ فَجَازَفَ فِي التَّعْبِيرِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِمْ: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَلَامَةِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ
267
جُلُودَهُمْ لِكَوْنِهَا جُزْءًا مِنْهُمْ لَا يحِق لَهَا شَهَادَتُهَا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهَا تَجُرُّ الْعَذَابَ إِلَيْهَا. وَاسْتِعْمَالُ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْعِلَّةِ فِي مَعْرِضِ التَّوْبِيخِ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمرَان: ٦٦].
وَقَوْلُ الْجُلُودِ أَنْطَقَنَا اللَّهُ اعْتِذَارٌ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ جَرَتْ مِنْهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَهَذَا النُّطْقُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ. وَقَوْلُهُمُ: الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ تَمْجِيدٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا عِلَاقَةَ لَهُ بِالِاعْتِذَارِ، وَالْمَعْنَى: الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ نُطْقٌ مِنَ الْحَيَوَانِ وَاخْتِلَافُ دَلَالَةِ أَصْوَاتِهَا عَلَى وِجْدَانِهَا، فَعُمُومُ كُلَّ شَيْءٍ مَخْصُوصٌ بِالْعُرْفِ.
وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَالَّتِي عُطِفَتْ عَلَيْهَا مِنْ تَمَامِ مَا أَنْطَقَ اللَّهُ بِهِ جُلُودَهُمْ قُتُفِّيَ عَلَى مَقَالَتِهَا تَشْهِيرًا بِخَطَئِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ لِزِيَادَةِ التَّنْدِيمِ وَالتَّحْسِيرِ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَوْنِ الْوَاوِ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ وَاوَ الْعَطْفِ فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِاسْتِحْضَارِ حَالَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ سَاعَتَئِذٍ فِي قَبْضَةِ تَصَرُّفِ اللَّهِ مُبَاشَرَةً. وَأَمَّا رُجُوعُهُمْ بِمَعْنَى الْبَعْثِ فَإِنَّهُ قَدْ مَضَى بِالنِّسْبَةِ لِوَقْتِ إِحْضَارِهِمْ عِنْدَ جَهَنَّمَ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ الرُّجُوعَ إِلَى مَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا بَعْدَهَا اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ وَجُمْلَةِ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت: ٢٤] مُوَجَّهًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ
تَعَالَى إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ لِتَذْكِيرِهِمْ بِالْبَعْثِ عَقِبَ ذِكْرِ حَالِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ انْتِهَازًا لِفُرْصَةِ الْمَوْعِظَةِ السَّابِقَةِ عِنْدَ تَأَثُّرِهِمْ بِسَمَاعِهَا.
وَيَكُونُ فِعْلُ تُرْجَعُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الِاسْتِقْبَالِ عَلَى أَصْلِهِ، وَالْكَلَامُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ.
وَقَوْلُ الْجُلُودِ أَنْطَقَنَا اللَّهُ اعْتِذَارٌ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ جَرَتْ مِنْهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَهَذَا النُّطْقُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ. وَقَوْلُهُمُ: الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ تَمْجِيدٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا عِلَاقَةَ لَهُ بِالِاعْتِذَارِ، وَالْمَعْنَى: الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ نُطْقٌ مِنَ الْحَيَوَانِ وَاخْتِلَافُ دَلَالَةِ أَصْوَاتِهَا عَلَى وِجْدَانِهَا، فَعُمُومُ كُلَّ شَيْءٍ مَخْصُوصٌ بِالْعُرْفِ.
وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَالَّتِي عُطِفَتْ عَلَيْهَا مِنْ تَمَامِ مَا أَنْطَقَ اللَّهُ بِهِ جُلُودَهُمْ قُتُفِّيَ عَلَى مَقَالَتِهَا تَشْهِيرًا بِخَطَئِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ لِزِيَادَةِ التَّنْدِيمِ وَالتَّحْسِيرِ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَوْنِ الْوَاوِ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ وَاوَ الْعَطْفِ فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لِاسْتِحْضَارِ حَالَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ سَاعَتَئِذٍ فِي قَبْضَةِ تَصَرُّفِ اللَّهِ مُبَاشَرَةً. وَأَمَّا رُجُوعُهُمْ بِمَعْنَى الْبَعْثِ فَإِنَّهُ قَدْ مَضَى بِالنِّسْبَةِ لِوَقْتِ إِحْضَارِهِمْ عِنْدَ جَهَنَّمَ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ الرُّجُوعَ إِلَى مَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا بَعْدَهَا اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ وَجُمْلَةِ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت: ٢٤] مُوَجَّهًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ
تَعَالَى إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ لِتَذْكِيرِهِمْ بِالْبَعْثِ عَقِبَ ذِكْرِ حَالِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ انْتِهَازًا لِفُرْصَةِ الْمَوْعِظَةِ السَّابِقَةِ عِنْدَ تَأَثُّرِهِمْ بِسَمَاعِهَا.
وَيَكُونُ فِعْلُ تُرْجَعُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الِاسْتِقْبَالِ عَلَى أَصْلِهِ، وَالْكَلَامُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ.
268
قَالَ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: ١٥]. وَتَقْدِيمُ مُتَعَلِّقِ تُرْجَعُونَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ ورعاية الفاصلة.
[٢٢، ٢٣]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٣]
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
قَلَّ مَنْ تَصَدَّى مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِبَيَانِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ بِمَا قَبْلَهَا، وَمَنْ تَصَدَّى مِنْهُمْ لِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ، وَأَوْلَى كَلَامٍ فِي ذَلِكَ كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَلَكِنَّهُ وَجِيزٌ وَغَيْرُ مُحَرَّرٍ وَهُوَ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا سَبَبًا لِنُزُولِهَا فَزَادُوا بِذَلِكَ إِشْكَالًا وَمَا أَبَانُوا انْفِصَالًا.
وَلْنَبْدَأْ بِمَا يَقْتَضِيهِ نَظْمُ الْكَلَامِ، ثُمَّ نَأْتِي عَلَى مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا بِمَا لَا يُفْضِي إِلَى الِانْفِصَامِ.
فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ بِتَمَامِهَا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [فصلت: ٢١] إِلَخْ فَتَكُونَ مَشْمُولَةً لِلِاعْتِرَاضِ مُتَّصِلَةً بِالَّتِي قَبْلَهَا عَلَى كِلَا التَّأْوِيلَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِلَّةً عَنْهَا: إِمَّا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت: ١٩] الْآيَاتِ، وَإِمَّا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَجُمْلَةِ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت: ٢٤]، وَتَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، وَمُنَاسَبَةُ الِاعْتِرَاضِ مَا جَرَى مِنْ ذِكْرِ شَهَادَةِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَجُلُودِهِمْ عَلَيْهِمْ. فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لِلْمُشْرِكِينَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ فَالْمَعْنَى: مَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تخفون شرككم وتستترون مِنْهُ بَلْ كُنْتُمْ تَجْهَرُونَ بِهِ وَتَفْخَرُونَ بِاتِّبَاعِهِ فَمَاذَا لَوْمُكُمْ عَلَى جَوَارِحِكُمْ وَأَجْسَادِكُمْ أَنْ شَهِدَتْ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا فَالِاسْتِتَارُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِخْبَارِ مَجَازًا
[٢٢، ٢٣]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٣]
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
قَلَّ مَنْ تَصَدَّى مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِبَيَانِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ بِمَا قَبْلَهَا، وَمَنْ تَصَدَّى مِنْهُمْ لِذَلِكَ لَمْ يَأْتِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ، وَأَوْلَى كَلَامٍ فِي ذَلِكَ كَلَامُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَلَكِنَّهُ وَجِيزٌ وَغَيْرُ مُحَرَّرٍ وَهُوَ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا سَبَبًا لِنُزُولِهَا فَزَادُوا بِذَلِكَ إِشْكَالًا وَمَا أَبَانُوا انْفِصَالًا.
وَلْنَبْدَأْ بِمَا يَقْتَضِيهِ نَظْمُ الْكَلَامِ، ثُمَّ نَأْتِي عَلَى مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا بِمَا لَا يُفْضِي إِلَى الِانْفِصَامِ.
فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ بِتَمَامِهَا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [فصلت: ٢١] إِلَخْ فَتَكُونَ مَشْمُولَةً لِلِاعْتِرَاضِ مُتَّصِلَةً بِالَّتِي قَبْلَهَا عَلَى كِلَا التَّأْوِيلَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِلَّةً عَنْهَا: إِمَّا مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت: ١٩] الْآيَاتِ، وَإِمَّا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَجُمْلَةِ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [فصلت: ٢٤]، وَتَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، وَمُنَاسَبَةُ الِاعْتِرَاضِ مَا جَرَى مِنْ ذِكْرِ شَهَادَةِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَجُلُودِهِمْ عَلَيْهِمْ. فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لِلْمُشْرِكِينَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ فَالْمَعْنَى: مَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تخفون شرككم وتستترون مِنْهُ بَلْ كُنْتُمْ تَجْهَرُونَ بِهِ وَتَفْخَرُونَ بِاتِّبَاعِهِ فَمَاذَا لَوْمُكُمْ عَلَى جَوَارِحِكُمْ وَأَجْسَادِكُمْ أَنْ شَهِدَتْ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا فَالِاسْتِتَارُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِخْبَارِ مَجَازًا
269
لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِتَارِ إِخْفَاءُ الذَّوَاتِ وَالَّذِي شَهِدَتْ بِهِ جَوَارِحُهُمْ هُوَ اعْتِقَادُ الشِّرْكِ وَالْأَقْوَالِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ. وَحَرْفُ مَا نَفْيٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ إِلَخْ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ حَرْفِ جَرٍّ
يَتَعَدَّى بِهِ فِعْلُ تَسْتَتِرُونَ إِلَى أَنْ يَشْهَدَ وَهُوَ مَحْذُوفٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنَّ). وَتَقْدِيرُهُ: بِحَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَهُوَ هُنَا يُقَدَّرُ حَرْفُ مِنْ، أَيْ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ مِنْ شَهَادَةِ سَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ وَجُلُودِكُمْ، أَيْ مَا كُنْتُم تستترون مِنْ تِلْكَ الشُّهُودِ، وَمَا كُنْتُمْ تَتَّقُونَ شَهَادَتَهَا، إِذْ لَا تَحْسَبُونَ أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ضَائِرٌ إِذْ أَنْتُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِوُقُوعِ يَوْمِ الْحِسَابِ.
فَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ فَهُوَ
حَدِيث «الصَّحِيحَيْنِ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» بِأَسَانِيدَ يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنْتُ مُسْتَتِرًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٍّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ (١) قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ فَتَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ، فَقَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَهُوَ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَذَكَرْتُ ذَلِك للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ
. وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ نَفَرٌ مُعَيَّنٌ فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ مَعَ الصَّلَاحِيَةِ لِشُمُولِ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ صَدَرَ مِنْهُمْ مِثْلُ هَذَا الْعَمَلِ لِلتَّسَاوِي فِي التَّفْكِيرِ. وَيُجْعَلُ مَوْقِعُهَا بَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا غَرِيبًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا صَادَفَ الْوَقْتَ الْمُوَالِيَ لِنُزُولِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَأَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِهَا فِي مَوْضِعِهَا هَذَا لِمُنَاسَبَةِ مَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ شَهَادَةِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ.
_________
(١) الشَّك من أبي معمر رَاوِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن مَسْعُود وَجزم وهب بن ربيعَة رَاوِيه عَن ابْن مَسْعُود بقوله: ثقفي وقريشيان، وَعَن الثَّعْلَبِيّ: أَن الثَّقَفِيّ عبد ياليل بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ والقرشيين ربيعَة بن أُميَّة وَصَفوَان بن أُميَّة. وهما ختنان لعبد ياليل. [.....]
يَتَعَدَّى بِهِ فِعْلُ تَسْتَتِرُونَ إِلَى أَنْ يَشْهَدَ وَهُوَ مَحْذُوفٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنَّ). وَتَقْدِيرُهُ: بِحَسَبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَهُوَ هُنَا يُقَدَّرُ حَرْفُ مِنْ، أَيْ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ مِنْ شَهَادَةِ سَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ وَجُلُودِكُمْ، أَيْ مَا كُنْتُم تستترون مِنْ تِلْكَ الشُّهُودِ، وَمَا كُنْتُمْ تَتَّقُونَ شَهَادَتَهَا، إِذْ لَا تَحْسَبُونَ أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ضَائِرٌ إِذْ أَنْتُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِوُقُوعِ يَوْمِ الْحِسَابِ.
فَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ فَهُوَ
حَدِيث «الصَّحِيحَيْنِ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» بِأَسَانِيدَ يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنْتُ مُسْتَتِرًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٍّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ (١) قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ فَتَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ، فَقَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَهُوَ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَذَكَرْتُ ذَلِك للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ
. وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ نَفَرٌ مُعَيَّنٌ فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ مَعَ الصَّلَاحِيَةِ لِشُمُولِ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ صَدَرَ مِنْهُمْ مِثْلُ هَذَا الْعَمَلِ لِلتَّسَاوِي فِي التَّفْكِيرِ. وَيُجْعَلُ مَوْقِعُهَا بَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا غَرِيبًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا صَادَفَ الْوَقْتَ الْمُوَالِيَ لِنُزُولِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَأَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِهَا فِي مَوْضِعِهَا هَذَا لِمُنَاسَبَةِ مَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ شَهَادَةِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ.
_________
(١) الشَّك من أبي معمر رَاوِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن مَسْعُود وَجزم وهب بن ربيعَة رَاوِيه عَن ابْن مَسْعُود بقوله: ثقفي وقريشيان، وَعَن الثَّعْلَبِيّ: أَن الثَّقَفِيّ عبد ياليل بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ والقرشيين ربيعَة بن أُميَّة وَصَفوَان بن أُميَّة. وهما ختنان لعبد ياليل. [.....]
270
وَمَعَ هَذَا فَهِيَ آيَةٌ مَكِّيَّةٌ إِذْ لَمْ يَخْتَلِفِ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَالْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ، وَيُشْبِهُ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْآيَةَ مُتَمَثِّلًا بِهَا عِنْدَ إِخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ إِيَّاهُ اهـ. وَفِي كَلَامِهِ الْأَوَّلِ مُخَالَفَةٌ لِمَا جَزَمَ بِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَكَيْفَ يَصِحُّ كَلَامُهُ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ النَّفَرَ الثَّلَاثَةَ هُمْ: عَبْدُ يَالِيلَ الثَّقَفِيُّ وَصَفْوَانُ وَرَبِيعَةُ ابْنَا أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَأَمَّا عَبْدُ يَالِيلَ فَأَسْلَمَ وَلَهُ صُحْبَةٌ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٍ، وَكَذَلِكَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَأَمَّا رَبِيعَةُ بْنُ أُمَيَّةَ فَلَا يُعْرَفُ لَهُ إِسْلَامٌ فَلَا يُلَاقِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَأَحْسَنُ مَا فِي كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ
طَرَفُهُ الثَّانِي وَهُوَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْآيَةَ مُتَمَثِّلًا بِهَا فَإِن ذَلِك يؤوّل قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ، وَيُبَيِّنُ وَجْهَ قِرَاءَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا عِنْد مَا أَخْبَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ قَرَأَهَا تَحْقِيقًا لِمِثَالٍ مِنْ صُوَرِ مَعْنَى الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا النَّفَرِ مِمَّنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ، وَذَلِكَ قَاضٍ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، وَالْآيَةُ تَحِقُّ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ كَافِرًا مِثْلَ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ.
وَعَلَى بَعْضِ احْتِمَالَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ فِعْلُ تَسْتَتِرُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ أَيْ تَسْتَتِرُونَ بِأَعْمَالِكُمْ عَنْ سَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ وَجُلُودِكُمْ، وَذَلِكَ تَوْبِيخٌ كِنَايَةً عَنْ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَرَوْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ قَبِيحًا حَتَّى يَسْتَتِرُوا مِنْهُ وَعَلَى بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ فِيمَا ذُكِرَ يَكُونُ فِعْلُ تَسْتَتِرُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَلَا يَعُوزُكَ تَوْزِيعُ أَصْنَافِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَات: أَن بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ فِي كُلِّ تَقْدِيرٍ تَفْرِضُهُ. وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ: أَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأَعْمَالِكُمْ وَنِيَّاتِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا إِنْ جَهَرْتُمْ أَوْ سَتَرْتُمْ وَلَيْسَ اللَّهُ بِحَاجَةٍ إِلَى شَهَادَةِ جِوَارِحِكُمْ عَلَيْكُمْ وَمَا أَوْقَعَكُمْ فِي هَذَا الضُّرِّ إِلَّا سُوءُ ظَنِّكُمْ بِجَلَالِ اللَّهِ.
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الْإِشَارَةُ إِلَى الظَّنِّ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ تَمْيِيزُهُ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ وَتَشْهِيرُ شَنَاعَتِهِ لِلنِّدَاءِ عَلَى ضَلَالِهِمْ.
طَرَفُهُ الثَّانِي وَهُوَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْآيَةَ مُتَمَثِّلًا بِهَا فَإِن ذَلِك يؤوّل قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ، وَيُبَيِّنُ وَجْهَ قِرَاءَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا عِنْد مَا أَخْبَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ قَرَأَهَا تَحْقِيقًا لِمِثَالٍ مِنْ صُوَرِ مَعْنَى الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا النَّفَرِ مِمَّنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ، وَذَلِكَ قَاضٍ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، وَالْآيَةُ تَحِقُّ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ كَافِرًا مِثْلَ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ.
وَعَلَى بَعْضِ احْتِمَالَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ فِعْلُ تَسْتَتِرُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ أَيْ تَسْتَتِرُونَ بِأَعْمَالِكُمْ عَنْ سَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ وَجُلُودِكُمْ، وَذَلِكَ تَوْبِيخٌ كِنَايَةً عَنْ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَرَوْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ قَبِيحًا حَتَّى يَسْتَتِرُوا مِنْهُ وَعَلَى بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ فِيمَا ذُكِرَ يَكُونُ فِعْلُ تَسْتَتِرُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَلَا يَعُوزُكَ تَوْزِيعُ أَصْنَافِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَات: أَن بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ فِي كُلِّ تَقْدِيرٍ تَفْرِضُهُ. وَحَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَاتِ: أَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأَعْمَالِكُمْ وَنِيَّاتِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا إِنْ جَهَرْتُمْ أَوْ سَتَرْتُمْ وَلَيْسَ اللَّهُ بِحَاجَةٍ إِلَى شَهَادَةِ جِوَارِحِكُمْ عَلَيْكُمْ وَمَا أَوْقَعَكُمْ فِي هَذَا الضُّرِّ إِلَّا سُوءُ ظَنِّكُمْ بِجَلَالِ اللَّهِ.
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الْإِشَارَةُ إِلَى الظَّنِّ الْمَأْخُوذِ مِنْ فِعْلِ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ، وَيُسْتَفَادُ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ تَمْيِيزُهُ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ وَتَشْهِيرُ شَنَاعَتِهِ لِلنِّدَاءِ عَلَى ضَلَالِهِمْ.
271
وَأَتْبَعَ اسْمَ الْإِشَارَةِ بِالْبَدَلِ بِقَوْلِهِ: ظَنُّكُمُ لِزِيَادَةِ بَيَانِهِ لِيَتَمَكَّنَ مَا يَعْقُبُهُ مِنَ الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ هُوَ فِعْلُ أَرْداكُمْ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ.
والَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ صِفَةٌ لِ ظَنُّكُمُ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَرْداكُمْ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ، أَيْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ ظَنًّا بَاطِلًا. وَالْعُدُولُ عَنِ اسْمِ اللَّهِ الْعَلَمِ إِلَى بِرَبِّكُمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ضَلَالِ ظَنِّهِمْ، إِذْ ظَنُّوا خَفَاءَ بَعْضِ أَعْمَالِهِمْ عَنْ عِلْمِهِ مَعَ أَنه رَبهم وخالقهم فَكَيْفَ يَخْلُقُهُمْ وَتَخْفَى عَنْهُ أَعْمَالُهُمْ، وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الْملك: ١٤]، فَفِي وَصْفِ بِرَبِّكُمْ إِيمَاءٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنى.
والإرداء: الْإِهْلَاكُ، يُقَالُ: رَدِيَ كَرَضِيَ، إِذَا هَلَكَ، أَيْ مَاتَ، وَالْإِرْدَاءُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِيقَاعِ فِي سُوءِ الْحَالَةِ بِحَيْثُ أَصَارَهُمْ مِثْلَ الْأَمْوَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْصَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي سُوءِ الْحَالَةِ وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا إِفَادَةُ قَصْرٍ، أَيْ مَا أَرْدَاكُمْ إِلَّا ظَنُّكُمْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَمْ تُرْدِكُمْ شَهَادَةُ جَوَارِحِكُمْ حَتَّى تَلُومُوهَا بَلْ أَرْدَاكُمْ ظَنُّكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ فَلَمْ تَحْذَرُوا عِقَابَهُ.
وَقَوْلُهُ: فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ إِذْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ وَصَلُوا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَحِقُّ أَنْ يعرفوه من شؤون اللَّهِ وَوَثِقُوا مِنْ تَحْصِيلِ سَعَادَتِهِمْ، وَهُمْ مَا عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ فَعَامَلُوا اللَّهَ بِمَا لَا يَرْضَاهُ فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا النَّجَاةَ، فَشَبَّهَ حَالَهَمْ بِحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي اسْتَعَدَّ لِلرِّبْحِ فَوَقَعَ فِي الْخَسَارَةِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ نُعِيَ عَلَيْهِمْ سُوءُ اسْتِدْلَالِهِمْ وَفَسَادُ قِيَاسِهِمْ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ، وَقِيَاسِهِمُ الْغَائِبَ عَلَى الشَّاهِدِ، تِلْكَ الْأُصُولُ الَّتِي اسْتَدْرَجَتْهُمْ فِي الضَّلَالَةِ فَأَحَالُوا رِسَالَةَ الْبَشَرِ عَنِ اللَّهِ وَنَفَوُا الْبَعْثَ، ثُمَّ أَثْبَتُوا شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَتَفَرَّعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ قَطْعُ نَظَرِهِمْ عَمَّا وَرَاءَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَمْنُهُمْ مِنَ التَّبِعَاتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَذَلِكَ جِمَاعُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ.
والَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ صِفَةٌ لِ ظَنُّكُمُ. وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَرْداكُمْ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ، أَيْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ ظَنًّا بَاطِلًا. وَالْعُدُولُ عَنِ اسْمِ اللَّهِ الْعَلَمِ إِلَى بِرَبِّكُمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى ضَلَالِ ظَنِّهِمْ، إِذْ ظَنُّوا خَفَاءَ بَعْضِ أَعْمَالِهِمْ عَنْ عِلْمِهِ مَعَ أَنه رَبهم وخالقهم فَكَيْفَ يَخْلُقُهُمْ وَتَخْفَى عَنْهُ أَعْمَالُهُمْ، وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الْملك: ١٤]، فَفِي وَصْفِ بِرَبِّكُمْ إِيمَاءٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنى.
والإرداء: الْإِهْلَاكُ، يُقَالُ: رَدِيَ كَرَضِيَ، إِذَا هَلَكَ، أَيْ مَاتَ، وَالْإِرْدَاءُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِيقَاعِ فِي سُوءِ الْحَالَةِ بِحَيْثُ أَصَارَهُمْ مِثْلَ الْأَمْوَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْصَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي سُوءِ الْحَالَةِ وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْمُسْنَدِ فِعْلًا إِفَادَةُ قَصْرٍ، أَيْ مَا أَرْدَاكُمْ إِلَّا ظَنُّكُمْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَمْ تُرْدِكُمْ شَهَادَةُ جَوَارِحِكُمْ حَتَّى تَلُومُوهَا بَلْ أَرْدَاكُمْ ظَنُّكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ فَلَمْ تَحْذَرُوا عِقَابَهُ.
وَقَوْلُهُ: فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ إِذْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ وَصَلُوا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَحِقُّ أَنْ يعرفوه من شؤون اللَّهِ وَوَثِقُوا مِنْ تَحْصِيلِ سَعَادَتِهِمْ، وَهُمْ مَا عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ فَعَامَلُوا اللَّهَ بِمَا لَا يَرْضَاهُ فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا النَّجَاةَ، فَشَبَّهَ حَالَهَمْ بِحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي اسْتَعَدَّ لِلرِّبْحِ فَوَقَعَ فِي الْخَسَارَةِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ نُعِيَ عَلَيْهِمْ سُوءُ اسْتِدْلَالِهِمْ وَفَسَادُ قِيَاسِهِمْ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ، وَقِيَاسِهِمُ الْغَائِبَ عَلَى الشَّاهِدِ، تِلْكَ الْأُصُولُ الَّتِي اسْتَدْرَجَتْهُمْ فِي الضَّلَالَةِ فَأَحَالُوا رِسَالَةَ الْبَشَرِ عَنِ اللَّهِ وَنَفَوُا الْبَعْثَ، ثُمَّ أَثْبَتُوا شُرَكَاءَ لِلَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَتَفَرَّعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ قَطْعُ نَظَرِهِمْ عَمَّا وَرَاءَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَمْنُهُمْ مِنَ التَّبِعَاتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَذَلِكَ جِمَاعُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ.
272
وَاعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الضَّلَالِ فِي الْعَقَائِدِ كُلِّهَا إِنَّمَا تَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ فَسَادِ التَّأَمُّلِ وَسُرْعَةِ الْإِيقَانِ وَعَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الدَّلَائِلِ الصَّائِبَةِ وَالدَّلَائِلِ الْمُشَابِهَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْوَهْمِ الْمُعَبَّرِ عَنهُ بِالظَّنِّ السيّء، أَوِ الْبَاطِلِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ مِثْلَهُ فِي الْمُنَافِقِينَ وَأَنَّ ظَنَّهُمْ هُوَ ظَنُّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [آل عمرَان: ١٥٤]، فَلْيَحْذَرِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَوْهَامِ فَيَبُوءُوا بِبَعْضِ مَا نُعِيَ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ.
وَقَدْ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»
يُرِيد الظَّن الَّذين لَا دَلِيل عَلَيْهِ. و (أَصْبَحْتُم) بِمَعْنَى: صِرْتُمْ، لِأَنَّ أَصْبَحَ يَكْثُرُ أَنْ تَأْتِيَ بِمَعْنى: صَار.
[٢٤]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٢٤]
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَاب إِذا [فصلت: ٢٠] عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، أَوْ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا [فصلت: ٢١]، أَوْ هُوَ جَوَابُ إِذا، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ عَلَى حَسَبِ مَا يُنَاسِبُ الْوُجُوهَ الْمُتَقَدِّمَةَ. وَالْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ: أَنَّ حَاصِلَ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ زُجَّ بِهِمْ فِي النَّارِ فَإِنْ صَبَرُوا وَاسْتَسْلَمُوا فَهُمْ بَاقُونَ فِي النَّارِ، وَإِنِ اعْتَذَرُوا لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْعُذْرُ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ تَنَصُّلٌ.
وَقَوْلُهُ: فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّ كَوْنَ النَّارِ مَثْوًى لَهُمْ لَيْسَ مُسَبَّبًا عَلَى حُصُولِ صَبْرِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: إِنْ قَبِلَ ذَلِكَ فَذَاكَ، أَيْ فَهُوَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الصَّبْرُ لِأَنَّ النَّارَ مَثْوًى لَهُمْ.
وَمَعْنَى وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا إِنْ يَسْأَلُوا الْعُتْبَى (بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ مَقْصُورًا اسْمُ مَصْدَرِ الْإِعْتَابِ) وَهِيَ رُجُوعُ الْمَعْتُوبِ عَلَيْهِ إِلَى مَا يُرْضِي الْعَاتِبَ.
وَقَدْ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»
يُرِيد الظَّن الَّذين لَا دَلِيل عَلَيْهِ. و (أَصْبَحْتُم) بِمَعْنَى: صِرْتُمْ، لِأَنَّ أَصْبَحَ يَكْثُرُ أَنْ تَأْتِيَ بِمَعْنى: صَار.
[٢٤]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٢٤]
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَاب إِذا [فصلت: ٢٠] عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، أَوْ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا [فصلت: ٢١]، أَوْ هُوَ جَوَابُ إِذا، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ عَلَى حَسَبِ مَا يُنَاسِبُ الْوُجُوهَ الْمُتَقَدِّمَةَ. وَالْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ: أَنَّ حَاصِلَ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَدْ زُجَّ بِهِمْ فِي النَّارِ فَإِنْ صَبَرُوا وَاسْتَسْلَمُوا فَهُمْ بَاقُونَ فِي النَّارِ، وَإِنِ اعْتَذَرُوا لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْعُذْرُ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ تَنَصُّلٌ.
وَقَوْلُهُ: فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّ كَوْنَ النَّارِ مَثْوًى لَهُمْ لَيْسَ مُسَبَّبًا عَلَى حُصُولِ صَبْرِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: إِنْ قَبِلَ ذَلِكَ فَذَاكَ، أَيْ فَهُوَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَلَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الصَّبْرُ لِأَنَّ النَّارَ مَثْوًى لَهُمْ.
وَمَعْنَى وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا إِنْ يَسْأَلُوا الْعُتْبَى (بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ مَقْصُورًا اسْمُ مَصْدَرِ الْإِعْتَابِ) وَهِيَ رُجُوعُ الْمَعْتُوبِ عَلَيْهِ إِلَى مَا يُرْضِي الْعَاتِبَ.
وَفِي الْمَثَلِ «مَا مُسِيءٌ مَنْ أَعْتَبَ» أَيْ مَنْ رَجَعَ عَمَّا أَسَاءَ بِهِ فَكَأَنَّهُ لم يسىء. وَقَلَّمَا اسْتَعْمَلُوا الْمَصْدَرَ الْأَصْلِيَّ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ الْعُتْبَى. وَالْعَاتِبُ هُوَ اللَّائِمُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلطَّلَبِ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُعَاتِبَهُ وَإِنَّمَا يَسْأَلُهُ تَرْكَ الْمُعَاتَبَةِ، أَيْ يَسْأَلُهُ الصَّفْحَ عَنْهُ فَإِذَا قَبِلَ مِنْهُ ذَلِكَ قِيلَ: أَعْتَبَهُ أَيْضًا، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ تَصَارِيفِ هَذِهِ الْمَادَّةِ فِي اللُّغَةِ وَلِهَذَا كَادُوا أَنْ يُمِيتُوا مَصْدَرَ: أَعْتَبَ بِمَعْنَى رَجَعَ وَأَبْقَوْهُ فِي مَعْنَى قَبِلَ الْعُتْبَى، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعْتِبُهُمْ، أَيْ لَا يقبل مِنْهُم.
[٢٥]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٢٥]
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ [فصلت: ١٩]، وَذَلِكَ أَنَّهُ حُكِيَ قَوْلُهُمُ الْمُقْتَضِي إِعْرَاضَهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي دَعْوَةِ الْإِيمَانِ ثمَّ ذكر كفر هم بِخَالِقِ الْأَكْوَانِ بقوله قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] ثُمَّ ذُكِرَ مَصِيرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ سَبَبِ ضَلَالِهِمُ الَّذِي نَشَأَتْ عَنْهُ أَحْوَالُهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ. وَتَخَلَّلَ بَيْنَ مَا هُنَالِكَ وَمَا هُنَا أَفَانِينُ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالدَّلَائِلِ وَالْمِنَنِ وَالتَّعَالِيمِ وَالْقَوَارِعِ وَالْإِيقَاظِ.
وَقَيَّضَ: أَتَاحَ وَهَيَّأَ شَيْئًا لِلْعَمَلِ فِي شَيْءٍ. وَالْقُرَنَاءُ جَمْعُ: قَرِينٍ، وَهُوَ الصَّاحِبُ الْمُلَازِمُ، وَالْقُرَنَاءُ هُنَا: هُمُ الْمُلَازِمُونَ لَهُمْ فِي الضَّلَالَةِ: إِمَّا فِي الظَّاهِرِ مِثْلَ دُعَاةِ الْكُفْرِ وَأَيمَّتِهِ، وَإِمَّا فِي بَاطِنِ النُّفُوسِ مِثْلَ شَيَاطِينِ الْوَسْوَاسِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَيَأْتِي فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [٣٦]. وَمَعْنَى تَقْيِيضِهِمْ لَهُمْ: تَقْدِيرُهُمْ لَهُمْ، أَيْ خَلْقُ الْمُنَاسَبَاتِ الَّتِي يَتَسَبَّبُ عَلَيْهَا
[٢٥]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٢٥]
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ [فصلت: ١٩]، وَذَلِكَ أَنَّهُ حُكِيَ قَوْلُهُمُ الْمُقْتَضِي إِعْرَاضَهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي دَعْوَةِ الْإِيمَانِ ثمَّ ذكر كفر هم بِخَالِقِ الْأَكْوَانِ بقوله قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] ثُمَّ ذُكِرَ مَصِيرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ سَبَبِ ضَلَالِهِمُ الَّذِي نَشَأَتْ عَنْهُ أَحْوَالُهُمْ بِقَوْلِهِ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ. وَتَخَلَّلَ بَيْنَ مَا هُنَالِكَ وَمَا هُنَا أَفَانِينُ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالدَّلَائِلِ وَالْمِنَنِ وَالتَّعَالِيمِ وَالْقَوَارِعِ وَالْإِيقَاظِ.
وَقَيَّضَ: أَتَاحَ وَهَيَّأَ شَيْئًا لِلْعَمَلِ فِي شَيْءٍ. وَالْقُرَنَاءُ جَمْعُ: قَرِينٍ، وَهُوَ الصَّاحِبُ الْمُلَازِمُ، وَالْقُرَنَاءُ هُنَا: هُمُ الْمُلَازِمُونَ لَهُمْ فِي الضَّلَالَةِ: إِمَّا فِي الظَّاهِرِ مِثْلَ دُعَاةِ الْكُفْرِ وَأَيمَّتِهِ، وَإِمَّا فِي بَاطِنِ النُّفُوسِ مِثْلَ شَيَاطِينِ الْوَسْوَاسِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَيَأْتِي فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [٣٦]. وَمَعْنَى تَقْيِيضِهِمْ لَهُمْ: تَقْدِيرُهُمْ لَهُمْ، أَيْ خَلْقُ الْمُنَاسَبَاتِ الَّتِي يَتَسَبَّبُ عَلَيْهَا
274
تَقَارُنُ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ لِتَنَاسُبِ أَفْكَارِ الدُّعَاةِ وَالْقَابِلِينَ كَمَا يَقُولُ الْحُكَمَاءُ «اسْتِفَادَةُ الْقَابِلِ مِنَ الْمَبْدَأِ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا». فَالتَّقْيِيضُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ عِبَارَةٌ جَامِعَةٌ لِمُخْتَلِفِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَالتَّجَمُّعَاتِ الَّتِي تُوجِبُ التَّآلُفَ وَالتَّحَابَّ بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ، وَلِمُخْتَلِفِ الطَّبَائِعِ الْمُكَوَّنَةِ فِي نُفُوسِ بَعْضِ النَّاسِ فَيَقْتَضِي بَعْضُهَا جَاذِبِيَّةَ الشَّيَاطِينِ إِلَيْهَا وَحُدُوثَ الْخَوَاطِرِ السَّيِّئَةِ فِيهَا. وَلِلْإِحَاطَةِ بِهَذَا الْمَقْصُودِ أُوثِرَ التَّعْبِيرُ هُنَا بِ قَيَّضْنا دُونَ غَيره من نَحْو: بَعَثْنَا، وَأَرْسَلْنَا.
وَالتَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُزَيَّنَ غَيْرُ حَسَنٍ فِي ذَاتِهِ. وَمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يُسْتَعَارُ لِلْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ، وَمَا خَلْفَهُمْ يُسْتَعَارُ لِلْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ.
وَالْمُرَادُ بِ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أُمُورُ الدُّنْيَا، أَيْ زَيَّنُوا لَهُمْ مَا يَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْفَسَادِ مِثْلَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ بِلَا حَقٍّ، وَأَكْلِ الْأَمْوَالِ، وَالْعُدُولِ عَلَى النَّاسِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ، وَالْمَيْسِرِ، وَارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ، وَالْوَأْدِ. فَعَوَّدُوهُمْ بِاسْتِحْسَانِ ذَلِكَ كُلِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الشَّهَوَاتِ وَالرَّغَبَاتِ الْعَارِضَةِ الْقَصِيرَةِ الْمَدَى، وَصَرَفُوهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا يُحِيطُ بِأَفْعَالِهِمْ تِلْكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ الذَّاتِيَّةِ الدَّائِمَةِ.
وَالْمُرَادُ بِ مَا خَلْفَهُمْ الْأُمُورُ الْمُغَيَّبَةُ عَنِ الْحِسِّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَأُمُورِ الْآخِرَةِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِثْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَنِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَظَنِّهِمْ أَنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ مَسْتُورُ أَعْمَالِهِمْ، وَإِحَالَتِهِمْ بِعْثَةَ الرُّسُلِ، وَإِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ. وَمَعْنَى تَزْيِينِهِمْ هَذَا لَهُمْ تَلْقِينُهُمْ تِلْكَ الْعَقَائِدَ بِالْأَدِلَّةِ السُّفُسْطَائِيَّةِ مِثْلَ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ، وَنَفْيِ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُدْرَكَاتِ الْحِسِّيَّةِ كَقَوْلِهِم: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الصافات: ١٦، ١٧].
وحَقَّ عَلَيْهِمُ أَيْ تَحَقَّقَ فِيهِمُ الْقَوْلُ وَهُوَ وَعِيدُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالنَّارِ عَلَى الْكُفْرِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ لِلْعَهْدِ. وَفِي هَذَا الْعَهْدِ إِجْمَالٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُعْهَدُ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: ١٩] وَقَوْلِهِ:
فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ [الصافات: ٣١]، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ لَا تَكُونَ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ قَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَالتَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُزَيَّنَ غَيْرُ حَسَنٍ فِي ذَاتِهِ. وَمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يُسْتَعَارُ لِلْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ، وَمَا خَلْفَهُمْ يُسْتَعَارُ لِلْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ.
وَالْمُرَادُ بِ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أُمُورُ الدُّنْيَا، أَيْ زَيَّنُوا لَهُمْ مَا يَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْفَسَادِ مِثْلَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ بِلَا حَقٍّ، وَأَكْلِ الْأَمْوَالِ، وَالْعُدُولِ عَلَى النَّاسِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ، وَالْمَيْسِرِ، وَارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ، وَالْوَأْدِ. فَعَوَّدُوهُمْ بِاسْتِحْسَانِ ذَلِكَ كُلِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الشَّهَوَاتِ وَالرَّغَبَاتِ الْعَارِضَةِ الْقَصِيرَةِ الْمَدَى، وَصَرَفُوهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا يُحِيطُ بِأَفْعَالِهِمْ تِلْكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ الذَّاتِيَّةِ الدَّائِمَةِ.
وَالْمُرَادُ بِ مَا خَلْفَهُمْ الْأُمُورُ الْمُغَيَّبَةُ عَنِ الْحِسِّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَأُمُورِ الْآخِرَةِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِثْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَنِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَظَنِّهِمْ أَنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ مَسْتُورُ أَعْمَالِهِمْ، وَإِحَالَتِهِمْ بِعْثَةَ الرُّسُلِ، وَإِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ. وَمَعْنَى تَزْيِينِهِمْ هَذَا لَهُمْ تَلْقِينُهُمْ تِلْكَ الْعَقَائِدَ بِالْأَدِلَّةِ السُّفُسْطَائِيَّةِ مِثْلَ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ، وَنَفْيِ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُدْرَكَاتِ الْحِسِّيَّةِ كَقَوْلِهِم: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الصافات: ١٦، ١٧].
وحَقَّ عَلَيْهِمُ أَيْ تَحَقَّقَ فِيهِمُ الْقَوْلُ وَهُوَ وَعِيدُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالنَّارِ عَلَى الْكُفْرِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ لِلْعَهْدِ. وَفِي هَذَا الْعَهْدِ إِجْمَالٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُعْهَدُ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: ١٩] وَقَوْلِهِ:
فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ [الصافات: ٣١]، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ لَا تَكُونَ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ قَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْآيَةَ.
275
وَقَوْلُهُ: فِي أُمَمٍ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ عَلَيْهِمُ، أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمْ حَالَةَ كَوْنِهِمْ فِي أُمَمٍ أَمْثَالِهِمْ قَدْ سَبَقُوهُمْ. وَالظَّرْفِيَّةُ هُنَا مَجَازِيَّةٌ، وَهِيَ بِمَعْنَى التَّبْعِيضِ، أَيْ هُمْ مِنْ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ. وَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ أُذَيْنَةَ:
أَيْ فَأَنْتَ مِنْ جُمْلَةِ آخَرِينَ قَدْ صُرِفُوا عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَةِ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بَيَانِيَّةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِ أُمَمٍ، أَيْ مِنْ أُمَمٍ مِنَ الْبَشَرِ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٤، ٨٥]، وَقَوْلِهِ: قالَ ادْخُلُوا فِي
أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ
[الْأَعْرَاف: ٣٨] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِ قُرَناءَ أَيْ مُلَازِمِينَ لَهُمْ مُلَازَمَةً خَفِيَّةً وَهِيَ مُلَازَمَةُ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ بِالْوَسْوَسَةِ وَمُلَازَمَةُ أَيِمَّةِ الْكُفْرِ لَهُمْ بِالتَّشْرِيعِ لَهُمْ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِلْقَوْلِ مِثْلَ نَظِيرَتِهَا فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٣١]، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ جُمْلَةِ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ والمعنيان متقاربان.
[٢٦]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٢٦]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: ٥] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، وَمُنَاسَبَةُ التَّخَلُّصِ إِلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِمَّا يَنْشَأُ عَنْ تَزْيِينِ قُرَنَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ، أَوْ هُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَزَيَّنُوا لَهُمْ [فصلت: ٢٥]. وَهَذَا حِكَايَةٌ لِحَالٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بَعْدَ أَنْ وَصَفَ إِعْرَاضَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمُ انْتَقَلَ إِلَى وَصْفِ تَلْقِينِهِمُ النَّاسَ أَسَالِيبَ
إِنْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَةِ مَأْفُو | كَا فَفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا |
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بَيَانِيَّةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِ أُمَمٍ، أَيْ مِنْ أُمَمٍ مِنَ الْبَشَرِ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٤، ٨٥]، وَقَوْلِهِ: قالَ ادْخُلُوا فِي
أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ
[الْأَعْرَاف: ٣٨] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِ قُرَناءَ أَيْ مُلَازِمِينَ لَهُمْ مُلَازَمَةً خَفِيَّةً وَهِيَ مُلَازَمَةُ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ بِالْوَسْوَسَةِ وَمُلَازَمَةُ أَيِمَّةِ الْكُفْرِ لَهُمْ بِالتَّشْرِيعِ لَهُمْ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِلْقَوْلِ مِثْلَ نَظِيرَتِهَا فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٣١]، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ جُمْلَةِ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ والمعنيان متقاربان.
[٢٦]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٢٦]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: ٥] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، وَمُنَاسَبَةُ التَّخَلُّصِ إِلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِمَّا يَنْشَأُ عَنْ تَزْيِينِ قُرَنَائِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ، أَوْ هُوَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَزَيَّنُوا لَهُمْ [فصلت: ٢٥]. وَهَذَا حِكَايَةٌ لِحَالٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بَعْدَ أَنْ وَصَفَ إِعْرَاضَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمُ انْتَقَلَ إِلَى وَصْفِ تَلْقِينِهِمُ النَّاسَ أَسَالِيبَ
276
الْإِعْرَاضِ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا هُمْ أَيِمَّةُ الْكُفْرِ يَقُولُونَ لِعَامَّتِهِمْ:
لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ هُوَ أَكْمَلُ الْكَلَامِ شَرِيفَ مُعَانٍ وَبَلَاغَةَ تَرَاكِيبَ وَفَصَاحَةَ أَلْفَاظٍ، وَأَيْقَنُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُهُ وَتُدَاخِلُ نَفْسَهُ جَزَالَةُ أَلْفَاظِهِ وَسُمُوُّ أَغْرَاضِهِ قَضَى لَهُ فَهْمُهُ أَنَّهُ حَقٌّ اتِّبَاعُهُ، وَقَدْ أَدْرَكُوا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ غَالَبَتْهُمْ مَحَبَّةُ الدَّوَامِ عَلَى سيادة قَومهمْ فتمالؤوا وَدَبَّرُوا تَدْبِيرًا لِمَنْعِ النَّاسِ مِنِ اسْتِمَاعِهِ، وَذَلِكَ خَشْيَةً مِنْ أَنْ تَرِقَّ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَصَرَفُوهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ.
وَهَذَا مِنْ شَأْنِ دُعَاةِ الضَّلَالِ وَالْبَاطِلِ أَنْ يَكُمُّوا أَفْوَاهَ النَّاطِقِينَ بِالْحَقِّ وَالْحُجَّةِ، بِمَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ تَخْوِيفٍ وَتَسْوِيلٍ، وَتَرْهِيبٍ وَتَرْغِيبٍ وَلَا يَدَعُوا النَّاسَ يَتَجَادَلُونَ بِالْحُجَّةِ وَيَتَرَاجَعُونَ بِالْأَدِلَّةِ لِأَنَّهُمْ يُوقِنُونَ أَنَّ حُجَّةَ خُصُومِهِمْ أَنْهَضُ، فَهُمْ يَسْتُرُونَهَا وَيُدَافِعُونَهَا لَا بِمِثْلِهَا وَلَكِنْ بِأَسَالِيبَ مِنَ الْبُهْتَانِ وَالتَّضْلِيلِ، فَإِذَا أَعْيَتْهُمُ الْحِيَلُ وَرَأَوْا بِوَارِقَ الْحَقِّ تَخْفُقُ خَشَوْا أَنْ يَعُمَّ نُورُهَا النَّاسَ الَّذِينَ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ خَيْرٍ وَرُشْدٍ عَدَلُوا إِلَى لَغْوِ الْكَلَامِ وَنَفَخُوا فِي أَبْوَاقِ اللَّغْوِ وَالْجَعْجَعَةِ لَعَلَّهُمْ يَغْلِبُونَ بِذَلِكَ عَلَى حُجَجِ الْحَقِّ وَيَغْمُرُونَ الْكَلَامَ الْقَوْلَ الصَّالِحَ بِاللَّغْوِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ هَؤُلَاءِ.
فَقَوْلُهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ تَحْذِيرًا وَاسْتِهْزَاءً بِالْقُرْآنِ، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْقِيرِ كَمَا فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٣٦].
وَتَسْمِيَتُهُمْ إِيَّاهُ بِالْقُرْآنِ حِكَايَةٌ لِمَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ تَسْمَعُوا بِاللَّامِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: تَطْمَئِنُوا أَوْ تَرْكَنُوا.
وَاللَّغْوُ: الْقَوْلُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَيُسَمَّى الْكَلَامُ الَّذِي لَا جَدْوَى لَهُ لَغْوًا، وَهُوَ وَاوِيُّ اللَّامِ، فَأصل وَالْغَوْا: وَالْغَوْا اسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْوَاوِ فَحُذِفَتْ وَالْتَقَى سَاكِنَانِ فَحُذِفَ أَوَّلُهُمَا وَسَكَنَتِ الْوَاوُ الثَّانِيَةُ سُكُونًا حَيًّا، وَالْوَاوُ عَلَامَةُ الْجَمْعِ. وَهَذَا الْجَارِي عَلَى ظَاهِرِ كَلَام «الصِّحَاح» و «الْقَامُوس» فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ يُقَالُ: لَغِيَ يَلْغَى، كَمَا يُقَالُ: لَغَا يَلْغُو فَهُوَ إِذَنْ وَاوِيٌّ وَيَائِيٌّ. فَمَعْنَى وَالْغَوْا فِيهِ قُولُوا أَقْوَالًا لَا مَعْنَى لَهَا أَوْ تَكَلَّمُوا كَلَامًا غَيْرَ مُرَادٍ مِنْهُ إِفَادَةٌ
لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ هُوَ أَكْمَلُ الْكَلَامِ شَرِيفَ مُعَانٍ وَبَلَاغَةَ تَرَاكِيبَ وَفَصَاحَةَ أَلْفَاظٍ، وَأَيْقَنُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُهُ وَتُدَاخِلُ نَفْسَهُ جَزَالَةُ أَلْفَاظِهِ وَسُمُوُّ أَغْرَاضِهِ قَضَى لَهُ فَهْمُهُ أَنَّهُ حَقٌّ اتِّبَاعُهُ، وَقَدْ أَدْرَكُوا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ غَالَبَتْهُمْ مَحَبَّةُ الدَّوَامِ عَلَى سيادة قَومهمْ فتمالؤوا وَدَبَّرُوا تَدْبِيرًا لِمَنْعِ النَّاسِ مِنِ اسْتِمَاعِهِ، وَذَلِكَ خَشْيَةً مِنْ أَنْ تَرِقَّ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَصَرَفُوهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ.
وَهَذَا مِنْ شَأْنِ دُعَاةِ الضَّلَالِ وَالْبَاطِلِ أَنْ يَكُمُّوا أَفْوَاهَ النَّاطِقِينَ بِالْحَقِّ وَالْحُجَّةِ، بِمَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ تَخْوِيفٍ وَتَسْوِيلٍ، وَتَرْهِيبٍ وَتَرْغِيبٍ وَلَا يَدَعُوا النَّاسَ يَتَجَادَلُونَ بِالْحُجَّةِ وَيَتَرَاجَعُونَ بِالْأَدِلَّةِ لِأَنَّهُمْ يُوقِنُونَ أَنَّ حُجَّةَ خُصُومِهِمْ أَنْهَضُ، فَهُمْ يَسْتُرُونَهَا وَيُدَافِعُونَهَا لَا بِمِثْلِهَا وَلَكِنْ بِأَسَالِيبَ مِنَ الْبُهْتَانِ وَالتَّضْلِيلِ، فَإِذَا أَعْيَتْهُمُ الْحِيَلُ وَرَأَوْا بِوَارِقَ الْحَقِّ تَخْفُقُ خَشَوْا أَنْ يَعُمَّ نُورُهَا النَّاسَ الَّذِينَ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ خَيْرٍ وَرُشْدٍ عَدَلُوا إِلَى لَغْوِ الْكَلَامِ وَنَفَخُوا فِي أَبْوَاقِ اللَّغْوِ وَالْجَعْجَعَةِ لَعَلَّهُمْ يَغْلِبُونَ بِذَلِكَ عَلَى حُجَجِ الْحَقِّ وَيَغْمُرُونَ الْكَلَامَ الْقَوْلَ الصَّالِحَ بِاللَّغْوِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ هَؤُلَاءِ.
فَقَوْلُهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ تَحْذِيرًا وَاسْتِهْزَاءً بِالْقُرْآنِ، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْقِيرِ كَمَا فِيمَا حُكِيَ عَنْهُمْ أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الْأَنْبِيَاء: ٣٦].
وَتَسْمِيَتُهُمْ إِيَّاهُ بِالْقُرْآنِ حِكَايَةٌ لِمَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ تَسْمَعُوا بِاللَّامِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: تَطْمَئِنُوا أَوْ تَرْكَنُوا.
وَاللَّغْوُ: الْقَوْلُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَيُسَمَّى الْكَلَامُ الَّذِي لَا جَدْوَى لَهُ لَغْوًا، وَهُوَ وَاوِيُّ اللَّامِ، فَأصل وَالْغَوْا: وَالْغَوْا اسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْوَاوِ فَحُذِفَتْ وَالْتَقَى سَاكِنَانِ فَحُذِفَ أَوَّلُهُمَا وَسَكَنَتِ الْوَاوُ الثَّانِيَةُ سُكُونًا حَيًّا، وَالْوَاوُ عَلَامَةُ الْجَمْعِ. وَهَذَا الْجَارِي عَلَى ظَاهِرِ كَلَام «الصِّحَاح» و «الْقَامُوس» فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ يُقَالُ: لَغِيَ يَلْغَى، كَمَا يُقَالُ: لَغَا يَلْغُو فَهُوَ إِذَنْ وَاوِيٌّ وَيَائِيٌّ. فَمَعْنَى وَالْغَوْا فِيهِ قُولُوا أَقْوَالًا لَا مَعْنَى لَهَا أَوْ تَكَلَّمُوا كَلَامًا غَيْرَ مُرَادٍ مِنْهُ إِفَادَةٌ
277
أَوِ الْمَقْصُودُ إِحْدَاثُ أَصْوَاتٍ تَغْمُرُ صَوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِتَخَلُّلِ أَصْوَاتِهِمْ صَوْتَ الْقَارِئِ حَتَّى لَا يَفْقَهَهُ السَّامِعُونَ عُدِّيَ اللَّغْوُ بِحَرْفِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ لِإِفَادَةِ إِيقَاعِ لَغْوِهِمْ فِي خِلَالِ صَوْتِ الْقَارِئِ وُقُوعَ الْمَظْرُوفِ فِي الظَّرْفِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. وَأُدْخِلَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ عَلَى اسْمِ الْقُرْآنِ دُونَ اسْمِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ مِثْلَ صَوْتٍ أَوْ كَلَامٍ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا يُخْفِي أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ أَوْ يُشَكِّكُ فِي مَعَانِيهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَهَذَا نَظْمٌ لَهُ مَكَانَةٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَكَانَ أَبُو جَهْلٍ وَغَيْرُهُ يَطْرُدُونَ النَّاسَ عَنْهُ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لَهُ وَالْغَوْا فِيهِ، فَكَانُوا يَأْتُونَ بِالْمُكَاءِ وَالصَّفِيرِ وَالصِّيَاحِ وَإِنْشَادِ الشِّعْرِ وَالْأَرَاجِيزِ وَمَا يَحْضُرُهُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَصْخَبُونَ بِهَا»
. وَقَدْ وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» «أَنَّهُمْ قَالُوا لَمَّا اسْتَمَعُوا إِلَى قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ رَقِيقَ الْقِرَاءَةِ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا».
وَمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ رَجَاءَ أَنْ تَغْلِبُوا مُحَمَّدًا بِصَرْفِ مَنْ يُتَوَقَّعُ أَنْ يَتْبَعَهُ إِذَا سَمِعَ قِرَاءَتَهُ. وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَ الْقُرْآنَ غَالِبَهُمْ إِذْ كَانَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَهُ يُدَاخِلُ قُلُوبَهُمْ فَيُؤْمِنُونَ، أَيْ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَهُوَ غالبكم.
[٢٧، ٢٨]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٨]
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨)
دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُفَرَّعٌ عَمَّا قَبْلَهَا: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: ٢٦] الْآيَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفَرَّعًا عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ
[فصلت: ٥] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: فَإِنْ أَعْرَضُوا [فصلت: ١٣] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت: ١٩] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ [فصلت: ٢٥] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا [فصلت: ٢٦] إِلَخْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَكَانَ أَبُو جَهْلٍ وَغَيْرُهُ يَطْرُدُونَ النَّاسَ عَنْهُ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لَهُ وَالْغَوْا فِيهِ، فَكَانُوا يَأْتُونَ بِالْمُكَاءِ وَالصَّفِيرِ وَالصِّيَاحِ وَإِنْشَادِ الشِّعْرِ وَالْأَرَاجِيزِ وَمَا يَحْضُرُهُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَصْخَبُونَ بِهَا»
. وَقَدْ وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» «أَنَّهُمْ قَالُوا لَمَّا اسْتَمَعُوا إِلَى قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ رَقِيقَ الْقِرَاءَةِ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا».
وَمَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ رَجَاءَ أَنْ تَغْلِبُوا مُحَمَّدًا بِصَرْفِ مَنْ يُتَوَقَّعُ أَنْ يَتْبَعَهُ إِذَا سَمِعَ قِرَاءَتَهُ. وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَ الْقُرْآنَ غَالِبَهُمْ إِذْ كَانَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَهُ يُدَاخِلُ قُلُوبَهُمْ فَيُؤْمِنُونَ، أَيْ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَهُوَ غالبكم.
[٢٧، ٢٨]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٢٧ إِلَى ٢٨]
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨)
دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُفَرَّعٌ عَمَّا قَبْلَهَا: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ [فصلت: ٢٦] الْآيَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفَرَّعًا عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ
[فصلت: ٥] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: فَإِنْ أَعْرَضُوا [فصلت: ١٣] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ [فصلت: ١٩] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ [فصلت: ٢٥] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا [فصلت: ٢٦] إِلَخْ.
278
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا: الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ الْكَلَام عَنْهُم.
ف الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ مَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ إِذَاقَةِ الْعَذَابِ، أَيْ لِكُفْرِهِمُ الْمَحْكِيِّ بَعْضُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَاقَةُ الْعَذَابِ: تَعْذِيبُهُمْ، اسْتُعِيرَ لَهُ الْإِذَاقَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمَكْنِيَّةِ وَالتَّخْيِيلَةِ. وَالْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ فَهُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا.
وَعَطْفُ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْآخِرَةِ. وأَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ.
وَالتَّقْدِيرُ: عَلَى أَسْوَأِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَنْصُوبًا عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ تَقْدِيرُهُ: جَزَاءً مُمَاثِلًا أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ.
وَأَسْوَأُ: اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ السَّيِّئُ، فَصِيغَ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي سُوئِهِ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ إِضَافَةِ الْبَعْضِ إِلَى الْكُلِّ وَلَيْسَ مِنْ إِضَافَةِ اسْمِ التَّفْضِيلِ إِلَى الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْجَزَاءُ وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ عَلَى أَسْوَأِ أَعْمَالِهِمْ. وَأَعْدَاءُ اللَّهِ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ [فصلت: ١٩].
وَالنَّارُ عَطْفُ بَيَانٍ مِنْ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ.
ودارُ الْخُلْدِ: النَّارُ. فَقَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَاءَ بِالظَّرْفِيَّةِ بِتَنْزِيلِ النَّارِ مَنْزِلَةَ ظَرْفٍ لِدَارِ الْخُلْدِ وَمَا دَارُ الْخُلْدِ إِلَّا عَيْنُ النَّارِ. وَهَذَا مِنْ أُسْلُوبِ التَّجْرِيدِ لِيُفِيدَ مُبَالَغَةَ مَعْنَى الْخُلْدِ فِي النَّارِ. وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الْأَحْزَاب: ٢١] وَقَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْعَتَّابِيِّ:
ف الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ مَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى عِلَّةِ إِذَاقَةِ الْعَذَابِ، أَيْ لِكُفْرِهِمُ الْمَحْكِيِّ بَعْضُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِذَاقَةُ الْعَذَابِ: تَعْذِيبُهُمْ، اسْتُعِيرَ لَهُ الْإِذَاقَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمَكْنِيَّةِ وَالتَّخْيِيلَةِ. وَالْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ فَهُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا.
وَعَطْفُ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْآخِرَةِ. وأَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ.
وَالتَّقْدِيرُ: عَلَى أَسْوَأِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مَنْصُوبًا عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ تَقْدِيرُهُ: جَزَاءً مُمَاثِلًا أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ.
وَأَسْوَأُ: اسْمُ تَفْضِيلٍ مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ السَّيِّئُ، فَصِيغَ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي سُوئِهِ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ إِضَافَةِ الْبَعْضِ إِلَى الْكُلِّ وَلَيْسَ مِنْ إِضَافَةِ اسْمِ التَّفْضِيلِ إِلَى الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْجَزَاءُ وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ عَلَى أَسْوَأِ أَعْمَالِهِمْ. وَأَعْدَاءُ اللَّهِ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْداءُ اللَّهِ [فصلت: ١٩].
وَالنَّارُ عَطْفُ بَيَانٍ مِنْ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ.
ودارُ الْخُلْدِ: النَّارُ. فَقَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَاءَ بِالظَّرْفِيَّةِ بِتَنْزِيلِ النَّارِ مَنْزِلَةَ ظَرْفٍ لِدَارِ الْخُلْدِ وَمَا دَارُ الْخُلْدِ إِلَّا عَيْنُ النَّارِ. وَهَذَا مِنْ أُسْلُوبِ التَّجْرِيدِ لِيُفِيدَ مُبَالَغَةَ مَعْنَى الْخُلْدِ فِي النَّارِ. وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الْأَحْزَاب: ٢١] وَقَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْعَتَّابِيِّ:
279
وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِي
أَيْ وَالرَّحْمَنُ كَافٍ لِلضُّعَفَاءِ.
والْخُلْدِ: طُولُ الْبَقَاءِ، وَأُطْلِقَ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ عَلَى الْبَقَاءِ الْمُؤَبَّدِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ.
وَانْتَصَبَ جَزاءُ عَلَى الْحَالِ مِنْ دارُ الْخُلْدِ. وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة. و (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ جَزَاءٌ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِنَا.
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَجْحَدُونَ دَالَّةٌ عَلَى تَجَدُّدِ الْجُحُودِ حِينًا فَحِينًا وَتَكَرُّرِهِ.
وَعُدِّيَ فِعْلُ يَجْحَدُونَ بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: يَكْذِبُونَ. وَتَقْدِيمُ بِآياتِنا لِلِاهْتِمَامِ وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٢٩]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٢٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
عطف على جملَة لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت: ٢٨]، أَيْ وَيَقُولُونَ فِي جَهَنَّمَ، فَعَدَلَ عَنْ صِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ إِلَى صِيغَةِ الْمُضِيِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الْأَعْرَاف: ٣٨]، فَالْقَائِلُونَ رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا: هُمْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله: الَّذَيْنِ أَضَلَّانا وَمَعْنَى أَرِنَا عَيِّنْ لَنَا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِرَادَةِ انْتِقَامِهِمْ مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ جَزَمَ نَجْعَلْهُما فِي جَوَابِ الطَّلَبِ عَلَى تَقْدِيرِ: إِنْ تُرِنَاهُمَا نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا.
وَالْجَعْلُ تَحْتَ الْأَقْدَامِ: الْوَطْءُ بِالْأَقْدَامِ وَالرَّفْسُ، أَيْ نَجْعَلُ آحَادَهُمْ تَحْتَ أَقْدَامِ آحَادِ جَمَاعَتِنَا، فَإِنَّ الدَّهْمَاءَ أَكْثَرُ مِنَ الْقَادَةِ فَلَا يَعُوزُهُمُ الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ. وَكَانَ الْوَطْءُ بِالْأَرْجُلِ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الِانْتِقَامِ وَالِامْتِهَانِ، قَالَ ابْنُ وَعْلَةَ الْجَرْمِيُّ:
أَيْ وَالرَّحْمَنُ كَافٍ لِلضُّعَفَاءِ.
والْخُلْدِ: طُولُ الْبَقَاءِ، وَأُطْلِقَ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ عَلَى الْبَقَاءِ الْمُؤَبَّدِ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ.
وَانْتَصَبَ جَزاءُ عَلَى الْحَالِ مِنْ دارُ الْخُلْدِ. وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة. و (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ جَزَاءٌ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِنَا.
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَجْحَدُونَ دَالَّةٌ عَلَى تَجَدُّدِ الْجُحُودِ حِينًا فَحِينًا وَتَكَرُّرِهِ.
وَعُدِّيَ فِعْلُ يَجْحَدُونَ بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: يَكْذِبُونَ. وَتَقْدِيمُ بِآياتِنا لِلِاهْتِمَامِ وَلِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٢٩]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٢٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
عطف على جملَة لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت: ٢٨]، أَيْ وَيَقُولُونَ فِي جَهَنَّمَ، فَعَدَلَ عَنْ صِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ إِلَى صِيغَةِ الْمُضِيِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِ هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الْأَعْرَاف: ٣٨]، فَالْقَائِلُونَ رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا: هُمْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله: الَّذَيْنِ أَضَلَّانا وَمَعْنَى أَرِنَا عَيِّنْ لَنَا، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِرَادَةِ انْتِقَامِهِمْ مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ جَزَمَ نَجْعَلْهُما فِي جَوَابِ الطَّلَبِ عَلَى تَقْدِيرِ: إِنْ تُرِنَاهُمَا نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا.
وَالْجَعْلُ تَحْتَ الْأَقْدَامِ: الْوَطْءُ بِالْأَقْدَامِ وَالرَّفْسُ، أَيْ نَجْعَلُ آحَادَهُمْ تَحْتَ أَقْدَامِ آحَادِ جَمَاعَتِنَا، فَإِنَّ الدَّهْمَاءَ أَكْثَرُ مِنَ الْقَادَةِ فَلَا يَعُوزُهُمُ الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ. وَكَانَ الْوَطْءُ بِالْأَرْجُلِ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الِانْتِقَامِ وَالِامْتِهَانِ، قَالَ ابْنُ وَعْلَةَ الْجَرْمِيُّ: