تفسير سورة المطفّفين

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب مختصر تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- ١ - وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ
- ٢ - الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ - ٣ - وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
- ٤ - أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ
- ٥ - لِيَوْمٍ عَظِيمٍ
- ٦ - يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العالمين
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله تعالى: ﴿وَيْلٌ للمطفِّفين﴾ فحسنوا الكيل بعد ذلك (أخرجه النسائي وابن ماجه)، وروى ابن جرير، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَيُوَفُّونَ الْكَيْلَ، قَالَ: وَمَا يَمْنَعُهُمْ أَنْ يُوَفُّوا الكيل، وقد قال الله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ - حتى بلغ يقوم الناس لرب العالمين﴾ (رواه ابن جرير)، والمراد بالتطفيف ههنا الْبَخْسُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، إِمَّا بِالِازْدِيَادِ إِنِ اقتضى من الناس، وإما النقصان إِنْ قَضَاهُمُ، وَلِهَذَا فَسَّرَ تَعَالَى الْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ وعدهم بالخسار والهلاك بقوله تعالى: ﴿إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ﴾ أَيْ مِنَ النَّاسِ ﴿يَسْتَوْفُونَ﴾ أَيْ يَأْخُذُونَ حَقَّهُمْ بِالْوَافِي وَالزَّائِدِ، ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ أَيْ يَنْقِصُونَ، وَالْأَحْسَنُ أن يجعل «كالوا ووزنوا» متعدياً ويكون (هم) في محل نصب، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ فِي الْكَيْلِ والميزان فقال تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ الكيل إِذا كِلْتُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تخسروا الميزان﴾، وأهلك قَوْمَ شُعَيْبٍ وَدَمَّرَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يَبْخَسُونَ الناس في الميزان والمكيال، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لَهُمْ: ﴿أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾؟ أي ما يَخَافُ أُولَئِكَ مِنَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَالضَّمَائِرَ، فِي يَوْمٍ عَظِيمِ الْهَوْلِ، كَثِيرِ الْفَزَعِ جَلِيلِ الْخَطْبِ، مَنْ خَسِرَ فيه أدخل ناراً حامية؟ وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ يَقُومُونَ حفاة عراة، في موقف صعب حرج، ضيق على المجرم، ويغشاهم مِنْ أَمْرِ الله تعالى ما تعجز القوى والحواس عنه، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العالمين حتى يغيب أحدهم في شحه إلى أنصاف أذنيه» (أخرجه البخاري ومسلم والإمام مالك)، وفي رواية لأحمد عن النبي
613
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، لِعَظَمَةِ الرَّحْمَنِ عزَّ وجلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى إِنَّ الْعَرَقَ لَيُلْجِمُ الرِّجَالَ إلى أنصاف آذانهم (أخرجه الإمام أحمد). حديث آخر: وروى الإمام أحمد عن المقداد بن الْأَسْوَدِ الكِنْدي قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قدر مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ - قَالَ - فَتُصْهِرُهُمُ الشَّمْسُ فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يأخذه إلجاماً» (رواه مسلم والترمذي وأحمد). حديث آخر: روى الإمام أحمد، عن عقبة بْنِ عَامِرٍ قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الْأَرْضِ فَيَعْرَقُ النَّاسُ، فَمِنَ النَّاسِ مَن يَبْلُغُ عَرَقُهُ عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى نِصْفِ الساق، ومنهم من يبلغ رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْعَجُزَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْخَاصِرَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ مَنْكِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ وَسَطَ فِيهِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَأَلْجَمَهَا فَاهُ - رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشير بيده هَكَذَا - وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَطِّيهِ عَرَقُهُ» وَضَرَبَ بِيَدِهِ، إشارة (أخرجه الإمام أحمد)، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَنِ ابْنِ مسعود: يقومون أربعين سنة رافعي رؤوسهم إِلَى السَّمَاءِ لَا يُكَلِّمُهُمْ أَحَدٌ قَدْ أَلْجَمَ العرق برهم وفاجرهم.
614
- ٧ - كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ
- ٨ - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ
- ٩ - كِتَابٌ مَرْقُومٌ
- ١٠ - وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
- ١١ - الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ
- ١٢ - وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ
- ١٣ - إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
- ١٤ - كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ
- ١٥ - كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ
- ١٦ - ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ
- ١٧ - ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
يقول تعالى حَقًّا: ﴿إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ أَيْ إِنَّ مَصِيرَهُمْ وَمَأْوَاهُمْ ﴿لَفِي سِجِّينٍ﴾ فِعِيلٍ مِنَ السجن، وهو الضيق كما يقال: فسّيق وَخِمِّيرٌ وَسِكِّيرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا عَظُمَ أَمْرُهُ فقال تعالى: ﴿مَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ﴾؟ أَيْ هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وسجين مقيم، وعذاب أَلِيمٌ، ثم قَالَ قَائِلُونَ: هِيَ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَقَدْ تقدم في حديث البراء بن عازب يَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فِي رُوحِ الْكَافِرِ «اكتبوا كتابه في سجين»، وقيل: بئر في جهنم، وَالصَّحِيحُ أَنْ سِجِّينًا مَأْخُوذٌ مِنَ السَّجْنِ وَهُوَ الضِّيقُ، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلُّ مَا تَسَافَلَ مِنْهَا ضاق وكل ما تعالى منها اتسع، وَلَمَّا كَانَ مَصِيرُ الْفُجَّارِ إِلَى جَهَنَّمَ وَهِيَ أَسْفَلُ السَّافِلِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسفل السافلين * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ وقال ههنا: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ﴾ وَهُوَ يَجْمَعُ الضِّيقَ وَالسُّفُولَ كما قال تعالى: ﴿وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً﴾، وقوله تعالى: ﴿كِتَابَ مَّرْقُومٌ﴾ لَيْسَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ﴾، وَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ لِمَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى سِجِّينٍ، أَيْ مَرْقُومٌ مَكْتُوبٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، لَا يُزَادُ فِيهِ أَحَدٌ ولا يتقص منه أحد، ثم قال تعالى: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ أَيْ إِذَا صَارُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَا أَوْعَدَهُمُ اللَّهُ مِنَ
614
السجن والعذاب المهين، ﴿وَيْلٌ﴾ لهم والمراد مِنْ ذَلِكَ الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ كَمَا يُقَالُ: وَيْلٌ لفلان، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مُفَسِّرًا لِلْمُكَذِّبِينَ الْفُجَّارِ الْكَفَرَةِ: ﴿الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ أَيْ لَا يُصَدِّقُونَ بِوُقُوعِهِ، وَلَا يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ، وَيَسْتَبْعِدُونَ أَمْرَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ أَيْ مُعْتَدٍ فِي أَفْعَالِهِ مِنْ تَعَاطِي الْحَرَامِ، وَالْمُجَاوَزَةِ فِي تَنَاوُلِ الْمُبَاحِ، وَالْأَثِيمِ فِي أَقْوَالِهِ إِنْ حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِنْ وَعَدَ أخلف، وإن خاصم فجر.
وقوله تعالى: ﴿إِذاً تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ أي إذا سمع كلام الله تعالى مِنَ الرَّسُولِ يُكَذِّبُ بِهِ، وَيَظُنُّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُفْتَعَلٌ مَجْمُوعٌ مِنْ كُتُبِ الْأَوَائِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين﴾، وقال تَعَالَى: ﴿وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بكرة وأصيلاً﴾ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، وَلَا كَمَا قَالُوا: إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، بَلْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيلُهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا حَجَبَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، مَا عَلَيْهَا مِنَ الرَّيْنِ الَّذِي قَدْ لَبِسَ قُلُوبَهُمْ، مِنْ كَثْرَةِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: ﴿مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ وَالرَّيْنُ يَعْتَرِي قُلُوبَ الْكَافِرِينَ، والغَيْن للمقربين، وقد روى الترمذي والنسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نكتةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ مِنْهَا صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ " (أخرجه الترمذي والنسائي، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ: "إِنَّ العبد إذا أخطأ نكت في قلبه نكتة سوداء، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فهو الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ " (هذا لفظ النسائي وقد رواه أحمد بنحوه). وقال الحسن البصري: هو الذَّنْبِ حَتَّى يَعْمَى الْقَلْبُ فَيَمُوتُ (وَكَذَا قَالَ مجاهد وقتادة وابن زيد)، وقوله تَعَالَى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ أي ثم هم يوم القيامة مَحْجُوبُونَ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ وَخَالِقِهِمْ، قَالَ الْإِمَامُ الشافعي: وفي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ عزَّ وجلَّ يومئذٍ، وهذا الذي قاله فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ هَذِهِ الآية، كما دل عليه منطوق قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا ناظرة﴾، وَكَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ الْمُتَوَاتِرَةُ، فِي رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ عزَّ وجلَّ فِي الدار الآخرة، قال الحسن: يُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ، ثُمَّ يُحْجَبُ عَنْهُ الْكَافِرُونَ، وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ يوم غدوة وعشية، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ﴾ أَيْ ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا الْحِرْمَانِ عَنْ رُؤْيَةِ الرَّحْمَنِ، مِنْ أَهْلِ النِّيرَانِ، ﴿ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ، عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، والتصغير والتحقير.
615
- ١٨ - كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ
- ١٩ - وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ
- ٢٠ - كِتَابٌ مَّرْقُومٌ
- ٢١ - يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ
- ٢٢ - إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ
- ٢٣ - عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ
- ٢٤ - تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ
- ٢٥ - يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَخْتُومٍ
- ٢٦ - خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ
- ٢٧ - وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ
- ٢٨ - عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون
615
يَقُولُ تَعَالَى: حَقًّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ - وَهُمْ بِخِلَافِ الْفُجَّارِ - ﴿لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ أَيْ مَصِيرُهُمْ إِلَى عليين وهو بخلاف سجين، روى الأعمش عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: سَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا - وَأَنَا حَاضِرٌ - عَنْ سِجِّينٍ؟ قَالَ: هِيَ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ وَفِيهَا أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ، وَسَأَلَهُ عَنْ عِلِّيِّينَ؟ فَقَالَ: هِيَ السَّمَاءُ السَّابِعَةُ وَفِيهَا أرواح المؤمنين (وهكذا قال غير واحد من السلف أنها السماء السابعة)، وقال ابن عباس: ﴿لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ يعني الجنة، وفي رواية عنه: أعمالهم في السماء عند الله، وَقَالَ قَتَادَةُ: عِلِّيُّونَ سَاقُ الْعَرْشِ الْيُمْنَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: عِلِّيُّونَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِلِّيِّينَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُلُوِّ، وَكُلَّمَا عَلَا الشَّيْءُ وارتفع عظم واتسع، ولهذا قال تعالى مُعَظِّمًا أَمْرَهُ وَمُفَخِّمًا شَأْنَهُ: ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ﴾؟ ثم قال تعالى مُؤَكِّدًا لِمَا كَتَبَ لَهُمْ: ﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ المقربون﴾ وهم الملائكة قاله قتادة، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَشْهَدُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ فِي نَعِيمٍ مُقِيمٍ، وجنات فيها فضل عميم ﴿وعلى الْأَرَائِكِ﴾ وَهِيَ السُّرُرُ تَحْتَ الْحِجَالِ ﴿يَنظُرُونَ﴾ قِيلَ: مَعْنَاهُ يَنْظُرُونَ فِي مُلْكِهِمْ، وَمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَالْفَضْلِ الَّذِي لَا يَنْقَضِي وَلَا يَبِيدُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ﴾ إِلَى الله عزَّ وجلَّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ سَنَةٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يرى أدناه وإن أعلاهم لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ فِي اليوم مرتين». وقوله تعالى: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ أَيْ تَعْرِفُ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ فِي وُجُوهِهِمْ ﴿نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ أي صفة الترافة وَالسُّرُورِ، وَالدِّعَةِ وَالرِّيَاسَةِ، مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النعيم العظيم. وقوله تعالى: ﴿يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ﴾ أَيْ يُسْقَوْنَ مِنْ خَمْرٍ مِنَ الْجَنَّةِ، وَالرَّحِيقُ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ (وهو قول ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ)، وفي الحديث: «أيما مؤمن سقى مؤمناً شربة ماء عَلَى ظمأٍ سَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ كساه الله من خضر الجنة» (أخرجه أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً)، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ أي خلطه مسك، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: طَيَّبَ اللَّهُ لَهُمُ الْخَمْرَ، فَكَانَ آخِرُ شَيْءٍ جُعِلَ فِيهَا مِسْكٌ خُتِمَ بِمِسْكٍ، وقال الحسن: عاقبته مسك، وقال ابن جرير، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ قَالَ: شَرَابٌ أَبْيَضُ مِثْلُ الْفِضَّةِ يَخْتِمُونَ بِهِ شَرَابَهُمْ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِيهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، لَمْ يَبْقَ ذُو رُوحٍ إلاّ وجد طيبها (أخرجه ابن جرير)، وقال مجاهد: ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ طيبه مسك، وقوله تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ أَيْ وَفِي مِثْلِ هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون، وليتباهى وليستبق إلى مثله المستبقون كقوله تعالى: ﴿لِمِثْلِ هذا فليعمل العاملون﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ﴾ أي مزاج هَذَا الرَّحِيقِ الْمَوْصُوفِ ﴿مِن تَسْنِيمٍ﴾ أَيْ مِنْ شَرَابٍ يُقَالُ لَهُ تَسْنِيمٌ، وَهُوَ أَشْرَفُ شَرَابِ أهل الجنة وأعلاه، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ أَيْ يَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، وَتُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا (قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَقَتَادَةُ وغيرهم).
616
- ٢٩ - إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ
- ٣٠ - وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ
- ٣١ - وَإِذَا
616
انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ
- ٣٢ - وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ
- ٣٣ - وما أرسولا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ
- ٣٤ - فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مَن الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ
- ٣٥ - عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ
- ٣٦ - هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُجْرِمِينَ، أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا يَضْحَكُونَ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ وَيَحْتَقِرُونَهُمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِالْمُؤْمِنِينَ يَتَغَامَزُونَ عَلَيْهِمْ أَيْ مُحْتَقِرِينَ لَهُمْ ﴿وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ﴾ أي وإذا انْقَلَبَ: أَيْ رَجَعَ هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمُ انْقَلَبُوا إِلَيْهَا فَاكِهِينَ، أَيْ مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا، وَمَعَ هَذَا مَا شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحقرونهم وَيَحْسُدُونَهُمْ ﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ﴾ أَيْ لِكَوْنِهِمْ عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تعالى: ﴿وما أرسولا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ أَيْ وَمَا بُعِثَ هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمُونَ، حافظين على هؤلاء المؤمنين، ما يصدر عنهم مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَلَا كُلِّفُوا بِهِمْ، فَلِمَ اشْتَغَلُوا بِهِمْ وَجَعَلُوهُمْ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ؟ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾، ولهذا قال ههنا: ﴿فَالْيَوْمَ﴾ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ مَن الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ أَيْ فِي مُقَابَلَةِ مَا ضَحِكَ بِهِمْ أُولَئِكَ ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ﴾ أَيْ إِلَى الله عزَّ وجلَّ، يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾؟ أَيْ هَلْ جُوزِيَ الْكُفَّارُ عَلَى مَا كَانُوا يُقَابِلُونَ به المؤمنين، من الاستهزاء والسخرية أَمْ لَا، يَعْنِي قَدْ جُوزُوا أَوْفَرَ الْجَزَاءِ وأتمه وأكمله.
617
- ٨٤ - سورة الانشقاق.
618

[مقدمة]

روى البخاري، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: "صلَّيتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ فَسَجَدَ، فقلت له، فقال: سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ" (أخرجه البخاري ومسلم والنسائي).
618
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
618
Icon