تفسير سورة فصّلت

التفسير القيم
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب التفسير القيم من كلام ابن القيم المعروف بـالتفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

سورة حم السجدة

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة فصلت (٤١) : آية ١٦]
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦)
لا ريب أن الأيام التي أوقع الله سبحانه فيها العقوبة بأعدائه وأعداء رسله كانت أياما نحسات عليهم، لأن النحس أصابهم فيها، وإن كانت أيام خير لأوليائه المؤمنين، فهي نحس على المكذبين، سعد للمؤمنين.
وهذا كيوم القيامة، فإنه عسير على الكافرين، يوم نحس لهم، يسير على المؤمنين، يوم سعد لهم.
قال مجاهد: أيام نحسات مشائيم، وقال الضحاك: معناه شديد، أي شديد البرد، حتى كان البرد هذابا لهم.
وقال أبو على: وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد:
كأن سلافة عرضت بنحس يحيل شفيفها الماء الزلالا
وقال ابن عباس: نحسات متتابعات. وكذلك قوله: ٥٤: ١٩ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ.
465
وكان اليوم نحسا عليهم لإرسال العذاب عليهم فيه، أي لا يقلع فيه، أي لا يقلع عنهم، كما تقلع مصائب الدنيا التي تأتي وتذهب، بل هذا النحس دائم على هؤلاء المكذبين للرسل.
و «مستمر» صفة للنحس، لا لليوم، ومن ظن أنه صفة لليوم، وأنه كان يوم أربعاء آخر شهر، وأن هذا اليوم نحس أبدا. فقد غلط وأخطأ فهم القرآن، فإن اليوم المذكور بحسب ما يقع فيه، فكم لله من نعمة على أوليائه في هذا اليوم، وكم له فيه من بلايا ونقم على أعدائه، كما يقع ذلك في غيره من الأيام، فسعود الأيام ونحوسها: إنما هو لسعود الأعمال، وموافقتها لمرضاة الرب، ونحوس الأعمال: إنما هو بمخالفتها لما جاءت به الرسل.
واليوم الواحد يكون يوم سعد لطائفة، ونحس لطائفة، كما كان يوم بدر يوم سعد للمؤمنين، ويوم نحس على الكافرين.
وقال تعالى: ٤١: ٣٣ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وقال تعالى: ٨٢: ١٠٨ قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ، أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وسواء كان المعنى: أنا ومن اتبعني يدعو إلى الله على بصيرة، أو كان الوقف عند قوله: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ ثم يبتدئ: عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فالقولان متلازمان. فإنه أمره سبحانه أن يخبر أن سبيله الدعوة إلى الله. فمن دعا إلى الله تعالى. فهو على سبيل رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهو على بصيرة، وهو من أتباعه، ومن دعا إلى غير ذلك فليس على سبيله، ولا هو على بصيرة، ولا هو من أتباعه. فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين وأتباعهم، وهم خلفاء الرسل في أممهم. والناس تبع لهم. والله سبحانه قد أمر رسوله أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه وضمن له حفظه وعضمته من الناس.
وهؤلاء المبلغون عنه من أمته لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه، وتبليغهم له، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتبليغ عنه ولو آية، ودعا لمن بلغ عنه ولو حديثا.
466
وتبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو. لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس. وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم. جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه.
وهم كما قال عمر بن الخطاب في خطبته التي ذكرها ابن وضاح في كتاب الحوادث والبدع له، إذ قال:
«الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرون بكتاب الله أهل العمى، كم من قتيل لا بليس قد أحيوه. وضال قد هدوه، بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد. فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم. يغلبونهم في سالف الدهر، وإلى يومنا هذا. فما نسيهم ربك. وما كان ربك نسيا، جعل قصصهم هدى، وأخبر عن حسن مقالتهم، فلا تقصر عنهم، فإنهم في منزلة رفيعة وإن أصابتهم الوضيعة».
وقال عبد الله بن مسعود «إن لله عند كل بدعة كيد بها للإسلام وليا من أوليائه يذب عنها، وينطق بعلاماتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكلوا على الله».
ويكفي في هذا
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي ولمعاذ أيضا «لأن يهدي بك الله رجلا واحدا خير لك من حمر النعم»
وقوله صلّى الله عليه وسلّم «من أحيي شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين. وضم بين إصبعيه»
وقوله «من دعا إلى الهدى فأتبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة».
فمتى يدرك العامل هذا الفضل العظيم. والحظ الجسيم بشيء من علمه. وإنما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
467
Icon