ﰡ
" الم " حروف التهجي هذه التي في أوائل السور اختلف الناس في المراد بها اختلافاً كثيراً ولم يقم دليل على تعيين شيء مما ذكروه والذي اختاره هو ما ذهب إليه الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين قالوا: هي سر الله في القرآن وهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه نؤمن بها ونمرها كما جاءت وإلى هذا ذهب الوزير الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الظاهري رحمه الله تعالى قال: هذه الحروف التي في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وسائر كلامه تعالى محكم " انتهى ". وهذه الحروف أوردت مفردة من غير عامل ولا عطف فاقتضت أن تكون مسكنة كأسماء الأعداد إذا أوردت من غير عامل ولا عطف فلا محل لها من الاعراب وقال الكوفيون: ألم ونظائرها آية في خلاف لهم في بعضها. وقال البصريون وغيرهم: ليس شيء من ذلك آية ولم ينضبط لي ما سمى العادون في القرآن آية ولا عرفت مقدار ما لحظوا في ذلك ووقف أبو جعفر على كل حرف من حروف التهجي وقفه وقفة وأظهر النون من طسَم، ويَس، وعَسق ونَ الا من طس تلك فلم يظهر ذلك." ذلك " اسم إشارة واللام مشعرة ببعد المشار إليه والكاف للخطاب وإذا كان على موضوعه من البعد فأقوال كثيرة مضطربة: الأولى: أن تكون إشارة لما نزل بمكة من القرآن أو البعد بالنسبة إلى الغاية التي هي بين المنزل، والمنزل إليه. وسمعت شيخنا الأستاذ أبا جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يقول ذلك إشارة إلى الصراط المستقيم كأنهم لما سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب وبهذا الذي ذكره الأستاذ يتبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره لا إلى شيء لم يجر له ذكر وقد ركبوا وجوهاً من الإِعراب في قوله." ذلك الكتاب لا ريب فيه " والذي اختاره أن يكون ذلك الكتاب جملة مستقلة لأنه متى أمكن حمل الكلام على الاستقلال دون إضمار ولا افتقار كان أولى." ولا ريب " جملة مستأنفة لا موضع لها من الاعراب أو في موضع نصب أي مبرّأ من الريب وقرىء لا ريب بالرفع وسياق الكلام يدل على أن المراد نفي كل ريب في هذه القراءة والفتح نص في العموم والذي نختاره أن الخبر محذوف للعلم به إذ لغة تميم إذا علم لا يلفظ به ولغة الحجاز كثرة حذفه إذ ذاك ولا ريب يدل على نفي الماهية أي ليس مما يحله الريب ولا يدل على نفي الارتياب لأنه قد وقع ارتياب من ناس ضلال، وعلى هذا لا يحتاج إلى حمله على نفي التعليق والمظنة كما حمله الزمخشري ولا يزد علينا وإن كنتم في ريب لاختلاف الحال والمحل فالحال في كنتم المخاطبون والريب هو المحل والحال هنا الريب منفياً والمحل الكتاب فلا تعارض بين كونهم في ريب من القرآن وكون الريب منفياً عن القرآن واختيار الزمخشري أن فيه خبر ولذلك بني عليه سؤالاً وهو ان قال هلا قدم الظرف على الريب كما قدم على الغول في قوله:﴿ لاَ فِيهَا غَوْلٌ ﴾[الصافات: ٤٧]، وأجاب بأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد وهو أن كتاباً غيره فيه الريب، كما قصد في قوله: لا فيها غول، تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل: ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة. وقد انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر ولا نعلم أحداً يفرق بين ليس في الدار رجل، وليس رجل في الدار. والأولى جعل كل جملة مستقلة من قوله: ذلك الكتاب لا ريب وفيه هدى. ولم يحتج إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق بعض، فالأولى أخبرت أن المشار إليه هذا الكتاب الكامل. كما تقول: زيد الرجل، أي الكامل في الأوصاف. والثانية نفت أن يكون فيه شيء من الريب. والثالثة أخبرت أن فيه الهدى للمتقين. والمجاز في فيه " هدى " أي استمرار هدى لأن المتقين مهتدون، والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه أن يتعاطى ما توعد عليه بعقوبة من فعل أو ترك وعلى ما اخترناه من الاعراب تكون الجملة. الأولى: كاملة الأجزاء حقيقة، والثانية: فيها مجاز الحذف إذا اخترنا أن خبر لا محذوف، والثالثة: فيها تنزيل المعاني منزلة الأجسام إذ جعل الكتاب ظرفاً والهدي مظروفاً وأتى بلفظة في التي للوعاء فهو مشتمل على الهدى كاشتمال البيت على زيد في قولك زيد في البيت. و " الإِيمان " التصديق وأصله من الأمان أو الأمان أو الأمن، ومعناها: الطمأنينة. والهمزة فيه للصيرورة وضمَّن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء أو باللام. و " الغيب " مصدر غاب يغيب إذا توارى. والأجود أن يكون أطلق على الغائب لا أنه فعيل من غاب فخفف كلين والباء متعلقة بيؤمنون. والصلاة وزنها فعلة، وألفه منقلبة من واو وهي مشتقة من الصلا وهو عرق متصل بالظهر أو من صلى بمعنى دعا. و " الرزق " العطاء. وبفتح الراء المصدر. و " الانفاق " الانفاد وللمتقين في موضع الصفة فلا يتعلق بهدي.
و " الذين " يجوز في إعرابه الأوجه الثلاثة لأنه صفة مدح والغيب المؤمن به هو ما غاب عن المؤمن مما كلف الإِيمان به وتضمن الاعتقاد القلبي والفعل البدني وإخراج المال وهذه الثلاثة عمد الاسلام وإفعال المتقي ومن للتبعيض والأولى حمل الانفاق على الزكاة لكثرة ورودها مقترنة مع الصلاة في القرآن والسنة، وأضاف الرزق إليه لا إلى كسب العبد ليعلم أن الذي ينفقه العبد هو بعض مما رزقه الله تعالى وجعلت صلاة الذين افعالا مضارعة لا صلات لأل لأن المضارع على ما ذكر البيانيون مشعر بالتجدد والحدوث والتجدد في صفة المتقين أمدح. وال قالوا تدل على الثبوت وكان هذا الموصول بصلاته شرح للمتقين فدل المتقين على الثبوت والمضارعات على الحدوث فتعددت وأخرت الصلة الثالثة لأجل الفواصل وحذف العائد على ما وتقديره رزقنا همو، وترتيب هذه الصلات من باب ترتيب الأهم فالأهم والألزم فالألزم فالايمان لازم للمكلف دائماً والصلاة في كثيرٍ من الأوقات والنفقة في بعض الأوقات. و " الانزال " الإِيصال والإِبلاغ ولا يشترط أن يكون من علو. وقرىء بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك مبنيين للفاعل وهو التفات إذ هو خروج من ضمير متكلم في رزقناهم إلى ضمير غائب وقرىء بما أنزل إليك ووجهه أنه سكن لام أنزل ونقل إليها حركة همزة إليك بعد حذفها ثم أدغم والذين معطوف على الذين ويظهر أنه تفسير للإِيمان بالغيب وهو أن يؤمن بما أنزل إلى الرسول وبما أنزل إلى الرسل قبله. و " بالآخرة " هي صفة غالبة وهي في الأصل تأنيث آخر وحملها على الدار الآخرة أولى من حملها على النشاة الآخرة، والمضي في وما أنزل من قبلك متحقق وفي بما أنزل إليك لأن أكثره كان نزل بمكة والمدينة فقام الأكثر مقام الجمع أو غلب الموجود لأن الإِيمان بالمتقدم الماضي يقتضي الايمان بالمتأخر، والإِيقان: التحقق للشيء لسكونه ووضوحه، يقن الماء: سكن وظهر ما تحته، ولم تعد بآء الجر في ما الثانية ليدل على أنه إيمان واحد إذ أعادته تشعر بأنهما إيمانان وأكد أمر الآخرة بتعلق الإِيقان الذي هو أجلى وآكد مراتب العلم والتصديق وإن كان لا تفاوت في الحقيقة بينهما رفعا لمجاز إطلاق العلم على الظن فذكر أن الإِيمان والعلم بالآخرة لا يكون إلا إيقاناً، وغاير بين الإِيمان بالمنزل والإِيمان بالآخرة لا يكون إلا إيقاناً، وغاير بين الإِيمان بالمنزل والإِيمان بالآخرة في اللفظ لزوال كلفة التكرار وكان الإِيقان هو الذي اختص بالآخرة لكثرة غرائب متعلقاتها ولكون المنزل مشاهداً أو كالمشاهد والآخرة غيب صرف فناسب الإِيقان: قالوا: والإِيقان هو العلم الحادث سواء كان ضرورياً أم استدلالياً فلذلك لا يوصف به الباري سبحانه وتعالى وقدم المجرور اعتنآء به وإبراز هذه الجملة اسمية وإن كانت معطوفة على فعلية آكد في الاخبار عن هؤلاء بالإِيقان والتصدير بالمبتدأ يشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه كما أن التصدير بالفعل مشعر بالاهتمام بالمحكوم به ولم يذكرهم في: ومما رزقناهم، لأن الوصف بالإِيقان أعلى من الوصف بالانفاق ولكونه يكون فيه قلق لفظي." أولئك " اسم إشارة للجمع مطلقاً وهو للرتبة الوسطى وهو مبتدأ خبره الذي بعده، وهي جملة استئنافية ولا تختار ما أجتازه الزمخشري من كون هذه الجملة في موضع خبر عن الذين يؤمنون وإعراب الذين مبتدأ والذهاب بالذين مذهب الاستئناف لأن تعلقه واتصاله بما قبله في غاية الوضوح. على هدى إلا أنه لما وصف المتقين بصفات مدح فصلت جهات التقوى أشار إليهم بأن من حاز هذه الأوصاف الشريفة هو على هدى جعل رسوخهم في الهداية كأنهم استعلوه، ووصف الهدى بأنه من ربهم تعظيم للهدى الذي هم عليه، ومن: لابتداء الغاية أو للتبعيض، أي من هدى ربهم. وذكر الرب هنا في غاية المناسبة. والفلاح: الفوز والظفر بإدراك البغية والبقاء. وقرىء من ربهم بضم الهاء كان ضمير جمع لمذكر أو مؤنث ولا يراعي سبق كسر أو ياء وهذان خبران مختلفان لذلك كرر أولئك ليقع كل منهما في جملة مستقلة أخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة وهم فصل أو بدل أو مبتدأ.
والكفر: الستر. وسواء: اسم بمعنى استواء مصدر إستوى وقد يوصف به بمعنى مستو. و " الانذار ": الاعلام مع التخويف. والهمزة في أأنذرتهم للتسوية." والختم " الوسم بطابع أو غيره." والقلب " اللحمة الصنوبريّة سميت بالمصدر." السمع " مصدر سمع. وكني به عن الأذن." البصر " العين." والغشاوة " الغطاء. و " العذاب " أصله الاستمرار في الألم ولما ذكر أوصاف المتقين المؤدية بهم إلى الفوز ذكر أوصاف الكافرين المؤدية بهم إلى العذاب وافتتح قصتهم بحرف التأكيد ليدل على استئناف الكلام فيهم والظاهر أن الذين كفروا للجنس ملحوظاً فيه قيد وهو أن يقضي عليه بالكفر والموافاة عليه ويحتمل أن يكون لمعيّنين ممن وافى على الكفر كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما. وسواء وما تعلق به جملة اعتراض فلا موضع لها من الاعراب. وسواء مبتدأ والجملة الداخلة عليها الهمزة خبر عن سواء وجوزوا العكس. ولا يؤمنون خبران وجملة الاعتراض لتأكيد مضمون جملة ان وخبرها، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن استوى إنذاره وعدم إنذاره أو يكون خبر ان سواء والجملة التي فيها الهمزة في موضع الفاعل عند من يجيز أن تكون الجملة فاعلة. أو سواء مبتدأ وما بعده خبره أو العكس. ولا يؤمنون خبر بعد خبر أو على إضمار مبتدأ تقديره هم لا يؤمنون، أولاً موضع لها من الاعراب فتكون تفسيرية لأن عدم الإِيمان استواء الانذار وعدمه. وقرىء أأنذرتهم بتحقيق الهمزتين وهي لغة تميم، وبتسهيل الثانية وهي لغة الحجاز، وبإدخال ألف بينهما حققت الثانية أو سهلت، وبإِبدال الثانية ألفاً وقد أنكره الزمخشري وزعم أنه لحن، وقرىء بحذف الهمزة الأولى وبحذفها ونقل حركتها إلى الميم الساكنة قبلها، ومفعول أأنذرتهم الثاني محذوف تقديره العذاب على كفرهم والظاهر أن لا يؤمنون. وختم خبر لادعاء. والختم على القلب كني به عن كونه لا يقبل شيئاً من الحق استعار المحسوس للمعقول. أو مثل القلب بالدعاء الذي ختم عليه صوتاً لما فيه ومنعاً لغيره من الدخول إليه. وقيل: الختم حقيقة وهو انضمام القلب وانكماشه. وإسناد الختم إلى الله حقيقة لا مجاز كما تأوله الزمخشري. وعلى سمعهم معطوف على قلوبهم لا انه مشارك السمع للأبصار في الغشاوة وان جوزوه وأفرد السمع لكونه لمح فيه الأصل وهو المصدر، أو للإِستغناء بالمفرد عن الجمع لدلالة ما قبله وما بعده عليه، أو على حذف مضاف أي وعلى حواس سمعهم. وقرى: وعلى أسماعهم، والمشهور في قراءة غشاوة - بكسر الغين ورفع التاء - فتضمن الكلام إسنادين فعلية وإسمية ليدلا على التجدد والثبوت وقدمت الفعلية لأن ذلك قد فرغ منه ووقع وقدم خبر الاسمية ليطابق الفعلية في تقديم المحكوم به على المحكوم عليه. وقرىء غشاوة - بالنصب - أي وجعل. وقرىء غشاوة - بضم الغين ورفع التاء وبفتحها والنصب وسكون الشين -. وعشوة وعشية وعشاوة - بالعين المهملة - من العشا وهو شبه العمى في العين. وتقديم القلوب من باب التقديم بالشرف وهو أحد التقديمات الست ولما ذكر تعالى حال هؤلاء الكفار في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة من العذاب ولما كان أعد لهم ذلك صيروا كان العذاب ملك لهم لازم. و " العظيم " أصله للجثة.
و " الناس " اسم جمع لبني آدم. وقالوا: ناس من الجن. وهو مجاز وأصله عند سيبويه والفراء أناس حذفت همزته فوزنه عال. وعند الكسائي نوس من ناس تحرك. وعند غيرهما نَسَيْ من النسيان قلب، ويدل عليه قولهم في تصغير إنسان أنيسان. ومن هنا موصولة وجوزوا أن تكون موصوفة وهي مبتدأ والخبر في الجار والمجرور قبلها ولا بد من قيد في الناس وإلا كان أخباراً لا تستقل به فائدة. فالتقدير ومن الناس السابق ذكرهم الذين اندرجوا في قولهم: إن الذين كفروا فليس هؤلاء إلا بعضاً من أولئك شاركوهم في جميع ما أخبر به عن أولئك وزادوا أنهم ادعوا الإِيمان واكذبهم الله تعالى وليسوا غير مختوم على قلوبهم كما زعم الزمخشري. وجعل من موصولة أكثر في لسان العرب من كونها موصوفة ويدل على أنها موصولة انها نزلت في ناس بأعيانهم معروفين. بما صدر منهم من أقوالهم وأفعالهم كعبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه ومن وافقه من غير أصحابه ممن أظهر الاسلام مقالا وأبطن الكفر اعتقاداً واقتصروا على قولهم.﴿ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾ منهم أن يعترفوا بالايمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه وايهاما انهم من طائفة المؤمنين وحمل في قوله يقول على لفظ من وفى.﴿ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾ على المعنى. وقول ابن عطية: إنه لا يجوز أن يرجع من لفظ الجمع إلى لفظ الواحد مخالفة لقول النحويين من أنه يجوز أن يبدأ بالحمل على المعنى ثم على اللفظ وإن كان الحمل أولاً على اللفظ ثم على المعنى أولى. وقد ثبت ما أنكره في كتاب الله تعالى وفي لسان العرب وبمؤمنين في موضع نصب. وأكثر لغة الحجاز جر الخبر بالباء وعليه أكثر ما جاء في القرآن. وزيدت الباء في الخبر للتأكيد ولأجل التوكيد بولغ في نفي إيمانهم بأن جاءت الجملة إسمية، وسلط النفي على اسم الفاعل الذي ليس مقيداً بزمان ليشمل جميع الأزمان ولم يجيىء التركيب مبنياً على قولهم فيكون وما آمنوا. والخداع، قيل: إظهار غير ما في النفس. وقرىء: يخدعون الله مضارع خدع. وجاز في يخادعون أن يكون مستأنفاً، كان قائلاً يقول: لم يتظاهرون بالإِيمان وليسو بمؤمنين؟ فقيل: يخادعون. قيل: وأن يكون بدلاً من يقول أو حالاً من ضمير، يقول ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في بمؤمنين، والعامل فيها اسم الفاعل كما ذهب إليه أبو البقاء وهذا إعراب خطأ وذلك ان ما دخلت على الجملة فنفت نسبة الإِيمان إليهم، فإِذا قيدت تلك النسبة بحال تسلط النفي على تلك الحال وهو القيد فنفته. ولذلك طريقان في لسان العرب أحدهما، وهو الأكثر: أن ينتفي ذلك القيد فقط، ويكون إذ ذاك قد ثبت العامل في ذلك القيد. فإذا قلت: ما زيد أقبل ضاحكاً فمفهومه نفي الضحك. ويكون قد أقبل غير ضاحك وليس معنى الآية على هذا إذ لا ينفى عنهم الخداع فقط فيثبت لهم الإِيمان بغير خداع بل المعنى نفي الإِيمان عنهم مطلقاً والطريق الثاني وهو الأقل هو أن ينتفي القيد وينتفي العامل فيه، فكأنه قال في المثال السابق: لم يقبل زيد ولم يضحك، أي لم يكن منه إقبال ولا ضحك. وليس معنى الآية على هذا إذ ليس المراد نفي الإِيمان عنهم ونفي الخداع والعجب من أبي البقاء كيف تنبّه لشيء من هذا فمنع أن يكون يخادعون في موضع الصفة فقال ولا يجوز أن يكون في موضع جر على الصفة لمؤمنين لأن ذلك يوجب نفي خداعهم والمعنى على إثبات الخداع إنتهى كلامه فأجاز ذلك في الحال ولم يجز ذلك في الصفة وهما سواء، ولا فرق بين الحال والصفة في ذلك بل كل منهما قد يتسلط النفي عليه ومخادعة المنافقين الله هو من حيث الصورة لا من حيث المعنى من حيث تظاهروا بالإِيمان وأبطنوا الكفر ومن حيث عدم عرفانهم بالله ولِصفاته أو يكون ذلك على حذف مضاف أي يخادعون رسول الله وليس اسم الجلالة مقحماً كما ذهب إليه الزمخشري وذكر مثلاً نازعناه في الاستدلال بها ومخادعتهم المؤمنين كونهم امتثلوا إجراء أحكام المسلمين عليهم مع مخالفتهم لهم في الإِعتقاد. وقرىء: وما يخادعون مضارع خدع بفتح الياء وضمها مبني للمفعول. ويخدعون بفتح الخاء وتشديد الدال المكسورة من خدع مشدداً وبفتح الياء والخاء وكسر الدال مشددة ويخادعون بكسر الدال وفتحها مبنياً للمفعول فمن بناه للمفعول نصب." أنفسهم " تمييزاً على مذهب الكوفيين في غبن زيد رأيه، واما على التشبيه بالمفعول به، واما على إسقاط حرف الجر أي في أنفسهم، ويختدعون مضارع اختدع بمعنى خدع كاقتدر وقدر والمعنى ان وبال ذلك ليس راجعاً للمخدوع بل للخادع فكأنه ما كاد إلا نفسه بإِيرادها موارد الهلكة وهو لا يشعر بذلك جهلاً بقبيح أفعاله." وما يشعرون " معطوف على يخادعون الله، أي وما يشعرون إطلاع الله نبيّه على خداعهم، أو وما يشعرون إيقاع أنفسهم في الشقاء بكفرهم ونفاقهم. أو جملة حالية، أي وما يخادعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك إذ لو شعروا بذلك ما خادعوا الله والمؤمنين وجاء يخادعون بصيغة المضارع اشعاراً بالديمومة إذ هو في معرض الذم.
قرىء مرض بسكون الراء وهي لغة كالحلب والحلب وكينونة المرض في قلوبهم مجاز عن ما حل فيها من الشك والحسد والغل. وقيل: حقيقة وهو الفساد والظلمة التي حدثت فيها بظهور الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته.﴿ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً ﴾.
هذا خبر وإسناد الزيادة إلى الله تعالى حقيقة. وقيل: دعاء حقيقة بوقوع زيادة المرض وقيل مجاز فلا تقصد به الإِجابة لكون المدعو به واقعاً بل المراد به السب واللعن والتنقص نحو: قاتلهم الله. ومرض نكرة تعم على طريق البدل وتعداد المحال يدل على تعداد الحال فاكتفى بالمفرد عن الجمع. و " فزادهم ": أي قلوبهم أو ذواتهم، لأن مرض القلب مرض لسائر الجسد اليم اما للمبالغة ووصف العذاب به مجاز وهو من مجاز التركيب أو معناه مؤلم جآء فعيل من أفعل وهو من مجاز الأفراد وجمع وصف العذاب بالعظم والألم للمنافقين إذ هم أشد عذاباً من غيرهم من الكفار وما في بما كانوا مصدرية. وقال أبو البقاء: الا ظهر أن تكون موصولة. وقرىء: يكذبون مخففاً ومشدداً مضارع كذب وكذب." وإذا قيل ": لغة أهل الحجاز إخلاص الكسر في نحو قيل: وبيع والاشمام لغة كثير من قيس وبني أسد وعقيل وقرىء بهما. والفساد التغير عن حالة الاعتدال والصلاح نقيضه وهذه الجملة الشرطية هي من باب عطف الجمل استئنافاً ينعى عليهم قبائح أفعالهم وأقوالهم. قيل: وتحتمل أن تكون معطوفة على يقول صلة من فلا موضع لها من الإِعراب وهي جزء كلام لأنها من تمام الصلة (وأجاز الزمخشري وأبو البقاء) أن تكون معطوفة على يكذبون فلها موضع من الإِعراب وهو النصب ويكون جزأً من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم وهذا الاعراب خطأ على جعل ما في بما موصولة وقراءة التشديد لغة وجملة الشرط من ضمير يعود على ما والجملة بعد إذ هذه في موضع خفض على مذهب الجمهور والعامل في إذا الجواب، والذي نختاره انها لا موضع لها من الإِعراب والفعل الذي يلي إذاً هو العامل فيها كسائر حروف الشرط وحذف فاعل القول للعلم به إذ هو الله تعالى ويظهر أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو الجملة من قوله: لا تفسدوا في الأرض ولا يجوز ذلك عند جمهور البصريين ويجوز عند الكوفيين فتخريجه على مذهب جمهور البصريين أن يكون في قيل مضمر، أي وإذا قيل هو أي قول سديد فأضمر هذا القول الموصوف وجاءت الجملة بعده مفسرة فلا موضع لها من الإِعراب وزعم الزمخشري أن الجملة هي المفعول الذي لم يسم فاعله وجعله من باب الاسناد اللفظي ونظره بقوله: الّف حرف من ثلاثة أحرف، وإذا أمكن أن يكون إسناداً معنوياً لم يعدل إلى الاسناد اللفظي." ولا تفسدوا " نهي عن إيقاع الفساد بأي طريق كان من كفر أو غيره من جهات الفساد وهو من باب النهي عن المسبب، والمراد النهي عن السبب فمتعلق النهي حقيقة هو إيطان الكفر وممالاة الكفار وإفشاء سر المؤمنين وذلك هو المفضي إلى الهيج للفتن المؤدية الى الإِفساد وذكر محل الإِفساد وهي الأرض التي نشأتم فيها وانتفعتم بها أحياءً وأمواتاً فما كان محل إصلاحكم لا يناسب أن يجعل محل إفساد ومعمول جواب الشرط أبرزوه جملة إسمية ليدل على ثبوت الوصف لهم وأكدوها بانما دلالة على قوة اتصافهم بقوة الاصلاح كل ذلك بهت وكذب على عاداتهم في الكذب فأكذبهم الله فقال؛﴿ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ ﴾ فأتى بألا الدالة على التنبيه على كذبهم وبأن المقتضية التأكيد في قولهم: وبهم وبال واستفتحت بألا لتكون الاسماع مصغية لما جاء في حقهم وهم تأكيد للضمير أو فصل أو مبتدأ وتختار في ألا التي للتنبيه انها حرف بسيط، وزعموا انها مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية للدلالة على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقاً كقوله:﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ ﴾[القيامة: ٤٠] ولكونها من المنصب في هذا ألا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرية بنحو ما يتلقى به القسم، وقاله الزمخشري. ودعوى التركيب على خلاف الأصل ولأن ما زعموا خطأ لأن مواقع ألا تدل على أن لا ليست للنفي فيتم ما ادعوه ألا ترى انك تقول إلا أن زيداً منطلق ليس أصله لا أن زيداً منطلق إذ ليس من تراكيب العرب بخلاف ما نظر به من قوله تعالى:﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ ﴾[القيامة: ٤٠]، لصحة تركيب ليس زيد بقادر ولوجودها قبل رب وليت وحرف النداء وغيرها مما لا يتعقل فيه أنّ لا نافية فتكون الهمزة للاستفهام دخلت على لا النافية فأفادت التحقيق. وقوله: لا تكاد تقع إلى آخره غير صحيح ألا ترى أن الجملة بعدها تستفتح برب وبليت وبفعل الأمر وبالنداء وبحبّذا ولا يتلقى بشيء من هذا القسم وعلامة الا هذه التي هي حرف تنبيه واستفتاح صحة الكلام دونها، وكون انما مركبة من ما النافية دخل عليها أنّ التي للإِثبات فأفادت الحصر قول ركيك فاسد صادر عن غير عارف بالنحو، والذي نذهب إليه انها لا تدل على الحصر بالوضع، كما أن الحصر لا يفهم من اخواتها التي كفت بما، فلا فرق بين: لعل زيداً قائم، ولعلما زيد قائم. فكذلك: ان زيداً قائم، وإنما زيد قائم. وإذا فهم الحصر فإنما يفهم من سياق الكلام لا ان إنما دلت عليه وبهذا الذي قررناه يزول الاشكال الذي أوردوه في نحو قوله تعالى:﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ ﴾[الرعد: ٧]﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ ﴾[الكهف: ١١٠]﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ ﴾[يس: ١١]﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَٰهَا ﴾[النازعات: ٤٥].
انتهى." ولكن لا يشعرون " لكن تقع بين متنافيين وظهوره ذلك هنا أنه تعالى أخبر أنهم هم المفسدون وقد علم ذلك منهم ولكن هم لا يعملون ذلك فاستدرك هذا المعنى الذي فاتهم من عدم الشعور بأنهم هم المفسدون ومفعول يشعرون محذوف تقديره ولكن لا يشعرون بإِفسادهم.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ ﴾ هذه الجملة الكلام عليها أهي معطوفة على صلة من أو على يكذبون أو مستأنفة وما العامل في إذا وما المقام مقام الفاعل كالجملة الشرطية السابقة، ولما نهوا عن الافساد أمروا بالإِيمان وبحصوله يزول إفسادهم وبدأ بالمنهي عنه لأنه الأهم وهو ترك والترك أسهل من امتثال المأمور فكان في ذلك تدريج لهم وأكثر المعربين يجعل الكاف في " كما آمن " ونظيره نعتاً لمصدر محذوف أي إيماناً مثل إيمان النّاس. ومذهب سيبويه: إن الكاف في موضع الحال وذو الحال ضمير مصدر محذوف دل عليه الفعل، وما مصدرية ينسبك منها ومن صلتها مصدر هو في موضع جر بالكاف. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء، أن تكون ما كافة للكاف عن العمل كهي في: ربما قام زيد، والظاهر أن أل في الناس للعهد وهم المؤمنون الذين سبقوا بالإِيمان فأحيلوا عليهم. والسفه: خفة الحلم والجهل، ويقال سفه - بكسر الفاء وضمها - وهو القياس لمجيىء سفيه وجمعه على فعلى قياس مطرد في فعيل الصحيح الوصف لمذكر عاقل." أتؤمن " استفهام انكار واستهزاء، ولما كان المأمور به مشبهاً أتوا بإِنكارهم مشبهاً وأل في السفهاء للعهد ويعنون بهم المؤمنين الخلّص في الإِيمان اعتقدوا أنهم سفهاء.﴿ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ ﴾ وهذا كما رد عليهم في قوله﴿ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ ﴾[البقرة: ١٢] إن الله تعالى هو العالم بأنهم السفهاء.﴿ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ إنهم سفهاء لغباوتهم وجاء هناك لا يشعرون لأن الافساد يدرك بأدنى تأمل لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كثير، فنفي عنهم ما يدرك بالمشاعر وهي مبالغة في تجهيلهم إذ الشعور الثابت للبهائم منفي عنهم والأمر بالإِيمان يحتاج إلى إمعان كر واستدلال ونظر قام يفضي إلى الإِيمان والتصديق، ولم يقع منهم المأمور فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه هو خفة العقل والجهل بالأمور والعلم نقيض الجهل فقابله بقوله: لا يعلمون، ويجوز في نحو السفهاء إلا تحقيق الثانية مع تحقيق الأولى وجعلها بين الهمزة والواو وأبوابها واواً مع تحقيق الأولى أو جعلها بين الهمزة والواو وأجاز بعضهم جعل كل منهما بين الهمزة والواو.﴿ وَإِذَا لَقُواْ ﴾ قرىء لاقوا وهي فاعل بمعنى الفعل المجرد وآمنا فعل مطلق غير مؤكد بشيء تورية منهم وإيهاماً سموا النطق باللسان إيماناً وقلوبهم معرضة. وخلا يتعدى بالباء وبالى والى على معناها من انتهاء الغاية وليست هنا بمعنى مع خلافاً للنضر بن شميل. و ﴿ شَيَاطِينِهِمْ ﴾ اليهود ورؤساءهم. وشيطان عند البصريين فيعال من شطن وقالوا: في معناه شاطن، وفي التصغير مشيطن. وعند الكوفيين فعلان من نشاط ويشهد لهم قولهم شيطان مسمى به ممنوع من الصرف. وقرىء " معكم " بسكون العين وهي لغة ربيعة وغنم وانظر الفرق بين قولهم للمؤمنين آمنا وبين قولهم لشياطينهم. هناك اكتفوا بالمطلق وهنا أكدوا المعية والموافقة بقولهم. انا ثم لم يكتفوا حتى ذكروا سبب قولهم آمنا وهو الاستخفاف بالمؤمنين وأبرزوا ذلك في جملة مؤكدة بانما وبنحن ومستهزؤون باسم الفاعل وكأنهم لما قالوا أنا معكم أنكر عليهم الاقتصار على هذا وانكم كيف تكونون معنا وأنتم مسالمون أولئك بإِظهار تصديقكم وتكثيركم سوادهم والتزام أحكامهم من الصلاة وأكل ذبائحهم فأجابوا بذلك وإنما نستخف بهم في ذلك القول لصون دمائنا وأموالنا وذريتنا. وقرىء " مستهزئون " بهمزة وبإِبدالها ياء وبحذفها وضم ما قبلها وقلبها ياء هو قول الأخفش، وأما سيبويه فيخففها بجعلها بين بين، والاستهزاء: هو الاستخفاف واللهو واللعب، والله سبحانه منزه عن ذلك. فجاء قوله:﴿ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ﴾ على سبيل المقابلة والمعنى أنه يجازيهم على استهزائهم وفي افتتاح الجملة باسم الله التفخيم والتعظيم والاخبار عنه بالمضارع وهو يدل على التجدد. ولم يذكروا هم متعلق الاستهزاء لتحرجهم من إبلاغ المؤمنين فينقمون ذلك عليهم فابقوا اللفظ محتملاً وليذبوا عن أنفسهم لو حوققوا وان كانوا عنوا المؤمنين وقال: ﴿ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ﴾ فذكر متعلق الاستهزاء فهو أبلغ من قولهم.﴿ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ﴾ فذكر متعلق الاستهزاء فهو أبلغ من قولهم. وقرىء " ويمدهم " من مدّ ومن أمدّ وإسناد المد أو الامداد لله تعالى حقيقة إذ هو المنفرد بإِيجاد ذلك وهو الممكن من المعاصي والزيادة منهما. وقرىء طغيانهم - بكسر الطاء وضمها - وأضيف الطغيان إليهم لأنهم فاعلوه كسبا وان كان الله تعالى هو مخترعه. والعمه التحير عن الرشد وركوب الرأس عن اتباع الحق. " وفي طغيانهم " متعلق بيمدهم وقيل بيعمهون. و " يعمهون " حال من مفعول يمدهم أو من ضمير طغيانهم. ومنع أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين. قال: لأن العامل لا يعمل في حالين وهذا فيه خلاف وتفصيل.
" أولئك " إشارة إلى الذين تقدم ذكرهم الجامعين للأوصاف الذميمة كما تقدم في المتقين حيث ذكرت أوصافهم أشير إليهم بأولئك. وقرىء اشتروا بضم الواو وكسرها وفتحها والاشتراء هنا مجاز كني به عن الاختيار لأن المشتري للشيء مختار له مؤثر. و " الضلالة " الكفر والهدى الإِيمان جعل تمكنهم من اتباع الهدى كالثمن المبذول في المشتري." فما ربحت " عطف بالفاء الدالة على تعقب نفي الربح وبنفس ما وقع الاشتراء تحقق عدم الربح. وإسناد الربح إلى التجارة مجاز لأن الرابح هو التاجر ولما صور الضلالة والهدى مشترى وثمناً وكان ذلك مجازاً رشحه ببعض أوصاف الحقيقة بقوله:﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ ﴾ فانضاف مجاز إلى مجاز وقرىء تجاراتهم على الجمع والافراد. ونفي الربح لا يدل على إنتقاص رأس المال لكن عبر بنفيه عن ذهاب المال لما في الكلام من الدلالة على ذلك لأن الضلالة والهدى نقيضان فاستبدالهم الضلالة دل على ذهاب الهدى بالكلية ويتخرج عندي على أن يكون من باب. على لا حب لا يهتدي بمنارة. لما ذكر اشتراء شيء بشيء توهم أن ذلك تجارة فنفي الربح والمقصود نفي التجارة أي لا تجارة فلا ربح نحو لا منار فلا هداية.﴿ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ تتميم للمعنى المقصود بهذه الجملة ويقال: لهذا في علم البيان التتميم ويقول هذه الجملة إخبار بأن هؤلاء ما سبقت لهم هداية بالفعل لئلا يتوهم من قوله: بالهدى، انهم كانوا على هدى فيما مضى فبين وما كانوا مهتدين مجاز قوله بالهدى ودلّ على أن الذين اعتاضوا الضلالة به إنما هو التمكن من إدراك الهدى فالمثبت في الاعتياض غير المنفي أخيراً لأن ذلك بالقوة وهذا بالفعل المثل والمثل كالشبه والشبه وأصله الوصف، والمثل القول السائر الذي فيه غرابة وضرب المثل يؤثر في القلب ما لا يؤثر وصف الشيء نفسه إذ فيه تشبيه الخفي بالجليّ والغائب بالشاهد ولما ذكر تعالى أوصافاً لهم سابقة ضرب المثل زيادة في كشف أحوالهم فقال:﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾ أي قصتهم ووصفهم مثل وصف الذي استوقد أي الجمع الذي استوقد. ويدل على ذلك قوله: ذهب الله بنورهم. فالذي وصف لمفرد في معنى الجمع وليس الذي مثل من لفظ ومعنى. كما نقل عن أبي علي والأخفش وقرىء الذين جمعاً وتخريجه اما على انها كمن على ما قالاه واما أنه أفرد على ما توهم أنه نطق بمن، واستوقد بمعنى أوقد حكاه أبو زيد. وقيل: هي للطلب ونكر نارا لأن مقابلها من وصف المنافق نزر يسير من اليقين بالاسلام وجوانحه منطوية على الكفر والنفاق فاكتفى بالمطلق. ويقال: ضاء المكان وأضاء النور ويستعمل أضاء أيضاً لازماً وإلا ظهر أن ما مفعول أي أضاءت النار المكان الذي حوله وجوزوا أن تكون ما نكرة موصوفة وأن تكون ما هي الفاعلة وأضاء لازم أي الجهة التي حوله أنت الفعل على معنى ما وجواب لما هو.﴿ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ وأجاز الزمخشري أن يكون جواب لما محذوفاً تقديره حمدت قال: وهو أولى وذهب الله بنورهم. قال الزمخشري: الضمير في بنورهم عائد على المنافقين والجملة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد فقيل ذهب الله بنورهم أو هي بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان، ولم يكتف الزمخشري بأن جوّز حذف هذا الجواب حتى ادعى أن الحذف أولى، قال: وكان الحذف أولى من الاثبات لما فيه من الوجازة مع الاعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من اللفظ في أداء المعنى. كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام متحيرين متحسرين على فوات الضوء خائبين بعد الكدح في أحياء النار " انتهى ". وهذا الذي ذكره نوع من الخطابة لا طائل تحتها لأنه كان يمكن له ذلك لو لم يكن تلى قوله:﴿ فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾.
وأما باقي كلامه بعد تقدير خمدت إلى آخره فهو مما يحمل اللفظ ما لا يحتمله ويقدر تقادير وجملاً محذوفة لم يدل عليها الكلام وذلك عادته في غير ما كلام في معظم تفسيره ولا ينبغي أن يفسر كلام الله بغير ما يحتمله ولا أن يزاد فيه بل يكون الشرح طبق المشروح من غير زيادة عليه ولا نقص منه ولما جوزوا حذف الجواب تكلموا في قوله تعالى:﴿ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ فخرجوا ذلك على وجهين، أحدهما: أن يكون مستأنفا جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما بالهم قد اشبهت حالهم حال هذا المستوقد فقيل: ذهب الله بنورهم. والثاني: أن يكون بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان قالهما الزمخشري. وكلا الوجهين مبنيان على أن جواب لما محذوف وقد اخترنا غيره، وأنه قوله تعالى:﴿ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ بدلاً من جملة. والوجه الثاني من التخريجين اللذين تقدم ذكرهما وهو أن يكون قوله:﴿ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان ولا يظهر لي صحته لأن جملة التمثيل هي قوله.﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾، فجعله ذهب الله بنورهم، بدلاً من هذه الجملة على سبيل البيان لا يصح لأن البدل لا يكون في الجمل إلا إذا كانت الجملة فعلية تبدل من جملة فعلية فقد ذكروا جواز ذلك وأما ان تبدل جملة فعلية من جملة اسمية فلا أعلم أحداً أجاز ذلك والبدل على نية تكرار العامل. والجملة الأولى لا موضع لها من الإِعراب لأنها لم تقع موقع المفرد فلا يمكن أن تكون الثانية على نية تكرار العامل، إذ لا عامل في الأولى فيتكرر في الثانية فبطلت جهة البدل فيها " انتهى ". والظاهر أن ناراً حقيقة في النار التي استوقدت وإذهاب الله نورهم بأمر سماوي والباء في بنورهم للتعدية مرادفة للهمزة والله تعالى لا يوصف بالذهاب.﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ في ظلمات متعلق بتركهم ولا يبصرون في موضع الحال أو في ظلمات في موضع الحال فيتعلق بمحذوف ولا يبصرون حال أيضاً أما من الضمير في تركهم، واما من الضمير المستكن في المجرور قبله فإن كان ترك يتعدى إلى اثنين كان في ظلمات الثاني ولا يبصرون حال ولا يجوز العكس لأن الخبر لا يكون مؤكداً. وقرىء ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ بالرفع أي هم وهي إخبار متباينة الوضع لكنها في معنى خبر واحد وهو عدم قبولهم الحق وقرىء بنصب الثلاثة وجوّزوجوها أحسنها النصب على الذم والظاهر أن هذا كله من أوصاف من شبه وصف المنافقين وبوصفهم بالغ في ذلك.﴿ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ أي جواباً لأن من اشتدت عليه تلك المشاعر لا يمكن أن يرجع جواباً لمن يخاطبه وجهة المماثلة بين المنافقين والمستوقد ان قلنا أنه من تمثيل المفردات أن استيقاد النار مقابل بما أظهروا في الاسلام إذ حقنوا به دمآءهم وعصموا به ذرياتهم وأموالهم وإضآءة النار كونهم جرت عليهم أحكام الإِسلام وذهاب النور مقابل بما فضحهم الله به أنهم ليسوا بمؤمنين وتركهم في ظلمات مقابل لتماديهم على كفرهم ونفاقهم. وصم وما بعده مقابل لكونهم لا يقبلون الحق والإِيمان أبداً فهم لا يرجعون مقابل لكونهم لا كلمة لهم ولا مراعاة فهم كمن حرم مراجعة من يقهره.
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ ﴾ معطوف على كمثل وأوهنا للتفصيل وكان من نظر في حالهم منهم من شبهه بحال المستوقد ومنهم من شبهه بحال ذي صيب فهو على حذف مضاف يدل عليه الضمير في يجعلون. والصيّب: المطر النازل والسحاب أيضاً، ووزنه عند البصريين فيعل بكسر العين، وعند البغداديين بفتحها، وعند القراء فعيل فقلب." والسماء " المظلة والسماء ما علاك من سقف ونحوه، وجمعت على سماوات واسمية وسماء وهي جموع لا تنقاس وقرىء أو كصايب اسم فاعل من صاب يصوب وصيب أبلغ." والرعد " الصوت المزعج المسموع من جهة السماء." والبرق " الجرم النوراني الذي يشاهد ولا يثبت وجعل الصيب مقراً لهذه الأشياء على سبيل المجاز مجاز المصاحبة.﴿ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم ﴾ إن كان بمعنى يلقون تعدى إلى واحد وفي آذانهم متعلق يجعلون وإن كان بمعنى يصيرون كان في آذانهم في موضع المفعول الثاني." والصاعقة " الوقعة الشديدة من صوت الرعد معها قطعة من نار تسقط مع صوت الرعد لا تمر بشيء إلا أتت عليه وهي سريعة الخمود والصاعقة لغة تميم والتصريف جاء على التركيبين فلا تكون صاقعة مقلوباً من صاعقة خلافاً لمن ذهب إلى ذلك. وقال ابن عرفة: والصاعقة أيضاً العذاب ومن في من السماء متعلق بصيب أو في موضع الصفة أي كائن من أمطار السماء وظلمات الصيب بتكاثفه وانتساجه وتتابع قطره وظلمة ظلال غمامه وظلمة الليل وأفرد ورعد وبرق وإن كانوا قد قالوا رعود وبروق أما لأنهم أرادوا المصدر فكأنه إرعاد وإبراق وإما أن أريد بهما المعنيان فلان كلا منهما يسمى بالمصدر فروعي حكم أصلهما وإن كان المعنى على الجمع ونكرت الثلاثة لأنه ليس المقصود العموم، والظاهر أن يجعلون جواب سؤال مقدر، أي فكيف حالهم لا في موضع جر صفة لذوي المحذوفة، ولا في موضع حال من الضمير في فيه والعائد محذوف ثابت عنه أل في الصواعق أي من صواعقة ومن سببية متعلقة بيجعلون. وقرىء ﴿ من الصواقع وحذر الموت ﴾ أعربوه مفعولاً من أجله ولا يكون للفعل إلا مفعول له واحد إلا بالعطف فقد يتعدد أو بالبدل وقيل: حذر مصدر، أي يحذرون حذر الموت. وقرىء: حذار مصدر حاذر، وإحاطته تعالى بهم كناية عن كونه لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به وإحاطته بالعلم والقدرة على إهلاكهم.﴿ يَكَادُ ﴾ مضارع كاد وفيها لغتان فعل وفعل ولذلك تقول كدت وكدت وهي من أفعال المقاربة.﴿ يَخْطَفُ ﴾ و " الخطف " أخذ الشيء بسرعة وجوزوا في يكاد أن يكون جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل: كيف حالهم في ذلك البرق. وأن يكون في موضع جر صفة لذوي المقدر حذفه في صيب وأل في البرق نائب مناب الضمير وهي للعهد إذ قد تقدم ذكره. وقرىء يخطب - بكسر الطاء - مضارع خطف - بفتحها وكسرها - في الماضي لغة قريش ويتخطّف ويخطّف ويخطّف ويخطف، وما مصدرية ظرفية وانتصاب كل على الظرف سرت إليه الظرفية من إضافته لما المصدرية الظرفية وما مثل هذه يراد به العموم. تقول: أصحبك ما ذر شارق يريد العموم فكل في مثل هذا أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية ولا يراد مطلق الفعل والتقدير كل وقت اضاءة واضاءان كان متعدياً فالمفعول محذوف أي أضاء لهم الطريق وعاد الضمير في فيه على الطريق أو يكون التقدير.﴿ مَّشَوْاْ ﴾ في نوره فيعود على البرق وإن كان لازماً أي كل ما لمع البرق مشوا في نوره وهذه الجملة استئناف كأنه قيل: فما حالهم في حالتي وميض البرق وخفائه قيل كذا. وقرىء ﴿ أَظْلَمَ ﴾ مبنياً للمفعول وتخريجه على أن التقدير وإذا أظلم الليل بنفسه وقال: قد جاء في شعر حبيب متعدياً " قال ": هما أظلما جائي ثمت أجليا ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب. " قاموا " ثبتوا لا يبرحون لشدة الظلمة. وفاعل أظلم ضمير يعود على الليل المفهوم من سياق الكلام وصدرت الجملة بكلما والثانية بإِذا. قال الزمخشري: لأنهم حراص على وجود ما هممهم به معقودة من إمكان المشي وثابتة فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها وليس كذلك التوقف والتجسد " انتهى ". ولا فرق هنا بين كلما وإذا لأنه متى فهم التكرار من كلما لزم منه التكرار في إذا لأن الأمر دائر بين إضاءة البرق والاظلام فمتى وجد هذا فقد هذا يلزم من تكرار وجود هذا تكرار عدم هذا ومفعول شاء محذوف وكثيراً ما يحذف لدلالة المعنى عليه خصوصاً بعد لو وأدوات الشرط وتقدم ذكر الآذان والأبصار فقال: " لذهب بسمعهم وأبصارهم " وقرىء بأسماعهم وأعقب تعالى ما علقه على المشيئة بالقدرة، لأن بالمشيئة والقدرة تمام الأفعال وكان بصيغة المبالغة إذ لا أحق بها منه ولما بالغ في حال المستوقد وما عرض له بالغ في حال هؤلاء النفر وما عرض لهم من الحيرة والمبالغة في حال المشبّه بهما تقتضي شدة المبالغة في حَال المشبّه ونحن نختار أن هذين التشبيهين هما من التمثيلات المركبة ومن المفسرين من جعل ذلك من قبيل التمثيلات المفردة فقابل شيئاً من أوصاف المشبه به لشيء من أوصاف المشبه وقد تقدم شيء من ذلك في تمثيل المستوقد وأما هنا فقال قابل الله القرآن بالصيب لنزوله من علو وعماهم عن تعقله بالظلمات، والوعيد والزجر بالرعد، والنور والحجج الباهرة بالبرق وتخويفهم بجعل أصابعهم في آذانهم وتكاليف الشرع بالصواعق، ولما ذكر الله تعالى المكلفين من المؤمنين والكفار المختوم عليهم بالموافاة على الكفر والمنافقين وصفاتهم وأحوالهم وما يؤل إليه حال كل منهم وأبرز حال المنافقين في أسوأ صور الأمثال خاطب جميع الناس فقبلا عليهم بالنداء لأن فيه هدى لما يلقيه إليهم من أمر العبادة له. ويا حرف نداء ومع كثرة النداء في القرآن لم يناد إلا بيادون سائر حروف النداء. وأيّ: لها محامل وهي هنا المنادى يوصل بها إلى نداء ما فيه ألْ. وهما: حرف تنبيه لازم لا يجوز حذفه. و ﴿ ٱلنَّاسُ ﴾ صفة لأي واجب رفعهما. ولفظ ﴿ رَبَّكُمُ ﴾ مناسب إذ هو السيد والمصلح ومن كان مالكاً أو مصلحاً أحوال العبد فجدير أن يعبد ولا يشرك به ونبه بوصف الخلق على استحقاقه للعبادة دون غيره أفمن يخلق كمن لا يخلق. والخلق والاختراع والإِيجاد على تقدير وترتيب.﴿ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ قدم خلف المخاطبين وإن كان من قبلهم تقدم زمان خلقهم لأن علم الانسان بحال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة فتنبيههم أولاً على أحوال أنفسهم أهم وآكد. وبدا أولاً بصفة الخلق إذ كانت العرب مقرة بأن الله خالقها وهم المخاطبون والناس تبع لهم إذ نزل القرآن بلسانهم ودخلت من هنا على الزمان، إذ التقدير من زمن قبل زمان خلقكم وقرىء في بفتح الميم قبل منصوبا. وخرج الزمخشري ذلك على إقحام الموصول الثاني كما أقحم في يا تيم تيم عدي والأحسن في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون على إضمار مبتدأ محذوف تقديره والذين هم من قبلكم وذكر خلق من قبلهم لأنهم أصولهم فخلق أصولهم إنعام على الفروع. ولعل فيها لغات ولم يجيىء في القرآن إلا أفصحها وهي للترجي والاطماع وذلك بالنسبة إلى المخاطبين والمعني إذا عبدتم ربكم رجوتم حصول التقوى وهي التي تحصل بها الوقاية من النار والفوز بالجنة فتعلقت جملة الرجاء باعبدوا. وذكر الزمخشري وابن عطية تعلقها بخلقكم والذي تؤدوا لأجله هو الأمر بالعبادة والموصول وصلته على سبيل المدح الذي تعلقت به العبادة فلم يجيىء الموصول ليحدث عنه بل في ضمن المقصود بالعبادة وأما صلته فلم يجيىء لإِسناد مقصود إنما جيء بها لتتميم ما قبلها فلا يتعلق بها ترج بخلاف اعبدوا فإِنها الجملة المفتتح بها أولاً والمطلوبة من المخاطبين وإذا تعلقت باعبدوا ناسب خطاب لعلكم تتقون.
الذي جعل يجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف ونصبه صفة لما قبله أو على القطع وأجيز رفعه على الابتداء والخبر.﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً ﴾ وهو في نهاية الضعف لمضي الصلة فلا يناسب دخول الفاء في الخبر وللربط بالاسم الظاهر وهو لله فلا تجعلوا له وأجاز مكي رحمه الله أن ينتصب على أعني وليس بالتفسير فيحتاج إلى إضمار أعني وأن ينتصب بتتقون وهو إعراب تنزه القرآن عنه، والأحسن جَعْل جَعَلَ بمعنى صيّر، فينتصب فراشا وبناء على المفعول لا يمعنى خلق فينتصبان على الحال. ومعنى فراشا: تستقرون عليها. والفراش والمهاد والبساط والقرار والوطاء نظائر، والبناء مصدر يراد به المبني فهو تشبيه بما يفهم كقوله:﴿ وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ ﴾[الذاريات: ٤٧] شبهت بالقبة المبنية على الأرض. ومن السماء متعلق بانزل أو في موضع الحال فتتعلق بمحذوف إذ لو تأخر لكان صفة لما فيكون التقدير من مياه السماء ونكر ماء لأن المنزل لم يكن عاماً فتدخل فيه أل.﴿ فَأَخْرَجَ بِهِ ﴾ أي بالماء. والباء للسببية وهذه السببية مجاز، إذ هو تعالى قادر على أن ينشىء الأجناس وقد أنشأها من غير مادة ولا سبب ولكن لما وجد خلقه بعض الأشياء عنه أمر ما أجرى ذلك الأمر مجرى لسبب لا انه سببه حقيقة ومن للتبعبيض وأل في الثمرات لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه ولا حاجة إلى ارتكاب أن الثمرات من باب الجموع التي يتعاور بعضها موضع بعض لاكتفائها في الجمعية نحو: كم تركوا من جنات وثلاثة قروء، فقامت الثمرات مقام الثمر أو الثمار كما ذهب إليه الزمخشري وأبعد من جعل من زائدة وألْ في الثمرات للاستغراق لأن زيادة مِنْ في الواجب وقيل: معرفة انفرد بجوازه الأخفش ولأن من الثمرات ما لا يكون رزقاً لنا فلا يصح الاستغراق واحتمل رزقاً أن يكون كالطحن. فينتصب على الحال. وأن يكون مصدراً فيكون مفعولاً من أجله وقرىء من الثمرة على التوحيد ولكم في موضع الصفة ان كان رزقاً بمعنى المرزوق وفي موضع المفعول إن كان مصدراً وجوز أن يتعلق بأخرج. وقدم خلق الانسان لأنه أقرب إلى معرفته ثم بخلق الآباء ثم بالأرض لأنها أقرب إليه من السماء، وقدم السماء على نزول المطر وخروج الثمرات لأنه كالمتولد بين السماء والأرض؛ والأثر متأخر عن المؤثر. قال أبو عبيدة: النداء الضد وقيل: الكفؤ والمثل. ولما كانوا اتخذوا أندادا جاء النهي عن جعل أنداد لله تعالى على حسب الواقع. وهذه الجملة متعلقة بقوله: اعبدوا، أي فوحدوه وأخلصوا له العبادة لأن أصلها هو التوحيد. وقال الزمخشري: تتعلق بلعل على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فأطلع في قوله﴿ لَّعَـلِّيۤ أَبْلُغُ ٱلأَسْبَابَ أَسْبَابَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ فَأَطَّلِعَ ﴾[غافر: ٣٦-٣٧] في رواية حفص عن عاصم أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه ولا تشبهوه بخلقه " انتهى ". فعلى هذا لا تكون لا ناهية بل نافية. وتجعلوا منصوب على جواب الترجي ولا يجوز على مذهب البصريين وفي كلامه تعليق لعلكم تتقون بخلقكم على ما مر من مذهبه الاعتزالي ويجوز أن يكون متعلقاً بالموصول وصلاته إذا جعلت. الذي خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة على توحيده.﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ جملة حالية فيها هُزء لترك الأنداد أي أنتم من أهل العلم والتمييز بين الحقائق فلا تفعلوا فعل أجهل العلم أو أبعدهم عن الفطنة. وقدروا مفعول تعلمون أنواعاً من التقادير والأولى أن يكون متروكاً إذ المقصود إثبات أنهم من أولي العلم. قال ابن عطية: هذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإِنسان.. إلى آخر كلامه وهذا خطأ في التركيب لأنه لا ينوب أن ومعمولاها مناب مفعولي أعطى بخلاف باب ظن.﴿ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ﴾: " الآية " ليست ان بمعنى إذ ولا كان هنا ماضية المعنى واللفظ ولم تخلصه ان للاستقبال وإن كان الريب وقعوا فيه حقيقة كما زعموا بل أخرج هذا الشرط في صورة المستقبل أي هو مما يعرض وقوعه وإن كان لا يمكن وجوده إذ وضوح انتفاء أن يكونوا في ريب من جهته غير خاف، وفي ريب هو من تنزيل المعاني منزلة الاجرام. ومن: تحتمل ابتداء الغاية والسببية. وما موصولة، أي من الذي نزلنا والعائد محذوف أي نزلناه وأجيز أن تكون نكرة موصوفة ونزلنا تضعيفه مرادف للهمزة التي للنقل. وقرىء: أنزلنا وليس التضعيف هنا دالاً على نزوله منجماً في أوقات مختلفة خلافاً للزمخشري قال: فإن قلت: لم قيل مما نزلنا على لفظ التنزيل دون الانزال؟ قلت: لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم وهو من مجازه لمكان التحدي. " انتهى ". وهذا الذي قاله الزمخشري في تضعيف عين الكلمة هو الذي يعبر عنه بالتكثير أي يفعل ذلك مرة بعد مرة فيدل على هذا المعنى بالتضعيف وذهل الزمخشري عن كون ذلك إنما يكون في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية، نحو: خرجت زيداً وفتحت الباب وقطعت وذبحت. فلا يقال: جلّس زيد ولا قعّد ولا صَوّم. ونزلنا لم يكن متعدياً قبل التضعيف إنما تعدى بالتضعيف أو الهمزة فإِن جاء التكثير في لازم فهو قليل ويبقى على حاله لازماً قالوا مات المال وموت إذا كثر ذلك فيه وأيضاً فالتضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة الفعل إما أن يصير اللازم متعدياً فلا ونزلنا كان قبل التضعيف لازماً تقول نزل القرآن، ويدل على بطلان ما ذهب إليه قوله تعالى:﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾[الفرقان: ٣٢].
ففي قوله تعالى:﴿ نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا ﴾ التفات إذ هو خروج من غائب إلى متكلم ويفيد التفخيم للمنزل والمنزل عليه، وفي إضافة العبد إليه تعالى تنبيه على عظم قدره واختصاصه بخالص العبودية. ولفظ العبد عام وخاص وهذا من الخاص لا تدعني إلا بيا عبدها لأنه أشرف أسمائي. وقرىء على عبادنا. يعني الرسول وأمته. قيل: ويحتمل أن يراد بالعباد النبيون الذين أنزل عليهم الكتب والرسول عليه السلام أول مقصود بذلك. والسورة المنزلة الرفيعة وسميت سورة القرآن بذلك لأنه يشرف بها قارئها. وقيل: قطعة من القرآن من أسأرت من السؤر والهمزة في سؤرة لغة وطلب منهم الإِتيان بمطلق سورة وهي التي أقلها ثلاث آيات وتقدم وإن كنتم في ريب مما نزلنا ولم يكن التركيب في ريب من عبدنا، فناسب أن يكون الضمير في من مثله عائداً على المنزل لا على المنزل عليه. والمطلوب في غير هذا أن يأتوا بسورة مثله وبعشر سور مثله، وقال علي أن يأتوا بمثل هذا القرآن. ومن في موضع الصفة: أي من كلام مثله. وقول من قال: انها لبيان الجنس أو زائدة مرغوب عنه. والمثلية في حسن النظم وبديع الوصف وغرابة الأسلوب والأخبار بالغيب مما كان وما يكون ومما احتوى عليه من الأمر والنهي والوعد والوعيد والقصص والحكم والمواعظ والأمثال والصدق والأمن من التحريف والتبديل. وقيل: الضمير في مثله عائد على المنزل عليه فمن متعلقة بقوله: فاتوا، أي فاتوا من مثل الرسول بسورة. أو في موضع الصفة، أي بسورة كائنة وصادرة من رجل مثله. وفي كلا التقديرين من الابتداء الغاية والمثلية تتجه على كونه على الفطرة الأصلية أميّاً لا يحسن الكتابة ولا دارس العلماء ولا جالس الحكما ولا فارق وطنه الذي نشأ فيه. وإذا كان الضمير في من مثله عائداً على المنزل فذكر المثل على سبيل الفرض. والشهداء جمع شهيد للمبالغة كعليم وعلماء. وكونه جمع شاهد كشاعر وشعراء وليس من باب فاعل. وقال الزمخشري: ولا قصد إلى مثل ونظير هنا ولكنه مثل قوله القبعثري للحجاج. وقال له: لا حملنك على الأدهم مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب. أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقوة وسط اليد، ولم يقصد أحداً يجعله مثلاً الحجاج. " انتهى ". وقد فسر هو المثلية: في كونه بشراً عربياً أميّاً لم يقرأ الكتب. فقوله لا مثل ولا نظير ليس بظاهر لأن المماثل في هذا الشيء الخاص موجود ومن دون الله يحتمل أن يتعلق بشهداءكم أي ادعوا من اتخذتم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم أنكم على الحق أو أعوانكم من دون الله أي من دون أولياء الله ومن تستعينون بهم دون الله أو يتعلق بادعوا أي وادعوا من دون الله أي لا تستشهدوا بالله فتقولوا الله يشهد ان ما ندعيه حق ولم يكتف في تعجيزهم بأن يعارضوه حتى أمرهم أن يدعوا شهداءهم فيستعينون بهم على ذلك وهو أمر تعجيز. والظاهر أنّ ﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ ﴾ في كونكم في ريب من المنزل على عبدنا، وجواب الشرط محذوف أي فأتواه
ولما كان الأمر أمر تهكم وتعجيز أخبر أنهم ليسوا قادرين على المعارضة بقوله: ولن تفعلوا. وجاء بلن وإن كان الغالب أنها تدخل على الممكن تهكماً بهم على أنها ربما تدخل على الممتنع وعبر بالفعل عن الاتيان لأنه ما من شيء من الاحداث إلا يصح أن يعبر عنه بالفعل. وفي كتاب ابن عطية تعليل غريب لعمل لم الجزم. قال: وجزمت لم لأنها أشبهت لا في التبرئة في أنهما ينفيان وكما تحذف لا تنوين الاسم كذلك تحذف لم الحركة ولن تفعلوا إثارة لهممهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وفيه دليل على إثبات النبوة إذ هو إخبار بالغيب ولم يقع من أحد معارضة أصلاً ولن تفعلوا جملة اعتراض لا موضع لها من الإِعراب. وقال الزمخشري: واقتران الفعل بلن في هذه الجملة دون لا وان كانتا أختين في نفس المستقبل، لأن في لن توكيد أو تشديد أتقول لصاحبك لا أقيم غداً. فإِن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً كما تفعل في أنا مقيم واني مقيم. " انتهى ". وهذا مخالف لما حكي عنه أنّ لن تقتضي التأبيد فيما نفي. وقال ابن خطيب: زملكاً لن تنفي ما قرب ولا يمتد النفي فيها وهذا يكاد يكون عكس قول الزمخشري وكون لن تقتضي التأكيد أو التأبيد أو نفي ما قرب أقوال متأخرين والرجوع ذلك لمستقرىء اللسان سيبويه ومن في طبقته قال سيبويه: لن نفي لقول سيفعل، ولا نفي لقول يفعل. " انتهى ". وهو نص على أنهما ينفيان المستقبل.﴿ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ﴾ جواب على الشرط الذي هو فإِن لم تفعلوا وكني به عن ترك العناد لأن من عاند بعد وضوح الحق له استوجب العقاب بالنار واتقاء النار من نتائج ترك العناد. قيل وعرّفت النار ووصفت بالتي وصلت لتقدم ذكرها في سورة التحريم إذ تلك الآية نزلت بمكة وهذه بالمدينة. وقرىء ﴿ وقودها ﴾ على أن يراد به الذي توقد به. ووقودها - بضم الواو - وهو مصدر أي ذووا وقودها أو جعلوا المصدر مبالغة وحكي المصدر بالفتح أيضاً وقرىء وقيدها أي موقودها.﴿ وَٱلْحِجَارَةُ ﴾ يناسب أن تفسر بالأصنام لقوله تعالى:﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾[الأنبياء: ٩٨].
أعدت للكافرين الكثير في لسان العرب ان الاعداد لا يكون إلا للموجود وهو التهيئة والارصاد. قال الشاعر: أعددت للحادثان سابغة وعداء علندا وقد تكون فلما هو في معنى الموجود كقوله تعالى:﴿ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾[الأحزاب: ٣٥].
قال ابن عطية في قوله: أعدت، رد على من قال بأن النار لم تخلق حتى الآن وهذا القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد. " انتهى ". ولفظه للكافرين لا تدل على اختصاصهم بدخول النار وإنما نص تعالى عليهم لانتظام المخاطبين فيهم والجملة استئناف إخبار. وقال أبو البقاء في موضع: الحال من النار والعامل، واتقوا. " انتهى ". وجعلها حالاً لا يظهر إذ يصير المعنى فاتقوا النار في حال إعدادها للكافرين وهي معدة للكافرين اتقى هؤلاء النار أو لم يتقوها فيكون إذ ذاك حالا لازمة. والبشارة أول خبر يرد على الإِنسان وأكثر ما يستعمل في الخير، ولما ذكر الكفار ومآلهم ذكر مقابلهم المؤمنين ومآلهم لتكون الموعظة جامعة بين الوعيد والوعد والمأمور بالتبشير الرسول صلى الله عليه وسلم أو كل من تصح البشارة منه من غير تعيين. قال الزمخشري: وهذا أحسن وأجزل فإِنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة. " انتهى ". والوجه الأول عندي أولى لأن أمره عليه السلام بالبشارة مخصوصاً بها أفخم وأجزل وكأنه ما اتكل على أن يبشر المؤمنين كل سامع بل نص على أعظمهم وأصدقهم ليكون ذلك أوثق عندهم وأقطع في الاخبار بهذه البشارة العظيمة إذ تبشيره تبشير من الله تعالى والجملة من " وبشر " معطوفة على ما قبلها وليس الذي اعتمدت بالعطف عليه هو الأمر حتى يطلب مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإِزهاق، وبشر عمراً بالعفو والاطلاق: قاله الزمخشري وتبعه أبو البقاء. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون قوله: وبشر، معطوفاً على قوله: فاتقوا النار، ليكون عطف أمر على أمر. قال الزمخشري: كما تقول: يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشر يا فلان بني أسد بإِحساني إليهم. " انتهى ". وهذا خطأ لأن قوله: فاتقوا النار، جواب للشروط وموضعه الجزم والمعطوف على الجواب جواب ولا يمكن في قوله: وبشر، أن يكون جواباً لأنه أمر بالبشارة مطلقاً لا على تقدير فإِن لم تفعلوا، بل أمر أن يبشر الذين آمنوا أمراً ليس مترتباً على شيء قبله. وليس قوله: وبشر، على إعرابه مثل ما مثل به من قوله: يا بني تميم إلى آخره. لأن قوله: احذروا لا موضع له من الاعراب، بخلاف قوله: فاتقوا فلذلك أمكن فيما مثل به العطف ولم يمكن في: وبشر. وقرىء: وبشر ماضياً مبنياً للمفعول. قال الزمخشري: عطفاً على أعدت. " انتهى ". وهذا الاعراب لا يتأتى على قول من جعل أعدت جملة في موضع الحال، لأن المعطوف على الحال حال، وبشر لا يكون حالاً وبشر يتعدى إلى مفعول بنفسه وإلى آخر بحرف الجر وهو قوله: إن لهم جنات، وحذف منه الحرف وهو في موضع نصب على مذهب الخليل لا في موضع جر خلافاً لمن قال: مذهب الخليل انه في موضع جر وهو ابن مالك قاله في التسهيل وهو كان قليل الالمام بكتاب سيبويه وجاءت صلة الموصول بالماضي لا باسم فاعل دلالة على أن المستحق للتبشير بفضل الله من وقع فيه الإِيمان وتحقق به وبالعمل الصالح. و ﴿ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ ﴾ صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل فانتصبت على أنها مفعول به مألْ فيها للجنس لا للعموم، والظاهر أن من اقتصر على الإِيمان فقط دون العمل الصالح لا يكون مبشراً بالجنة من هذه الآية. والجنة: البستان الذي سترت أشجاره أرضه والنهر دون البحر وفوق الجدول وفتح الهاء اللغة العالية. وقال الزمخشري: الجنة: اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاق العاملين لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان. " انتهى ". وقوله: على حسب استحقاق العاملين فيه دسيسة الاعتزال. واللام في لهم للاختصاص وتقديم الخبر هنا آكد من تقديم المخبر عنه لقرب عود الضمير على الذين آمنوا فهو أسر للسامع وليست من زائدة. ولا: بمعنى في، فإِن كانت الجنة الأشجار الملتفة ذوات الظل فلا حذف أو الأرض فعلى حذف أي من تحت أشجارها أو غرفها ومنازلها ومن لابتداء الغاية وأحسن أوصاف الجنة جريان الماء الذي هو كالروح لها لذلك لا يكاد يأتي ذكرها إلا مشفوعاً بجري الأنهار. وقال ابن عطية: نسب الجري إلى النهر وإنما يجري الماء وحده توسعاً وتجوز، كما قال:﴿ وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ﴾[يوسف: ٨٢].
وكما قال الشاعر: واستب بعدك يا كليب المجلس ثم ناقض فقال بعد ذلك بنحو من خمسة أسطار: والأنهار المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة. وأل في الأنهار للجنس. وقال الزمخشري: أو يراد أنهارها فعوّض التعريف باللام من تعريف الاضافة. كقوله تعالى:﴿ وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً ﴾[مريم: ٤].
" انتهى ". وهذا شيء قاله الكوفيون ولا تكون أل عند البصريين تنوب مناب الاضافة: قيل: أو تكون أل للعهد الثابت في الذهن من الأربعة المذكورة في سورة القتال. والجملة من قوله: ﴿ كُلَّمَا رُزِقُواْ ﴾ مستأنفة. لما ذكر تبشير المؤمنين بالجنة ووصفت بجري الأنهار تشوقت الجملة النفوس إليها وإلى ذكر حال المؤمنين فيها فبدأ بذكر ملاذها والأهم منها فقيل: كلما. وجعل الجملة صفة للجنان أو في موضع رفع على الابتداء مضمراً هي كلما أوهم كلما مرجوح لافتقارها في هذين الوجهين إلى موصوف أو إلى محذوف واستقلالها إذا كانت استئنافاً. وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من الذين آمنوا أي مرزوقين على الدوام ولا يتم إلا إن كانت حالاً مقدرة لأنهم وقت التبشير لم يكونوا مرزوقين ولا قائلين هذا الذي رزقنا من قبل. والضمير في " منها " عائد على الجنات ومن ثمرة بدل اشتمال أعيد معه الجار. ومن لابتداء الغاية فيهما ويتعلقان برزقوا على جهة البدل. وجاز الزمخشري أن يكون من ثمرة بياناً قال على منهاج قولك: رأيت منك أسد. " انتهى ". وكون من للبيان ليس بمذهب للمحقين وقد تأولوا ما استدل به القائلون بأنّ من تكون للبيان. وعلى تقدير أن تكون من تأتي للبيان لا يتمشى هذا، لأن البيانية ان كان قبلها معرفة قدر مكانها مضمر صدر الموصول يكون كتلك المعرفة وإن كان قبلها نكرة قدر ضمير مكان من، ويكون ما دخلت عليه خبراً لذلك الضمير، وهذان التقديران تفسيراً معنى لا تفسير إعراب ولا يجيئان هذان التقديران هنا. وأما: رأيت منك أسداً، فمن لابتداء الغاية. إذ للغاية ابتداء وانتهاء، نحو: أخذته منك ولا يراد بالواحد الشخص الواحد من التفاح مثلاً، بل المراد والله أعلم: النوع من أنواع الثمار. وقال الزمخشري: وعلى هذا، أي على تقدير أن تكون بياناً يصح أن يراد بثمره النوع من الثمار والجنات الواحدة. " انتهى ". وهذا تقريع على أن من تكون بياناً. ورزقاً أي مرزوقاً وتبعه فيه المصدرية لقوله هذا " واتوا " وهذا الذي مبتدأ وخبر أي مثل الذي وحذف مثل لاستحكام الشبه حتى كان هذه العين تلك. ومن قبل متعلق برزقنا وهو مقطوع عن الإِضافة والتقدير من قبل المرزوق. وهذا (وقال) ابن عطية: هذا إشارة إلى الجنس أي هذا من الجنس الذي رزقناه من قبل. " انتهى ". فيصير التركيب هذا الجنس من هذا الجنس ولعل الناسخ صحف مثل بمن أي هذا الجنس مثل الجنس ومعنى قالوا أي قال بعضهم لبعض، وذلك على سبيل التذكر لنعم الله. وقيل: ذلك على سبيل التعجب يرزقون الثمرة ثم مثلها صورة والطعم مختلف فيتعجبون. " وأتوا " مبنيّ للمفعول والآتي بتلك الخدم والولدان. وقرىء وأتوا مبنياً للفاعل وهو إضمار الآتين دل عليه المعنى ألا ترى إلى قوله:﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ ﴾[الإنسان: ١٩].
الآية. والضمير في " به " عائد على الرزق الذي هو من الثمار كما أن هذا إشارة إليه. وقال الزمخشري: فإِن قلت: إلى (م) يرجع الضمير في قوله: وأتوا به؟ قلت: إلى المرزوق في الدنيا والآخرة لأن قوله: هذا الذي رزقنا من قبل انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين. " انتهى ". وهذا غير ظاهر بل الظاهر أن يعود به على المرزوق في الآخرة لأنه هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل مع أنه إذا فسرت القبلية بما في الجنة تعين عود الضمير إلى المرزوق في الجنة ولا سيما إذا أعربت الجملة من قوله: وأتوا حالاً، أي قالوا كذا وقد أتوا به، أو كانت معطوفة على قالوا: لأن ما في حيز كلما والعامل فيها مستقبل المعنى لأنها لا تخلو من معنى الشرط، أو كانت مستأنفة لأن هذه الجمل إنما جيىء بها محدّثاً عن الجنة وأحوالها وكونه مخبراً عن المرزوق في الدنيا والآخرة انه متشابه ليس من حديث الجنة إلا بتكلف. و ﴿ مُتَشَٰبِهاً ﴾ حال من الضمير في به، أي بالمرزوق في حال تشابهه وأطلق التشابه ولم يقيده وقيده المفسرون بمحتملات. وقال الزمخشري: إن ثمر الجنة متشابه بثمر الدنيا وأطال القول في ذلك والذي يظهر أن المتشابه فيه كونه يشابه بعضه بعضاً في أعلا غاية الجودة ليس فيه تنافر كما في ثمر الدنيا إذ تجد النوع الواحد مختلفاً في الجودة والرداءة اختلافاً كثيراً ويتباين حتى يساوي بعض النوع إضعاف ما يساوي بعضه ولما كانت مجامع اللذة في المسكن البهيّ والمشرب الرويّ والمطعم الشهيّ والمنكح الوضيّ ذكرها تعالى فيما بشر به المؤمنين وبدأ بالمسكن لأن به الاستقرار، ثم بالمشرب والمطعم لأن بهما قوام الجسم، ثم بالأزواج لأن لها تمام اللذة والأنس. فقال: ﴿ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ والأولى أن تكون جملة مستأنفة كما اخترنا في كلما لأن في جعلها استئنافا اعتناء بالجملة إذ سيقت كلاماً تاماً لا يحتاج إلى ارتباط صناعي. وأزواج مبتدأ ورفعه يدل على الاستئناف إذ لم يشرك مع جنات في العامل. والمراد بالأزواج القرناء من النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره. ففي الحديث الصحيح ما يدل على كثرة الأزواج للرجل الواحد. وجاء أزواج جمع قلة لأن استعماله هو الكثير وهو المقيس في فعل المعتل العين وقد جمع زوج على زوجة جمع الكثرة لكن استعماله قليل وليس بالقياس. ومطهرة: صفة للأزواج مبنية على طهرت كالواحدة المؤنثة. وقرىء مطهرات على طهرن وبناؤه للمفعول أفخم إذاً فهم إن لها مطهراً وليس إلا الله تعالى وتطهيرهن من الأوصاف القبيحة في الخلق والخلق: وقرىء مطهرة وأصله متطهرة فادغم ولما ذكر مجامع اللذة أعقب بما يزيل تنغيص العيش بذكر الخلود. وظاهر اللغة ان الخلود هو البقاء الدائم الذي لا ينقطع. قال زهير: فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت ولكن حمد الناس ليس بمخلد. والحياء تغير في الوجه يعتري من خوف لوم أو ذم، وضدّه الوقحة.. قيل لما ضرب تعالى المثل بالعنكبوت والذباب وغيرهما وسبق في هذه السورة ضرب المثل بالمستوقد والصيب أنكر بعض الكفار أن يكون الله تعالى يضرب الأمثال بهذه فنزلت:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً ﴾ واستحيا موافق للمجرد وهي حي بمعنى استحيا واستحا يستحي لغة تميمية واستحيا لغة حجازية. وأكثر نصوص أئمة النحو أن المحذوف في استحا في لغة تميم عين الكلمة فوزنه استغل. ومعنى لا يستحي: لا يترك، لأن الاستحياء محال حقيقة على الله تعالى والترك من ثمرة الحيا لأن من استحيا من شيء تركه وضرب الشيء مثلاً تصييره وقد عد بعض النحاة في باب ظننت ضرب مع المثل وغيره. قال المعنى وضع وبين. و " البعوضة ": حيوان معروف. والمشهور نصب بعوضة وقرىء بالرفع فالنصب على أن يكون صفة لما وصفت باسم الجنس وما بدل من مثلاً ومثلاً مفعول بيضرب أو عطف بيان من مثل أو بدلاً منه أو مفعولاً بيضرب ومثلاً حال من نكرة تقدمت عليها أو مفعولاً ثانياً ليضرب أو أول ليضرب ومثلاً ثانياً أو منصوباً على إسقاط الجار التقدير ما بين بعوضة فما فوقها. والذي نختاره أن مثلاً: مفعول يضرب، وما: صفة لمثلاً زادت النكرة شياعاً وبعوضة بدل واما الرفع أي رفع بعوضة فخبر مبتدأ على أن ما موصولة بمعنى الذي وهو بدل من مثلاً أو على أن يكون ما استفهاماً وبعوضة خبر ما أو خبر هو محذوفة، وما: زائدة أو صفة وهو بعوضة كالتفسير لما انطوى عليه الكلام السابق.﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾ أي في العظم كالذباب والعنكبوت المضروب بهما المثل. وقيل: فما فوقها في الصغر أي يزيد عليها في قلة الحجم ولو أريد هذا المعنى لكان التركيب فما دونها.﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ جاءت الجملة باما لا بقوله: فالذين، لأن ما في حيز اما من الخبر كان واقعاً لا محالة ومفيدة أنه مترتب على ما تضمنته اما من الشرط والضمير في أنه عائد على المصدر المفهوم من يضرب أو على المصدر المفهوم من انتفاء الاستحياء أو على المثل وهو الظاهر. لقوله:﴿ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً ﴾ وأخبر تعالى عن المؤمنين بالعلم وهو الجزم المطابق بدليل، وعن الكافرين بالنطق اللساني، المتضمن لاستغراب الاستهزاء. وماذا اما استفهام كله ركب ذا مع ما فيكون منصوباً بأراد أيْ أيّ شيء أراد الله بهذا أو ما استفهام وهو مبتدأ، وذا موصول بمعنى الذي خبر عن ما والعائد محذوف وجعل ابن عطية هذين القولين مسألة اختلاف بين النحويين وليست كذلك بل كل من شذا شيئاً من علم العربية أجاز هذين الوجهين وعلى تجويزهما المعربون والمفسرون وانتصب مثلاً على التمييز المؤكد قيل أو الحال من اسم الاشارة أي ممثلاً به أو عن الفاعل أي ممثلاً وعن الكوفيين نصبه على القطع.﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ﴾ جملتان مستأنفتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين السابقتين وجعل ذلك صفة لمثلاً بعيد جداً إذ يكون من كلام الكفار وإسناد الإِضلال إلى الله حقيقة. والزمخشري في مثل هذا على مذهب الاعتزال. وتجوز ابن عطية أن يكون يضل به كثيراً من كلام الكفار ويهدي به كثيراً من كلام الله تفكيك للكلام وهو غير ظاهر. وقرىء يضل به كثير ويهدي به كثير وما يضل به إلا الفاسقون مبنياً للمفعول وقرىء مبنياً للفاعل وياء المضارعة مفتوح ورفع الثلاثة وقرىء يضل بضم الياء وما يضل بفتح الياء ورفع الفاسقين. والضمير في به: عائد على المثل أي يضربه والفاسق الخارج عن طاعة الله تعالى.﴿ ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ ﴾ صفة للفاسقين صفة ذم لازمة أو نصب على الذم أو رفع على هم الذين، وإعرابها مبتدأ، والخبر جملة أولئك.﴿ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ ﴾ استئناف لا تعلق له بما قبله والظاهر تعلقه بما قبله. وكل فاسق ناقص لعهد الله قاطع ما أمره بوصله ثم لما وصفه بهذا أخبر بخسرانه. وعهد الله تعالى هو ما ضمنه تعالى في كتبه المنزلة وعلى ألسنة أنبيائه من أمره بطاعته ونهيه عن معصيته وإقراره بالعباد والميثاق وفعال من الوثاقة والأصل في مفعال أن يكون صفة كمعطار أو آلة كمحراث. وظاهر كلام الزمخشري وابن عطية: أنه اسم بمعنى المصدر أو أنه مصدر. قال الزمخشري: بمعنى التوثقة كما أن الميعاد بمعنى الوعد، والميلاد بمعنى الولادة. وقال ابن عطية: اسم في معنى المصدر كما قال: اكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك أي إعطائك ولا نعلم مفعالاً جاء مصدراً ولا عدوه في أبنيته والضمير في ميثاقه عائد على العهد وقيل على الله. وقال أبو البقاء: إن أعدته إلى الله كان المصدر مضافاً إلى الفاعل، وإن كان أعدته إلى العهد كان مضافاً إلى المفعول، وما بمعنى الذي عامة في كل ما أمر الله بوصله. وأمر حذف مفعوله الذي يتعدى إليه بنفسه أي ما أمرهم. وبه: عائد على ما وأن يوصل بدل منه أي بوصله وإعرابه بدلاً من ما أو مفعولاً من أجله تقديره كراهية أن يوصل أو تقديره لئلا يوصل أو خبر مبتدأ تقديره هو أن يوصل أعاريب ضعيفة وإن كانت منسوبة لمشهورين. والفساد في الأرض ناشىء عما تقدم من الأوصاف الذميمة وبدا في ترتيب هذه الصلات. أولاً بنقض العهد وهو أخص، ثم يقطع ما أمر الله بوصله وهو أعم. من نقض العهد ثم بالافساد في الأرض وهو أعم من القطع، وكلها ثمرات الفسق. وجاء بالفسق في صلة أل مشعراً بالثبوت وهذه الصلات بالمضارع مشعرة بالتجدد ثم أشار إلى من جمع هذه الأوصاف وأخبر عنه بالخسران بفوات المثوبة ولزوم العقوبة.
﴿ كَيْفَ ﴾ استفهام عن حال وهو استفهام توبيخ وتعجب وإنكار حال وقع فيها الفعل إنكار للفعل نفسه. تقول: كيف تؤذي زيداً وقد أحسن إليك. فالمعنى على إنكار اذايته في هذه الحال. و ﴿ تَكْفُرُونَ ﴾ التفات إذ هو خطاب بعد غيبة وناسب الانكار لأن الانكار على المخاطب أبلغ من الانكار على الغائب ولعل الانكار لا يصل إليه.﴿ وَكُنْتُمْ ﴾ جملة حالية ومجيىء الماضي حالاً بالواو دون قد في القرآن وكلام العرب كثير. وقال الزمخشري: فإِن قلت: كيف صح أن يكون حالاً وهو ماضٍ ولا يقال جئت وقام القوم ولكن جئت وقد قام القوم إلا أن تضمر قد؟ قلت: لم تدخل الواو على كنتم أمواتاً وحده ولكن على جملة. قوله: كنتم أمواتاً إلى ترجعون، كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنك كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء.﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ بعد هذه الحياة.﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ بعد الموت ثم يحاسبكم. " انتهى ". وهذا الذي قدره حالاً من تصديره بجملة اسمية وإضمار أنكم خبراً لمبتدأ تلك الجملة تركيب غير محتاج إليه فقد ذكرنا وقوع الماضي حالاً بالواو دون قد وأنه كثير وإنما أحوجه إلى تقدير الحال جملة إسمية اعتقادان جميع الجمل مندرجة في الحال ولذلك قال البعض: القصة ماض وبعضها مستقبل والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يكون حالاً حتى يكون فعلاً حاضراً وقت وجود ما هو حال عنه فما الحاضر الذي وقع حالاً. قلت: هو العلم بالقصة كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة وبأولها وآخرها. " انتهى ". ولا يتعين أن تكون جميع الجمل مندرجة في الحال ولا سيما قوله:﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ فإِنهم منكرون. البعث، والحساب وهو عندهم في حيّز المستحيل عقلاً أو عادة والتصريح بذلك موجود عندهم في غير آية من القرآن بل الحال قوله:﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ﴾ ويكون المعنى: كيف تكفرون بالله وقد خلقكم. فعبر عن الخلق بذلك كقوله عليه السلام:" ان تجعل لله نداً وقد خلقك "أي أن من أوجدك بعد العدم الصرف حر أن لا تكفر به ولما كان مركوزاً في الطباع وفي العقول ان لا خالق إلا الله كانت حاله تقتضي أن لا يجامع الكفر فلا يحتاج إلى تكلف ان الحال هو العلم بهذه الجملة وعلى هذا الذي شرحناه يكون قوله تعالى:﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ إلى آخره جملاً أخبر الله تعالى بها مستأنفة لا داخلة تحت الحال ولذلك غاير فيها بحرف العطف وبصيغة الفعل ما قبلها من الحرف والصيغة والتعبير عن العدم الصرف بالموت مجاز وللمفسرين هنا والمنسوبين إلى علم الحقائق أقوال اخترنا منها هذا القول وهو اختيار ابن عطية. واختار الزمخشري أن الموت الأول كونهم نطفاً في أصلاب آبائهم ثم إليه أي إلى جزائه. وقرىء ترجعون مبنياً للفاعل ومبنياً للمفعول لازماً ومتعدياً. ولما ذكر تعالى هذه الأطوار التي جعلها لهم ذكر امتنانه عليهم. فقال: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ﴾ أي لأجلكم.﴿ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ عام فمنه للاعتبار ومنه للإنتفاع الدنيوي. ثم ذكر تعالى عظيم قدرته في العالم العلوي وأنه والعالم السفلي بالنسبة إلى قدرته على السواء وإن علمه محيط بكل شيء. وثم تقتضي التراخي في الزمان ولا زمان ولما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال من جعل الرواسيْ والسَمْكِ وتقدير الأقوات عطف بثم إذ بين خلق الأرض وما فيها وبين الاستواء تراخ وإن لم يقع ذلك في زمان. والاستواء مجاز عن تعلق قدرته بما يفعل بالسماء وضمّن معنى عَمَدَ فلذلك عدي بإِلى والسماء جمع سماوة أو اسم جنس والتسوية جعلهن سواء بالنسبة إلى سطوحها واملاسها. والضمير في " سوّاهن " عائد على السماء وانتصب سبع سموات على الحال أو على البدل من الضمير وقال الزمخشري: والضمير في سوّاهن ضمير مبهم وسبع سموات تفسيره كقولهم ربّه رجلاً. " انتهى ". مفهوم كلامه أن هذا الضمير يعود على ما بعده وهو مفسّر به فهو عائد على غير متقدم الذكر والمواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده ليس هذا منها وكونه يعود على ما بعده يكون الكلام مفلتاً مما قبله ويصير أخباراً بجملتين إحداهما أنه استوى إلى السماء والأخرى سوّى سبع سموات. وتقدم الربط بين الجملتين والظاهر أن الذي استوى إليه هو المسوّى سبع سموات وجعل سوي بمعنى صير فينتصب سبع على أنه مفعول ثان غير معروف في اللغة وإعراب سبع على أنه مفعول سوي والتقدير فسوى منها غير مستقيم لا لفظاً ولا معنى وناسب مقطع هذه " الآية " بالوصف بمبالغة العلم لما تقدم من الأفعال التي فعلها الله تعالى في العالم السفلي والعالم العلوي ثم ذكر تعالى فبدأ عالم الانسان وحاله.﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ ﴾ والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والناصب لإِذ قالوا أتجعل أي وقت قول الله للملائكة:﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا ﴾ كما تقول إذ جئتني أكرمتك أي وقت مجيئك أكرمتك وللمفسرين والمعربين في العامل في إذ ثمانية أقوال تنزه القرآن عنها والملك ميمه أصلية وجمعه على ملائكة أو ملائك شاذ واشتقاقه من الملك وهو القوة وكأنهم توهموا أنه فعّال. وقيل: الميم زائدة من لاك إذا أرسل قالوا ملاك فخفف بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام وقيل من الالوكة وهي الرسالة فاصلة مالك ثم قلب فصار ملاك ثم نقل وحذفت الهمزة فوزنه فعل وقيل من لاك الشيء إدارة في فيه وهو مفعل كمعاد ثم قذفت العين فوزنه مفكْ وهمزها في ملائكة شاذ كهمز مصائب والتاء في الملائكة لتأنيث الجمع وإسناد القول إلى ربك في غاية من المناسبة وفيه خروج من الخطاب العام في قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ إلى الخطاب الخاص في قوله:﴿ رَبُّكَ ﴾ وفي الخطاب هو لاستماع ما يذكر بعده من غريب افتتاح هذا العالم الإِنساني وشيء من أحواله ومآله وإشارة إلى الخطاب الأعظم من الجملة المخبر بها إذ هو عليه السلام أعظم خلفائه والخليفة فعيلة بمعنى الفاعل والهاء للمبالغة وقيل بمعنى المفعول كالنطيحة والهاء للمبالغة واللام في الملائكة للتبليغ. والجعل الظاهر أنه الخلق وقيل التصيير ويقال سفك وسفّك مضعفاً وأسفك ومضارع سفك يسفك ويسفك بكسر الفاء وضمها والسفك الصب. والدماء جمع دم محذوف اللام ووزنه فعيل وقيل فعل وقصره وتضعيفه مسموع. والتقديس التطهير والتسبيح التنزيه والبراءة من السوء. وقرىء خليقة بالقاف والظاهر عموم الملائكة وقيل الذين كانوا يسكنون الأرض وعموم الأرض وقيل أرض مكة وذكروا في قول الله للملائكة ما قال اموراً لا تقطع بصحتها ولله سبحانه وتعالى أن يخاطب من شاء بما شاء وإن خفيت الحكمة. ولما كانت الملائكة لا تعلم الغيب ولا تسبق بالقول لم يكن قولهم أتجعل فيها " الآية " إلا عن نبأ سابق ومقدمة لم تذكر في القرآن فنعّلمها قيل وهو استفهام على معنى التعجب من استخلاف الله من يعصيه وقيل على طريق الاكبار للاستخلاف والعصيان ولما كان قول الملائكة مع عصمتهم ظاهرة الاعتراض تأول العلماء جوابهم على وجوه أحسنها عندي أنهم كانوا حين القول لهم فجملين وإبليس مندرج في جملتهم فورد منهم الجواب مجملاً فلما انفصل إبليس عن جملتهم بآبائه واستكباره انفصل الجواب إلى نوعين فنوع الاعتراض كان عن إبليس وأنواع التقديس والتسبيح كان عن الملائكة فانقسم الجواب إلى قسمين كانقسام الجنس إلى نوعين وناسب كل جواب من ظهر عنه وقرىء ويسفك بضم الياء ويسفك بشد الفاء وقرىء ويسفك بنصب الكاف على جواب الاستفهام. وقال ابن عطية: النصب بواو الصرف. " انتهى ". وليس ذلك من مذاهب البصريين ولما كانت صلة من يفسد وهو مضارع مثبت فلا يدل على التعميم في الفساد نصوا على أعظم الفساد وهو سفك الدماء إذ هو إفساد للهياكل الجسمانية التي خلقها الله وتكرر فيها تنبيهاً على أن ما كان محلاً للعبادة لا يكون محلاً للفساد والباء في ﴿ بِحَمْدِكَ ﴾ للحال أي ملتبسين بحمدك.﴿ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ قيل: أي نطهر أنفسنا لك من الادناس. وقيل: اللام زائدة. وقيل: مقوية للفعل. وأعلم مضارع وما موصولة وكون ما نكرة موصوفة وكون أعلم أفعل التفضيل أي أعلم منكم وما منصوب بفعل محذوف أو اعلم بمعنى عالم وما مجرور بالاضافة أو منصوب باعلم وهو لا يتصرف أقوال لا يناسب أن﴿ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ إبهام تعرض المفسرون لتعيينه بأقوال مضطربة والأحسن أن يفسر بما أخبر به تعالى في قوله تعالى:﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ " الآية ".﴿ وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ﴾ قيل هنا جملة محذوفة يتم بها المعنى ويصحح لعطف وتقديرها فجعل في الأرض خليفة وسماه آدم ولما كان محذوفاً مع الجملة أبرزه في قوله:﴿ وَعَلَّمَ ءَادَمَ ﴾، ونص عليه منوعاً باسمه ومبيّناً من فضله ما لم يكن معلوماً عند الملائكة. وعلم منقول من علم التي تتعدى إلى واحد بالتضعيف فتعدت إلى اثنين والمنقولة بالهمزة من علم التي تتعدى إلى اثنين فتعدت إلى ثلاثة فرقوا بينهما قال الأستاذ أبو علي: وآدم فاعل ان كنا نزن الأعجمية كآزر وعابر منع الصرف للعلمية والعجمة ودعوى الاشتقاق في ألفاظ العجم من ألفاظ العرب غير صواب والظاهر أن الله تعالى علمه لا بواسطة ملك ولا إلهام. وقرىء وعلم مبنياً للمفعول والتأكيد بكلها يدل على العموم في الأسماء ولا يدل على التعليم بجميع اللغات ولا على عرض المسميات عليه وقدروا أسماء المسميات فحذفت المسميات.(قال) الزمخشري: وعوض منه اللام كقوله: واشتعل الرأس شيباً. " انتهى ". وتقدم أن اللام عوض من الاضافة ليس مذهب البصريين وعلى تقدير ذلك لا يصح هنا لأن اللام عند من جعلها عوضاً انما يكون المعوض عنه المضاف إليه ضمير وهنا لم يقدروه إلا إسماً ظاهراً فلا يجوز لا على رأس بصري ولا كوفي وقدروا أيضاً مسميات الأسماء ولا يظهر لقوله تعالى:﴿ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ ﴾.
﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ ﴾ الضمير عائد على غير مصرح بذكره بل دل عليه ما قبله إذ معلوم أن الأسماء لها مسميات ودلت ثم على تراخ بين التعليم والعرض ليتقرر التعليم في قلبه ويتحقق ثم يستخبره عما تحقق، كما قال تعالى:﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴾[القيامة: ١٦].
فقال أنبئوني أعقب العرض بهذا القول للملائكة ولما لم يتقدمهم تعليم لم يخبروا ولما تقدم. لآدم أخبر أظهاراً لعنايته السابقة له منه تعالى وهم في عرضهم تدل على العقلاء أو يكون فيهم غير العقلاء فغلب العقلاء وقرىء فعرضها وفعرضهن والجيد أن يكون ضمير المسميات فتتفق القراءات وظاهر﴿ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ ﴾ العموم وقيل: الملائكة الذين كانوا في الأرض مع إبليس بأسماء هؤلاء يدل على حضور أشخاص حالة العرض على الملائكةو ﴿ أَنْبِئُونِي ﴾ أمر تعجيز لا تكليف وقرىء أنبؤني بضم الباء بلا همز.﴿ إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ ﴾ أَي مصيبين. عبر عن الاصابة بالصدق كما يعبر عن الخطأ بالكذب، ومتعلق الاصابة كونهم قالوا: أتجعل " الآية ". وفيها ظهور شفوق على من جعله خليفة فأراهم مما أودع في خليفته شيئاً لم يودعه فيهم وهو العلم وجواب الشرط محذوف تقديره فأنبؤني دل عليه انبؤني وهذا مذهب جمهور البصريين ووهم المهدوي وتبعه ابن عطية فنسبا إلى المبرد أن جواب الشرط محذوف كما قلنا والنقل المحقق عن المبرد ان جواب الشرط في مثل هذا هو انبؤني السابق. وكذلك وهم ابن عطية وغيره فزعما أن مذهب سيبويه جواز تقديم الجواب على الشرط وان قوله: انبؤني المتقدم هو، الجواب وعن القراء في نحو هؤلاء ان مما التقت فيه الهمزتان مكسورتين تحقيقهما وتليين الأولى وتحقيق الثانية وتحقيق الأولى وإبدال الثانية ياء وإسقاط الأولى وتحقيق الثانية وانتصب.﴿ سُبْحَٰنَكَ ﴾ على معنى المصدر والعامل فيه واجب الحذف وكونه مبنياً ومنادى مضافاً قولان مرغوب عنهما، والكاف في سبحانك مفعول أضيف إليه سبحانك أي تنزيهك وقيل فاعل أي تنزهت، وقدموا بين يدي الجواب تنزيه الله تعالى اعتذاراً وأدباً منهم في الجواب وإشعاراً بأن ما صدر منهم قبل يمحوه هذا التنزيه لله تعالى، ثم أجابوا بنفي العلم بلفظ لا والنكرة التي تستغرق كل فرد فرد من أنواع العلوم ثم استثنوا من ذلك مما علمهم هو تعالى وهذا غاية في ترك الدعوى والاستسلام التام للمعلم الأول الله تعالى وانظر إلى حسن هذا الجواب قدموا بين يديه تنزيه الله سبحانه وتعالى ثم اعترفوا بالجهل ثم نسبوا العلم لله تعالى واردفوا صفة العلم بصفة الحكمة إذ بان لهم وصف الحكمة في قوله:﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ وقدم وصف العلم لأن الذي ظهرت به المزية لآدم هو العلم ولأن الحكمة من آثار العلم.﴿ قَالَ يَآءَادَمُ ﴾ ناداه باسمه العلم وكذا نادى أنبياءه يا نوح يا موسى يا داود ونادى محمداً صلى الله عليه وسلم يا أيها الرسول يا أيها النبي فانظر تفاوت ما بين النداءين، وحين خاطب الملائكة قال: أنبؤني، وقال: يا آدم أنبئهم، فجعل من اعترضوا به معلماً لهم ومنبئهم بما تقاصرت عنه علومهم ليظهر بذلك شفوقه عليهم.﴿ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ﴾ بين هذه الجملة والتي قبلها جملة محذوفة والتقدير فأنباهم وقرىء أنبئهم بالهمزة وضم الهاء وبالهمز وكسر الهاء. وأنبهم بإِسقاط الهمزة. وغيب السماوات والأرض هو ما تقاصرت عنه علوم الخلق والهمزة من " الم " للقرير.﴿ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ﴾ أي من الطاعات. واعلم مضارع، وما: مفعول فالخلاف فيه كالخلاف في واعلم ما لا تعلمون.﴿ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ من شفوفهم على من يجعله خليفة وفي قوله: وما كنتم تكتمون، دلالة على أن الكتم وقع فيما مضى، وليس المعنى كتمه عن الله لأنهم أعرف بالله واعلم، فلا يكتمون الله شيئاً، وإنما المعنى أنهم هجس في أنفسهم شيء كتمه بعضهم عن بعض والابداء والكتم طباق من علم البديع.
﴿ وَإِذْ قُلْنَا ﴾ قيل إذ زائدة أو معطوفة على إذ في وإذ قال وقيل: منصوبة باذكر وقيل بأبي واختار أن العامل محذوف تقديره انقادوا فسجدوا لأن السجود كان ناشئاً عن الانقياد وفي قلنا خروج عن ضمير المتكلم المفرد إلى ضمير الجمع أو المعظم نفسه وناسبت النون الآمر لأنه في غاية التعظيم والتعظيم ادعى لامتثال الأمر من غير بطىء ولا تأوّل ولذلك نظائر. وقلنا يا آدم اسكن وقلنا يا نوح اهبط، قلنا يا نار كوني، وقلنا لبني إسرائيل اسكنوا، وقلنا لهم ادخلوا، والخلاف في الملائكة أهو عام أم الذين في الأرض كهو في وإذ قال ربك للملائكة. وقرىء ﴿ لِلْمَلَٰئِكَة ٱسْجُدُواْ ﴾ بضم التاء وغلطت هذه القراءة وخطئت ونقل انها لغة لا زد شنوءة، وهذا الضم اتباع لضمة جيم اسجدوا، واسجدوا أمر بالسجود أمر تكليف وفهموا منه أنه على الفور وظاهر السجود وضع الجبهة وانه كان " لآدم " تكرمة له وقيل لله تعالى ونصبه قبْله فالمعنى إلى آدم واللام في لآدم للتبيين.﴿ فَسَجَدُواْ ﴾.
أي له.﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ استثناء من واجب فيرجح النصب وهو متصل عند الجمهور وامتنع إبليس من الصرف للعلمية والعجمة ومن جعله مشتقاً. قال: وشبه العجمة لكونه لم يسم به أحد من العرب فصار خاصاً بمن أطلقه الله تعالى عليه وكأنه دخيل في لسانهم وهو علم مرتجل والظاهر أنه مندرج في الملائكة فهو منهم ولذلك ترتب الذم له والطرد. وقيل: هو استثناء منقطع وأنه أبو الجن كما أن آدم أبو البشر.﴿ أَبَىٰ ﴾ امتنع وأنف من السجود.﴿ وَٱسْتَكْبَرَ ﴾ تعاظم في نفسه واحتقر من أُمِر بالسجود له والاستكبار من أفعال القلوب وقدم الآباء عليه وإن كان أول لأن الآباء هو الظاهر وهو ناشىء عن الاستكبار ولما كان الاستناد إلا على أن إبليس ترك السجود ذكر سبب امتناعه من السجود فكأنه قيل: وما له لِمَ لمْ يسجد؟ فقيل: أبى. ومفعوله محذوف أي أبى السجود وأبى فعل واجب. ومعناه النفي، وأبى كذا، أبلغ من لم يفعل كذا، لأن النفي بلم قد يكون لعجز أو غيره وأبى يدل على الامتناع والانفة وإن كان متمكناً من فعل الشيء.﴿ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ ﴾ أي كان في علم الله ممن سيكفر أو وصار من الكافرين ولا تدل صلة أل على أنه سبقه كفار في الأرض. ولما شرف تعالى آدم برتبة العلم وإسجاد الملائكة امتنّ عليه بإِسكان الجنة التي هي دار النعيم وأسكن من السكون.﴿ وَقُلْنَا ﴾ معطوف على وإذ قلنا لا على ما بعد إذ. وفائدة النداء تنبيه المأمور لما يلقى إليه من الأمر واسكن وما بعده مشتمل على إباحة وهو الأمر بالسكنى والاذن في الأكل وتكليف وهو النهي الوارد ويدل وزوجك على وجودها زوجة له. قيل: الأمر بالسكنى واللغة الفصيحة زوج وقالوا: زوجة وزوجك معطوف على الضمير المتصل المستكن في أسكن المؤكد بانت ودعوى أنه من عطف الجمل والتقدير وليسكن زوجك ليست بصحيحة. والجنة: دار الثواب. وقيل: كانت في الأرض.﴿ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً ﴾ أي واسعاً كثيراً لا عناء فيه وتميم تسكن غين رغدا وقرىء به. و ﴿ حَيْثُ ﴾ ظرف مكان أذن لهما في الأكل في أي ناحية منها أرادا. وقول ابن عطية: ان النون حذفت من كلا للأمر لا يجوز إلا على مذهب الكوفيين، إذ يعتقدون أنه مجزوم بلام الأمر إذ أصله عندهم لتأكلا.﴿ وَلاَ تَقْرَبَا ﴾ مبالغة في النهي عن الأكل لأن النهي عن قربان الشيء أكد من النهي عن الشيء وان كان المعنى لا تقربا.﴿ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ ﴾ بالأكل لأن المأذون فيه هو الأكل وقرىء ولا تقربا - بكسر التاء -. وهذه: إشارة للحاضر القريب من المخاطب وقرىء هذه والشجرة نعت أو عطف بيان ويظهر أنها شجرة معينة من الجنس المعلوم وقيل الاشارة إلى جنس من الشجر معلوم ولهم في تعيين أي شجرة هي أقوال: وقرىء الشجرة - بكسر الشين، وبإِبدال الجيم ياءً وكسر الشين - وتصغّر على هذه اللغة شييرة.﴿ فَتَكُونَا ﴾ منصوب على جواب النهي وأجازوا أن يكون مجزوماً عطفاً على المجزوم ولا يدل العطف على السببية بخلاف النصب.﴿ مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ ﴾ لأنفسهما بمخالفة النهي ودل ذلك على أن النهي نهي تحريم.﴿ فَأَزَلَّهُمَا ﴾ أزل من الزلل، وهو عثور القدم. يقال منه: زلت قدمه وأزال من الزوال وهو التنحية. وقرىء فازالهما. و ﴿ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ هنا إبليس بلا خلاف وذكروا في كيفية محادثة إبليس وأين كان منه اضطراباً. وقد قص الله تعالى ذلك مستوفى في سورة الأعراف وغيرها فيعتمد ذلك. والضمير في عنها عائد على الجنة قيل أو الشجرة أي أصدر زلتهما عن الشجرة: وعن: للتسبيب، كقوله:﴿ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ ﴾[التوبة: ١١٤]، والأول أظهر لقراءة فازالهما إذ يبعد فأزالهما عن الشجرة.﴿ مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ من نعيم الجنة إلى شقاء الدنيا - والهبوط الخروج والدخول من الأضداد والمضارع يهبط - بكسر الباء وضمها - وقرىء: اهبطوا - بضم الباء وقيل: قوله:﴿ فَأَزَلَّهُمَا ﴾ جملة محذوفة، أي فأكلا من الشجرة ولما كان الأمر بالهبوط من الجنة فيه إنحطاط المنزلة لم يناده بخلاف ويا آدم اسكن واهبطوا أمر لجماعة آدم وحوّاء. قيل: وإبليس. وقيل: هما والحية أو هما فقط. لأن التثنية جمع في المعنى. ولقوله:﴿ قَالَ ٱهْبِطَا ﴾[طه: ١٢٣].
وقيل: هما وذريتهما، واندرجوا في الخطاب وإن لم يكونوا موجودين تغليباً للموجود والظاهر أنه هبوط واحد إلى الأرض لا هبوط إلى سماء الدنيا ثم هبوط إلى الأرض. وقالوا: هبطت حوّاء بجدة، وآدم عليه السلام بسرنديب بواد يقال له واشم، والحية بسجستان. وهي أكثر بلاد الله حيات. و ﴿ ٱهْبِطُواْ ﴾ أمر تكليف وإزعاج. والعداوة تفسر تفسير الضمير في اهبطوا. والجملة حال أي متعادين وليس خلوها من الواو شاذاً خلافاً للفراء وتبعه الزمخشري وليست حالاً منتقلة بل لازمة إذ لا ينفك وقوع الفعل إلا ملتبساً بها. وقال مكي: جملة مستأنفة إخبار من الله تعالى بأن بعضهم لبعض عدو وتخيل أن الحال بعد الأمر يقتضي أن يكون مأموراً بها ومستقر مكان استقرار أو استقرار وهو من القرار وهو اللبث والاقامة.﴿ وَلَكُمْ ﴾ هو الخبر. و ﴿ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ متعلق بما تعلق به الخبر وتقديمه مسوغ الجوز الابتداء بالنكرة ولا يتعلق لكم بمستقر سواء أكان مكاناً أو مصدراً ولا يجوز أن يكون في الأرض حالاً والعامل فيه العامل في الخبر ولا أن يكون خبراً ولكم حال لامتناع: في الدار قائماً زيد على الصحيح، وامتناع قائماً في الدار زيد بإِجماع. و ﴿ إِلَىٰ حِينٍ ﴾ أي إلى أجل أو إلى قيام الساعة وفيه دليل على عدم البقاء في الأرض ويتعلق بمتاع بمحذوف صفة لمتاع أوله ولمستقر وأفرد عدوّ على لفظ بعض أو لكونه يصلح للجمع.
﴿ فَتَلَقَّىٰ ﴾ تفعّل من اللقاء وافق تفعّل في المعنى المجرد وهو لقي، نحو: تعدّاك الأمر عداك. وقول من قال: أصله تلقن فأبدل من النون ألفاً لا يصح. وقرىء برفع آدم ونصب كلمات وبالعكس والتلقي الوصول ومن يلقاك فقد تلقيته. واختلفوا في تعيين الكلمات وقد أبهمها الله تعالى وقال سبحانه في سورة الأعراف:﴿ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾[الآية: ٢٣].
فلا يبعد أن تكون هذه الكلمات.﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ قبلها جمله محذوفة أي فقالها فتاب عليه أي فتفضل عليه بقبول توبته وأخبر عنه وحده لأنه هو المواجه بالأول والنهي وهي تابعة له أو طوى ذكرها كما طوى ذكرها في قوله وعصى آدم ربه فغوى وطي ذكر النساء في القرآن والسنة كثير. وقرىء أنه بفتح الهمزة على التعليل وفي المكسورة أيضاً ربط معنوي كقوله:﴿ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ ﴾[يوسف: ٥٣].
وبالغ بقوله: هو وبالصفتين اللتين للمبالغة وتأخر الرحيم لأجل الفاصلة.﴿ قُلْنَا ٱهْبِطُواْ ﴾ تأكيد للأوّل أو لاختلاف ما جاء بعدهما فالأوّل معلق بالعداوة، والثاني بآيتان الهدى أو هما هبوطان كما تقدم." وجميعاً " حال. فقال ابن عطية: كأنه قال هبوطاً جميعاً أو هابطين جميعاً جعله نعتاً لمصدر محذوف أو لاسم فاعل محذوف كل منهما يدل عليه الفعل. قال: لأن جميعاً ليس بمصدر ولا اسم فاعل وهذا التقدير مناف للحكم الذي صدره لأنه قال: أوّلاً وجميعاً حال من الضمير في اهبطوا فإِذا كان حالاً على ما قرر أوّلاً فكيف يقدر ثانياً ذلك التقدير.﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم ﴾ كثر مجيىء مثل هذا التركيب في القرآن فاما نذهبن واما ينزغنك. وقال المهدوي وتبعه ابن عطية: امّا هي إنْ التي للشرط زيدت عليها ما للتوكيد في الفعل ولو سقطت يعني ما لم تدخل النون فما تؤكد أوّل الكلام والنون تؤكد آخره. وقال ابن عطية: دخلت ما مؤكدة ليصح دخول النون المشدّدة فهي تشابه لام القسم التي تجيء لمجيء النون. " انتهى ". وكون النون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت أن بما قول للمبرد والزجاج واما سيبويه والفارسي وجماعة فجوّزوا حذف النون في الكلام إذا وصلت ان بما وان كان الحسن إثباتها ولم يخصوا ذلك بضرورة الشعر كما ذهب إليه المبرد والزجاج. و ﴿ مِّنِّي ﴾ متعلق بيأتينكم وانتقل من ضمير المعظم نفسه أو ضمير أكثر من الواحد إلى ضمير المتكلم الخاص به إشعاراً بأن الهدى لا يكون إلا منه تعالى وأن الحيز كله منه ودخلت ان وإن كانت للمحتمل وقوعه وهداه واقع لا محالة لأنه ابهم وقت الاتيان، وهذا الخطاب يدل على اندراج الذرية فيه وإن كانوا وقت خطاب أصلهم غير موجودين والتقسيم إلى متبع الهدى والكافر يدل عليه والهدى هو الكتب الالهية على أيدي الرسل عليهم السلام فمن تبع هداي جعل الهدى بمنزلة الامام المتبع المقتدي به وفي إضافته إليه تعالى من التعظيم ما لا يكون فيه لو أتى معرفاً باللام وإن كان ذلك سبيل ما يكون نكرة ثم يعاد وجواب فاما يأتينكم فمن تبع هداي. وقال السجاوندي: جوابه محذوف تقديره فاتبعوه. " انتهى ". وذهل عن أنه لا يحذف الجواب ألا ويكون فعل الشرط ماضي اللفظ أو منفياً بلم وعن الكسائي جواب الشرطين معا فلا خوف، ونصوص المعربين والمفسرين على أن من في. " فمن تبع " شرطية ويجوز عندي أن تكون موصولة بل يترجح لقوله في قسمه.﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ ﴾ فأتى به موصولاً ودخول الفاء على الجملة الخبرية جائز هنا قرىء هدايْ بسكون الياء وهديّ وهي لغة هذلية. وقرىء فلا خوف بالفتح في جميع القرآن وبالرفع من غير تنوين خوف لكثرة الاستعمال أو على نية ألْ وبالرفع والتنوين عادل بين دخولها على مبتدأ أولاً وآخراً.(وقال) ابن عطية: والرفع على أعمالها أعمال ليس ولا يتعين ما قاله لأن أعمالها ليس قليل جداً وينبغي أن لا ينقاس ولأنه يزول التعادل فلا خوف عليهم نزّل المعنى منزلة الجرم وقدم انتفاء الخوف على انتفاء الحزن لأن انتفاء الخوف فيما هو آت آكد من انتفاء الحزن على ما فات ولذلك أبرزت جملة مصدّرة بالنكرة التي هي أوغل في باب النفي وأبرزت الثانية مصدّرة بالمعرفة. وفي قوله:﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن وإن غيرهم يحزن والظاهر عموم نفي الخوف والحزن عندهم لكن يختص ذلك بما بعد الدنيا لأنه قد يلحق المؤمن الخوف والحزن في الدنيا فلا يمكن الحمل على العموم.﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ ﴾ قسيم لقوله: ﴿ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ﴾، وهو أبلغ من قوله: " ومن لم يتبع هداي "، وإن كان التقسيم اللفظي يقتضيه لأن نفي الشيء يكون بوجوه عدم القابلية بخلقه أو غفلة أو تعمد تركه فأبرز القسم في صورة ثبوتية مزيلة للاحتمال الذي يقتضيه النفي. ﴿ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ ﴾ معين أنه يراد بالكفر هنا الشرك لا كفر النعمة ولا كفر المعصية والتكذيب بالآيات يدل على أنه بالكتب الالهية والاخبار الربانية لأن محل التصديق والتكذيب هو الخبر. ﴿ أُولَـٰئِكَ ﴾ مبتدأ وجوز أن يكون عطف بيان وبدلاً. فيكون ﴿ أَصْحَٰبُ ﴾ خبرا والذين. و ﴿ هُمْ فِيهَا ﴾ خبر ثان لأولئك وتفسير وتبيين أن الصحبة أريد بها الملازمة لا مجرد الاقتران بل الخلود الدائم وحذف من القسيم الأول ذكر كونه في الجنة وعبر بانتفاء الخوف والحزن وحذف من الثاني لحاق الخوف والحزن وعبر بخلوده في النار.
" إسرائيل " اسم أعجمي ممنوع من الصرف وهو مركب، قيل: من اسرا: وهو العبد، وآيل: اسم الله تعالى. وعن من قال باشتقاقه أقوال وفي كيفية النطق به لغات إسرائيل واسراييل واسراءل واسرأل وتقول في جمعه اساريل وحكي اسارل وأسار له وأقبل عليهم بالنداء هزالهم لسماع ما يلقى إليهم وهم اليهود والنصارى وهذا أول افتتاح الكلام معهم. والذكر باللسان وبضم الذال ما كان بالقلب وإضافتهم إلى إسرائيل وهو يعقوب على نبينا وعليه السلام تنبيه لهم على اتباعه في الخير. والنعمة: اسم للشيء المنعم به فالنداء والأمر لبني إسرائيل الذين هم بحضرته عليه السلام بالمدينة وما والاها ويتنزل غيرهم في ذلك منزلتهم والوصف بالتي ﴿ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ مشعر بسبق علمهم، إياها وتعظيم لها إذ اسندها إلى ذاته في قوله: نعمتي وأنعمت ونعمه تعالى عليهم كثيرة وأعظمها الكتاب الالهي من التوراة والانجيل المبشرة بنوبة محمد صلى الله عليه وسلم.﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ ﴾ يقال أوفى ووفّى ووفى والعهد هو ما كانوا يذكرون من إيمانهم بالرسول المبعوث في زمانهم إذ كانوا يستفتحون به كما أخبر تعالى فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.﴿ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ وهو ترتيب إنجاز ما وعدهم على ذلك، الإِيفاء سماه عهداً على سبيل المقابلة أبرزه في صورة المشروط الملتزم به والمصدران مضافان للمفعول. وقرىء أوفّ من وفي مشدّداً وانجزم أوف على جواب الأمر وهل ضمّن الأمر معنى الشرط فانجزم أو نابت عن الشرط إن حذفت جملته قولان. والرهب الخوف وانتصب إياي بفعل محذوف تقديره وإياي ارهبوا وقدره السجاوندي قبله قال وارهبوا إياي وهو وهم منه لانفصال الضمير وناسب النصب لأن قبله أمر ولأنه آكد إذا برز في قالب جملتين. قال الزمخشري: وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد. وتقدم كلامنا معه في دعوى الاختصاص إذا تقدم المعمول على العامل والفاء في فارهبون دخلت في جواب أمر مقدر التقدير تنبّهوا فارهبون. وقرىء فارهبوني بإِثبات الياء وهو الأصل. وآمنوا أمر لبني إسرائيل إذ هم المأمورون قيل ولا يخص كعب بن الأشرف وأصحابه علماء اليهود.﴿ بِمَآ أَنزَلْتُ ﴾ وهو القرآن.﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ ﴾ أي من التوراة واللام في لما مقوية للتعدية ومصدقاً حال مؤكدة وذو الحال الضمير المحذوف العائد وقيل ما.﴿ وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾: لا مفهوم هنا لقوله أوّل فيكون قد أبيح لهم ثانياً وآخراً فمفهوم الصفة غير مراد وإنما ذكرت الأولية لأنها أفحش لما فيها من الابتداء بالكفر ونظيره قول الشاعر: من أناس ليس في أخلاقهم عاجل الفحش ولا سوء جزع فعاجل لا مفهوم له وأضيف أول إلى المفرد وإن كان قبله جمع لأن المفرد إذ كان صفة جاز أن يطابق وأن يفرد وقد جاء ذلك في قوله: وإذ طعموهم فالأم طاعم وإذا هم جاعوا فشر جياع. أفرد في طاعم وطابق في جياع وتأوله النحاة فقدره الفراء الأم من طعم وقدره غيره إلام فريق طاعم وهنا يتقدر على قول الفراء أول من كفر. وعلى قول غيره: أول حزب كافر وبه عائد على المنزل.﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَٰتِي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ الشراء هنا مجاز يراد به الاستبدال ولذلك دخلت الباء على الآيات وإن كان القياس أن تدخل على الثمن والمعنى بتغيير آياتي ووضعكم مكانها غيرها كما قال تعالى:﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ ﴾[البقرة: ٧٩] الآية وآياته ما أنزل الله تعالى من الكتب الإِلهية المحتوية على التكاليف والمعنى. والله أعلم. ولا تستبدلوا بآياتي العظيمة أشياء حقيرة خسيسة ولا مفهوم لقوله قليلاً بل في ذلك التنبيه على خساسة أنفسهم إذ تبدلون الشيء العظيم في تحصيل الشيء الحقير من مطعم أو مشرب أو غير ذلك أو لأن ما حصل عن آيات الله كائناً ما كان هو قليل حقير.﴿ وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ ﴾ الكلام على هذا إعراباً فالكلام على وإياي فارهبون والفرق بين الفاصلتين أن ترك ذكر النعمة والإِيفاء بالعهد ظاهره أنه من المعاصي التي تجوز العقاب إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك وترك الإِيمان بما أنزل الله تعالى والاشتراء بآيات الله الثمن اليسير من المعاصي التي تحتم العقاب وتعيّنه إذ لا يجوز أن يقع العفو عن ذلك فلذلك ختم تلك بالرهبة وهي الخوف وهذه باتخاذ الوقاية من النار.
﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ ﴾ أي لا تخلطوا الصدق بالكذب وكذبهم أنواع قد قص الله تعالى منها. والباء في الباطل للإِلصاق نحو خلطت الماء باللبن نهوا عن ذلك فلا يتميز الحق من الباطل. وأجاز الزمخشري أن تكون الباء للاستعانة كهي في كتبت بالقلم. قال: كأن المعنى ولا تجعلوا الحق ملتبساً بباطلكم. " انتهى " وفيه بعد عن هذا التركيب وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك.﴿ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ ﴾ مجزوم عطفاً على تلبسوا نهى عن كل واحد من الفعلين كما في قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، نهى عن كل منهما وجوزوا فيه أن يكون منصوباً وليس بجيد لأن النهي إذ ذاك يكون منسحباً على الجمع بين الفعلين كما في: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، إذا نصبت وتشرب ويكون بالمفهوم يدل على جواز الالتباس بواحد منهما وذلك منهي عنه، ولذلك رجح الجزم. وقرىء وتكتمون ويخرج على الحال ولا يكون ذلك على إضمار مبتدأ أي وأنتم تكتمون ويكون إذ ذاك حالاً لازمة لأنه لا يقع لبس الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوماً. وقدره الزمخشري كلمتين وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب ويجوز أن تكون جملة خبرية نعى الله تعالى عليهم كتمهم الحق وعطفت على جملة النهي ولم يراع التناسب في عطف الجمل وهو مذهب سيبويه ولوحظ المعنى لأنهم لم ينهوا إلا عن شيء فعلوه فتضمن معنى أنتم تلبسون الحق بالباطل والحق المكتوم هو أمر محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وما جاء به وهو مذكور في كتبهم كانوا يعلمون ذلك ويظهرون خلافه ومعمول. تعلمون الأولى أن يكون حذف اقتصاراً أي وأنتم من ذوي العلم فلا يناسب من كان عالماً أن يكتم الحق ويلبسه بالباطل وقدروا حذفه اختصاراً أي الحق من الباطل. قال الزمخشري: وأنتم تعلمون في حال عملكم أنكم لابسون كاتمون قال وهو أقبح لأن الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه إنتهى. جعل مفعول العلم اللبس والكتم وكأنّ ما قدره على حذف مضاف أي وأنتم تعلمون قبح أو تحريم اللبس والكتم. وقال ابن عطية: حملة في موضوع الحال ولم يشهد تعالى لهم بعلم وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا. " انتهى ". فمفعول تعلمون هو الحق. وقال أيضاً: ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولم يشهد لهم بالعلم على الإطلاق. قال: ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال. " انتهى ". فتكون جملة نبوتية معطوفة على جملة النهي من غير مراعاة مناسبة في عطف الجمل.﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ ﴾ أي التي في الشريعة الاسلامية.﴿ وَٱرْكَعُواْ ﴾ لما كان الخطاب مع بني إسرائيل ولا ركوع في صلاتهم نبّهوا بالأمر به على أنه مطلوب في هذه الشريعة. وفي قوله: ﴿ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ ﴾ دليل على إيقاع ذلك في جماعة افتتح سبحانه وتعالى هذه الآيات بذكر النعم واختتمها بذكر الانقياد للمنعم وما بينهما تكاليف اعتقادية وأفعال بدنية ومالية وهذه الأوامر والنواهي وإن كانت خاصة في الصورة ببني إسرائيل إذ هم المخاطبون بها هي عامة في المعنى والأمر طلب وجود الفعل والنسيان السهو الحادث بعد حصول العلم ويطلق أيضاً على الترك والتلاوة القراءة والعقل والادراك المانع من الخطأ.
﴿ أَتَأْمُرُونَ ﴾ استفهام توبيخ وتقريع والبر فعل الخير من صلة رحم وإحسان وطاعة لله تعالى نعى عليهم أمر ﴿ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ ﴾ الذي في فعله النجاة الأبدية وتركهم فعله حتى صار نسياً منسياً. و ﴿ أَنْفُسَكُمْ ﴾ هي ذواتهم.﴿ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَٰبَ ﴾ وأنتم قارئون وعالمون بما انطوى عليه فكيف امتثلتموه بالنسبة إلى غيركم وخالفتموه أنتم. وفي و ﴿ أَنْتُمْ تَتْلُونَ ﴾ تبكيت عظيم وهي جملة حالية أبلغ من المفرد. و ﴿ ٱلْكِتَٰبَ ﴾ التوراة والإِنجيل وفيهما النهي عن هذا الوصف الذميم.﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ تنبيه على أن ما صدر منهم خارج عن أفعال العقلاء ومركوز في العقل أن الإِنسان إذا لم يحصل مصلحة لنفسه فكيف يحصلها لغيره ولا سيما مصلحة تكون فيها نجاته، والفاء: للعطف كان الأصل تقديمها لكن الهمزة لها صدر الكلام فقدمت على الفاء هذا مذهب سيبويه، وذهب الزمخشري إلى أن الفاء واقعة موقعها ويقدر بين الهمزة والفاء فعلاً محذوفاً يصح العطف بالفاء عليه وحكم الواو وثم حكم الفاء في نحو: أو لم يسيروا أثم إذا ما وقع. وقد رجع الزمخشري في بعض تصانيفه إلى قول الجماعة.﴿ وَٱسْتَعِينُواْ ﴾ اطلبوا المعونة﴿ بِٱلصَّبْرِ ﴾ وهو حبس النفس على ما تكره وقدمت الاستعانة بالصبر لتقدم تكاليف عظيمة يشق التزامها على من لم يألفها. و " ثنى " بـ " الصلاة " اذْ هي عمود الاسلام وبها يتميز المسلم من غيره ويحصل بها الاشتغال عن الدنيا وتطلع بالتلاوة على الوعد والوعيد وناهيك من عبادة يناجي ربه فيها خمس مرات في اليوم والليلة يناجي ربه ويستغفر ذنبه.﴿ وَإِنَّهَا ﴾ أي الصلاة. وقيل: الاستعانة.﴿ لَكَبِيرَةٌ ﴾ شاقة كبر على المشركين ما تدعوهم إليه أي شق.﴿ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ ﴾ استثناء مفرع أي الكبيرة على كل شخص لانطوائها على أوصاف هم يتحلون بها كخشوعهم من القيام لله والركوع والسجود له والرجاء لما عنده إذ مآلهم إلى السعادة فسهل عليهم ما صعب على غيرهم من المنافقين والمرائين.﴿ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم ﴾ يوقنون والظن بمعنى اليقين أو الترجيح مشهور عن العرب. ويتعدى في الدلالتين إلى مفعولين وتسدان مسدهما ولا يحتاج إلى تقدير ثان محذوف كما ذهب إليه الأخفش والمبرد.﴿ مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ ﴾ فاعل بمعنى المجرد ومن حيث الوضع يقتضي المشاركة لأن من لقيك فقد لقيته والمعنى والله أعلم ملاقوا جزاء ربهم. وقيل: كني بالملاقاة عن رؤية الله تعالى. وقيل: عن انقضاء آجالهم من مات فقد لقي. الله عز وجل غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه. وقيل: ملاقوا اثواب ربهم وعقابه. فعلى هذا يكون الظن بمعنى الترجيح.﴿ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ ﴾ أي إلى ربهم. ﴿ رَٰجِعُونَ ﴾ أي إلى أمره.
﴿ يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ نودوا ثانياً على طريق التوكيد لينبّهوا على سماع ما يرد عليهم من شكر النعم. والفضل الزيادة في الخير وعطف الفضل على النعمة من عطف الخاص على العام وهو مما انفردت به الواو ويسمى التجريد كأنه جرّد من الجملة على سبيل التفضيل.﴿ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ ﴾ أي عالم زمانهم أو على كلهم بما أوتوا من الخصائص ككثرة الأنبياء وجعلهم ملوكاً وإيتائهم ما لم يؤت أحداً.﴿ وَٱتَّقُواْ يَوْماً ﴾ أي العذاب يوماً أو جعل اليوم متقي توسعاً أو على حذف مضاف أي عذاب يوم.﴿ لاَّ تَجْزِي ﴾ أي لا تقضي. وقرىء لا تجزي أي لا تغني. وقيل: جزا وأجزأ بمعنى واحد. ولا تجزي جملة صفة فلا بد من تقدير حذف واصلة فيه فهل الحذف بتدريج أو حذف برمته ابتداء قولان. و ﴿ نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ ﴾ نكرتان في سياق النفي فيعمان. و ﴿ شَيْئاً ﴾ في سياقه فيعم وقيل عن نفس كافرة وشيئاً مفعول. وقيل: مصدر أي شيئاً من الجزاء أو الأجزاء، نحو: ضربت شيئاً من الضرب. وقرىء ﴿ وَلاَ تُقْبَلُ ﴾ بالتاء وبالياء مبنياً للمفعول. وتقبل بفتح التاء ونصب شفاعة وهو التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير الخطاب والضمير في.﴿ مِنْهَا ﴾ عائد على النفس المتأخرة لقربها ويجوز على المتقدمة لأنها المحدث عنها وظاهر هذا التركيب أنه قد توجد الشفاعة وينتفي قبولها، ويجوز أن يكون من باب. على لا حب لا يهتدي بمنارة. واجمع أهل السنة على أن شفاعة الأنبياء والصالحين تقبل في العصاة من المؤمنين لثبوت الأحاديث الصحيحة في ذلك وخصوا ما ورد من عدم القبول بالكفار.﴿ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ أي فداء من مال أو جزية.﴿ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ والنصر هو العون وأتى الضمير مجموعاً وان تقدم مفرداً لأنه في سياق النفي فيعم كقوله:﴿ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾[الحاقة: ٤٧].
وحسن ذلك الفاصلة وذكر الضمير لأنه أريد بالنفوس الأشخاص. كقولهم. ثلاثة أنفس. وانسحب حرف النفي على جملة اسمية ليتكرر الضمير فيتأكد نفي النصر بذكر من نفى عنه مرتين وارتفع هم على الابتداء. أو على المفعول الذي لم يسم فاعله وهو أرجح لأن لا من الأدوات المرجحة للحمل على الفعل ولأن ما قبل هذه الحملة جملة فعلية فيحصل التشاكل والضمير في هم عائد على النفس الأولى أو الثانية أو كلتيهما أقوال وكان النفي بلا التي تكون للمستقبل غالباً لاستقبال الأربعة التي دخلت عليها لا، وجاءت الجمل مرتبة في الذكر على حسب الواقع في الدنيا لأن المأخوذ بحق إما أن يؤدي عنه، وإلا شفع فيه وإلا فدى وإلا تعوون على تخليصه. وهنا جاءت الشفاعة مقدمة على الفدية، وفي غير هذا جاءت الفدية مقدمة على الشفاعة لاختلاف الناس، فمن أحب الرياسة قدم الشفاعة على الفدية ومن أحب المال قدم الفدية على الشفاعة. وبدىء هنا بالشفاعة لأنها أليق بعلو النفس وجاء هنا بلفظ القبول وهناك بلفظ إشارة إلى انتفاء أصل الشيء وانتفاء ما ترتب عليه أعطى المتقدم وجوداً تقدمه ذكراً هنا وهنالك أعطى المتأخر وجوداً تأخره ذكراً.
وفي العامل في " وإذ " تقديرات اخترنا أن يكون فعلاً محذوفاً يدل عليه ما قبله أي وأنعمنا عليكم﴿ إِذْ نَجَّيْنَٰكُم ﴾ وجاء بنون العظمة لأن الانجاء من عدوهم من أعظم النعم فناسب الأعظم نسبته للمعظم وقرىء نجيناكم والهمز والتضعيف للتعدية وقرىء نجيتكم فوافق الضمير ضمير نعمتي والمعنى خلصناكم.﴿ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ وهم الذين كانوا يبشارونهم بأمر فرعون وفرعون علم لمن ملك العمالقة وآله أتباعه على دينه وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة واشتقوا منه. قالوا: تفرعن الرجل تجبر وعتا والمشهور في اسمه الوليد بن مصعب وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح، ولا يضاف آل إلا للرئيس الأعظم: قاله الأخفش. ويقال: سامه كلفه العمل الشاق.﴿ يَسُومُونَكُمْ ﴾ حال من آل فرعون أي سائميكم أو استئناف حكاية حال. ويقال: سامه خطة خسف أي كلفه. فيكون ﴿ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ ﴾ منصوباً مفعولاً ثانياً ليسوم وسوء العذاب الأعمال الشاقة من البناء والتخريب ونحت السواري من الجبال ونقل الحجارة وضرب اللبن وطبخ الأجر والنجارة والحدادة وضرب الخراج على ضعفتهم إلى غير ذلك مما يناسب هذه التكاليف وكان قومه جنداً وملوكاً. وقرىء ﴿ يُذَبِّحُونَ ﴾ مشدداً دالاً على التكثير ويذبحون من ذبح اكتفاء بالمطلق والجملة مستأنفة أو حال من ضمير الرفع في يسومونكم أو بدل من يسومونكم أو معطوفة عليه حذف منها حرف العطف لثبوته في سورة إبراهيم.﴿ أَبْنَآءَكُمْ ﴾ أي الأطفال.﴿ وَيَسْتَحْيُونَ ﴾ أي يبقونهن أحياء.﴿ نِسَآءَكُمْ ﴾ سمين بما يؤل إليه أمرهن للخدمة ولمن يفترشهن من أعدائهن. وقدم ذبح الأبناء على استحياء البنات لأنه أصعب وأشق إذ فيه إفساد الصورة بالكلية.﴿ وَفِي ذَٰلِكُمْ ﴾ إشارة إلى السوم والذبح والاستحياء.﴿ بَلاۤءٌ ﴾ شدة ومكروه.﴿ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ دليل على أن الخير والشر من الله تعالى. فرق بين كذا وكذا فصل.﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا ﴾ قرىء مخففاً اكتفاء بالمطلق إذ معلوم التكثير بعدد الاسباط ومشدداً دلالة على التكثير. والباء في " بكم " للسبب أو المصاحبة أي ملتبساً بكم. والمعنى: جعلناه فرقاً بكم وهذا البحر يكون قريباً من مصر من بحارها يقال له اساف ويسمى اليوم بحر القلزم وفرقه قيل: عرضاً من ضفة إلى ضفة، وقيل: طولاً خرجوا إلى برية فلسطين وكان انفراق البحر بعدد الاسباط اثني عشر مسلكاً.﴿ فَأَنجَيْنَٰكُمْ ﴾ أي من الغرق ومن إدراك فرعون لكم وثم محذوف أي وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فأنجيناكم.﴿ وَأَغْرَقْنَا ﴾ الهمزة للتعدية ويعدى أيضاً بالتضعيف.﴿ آلَ فِرْعَوْنَ ﴾ لم يذكر آل فرعون فيمن لا غرق لأن وجوده معهم مستقر ولأنهم هم الذين سبق ذكرهم في السوم والتذبيح والاستحياء. وقد نص تعالى في غير هذا الموضع على فرقه وناسب نجاتهم من فرعون بإِلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين نجاة موسى على نبينا وعليه السلام من الذبح بإِلقائه في البحر وخروجه منه سالماً ولكل أمة نصيب من نبيّها وناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدعى وتغييبه في قعر الماء.﴿ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ الجملة حال والنظر هنا من الأبصار أي وأنتم تبصرون هذه الخوارق من فرق البحر وانجاتكم وإغراق عدوكم.
وقرىء ﴿ وَٰعَدْنَا ﴾ ووعدنا فاحتمل واعد أن يكون بمعنى وعد واحتمل أن يكون من اثنين وعد الله موسى الوحي ووعده موسى المجيء للمقيات." وموسى " هو ابن عمران بن يصهر بن فاهت بن لؤي بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة.﴿ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ ذو الحجة وعشر من المحرم أو ذو القعدة وعشر من ذي الحجة وقرىء أربعين بكسر الباء شذوذاً وانتصب على المفعول به إذ هي الموعودة أو على حذف أي تمام أو انقضاء أربعين ولا يجوز نصبه على الظرف لأنه معدود فيلزم أن يكون وقوع العامل في كل فرد فرد منها وليس كذلك. وفسّر بليلة لأن أول الشهر ليلة الهلال وهذه الموادعة بعد خروجهم من البحر أو بعدد دخولهم مصر بعد هلاك فرعون ونقل أنهم سألوه أن ينزل الله عليهم كتاباً والمعنى فخرج إلى ميقات ربه.﴿ ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ ﴾ إدغام الذال في التاء وإظهارها فصيحان وقرىء بهما. والعجل أل فيه لتعريف الماهية أو للعهد السابق إذ كانوا قد صنعوه ونسب الاتخاذ إلى جميعهم وإن كان بعضهم لم يتخذ لأن القبيلة قد تذم وقد تمدح بما وقع من بعضها واتخذ إن كان بمعنى عمل تعدي إلى واحد وكان بعد ذلك محذوف مقدر أي وعبدتموه الها وإن كان بمعنى ما تعدي الى اثنين كان الثاني محذوفاً لدلالة المعنى أي ثم اتخذتم العجل الها وظاهر العجل انه عجل حقيقة وقيل شكل عجل.﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي من بعد مواعدته أو من بعد ذهابه إلى الطور.﴿ وَأَنْتُمْ ظَٰلِمُونَ ﴾ أي باتخاذكم العجل الها أو أخبار بأن سجيتهم الظلم وعبادتهم العجل تدل على انهم مجسمة أو حلولية.﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم ﴾ أي لم نؤاخذكم باتخاذكم العجل.﴿ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي بالثناء على المنعم المطابق لما يعتقده المنعم عليه من حق المنعم.﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ ﴾ وهو التوراة.﴿ وَٱلْفُرْقَانَ ﴾ أي تفرق بين الحق والباطل.﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ أي باتباع الكتاب المنزل والعمل بما فيه إذ اتباع الكتب الالهية سبب للهداية انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين وآتيناه الإِنجيل فيه هدى ونور.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ﴾ القوم اسم جمع لا واحد له من لفظه ويختص بالرجال. والبارىء الخالق وقيل: المبدع للشيء والخالق المقدر الناقل من حال إلى حال ونداؤه لهم مضافين إليه مشعره بالثخن عليهم وهزلهم لما يلقيه إليهم من أمر التوبة ونبههم على أن عبادة غير الله من الظالم وظلم الانسان نفسه أفحش من ظلم غيرها. والباء سببية في ﴿ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ ﴾ أي وعبادته أو إلهاً. وقرىء بارئكم بكسر الهمزة وباختلاس حركتها وبإِسكانها إجراء للمنفصل مجرى المتصل كابل في إبل ولا التفات لقول المبرد أن التسكين لحن. وقرىء بالياء مكسورة فاما إبدال الهمزة ياء على غير قياس وإما أن يكون من براغير مهموز وحرك الياء، نحو قول الشاعر: ويوماً يوافينا الهوى غير ماضي.﴿ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ﴾ أمر بإِزهاق الروح بالقتل لمن اتخذ العجل ولا يكون إلا بوحي من الله تعالى، والظاهر أنهم أمروا بقتل انفسهم فيباشر الواحد قتل نفسه وإن كانت التوبة هي القتل فيكون فاقتلوا بدلاً من فتوبوا وإن كان القتل من تمام التوبة فالفاء للتعقيب والمعنى فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم.﴿ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ إشارة إلى القتل وجهة الخيرية إنه مفض إلى الخلاص من دخول النار، وخير أحد الخيور أو أفعل التفضيل أي الهلاك العاجل خير من الهلاك الدائم على حد العسل أحلى من الخل. ولكم في موضع الصفة إن كان خيراً من الخيور ومتعلق بخير إن كان أفعل التفضيل وتكرر لفظ.﴿ بَارِئِكُمْ ﴾ لكونه في جملتين.﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ إخبار بالتوبة عليهم وثم محذوف، أي فامتثلتم ذلك فتاب عليكم، وهاتان الجملتان مندرجتان تحت الاضافة إلى الظرف الذي هو إذ في قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ ﴾.
(وأجاز) الزمخشري أن يكون مندرجاً تحت قول موسى على تقدير شرط محذوف كأنه قال: فإِن فعلتم فقد تاب عليكم، فتكون الفاء إذ ذاك رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط المحذوف وما ذهب إليه الزمخشري لا يجوز وذلك لأن الجواب يجوز حذفه كثيراً للدلالة عليه و فعل الشرط وحده دون الأداة فيجوز حذفه إذا كان منفياً بلا في الكلام النصيح، نحو: وان لا يَعْلُ مفرقك الحسام. فإِن كان غير منفي بلا فلا يجوز إلا في ضرورة، وكذلك حذفه وإبقاء إنْ امّا حذفهما معاً وإبقاء الجواب فلا يجوز إذ لم يثبت في كلامهم وجزم الفعل بعد الأمر والنهي ليس من هذا الباب.
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ ﴾ يعدد عليكم ما صدر منهم من سوء الاقتراح وفي ندائهم كليم الله باسمه دليل على سوء أدبهم معه وقد تكرر ذلك منهم في ندائه.﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ﴾ أي لن نصدقك فيما جئت به من التوراة وكانوا مؤمنين به ولذلك قالوا لك:﴿ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً ﴾ أي ينتفي إيمانهم إلى هذه الغاية فإِذا رأوا آمنوا له والرؤية بصرية وأكدت بجهرة مبالغة في الأبصار وانتصب على أنه مصدر نوع من الرؤية قيل: أو على أنه في موضع الحال أي ذو جهرة أو جاهرين بالرؤية وقرىء - بفتح الهاء - مصدراً كالغلبة أو جمع جاهر.﴿ فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ ﴾ أمر حدث عنه الموت.﴿ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ ما حلّ بكم.﴿ ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾ الظاهر أنهم ماتوا أو عبر بالموت عن الغشي وبالبعث عن الافاقة.﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ نعمته ببعثكم بعد الموت.﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ ﴾ أي سترناكم من حر الشمس بالسحاب والغمام، مفعول على إسقاط الباء أي بالغمام، أو مفعول به أي جعلناه عليكم ظلة.﴿ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ ﴾ وهو صمغة حلوة تسقط على الشجر.﴿ وَٱلسَّلْوَىٰ ﴾ وهو طائر وهو السماني قيل أو شبهه.﴿ كُلُواْ ﴾ أمر إباحة، أي وقلنا كلوا.﴿ مِن طَيِّبَاتِ ﴾ أي مستلذات إذ لا أشرف في المأكول من اللحم والحلو.﴿ وَمَا ظَلَمُونَا ﴾ نفي أن يقع منهم ظلم لله تعالى وفيه دليل على أنه ليس من شرط النفي إمكان وقوعه وكانت صدرت منهم قبائح كثيرة. فالمعنى لم يصل إلينا من ذلك ضرر بل وبال ذلك يختص بأنفسهم ولما كان قد وقع منهم ظلم ونفي أن يصل إلى الله تعالى تشوقت النفس إلى ذكر من وقع به الظلم فاستدرك أن ذلك الظلم الحاصل منهم إنما كان واقعاً وباله بهم. و ﴿ يَظْلِمُونَ ﴾ مضارع ماض من حيث المعنى.
﴿ وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ ﴾ هي بيت المقدس ويقال: قرية بكسر القاف لغة يمانية.﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ﴾ إباحة في أي مكان شاؤا وتأخر﴿ رَغَداً ﴾ وإن كان تقدم في قصة آدم لمناسبة الفاصلة بعده في قوله: سجداً، وتقدم هناك إذ لاصق الأكل. وهذا الباب الآن يسمى باب حطة أمروا بالدخول من الباب واضعي جباههم بالأرض.(وقال) الزمخشري: امروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً لله تعالى وتواضعاً. انتهى. ولم يؤمروا بالسجود بل هو قيد في وقوع المأمور به وهو الدخول والأحول نسب تقييديه والأوامر نِسَبْ إسنادية فتناقضتا وذكرت هيئات في الدخول وفي الصحيح دخلوا الباب يزحفون على استاههم.﴿ وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾ أي مسألتنا حطة وهو مصدر، كنشدة أو هيئة كقعدة. وقرىء بالنصب لقوله: صبر جميل، أو صبراً جميلاً، لما سألوا حط ذنوبهم رئب على ذلك غفران الخطيئة.(وقال الزمخشري): فإِن قلت هل يجوز أن ينصب حطة في قراءة من نصبها بقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة؟ قلت: لا يبعد. انتهى. وما جوزه ليس بجائز لأن القول لا يعمل في المفردات إلا إن كان المفرد مصدراً أو صفة له أو معبراً به عن جملة نحو قلت شعراً أو خطبة ليس واحداً من هذه ويكون على قوله من الاسناد اللفظي فلا يترتب على قوله إلا مجرد الامتثال بالنطق باللفظ فلا فرق بينه وبين اللفظ الغفل. ويبعد أن يترتب الغفران للخطايا على النطق بمجرد لفظ لم يدل على معنى كلام. وقرىء " يغفر " بالياء والتاء مبنياً للمفعول وبهما مبنياً للفاعل ونغفر بالنون. وقرىء ﴿ خَطَٰيَٰكُمْ ﴾ وخطيئتكم وخطيّاتكم بهمز الألف الأولى دون الثانية وخطاياكم بهمز الثانية دون الأولى وتقدم الأمر بالدخول والأكل ودخول الباب. وقول حطة والجواب مترتب على دخول الباب بقيد السجود وقول حطة لقوة المناسبة والمجاورة. ويدل على ذلك قصة الاعراف وادغم قوم راء نغفر في اللام وسنزيد وفي الاعراف سنزيد، والذي فيها مختصر من هذه الا ترى إلى سقوط الواو من سنزيد وحذف رغداً فأرسلنا عليهم بالضمير.﴿ وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ أي على غفران الخطايا ثواباً ودرجات من أحسن منهم.﴿ فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ انقسموا إلى ظالم وغير ظالم فإِن كانوا كلهم ظالمين كان من وضع الظاهر موضع الضمير أي فبدلوا ونبه على علة التبديل وهو الظلم والمبدل به محذوف تقديره فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة.﴿ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ ولما حذف ناسب إضافة غير إلى الاسم الظاهر ولو لم يحذف لكان التركيب بقولهم حطة قولاً غيره وابهم الذي قالوه وفي الصحيح هو مفسر قالوا حبة في شعرة أمروا بأن يسألوا حط ذنوبهم فقالوا ذلك استهزاء وعدم مبالاة فاستحقوا النكال.﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ اشعار بعلية نزول الرجز وهو العذاب ولم يعين في القرآن نوعه. وقرىء " رُجزاً " بضم الراء.﴿ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ إشارة إلى الجهة التي نزل منها العذاب. وقرىء " يفسقون " بضم السين وكسرها.
﴿ وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ ﴾ طلب السقيا وهذا هو الانعام التاسع ومفعول استسقى محذوف أي ربه كما قال: إذ استسقاه قومه أي طلبوا منه السقيا فعداه إلى المستسقى منه وجاء معدي إلى المستسقي. قال الشاعر:" وأبيض يستسقى الغمام بوجهه " فاحتمل أن يكون المحذوف ماء والاستسقاء يدل على فقدهم الماء أو قلته بحيث لا يكفيهم وثم محذوف أي إذا عطشوا.﴿ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ ﴾ أي فامتثل الأمر فضرب وفي هذا دليل على قدرة الصانع وإثبات نبوة موسى عليه السلام إذ هو خارق عظيم والاضافة في بعصاك إشعار بأنها التي كان يلازمها، ولعلها التي سأله الله تعالى عنها في قوله:﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ﴾[طه: ١٧].
والظاهر أن ألْ في الحجر للعهد قيل كان حجراً معيناً حمله معه من الطور. وقيل: ألْ للجنس فأي حجر ضرب. وفي وصفه ومن أي شيء كان أقوال مضطربة.﴿ فَٱنفَجَرَتْ ﴾ معطوف على ذلك المحذوف أي فضربت فانفجرت ودعوى إن فاء فانفجرت هي فاء فضرب فحذف ضرب لدلالة فائه عليه وحذفت فاء. فانفجرت لدلالة انفجرت عليها تخرص على العرب بغير دليل. (وزعم) الزمخشري أن الفاء ليست للعطف بل هي جواب شرط محذوف، كأنه قال: فإِن ضربت فقد انفجرت كما ذكرنا في قوله:﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾[البقرة: ٥٤]، وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلاّ في كلام فصيح. انتهى. كلامه. وتقدم ردنا عليه ذلك في قوله:﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾[البقرة: ٥٤].
ورددنا عليه هنا في الكتاب الكبير في تقديره بعد الفاء قد أي فقد تاب عليكم فقد انفجرت، والظاهر أن معنى انفجرت وانبجست واحد إذ هي قصة واحدة. وقيل: الانفجار اتساع الماء وكثرته وانبجاسه رشحه وأول خروجه ومن في. منه لابتداء الغاية والضمير عائد على الحجر وفيه من الاعجاز ظهور الماء من حجر لا اتصال له بالأرض فتكون مادته منها وخروجه كثيراً من حجر صغير وبقدر حاجتهم وعند الضرب بالعصا وانقطاعه عند الاستغناء عنه وعدد عيونه على عدد الاسباط. وقرىء عشرة بسكون الشين وكسرها وفتحها. و ﴿ ٱثْنَتَا ﴾ معرب. و ﴿ عَشْرَةَ ﴾ مبني في موضع خفص بالاضافة.﴿ عَيْناً ﴾ تمييز لازم الافراد وأجاز الفراء في مثل هذا جمعه.﴿ قَدْ عَلِمَ ﴾ أي عرف.﴿ كُلُّ أُنَاسٍ ﴾ أي من قومه الذين استسقى لهم.﴿ مَّشْرَبَهُمْ ﴾ أي العين الذي هو مشرب أي مكان شربه فلا يتعداه إلى عين غيرها والاضافة في مشربهم تدل على التخصيص وأعاد الضمير على معنى كل لا على لفظه فلا يجوز مشربه، والمعنى: مشربهم من تلك الأعين. وذكر المشرب تنبيه على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة.﴿ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ ﴾ أمر إباحة.﴿ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ ﴾ من للابتداء أو للتبعيض ولما كان من غير تعب أضيف إلى الله ويتعلق من بقوله:﴿ وَٱشْرَبُواْ ﴾، على أعمال الثاني. والرزق المرزوق وهو المن والسلوى والمشروب من ماء العيون ولما كان قد تهيأ لهم المأكول والمشروب من غير تعب نهوا عن الفساد إذ كان ذلك مما ما قد يدعو إلى الفساد. كما قال الشاعر: ان الشباب والفراغ والجدَةْ مفسدة للمرء أي مفسدَهْ. والعثي أشد الفساد. ويقال: عثا يعثو وعثى يعثى عثياً فهو مما لامه ياء وواو." ومفسدين " حال مؤكدة. ولما سئموا من أكل طعام واحد مالوا إلى أكل ما كانوا ألفوه من اختلاف المأكل، قالوا:﴿ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾ وسألوه أن يدعو الله لهم إذ كان سؤال النبي أقرب للإِجابة ولما كان ما يأكلونه لا يتبدل وصفوه بأنه طعام واحد ومتعلق الدعاء محذوف أي بأن يخرج لنا كذا ولفظة " ربك " تدل على الاختصاص به لما كان فيه من المناجاة وإنزال التوراة عليه.﴿ مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ ﴾ من تبعيضية.﴿ مِن بَقْلِهَا ﴾ بدل أعيد معه الجار وأسند الانبات إلى الأرض مجازاً لما كان الله جعل فيها قابلية الإِنبات، والبدل من التبعيض تبعيض. وفي البحران المهدوي وابن عطية وأبا البقاء قالوا: إن من في من بقلها لبيان الجنس، والبقل النعناع والكرفس والكراث وأشباهها. والقثاء معروف، وقرىء - بكسر القاف وضمها. والفوم: الثوم وقراءة عبد الله وثومها - بالثاء - فاحتمل أن يكون مما أبدلت ثاؤه فاء واحتمل أن يكون مادة أخرى. والهمزة في ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ ﴾ للإِنكار أي أتعتاضون واستفعل هنا للطلب أي أتطلبون تبديل الذي هو أدنى والمنصوب هو الحاصل والذي تدخل عليه الباء هو الزائل. وأدنى أفعل تفضيل من الدنو أي أقرب. قيل: أو من الدون وهو الرديء فقلب أو أصله أدنأ فسهلت همزته بإِبدالها ألفاً من الدناءة، وقد قرىء بالهمز فلم يقيد الأدنوية والخيرية إذ معلوم ثبوت الخيرية لما كانوا فيه، وثبوت الأدنوية لما سألوه، والضمير في: قال لموسى، أي فدعا فأجابه الله تعالى لما دعاه فقال: أي موسى بإِذن الله أو الله تعالى.﴿ ٱهْبِطُواْ مِصْراً ﴾ وقرىء بالتنوين أي من الأمصار وبغير تنوين بدليل أنهم سكنوا الشام بعد التيه وبغير تنوين على أنها مصر المعروفة دار فرعون.﴿ فَإِنَّ لَكُمْ ﴾ أي فيها.﴿ مَّا سَأَلْتُمْ ﴾ وقرىء سألتم بكسر السين وهو من تداخل اللغتين أي من البقول والحبوب.﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ ﴾ أي الزموا ذلك من قولهم ضرب الأمير البعث على الجيش، فالذلة بما الزموا من الجزية وإظهار الزيّ المخالف لزيّ المسلمين، والمسكنة: الخشوع والتطامن والفقر والشج، ولم تكن الجزية مضروبة عليهم من أول أمرهم فيكون من الاخبار بالغيب إذ كان ذلك في ملة الرسول عليه الصلاة والسلام ضربت عليهم الجزية. وقيل: الذلة كونهم ذليلين في أنفسهم ليس فيهم من الشهامة ما يقاتلون بها من عاداهم ألا ترى إلى قولهم: اذهب أنت وربك فقاتلا. وقوله:﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾[البقرة: ٢٤٦].
﴿ وَبَآءُو بِغَضَبٍ ﴾ ارجعوا فالباء للحال أو استحقوا فالباء صلة زائدة أو نزلوا وتمكنوا فالباء ظرفية. والغضب هنا ما حل بهم من البلاء والنقم.﴿ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ متعلق بباء أو بمحذوف في موضع الصفة وبكونه.﴿ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ فيه تعظيم للغضب.﴿ ذَلِكَ ﴾ إشارة إلى الضرب والمباءة وهو مبتدأ خبره " بأنهم " أي كائن بكفرهم والباء للسبب.﴿ كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ أي في حالهم السابقة. و ﴿ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ أي التي أظهرها على يد أنبيائه موسى وغيره ممن سبق كالمعجزات التسع والتوراة.﴿ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ ﴾ يحيى وشعيا وزكريا، وقرىء بتاء الخطاب فيكون التفاتًا وبالتشديد مع الياء دلالة على التكثير. فقيل: قتلوا ثلثمائة، وقيل: سبعين.﴿ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ﴾ ليس احتراز بل لا يقع قتل بني إلا بغير الحق فهو قيد لازم، نحو: دعوت الله سميعاً وجاء شنيعاً عليهم أي لم يدّعوا وجهاً في القتل.﴿ ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ ﴾ تأكيد للجملة قبله أو الحامل على الكفر والقتل هو سوء عصيانهم واعتدائهم إذ المعاصي بريد الكفر قابل الضرب والمباءة بالكفر والقتل وقابل الكفر والقتل بالعصيان والاعتداء، وألْ في النبيين للعهد في من قتلوا أو للجنس وفي بغير الحق كذلك أي الحق الذي من شأنه أن يقع القتل أو لتعريف الماهية.
﴿ هَادُواْ ﴾ هم اليهود هاد يهود تاب وقرىء هادوا بفتح الدال من هادي فاعل من الهداية بمعنى فعل كجاوز وجازى أي هدوا أنفسهم وهم اليهود.﴿ وَٱلنَّصَارَىٰ ﴾ جمع نصران كندمان وندامى والألف للتأنيث يدل عليه منع الصرف في قوله﴿ إِنَّا نَصَارَىٰ ﴾[المائدة: ١٤].
وقيل جمع نصري كمهري ومهارى.﴿ وَٱلصَّابِئِينَ ﴾ قيل عباد الكواكب القائلون بتدبيرها وقرىء مهموزاً صبأت النجوم طلعت وثنية الغلام خرجت وبغير همز صبا مال. و ﴿ مَنْ ءَامَنَ ﴾ يدل من المعاطيف الثلاثة التي بعد اسم أن أي أن الذين آمنوا من غير الأصناف الثلاثة ومن آمن من الأصناف الثلاثة ومن موصولة ودخلت الفاء في خبر أن لأن الذين ضمّن معنى اسم الشرط وهو جائز في كلام العرب ولا مبالاة لمن خالف في ذلك. والأجر الثواب المرتب على العمل من الإِيمان والعمل الصالح أفرد الضمير في أمن وعمل حملاً على لفظ من وجمع في﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾ حملاً على المعنى ودعوى ابن عطية أنه إذا حمل على اللفظ ثم على المعنى فلا يجوز أن يعود إلى اللفظ باطلة وقرىء ولا خوف بنصب الفاء. والخطاب في ﴿ مِيثَاقَكُمْ ﴾ لبني إسرائيل وهو الانعام العاشر وهو العهد عليهم بالاعلام بما تضمنته التوراة وتبيينه وعدم كتمه ولما فيه من إظهار نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. و ﴿ ٱلطُّورَ ﴾ الجبل الذي ناجى عليه الله تعالى موسى عليه السلام امتنعوا من أخذ التوراة. والتزامها فرفع فوقهم الطور. قيل: مقدار العسكر وصار كالظلة.﴿ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم ﴾ أي وقلنا خذوا والذي أوتوه الكتاب.﴿ بِقُوَّةٍ ﴾ أي بجدّ واجتهاد. وقرىء: ما آتيتكم بقوة وهو التفات:﴿ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ ﴾ أمر بحفظه وعدم تناسيه قولاً وعملاً. وقرىء: واذّكروا من الادّكار ويفهم من سياق الكلام أنهم امتثلوا الأمر وعملوا بمقتضاه.﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ ﴾ أي أعرضتم عن الميثاق والعمل به ورفع الجبل وهذا كله تذكير لليهود.﴿ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ بقبول التوبة.﴿ وَرَحْمَتُهُ ﴾ بالعفو من الزلة وارتفاع فضل على الابتداء هو مذهب البصريين وعليكم متعلق بفضل والخبر محذوف واجب الحذف على المختار.﴿ لَكُنْتُم ﴾ جواب لولا ويكثر دخول اللام عليه إذا كان موجباً وزعم بعض النحويين أنها لا تحذف منه إلا في الشعر.﴿ مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾ أي من الهالكين في الدنيا والآخرة.
﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ ﴾ علم هنا تعدي إلى واحد أي عرفتم أعيانهم واعتداؤهم فيه أنه حرم عليهم العمل فيه وصيد الحيتان فيه فكان يكثر ظهورها فيه وتذهب بعد ذهابه فتحيلوا في صيده بنوع من الحيل كحفر حفيرة أو ربط الحوت بخرمة فإِذا مضى السبت أخذوه ثم كثر ذلك حتى صادوه يوم السبت علانية وباعوه في الأسواق. ومنكم: في موضع الحال أي كائنين منكم. وفي السبت: متعلق باعتدوا أي في العمل يوم السبت بالاصطياد منه.﴿ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً ﴾ أمر يدل على سرعة الكون بهذا الوصف وكأنهم ممتثلون ذلك وإلا فليسوا بقادرين على ذلك والظاهر صيرورتهم قردة حقيقة وقد جاء في الحديث أن أمة مسخت ولا ينكر ذلك من قدرة الله تعالى ألا ترى إلى انقلاب عصا موسى حية ثم عودها عصا. والقرد حيوان معروف. وفعل الاسم القياس فيه فعول نحو قرود وجمعه على فعلة لا ينقاس نحو قردة وحسلة في جمع قرد وحسل والخسؤ الصغار والطرد وفعله خسأ يجيىء متعدياً ولازماً.﴿ فَجَعَلْنَاهَا ﴾ أي الكينونة قردة.﴿ نَكَالاً ﴾ عبرة. واصل النكال: المنع. والنكل: القيد.﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ﴾ أي لمن قرب منها.﴿ وَمَا خَلْفَهَا ﴾ أي من جاء بعدهم.﴿ وَمَوْعِظَةً ﴾ أي إذكاراً.﴿ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ لأن الذين ينتفعون بالموعظة إنما هم المتقون.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ﴾ وجد قتيل في بني إسرائيل وجهلوا قاتله فاختلفوا فيه فأمرهم الله بذبح بقرة فتعنتوا فيها مرة بعد مرة وقرىء يأمركم بإِخلاص ضمة الراء واختلاسها وبإِسكانها، والبقرة الأنثى من البقر وقد تطلق على الذكر. وكان المأمور بذبحه بقرة إذ كانوا ممن يعظم البقر حتى عملوا عجلاً وعبوده. وقرىء ﴿ أَتَتَّخِذُنَا ﴾ بتاء الخطاب أي يا موسى، وبالياء أي الله.﴿ هُزُواً ﴾ أي ذوي هزء استغربوا لما سألوا موسى عن تعيين القاتل فأجابهم بهذا على ما هم عليه من سوء عقيدتهم في أنبيائهم وتكذيبهم لهم ولو وفقوا لكان الجواب منهم امتثال الأمر.﴿ قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ ﴾ أي ممن يخبر عن الله بأمر لم يأمر به ولما استعاذ موسى بالله تعالى علموا أن ما أخبرهم به هو عزيمة من الله بما أمرهم به من ذبح بقرة:﴿ قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ﴾ ففي الحديث لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم. وما هي: مبتدأ وخبر في موضع مفعول يبين وهي معلقة لأن التبيين إعلام في المعنى وما هي ليس سؤالاً عن الماهية إنما هو سؤال عن الوصف ولذلك جاء الجواب بالوصف فكأنهم قالوا ما صفتها وكما علموا ما لموسى عند الله من الخصوصية قالوا ربك.﴿ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ ﴾ وصفة للبقرة وإذا وصفت النكرة بما دخل عليه لا كررت وكذا الخبر والحال إلا ما ندر. والفارض المسن التي انقطعت ولادتها في الكبر يقال فرضت وفرضت بفتح الراء وضمّها يفرض فروضاً. والبكر الصغيرة التي لا تلد من الصغر. قيل: أو ولدت ولداً واحداً. والعوان النصف وهي التي ولدت مرة بعد مرة. يقال: عونت المرأة. و ﴿ عَوَانٌ ﴾ تفسير لما تضمنه الوصفان.﴿ بَيْنَ ذٰلِكَ ﴾ أي بين الفروض والبكارة وافرد ذلك إذ قد يشار به للمفرد والمثنى والمجموع بصيغة واحدة. فيقال: كيف ذلك الرجال يا رجال، وكذا كان الخطاب قد تكون مفردة للمفرد والمثنى والمجموع من المذكر والمؤنث أو حذف معطوف كما حذف في قوله: فما كان بين الخير إذ بين تقتضي شيئين أو أشياء.﴿ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ ﴾ أمر بامتثال ما أمروا به فلم يفعلوا وتعنتوا في السؤال فسألوا عن لونها. والصفرة هنا المعهودة لا السواد تقول العرب أصفر فاقع وأبيض ناصع ويقق وأسود حالك وأحمر قاني وأخضر ناضر فهذه التوابع تدل على شدة الوصف كأنه قيل أصفر شديد الصفرة ومن غريب ما وقع في لغة الترك انهم إذا أرادوا المبالغة في وصف اللون ركبوا من الحرف الأول مع الباء الساكنة ما يدل على الوصف بشدة ذلك اللون يقولون في أسود قرا فإِذا أرادوا شدة السواد قالوا قبقرا، وكذا صرى الأصفر يقولون صبصرا، وقزل الأحمر يقولون قبقزل، وكذا باقي الألوان والوصف بفاقع ونحوه مما يدل على شدة اللون يطابق ما قبله فتقول سوداء حالكة وصفراء فاقعة، وهنا رفع الظاهر المذكر فلذلك لم تلحق التاء. و ﴿ تَسُرُّ ﴾ صفة أيضاً أي تبهج.﴿ ٱلنَّاظِرِينَ ﴾ بحسنها شكلاً ولوناً وسناً فالوصف بالسرور ناشىء عن تقدم الأوصاف التي نشأ عنها السرور. ثم لم يكتفوا بهذا البيان وتعنتوا على عادتهم في السؤال وعللوا الحامل لهم على تكرار السؤال بقولهم:﴿ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ﴾ إذ موجود كثير مما تشابه ما تقدم ذكره في الوصف واللون. وقرىء تشابه على تذكير البقر وتشابه مضارعاً على تأنيثه وحذف التاء وتشابه على التأنيث وإدغام التاء في الشين والأصل تتشابه وشبّه مضارع تشبه حذفت منه التاء وتشبه ماضياً ويتشابه مضارعاً وتشابهت وتشابهت ومتشبه ومتشابه.﴿ وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ إلى تعيين البقرة المأمور بذبحها وجواب الشرط محذوف، أي إن شاء الله اهتدينا دل عليه بمهتدون. وقيل: الشرط الذي حذف جوابه للدليل كقولك أنت ظالم إن فعلت لكن الشرط توسط بين اسم إن وخبرها ليحصل توافق رؤوس الآي وجاؤوا بالشرط على سبيل الأدب مع الله تعالى إذ أخبروا بثبوت الهداية.﴿ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ ﴾ صفة للبقرة وتثير صفة لذلول داخلة تحت النفي والمقصود نفي إثارتها الأرض.﴿ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ ﴾ نفي معادل لقوله: لا ذلول. والمعنى انها لم تذلل بالعمل في حرث ولا سقي. وما ذهب إليه الزمخشري من جعل لا في ولا تسقي الحرث زائدة للتوكيد، وان المعنى تثير وتسقي على أن الفعلين صفتان لذلول، كأنه قال: لا ذلول مثيرة وساقية. ليس بشيء لأنه يلزم منه الوصف بلا غير مكررة والتقابل منفي. وقلنا: إنه لا يكون إلا في الشعر. وقال ابن عطية: لا يجوز أن تكون هذه الجملة، يعني: تثير في موضع الحال لأنها من نكرة. " انتهى ". والنكرة ان عني بقرة فقد وصفت، والحال من النكرة الموصوفة جائز جوازاً حسناً وإن عني من لا ذلول، فالحال من النكرة غير الموصوفة فيبعد على قول الجمهور ممن لم يحصّل مذهب سيبويه. وقد نص سيبويه على جواز ذلك وقاسه وقيل: تثير: حال من الضمير المستكن في ذلول، أي لا تدل في حال إثارتها. وقرىء: لا ذلول بفتح اللام، أي لا ذلول هناك. وتثير قيل: صفة لاسم لا منفية من حيث المعنى ولذلك عطف عليه جملة منفية وهي ولا تسقي الحرث والذي نختاره في هذه القراءة أن يكون تثير وتسقي خبراً للاذلول اعتراض بين بقرة وصفتها التي هي " مسملّة " وانتفاء الاثارة والسقي من حيث المعنى لا من حيث الوصف " مسلمة " أي من العيوب.﴿ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ﴾ أي لا لون فيها يخالف الصفرة لا بياض ولا سواد ولا غير ذلك لأن الشيء قد يوصف بلون لكونه غالباً فيه ويكون في بعضه لون يخالفه لكنه لقلته لا يعبأ به وقالوا ثوب اشية للذي فيه بلقة وليس مأخوذاً من الوشي لاختلاف المادتين.﴿ قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ ﴾ أي الواضح لنا. أي نطقت به لأنه كان غائباً فجاء. وقرىء: قالوا الآن بسكون اللام وبنقل حركة الهمزة للام وحذفها مع حذف واو قالوا: ومع إثباتها. والآن ظرف للوقت الحاضر وناصبه جئت بالحق متعلق بجئت أي نطقت بالحق أو للتعدية أي أجأت الحق الذي لم يبق معه إشكال.﴿ فَذَبَحُوهَا ﴾ قبله محذوف أي فطلبوها وحصلوها وفي كيفية تحصيلها أقوال تظافرت أقوال المفسرين على اشترائها من الشاب الباربابويه.﴿ وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ كني عن الذبح بالفعل لقلق تكرار يذبحون واختلف زمان نفي الكدودة وزمان الذبح أي وما قاربوا ذبحها قبل ذلك أي وقع الذبح بعد أن انتفت مقاربته أي تعسروا في ذبحها ثم ذبحوها بعد ذلك.
﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ﴾ معطوف على قوله:﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ ﴾.
والظاهر ترتيب وجود القضيتين ونزولهما على ترتيب وجودهما فيكون الله تعالى قد أمرهم بذبح البقرة فذبحوها وهم لا يعلمون بما له تعالى فيها من السر، ثم وقع بعد ذلك أمر القتيل فأظهر لهم ما كان أخفاه عنهم من الحكمة بقوله:﴿ ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾ ولا ضرورة تدعوا إلى اختلاف في الوجود والنزول والتلاوة اعتباراً بما رووا من القصص إذ لم يصح لا في كتاب ولا سنة والحمل على الظاهر أولى إذ العدول إلى غير الظاهر إنما يكون لمرجح ولا مرجح هنا بل تظهر الحكمة البالغة في تكليفهم أولاً بذبح بقرة هل يمتثلون ذلك أم لا وامتثال التكاليف التي لا يظهر فيها ببادىء الرأي حكمة أعظم من امتثال ما يظهر فيه حكمة لأنها طواعية صرف وعبودية محضة واستسلام خالص بخلاف ما تظهر له حكمة فإِن في العقل داعية إلى امتثاله وحضاً على العمل به. والخطاب في قتلتم اما لورثة المقتول. وقد روي أنهم اجتمعوا على قتله أو خطاب للجماعة بما يقع من بعضهم وكني بقوله: نفسا عن الشخص، كما قال: ثلاثة أنفس وثلاث ذود أو اطلاقاً لبعض الشيء على الشيء أو على حذف أي ذا نفس وجعل نسمة مكان نفساً تفسير لا قرآن. وقرىء ﴿ فَٱدَّارَأْتُمْ ﴾ وتدارأتم والتدار في الادراء التدافع.﴿ فِيهَا ﴾ أي في تعيين قاتلها.﴿ وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ من أمر القتيل وقاتله وهي جملة اعتراض بين المعطوف، والمعطوف عليه مشعرة بأن التدار لا يجدي إذ الله مظهر ما كتمتوه.﴿ فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ ﴾ الهاء عائدة على النفس على لغة من ذكر النفس أو على مراعاة الشخص أو على ذي في تقدير من قدر ذا نفس. والبعض غير معين وفيه أقوال مضطربة والهاء عائدة على البقرة المذبوحة وثم محذوفان فضربوه يدل عليه اضربوه وفحيي القتيل يدل عليه.﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ ﴾ أي مثل هذا الاحياء للقتيل يحيي الله الموتى والمثيلة في مطلق الاحياء لا في الكيفية.﴿ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾ في إحياء ميت بضربة بقطعة من ميت وجاز أن يكون ويريكم معطوفاً على يحيى وأن يكون استئناف أخبار وجمع آيات إذ أراهم الله تعالى هذا الاحياء والعصا والحجر والغمام والمن والسلوى والسحر والبحر والطور وغير ذلك.
﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ ﴾ الخارق العظيم الخارج عن مقدور البشر الموجب للاعتبار ولين القلوب. والضمير في قلوبكم ضمير وإذ قتلتم حتى نقل أنه لم حَييَ القتيل وأخبر بمن قتله قالوا كذبت. والقسوة بنوّ القلب عن الاعتبار وعدم تحركه وتأثره للمواعظ.﴿ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ ﴾ أي في عدم تأثرها صلبة لا تتخلخل مع ظهور المعجزات.﴿ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ فصّل ونوّع قلوبهم إلى شبه الحجارة في الصلابة وإلى أشد قسوة من الحجارة. وانتصب قسوة على التمييز ويقتضيه أشد وكاف التشبيه وهذا التمييز الذي بعد أفعل التفضيل منقول من المبتدأ وهو نقل غريب أو أشد معطوف على قوله كالحجارة من قبيل عطف المفرد على المفرد كما تقول زيد على سفر أو مقيم (ولا) حاجة إلى تقدير الزمخشري أو هي أشد فيكون من عطف الجمل ولا إلى إضمار مثل أي أو مثل أشد حذف مثل وأقيم أشد مقامه فيكون الضمير في أشد غير عائد على القلوب إذ كان الأصل أو مثل شيء أشد قسوة من الحجارة. وقرىء أو أشد بنصب الدال ويتخرج على هذا التخريج الثاني وقرىء قساوة. ثم قال: ﴿ وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ ﴾ تبييناً ان قلوبهم لا تتأثر وإن الحجارة قد يوجد فيها ما يتأثر وانها متفاوتة في التأثر وقرىء وإن مشددة في ثلاثتها فما اسم إن دخلت اللام عليه وقرىء مخففة في ثلاثتها فاحتمل أن تكون معملة وما اسمها، واحتمل أن تكون ملغاة، نحو: إن في الدار لزيد، فما: مبتدأ خبره المجرور قبله، واللام: هي لام الابتداء لزمت للفرق أو لام غيرها اجتلبت للفرق قولان للنحاة وقول الكوفيين أنّ إنْ نافية واللام بمعنى إلا. وقرىء ﴿ لَمَا ﴾ مخففة الميم وما موصولة بمعنى الذي وهي اسم انّ. وقرىء: لما مشددة الميم. قال ابن عطية: وهي قراءة غير متجهة. وما قاله ابن عطية لا يستوي إلا أن نقل عمن قرأ بالتشديد تشديدان فيعسر إذ ذاك توجيهها إما إن قرأ بتخفيف إن وهو المظنون به فيظهر توجيهها بأن تكون إن نافية، ولما بمعنى: الا. كقوله تعالى:﴿ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾[الطارق: ٤] في قراءة من شدد لما. ويكون حذف منه المبتدأ تقديره. وما من الحجارة حجر ألا يتفجر منه الأنهار وكذلك ما بعد هذا كقوله تعالى:﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾[الصافات: ١٦٤].
أي: وما منا أحد وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به أي وإن من أهل الكتاب أحد وحذف هذا المبتدأ أحسن لدلالة المعنى عليه إلا أنه يشكل معنى الحصر إذ يظهر من هذا التفصيل أن الأحجار متعددة فمنها كذا وإذا حصرت أنهم العموم إن كل فرد فرد من الحجارة فيه هذه الأوصاف كلها أي يتفجر منه الأنهار ويشقق فيخرج منه الماء ويهبط من خشية الله ولا يبعد ذلك إذا حمل على القابلية إذ كل حجر يقبل ذلك، ولا يمتنع إذا أراد الله ذلك فإِن كان الذي قرأ بالتشديد وإن بالتشديد فيعسر توجيهه. ومن زعم أن إنّ ان المشددة بمعنى ما النافية فقوله: لا يصح ولا يثبت في لسان العرب ويمكن توجيه ذلك على أن يكون اسم ان محذوفاً، أي وان منها منقاداً كما حذف في قوله: ولكني زنجي عظيم المشافر، أي: ولكنك ولما بمعنى حين على مذهب الفارسي أو حرف وجوب لوجوب على مذهب سيبويه والمضارع بمعنى الماضي. وقرىء ﴿ يَتَفَجَّرُ ﴾ مضارع تفجر مطاوع فجر وينفجر مضارع انفجر وطلوع فجر بتخفيف الجيم والتفجر التفتح بالسعة والكثرة. وقرىء ﴿ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ ﴾ ومنها الأنهار حملاً على المعنى والتشقق: التصدع بطول أو عرض فينبع منه الماء بقلة. وقرىء: يشقق بشد الشين ويتشقق وينشقق بنون وقافين والفك شاذ. والهبوط التردي من علو إلى سفل. وقرى: يهبط بكسر الياء وضمها. والخشية الخوف وهو من. مجاز الاستعارة كناية عن الانقياد لأمر الله وانها لا تمتنع على ما يريد بين أن الحجارة إلى التأثير فيها أقرب من قلوبهم ثم ذكر تفاوت الحجارة في التأثير فمنها ما هو متخلخل تتفجر منه الأنهار بسرعة ومنها ما فيه صلابة لكنه يتشقق ومنها ما هو سريع الانقياد فينهار بخلاف قلوب هؤلاء فإِنها أشد قسوة من الحجارة ولما كانت قساوة القلوب تنشأ عنها الأعمال القبيحة قال تعالى على سبيل التهديد لهم:﴿ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ قال ابن عطية: بغافل في موضع نصب خبر ما لأنها الحجازية. يقوي ذلك دخول الباء في الخبر وإن كانت الباء قد تجيىء شاذة في التميمية. " انتهى ". ولم يذهب نحوي إلى أن دخول الباء في التميمية شاذ فيما علمناه بل النحاة قائلان قائل لا تدخل الباء وهو قول أبي علي في أحد قوليه. وتبعه الزمخشري وقائل تدخل وهو الصحيح وهو كثير في اشعار بني تميم. وقرىء: تعملون بتاء الخطاب على نسق: ثم قست قلوبكم وبالياء التفاتاً.
كان المؤمنون من الأنصار بينهم وبين اليهود حلف وجوار فكانوا يودون إسلامهم. والطمع تعلق النفس بإِدراك مطلوب تعلقاً قوياً.﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ ﴾ أي من اليهود لبعدهم عن الإِيمان.﴿ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ﴾ أي من كتابهم التوراة أو من الوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.﴿ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ﴾ أي يميلون به إلى غير جهته ويبدلون.﴿ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ﴾ أي فهموه ومع عقلهم له على وضعه يحرفونه عن وضعه.﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ ما في تحريفه من الاثم واستحقاق غضب الله فمن كانت حاله هذه لا يطمع في إيمانه وأبناؤهم تابعو أسلافهم في البعد عن الخير والإِيمان. ثم ذكر من نفاقهم موافقة المؤمنين بقولهم.﴿ قَالُوۤاْ آمَنَّا ﴾ ومن خبثهم كونهم لا ينطقون بمتعلق آمنا. والجملة من قوله: ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ ﴾ في موضع الحال، أي في طماعيتكم في إيمان هؤلاء مع أن حال أسلافهم أو حال فريق من الحاضرين منهم هذه الحال مستبعدة لا تجامع هذه الحال.﴿ وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ﴾ أي انفرد بعضهم ببعض.﴿ قَالُوۤاْ ﴾ أي المنفرد على سبيل العتاب.﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ من وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جرى لأسلافكم من المغازي وما حل بهم من النقم والفتح الاعلام أي بما أعلمكم أو الحكم أي بما حكم الله عليكم أو على أسلافكم وحدث هنا تعدت إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر واللام في.﴿ لِيُحَآجُّوكُم ﴾ تتعلق بأتحدثونهم وهي لام كي على تجوز لأن الناشىء عن شيء وإن لم يقصد كالعلة وكونها للصيرورة قول مشهور والضمير في " له " عائد على ما الموصولة الاسمية.﴿ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾ أي في الآخرة. فقول ابن أبي الفضل: ان الصحيح أن يكون عند ربكم متعلقاً بقوله:﴿ بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴾، أي من عند ربكم ليحاجوكم. قال: لأن الاحتجاج عليهم بما كان في الدنيا ليس بصحيح للفصل بين عند والعامل فيها الذي هو فتح بقوله:﴿ لِيُحَآجُّوكُم ﴾ وهو أجنبي منهما إذ هو متعلق بأتحدثونهم على الأظهر.﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ داخل تحت قوله:﴿ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم ﴾ أي بما يكون حجة لهم عليكم.﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ ما في ذلك من التسليط عليكم وإظهار الحجة وذهب الزمخشري إلى أن بين الهمزة والفاء في نحو: أفلا تعقلون وبين الهمزة والواو في نحو: أولاً، وكذا! فلم يسيروا، أو لم يروا فعلاً محذوفاً عطف عليه ما بعده كأنه يقدر أجهلتم أفلا تعقلون أمكثوا فلم يسيروا ومذهب النحاة ان الواو والفاء وثم بعطف ما بعدها على الجملة التي قبل الهمزة والهمزة متأخرة في التقدير وقدمت لأن الاستفهام له صدر الكلام وقد رجع الزمخشري إلى قول النحاة في ذلك إذ لم يطرد له الحذف في مواضع.
﴿ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ ﴾ قرىء بالياء والضمير للكفار، وبالتاء خطاب للمؤمنين، ينبههم على جهل الكفار بعالم السر والعلانية. أو: خطاب للكفار على سبيل الالتفات ثم أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة إهمالاً لهم.﴿ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ عام وسدت أن مسد المفعول ان قدر ان تعلمون متعد إلى واحد ومسد مفعولين إن قدر تعدية إلى اثنين.﴿ وَمِنْهُمْ ﴾ أي من اليهود المذكورين.﴿ أُمِّيُّونَ ﴾ أي عوام واتباع لا يحسنون الكتابة ولا القراءة فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها.﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ ﴾ أي التوراة.﴿ إِلاَّ أَمَانِيَّ ﴾ استثناء منقطع إذ ليس من جنس الكتاب إلا ما هم عليه من أمانيهم إن الله يعفو عنهم وتشفع أنبياؤهم لهم، أو ما يمنيهم احبارهم ان النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة، أو الا أكاذيب مختلفة تلقفوها من احبارهم تقليداً. وقرىء: أماني بتشديد الياء وبتخفيفها.﴿ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾ الظن هنا على بابه من ترجيح أحد الأمرين ولا يلزم من الترجيح عندهم أن يكون ترجيحاً في نفس الأمر.
﴿ فَوَيْلٌ ﴾ أي هلكه وخسار.﴿ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ ﴾ هم اليهود.﴿ بِأَيْدِيهِمْ ﴾ تأكيد يرفع المجاز أي يباشرون بأنفسهم لا يأمرون بالكتابة كانوا يكتبون محرّفاً عن ما في كتابهم كما ذكر أنهم غيروا صفة الرسول صلى الله عليه وسلم التي في التوراة فجعلوه آدم سبطاً طويلاً على خلاف ما في التوراة والمعنى يكتبونه مختلفاً.﴿ ثُمَّ يَقُولُونَ ﴾ لاتباعهم الأميين.﴿ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ ﴾ مع علمهم بالتبديل والتحريف.﴿ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ من وضائع وما كل ورشا ووصفه بالقلة لفنائه وحقارته.﴿ فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ هذه مقدمة.﴿ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ هذه نتيجة تلك المقدمة وكرر الويل حتى يتحقق أن الخسارة والهلكة تترتب على كل واحد من المكتوب والمكسوب وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" اليهود من أهل النار. قالوا: نحن، ثم تخلفونا أنتم. فقال: كذبتم لقد علمتم انا لا نخلفكم "فنزلت:﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ أي قلائل يحصرها العد، فروي: أنهم قالوا: سبعة أيام، وعنهم أربعون يوماً عدد عبادتهم العجل.﴿ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً ﴾ هذا رد لدعواهم الكاذبة أي مثل هذا الاخبار الجازم لا يكون إلا ممن اتخذ عند الله عهداً بذلك وأنتم لم تتخذوه فقولكم كذب وافتراء. واتخذ تعدت إلى واحداً وإلى اثنين، فيكون الظرف هو الثاني وهمزة اتخذتم همزة استفهام. وقرىء بنقل حركتها إلى قل وحذفها، والمعنى عهداً بما قلتم ان النار لا تمسكم إلا أياماً معدودة.﴿ فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ ﴾ قيل جواب الاستفهام الذي ضمّن معنى الشرط وفي هذا القول نظر، لأن الاستفهام عن ماض لفظاً ومعنى. (قال) ابن عطية: فلن يخلف الله عهده اعتراض أثناء الكلام كأنه يريد أن:﴿ أَمْ تَقُولُونَ ﴾ معادل لقوله:﴿ أَتَّخَذْتُمْ ﴾ فصارت هذه الجملة اعتراضاً بين المتعادلين فلا موضع لها من الإِعراب وكان التقدير أي هذين واقع اتخاذكم العهد عند الله أم قولكم.﴿ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أخرج مخرج التردد في تعيينه على سبيل التقرير وإن كان قد علم وقوع أحدهما وهو قولهم على الله ما لا يعلمون. وقيل: ام، بمعنى بل. والهمزة أي أتقولون استفهام إنكار إذ قد علم أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون.
﴿ بَلَىٰ ﴾ نقض لقولهم: لن تمسنا النار، أي تمسكم النار.﴿ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ﴾ من شرطية أو موصولة ويترجح بقسميها والذين آمنوا والسيئة الكفر.﴿ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ ﴾ بأن يوافي على الكفر والاحاطة احتفافها به من كل جانب. وقرىء: خطيئته وخطيآته وخطاياه وذكر الخلود دال على الموافاة على الكفر. ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ لما ذكر حال الكفار ذكر حال من يقابلهم وهم المؤمنون وهناك رتب الخلود في النار على شيئين وهنا رتب الخلود في الجنة على شيئين.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا ﴾ وإذ معطوف على الظروف السابقة وهذه الآيات من الواردة في توبيخ بني إسرائيل.﴿ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ على لسان موسى والأنبياء عليهم السلام أو ما أخذ عليهم في الكتاب المنزل على نبيهم. وقرىء ﴿ لاَ تَعْبُدُونَ ﴾ بياء الغيبة وبتاء الخطاب ولا تعبدوا نهياً وأخذنا ميثاق في معنى القسم ولا تعبدون جوابه﴿ إِلاَّ ٱللَّهَ ﴾ استثناء مفرغ وفيه التفات إذ لو جرى على أخذنا لكان إلا إيانا لكن في هذا الإِلتفات من الفخامة والدلالة على سائر الصفات والتفرد بالتسمية ما ليس في المضمر.﴿ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ ﴾ أي الأب والأم ويقال للأم والد ووالدة. والاحسان برّهما واكرامهما وإحساناً مصدر في معنى الأمر أي وأحسنوا ببر الوالدين. وتقدم معمول المصدر على سبيل الاعتناء والاهتمام بأمرهما.﴿ وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾ أي وصاحب القرابة وفي ذلك صلة الرحم إذ هو مشارك للوالدين في القرابة.﴿ وَالْيَتَامَىٰ ﴾ وهم الذين مات آباؤهم ولا قدرة لهم تامة على الاكتساب وجاء أنا وكافل اليتيم لهاتين في الجنة.﴿ وَٱلْمَسَاكِينِ ﴾ وتأخروا إذ يمكن أن يتعهد نفسه باستخدام وإصلاح معيشة وأريد بذي القربى الجنس ولذلك أفرد ذو وإضافته إلى المصدر تدرج الجميع.﴿ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾ لما اتبع عبادة الله بالاحسان لمن ذكر وهو فعل اتبع ذلك بالقول ليكون الاحسان بالفعل والقول ولما كان إنما هو مجرد لفظ لا بذل مال كان متعلقة الناس عموماً. وقرىء حسناً وبضم السين وحسناً بفتحتين وحسنى فعلى. و ﴿ إِحْسَاناً ﴾ قال ابن عطية في قراءة من قرأ حسني على فعلى قال: رده سيبويه لأن أفعل وفعلى لا تجيىء إلا معرفة إلا أن يزال عنها معنى التفضيل وتبقى مصدراً كالعقبى فذلك جائز وهو وجه القراءة بها. " انتهى ". وفي كلامه ارتباك كأنه قال: لأن افعل وفعلى لا يجيىء إلا معرفة وليس على ما ذكر اما أفعل فله استعمالات، احدها: أن يكون بمن ظاهرة أو مقدّرة أو مضافاً إلى نكرة، فهذا لا يتعرف بحال بل يبقى نكرة. والاستعمال الثاني: أن يكون بالألف واللام فإِذ ذاك لا يكون إلا معرفة بهما. والاستعمال الثالث: أن يضاف إلى معرفة وفي التعريف بتلك الاضافة خلاف، وذلك نحو: أفضل القوم. واما فعلى فلها استعمالات، احدها: بالألف واللام وتكون معرفة بهما. والثاني: بالاضافة إلى معرفة، نحو: فضلى النساء وفي التعريف بهذه الاضافة الخلاف الذي في أفعل. فقول ابن عطية لأن أفعل وفعلي لا يجيىء إلا معرفة ليس بصحيح وقوله: إلا أن يزال عنها، معنى التفضيل وتبقى مصدراً كالعقبى فذلك جائز ظاهر كلامه ان المعنى إلا أن يزال عن فعلى معنى التفضيل ويبقى مصدراً فيكون فعلى الذي هو مؤنث أفعل إذا أزلت منه معنى التفضيل يبقى مصدراً فليس كذلك بل لا ينقاس مجيىء فعلى مصدراً، إنما جاءت منه ألفاظ يسيرة فلا يجوز أن يعتقد في فعلى التي مذكرها أفعل انها تصير مصدراً إذا زال منها معنى التفضيل.﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ﴾ أمر بهاتين العبادتين البدنية والمالية اهتماماً بهما وتوكيداً لأمرهما.﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ﴾ عما طلب منكم من العبادة والاحسان بالفعل والقول والصلاة والزكاة.﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ ﴾ أي أشخاصاً قليلين وهم من آمن حقيقة الإِيمان من أسلافهم وإن كان خطايا لمن بحضرته عليه السلام كان من القليل عبد الله ابن سلام وأصحابه واحتمال القلة في الإيمان لا في الأشخاص كما قاله ابن عطية بعيد. وقرىء إلا قليلاً - بالنصب - وهو الأفصح. وقرىء - بالرفع - وجعله بدلاً من ضمير توليتم لأن في التولي معنى النفي كأنه قال: لم يفوا بالميثاق إلا قليل: قاله ابن عطية. ولا تجيز النحاة البدل من الموجب.﴿ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ حال مؤكدة إلا أن اختلف متعلق التولي والأعرض كما قال بعضهم توليتم عن عهد ميثاقكم وأنتم معرضون عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم.﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُون ﴾ كقوله: ﴿ لاَ تَعْبُدُونَ ﴾ إعراباً وقرىء - بكسر الفاء وضمها - وتسفكون مشدد ومخففاً، أي لا تتعاطون ما يؤدي إلى سفك دمائكم، أو لا يسفك بعضكم دم بعض.﴿ وَلاَ تُخْرِجُونَ ﴾ أي لا يخرج بعضكم بعضاً من داره أي بالاساءة فيضطر إلى الإِخراج.﴿ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ ﴾ بالتزام الميثاق وقبوله.﴿ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ أن الله أخذه عليكم.
﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ هذا استبعاد لما أخبر به عنهم من القتل والاجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم، وأنتم: مبتدأ وخبره اسم الاشارة. وتقتلون: حال ومن كلامهم ها أنت ذا قائماً، وها لنا ذا قائماً والمقصود من حيث المعنى الاخبار بالحال. وترى: تقتلون - مخففاً ومشدداً -.﴿ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ ﴾ كان بنو قينقاع حلفاء الأوس وأعداء قريظة، وكان بنو قريظة والنضير حلفاء الخزرج وقريظة والنضير إخوان كما أن الأوس والخزرج إخوان ثم افترقوا فصارت النضير حلفاء الخزرج، وقريظة حلفاء الأوس، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه فإِذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم، وإذا أسر الرجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه فعيّرتهم العرب بذلك وقالوا: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم فيقولون أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نذل حلفاءنا. وقرىء ﴿ تَظَاهَرُونَ ﴾ بإِدغام التاء في الظاء، وتظاهرون بحذف التاء، وتتظاهرون بتاءين، وتظهرون بشد الظاء والهاء، وتظاهرون: مضارع ظاهر. والتظاهر: هو التعاون والتناصر والاثم ما يستحق متعاطيه الذم أو ما تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب. والعدوان: الاعتداء وهو مجاوزة الحد في الظلم. وقرىء ﴿ أُسَارَىٰ ﴾ وأسرى.﴿ تُفَادُوهُمْ ﴾ وتفدوهم: أي لا يناسب من أسأتم إليهم بالإِخراج أن تحسنوا إليهم بالفداء.﴿ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ﴾ تقدم قتل النفس والاخراج من الديار والتظاهر والمفاداة وأكد الاخراج بالنص على تحريمه وإن كان ما سبق محرماً لما فيه من الجلاء والنفي لا ينقطع شره إلا بالموت، بخلاف القتل وإن كان فيه إفساد الصورة لكن فيه انقطاع الشر وهو ضمير الشأن. ومحرم: خبر مقدم. وإخراجهم: مبتدأ. والجملة: خبر عن ضمير الشأن. (ووقع لابن عطية في إعراب وهو محرم عليكم إخراجهم أقوال) تنتقد ذكرناها في البحر.﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ استفهام توبيخ أي ببعض الكتاب الالهي من التوراة وما أنزل على أنبيائكم وتكفرون ببعض من الكتاب الالهي كالانجيل والقرآن المنزل على محمد وذلك كله حق منزل من عند الله فالتفريق بينهما كفر وضلال.﴿ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ ﴾ الجزاء يطلق في الخير. وجزاءهم بما صبروا جنة. وفي الشر فجزاؤه جهنم. والخزي: الفضيحة والقصاص فيمن قتل فإِن كان الخطاب في أفتؤمنون لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم جاز أن يراد بالخزي.﴿ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ ضرب الجزية عليهم وقتل قريظة وإجلاء النضير إلى اريحاء واذرعات.﴿ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ ﴾ أي يصيرون.﴿ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ ﴾ وهو الخلود في النار دائماً وقرىء يردون بالياء اعتباراً بقوله: من يفعل ذلك، وبالتاء اعتباراً بقوله:﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ ﴾ أو التفات بالنسبة إلى من يفعل. وقرىء يعملون بالياء وبالتاء.﴿ أُولَـٰئِكَ ﴾ إلى الذين تقدم ذكرهم من اليهود الجامعين لتلك الأوصاف القبيحة.﴿ ٱشْتَرَوُاْ ﴾ مجاز عن إيثار العاجل الفاني على الأجل الباقي والمشتري للشيء هو المؤثر لتحصيله والثمن المبذول فيه مرغوب عنه. وأولئك: مبتدأ. والذين: خبره.﴿ فَلاَ يُخَفَّفُ ﴾ معطوف على الصلة من عطف الجمل فلا يشترط اتحاد الزمان، كما تقول: جاءني الذي قتل زيداً أمس وسيقتل أخاه غداً فلا يخفف أي يبقى على شدته.﴿ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ أى لا يجدون من يدفع عنهم ما حل بهم من عذاب الله وهي جملة اسمية معطوفة على فعل أو يرتفع هم على أنه مفعول لم يسم فاعله فيكون من باب الاشتغال.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ ﴾ هو التوراة.﴿ وَقَفَّيْنَا ﴾ ضمن معنى وجئنا.﴿ مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ ﴾ يقفوا بعضهم بعضاً ومن لابتداء الغاية يحكى أن موسى عليه السلام لم يمت حتى نبىء يوشع وبالرسل يوشع وشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيباً وأرميا وعزير وحزقيل والياس ويونس وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام وآخرهم وخاتمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالرسل متعلق بقفينا وقرىء بضم السين وبإِسكانها.﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ﴾ إضافة إلى أمه رداً على اليهود والنصارى فيما أضافوه إليه. والبينات الحجج الواضحة الدالة على نبوته من إنزال الانجيل عليه وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى والاخبار بالمغيبات وخلقه من الطين صورة طائرة فينفخ فيه الله الروح إلى غير ذلك مما دل على نبوته وأجمل ذكر الرسل لأنهم كانوا متبعي شريعة موسى ونص على عيسى لأن شرعه نسخ كثيراً من شرع موسى عليهما السلام وعيسى وزنه عند سيبويه فعلى والألف فيه للإِلحاق كألف معزى. وقال أبو عمرو: الداني وزنه فعلل. ومريم باللسان السرياني معناه: الخادم، وباللسان العربي: المرأة الكبيرة خلطة الرجال ومريم مفعل لا فعيل لعدم ثبوته في أبنية كلام العرب وصحة حرف العلة على غير قياس كمزيد. وقرىء ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ ﴾ وأأيدناه أيّد فعّل وأأيد أفعل وكلاهما من الأيد وهو القوة أي قويناه.﴿ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ ﴾ جبريل عليه السلام. والقدس: الطهارة. وقرىء القدس بضمتين وبإِسكان الدال وبواو بعد ضمة الدال وفي الحديث اهج وروح القدس معك. ومرة قال: وجبريل معك. قيل: وخص عيسى بذكر جبريل عليهما السلام معه إذ كان هو الذي بشر مريم بولادته وتولد عيسى بنفخه ورباه في جميع أحواله وكان يسير معه حيث سار وكان معه حين صعد إلى السماء.﴿ أَفَكُلَّمَا ﴾ الاستفهام للتوبيخ وكلما تقتضي التكرار.﴿ جَآءَكُمْ رَسُولٌ ﴾ والخطاب لبني إسرائيل إذ كانوا على طبع رجل واحد من سوء الأدب وتكذيب الرسل وكثرة سؤالهم والشك فيما أتوهم به واجتمع في الخطاب الأسلاف والأخلاف الذين هم معاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هم راضون بأفعال أسلافهم وقد كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعموه السم وسحروه. وأسند الهوى إلى الأنفس لا إلى ضمير الخطاب اشعار بأنها تسند إليها السيئات غالباً.﴿ ٱسْتَكْبَرْتُمْ ﴾ أي تكبرتم من قبول ما أتى به.﴿ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ ﴾ والعطف بالفاء فيه تعقيب التكذيب أي لم تنظروا فيما أتى به بل استكبرتم عن قبول ما أتى به وأعقبتموه بالتكذيب إذ لم يقدروا على قتله.﴿ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴾ واستغنى بذكر قتله عن ذكر تكذيبه وذكر أقبح فعلهم وثم محذوف أي ففريقاً منهم كذبتم وآخر تقتلون مضارعاً محكياً به الحالة الماضية وتصورت كأنها ملتبس بها مشروع فيها ولمناسبة رؤوس الآي.
﴿ وَقَالُواْ ﴾ الضمير لأبناء اليهود الذين بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.﴿ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ جمع أغلف وهو الذي لا يفقه كاحمر وحمرا والغلاف: الغشاء، وأصله: التثقيل كخمار وخمر قالوا ذلك بهتاً.﴿ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي طردهم الله وأبعدهم. وقرىء غلف بسكون اللام وبضمها.﴿ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴾ ما زائدة وانتصب قليلاً على أنه حال على رأي سيبويه، أو نعت لمصدر محذوف على المشهور وتقليل إيمانهم بحسب متعلقة. (وقال) الزمخشري: ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم. تبع ابن الأنباري إذ قال: المعنى: فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً. وهذا لا يصح لأن قليلاً انتصب بالفعل المثبت فصار نظير ممت قليلاً وللقليل الذي يراد به النفي المحض مواضع ذكرها النحويون وهو قولهم أقل رجل يقول ذلك وقل رجل يقول ذلك وقلما يقوم زيد وقليل من الرجال يقول ذلك وقليلة من النساء تقول ذلك. وإذا تقرر هذا فحمل القلة هنا على النفي المحض ليس بصحيح.﴿ وَلَمَّا جَآءَهُمْ ﴾ الضمير عائد على اليهود نزلت فيهم حين كانت غطفان تقاتلهم وتهزمهم وكانوا يلقون من العرب أذى كثيراً حتى أن الأوس والخزرج حاربوهم فغلبوهم.﴿ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾ هو القرآن وصفه بكونه من عند الله جدير أن يقبل ويتبع ما فيه ويعمل بمضمونه إذ هو وارد من عند خالقهم وفي مصحف أبي.﴿ مُصَدِّقٌ ﴾ بالنصب أي.﴿ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ من التوراة والإِنجيل ونصبه على الحال من كتاب تخصص بالوصف.﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل مجيء الكتاب.﴿ يَسْتَفْتِحُونَ ﴾ أي يستنصرون.﴿ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ وهم المشركون الذين يقاتلونهم أو يفتحون عليهم بأنه قد أظل زمان نبي يبعث نتبعه ومجيء الكتاب يستدعي من ينزل عليه الكتاب وهو النبي وجواب لما تقديره كذبوه.﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ ﴾ أي ما سبق لهم تعريفه للمشركين كفروا به وجحدوه وهذا أبلغ في ذمهم إذ كفروا بما علموا كقوله:﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ﴾[النمل: ١٤].
وما: كناية عن الكتاب إذ هو المتقدم في الذكر لما كفرا بما جاءهم من عند الله، وتضمن كفرهم بالكتاب كفرهم بمن جاء به استهانة بالمرسل والمرسل قابلهم تعالى بالاستهانة والطرد وجعل اللعنة مستغلية عليهم جللهم بها. وألْ في الكافرين للعموم واندرج فيهم اليهود أو أقيم الظاهر مقام المضمر إشعاراً بالوصف الذي استحقوا به اللعنة. (وقال) الزمخشري: ويجوز أن تكون للجنس ويدخلون فيه دخولاً أوّلياً ويعني بالجنس العموم، ودلالته على كل فرد فرد دلالة متساوية فليس بعض الأفراد أولى من بعض.
﴿ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ ﴾ اختلف في إعراب تركيب بئسما اختلافاً كثيراً والذي نختاره مذهب سيبويه إن ما: معرفة تامة. كأنه قال: بئس الشيء. والمخصوص بالذم محذوف تقديره شيء اشتروا به أنفسهم وإن يكفرُوا بدل من ذلك المحذوف. ومذهب الكسائي والفراء: ان ما موصولة اسمية وان يكفروا المخصوص بالذم. وقد عزى ابن عطية هذا القول إلى سيبويه وهو وهم على سيبويه. واشتروا: باعوا. والذي أنزل الله القرآن والتوراة والانجيل إذ فيهما التبشير برسول الله صلى الله عليه وسلم والتنبيه على اسمه وصفته.﴿ بَغْياً ﴾ حسداً وظلماً وانتصاب بغيا على أنه مفعول من أجله والعامل أن يكفروا.﴿ أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ ﴾ ان مع الفعل بتأويل المصدر أي بغوا لإنزال الله. وتخفيف ينزل وجميع المضارع وتشديده قراءتان إلا ما وقع الاجماع من السبعة على تشديده وهو وما ننزله إلا بقدر معلوم.﴿ مِن فَضْلِهِ ﴾ من لاتبداء الغاية.﴿ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ هو محمد صلى الله عليه وسلم حسدوه لما لم يكن منهم وكان من العرب وعز النبوة من يعقوب عليه السلام كان في إِسحاق فختم بعيسى عليه السلام ولم يكن من ولد إسماعيل نبي سوى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فختمت النبوة على غيرهم.﴿ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ﴾ أي مترادف متكاثر.﴿ وَلِلْكَافِرِينَ ﴾ أل للعهد أو للجنس.﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ ﴾ هم من بحضرته عليه السلام من اليهود ذمّوا بما صدر من آبائهم وأسلافهم من قتل الأنبياء إذ كانوا راضين بأفعالهم.﴿ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ هو القرآن أو الكتب الالهية التي منها القرآن.﴿ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ﴾ وهو التوراة وما جاءهم على لسان أنبيائهم.﴿ وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ ﴾ جملة مستأنفة الاخبار عنهم. بما وراءه أي بما جاء بعد كتابهم وهو القرآن.﴿ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ حال مؤكدة لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضاً فالتصديق لازم لا ينتقل.﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ ﴾ الفاء جواب شرط مقدر دل عليه المعنى أي قل لهم إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم تقتلون أنبياء الله لأن الإِيمان بالتوراة واستحلال قتل الأنبياء لا يجتمعان وجاء تقتلون وإن كان قتل أسلافهم الأنبياء قد مضى تنبيهاً على أن جاحدي الرسول لهم حظ في ذلك بالرضا. وفي إضافة أنبياء إلى الله تشريف عظيم لهم وإن من جاء من عند الله جدير أن يعظم وأن ينصر.﴿ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ شرط جوابه محذوف أي فلم فعلتم ذلك وهي جملة مؤكدة حذف الشرط أولاً وجوابه فلم وحذف الجواب ثانياً وشرطه مذكور.
﴿ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾ أي الآيات الواضحة.﴿ ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي من بعد مجيئه لكم بالآيات.﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ﴾ كرر هذا لدعواهم أنهم مؤمنون بما أنزل عليهم وهم كاذبون إذ في التوراة افراد الله تعالى بالعبادة لا عبادة العجل وهناك أعقب عبادة العجل بذكر العفو عنهم وتعداد النعم عليهم وهنا أعقب ذلك بالتقريع لهم والتوبيخ.﴿ وَٱسْمَعُواْ ﴾ أي متدبرين لما سمعتم أو أطيعوا.﴿ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾ قال ابن عباس: كانوا إذا نظروا العذاب قالوا سمعنا وأطعنا وإذا نظروا إلى الكتاب.﴿ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ ﴾ معطوف على قالوا أو حال أي وقد اشربوا والعامل قالوا.﴿ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ ﴾ أي حب العجل والاشراب المخالطة.﴿ بِكُفْرِهِمْ ﴾ الباء للسبب أي الحامل لهم على عبادة العجل كفرهم السابق.﴿ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ ﴾ تقدم اختيارنا في إعراب ما والمخصوص بالذم محذوف أي عصيانكم وعبادتكم العجل وإيمانكم على سبيل التهكم أو إيمانكم الذي زعموا في قلوبهم نؤمن بما أنزل علينا.﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ قد يخرج الشرط على جهة الامكان ومعلوم من خارج أنه ليس على جهة الامكان بل متعين امتناعه كقوله:﴿ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ﴾[المائدة: ١١٦] ومعلوم أنه لم يقله. وكذلك هذا معلوم أنهم غير مؤمنين. وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله أي فبئسما يأمركم به إيمانكم.(وقال ابن عطية): الجواب متقدم ولا يتمشى قوله هذا إلا على مذهب من يجيز تقدم جواب الشرط وليس مذهب جمهور البصريين ولو فرضناه جواباً للزوم دخول الفاء، لأن الفعل الجامد أو الدعاء إذا وقع جواباً لزمته الفاء. وقيل: إن نافية، قالت اليهود: إن الله لم يخلق الجنة إلا لإِسرائيل وبنيه، فنزلت:﴿ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً ﴾ والدار الآخرة الجنة وذلك معهود في إطلاقها أو على حذف مضاف أي نعيم الدار الآخرة وحضرتها ومعنى عند الله: في حكم الله. كقوله:﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ ﴾[النور: ١٣].
وخالصة: مختصة بكم لاحظ لغيركم فيها وخبر كانت لكم. وخالصة حال. ولا يجوز أن يكون الظرف إذ ذاك الخبر لأنه لا ليستقل معنى الكلام به وحده ودون لفظة تستعمل للاختصاص وقطع الشركة تقول: هذا لي دونك أو من دونك، أي لا حق لك فيه ولا نصيب وفي غير هذا الاستعمال تأتي بمعنى الانتقاص في المنزلة أو المكان أو للمقدار والمراد بالناس غير اليهود.﴿ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ ﴾ أي بقلوبكم وسلوه بالقول.﴿ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في دعواكم خلوص الجنة لكم وحدكم. وقرىء: فتمنوا الموت - بكسر الواو وبالفتح والضم - وجواب الشرط محذوف، أي فتمنوه لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اختار أن يتخلص من دار الأكدار وينتقل إلى دار القرار.﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ﴾ هذا من المعجزات لأنه اخبار بالمغيب كقوله:﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ ﴾[البقرة: ٢٤].
وفي الحديث:" لو تمنوا الموت لَغُصّ كل إنسان بريقه فمات مكانه ولما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات "ولما علم اليهود صدقه أحجموا عن تمنيه فرقاً من الله أن يميتهم. وابدا: يقتضي استغراق أعمارهم خلافاً لمن زعم أن ذلك مختص بعهد الرسول عليه السلام ثم ارتفع بوفاته أو كان ذلك في أيام كثيرة عند نزوله.﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ من تكذيب الأنبياء وقتلهم إياهم وعبادة العجل وغير ذلك من مخازيهم وأسند التقديم لليد إذ هي عظم الأعضاء في التصرف.﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمينَ ﴾ تهديد.
﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ ﴾ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. ووجد بمعنى علم يتعدى إلى اثنين وهو قول من وقفت على كلامه من المفسرين في تجد هنا ويحتمل أن يكون بمعنى لقي وأصاب وأحرص حال أن قلنا أن إضافته غير محضة وقد أضيفت إلى اسم معرفة فيجوز الافراد كهذا والمطابقة كقوله: أكابر مجرميها، وتعين الافراد ليس بصحيح خلافاً لمن قاله والضمير عائد على اليهود. و ﴿ ٱلنَّاسِ ﴾ ألْ فيه للجنس.﴿ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾ هم المجوس أو مشركوا العرب لأن من لا يؤمن ببعث فليس عنده إلا نعيم الدنيا أو بؤسها ونكر حياة أي أدنى حياة وهو أقل ما ينطلق عليه اللفظ وقرىء على الحياة ومن يحتمل أن يكون مندرجاً تحت ما قبله مراعاة للمعنى، إذ معناه: إحرص من الناس. أو يكون التقدير واحرص من الذين أشركوا وحذف إحرص لدلالة السابق عليه وهو تخصيص بعد تعميم وفيه أعظم توبيخ لليهود إذ هم أهل الكتاب يرجون ثواباً ويخافون عقاباً ويحتمل أن لا يكون مندرجاً بل أخبر أنه من الذين أشركوا قوم.﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ ﴾ وحذف المبتدأ كما حذف في قولهم: منا ظعن ومنا أقام. وعلى القول الأول يكون يود استئناف إخبار أحدهم، أي واحد منهم وهو عام عموم البدل. و " لو " عند بعض الكوفيين مصدرية بمعنى أن التقديران " يعمر " وعلى قواعد البصريين لو على بابها ومفعول يود محذوف أي التعمير لدلالة لو يعمر وجواب لو محذوف أي لسر لذلك وودّه. وقال الزمخشري: فإِن قلت كيف اتصل لو يعمر بيود أحدهم؟ قلت: هو حكاية لودادتهم ولو في معنى التمني وكان القياس لو أعمر إلا أنه جرى على لفظ الغيبة قوله: يود أحدهم. كقولك: حلف بالله ليفعلن. انتهى كلامه وفيه بعض إبهام وذلك أن يود فعل قلبي وليس فعلاً قولياً ولا معناه معنى القول، وإذا كان كذلك فكيف يقول هو حكاية لودادتهم إلا أن ذلك لا يسوغ إلا على تجوز وذلك أن يجري يود معنى يقول، لأن القول ينشأ عن الأمور القلبية فكأنه قال: يقول أحدهم عن ودادة من نفسه لو أعمر ألف سنة وما هو أي أحدهم وهو اسم ما إن كانت حجازية ومبتدأ إن كلت تميمية. و ﴿ بِمُزَحْزِحِهِ ﴾ في موضع الخبر. وان يعمر: فاعل بمزحزحة، أي: وما أحدهم بمزحزحة.﴿ مِنَ ٱلْعَذَابِ ﴾ تعميره وقالت مزقة: هو عماد وذلك أن العماد في مذهب بعض الكوفيين يجوز أن يتقدم مع الخبر على المبتدأ فإِذا قلت: ما زيد هو القائم. جوزوا أن يقول: ما هو القائم زيد. فتقدير الكلام عندهم وما تعميره هو بمزحزحة ثم قدم الخبر مع العماد فجاء وما هو بمزحزحة من العذاب.﴿ أَن يُعَمَّرَ ﴾ أي تعميره ولا يجوز ذلك عند البصريين لأن شرط الفصل عندهم أن يكون متوسطاً. وأجاز أبو علي في الحلبيات ان يكون هو ضمير الشأن وهذا ميل منه إلى مذهب الكوفيين وهو أن نفسر ضمير الشأن وهو المسمى عندهم بالمجهول يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم اسناداً معنوياً نحو: ظننته قائماً زيد وما هو بقائم زيد، فهو مبتدأ ضمير مجهول عندهم، وبقائم في موضع الخبر، وزيد فاعل بقائم، فكأنّ المعنى عندهم: ما هو يقوم زيد. ولا يجوز في مذهب البصريين أن يفسر إلا بجملة مصرح بجزأيها سالمة من حرف جر. وقرىء ﴿ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ بالياء جرياً على الغيبة، وبالتاء على سبيل الالتفات ويتضمن التهديد والوعيد وكنى ببصير عن عليم مبالغة في إدراك الخفيات.
﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ ﴾ جبريل: اسم ملك علم ممنوع الصرف للعلمية والعجمة وليس مشتقاً ولا مركباً تركيب حضرموت. وأجمع أهل التفسير أن اليهود قالوا: جبريل عدونا لكونه يأتي بالهلاك والخسف والجدب ولدفاعه عن بخت نصّر، حين أردنا قتله حتى خرّب بيت المقدس وأهلكنا، ولكونه يطلع محمداً على سرّنا والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بقل ومن شرطية.﴿ فَإِنَّهُ ﴾ أي جبريل.﴿ نَزَّلَهُ ﴾ أي القرن. وصرح الزمخشري: بأن الجواب فإِنه نزله وهو خطأ لعرو الجملة من ضمير يعود على اسم الشرط بل الجواب محذوف لدلالة ما بعده عليه، أي فعداوته لا وجه لها ولا يبالي بها. و ﴿ مُصَدِّقاً ﴾ حال من مفعول نزله ومناسبة دليل الجزاء للشرط هو أن من كان عدواً لجبريل فعداوته لا وجه لها لأنه هو الذي نزل القرآن المصدق للكتب والهادي والمبشر لمن آمن ومن كان بهذه المثابة فينبغي أن يحب ويشكر إذ كان به سبب الهداية والتنويه بما في أيديهم من كتب الله وأتى بلفظ على التي تقتضي الاستعلاء، إذ هو حمليه متابع لما يلقى إليه مطيع بالعمل بما يقتضيه والقلب محل العقل والعلم وتلقي الواردات وجاء قلبك بكاف الخطاب تشرفاً له عليه السلام.﴿ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ أي بأمره وتمكينه إياه من هذه المنزلة.﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ ﴾ عداوة العبد لله مجاز ومعناه مخالفة الأمر.﴿ وَمَلاۤئِكَتِهِ ﴾ اندرج فيهم جبريل.﴿ وَرُسُلِهِ ﴾ أي من بني آدم وممن أرسله الله من الملائكة.﴿ وَجِبْرِيلَ ﴾ قرنه تعالى باسمه واندرج تحت عموم الملائكة والرسل، ثم أفرده بالذكر تخصيصاً له وتشريفاً. ونص على ميكال وهو الذي قالت اليهود: لو كان ميكائيل صاحب محمد لابتغاه لأنه يأتي بالخصب والسلم وقرنهما معاً تنويهاً بهما وإن من بغض جبريل ببغض ميكال وقرىء جبريل وجَبريل وجبرئيلُ وجبرئل وجبرييلّ وجبرآئيل وجبرايل وجبرال وجبرين وجبرآئن. وقال أبو جعفر النحاس: جمع جبريل جمع التكسير على جباريل على اللغة العالية، وميكال اسم ملك. وقرىء: وميكال وميكاييل وميكائيل وميكايل وميكييل وجواب الشرط محذوف أي فهو كافر لدلالة ما بعده عليه أو فإِن الله وأقام الظاهر مقام المضمر أي عدو له وفيه نص على علة العداوة وعداوة الله للعبد مجازاته على مخالفته.
﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ ﴾ هو التفات.﴿ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ أي واضحة الدلالة لا الباس فيها فعدم الإِيمان بها ليس بشبهة.﴿ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ ٱلْفَاسِقُونَ ﴾ أي الكافرون. وألْ للجنس أو للعهد في اليهود لأن سياق ما قبله وما بعده يدل عليهم.﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ﴾ نزلت في مالك بن الصيف. ويقال: ابن الصيب، قال: والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وتدل كلما على تكرير العهد فيدخل فيه العهد الذي أخذ عليهم أن محمداً إن بعث ليؤمنن به وليكونن معه وعهد قريظة والنضير وقرىء بفتح الواو ويقدره الزمخشري اكفروا بالآيات البينات. وكلما وتقدم ان مذهب النحاة في هذا ونظائره واكلما وقدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام وقرىء أو بسكون الواو وخرجه الزمخشري على العطف على الفاسقين وقدره وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهد الله مراراً كثيرة. " انتهى ". وَيَنْبَو هذا التركيب عن إفادة هذا المعنى وخرج على أنّ أو بمعنى بلْ وهو رأي كوفي. والأولى عندي تخريج ذلك على أنّ أو بمعنى الواو إذ قد ثبت وجود ذلك في لسان العرب، وانتصب عهداً على أنه مصدر على غير المصدر أي معاهدة أو على أنه مفعول به لتضمن عاهدوا معنى أعطَوْا. نبذة: أي طرحه كناية عن نقضه كأنّ العهد شيء مجسّد رمي به فريق منهم. الفريق: اسم جمع لا واحد له يطلق على القليل والكثير وهنا استعمل في القليل لدلالة قوله:﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ وبل للانتقال من خبر إلى خبر. والضمير في أكثرهم عائد على من عاد عليه ضمير عاهدوا أو عائد على الفريق وأكثرهم لا يؤمنون مبتدأ وخبر.
﴿ وَلَمَّآ جَآءَهُمْ ﴾ أي اليهود.﴿ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾ هو محمد صلى الله عليه وسلم ففيه التفات إذ خرج من خطاب إليك إلى اسم الغائب ووصف بأنه من عند الله تفخيماً لشأنه إذ الرسول على قدر المرسل ووصفه بأنه:﴿ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ وتصديقه كونه على الوصف الذي ذكر في التوراة وعلى ما جاء في الكتب الالهية وكونه مصدّقاً لما معهم من الكتب الالهية. وقرىء مصدقاً على الحال.﴿ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ﴾ وهو التوراة.﴿ كِتَٰبَ ٱللَّهِ ﴾ وهو القرآن.﴿ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ ﴾ هو مثل يضرب لمن أعرض عن الشيء جملة تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره ودُبَرَ أذنه. و ﴿ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ جملة حالية. أي لا يعلمون أنه كتاب الله لا يداخلهم فيه شك لثبوته عندهم وإنما نبذه على سبيل المكابرة والعناد أو لا يعلمون ما أمروا به من اتباع الرسول عليه السلام.﴿ وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ ﴾ قتلوا أي تتبع أو تقرأ وهو مضارع في معنى الماضي أي ما قلت والظاهر أن الشياطين هم الجن وقرىء الشياطون. وقالت العرب: بستان فلان حوله بساتون.﴿ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ ﴾ أي على شرعه ونبوته وحاله كتبت الشياطين السحر واختلقته ونسبته إلى سليمان وآصف.﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ ﴾ تنزيه له عليه السلام من الكفر. أي ليس ما اختلقته الجن تعاطاه سليمان لأنه كفر. وفيه نفي الشيء عن من لا يمكن وقوعه منه. وفي الحديث لما ذكر الرسول عليه السلام سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود: انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحراً.﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ ﴾ وقرىء ولكن بالتشديد ونصب الشياطين وبالتخفيف والرفع ووقعت لكن بين نفي وإثبات وهي بسيطة وجهة الاستدراك أنه لما نفي الكفر عن سليمان وكان الشياطين قد سخرت له بحيث يستعلمهم فيما يشاء فقد يتوهم أنهم لا يكفرون إذ هم في خدمة نبي فاستدرك أنهم كفروا.﴿ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ ﴾ وهو الظاهر والأقرب أو اليهود العائد عليهم ضمير واتبعوا وهي استئناف اخبار واختلفوا في حقيقة السحر على أقوال ونص القرآن والحديث أنه تخييل ولا شك في وجوده في زمان الرسول عليه السلام وأما في زماننا الآن فكلما وقفنا عليه من كتبه فهو كذب وافتراء لا يترتب عليه شيء ولا يصح منه شيء البتة.﴿ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ ﴾ وما أنزل معطوف على السحر قيل أو على ما تتلو أو على ملك سليمان وهما ضعيفان للفصل بينهما بثلاث جمل والذي قال: ما نافية ينافي قوله.﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ ﴾ وقرىء الملكين - بفتح اللام وكسرها - وقال ابن عباس: هما رجلان ساحران كانا ببابل لأن الملائكة لا تعلم الناس السحر." انتهى ". وعلى فتح اللام إطلاق الملكين عليهما مجاز وجه المجاز أنهما يعلمان ما قذف في قلوبهما وعبر عنه بالانزال فكأنهما ملكان يلقيان للناس ما ليس معهوداً لهم.﴿ بِبَابِلَ ﴾ قال ابن مسعود: هي في سواد الكوفة.﴿ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ ﴾ عطف بيان أو بدل وهما أعجميان وقول من قال مشتقان من الهرت والمرت خطأ.﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ﴾ قرىء بالتشديد والتخفيف واحد هنا المستعمل في النفي لا بمعنى واحد.﴿ حَتَّىٰ يَقُولاَ ﴾ غاية أي إلى أن يقولا.﴿ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ﴾ قال علي كرم الله وجهه: كانا يعلمان تعليم إنذار لا تعليم دعاء إليه كأنهما يقولان لا تفعل كذا فيكون منه كذا.﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ ﴾ أي فهم يتعلمون أو هو معطوف على يعلمان المنفية لكونها موجبة في المعنى.﴿ مِنْهُمَا ﴾ أي من هاروت وماروت.﴿ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾ أي يفرقون الالفة والمحبة بحيث تقع البغضاء أو تفريق الذين بحيث إذا تعلم فقد كفر. وقرىء المرء بتثليث الميم وبالهمز والمر بكسر الراء وبشدها من غير همز فيهما.﴿ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ ﴾ أي بما يفرقون.﴿ مِنْ أَحَدٍ ﴾ وقرىء بضاري وخرج على حذف النون من اسم الفاعل وإن لم يكن فيه ألْ وله نظير في نثر العرب ونظمها وقيل حذفت لأجل الاضافة إلى أحد وفصل فيه بين المتضايفين كقوله: هما إخواني في الحرب من لا أخاله إذا خاف يوماً بنوه فدعاهما. وهذا اختيار الزمخشري ثم استشكل ذلك لأن أحداً مجرور بمن فكيف يمكن أن يعتقد فيه أنه مجرور بالاضافة فقال: فإِن قلت: كيف يضاف إلى أحد وهو مجرور بمن قلت جعل الجار جزأ من المجرور. " انتهى ". وهذا التخريج ليس بجيد لأن الفصل بين المتضايفين بالظرف والجار والمجرور من ضرائر الشعر وأقبح من ذلك أن لا يكون ثم مضاف إليه لأنه مشغول بعامل آخر فهو المؤثر فيه لا الاضافة وأما جعل حرف الجر جزأً من المجرور فهذا ليس بشيء لأنه يؤثر فيه وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء. ومن في من أحد زائدة وقياسها أن تزاد في المفعول المعمول للفعل الذي يباشره حرف النفي نحو: ما ضربت من أحد وهنا حملت الجملة من غير الفعل والفاعل على الجملة منهما لأن المعنى وما يضرون من أحد.﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ استثناء مفرع من الأحوال فهو حال من فاعل بضارين.﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ ﴾ لم يقتصر على ضرر من يفعل به ذلك بل يحصل الضرر لمن يفرق بينهما.﴿ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ﴾ معطوف على جملة ما يضرهم والضمير في علموا عائد على من عادت عليه الضمائر. قيل: وعلموا معلقة فإِن كانت متعدية لواحد كانت الجملة في موضعه أو لاثنين كانت في موضعهما ويظهر الفرق في العطف واللام في:﴿ وَلَقَدْ ﴾ جواب قسم محذوف. ومن، موصولة، واللام فيهما معلقة، ويبعد أن تكون من شرطاً، ولمن: جواب قسم وضمن فعل الشرط لفظاً ومعنى والضمير المنصوب في:﴿ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ ﴾ عائد على السحر.﴿ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ ﴾ الجملة خبر من أن كانت موصولة وجواب القسم إن كانت شرطاً. والخلاق: النصيب.﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ ﴾ تقدم الكلام في بئسما. شروا: باعوا.﴿ بِهِ ﴾ أي بالسحر.
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ ﴾ في موضع مبتدأ وعلى مذهب المبرد في موضع الفاعل بفعل محذوف، أي ولو ثبت إيمانهم ولو هنا هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره.(وتجويز) الزمخشري فيها التمني بعيد جداً وجواب لو محذوف تقديره لأثيبوا وحذف جواب لو لدلالة المعنى عليه كثير، واللام في لمثوبة لام قسم، وقيل: اللام في " لمثوبة " هي الداخلة في جواب لو، والجواب هو الجملة الاسمية وهو اختيار الزمخشري. ولم يعهد في لسان العرب مجيء جواب لو جملة إسمية إلا هذا المختلف في تخريجه ولا تثبت القواعد الكلية بمثل هذا المحتمل الخارج عن النظائر والمثوبة الثواب وقرىء لَمثوبَةْ - بفتح الميم - كمشورة والتصحيح شاذ وكان القياس لمثابة.(ح) ذو تكون بمعنى صاحب وتثني وتجمع وتؤنث وتلزم الاضافة لاسم جنس ظاهر وفي إضافتها إلى ضمير الجنس خلاف المشهور المنع ولا خلاف أنه مسموع لكن من منع ذلك خصه بالضرورة وإضافته إلى العلم المقرون به في الوضع أو الذي لا يقرن به في أول الوضع مسموع فمن الأول قولهم ذو يزن وذو جدن وذرو عين وذو الكلاع فتجب الاضافة إذ ذاك. ومن الثاني قولهم في تبوك وعمرو وقطري ذو تبوك وذو عمرو وذو قطري والأكثران لا يعتد بلفظ ذو بل ينطق بالاسم عارياً من ذو وما جاء من إضافته لضمير العلم أو لضمير مخاطب لا ينقاس كقولهم اللهم صل على محمد وعلى ذويه وقول الشاعر: وإنا لنرجو عاجلاً منك مثل ما رجوناه قدماً من ذويك الأفاضلوسيبويه يذهب إلى أن وزنه فعل بفتح العين وقال الخليل فعل بسكونها واتفقوا على أنه يجمع على أفعال في التكسير قالوا اذواء وذو من الأسماء الستة التي تكون في الرفع بالواو وفي النصب بالألف وفي الجر بالياء وإعراب ذو كذا لازم بخلاف غيرها من تلك الأسماء فذلك على جهة الجواز وفيما أعربت به هذه عشرة مذاهب ذكرت في النحو وقد جاءت ذو موصولة وذلك في لغة طيء ولها احكام ولم يقع في القرآن والوصف بذو أشرف عندهم من الوصف.﴿ يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ هذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة بالنداء الدال على الاقبال عليهم.﴿ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا ﴾ هو أمر من المراعاة يقتضي المشاركة مع من يعظم غالباً أي ليكن منك رعى لنا ومنا رعى لك نهوا أن ينطقوا بلفظ يقتضي المشاركة مع من يعظم وتضمن هذا النهي. والنهي عن كل ما يكون فيه استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما إن صح أن اليهود لعنهم الله كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ يقصدون به الغضّ منه عليه السلام. قال محمد بن جرير رحمه الله: هي كلمة كره الله أن يخاطب بها نبيّه عليه السلام. وقرىء راعناً - بالتنوين - وخرج على أنه نعت لمصدر محذوف، أي قولاً راعناً أي: متصفاً بالرعن.﴿ وَقُولُواْ ٱنْظُرْنَا ﴾ قراءة الجمهور موصول الهمزة مضموم الظاء والأصل في نظر البصرية ان تعدى بالى ثم يتسع فيه فيعدي بنفسه كقوله تعالى:﴿ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾[الحديد: ١٣].
وقال الشاعر: ظاهرت الجمال والحسن ينظرن كما تنظر الأراك الظباءأي إلى الاراك فيكون أنظرنا من نظر العين الذي يصحبه التدبر في حال المنظور إليه وقرىء انظرنا بقطع الهمزة وكسر الظاء أي اخرفا وامهلنا حتى نتلقى عنك.﴿ وَٱسْمَعُواْ ﴾ أي سماع قبول وطاعة لما نهيتم عنه وما أمرتم به.﴿ وَلِلكَافِرِينَ ﴾ عام في اليهود وغيرهم ذكر أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: وددنا لو كان خيراً مما نحن عليه فنتبعه فاكذبهم الله بقوله:﴿ مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾ وهم اليهود والنصارى الذين بحضرته عليه السلام.﴿ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ مشركوا العرب وغيرهم ومن للتبعيض ومن أثبت أن من لبيان الجنس قال ذلك هنا وبه قال الزمخشري: ولا المشركين معطوف على أهل الكتاب، وكونه معطوفاً على الجوار كلام لغير نحو ودخلت لا للتوكيد. ومن في:﴿ مِّنْ خَيْرٍ ﴾ زائدة تدل على استغراق الجنس وحَسُنَ زيادتها وإن كان ينزل لم يباشر حرف النفي لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى لأنه إذا نفيت الودادة للإِنزال كان كأنه نفي لمتعلقها وهو الانزال. ومن في: ﴿ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ لابتداء الغاية فيتعلق بخير، أو للتبعيض فيتعلق بمحذوف أي من خيور ربكم. و ﴿ يَخْتَصُّ ﴾ إن كان لازماً فمن فاعل أو متعدياً فمفعول وفي يختص ضمير يعود على الله. والرحمة النبوة. والقرآن وهو الخير الذي لا يوده الكفار. وذو بمعنى صاحب. وقيل: والوصف به أشرف من الوصف بصاحب. والفضل عام في جميع أنواع التفضلات ولما تقدم إنزال الخير وكان من المنزل ما نسخ وحولت القبلة إلى الكعبة طعن في ذلك اليهود وقالوا: يأمر أصحابه اليوم بأمر وينهى عنه غداً. فنزلت:﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ﴾ وما شرطية مفعول بننسخ. وقرىء: ننسخ من نسخ وننسخ من أنسخ والهمزة عند الفارسي للوجود كهي في أحمدت الرجل وجدته محموداً. قال: وليس نجده منسوخاً إلا بأن نسخه فتتفق القراءتان وعند الزمخشري وابن عطية الهمزة للتعدية. قال الزمخشري: وإنساخها الأمر بنسخها بأن الأمر جبريل أن يجعلها منسوخة. وقال ابن عطية: ما ننسخك من آية، أي: ما نبيح لك نسخه. جعل الاباحة إنساخاً. ومن في: من آية، للتبعيض وآية مفرد وقع موقع الجمع أي من الآيات، وليس: تمييزاً ولا من زائدة فتكون آية حالاً، أي: أيّ شيء ننسخ قليلاً أو كثيراً. ولا مفعولاً به. وما شرط مصدر أي: أيّ نسخ ننسخ آية. وقرىء ﴿ أَوْ نُنسِهَا ﴾ مضارع انسى من النسيان أي أو ما ننسك من آية. وفسر النسخ بالرفع لفظاً وحكماً أو حكماً دون لفظ، وقراءة الهمزة من التأخير.﴿ نَأْتِ ﴾ هو جواب الشرط.﴿ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ﴾ الظاهر أن خيراً أفعل التفضيل والخيرية ظاهرة لأن المأتى به إن كان أخف من المنسوخ أو المنسوء فخيريته بالنسبة لسقوط أعباء التكليف وان كان أثقل فخيريته بالنسبة إلى زيادة الثواب.﴿ أَوْ مِثْلِهَا ﴾ أي مساوٍ لها في التكليف والثواب.﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ ﴾ تقرير أي قد علمت أيها السامع. وجعله استفهاماً محضاً ومعادلة أم علمت أو أم تريدون قول من لم يذق فصاحة كلام العرب وبلاغته ووصفه تعالى بالقدرة فلا يعجزه شيء فلا ينكر النسخ لأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا مرادّ لأمره.﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ ﴾ تقرير ثان لما ذكر صفة القدرة ذكر صفة الاستيلاء والملك. ولما ذكر هاتين الصفتين اعلم أنه تعالى لا يعجزه عما يريد شيء ولا مغالب له فيما يريد اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم أنواعاً من الاقتراحات كجعل الصفا ذهباً وتوسيع أرض مكة وغير ذلك.
و ﴿ أَمْ ﴾ منقطعة تقدير ببل، والهمزة وهو استفهام على معنى الانكار، وأبرز ذلك في صورة الانكار بصيغة المستقبل وإن كان قد وقع ذلك منهم استبعاداً لوقوعه ولإِرادته.﴿ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ﴾ من نحو قولهم: اجعل لنا إلَهاً لما لهم آلهة ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. وما مصدرية في كما. وقرىء: سئل بإِخلاص الضم وبالاشمام وبالياء وبتسهيل الهمزة بين بين وضم السين وبكسرها وبالياء ومن قبل تأكيد لأن سؤال اليهود موسى متقدم.﴿ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ ﴾ هذه كناية عن الإِعراض عن الإِيمان والاقبال على الكفر، إذ لم يكن لهم إيمان سابق تبدلوا به الكفر.﴿ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ﴾ أي وسطه واعتداله وأبرز ذلك في صورة الشرط وكأنه لم يقع تنفيراً لهم وتبعيداً عن ذلك.﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾ هم اليهود. والكتاب: التوراة. وتقدم الكلام في ﴿ لَوْ ﴾ عند قوله: يود أحدهم لو يعمر. ومن جعل لِلَوْ جواباً قدره لسروا بذلك أو لفرحوا وقول من قدره لودّوا ذلك مناقض لقوله ودّ ويودّ بمعنى تصير. و ﴿ حَسَداً ﴾ مفعول من أجله وانتصابه على أنه مصدر لفعله المحذوف أو مصدر في موضع الحال ليس بجيد.﴿ مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ﴾ أي كائناً من عند أنفسهم أي الحامل لهم على الحسد هو أنفسهم الخبيثة الأمارة بالسوء.﴿ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ ﴾ أي كفرهم عناد والحق وضوح رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته.﴿ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ ﴾ هذا موادعة.﴿ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ من قتالهم وتمكينه منهم ونصره عليهم. ثم أنّس المؤمنين بذكر قدرته على كل شيء وبمخاطبتهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهما قوام الدين.
﴿ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ ﴾ يندرج في عموم هذا الخير الصلاة والزكاة.﴿ تَجِدُوهُ ﴾ أي ثوابه.﴿ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ وكني بقوله:﴿ بَصِيرٌ ﴾ عن علمه بحيث أنه لا يخفى عليه شيء وبصير من بصر أو فعيل من أفعل. اختصم يهود المدينة ونصارى نجران وتناظروا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكى الله عنهم ما قالوه ولفوا في الضمير في وقالوا لأن القول صدر من الجميع ثم جيء (با) والتي للتفصيل فعاد هودا لمن قال: كونوا هوداً ونصارى، لمن قال: كونوا نصارى، وهذه كقوله:﴿ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُواْ ﴾[البقرة: ١٣٥].
ومعلوم أن اليهوي لا يأمر بالنصرانية ولا النصراني يأمر باليهودية وهود جمع هائد كعائد وعود وهو جمع لا ينقاس في فاعل وحمل الضمير في من كان على لفظ من، فأفرد وحمل الخبر على معنى من فجمع وفي هذا وقول الشاعر:* وأيقظ من كان منكم نياماً * رد على من زعم أنه لا يجوز الجمع بين الجملتين في مثل هذه الصورة. ولن في النفي أبلغ من لا.﴿ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ﴾ جملة معترضة بين قولهم وبين طلب الدليل على صحة دعواهم أي تلك المقالة أمانيهم فإِن حمل على ظاهره فذلك من الأماني التي لا تقع بل يستحيل وقوعها والا فأمانيهم أكاذيبهم وتلك يشار بها إلى الوحدة المفردة وإلى الجمع غير المسلم من المذكر والمؤنث فحمله الزمخشري على الجمع قال: أشير بها إلى الأماني المذكورة وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم، أي تلك الأماني الباطلة. " انتهى ". وما ذهب إليه في الوجه الأول ليس بظاهر لأن كل جملة ذكر فيها ودّهم لشيء قد انقطعت وكملت واستقلت في النزول فيبعد أن يشار إليها وما ذهب إليه في الوجه الثاني فيه مجاز الحذف وفيه قلب الوضع إذ الأصل أن تكون تلك مبتدأ، وأمانيهم خبراً، فقلب هذا الوضع إذ قال: أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه، وفيه أنه متى كان الخبر مشبهّاً به المبتدأ فلا يجوز تقديمه، مثل: زيد زهير. نص على ذلك النحويون. فإِن تقدم ما هو أصل في أن يشبّه به كان من عكس التشبيه ومن باب المبالغة إذ جعل الفرع أصلاً، والأصل فرعاً، كقولك: الأسد زيد شجاعة.﴿ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ﴾ إذا ادّعى شيء طولب المدعي بالدليل على صدق دعواه وهات فعل متصرف. يقال: هاتي يهاني مهاناة. ويتصل بها الضمائر يقلل: هاتي وهايتا وهاتوا وهاتين، يتصرف تصرف راعي، والبرهان مشتق من البره وهو القطع، أو من البرهنة وهي البيان.﴿ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في دعواكم فهاتوا البرهان.
﴿ بَلَىٰ ﴾ رد لقولهم لن يدخل الجنة. والمعنى: يدخلها غيركم ممن اتصف بالوصف الذي يأتي بعد والظاهر أن من مبتدأة موصولة أو شرطية وجوز أن تكون فاعلاً بمضمر، أي: يدخلها.﴿ مَنْ أَسْلَمَ ﴾ وعبر بالوجه عن الجملة إذ هو أشرف الأعضاء، وفيه الحواس والاسلام الانقياد.﴿ للَّهِ ﴾ تعالى.﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ أي بالعمل ومراقب من يعمل له.﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ حمل على معنى من بعد تقدم الحمل على اللفظ - واليهود: ملة معروفة وهو جمع يهودي كروم ورومي يعرف الجمع بال ويهود اسم علم للقبيلة تمتنع من الصرف للعلمية والتأنيث والياء أصل، يقال: يهده وليس من مادة هوّد، يقال في هذا: هودّه. وجاز أن يكون اليهود والنصارى الذين تخاصموا بحضرة الرسول عليه السلام. وجاز أن تكون ألْ للجنس إذ كل منهم يعتقد في مقابلة ذلك ألا ترى أن اليهود أنكرت نبوة عيسى والانجيل وقالوا في عيسى عليه السلام ما قالوا وأنكرت النصارى ما عليه اليهود. وعلى شيء مبالغة في عدم الاعتداد بما هم عليه.﴿ وَهُمْ يَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ ﴾ جملة حالية تزري عليهم ما هم فيه إذ هو ناطق بخلاف ما يقولونه شاهده توارثهم ببشارة عيسى ومحمد عليهما السلام وانجيلهم بنبوة موسى ومحمد عليهما السلام والكتاب هنا التوراة والانجيل.﴿ كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ وهم مشركوا العرب قالوا: مثل قول اليهود والنصارى قالوا لكل ذي دين ليسوا على شيء. و ﴿ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ﴾ توضيح وتأكيد لمدلول كذلك لأن معناه مثل ذلك القول قال الذين لا يعلمون.﴿ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ ﴾ أي يفصل.
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ ﴾ الآية. لما جرى ذكر اليهود والنصارى وان مشركي العرب تقول مثل مقالتهم، وكانوا ساعين في خراب المواضع التي أعدت لذكر الله تعالى نزل: ومن أظلم. وكان قد تقدم لبعض ملوك الروم خراب بيت المقدس وبقي خراباً إلى زمان عمر بن الخطاب وكان المشركون أيضاً صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام وكثر في القرآن مجيء: ومن أظلم. قيل: والمعنى لا أحد أظلم. فهو استفهام معناه النفي فكان خبراً وهو نفي الأظلمية ونفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية، وإذا لم: يدل على نفي الظالمية لم يكن في تكرير ومن أظلم تناقض لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية. وإذا ثبتت التسوية فيها لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر، وصار المعنى: لا أحد أظلم ممن منع وممن افترى وممن ذكر. ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر كما أنك، إذا قلت: لا أحد أفقه من زيد وعمرو وبكر، لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر، بل نفي أن يكون أحد أفقه منهم، لا يقال: إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ولم يفتر على الله الكذب أقل ظلماً ممن جمع بينهما فلا يكون مساوياً في الأظلمية لأن هذه الآيات كلها في الكفار فهم متساوون في الأظلمية وإذا اختلفت طرق الأظلمية فكلها صائرة إلى الكفر فهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة لإِفراد من اتصف به وإنما يمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم ولعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركا فيه من المخالفة. فنقول: الكافر أظلم من العاصي. ونقول: لا أحد أظلم من الكافر. ومن في ممن موصولة.﴿ أَن يُذْكَرَ ﴾ مفعول ثان لمنع أو على إسقاط حرف الجر أو بدل اشتمال أو مفعول له على حذف مضاف، أي دخول مساجد الله وكني بذكر اسمه عن ما يوقع فيها من الصلوات.﴿ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآ ﴾ أما حقيقة كتخريب بيت المقدس أو مجازاً بانقطاع الذكر منها ومنع قاصديها إذ تؤل بذلك إلى الخراب.﴿ أُوْلَـٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ ﴾ أي ما ينبغي لهم.﴿ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ ﴾ وجلين من عقابه. فكيف لهم أن يمنعوا من ذكر اسم الله فيها ويسعوا في خرابها إذ هي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، أولئك حمل على معنى من ومن إذا كانت موصولة أو استهاماً أو شرطاً يجوز مراعاة المعنى فيها أما إذا كانت موصوفة كما أجازه أبو البقاء في ممن منع وفي مررت بمن محسن لك فليس في محفوظي من كلام العرب مراعاة المعنى فيها.﴿ لَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾ وهو الهوان والإِذلال وهو مناسب لإِخمال المساجد بمنع ذكر الله فيها.﴿ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ وهو مناسب لتخريب المساجد بتخريب هياكلهم وصورهم بالعذاب مراراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها.﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ ﴾ أباح لهم ابتداء أن يصلوا حيث توجهوا ونسخ ذلك. ويظهر انتظامها بما قبلها أنه لما ذكر منع المساجد من ذكر الله والسعي في تخريبها نبه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات ولا من ذكر الله، إذ المشرق والمغرب لله فأي جهة أدّيتم فيها العبادة فهي لله يثيب على ذلك، ولا يختص مكان التأدية بالمسجد. ومعنى تولوا: تستقبلوا بوجوهكم. فثم وجه الله، أي: جلاله وعظمته. ويستحيل أن يحمل على العضو أو على الذات.﴿ وَاسِعٌ ﴾ أي واسع المغفرة والقدرة.
﴿ وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً ﴾ قالت اليهود: عزير بن الله. وقالت النصارى: المسيح بن الله. وقال المشركون: الملائكة بنات الله. والضمير في قالوا شامل للجميع ومتى ذكر اتخاذ الولد في القرآن فلا يأتي إلا متعدياً إلى واحد ولما كان اتخاذ الولد في غاية الاستحالة قال:﴿ سُبْحَـٰنَهُ ﴾ أي تنزيهاً له عن ما نسبه إليه الكفار. ثم بين أن جميع ما في السماوات والأرض ملك له والولادة تنافي الملكية وأن الجميع.﴿ قَانِتُونَ ﴾ له مطيعون خاضعون. وما شامل لمن يعقل وما لا يعقل. وجمع بالواو والنون التي هي حقيقة فيما يعقل فاندرج فيه ما لا يعقل على حكم تغليب من يعقل. فحين ذكر الملك أتى بلفظة ما، وحين ذكر القنوت أتى بجمعٍ من يعقل، و " جنح " الزمخشري: إلى أن ما وقعت على من يعلم، قال: تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم. وقانتون: خبر كل مراعي فيه معنى كل لأنه حذف ما يضاف إليه كل والحمل على المعنى إذ ذاك أكثر وأفصح ولمراعاة الفاصلة.﴿ بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ لما ذكر المظروف ذكر الظرفين وخصهما بالبداعة، لأنهما أعظم ما نشاهده من المخلوقات. والاضافة من باب الصفة المشبهة أصله بديع سماواته والاضافة من نصيب. وقال الزمخشري: من رفع وهو قول قيل. وقيل: بديع بمعنى مبدع. ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه. وقرىء: بديع بالرفع والنصب والجر بدل من ضمير له. ولما ذكر ما دل على الاختراع ذكر سرعة تكوين ما يريد تكوينه.﴿ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً ﴾ أي أنشأ.﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ كناية عن سرعة تكوين ما أراد ولا خطاب هناك لأن المعدوم لا يؤمر والموجود لا يؤمر بإِيجاده وهو من مجاز التمثيل. وقرىء: برفع فيكون أي فهو يكون وبالنصب على جواب الأمر شبه الأمر المجازي بالأمر الحقيقي إذ الأمر الحقيقي ينتظم منه شرط وجزاء فلا بد من التغاير، إذ لا يصح تقدير أن يكنْ يكن ومن قال: إن النصب لحن فهو مخطىء والقراءة في السبعة فهي من المتواتر.
﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ هم كفار العرب وبعض اليهود اقترحوا ذلك.﴿ لَوْلاَ ﴾ بمعنى هلا.﴿ يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ ﴾ كما كلم موسى عليه السلام.﴿ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ ﴾ أي مقترحة لهم.﴿ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ وهم أسلافهم.﴿ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ في القسوة والتعنت والاقتراح. وقرىء: تشابهت بشد الشين وتخريجها مشكل.﴿ قَدْ بَيَّنَّا ٱلآيَاتِ ﴾ أي أوضحناها. فاقتراح آية مع تقدم الآيات تعنت.﴿ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ أي لمن ليس في شك ولا ارتياب ولا تغافل ولا جهل.﴿ بَشِيراً ﴾ لمن آمن.﴿ وَنَذِيراً ﴾ لمن كفروا وفي ذلك تسلية له عليه السلام وبالحق أي مصحوباً بالحق لا يفارقك وهما صفتا مبالغة فبشيراً من بشر مخففاً، ونذيراً من أنذر ومحسنه العطف فيما لا ينقاس على ما ينقاس.﴿ وَلاَ تُسْأَلُ ﴾ عن الكفار ما لهم لا يؤمنون. لأن هذا إليه تعالى. وقرىء: لا تسأل خبراً محضاً منفياً مستأنفاً سلى عليه السلام بذلك ويبعد فيه الحال. روي أن اليهود والنصارى طلبوا منه عليه السلام الهدنة ووعدوه أن يتبعوه بعد مدة خداعاً منهم وترجئة من وقت إلى وقت فأطلعه الله على سرهم، فنزلت:﴿ وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ ﴾ علق رضاهم بغاية يستحيل صدورها منه عليه السلام والمعلق على المستحيل مستحيل.﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ ﴾ أتى به مضافاً إلى الله ومؤكداً بهود ومحصوراً بألْ ثم ذكر ان ما هم عليه إهواء وضلالات. واللام في:﴿ وَلَئِنِ ﴾ تسمى الموطئة والمؤذنة بقسم مقدر قبلها ولذلك جاء الجواب:﴿ مَا لَكَ ﴾ وكان فعل الشرط ماضياً في اللفظ لأن جوابه محذوف يدل عليه جواب القسم وجمع الاهواء دلالة على كثرة الاختلاف فأضيفت إليهم لأنها بدعهم.﴿ بَعْدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ ﴾ وهو الدين والشرع الذي جاء به. وجعله علماً لأنه معلوم بالبراهين الصحيحة.﴿ مَا لَكَ ﴾ جواب القسم المحذوف المقدر قبل لام التوطئة.
﴿ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ ﴾ قال ابن عباس: نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب وكانوا اثنين وثلاثين وعلى هذا السبب فالكتاب التوراة والانجيل﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ﴾ من حسن التلفظ به وتتبع معانيه. ويتلونه: حال، والخبر: الجملة بعد ذلك، وحق: مصدر لإِضافته إلى المصدر، والضمير في به: عائد على الكتاب.﴿ وَمن يَكْفُرْ بِهِ ﴾ أي بالكتاب. حمل أولاً على لفظ من، وثانياً بأولئك على المعنى ودل الحكم بالخسران على الكافر على حصول الربح والفوز للمؤمنين.﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ كرر نداءهم تذكيراً بنعمته وكان النداء الأول عقيب ذكر متبع الهدى والكافر المكذب. وهذا الثاني عقيب ذكر المؤمنين والكافرين. وتخللت بين النداءين اخبار لبني إسرائيل كثيرة تشتمل على مخالفاتهم وتعنتهم فوعظوا وخوفوا. وتقدم الكلام على هذه الآيات والفرق بين التعيين في قوله: ولا يقبل ولا تنفعها وتقابلهما.
﴿ وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ﴾ الآية لما كانوا من نسل إبراهيم عليه السلام وعيّرت اليهود المؤمنين بتوجههم إلى الكعبة، ذكر ما ابتلي به إبراهيم واستطرد منه إلى ذكر البيت وبنائه على يد إبراهيم واسماعيل. والابتلاء: اختبار. وإبراهيم: اسم أعجمي. ويقال: ابراهام وابراهِمُ وابراهُمُ وابرَهَمُ وابرهُمُ وهو الجد الحادي والثلاثون لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو خليل الله بن تارخ بن ناحور بن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عابر، وهو هود عليه السلام. وقرأ الجمهور: بنصب إبراهيم ورفع ربه. ومعنى ﴿ بِكَلِمَاتٍ ﴾ أي كلفه بأوامر ونواه. وهذا التركيب يوجب تقديم المفعول على الفاعل عند الجمهور وقد سمع ضرب غلامَهُ زيداً وهو مقيس عند بعض النحويين. ومن قرأ بالرفع في إبراهيم والنصب فيما بعده فكني عن الدعاء بالابتلاء به ربه أي يطلب من ربه في تلك الكلمات التي دعا بها الاجابة. وللمفسرين في تعيين الكلمات أقوال كثيرة مضطربة.﴿ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ ان كان الضمير عائداً على الله فالمعنى أكملهن الله له من غير نقص، أو على إبراهيم فالمعنى: قام بهن وبأعبائهن من غير نقص.﴿ قَالَ ﴾ استئناف فالعامل في إذ محذوف أو ليس باستئناف وهو العامل في إذ. وجاعل هنا بمعنى: مصيّر فيتعدى إلى اثنين. و ﴿ لِلنَّاسِ ﴾ اما متعلقة بجاعلك أي لأجل الناس واما في موضع الحال لأنه نعت نكرة تقدمت أي.﴿ إِمَاماً ﴾ كائناً للناس. وإماماً: أي صاحب شرع يقتدي بك فيه.﴿ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾ قال الزمخشري: عطف على الكاف كأنه قال وجاعل بعض ذريتي كما يقال لك: سأكرمك. فتقول: وزيداً. " انتهى ". ولا يصح العطف على الكاف ولو صرح بالمعطوف لأنها ضمير مجرور فالعطف عليها لا يكون إلا بالعامل ولم يعد ولأن من لا يمكن تقدير الجار مضافاً إليها لأنها حرف فتقديرها بأنها مرادفة لمعنى حتى يقدر جاعلاً مضافاً إليها لا يصح والذي يقتضيه المعنى وسياق الكلام أن يكون التقدير قال: واجعل من ذريتي إماماً، لأنه فهم من قوله: جاعلك للناس إماماً: الاختصاص. فسأل الله تعالى أن يجعل من ذريته إماماً. وقرىء: بضم الذال وبكسرها وبفتحها. والذرية: النسل وفي وزنها وفيما اشتقت منها اختلاف والظاهر أن وزنها فعلية مشتقة من الذر.﴿ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ﴾ أي قال الله. وفي العهد أقوال أظهرها الامامة لأنه المصدّر به والمطلوب من إبراهيم لذريته. وهذا الجواب يربي على السؤال، لأن إبراهيم طلب من الله أن يجعل من ذريته إماماً فأجابه أنه " لا ينال " عهده الظالم. ودل مفهوم الصفة أنه يناله من ليس بظالم. ودل الجواب على انقسام ذريته إلى ظالم وغير ظالم. وفيه دليل على أن الفاسق لا يصلح للإِمامة.
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ ﴾ الظاهر أنه الكعبة. وقيل: جميع الحرم.﴿ مَثَابَةً ﴾ أي مرجعاً ومكاناً يثوبون إليه والهاء في مثابة، قال الأخفش: للمبالغة لكثرة من يثوب إليه.﴿ لِّلنَّاسِ ﴾ ظاهره العموم.﴿ وَأَمْناً ﴾ أصله مصدر. وجعل البيت أمناً مبالغة لكثرة ما يقع فيه من الأمن والظاهر أن جعله " أمناً " هو في الدنيا، إذ كان العرب يقتتلون ويغير بعضهم على بعض ومكة آمنة من ذلك فيلقى الرجل قاتل أبيه فيها فلا يهيجه، فأمن الناس فيه والطير والوحش إلا الخمس الفواسق.﴿ وَٱتَّخِذُواْ ﴾ قرىء - بكسر الخاء - أي: وقال الله اتخذوا، وهو أمر والمواجه به إبراهيم وذريته. وقرىء - بفتح الخاء - خبراً معطوفاً على جعلنا أي اتخذه الناس لاهتمام إبراهيم به وإسكانه ذريته فيه. والمقام مكان القيام.﴿ مُصَلًّى ﴾ مكان صلاة.﴿ وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا ﴾ يجوز أن تكون أن تفسيرية فسر بها العهد وإثبات كون أن مفسرة يقوله البصريون. وأنكر الكوفيون أن تكون أن تفسرية ويجوز أن تكون مصدرية، وصلت بفعل الأمر. نص سيبويه وغيره: على أن المصدرية توصل بفعل الأمر وفي هذا نظر لأنه إذا سبك من ذلك مصدراً فات معنى الأمر. وجميع ما ذكروا من ذلك محتمل ولا أحفظ من كلامهم عجبت من أن أضرب زيداً ولا يعجبني أن أضرب زيداً. والتطهير المأمور به هو التنظيف من كل ما لا يليق به من طرح القاذورات والانجاس وما لا يناسب كالأوثان والحيّض. إذ هو بيت عظيم من بيوت الله معدّ للعبادات. ولفظ بيتي يدل على سبق وجوده. للطائفين عام فيمن يطوف به من حاضر أو باد. والعاكفين المقيمين به.﴿ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ ﴾ وهم المصلون إذ الداخلون إلى الحرم اما طائف أو مقيم غير طائف أو مصل. وجمعاً جمع تكسير مقابلة لما قبلهما من جمع التصحيح تنويعاً في الفصاحة وخولف بين وزني تكسيرهما تنويعاً في الفصاحة أيضاً، وآخر السجود لأنه أنسب بالفواصل وعطفت تلك الصفتان لفرط التباين بينهما فلم يكن عطف في المتأخرتين لأن المقصود المصلون وان اختلفت الهيآت لأنهما يجمعهما شيء واحد وهي الصلاة وفي ذلك دلالة على جواز الصلاة فرضاً ونفلاً فيه.
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً ﴾ ذكر بلداً توطئة للصفة، كما تقول: كان هذا اليوم يوماً حاراً. تريد كان هذا اليوم حاراً. إذ لم يشر إليه إلا وهو بلد. وآمنا: ذا أمن، أو على الاتساع نحو نهاري صائم ولما بنى في أرض مقفرة لا ماء يجري ولا مزرعة للقطان بها دعا الله بالأمن وبجباية الأرزاق إليها وآيس من الله بقبول الامامة في ذريته سأل الله تعالى. فقال:﴿ وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ ﴾، ومن آمن بدل من أهله ولم يكن ليدعو لمن كان كافراً بل يدعو عليه، كما في الحديث:" اللهم اشدد وطأتك على مضر "ولما كانت مكة قفر الاماء بها ولا نبات بارك الله فيما حولها كالطائف وغيره وأنبت فيه أنواعاً من الخير.﴿ قَالَ وَمَن كَفَرَ ﴾.
قرىء ﴿ فَأُمَتِّعُهُ ﴾ مشدداً ومخففاً." واضطره " بفتح الهمزة وكسرها وبإِدغام الضاد في الطاء وبضم الطاء وبالنون في فتمتعه ثم نضطره. ومن في موضع رفع إما موصولة وإما شرطية. ولا يجوز أن تكون في موضع نصب على الاشتغال والضمير في قال الله تعالى. وجوزوا أن تكون في موضع نصب بفعل محذوف تقديره قال، وارزق من كفر. قال الزمخشري: ومن كفر عطف على من آمن كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك. " انتهى ". ولا يصح لأن عطفه عليه يقتضي التشريك في العامل فيصير التقدير قال إبراهيم وارزق من كفر. وينافي هذا التركيب قوله: فأمتعه قليلاً ثم اضطره. ثم قد ناقض الزمخشري قوله هذا وأساء الأدب على إبراهيم عليه السلام بما يوقف عليه في كتابه. وفي تفسيرنا هذا الموضع من كتابنا الكبير ولأبي البقاء هنا منع أن يكون من مبتدأ موصولاً ورددناه عليه هناك. وقرىء: فأمتعه قليلاً ثم أضطره، أمراً فيهما. فالضمير في: قال لإِبراهيم، ومن شرطية أو موصولة، ويجوز كون النصب على الاشتغال وانتصب قليلاً على تقدير زماناً قليلاً أو تمتعاً قليلاً. (وقول) ابن عطية في قراءة من قرأ اضطره بكسر الهمزة: انه على لغة قريش في قولهم لا إدخال بكسر الهمزة مخالف لما نقله النحاة من أن الحجازيين يفتحون حرف المضارعة مما أوله همزة وصل، ومما كان ماضيه على فعل يفعل، أو من ياء مزيدة في أوله. نحو: يعلم، وينطلق، ويتعلم. وقال الزمخشري في قراءة إدغام الضاد في الطاء: هي لغة مرذولة. وظاهر كلام سيبويه أنها ليست لغة مرذولة، ألا ترى إلى نقله عن بعض العرب في مجمع مضطجع قال: ومضطجع كثير. فدل على أن مضطجعاً كثير والاضطرار الالجاء واللز إلى العذاب والمصير مصدر أو مكان والمخصوص بالذم محذوف أي صيرورته إلى العذاب أو النار.
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ﴾ ذكروا قصصاً كثيرة في حال البيت من ماهيته وقدمه وحدوثه ومن أي شيء كان باباه ومن أي شيء بناه. " إبراهيم " ومن ساعده على البناء واستطردوا إلى أشياء يناقض بعضها بعضاً على قاعدتهم وعادتهم في ذلك. و ﴿ ٱلْقَوَاعِدَ ﴾ الجدر. وقيل: الأسس.﴿ مِنَ ٱلْبَيْتِ ﴾ متعلق بيرفع. أو في موضع الحال من القواعد.﴿ وَإِسْمَٰعِيلُ ﴾ عطف على إبراهيم فهما مشتركان في الرفع.﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ ﴾ أي يقولان ربنا تقبل.﴿ مِنَّآ ﴾ أي هذا العمل الذي قصدنا به رضاك.﴿ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ﴾ لسؤالنا وضراعتنا في التقبل.﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾ بنياتنا في إخلاص عملنا.﴿ رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ ﴾ أي مناقدين.﴿ لَكَ ﴾ وهو سؤال بالديمومية.﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ أي منقادة مطيعة. ولما تقدم لا ينال عهدي الظالمين أتى هنا بالتبعيض في وفي ذريتنا أمة.﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ أي معالم الحج وهي من رؤية العين أي بصرنا. ويقال: منسِّك ومنسِك والكسر شاذ. والناسك: المتعبّد. وقرىء: وأرنا بإِشباع حركة الراء وباختلاسها وباسكانها. وقد جعل الزمخشري أرنا من رؤية القلب وشرحها بقوله: عرف فهي عنده تأتي رأى بمعنى عَرَف أي تكون قلبية وتتعدى إلى واحد ثم أدخلت همزة النقل فتعدت إلى اثنين ويحتاج ذلك إلى سماع من كلام العرب. (وحكى) ابن عطية عن طائفة انها من رؤية البصر وعن طائفة انها من رؤية القلب. قال ابن عطية وهو الأصح: ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفعولين وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب كغير المعدي قال حطائط ابن يعفر أخو الأسود: أريني جواداً مات هزلاً لأنني أرى ما ترين أو بخيلاً مخلداإنتهى كلامه وقوله. ويلزم قائله أن يتعدى إلى ثلاثة مفعولين إنما يلزم لما ذكرناه من أن المحفوظ إن رأي إذا كانت قلبية تعدت إلى اثنين وبهمزة النقل تصير تتعدى إلى ثلاثة. وقوله: وينفصل بأنه يوجد معدي بالهمزة من رؤية القلب كغير المعدي، يعني: أنه قد استعمل في اللسان متعدياً إلى اثنين ومعه همزة النقل، كما استعمل متعدياً إلى اثنين بغير الهمزة وإذا كان كذلك ثبت أن لرأي إذا كانت قلبية استعمالين أحدهما: أن تكون بمعنى علم المتعدية لواحد بمعنى عرف، والثاني: أن تكون بمعنى علم المتعدية إلى اثنين. واستدلال ابن عطية ببيت ابن يعفر على أن أريني: قلبية، لا دليل فيه بل الظاهر أنها بصرية. والمعنى على أبصريني جواداً. ألا ترى إلى قوله: مات هزلاً فإِن هذا هو من متعلقات البصر فيحتاج في إثبات رأي القلبية متعدية لواحد إلى سماع. وقد قال ابن ملك وهو حاشد لغة وحافظ نوادر حين عدّ ما يتعدى إلى اثنين، فقال في التسهيل: ورأى لا لإِبصار ولا رأي ولا ضرب، فلو كانت رأى بمعنى عرف لنفي ذلك كما نفى عن رأي المتعدية إلى اثنين كونها لا تكون لا بصار ولا رأي ولا ضرب.﴿ وَتُبْ عَلَيْنَآ ﴾ أي ادم توبتنا.﴿ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ﴾ هي صفة مبالغة. و ﴿ ٱلرَّحِيمُ ﴾ كذلك.
﴿ رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ ﴾ أي أرسل في أهل البيت.﴿ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾ أي من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه ونشأته. كما قال تعالى:﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾[التوبة: ١٢٨].
وقبل الله تعالى دعاءه بأن كان المبعوث في الأميين هو محمد صلى الله عليه وسلم ووصفه إبراهيم بقوله:﴿ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ ﴾ أي يقرأ آيات الله وهو القرآن الذي هو أعظم المعجزات الباقي إلى آخر الدهر.﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ ﴾ أي يلقيه إليهم مفهماً لهم ومتلطفاً في إيصال معانيه إلى أفهامهم.﴿ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾ وهي السنة التي لم تكن في الكتاب كقوله:﴿ وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ ﴾[الأحزاب: ٣٤].
﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ أي يطهرهم باطناً وظاهراً والذي جاء بهذه الأوصاف هو محمد صلى الله عليه وسلم.﴿ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ﴾ أي الغالب. أو: الذي لا مثل له.﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ الآية روي أن عبد الله بن سلام دعا ابنيْ أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإِسلام فقال لهما قد علمتما أن الله قال في التوراة إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد من آمن به فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون فاسلم سلمة وأبي مهاجر فانزل الله هذه الآية. ومن استفهام فيه معنى الانكار ولذلك دخلت الا بعده والمعنى لا أحد يرغب فمعناه النفي العام. و " من " بدل من الضمير الذي في يرغب وهو أجود من النصب على الاستثناء. وانتصب " نفسه " على أنه مفعول به حكى المبرد وثعلب: ان سفه بكسر الفاء يتعدى كسفّه المشدد. وحكى أبو الخطاب أنها لغة. والمعنى استخف بها وامتهنها.﴿ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾ أي جعلناه صافياً من الادناس واصطفاؤه بالرسالة والخلة والكلمات التي وفّى بها وبناء البيت والامامة واتخاذ مقامه مصلى وتطهير البيت والنجاة من نار نمروذ والنظر في النجوم وما ترتب على ذلك وغير ذلك مما ذكره الله في كتابه.﴿ وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ ذكر حاله في الآخرة فمن كان مصطفى في الدنيا صالحاً في الآخرة فكيف يرغب عن اتباعه وفي الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه من الصالحين تقديره وانه لصالح في الآخرة. والعامل في إذ قال أسلمت أي حين أمره الله بالإِسلام قال: أسلمت وأسلم أمر بالديمومة. والاسلام: الانقياد.
وقرىء ووصى وأوصى أي عهد والضمير في بها عائد على الملة في قوله: عن ملة إبراهيم. وبنوا إبراهيم اسماعيل وهو ابن هاجر. القبطية، واسحاق، وأمه سارة، ومدين ومديان، ونقشان، ورمزان، تشناق وشواح وأم هؤلاء الستة فطوراً بنت يفطن الكنعانية، والعقب الباقي فيهم لإِسماعيل وإسحاق فقط. ويعقوب: هو اسم أعجمي منع من الصرف للعلمية والعجمة ويعقوب عربي وهو ذكر القبيح فلو سمي به انصرف وارتفع عطفاً على إبراهيم أي ووصى يعقوب بنيه أو على الابتداء أي ويعقوب وصى بنيه. وقرىء ويعقوب بالنصب عطفاً على بنيه، أي: ووصى إبراهيم ويعقوب ابن ابنه اسحاق. " يا بني " أي قال وفي ندائه بلفظ بني تلطف غريب وترجية للقبول وهَزُ لما يلقى إليهم من الموافاة على الاسلام. ولذلك صدر كلامه بقوله:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ ﴾ وما اصطفاه الله لا يعدل عنه العاقل وان عند البصريين كسرت على إضمار القول وعند الكوفيين لإِجراء الوصية مجرى القول. واصطفى: استخلصه وتخيره لكم.﴿ فَلاَ تَمُوتُنَّ ﴾ نهي عن الموت إلا على هذه الحالة من الاسلام. والنهي في الحقيقة إنما هو عن كونهم على خلاف الاسلام لا إن ذلك نهي عن الموت ونظيره في الأمر مُتْ وأنت شهيد ليس أمراً بالموت بل أمر بالشهادة نهوا عن تعاطي الأشياء التي تكون سبباً للموافاة على غير الاسلام. لما دخل يعقوب عليه السلام مصر وجدهم يعبدون الأوثان والنبيين فجمع بنيه وسألهم ما ذكر الله تعالى. وقالت اليهود: ألست تعلم أن يعقوب أوصى باليهودية فأنزل الله تعالى:﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ ﴾ أي بل كنتم شهداء، وهو استفهام إنكار، أي: لم تشهدوا وقت حضور أجل يعقوب فكيف تنسبون إليه ما لا يليق به. ودعوى الطبري ان أم يستفهم بها في وسط كلام تقدم صدره وهذا منه قول غريب (وقول) ابن عطية انها بمعنى همزة الاستفهام وانها لغة يمانية يحتاج إلى نقل صحيح والظاهر أن الخطاب لأهل الكتاب ولذلك جاء بعد وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا." وإذ " بدل من إذ. وقال الزمخشري: أم متصلة قبلها محذوف كأنه قال أتدعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الاسلام فما لكم تدّعون على الأنبياء ما هم منه برآء " انتهى ". ولا نعلم أن أحداً أجاز حذف هذه الجملة ولا نحفظ ذلك لا في شعر ولا غيره لكن جاء في شعر حذف أم مع المعطوف المعادل للهمزة نحو قوله: فما أدرى أرشد طلابها يريـد أم غـي﴿ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ استفهام بما وهي مبهمة تقع على ذوي العلم وغيرهم.﴿ مِن بَعْدِي ﴾ أي من بعد موتي خاف أن يتغيروا من بعد موته وكانوا حال حياته لا يعبدون إلا الله وشمل قوله آبائك: الجد، والعم، والأب، فالجد: إبراهيم. والعم: إسماعيل. والأب: إسحاق. والثلاثة بدل تفصيلي من آبائك وقدم إبراهيم لأنه الأصل ثم العم لأنه أسن ومن ذريّته خير العالم محمد صلى الله عليه وسلم. وانتصب.﴿ إِلَـٰهاً وَاحِداً ﴾ على أنه بدل من الهك أو على الحال والها توطئة. (وجوّز) الزمخشري أن ينتصب على الاختصاص أي يريد بآلهك آلهاً واحداً ونص النحاة على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا شبهها وفائدة هذه الحال أو البدل هو التنصيص على أن معبودهم واحد فرد إذ يوهم إضافة الشيء إلى معدودين تعداد ذلك المضاف.﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ أحد جملتي الجواب أجابوه عن الذي سألهم عنه والثاني مؤكدة لما أجابوا به. وأجاز الزمخشري أن تكون جملة اعتراض مؤكدة أي ومن حالنا أناله مسلمون مخلصون التوحيد ومذعنون. والذي ذكره النحاة: إن جملة الاعتراض تأتي مقوية بين شيئين وقد بينا ذلك في كتابنا الكبير وفي كتب النحو. ونحن له مسلمون ليست من هذا الباب وعطفها على جملة الجواب منتظمة تحت قالوا أولى مما جوزوه ابن عطية أن تكون في موضع الحال.
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ﴾ أي انقضت وصارت إلى الخلاء وهي الأرض التي لا أنيس بها. تلك: إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وما بينهما.﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ أي تختص بجزائه.﴿ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ ﴾ خطاب لليهود والنصارى والجملة من قوله لها ما كسبت استئناف أو حال من ضمير خلت ولكم ما كسبتم: عطف على لها ما كسبت على تقدير الاستئناف لا الحال.﴿ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ جملة توكيدية لما قبلها. ﴿ وَقَالُواْ ﴾ أي رؤساء اليهود ونصارى نجران لفهم معاً والضمير والمأمورون من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم واو للتفصيل فاليهود قالوا: كونوا هوداً والنصارى قالوا كونوا نصارى فالمجموع قالوا للمجموع وقال كل من الفريقين ما ناسبه.﴿ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ قرىء بالنصب أي نتبع لأن الأمر بكينونة اليهودية والنصرانية معناه اتبعوا. وقرىء بالرفع أي الهدى أو أمرنا ملة وانتصب.﴿ حَنِيفاً ﴾ على الحال من ملة لأن معناه دين إبراهيم وهي حال لازمة وأجازوا فيه الحال من إبراهيم والنصب على القطع والحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الحق.﴿ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ أي من اليهود القائلين بنبوة عزير ولا من النصارى القائلين بنبوة المسيح ولا من الذين اتخذوا الأوثان والملائكة وقالوا هم بنات الله. و ﴿ قُولُوۤاْ ﴾ أمر للمؤمنين.﴿ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا ﴾ لما ألزموا تكاليف القرآن قيل فيه أنزل إليهم.﴿ وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ﴾ هي عشر الصحف.﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ ﴾ عطفوا على إبراهيم لما كلفوا العمل بشريعته صارت الصحف كأنها منزلة إليهم، والاسباط: أولاد يعقوب وأكبرهم روبيل وشمعون ولاوي ويهودا ورفالون. وقال الجواني: النسابة فيه وزيولون ونساقا. وقال ابن عطية فيه وتشجر وذينة بنته، وامهم ليا. ثم خلف يعقوب على اختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين. وولد له من سريتين ذان وتفتالي وياشير. وقال ابن عطية فيه آشر. وكان. وقال فيه ابن عطية: جاد.﴿ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ ﴾ من التوراة والآيات.﴿ وَعِيسَىٰ ﴾ من الإِنجيل والآيات وكرر الموصول في وما أنزل لأن القرآن غير صحف إبراهيم ولم يكرر ما أوتي لأن شريعة عيسى هي شريعة موسى إلا في النزر.﴿ وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ ﴾ تعميم بعد تخصيص.﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ ﴾ أي بين الجميع واحد هو المستعمل في النفي للعموم أو أحد بمعنى واحد فحذف ما عطف عليه أي بين أحد منهم والآخر.﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ داخل في القول.
﴿ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ ﴾ أي بمثل إيمانكم. وما: مصدرية. وبه: بدل من بمثل يفيد التوكيد.﴿ وَّإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي أعرضوا عن الإِيمان.﴿ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ﴾ صار الشقاق ظرفاً لهم وهم مظروفون فيه مبالغة وإن كانت إنما للحصر فذلك أبلغ. والشقاق الخلاف والعداوة والمنازعة وهذا وعيد لهم.﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي يكفيك من شقاقهم وعداوتم بما حل بهم من القتل والسبي والنفي والجزية وتفريق كلمتهم.﴿ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ﴾ لأقوالهم.﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾ بنياتهم.﴿ صِبْغَةَ ٱللَّهِ ﴾ أي دين الله وكن عن الدين بالصبغة لظهور أثره على صاحبه ولزومه كظهور أثر الصبغ في الثوب ولزومه وانتصب انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة من قوله: قولوا آمنا، أي صبغنا الله بالإِيمان صبغته.﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ ﴾ استفهام. معناه: النفي أي لا أحد أحسن.﴿ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً ﴾ والتفصيل هنا باعتبار من يظن أن في صبغة غير الله حسناً وصبغة تمييز منقول من المبتدأ نحو زيد أحسن من عمرو وجها والتقدير ومن صبغته أحسن من صبغة الله كما يقدر وجه زيد أحسن من وجه عمرو وقل ما ذكر النحاة هذا التمييز المنقول من المبتدأ روي أن اليهود والنصارى حاجوا المسلمين. فقالوا: كان الأنبياء منا وعلى ديننا ونحن أبناء الله وأحباؤه وأهل الكتاب الأول وقبلتنا أقدم ولم تكن الأنبياء من العرب ولو كان نبياً لكان منا فنزلت. وقرىء ﴿ أَتُحَآجُّونَنَا ﴾ بنونين وبإِدغام نون الرفع في نون الضمير. والهمزة: للاستفهام ومعناه الانكار.﴿ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ﴾ جملة حالية أي كلنا مربوبون له تعالى فلا محاجة فيما شاء من أفعاله واختصاص بعض المربوبين بما خصه من الشرف والزلفى وهو المجازي على الأعمال.﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴾ أي العمل لا نبتغي به غير وجهه تعالى وفيه تعريض لليهود والنصارى بالشرك الذي هم عليه.
وقرىء ﴿ أَمْ تَقُولُونَ ﴾ بتاء الخطاب وبياء الغيبة والأحسن أن تكون أم منقطعة وتجويز الاتصال فيها وكونها معادلة. كقوله: أتحاجوننا. كما قاله بعضهم ليس بجيد لأن الاتصال يقتضي وقوع إحدى الجملتين وصار السؤال عن تعيين احداهما وليس الأمر كذلك بل وقعتا معاً أي المحاجة والمقالة فام منقطعة أنكر عليهم هذا القول كما أنكرت المحاجة.﴿ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ ﴾ حيث نفى عن إبراهيم ومن ذكر معه ما نسبتم له من اليهودية والنصرانية وتوسط هنا المسؤول عنه وهو أحسن من تقدمه وتأخره وان كانا جائزين فنقول في الكلام: أأعلم أنت أم زيد، وأأنت أم زيد أعلم.﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ ٱللَّهِ ﴾ أي لا أحد أظلم ممن كتم شهادة استقرت عنده من الله أي من استرعاه الله لأن يشهدها وكتمها. ودل هذا على أن أحبارهم كانوا عالمين بأن إبراهيم ومن معه كانوا مباينين لليهودية والنصرانية وأنه تعالى كان ذكر في كتبهم ما يباين أقوالهم ولكنهم كتموا.﴿ سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ ﴾ وهم اليهود. وجاء بالمستقبل الصريح إخباراً بالشيء قبل وقوعه فهو معجز، إذ هو اخبار بالغيب. وسفههم: هو باعتراضهم على الله سبحانه في فعله ما يشاء أيْ أي مولي المؤمنين.﴿ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا ﴾ وهي قبلة بيت المقدس وكان عليه السلام قد صلى إليها ستة عشر شهراً أو سبعة عشر وأضاف القبلة إليهم إذ كانوا قد استقبلوها طويلاً ومعنى عليها أي على استقبالها.﴿ قُل ﴾ أمر لنبيه عليه السلام وتعليم لأبطال مقالتهم.﴿ للَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ ﴾ كني بهما عن الجهات كلها فله أن يكلف عباده بما شاء من استقبال أي جهة شاء.
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ لما كان معنى يهدي من يشاء يجعل من يشاء. شبّه به أي مثل ذلك الجعل يجعل من يشاء على صراط مستقيم وهو طريق الاسلام، جعلناكم أمة وسطاً. والوسط: الخيار. وأصله ما بين الطرفين لما كانت الأطراف محل التغير والوسط محل السلامة استعير للخيار فوصف به.﴿ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ ﴾ يشمل الشهادة في الدنيا والآخرة.﴿ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ ﴾ هو محمد صلى الله عليه وسلم.﴿ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ انه قد أبلغكم ما أرسل به إليكم من شرائع الاسلام فيشهد على من اتبع الحق وعلى من أباه. وفي الحديث: أن الأمم إذا ناكرت رسلها شهدت أمة محمد عليها بالتبليغ ويؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم.﴿ وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ ﴾ أي ما صيرنا الجهة التي كنت عليها أولاً ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس قبلتك الآن. فالتي: مفعول أول، والقبلة، المفعول الثاني. والتصيير: الانتقال من حال إلى حال. فالملتبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول والملتبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني (وقال) الزمخشري: القبلة: مفعول أول، والتي: مفعول ثان. فيقال: وما جعلنا القبلة التي تحب استقبالها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة. " انتهى ".﴿ مَن يَتَّبِعُ ﴾ من للتفصيل وهو معنى غريب لمن كقوله تعالى:﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ ﴾[البقرة: ٢٢٠].
وإلا لنعلم استثناء مفرغ من المفعول له وفيه حصر السبب، ولنعلم يستحيل تجدد علم الله تعالى فهو من مجاز الحذف أي ليعلم رسولنا والمؤمنون أو أطلق العلم على التمييز، أي لنميز التابع من الناكص. ولنعلم: متعدية إلى واحد والانقلاب على العقب كناية عن الرجوع عن ما كان فيه، وهو أسوأ أحوال الراجع في مشيه. وقرىء. ليعلم بالياء مبنياً للمفعول، وعقبيه بإِسكان القاف.﴿ وَإِن كَانَتْ ﴾ أي الجعلة المفهومة من قوله: وما جعلنا.﴿ لَكَبِيرَةً ﴾ شاقة لأن من ألف شيئاً ثم فارقه شق عليه. والقول في أن واللام في، نحو: هذا التركيب مذهب البصريين إنّ أنْ هي المخففة من الثقيلة واللام للفرق بينها وبين ان النافية ومذهب الكوفيين أنّ انْ نافية. واللام بمعنى الا. وقرىء ﴿ لَكَبِيرَةً ﴾ بالرفع شاذاً وتخريجه على إضمار مبتدأ أي لهي كبيرة وهو توجيه شذوذ.﴿ إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ﴾ استثناء من محذوف أي لكبيرة على الناس إلا على الذين وليس استثناء مفرغاً لأنه لم يتقدمه نفي ولا شبه نفي إنما سبقه إيجاب سواء أفرغت في أن واللام على مذهب بصري أم كوفي.﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ أي تصديقكم بما جاء من عند الله من نسخ وغيره وقد فسر الإِيمان هنا بالصلاة لبيت المقدس. وروي أن أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ماتا قبل تحويل القبلة فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فنزلت: وقرىء: ليضيّع مشدداً واللام في ليضيّع لام والجحود. وما كان زيد ليقوم أبلغ من ما كان زيد يقوم وإن يجب إضمارها بعد لام الجحود ومذهب الكوفيين إن اللام هي الناصبة.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ ﴾ فيه معنى التعليل. وقرىء ﴿ لَرَءُوفٌ ﴾ بواو بعد الهمزة وبغير واو وبواو مضمومة بعدها واو.
﴿ قَدْ نَرَىٰ ﴾ أي قد رأينا. كقوله:﴿ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ ﴾[النور: ٦٤].
أي: قد علم. ولقد نعلم: أي علمنا. وقد قيل: قد تصرف المضارع إلى الماضي " فقال " الزمخشري في قد نرى ربما نرى ومعناه كثرة الرؤية كقوله: قد أترك القرن مصفراً أنامله* " انتهى ". ورب على مذهب الجمهور لتقليل الشيء في نظيره أو في نفسه وتركيب قد مع المضارع لا تدل على الكثرة بل ان فهمت الكثرة فمن خارج. والكثرة هنا إنما فهمت من متعلق الرؤية، لأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة لا يقال فيه: قلب بصره، وإنما يقال: قلب إذا ردد. فالكثرة فهمت من التقلب الذي هو مطاوع التقليب والوجه يراد به ظاهره كان يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى قبلة مكة أو كني بالوجه عن البصر. و ﴿ فِي ٱلسَّمَآءِ ﴾ متعلق بتقلب. كقوله:﴿ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ ﴾[آل عمران: ١٩٦].
ومن على حقيقتها أي في نواحي السماء وفي الكلام حال محذوفة والتقدير في السماء طالب قبلة غير التي كنت مستقبلها.﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ ﴾ جواب قسم مؤكد مضمون الجملة المقسم عليه، وجاء الوعد قبل الأمر لتفرح النفس بالاجابة، ثم بإِيجاز الوعد فيتوالى السرور مرتين ونكر القبلة لأنه لم يتقدم ما يقتضي العهد ووصفت بمرضية لتقرب من التعيين ومتعلق الرضا القلب وهو كان يؤثر ان تكون الكعبة وإن كان لم يصرح بذلك.﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ ﴾ أي في استقبال الصلاة.﴿ شَطْرَ ﴾ نحو المسجد الحرام. وفيه دليل على مراعاة جهة الكعبة لا عينها وأفرد أولاً بالأمر لأنه كان المنسوب إلى ذلك ثم أمرت أمته بذلك فكان حكمهم حكمه.﴿ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾ هم احبار اليهود ورؤساؤهم.﴿ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ ﴾ أي التوجه إلى المسجد الحرام هو الحق الذي فرضه الله على إبراهيم وذريته. وقرىء يعلمون بالتاء وبالياء.﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ ﴾ تسلية للرسول عن متابعة أهل الكتاب له.﴿ مَّا تَبِعُواْ ﴾ جواب للقسم المؤذنة به اللام وهو ماضي اللفظ مستقبل المعنى كقوله:﴿ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا ﴾[فاطر: ٤١].
أي ما يمسكهما وقوله: لظلوا أي ليظلنّ من بعده. وقال سيبويه: وقالوا لئن فعلت ما فعل بزيد ما هو فاعل. وما يفعل وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه.﴿ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ﴾ استئناف اخبار ببراءته عليه السلام من اتباع قبلتهم وأفرد قبلتهم وإن كانت تختلف قبلتاهم لاشتراكهما في البطلان.﴿ وَمَا بَعْضُهُم ﴾ أي اليهود لا تتبع النصارى ولا النصارى تتبع اليهود.﴿ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم ﴾ التعليق على المستحيل مستحيل كقوله:﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ ﴾[الأنبياء: ٢٩] أو يكون المخاطب غيره من أمته. أي: ولئن اتبعت أيها السامع.﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ ﴾ أي من الدلالات والآيات التي تفيد العلم إطلاقاً لاسم الأثر على المؤثر.﴿ إِنَّكَ ﴾ جواب القسم التي تدل عليه لام ولئن. و " إذن " هنا مؤكدة لجواب ارتبط بمتقدم ولا عمل لها إذا كانت مؤكدة.
﴿ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾ هم علماء اليهود والنصارى وهو مبتدأ خبره.﴿ يَعْرِفُونَهُ ﴾ والضمير المنصوب في يعرفونه عائد على محمد صلى الله عليه وسلم. وليس كما قال الزمخشري. من أنه إضمار لم يسبق له ذكر في قوله: ولئن أتيت إلى سائر المضمرات التي جاء بها خطابه لكن الضمير في يعرفونه جاء على سبيل الالتفات وحكمته أنه لما فرغ من الاقبال عليه السلام أقبل على الناس. فقال: الذين آتيناهم الكتاب واخترناهم لتحمل العلم والوحي يعرفون هذا الذي خاطبناه في الآي السابقة وأمرناه ونهيناه لا يشكون في معرفته ولا في صدق إخباره بما كلفناه من التكاليف التي منها نسخ بيت المقدس بالكعبة لما في كتابهم من ذكره ونعته والنص عليه يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والانجيل. وقال عبد الله بن سلام: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ومعرفتي به صلى الله عليه وسلم أشد من معرفتي بابني واخباره منتزع من قوله:﴿ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ وظاهر هذا التشبيه يقتضي أن المعرفة معرفة الوجه والصورة ودل هذا على أن الضمير في يعرفونه للرسول عليه السلام.﴿ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ ﴾ هم المصرون على الكفر والعناد كتموا نعت الرسول. وهم يعلمون: حال مؤكدة ان كان متعلق العلم الحق وإن كان.﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ ما على كاتم الحق من العقاب فهي حال مبيّنة.﴿ ٱلْحَقُّ ﴾ مبتدأ خبره.﴿ مِن رَّبِّكَ ﴾ أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق كائناً من ربك. وقرىء: الحق بالنصب بدلاً من الحق أو معمولاً ليعلمون. والامتراء الشك امترى في كذا شك فيه. والنهي عن الكون على صفة أبلغ من النهي عن تلك الصفة ولذلك كثر النهي عن الكون على الصفة التي يطلب اجتنابها في القرآن.﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾ وقرىء ولكل وجهة بالاضافة ومولاها. ووجهة: اسم للمكان المتوجه إليه عند بعضهم. فثبوت الواو ليس بشاذ وكلام سيبويه يقتضي أنه مصدر فثبوت الواو فيه شاذ والمحذوف من كل اما طائفة من أهل الأيان أو أهل صقع من المسلمين أي جهة من الكعبة وراء وأماما ويميناً وشمالاً ليست جهة من جهاتها أولى من الأخرى وهو مبتدأ عائد على كل على لفظة أي هو يستقبلها وموجه إليها صلاته، ومفعول موليها الثاني محذوف، أي: موليها نفسه وفي قراءة مولاها الأول المستكن في مولاها، والثاني (ها). وهو عائد على الله أي الله موليها إياه واما قراءة الاضافة. فقال الطبري: هي خطأ. (وقال) الزمخشري: المعنى وكل وجهة الله موليها فزيدت اللام لتقدم المفعول كقولك: لزيد ضربت ولزيد أبوه ضاربه. وهذا فاسد لأن العامل إذ تعدى لضمير الاسم لم يتعد إلى ظاهره المجرور باللام لا تقول: لزيد ضربته. ولا لزيد أنا ضاربه الا تراهم تأولوا. هذا سراقة للقرآن يدرسه. " وقال " ابن عطية المعنى فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاّكموها وهو توجيه لا بأس به.﴿ فَٱسْتَبِقُواْ ﴾ أي بادروا.﴿ ٱلْخَيْرَاتِ ﴾ أي الأعمال الصالحة.﴿ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ ﴾ تضمن وعظاً وتحذيراً وإظهار للقدرة.﴿ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً ﴾ أي يحشركم للثواب والعقاب.
﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ﴾ لما أمر باستقبال الكعبة وهو عليه السلام مقيم بالمدينة بين تساوي الحالين في الاقامة والسفر وبين بقوله وحيث ما كنتم تساوي حالهم وحاله عليه السلام في ذلك وختم هذه الآية. بما ختم به تلك الآية السابقة مبالغة في امتثال هذا التكليف العظيم الذي هو تحويل من جهة إلى جهة وهو تعبد محض.﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ﴾ توكيد لما قبله وتقرير لهذا النسخ.﴿ لِئَلاَّ ﴾ هي لام كي وان في هذا التركيب واجبة الإِظهار.﴿ يَكُونَ لِلنَّاسِ ﴾ اليهود أو مشركي العرب ونفى الله تعالى أن يكون لأحد على المؤمنين حجة وخبر كان.﴿ لِلنَّاسِ ﴾ و ﴿ عَلَيْكُمْ ﴾ متعلق بما تعلق به للناس وهو كائن وقد أجيز أن يتعلق بحجة بمعنى الاحتجاج وليس بجائز والحجة أن أريد بها البرهان الصحيح فهو استثناء منقطع أي لكن الذين ظلموا فإِنهم يتعلقون بالشبهة ويضعونها موضع الحجة وان أريد بها الاحتجاج بالخصومة واللدد فهو استثناء متصل أي الا خصومة من ظلم أو الا من ظلم بخصومته فيما قد وضح له. كقولك: ما له حجة إلا الظلم. وقد اقطرى الا على الذين ظلموا. جعله بدلاً من الضمير في عليكم، ولا يجوز إلا على مذهب الكوفيين والأخفش. وقال أبو عبيدة: إلا بمعنى الواو وكان أبو عبيدة يضعّف في النحو. وقرىء: الا حرف استفتاح والذين ظلموا مبتدأ خبره فلا تخشوهم، والضمير في فلا تخشوهم يعود على الناس أو على الذين ظلموا وهو أقرب مذكور.﴿ وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي ﴾ معطوف على لئلا يكون والمعنى عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم لانتفاء حجج الناس عليكم ولإِتمام النعمة، فالتعريف معلل بعلتين والفصل بالاستثناء كلاً فصل إذ هو من متعلق العلة الأولى.﴿ كَمَآ أَرْسَلْنَا ﴾ تشبيه متعلقة. ولا تم أي إتماماً مثل إتمام إرسال الرسول إليكم أو تهتدون اهتداء مثل ارسالنا. وتشبيه الهداية بالارسال في التحقق والثبوت، أي اهتداء ثابتاً متحققاً كتحقق إرسال الرسول. ولو قيل: الكاف للتعليل لا للتشبيه لكان سائغاً أي لارسالنا رسولاً.
﴿ فَٱذْكُرُونِيۤ ﴾ كما قيل في قوله: واذكروه كما هداكم أي لأجل هدايته إياكم. وقول الشاعر:* لا تشتم الناس كما لا تشتم * أي امتنع من شتم الناس لامتناع الناس من شتمك. لكن يخدش في هذا القول وجود الفاء في فاذكروني والأجود التعلق بقوله: ولا تم فيكون إتمام هذه النعمة الحادثة من الهداية لاستقبال قبلة الصلاة التي هي عمود الاسلام. وأفضل الأعمال وأدل الدلائل على الاستمساك بشريعة الاسلام بإِتمام النعمة السابقة بإِرسال الرسول المتصف بكونه منهم إلى سائر الأوصاف التي وصفه تعالى بها. والذكر يكون باللسان من التحميد والتمجيد والتسبيح وقراءة كتاب الله، ويكون بالقلب كالفكر في الدلائل الدالة على التكاليف والفكر في صفات الاله. وفي سائر مخلوقات الله. وذكره تعالى: إياهم، هو مجازاته على ذكرهم.﴿ وَٱشْكُرُواْ لِي ﴾ جاء تعدية بغير اللام. قال:* فهلا شكرت القوم إذ لم تقاتل * ﴿ وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ أي ولا تكفروا نعمتي. والصبر: قصر النفس على المكاره والتكاليف الشاقة وهو أمر قلبي. والصلاة من ثمرته وهي من أشق التكاليف لتكررها.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ ﴾ بالمعونة والتأييد واندرج المصلون في الصابرين اندراج الفرع تحت الأصل قالوا لمن قتل في سبيل الله من أعظم نتائج الإِيمان والصبر. و ﴿ أَمْوَاتٌ ﴾ خبر مبتدأ محذوف. و ﴿ أَحْيَاءٌ ﴾ كذلك والتقدير هم أموات بل هم أحياء.﴿ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ﴾ بأنهم أحياء والمراد بالحياة بقاء أرواحهم وليست فانية كما فنيت أجسادهم فنفي شعور المخاطبين بكيفية حياة المقتولين في سبيل الله. وفي هذه الآية ترغيب في الشهادة وتسلية لأقرباء الشهداء وإخوانهم المؤمنين.
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ﴾ أصل الابتلاء الاختبار. والمعنى هنا: ولأصيبنكم ﴿ بِشَيْءٍ ﴾ وأفرده ليدل على التقليل وبشيء مقدر في المعاطيف، أي: وبشيء من الجوع وبشيء من نقص. والظاهر أن الخوف هنا هو من العدو. وعبر بالجوع عن القحط إذ هو من أثره.﴿ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ ﴾ بالهلاك والخسران.﴿ وَٱلأَنفُسِ ﴾ بالقتل والموت.﴿ وَٱلثَّمَرَاتِ ﴾ بالحوائج وقلة النبات وانقطاع البركات.﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ منصوب نعتاً أو مقطوعاً أو مرفوع قطعاً أو استئنافاً على تقدير سؤال من الصابرون. قيل: هم الذين. و ﴿ مُّصِيبَةٌ ﴾ اسم فاعل من أصاب. وصار لها اختصاص بالشيء المكروه وأصابتهم مصيبة من التجنيس المغاير.﴿ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ ﴾ إقرار بالملك والعبودية لله فهو المتصرف فينا بما يريد.﴿ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ إقرار بالبعث وتنبيه على مصيبة الموت التي هي أهم المصائب.﴿ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ ﴾ أي ثناء كثير.﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾ العطف يشعر بالمغايرة وارتفع صلوات بالفاعلية لأن الجار قد اعتمد وعليهم صلوات تجللهم. كانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الاسلام سألوا. فنزل:﴿ إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ ﴾ والصفا والمروة علمان لهذين الجبلين وألف الصفا منقلبة عن واو والصفا الحجر والمروة الحجارة الصغار التي فيها لين. والواحدة مروة ولزمت الْ فيهما كلزومها في البيت للكعبة والنجم للثريا. والشعائر العلائم التي ندب الله إليها واحدها شعيرة أو شعارة، وهو على حذف أي: ان طواف الصفا والمروة من شعائر الله ولما تقدم الأمر بالصلاة والزكاة في غير ما آية، وذكر الصبر والقتل في سبيل الله وهو الجهاد لإِقامة الدين وكان الحج من الأعمال الشاقة المنهكة للمال والبدن وهو أحد أركان الاسلام ناسب ذكره بعدما تقدم. وقرىء ﴿ أَن يَطَّوَّفَ ﴾ وقرىء ألا يطوف. فقيل: لا زائدة. ولا نختاره بل إسقاطها يدل على رفع الجناح في فعل الشيء وهو رفع في تركه إذ هو تخيير بين الفعل والترك. نحو: فلا جناح عليهما أن يتراجعا وإثباتها يدل على رفع الجناح في الترك وكلتا القراءتين تدل على التخيير بين الفعل والترك والجناح يراد به الاثم والظاهر أن يكون الطواف بالسعي والمرور فمن سعى بينهما من غير صعود عليهما لم يكن طائفاً. ودلت الآية على مطلق الطواف لا على كمية مخصوصة ولا عدد وسؤال عروة لعائشة أنه لا يرى على أحد شيئاً أن لا يطوّف بهما. وقولها له: يا عُريّة لو كان كذلك لقال: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما كلام لا يخرج اللفظ عما دل عليه من رفع الاثم عمن طاف بهما. ولا يدل ذلك على وجوب الطواف لأن مدلول اللفظ إباحة الفعل وإذا كان مباحاً كنت مخيراً بين فعله وتركه. ومذهب ابن عباس وابن الزبير وأنس وعطاء ومجاهد وأحمد بن حنبل أنه لا شيء على من تركه عمداً كان أو سهواً.﴿ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً ﴾ التطوع ما تبرعت به مما لا يجب عليك. وقرىء: تطوع ماضياً، ويطوع مضارعاً مجروماً ويتطوع مضارع، تطوع مجزوماً. وخيراً منصوب على إسقاط حرف الجر أي بخير. وقد قرىء: بخيراً ويكون التقدير تطوعاً خيراً.﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ ﴾ أي مثيب أو مغن.﴿ عَلِيمٌ ﴾ بما انطوت عليه نية المتطوع.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ﴾ هم اليهود.﴿ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ ﴾ أي في التوراة كتموا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتموا الرجم. وقرىء ﴿ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ ﴾ ومن بعد ما بينه وهو التفات خرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب كما خرج فيما أنزلنا من الغيبة إلى التكلم. في قوله: فإِن الله. وقوله: ما أنزلنا.﴿ فِي ٱلْكِتَابِ ﴾ التوراة أو القرآن أو كتب الله وكتمه بعد تبيينه أعظم في الاثم. وقد يكتم الانسان الشيء ولا يكون مبيّناً للناس.﴿ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ ﴾ أولئك إشارة لمن اتصف بهذه الوصف القبيح وأبرز خبره في صورة جملتين تعظيماً لهذا الوصف الذي حل بهم واللاعنون الملائكة. ومن تتأتى منهم اللعنة كمؤمن الثقلين أو كل شيء وغلب العاقل في الجميع.﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ ﴾ عن الكفر والكتمان.﴿ وَأَصْلَحُواْ ﴾ قلوبهم بالنية الصالحة والأعمال الظاهرة.﴿ وَبَيَّنُواْ ﴾ الحق الذي كتموه.﴿ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ أي اعطف.﴿ إِن الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ذكر حال من كتم، ثم حال من تاب، ثم ذكر حال من وافى مصراً على الكفر، وجعل اللعنة قد تجللتهم وغشيتهم.﴿ وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾ جملة حالية ومجيئها بالواو في مثل هذا التركيب أكثر. و ﴿ لَعْنَةُ ﴾ مرفوع على الفاعلية إذ الجار والمجرور قد اعتمد لكونه خبراً. وقرىء والملائكة.﴿ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ وقرىء برفع الثلاث وكل من وقفنا على كلامه من معرب ومفسر جعله عطفاً على الموضع وقدروه أن يلعنهم الله وإن لعنهم الله وهذا لا يصح على قول المحققين من النحويين لأن من شرط العطف وجود المحرز الذي لا يتغير. وأيضا فلا يظهر أن لعنة هنا مصدر ينحل لحرف مصدري والفعل إذ لا يراد به العلاج، وكان المعنى أن عليهم لعنة الله كما جاء إلا لعنة الله على الظالمين وأضيف هذا المصدر على سبيل التخصيص لا على سبيل الحدوث وتخرج هذه القراءة على إضمار فعل يدل عليه ما قبل أي وتلعنهم الملائكة. أو على حذف مضاف أقيم المضاف إليه مقامه أي ولعنة الملائكة أو على أن الملائكة مبتدأ خبره محذوف تقديره أخيراً يعلنونهم.﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ في اللعنة أو في النار لدلالة اللعنة عليها ودلالة قوله:﴿ لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ ﴾ ولا يخفف حال من ضمير خالدين. وخالدين حال من ضمير عليهم أو هما حالان من ضمير عليهم على مذهب من يجيز حالين من ذي حال واحد وهو الصحيح. قالوا يا محمد صف لنا ربك فنزلت:﴿ وَإِلَـٰهُكُمْ ﴾ الآية وسورة الاخلاص. والهكم ﴿ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ﴾ أي لا يتجزأ ولا نظير له ولم يكن معه في الأزل شيء.﴿ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ توكيد لمعنى الوحدانية ودلت على حصر الألوهية فيه تعالى ولا يجوز أن يكون إلا هو خبراً. عن لا على مذهب الأخفش ولا خبراً عن مجموع لا إله إلا الله إذ هو في موضع مبتدأ على مذهب سيبويه لأن هو معرفة. وقالوا: هو بدل من اسم لا على الموضع وهو مشكل لأنه لا يمكن تقدير تكرار العامل لا تقول: لا رجل لا الا زيد. والذي ظهر لي فيه أنه ليس بدلاً من لا إله إلا الله ولا الا زيد بدل من لا رجل. بل هو بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف إذ التقدير لا رجل كائن أو موجود إلا زيد. كما تقول: ما أحد يقوم إلا زيد. وإلا زيد: بدل من الضمير في يقوم، فهو بدل مرفوع من ضمير مرفوع. وقول من قال: لا يحتاج إلى حذف سهو. و ﴿ ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴾ خبر مبتدأ محذوف. و ﴿ ٱلرَّحِيمُ ﴾ كذلك أي خبر لمبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر. أو خبران. أو صفة لقوله: والهكم وفصل بالخبر ولا إله إلا الله خبر ثان أو اعتراض.﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ لما تقدم اختصاصه تعالى بالالهية استدل بهذا الخلق الغريب استدلالاً بالأثر على المؤثر، وبدا بالعالم العلوي وآياتها ارتفاعها من غير عمد تحتها ولا علائق فوقها وما فيها من النيرين الشمس والقمر والنجوم السيارة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نيّرة وممحوة وعظم إجرامها وارتفاعها، حتى قال أرباب الهيئة: إن الشمس قدر الأرض مائة وأربعة وستين مرة، وإن أصغر نجم في السماء قدر الأرض. سبع مرات وآية الأرض بسطها لا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها وأنهارها وجبالها ونباتها ومعادنها، واختصاص كل موضع بما هُيء فيه ومنافع نباتها ومضارها. وذكر أرباب الهيئة: ان الأرض نقطة في وسط الدائرة ليس لها جهة وان البحار محيطة بها والهواء محيط بالماء والنار محيطة بالهواء والأفلاك وراء ذلك.﴿ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ ﴾ بإِقبال هذا وإدبار هذا وبالنور والظلمة والطول والقصر والتساوي وقدم الليل لسبقه في الخلق.﴿ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ ﴾ الفلك قيل واحدة. فلك كاسد وأسْد ويكون مفرداً وجمعاً فهو حركاته في الجمع غير حركاته في المفرد وإذا كان مفرداً ثنى قالوا: فلكان. وقيل: إذ أريد به الجمع فهو اسم جمع. والذي أذهب إليه أنه لفظ مشترك حركاته في الجمع حركاته في المفرد ولا يقدر بغيرها وإذا كان مفرداً كان مذكراً. وقيل: قد يكون مؤنثاً وآيتها تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها ولو رميت حصاة لغرقت وتبليغها المقاصد. والباء في بما للسبب وما موصولة ونفعهم بما يتأتى به من المتجر والبضائع والنقل من بلد إلى بلد والحج والغزو وذكر النفع وإن كانت قد تجري بما يضر لأنه في معرض الامتنان.﴿ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ ﴾ أي من جهة السماء. ومن ماء: بدل اشتمال.﴿ فَأَحْيَا ﴾ عطفه على صلة ما بالفاء المقتضية للتعقيب وسرعة النبات وكني بالاحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات. وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره.﴿ وَبَثَّ فِيهَا ﴾ معطوف على ما قبلها من الصلة أي نشر وفرق. والرابط به أي وبث به أي بالماء وحذف لدلالة قوله به في قوله: فاحيا به الأرض لأن الدّواب ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة. أو يقدر موصول محذوف لفهم المعنى معطوف على قوله: وما أنزل، أي: وما بث فيها. وكلا هذين التخريجين مسموع من كلام العرب وإن لم يقسه بعض النحويين. وآية الدواب اختلاف أشكالها وصفاتها وانتقالاتها ومنافعها ومضارها وما أودع في كل شكل شكل من الأسرار العجيبة.﴿ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ ﴾ هبوبها قبولاً ودبوراً، وجنوباً وشمالاً، حارة وباردة، عاصفة ورخاء، لواقح ونكباً. وقرىء بالجمع والافراد والياء منقلبة عن واو لكسرة ما قبلها.﴿ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ ﴾ السحاب اسم جنس. واحده سحابة ويذكر السحاب ولذلك وصفه بالمسخر ويجوز تأنيثه وقد يوصف بالجمع رعياً لأفراده إذ هو اسم جنس، كقوله:﴿ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً ﴾[الأعراف: ٥٧] وتسخيره بعثه من مكان إلى مكان وثبوته بين السماء والأرض بلا علاقة وانتصب بين المسخر.﴿ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ ﴾ أي كائنة لقوم.﴿ يَعْقِلُونَ ﴾ لأنه لا يتفكر في هذه الآيات العظيمة إلا العقلاء وهذه الآيات منها مدرك بالبصيرة وهو خلق السماوات والأرض ومدرك بالبصر وهو ما بعد ذلك. فقيل: لقوم يعقلون، ولم يقل: يبصرون. تغليباً لحكم العقل إذ مآل ما يشاهد بالبصر راجع بالعقل نسبته إلى الله تعالى.
﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً ﴾ لما قرر التوحيد بالدلائل الباهرة ذكر من لم يوفق فاتخذ انداداً ليظهر تفاوت ما بين العقلاء وغيرهم. ومن الناس: أي من أهل الكتاب وعبدة الأوثان من يتخذ من دون الله أي من غير الله أنداداً رؤساء وأصناماً.﴿ يُحِبُّونَهُمْ ﴾ أي يعظمونهم. وغلب العقلاء فلذلك جاء بمضيرهم.﴿ كَحُبِّ ٱللَّهِ ﴾ أي كحبكم. أو كحبهم أي كتعظيم الله تعالى. " وقدره " الزمخشري كما يحب الله على أنه مصدر مبني للمفعول وفي ذلك خلاف والأصح المنع. وقرىء: يحبونهم من حب يحب ومجيئه على يفعل شاذ.﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ ﴾ منهم أي من المتخذين الأنداد لأندادهم أي أطوع وأكثر امتثالاً لما أمر ونهى.﴿ وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ ﴾ قرىء بالتاء خطاباً للسامع وبالياء رداً. ففاعل يرى: مضمر. أي السامع. والمفعول: الذين ظلموا، أو يكون الفاعل الذين ظلموا والمفعول محذوف أي ما حل بهم وفي قراءة التاء لاستعظمت ما حل بهم. وقرىء أنّ أي لأن وبكسر الهمزة وفيها معنى التعليل. وقرىء يرون بفتح الياء وبضمها والذين ظلموا هم متخذوا الأنداد أو عام اندرجوا فيه. ويرى في ولو يرى بصرية كهي في يرون ودخلت إذ وهي ظرف ماض تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه كما وقع الماضي مكان المستقبل في قوله:﴿ وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ ﴾[الأعراف: ٥٠] و " جميعاً " حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور والعامل فيها هو العامل في الضمير.﴿ إِذْ تَبَرَّأَ ﴾ بدل من إذ يرون. و ﴿ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ ﴾ هم رؤساؤهم. قرىء: اتبعوا الأول مبنياً للمفعول، والثاني مبنياً للفاعل. وقرىء بالعكس. وتبرؤ المتبوعين بالقول انهم لم يضلوا تابعيهم كقولهم: تبرأنا إليك، وتبرؤ المتبوعين بالقول انفصالهم عن متبوعهم والندم على عبادتهم.﴿ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ ﴾ معطوف على تبرأ أو الواو واو الحال ويسمى الكلام المسجوع ترصيعاً وهو في هاتين الجملتين.
﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ ﴾ تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله ويتبرؤا منهم في الآخرة إذا حشروا جميعاً مثل: ما تبرأ المتبوعين منهم أولاً ولو هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره. اشربت معنى التمني. وجاء النصب بعد الفاء بإِضمار إن فقيل إذا استعملت للتمني فجوابها هو الفعل المقرون بالفاء المنصوب وقد جاء في كلامهم التصريح بجواب لو المشربة معنى التمني مصرحاً به بعد الفعل المنصوب بعد الفاء ويظهر لي ان فنتبرأ المقدر نصبه بأن مضمرة هو معطوف على كرة أي لو أن لنا كرة.﴿ فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ ﴾ لخلصنا وسلمنا من عذاب الله.﴿ كَذَلِكَ ﴾ أي مثل اراءتهم تلك الأحوال.﴿ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ السيئة.﴿ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ ﴾ فيه دلالة على دخولهم النار وهذا في الكفار. وليس فيه دلالة على أن من دخل النار من عصاة المؤمنين لا يخرج منها، لأن الضمير في هم عائد على الكفار. وانتصب ﴿ حَلاَلاً ﴾ على أنه حال من الضمير المستقر في الصلة ووصف بالطيب. وقال ابن عطية: ويصح ان يكون طيباً حالاً من الضمير في كلوا تقديره مستطيبين وهذا فاسد في اللفظ والمعنى اما اللفظ فلان طيباً اسم فاعل وليس بمطابق للضمير لأن الضمير جمع وطيب مفرد وليس طيب بمصدر. فيقال: لا تلزم المطابقة. وأما المعنى فلان طيباً مغاير لمعنى مستطيبين لأن الطيب من صفات المأكول، والمستطيب من صفات الآكل. تقول: طاب لزيد الطعام. ولا تقول: طاب زيد الطعام في معنى استطابه. والأصل في الطيب المستلذ ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه، لأن النجس تكرهه النفس فالحرام لا يستلذ به لأن الشرع منع منه والثابت في اللغة ان الطيب هو الطاهر من الدنس.﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ ﴾ كناية عن ترك الاقتداء به فيما سَنَّ من المعاصي. وقرىء خطوات - سكون الطاء وبفتحها - والخطوة: المكان الذي يخطو فيه. وبفتح الخاء والطاء. والخطوة: المرة الواحدة من الخطو. وقرىء خطوات بضم الخاء والطاء والهمزة وهو جمع خطأة من الخطا ان كان سمع والا فتقدير.﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ تعليل لسبب هذا التحذير.﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ ﴾ بوسوسته وإغوائه وما يلقيه على ألسنة الكهنة.﴿ بِٱلسُّوۤءِ ﴾ بما يسؤوكم في العقبي.﴿ وَٱلْفَحْشَآءِ ﴾ بما يفحش قوله وفعله ومنعت منه الشريعة.﴿ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ من تحريم ما لم يحرم وذلك نحو السائبة والبحيرة. وقولهم: هذا حلال وهذا حرام من غير استناد إلى علم. قيل: وظاهر هذا تحريم القول في دين الله بما لا يعلمه القائل. والضمير في لهم عائد على من اتصف بقوله:﴿ بَلْ نَتَّبِعُ ﴾ من كفار العرب ومتخذي الأنداد واليهود. وبل نتبع عطف على جملة محذوفة تقديرها لا نتبع ما تدعونا إليه بل نتبع.﴿ مَآ أَلْفَيْنَا ﴾ أي ما وجدنا.﴿ عَلَيْهِ آبَآءَنَآ ﴾ أي مما يخالف ما تطلبون منا. وفيه دليل على إبطال التقليد، والذي وجدوا عليه آباءهم هو مخالف لما أنزل الله فاقتدوا في ذلك بآبائهم رؤوس الضلال.﴿ أَوَلَوْ ﴾ الهمزة فيه للإِنكار عليهم والتوبيخ والتعجب. ولو في مثل هذا التركيب تجيء تنبيهاً على أن ما بعدها غير شامل لما قبلها نحو: اعطوا السائل ولو جاء على فرس. والمعنى على كل حال ولو في هذه الحالة التي لا يناسب من جاء على فرس أن يعطي إذا سأل. وتجيء لاستقصاء الأحوال التي يقع عليها الفعل، ويدل على أن المراد بذلك وجود الفعل في كل حال حتى في هذه الحال التي لا تناسب الفعل، فالمعنى: إنكار اتباع آبائهم في كل حال حتى في الحالة التي لا يناسب أن يتبعوا فيها وهي تلبسهم بعدم العقل وعدم الهداية، ولما أعرضوا عن اتباع ما أنزل الله واتبعوا ما نشؤا عليه من تقليد آبائهم ذكر هذا التشبيه العجيب إذ صار في رتبة البهيمة أو في رتبة داعيها وقدر، ومثل داعي الذين كفروا لآلهتهم التي لا تفقه دعاءه، كمثل الناعق بغنمة لا ينتفع في نعيقه بشيء غير أنه في عناء ونداء، كذلك الكافر في دعائه الآلهة وعبادته الأوثان ليس له إلا العناء وقدر أيضاً.
﴿ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ وداعيهم إلى الهدى.﴿ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ ﴾ والمنعوق به. شبه داعي الكفار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه وشبّه الكفار بالغنم في كونهم لا ينتفعون بما دعوا إليه غير أصوات. حذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني وهو الذي ينعق ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول. وتقدم ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾، وهنا أقبل على المؤمنين بندائهم وأباح لهم أكل ما رزقهم من الطيبات وأمرهم بالشكر على ذلك وكانت وجوه الطيبات كثيرة استطرد إلى ذكر المحرمات. وقرىء حَرّم وحُرّم وحزم والميتة بالتخفيف والتشديد، والظاهر أن المحذوف هو الأكل أي أكل الميتة لقوله: كلوا من طيبات. والميتة عام خص منه الحوت والجراد. قال ابن عطية: الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم " انتهى ". فإِن عني لم يدخل في دلالة اللفظ فلا نسلم له ذلك وإن عني لم يدخل في الارادة فهو كما قال، لأن المخصص يدل على أنه لم يرد به الدخول في اللفظ العام الذي خصص به. وقال الزمخشري: فإِن قلت في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد، قلت: قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه على العادة ألا ترى أن القائل إذا قال: أكل فلان ميتة لم يسبق الفهم إلى السمك والجراد، كما لو قال: أكل دماً لم يسبق إلى الكبد والطحال، ولاعتبار العادة والتعارف قالوا: من حلف لا يأكل لحماً فأكل سمكاً لم يحنث وإن أكل لحماً في الحقيقة. وقال تعالى:﴿ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً ﴾[النحل: ١٤].
وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة فركب كافراً لم يحنث وإن سماه الله دابة في قوله:﴿ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾[الأنفال: ٥٥].
" انتهى ". وملخص ما يقول ان السمك والجراد لم يندرج في عموم الميتة من حيث الدلالة وليس كما قال وكيف يكون ذلك وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" احلت لنا ميتتان ودمان "فلو لم يندرج في الدلالة لما احتيج إلى تقرير شرعي في حله إذ كان يبقى مدلولاً على حله بقوله:﴿ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ ﴾[البقرة: ١٦٨] ﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾.
وليس من شرط العموم ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة كما قال الزمخشري: بل لو لم يكن للمخاطب شعور البتة ولا علم ببعض أفراد العام وعلق الحكم على العام لا يدرج فيه ذلك الفرد الذي لا شعور للمخاطب به. مثال ذلك: ما جاء في الحديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع فهذا علق الحكم فيه بكل ذي ناب والمخاطب الذين هم العرب لا علم لهم ببعض أفراد ذي الناب، وذلك الفرد مندرج في العموم يقضي عليه بالنهي كما في بلادنا بلاد الأندلس أنه ليس حيوان مفترس يسمى عندهم باللب وبالسبع. وفي جواز أكل السمك الطافي والجراد الذي مات بغير سبب خلاف، والدم عام فإِذا كان مسفوحاً فلا خلاف في نجاسته وتحريمه. وفي دم السمك المزايل له خلاف ويجوز أكل الدم المتخلل بالعروق واللحم الشاق إخراجه والكبد والطحال ولحم الخنزير ظاهره أن المحرم منه هو لحمه فقط. وبه قال داود وقال سائر العلماء: لحمه وسائر أجزائه حرام. وفي جواز أكل الخنزير البحري خلاف. وقال الزمخشري: فإِن قلت فما له ذكر لحم الخنزير دون شحمه. قلت لأن الشحم داخل في ذكر اللحم بدليل قولهم لحم سمين يريدون أنه شحيم. " انتهى ". وقولهم هذا ليس بدليل على أن الشحم داخل في ذكر اللحم لأن وصف الشيء بأنه يمازجه شيء آخر لا يدل على أنه مندرج تحت مدلول ذلك الشيء ألا ترى أنك تقول مثلاً: رجل لابن ورجل عالم، لا يدل ذلك على أن اللبن أو العلم داخل في ذكر الرجل ولا أن ذكر الرجل مجرداً عن الوصفين يدل عليهما. وقال ابن عطية: وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذكّ وليعم الشحوم وما هناك من الغضاريف وغيرها. وأجمعت الأمة على تحريم شحمه. " انتهى ". وليس كما ذكر لأن ذكر اللحم لا يعم الشحم وما هنالك من الغضاريف لأن كلاً من الشحم واللحم وما هناك من غضروف وغيره له اسم يخصه. إذ أطلق ذلك الاسم لم يدخل فيه الآخر، ولا يدل عليه لا بمطابقة ولا تضمن فإِذن تخصيصه بالذكر يدل على تخصيصه بالحكم إذ لو أريد المجموع لدل بلفظ يدل على المجموع. وقوله: أجمعت الأمة على تحريم شحمه ليس كما ذكر ألا ترى أن داود لا يحرم إلا ما ذكره الله تعالى وهو اللحم دون الشحم إلا أن يذهب ابن عطية إلى ما يذكر عن أبي المعالي عبد الملك الجويني من أنه لا يعتد في الاجماع بخلاف داود. وقد اعتد أهل العلم الذين لهم ألفهم التام والاجتهاد قبل أن يخلق الجويني بازمان بخلاف داود ونقلوا أقاويله في كتبهم كما نقلوا أقاويل الأئمة كالأوزاعي وأبي حنيفة ومالك والثوري والشافعي وأحمد ودان بمذهبه. وقوله: وطريقته ناس وبلاد وقضاة وملوك الأزمان الطويلة ولكنه في عصرنا هذا قد حمل هذا المذهب كغيره.﴿ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ ﴾ الاهلال رفع الصوت أي ذبح لغير الله من الأصنام والطواغيت ومعبود غير الله ومقصود به التباهي والتفاخر.﴿ فَمَنِ ٱضْطُرَّ ﴾ أي في مخمصة.﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾ أي على المسلمين.﴿ وَلاَ عَادٍ ﴾ عليهم كقطاع الطريق والخارج على السلطان والمسافر في قطع الرحم.﴿ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ في تناول شيء من هذه المحرمات ولا يرتفع الاثم إلا إذا كان المضطر غير باغ ولا عاد. وجاء في الآية الأخرى: غير متجانف لاثم، فيقيد به مطلق قوله: إلا ما اضطررتم إليه. وقرىء بكسر نون فمن وضمها وبكسر الطاء وبإِدغام الضاد في الطاء.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ﴾ هم علماء اليهود.﴿ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ أي التوراة. وهو ما تضمنته من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته وكانوا يرجون أن يكون منهم فلما بعث من غيرهم غيروا صفته.﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ﴾ أي بالكتم من سفلتهم.﴿ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ وهي الهدايا التي كانوا يأخذونها على الكتم إذ كان ملوكهم لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوهم: أهذا الذي بشرت به التوراة؟ فقالوا: ليس هذا هو النبي المنتظر.﴿ أُولَـٰئِكَ ﴾ أي المتصفون بالكتم والاشتراء.﴿ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ ﴾ كناية عن تحمل آثامهم المؤدية إلى النار في الآخرة وكأنهم أكلوا النار أو يأكلون النار في الآخرة. وهي كقوله في أكل مال اليتيم: إنما يأكلون في بطونهم نارا. وفي بطونهم لرفع المجاز في يأكلون.﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ﴾ ظاهر في نفي تكليمه تعالى إياهم. وفيه دلالة على غضبه عليهم لأن في التكليم تأنيساً للمتكلم أو لا يكلمهم كلاماً فيه خير لهم بل ما يشق عليهم.﴿ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ﴾ أي لا يقبل أعمالهم فيثني عليهم.﴿ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ ﴾ تعجب من كثرة صبرهم. كقوله تعالى:﴿ قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ ﴾[عبس: ١٧] و﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ﴾[مريم: ٣٨]، أي هم في حال عذاب يقول من يراهم: ما أصبرهم. وفي ما التعجيبية وأفعل خلاف مذكور في النحو.﴿ ذَلِكَ ﴾ إشارة إلى الوعيد السابق من أكل النار وانتفاء التكليم والتزكية وهو مبتدأ خبره.﴿ بِأَنَّ ٱللَّهَ ﴾ أي حاصل بأن الله.﴿ نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ ﴾ فلم يتبعوه وكتموه واشتروا به ثمناً قليلاً أقام السبب وهو تنزيل الكتاب بالحق مقام المسّبِب عنه وهو الكتمان والاشتراء كأنه قيل ذلك مستقر وثابت بالكتمان والاشتراء.﴿ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِي ٱلْكِتَابِ ﴾ وهم اليهود آمنوا ببعض التوراة وكفروا ببعضها. أو الكتاب القرآن والذين اختلفوا مشركوا العرب من قولهم سحر أساطير الأولين وغير ذلك.﴿ لَفِي شِقَاقٍ ﴾ أي تباين وتباغض.﴿ بَعِيدٍ ﴾ أي عن الحق والصواب.
كانت اليهود تصلي إلى المغرب والنصارى إلى المشرق فنزل:﴿ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ ﴾ وقبل ظرف مكان. تقول: زيد قبلك أي في المكان الذي يقابلك. ولما تقدم ذكرهم بأقبح الذكر وما يؤلون إليه في الآخرة ولم يبق لهم مما يتعلقون به إلا صلاتهم وزعمهم أن ذلك هو البر نفي ذلك عنهم وأثبت ما يكون به البر وهي الأوصاف الذي ذكرها. وقرىء البر بالنصب على أنه خبر ليس، وبالرفع على أنه اسمها. وأن تولوا الخبر، والبر اسم جامع لأنواع الخير.﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ ﴾ قرىء بتشديد نون لكن، ونصب البر وبالتخفيف والرفع، والبر ليس نفس من آمن فهو على حذف من الأول أي: ولكن ذو البر، أو من الثاني أي: بر من آمن، أو جعل البر نفس من آمن مبالغة.﴿ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾ الآية وهذه أركان الايمان كما جاء في الحديث" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر "، واليهود أخلوا بالإِيمان بالله لتجسيمهم. وقولهم: عزير بن الله، والنصارى بقولهم: المسيح ابن الله والنصارى أنكروا المعاد الجسماني، واليهود قالوا: لن تمسنا النار وعادوا جبريل عليه السلام والنصارى واليهود أنكروا القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم.﴿ وَآتَى ٱلْمَالَ ﴾ واليهود أبخل العالم وأحرصهم بإِلقاء الشبه لأخذ الأموال.﴿ عَلَىٰ حُبِّهِ ﴾ أي على حب المؤتي المال وهذا من أعظم المدح أن تتعلق نفس بشيء فتبذله طاعة الله.﴿ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾ بدأ بالأهم لأنها صدقة وصلة ثم باليتامى إذ ليس لهم من يقوم بأودهم. وفي الحديث:" أنا وكافل اليتم كهاذين في الجنة "ثم بالمساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم ثم بابن السبيل لأنه منقطع به عن أهله ثم بالسائلين لأن حاجتهم دون حاجة من تقدم لأنه عرض نفسه للسؤال.﴿ وَفِي ٱلرِّقَابِ ﴾ وهم الذين يعانون في فك رقابهم من مكاتب وأسير.﴿ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ﴾ معطوف على من آمن أو على القطع أي وهم الموفون والعامل في إذ الموفون أي لا يتأخر إبقاؤهم بالعهد عن وقت إيقاعه. وقرىء والموفين نصباً على المدح.﴿ وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّآءِ ﴾ قرىء رفعاً ونصباً. والبأساء: الشدة كالفقر والقتال. والضر: ما يضر من زمانة وغيرها.﴿ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ ﴾ أي وقت شدة القتال واضطرام الحرب.﴿ أُولَـٰئِكَ ﴾ إشارة إلى:﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ جمعوا هذه الأوصاف الذين ﴿ صَدَقُواْ ﴾ في أقوالهم وأحوالهم كان قوم من العرب أقوياء أعزاء لا يقتلون بالعبد منهم إلا سيداً ولا بالمرأة إلا رجلاً.
وكان في بني إسرائيل القصاص دون الدية فأنزل الله تعالى:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ﴾ وأصل الكتابة الخط وكني به عن الإِلزام. وفي القتلى يظهر أنها للسبب كهي: في دخلت امرأة النار في هرة، أي: بسبب القتلى وبسبب هرة. والقتلى: جمع قتيل.﴿ ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ ﴾ الآية ﴿ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ ﴾ الآية ظاهر هذا التفضيل اعتبار المماثلة بالحرية والعبودية والأنوثة. وظاهر عموم الحر بالحر أن الوالد يقتل إذا قتل ابنه وهو قول عثمان البتي. وقال مالك: إذا أضجعه وذبحه قتل به. وقد أجمعوا على قتل الحر بالمرأة والمرأة بالرجل. والظاهر من الآية مشروعية القصاص في القتلى بأي شيء حصل به القتل.﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ ﴾ الواجب من ظاهر الآية اما القصاص واما الدية ومن عفى له هو القاتل، والضمير في له ومن أخيه: عائد عليه وعفا لا يتعدى ضمن معنى ما يتعدى، أي فمن ترك له شيء من أخيه أي من دية دم أخيه، أو كني بأخيه عن ولي الأم أو أبقى عفى على أصل وضعه، وشيء عبارة عن المصدر أي شيء من العفو والعفو لا يتأتى إلا من الولي والمعنى فإِذا عفا الولي عن شيء يتعلق بالقاتل فيلتبع القاتل ذلك.﴿ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ ولا يعنفه ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة.﴿ وَأَدَآءٌ ﴾ من القاتل.﴿ إِلَيْهِ ﴾ أي إلى الولي.﴿ بِإِحْسَانٍ ﴾ أي لا يمطله ولا يبخسه شيئاً. وإن كان المعنى بأخيه المقتول فالضمير في إليه عائد على العافي وهو الولي. ويدل عليه قوله: فمن عفى، لأنه يستدعي عافياً والظاهر أنه لا يتحتم للولي أن يقتص إذا عفى للقاتل شيء إذ يكون التقدير فالواجب اتباع.﴿ ذٰلِكَ ﴾ أي العفو والدية.﴿ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ حيث يسلم القاتل من أن يقتل إذ كان أهل التوراة مشروعية القتل عندهم تحتم القصاص ومشروعية أهل الانجيل تحتم العفو.﴿ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ ﴾ أي بعد العفو والدية فقتل من قتله.﴿ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أما في الدنيا وهو قتله قصاصاً، واما في الآخرة حيث تعدى ما حد الله له.﴿ وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ ﴾ أي في شرع القصاص.﴿ حَيَٰوةٌ ﴾ وذلك أنه إذا علم أنه من قَتل قُتل كان في ذلك ارتداد عن القتل وإمساك، فكان ذلك حياة له ولمن يريد قتله. وكانت العرب إذا قتل رجل رجلاً حمي قبيلة راموا ان يقتصوا منه فيقتتلون فيقضي ذلك إلى قتل عدد كثير من الفريقين، فلما شرع القصاص رضوا به وسلموا القاتل للقود أو صالحوا الرجل على الدية وتركوا القتال، فكان لهم في ذلك حياة وكم قتل مهلهل بأخيه كليب، حتى كاد يفنى بكر بن وايل.﴿ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ ﴾ هم الذين عرفوا مشروعية القصاص وما فيها من المصلحة العامة.﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ القصاص فيكفون عن القتل. ولما تقدم ذكر القصاص أتبع ذلك بالتنبيه على الوصية ليتنبه كل أحد على مفاجأة الموت فيوصي لئلا يموت على غير وصية. وهو تعالى قد كتبها على المؤمنين والخطاب في " عليكم " للموصيين مقيداً بالامكان على تقدير التجوز في حضور الموت ولو جرى الكلام على خطابهم لكان التركيب.
﴿ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ ﴾ لكن روعي العموم من حيث المعنى، إذ المعنى: كتب على كل واحد منكم، ثم أظهر ذلك المضمر إذا كان يكون إذا حضره الموت فقيل إذا حضر أحدكم.﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً ﴾ أي مالاً. والظاهر مطلق المال أن الوصية تكون واجبة، ويجمع للوارث بين الوصية والميراث بحكم الاثنين. وقال به قوم وعن ابن عباس وغيره أنه تقرر الحكم بهذا بُرهة ثم نسخ منها كل من يرث بآية الفرائض. وجواب كل من الشرطين إذا وإن محذوف تقديره فليوص، ودل عليه سياق المعنى. والمقدر للأول بالمعروف أي بالذي حده الشارع من كونه لا يزيد على الثلث ولا يوصي لغني دون فقير. وقال ابن عطية: ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون كتب هو العامل في إذا، والمعنى توجه إيجاب الله عليكم، ومقتضى كتابة إذا حضر فعبر عن توجه الإِيجاب بكتب لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، والوصية: مفعول ما لم يسم فاعله بكتب، وجواب الشرطين إذا، وإن مقدر يدل عليه ما تقدم من قوله: كتب عليكم، كما تقول: شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا. انتهى كلامه. وفيه تناقض لأنه قال العامل في إذا كتب، وإذا كان العامل فيها كتب، تمحضت للظرفية ولم تكن شرطاً. ثم قال: وجواب الشرطين إذا، وإن مقدر يدل عليه ما تقدم إلى آخر كلامه، وإذا كانت إذا شرطاً فالعامل فيها اما الجواب واما الفعل بعدها على الخلاف الذي في العامل فيها. ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما قبلها إلا على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط عليه ويفرع على أن الجواب هو العامل في إذا. ولا يجوز تأويل ابن عطية على هذا المذهب لأنه قال: وجواب الشرطين إذا وإن مقدر يدل عليه ما تقدم وما كان مقدراً يدل عليه ما تقدم يستحيل أن يكون هو الملفوظ به المتقدم. وهذا الاعراب هو على ما يقتضيه الظاهر من أن الوصية مفعول لم يسم فاعله مرفوع بكتب. وأجاز بعض المعربين أن ترتفع الوصية على الابتداء على تقدير الفاء، والخبر إما محذوف أي فعليه الوصية، وإما منطوق به وهو قوله:﴿ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ ﴾ أي فالوصية للوالدين وتكون هذه الجملة الابتدائية جواباً لما تقدم والمفعول الذي لم يسم فاعله بكتب مضمر أي الايصا يفسره ما بعده. قال أبو محمد ابن عطية في هذا الوجه: ويكون هذا الايصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد هو العامل في إذا وترتفع الوصية بالابتداء وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه: من يفعل الصالحات الله يحفظه ، ويكون رفعها بالابتداء بتقدير فعليه الوصية أو بتقدير الفاء فقط كأنه قال: فالوصية للوالدين." انتهى ". كلامه وفيه أن إذا معمولة للإِيصاء المقدر. ثم قال: ان الوصية فيه جواب الشرطين وقد تقدم ما يناقض ذلك، لأن إذا من حيث انها معمولة للإيصال لا تكون شرطاً ومن حيث ان الوصية فيه جواب إذا تكون شرطاً متناقضاً لأن الشيء الواحد لا يكون شرطاً غير شرط في حالة واحدة، ولا يجوز أن يكون الإِيصاء المقدر عاملاً في إذا أيضاً لأنك إما أن تقدر هذا العامل في إذا لفظة الايصاء فحذف أو ضمير الايصاء لا جائزان تقدره لفظة الايصاء ولا جائز لأن المفعول الذي لم يسم فاعله لا يجوز حذفه وابن عطية قدر لفظ الايصاء أن يقدره ضمير الايصاء لأنه لو صرح بضمير المصدر لم يجز له أن يعمل لأن المصدر من شرط عمله عند البصريين أن يكون مظهراً، وإذا كان لا يجوز اعمال لفظ مضمر المصدر فمنويُّه أحرى أن لا يعمل. وأما قوله: وفيه جواب الشرطين فليس بصحيح فانا قد قررنا أن كل شرط يقتضي جواباً على حدته، والشيء الواحد لا يكون جواباً لشرطين. وأما قوله على نحو ما أنشد سيبويه، وذكر البيت فهو تخريف عليه. وإنما أنشد سيبويه:* من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلان *وأما قوله بتقدير فعليه الوصية أو بتقدير الفاء فقط، كأنه قال: فالوصية للوالدين. فكلام من لم يتصفح كلام سيبويه فإِن سيبويه نص على أن مثل هذا لا يكون إلا في ضرورة الشعر فينبغي أن ينزه كتاب الله عنه. قال سيبويه: وسألته يعني الخليل عن قوله: أن تأتني أنا كريم، قال: لا يكون هذا إلا أن يضطر الشاعر من قبل أن كريم يكون كلا ما مبتدأ والفاء وإذا لا يكونان إلا معلّقين بما قبلهما فكرهوا أن يكون هذا جواباً حيث لم يشبه الفاء. وقاله الشاعر عن مضطر وأنشد البيت السابق: من يفعل الحسنات. وذكر عن الأخفش أن ذلك على إضمار الفاء وهو محجوج بنقل سيبويه إن ذلك لا يكون إلا في الاضطرار وأجاز بعضهم أن يقام مقام المفعول الذي لم يسم فاعله الجار والمجرور الذي هو عليكم وهو قول لا بأس به على ما نقرره، فتقول لما أخبر أنه كتب على أحدهم إذا حضره الموت ان ترك خيراً تشوف السامع لذكر المكتوب ما هو فتكون الوصية مبتدأ أو خبر المبتدأ على هذا التقدير، وتكون جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل: ما المكتوب على أحدنا إذا حضره الموت وترك خيراً؟ فقيل: الوصية للوالدين والأقربين هي المكتوبة أو المكتوب الوصية للوالدين والأقربين. ونظيره: ضرب بسوط يوم الجمعة، زيد المضروب أو المضروب زيد. فيكون هذا جواباً لسؤال مقدر. كأنه قيل: من المضروب؟ وهذا الوجه أحسن وأقل تكلفاً من الوجه الذي قبله وهو أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله الايصاء أو ضمير الايصاء ويجوز أن يكون على حذف مضاف تقديره كتب على أحدكم. ثم أبرزه في قوله: إذا حضر أحدكم، دلالة على المحذوف، والمعنى: كتب على أحدكم إذا حضره الموت فتكون الوصية مكتوبة على ذلك الأحد لا على الذين آمنوا. ويجوز أن يكون ثم معطوف محذوف تقديره إذا حضر أحدكم الموت وترك خيراً ووصى، وتكون الوصية معمولة الكتب على حذف مضاف تقديره كتب عليكم إنفاذ الوصية.﴿ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ فيه وفي كتب دلالة على الوجوب وانتصب حقاً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة قاله الزمخشري وابن عطية وكون على متعلقاً به أو في موضع الصفة يخرجه عن التوكيد والأولى عندي أن يكون مصدراً على غير الصدر لأن معنى كتب وجب وحق.
﴿ فَمَن بَدَّلَهُ ﴾ أي الايصاء.﴿ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ ﴾ كني بالسماع عن العلم لأنه طريق لحصوله وتبديله في تغيير بعض ألفاظه ووضعه غير مواضعه وقسمته ووصوله إلى مستحقه.﴿ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ ﴾ أي اثم تبديله.﴿ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ﴾ أقام الظاهر مقام المضمر وأتى بالجمع على معنى من لا على اللفظ. ودل بقوله: على الذين يبدلونه على العليّة الحاصلة بالتبديل.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ ﴾ لقول الموصي.﴿ عَلِيمٌ ﴾ بفعل الوصي وفيه تهديد ووعيد.﴿ فَمَنْ خَافَ ﴾ أي خشي.﴿ مِن مُّوصٍ جَنَفاً ﴾ أي مطمعا الميراث من يرثه وإن لم يتعمد ذلك.﴿ أَوْ إِثْماً ﴾ إذا تعمد ذلك.﴿ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي بينه وبين وارثه بردّه عن ذلك، أو بين الورثة والموصى لهم.﴿ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ أي على الساعي في الاصلاح ولما كان الاصلاح يحتاج إلى الإِكثار من القول قد يتخلله بعض ما لا ينبغي من قول أو فعل بين ان ذلك لا إثم فيه إذا كان يقصد الاصلاح ودلت الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح لإِفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ للموصي إذا وافق على الاصلاح.﴿ رَّحِيمٌ ﴾ به أو بين الورثة والموصى له.﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ ﴾ إن كان قد سبق التعبد به قال للعهد وإلا فللجنس.﴿ كَمَا ﴾ أي كتباً كما فهو نعت لمصدر محذوف. أو في موضع الحال على مذهب سيبويه. والتشبيه في مطلق الكتب وإن كان المتعلق مختلفاً بالعدد أو بغيره وما مصدرية.﴿ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ هم الأنبياء وأممهم.﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ظاهره التعلق بكتب. والمعنى أن فيه ردع النفس عن الشهوات فتحصل التقوى.
﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ أي صوموا أياماً يحصرها العد أي هي قلايل وانتصاب أياماً بالصيام، كما قال الزمخشري: وتمثيله إياه بنويت الخروج يوم الجمعة خطأ واضح لأن معمول المصدر من صلته وقد فصل بينهما بأجنبي وهو قوله كما كتب، فكما كتب ليس بمعمول للمصدر وإنما هو معمول لغيره على أي تقدير قدرته من كونه نعتاً لمصدر محذوف أو في موضع الحال، ولو فرعت على أنه صفة للصيام على تقدير أن تعريف الصيام تعريف جنس فيوصف بالنكرة لم يجز أيضاً، لأن المصدر إذا وصف قبل ذكر معموله لم يجز اعماله فإِن قدرت الكاف نعتاً لمصدر من الصيام كما قد قال بعضهم وضعفناه قبل فيكون التقدير صوماً كما كتب جاز أن يعمل في أيام الصيف، لأنه إذ ذاك العامل في صوماً: هو المصدر، فلا يقع الفصل بينهما بما ليس بمعمول للمصدر. وأجازوا أيضاً انتصاب أياماً على الظرف، والعامل فيه: كتب، وأن يكون: مفعولاً على السعة ثانياً، والعامل فيه كتب وإلى هذا ذهب الفراء والجوني وكلا القولين خطأ أما النصب على الظرف بأنه محل للفعل والكتابة ليست واقعة في الأيام لكن متعلقها هو الواقع في الأيام، فلو قال الانسان لولده وكان ولد في يوم الجمعة: سرني ولادتك يوم الجمعة لم يمكن أن يكون يوم الجمعة معمولاً لسرني، لأن السرور يستحيل أن يكون يوم الجمعة إذ ليس بمحل للسرور الذي أسنده إلى نفسه. وأما النصب على المفعول اتساعاً فإِن ذلك مبني على جواز وقوعه ظرفاً لكتب وقد بينا أن ذلك خطأ.﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً ﴾ ظاهره مطلق المرض بحيث يصدق عليه الاسم وبه قال ابن سيرين وعطاء والبخاري: ولمعظم الفقهاء تقييدات مضطربة لا يدل عليها كتاب ولا سنة.﴿ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ ﴾ ظاهره فعدة اعتباره مطلق السفر زماناً وقصداً لا يكون إلا بعد الخروج للسفر لا لمؤمل السفر.﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ الجمهور على أن في الكلام محذوفاً تقديره فافطر. فعدة: أي فالواجب عدة. والظاهر أن لا حذف وإن فرض المريض والمسافر هو العدة وأنه لو صام لم يجزه فيجب القضاء. وروي ذلك عن قوم من الصحابة وعن طائفة من أهل الظاهر. وقرىء فعدة ـ بالرفع ـ أي فالواجب عدة ـ وبالنصب ـ أي فليصم عدة، والعدة: بمعنى المعدود. ومعلوم أنها عدة الأيام التي فاتته وأخر صفة لأيام وهي جمع أخرى آخر مقابل آخرين لا جمع أخرى مقابلة الآخر المقابل للأول وظاهر الآية يقتضي عدد ما فاته فلو فاته الشهر وكان تاماً أو ناقصاً قضاه كما فاته وأنه لا يتعين التتابع وأنه لو أخر حتى دخل رمضان آخر لا يجب عليه إلا قضاء ما فاته. وقرىء يطيقونه مضارع أطاق ويطوّقونه مضارع أطوق وهو شاذ كأغليت وأطولت ويطوقونه مضارع طوق مبنياً للمفعول ويطوقونه مضارع طوق. وقرىء يطيّقونه مضارع يطيّق على وزن تفعيل من الطوق كقولهم: تدير اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء وأدغمت فيها الياء. فقيل: يطيق ومعانيها كلها راجعة إلى معنى الاستطاعة والقدرة وعلى قراءة تشديد الواو والياء يكون بمعنى التكليف أي يتكلفونه أو يكلفونه والضمير في يطيقونه عائد على الصوم. فقيل: كان الصوم محيرا فيه للمقيم والحاضر، ثم نسخ بقوله:﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ﴾[البقرة: ١٨٥].
وقرىء ﴿ فِدْيَةٌ ﴾ منوناً.﴿ طَعَامُ ﴾ مرفوعاً بدلاً من فدية.﴿ مِسْكِينٍ ﴾ مفرداً وجمعاً. وقرىء بالاضافة والجمع وتبين بقراءة الأفراد أن الحكم لكل يوم يفطر فيه طعام مسكين. ولا يفهم ذلك من الجمع وثم محذوف تقديره يطيقون الصوم ويفطرون.﴿ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً ﴾ في الطعام للمسكين أو في عدد من يلزمه إطعامه ومن في قراءة من جعله ماضياً تحتمل الموصولية والشرطية وفي قراءة يطّوّع مضارعاً مجزوماً شرطية وانتصب خيراً على إسقاط الحرف أي بخير، أو صفة لمصدر محذوف أي: تطوعاً خيراً فهو عائد على المصدر المفهوم من تطوع أي فالتطوع.﴿ وَأَن تَصُومُواْ ﴾ أي أيها المطيقون.﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ من الفطر والفدية.﴿ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي إن كنتم من أهل العلم والتمييز.
﴿ ٱلشَّهْرَ ﴾ مصدر شهر الشيء أظهره. وبه سمي الشهر وهو المدة الزمانية التي يكون مبدأ الهلال فيها إلى أن يستنير ثم يطلع خافياً. و ﴿ رَمَضَانَ ﴾ علم ممنوع الصرف ويجمع بالألف والتاء وعلى أرمضة وعلقة هذا الاسم من مدة كان فيها في الرمض وهو شدة الحر. وقرىء شهر بالرفع مبتدأ خبره الموصول ويكون ذكر هذه الجملة تقدمت لفرضية صومه بذكر فضيلته والبينة على أن هذا الشهر هو:﴿ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ ﴾ هو الذي يفرض عليكم صومه هذا إن كان قوله: أياماً معدودات، لا يراد بها أيام رمضان، وإن أريدت بها فكان رفعه على تقدير مبتدأ أي تلك الأيام شهر رمضان. وقرىء شهر بالنصب أي صوموا. وجوّز الزمخشري أن يكون مفعولاً لقوله: " وإن تصوموا " وهذا لا يجوز لأن تصوموا صلة لأنْ وقد فصلت بين معمول الصلة وبينها بالخبر الذي هو خبر لأن تصوموا. لو قلت: ان تضرب زيداً شديد، أي ضرب زيد شديد جاز. ولو قلت: إن تضرب شديد زيداً لم يجز. وأدغمت فرقة شهر رمضان. وقال ابن عطية: لا تقتضيه الأصول وعلل ذلك ويعني أصول البصريين ولم تقصر لغة العرب على ما نقله أكثر البصريين ولا على ما اختاره بل إذا صح النقل وجب المصير إليه، والضمير في فيه عائد للقرآن أي بُدىء بإِنزاله فيه وذلك في الرابع والعشرين منه. وقرىء القرآن بنقل حركة الهمزة إلى الواو وحذفها معرفاً ومنكراً. و ﴿ هُدًى ﴾ حال لازمة وألْ في الهدى والفرقان للعموم فيكون هدى وبينات بعضها مبهماً. وقال ابن عطية: اللام في الهدى للعهد. والمراد الاول. " انتهى " كلامه يعني أنه أتى به منكراً أولاً ثم أنزله معرفاً ثانياً يدل على أنه الأول، كقوله تعالى:﴿ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ ﴾[المزمل: ١٥-١٦] فمعلوم أن الرسول الذي عصاه فرعون هو الرسول الذي أرسل إليه. ومن ذلك قولهم: لقيت رجلاً فضربت الرجل، فالمضروب هو الملقى ويعتبر ذلك بجعل ضمير النكرة مكان هذا الثاني فيصح المعنى، لأنه لو أتى بعصاة فرعون أو لقيت رجلاً فضربته لكان كلاماً صحيحاً، ولا يتأتى هذا الذي قاله ابن عطية هنا لأنه ذكر هو والمعربون إن هدى منصوب على الحال والحال وصف في ذي الحال وعطف عليه.﴿ وَبَيِّنَاتٍ ﴾ فلا يخلو قوله.﴿ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ ﴾ المراد به الأول من أن يكون صفة لقوله هدى أو لقوله وبينات أولهما أو متعلقاً بلفظه بينات لا جائز أن يكون صفة لهدى لأنه من حيث هو وصفه لزم أن يكون بعضاً، ومن حيث هو الأول لزوم أن يكون هو إياه، والشيء الواحد لا يكون بعضاً كلاً لماهية ولا جائز. والمعطوف على الحال حال والحالان وصف في ذي الحال فمن حيث كونهما حالين وصف بهما ذو الحال أن يكون صفة لبينات فقط لأن بينات معطوف على هدى، وهدى حال إذ هما وصفان ومن حيث وصفت بينات بقوله: من الهدى خصصتهما به فتوقف تخصيص القرآن على قوله: هدى وبينات معاً.﴿ وَمَن ﴾ حيث جعلت من الهدى صفة لبينات توقف تخصيص بينات على هدى فلزم من ذلك تخصيص الشيء بنفسه وهو محال ولا جائز أن يكون صفة لهما لأنه يفسد من الوجهين المذكورين في كونه وصفاً لهدى فقط أو لبينات فقط ولا جائز أن يتعلق بلفظة وبينات لأن المتعلق تقييد للمتعلق به فهو كالوصف فيمتنع من حيث يمتنع الوصف، وأيضاً فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميراً فقلت: وبينات منه أي منه من ذلك الهدى لم يصح، فكذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامّين حتى يكون هدى وبينات بعضاً منهما.﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ ﴾ أي من كان حاضراً مقيماً بصفة التكليف. وانتصب الشهر على الظرف ومفعول شهد محذوف أي المصْر والبلد. ومنكم في موضع الحال أي كائناً منكم. (وقال) أبو البقاء: منكم حال من الفاعل وهي متعلقة بشهد، وقوله متناقض. وقرىء بكسر لام فليصمه وبسكونها. وقول ابن ملك: ان فتحها لغة. وعزاها ابنه إلى سليم وقال: حكاه الفراء قيده ابن عذرة بفتح حرف المضارع بعدها فإِن ضمّت أو كسرت نحو ليكرم وليتنذل فالكسر.﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ ﴾ أي يطلب. عبر بالإِرادة عن الطلب وأراد تتعدى بالباء وبنفسه للإِجرام وللمصادر واليسر عام فيندرج فيه ما تضمنته هذه الآيات من التيسير. وقرىء بإِسكان السينين وبضمهما.﴿ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ ﴾ قرىء بالتخفيف والتشديد ولتكملوا خطاب لمن أفطر في مرض أو سفر.﴿ ٱلْعِدَّةَ ﴾ أي عدة الأيام التي أفطر فيها بأن يصوم مثلها. واللام لام كي متعلق بمحذوف متأخر تقديره ساوى في الثواب بين صومها في رمضان وبين قضائها في غيره.﴿ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي تعظموه وتثنوا عليه.﴿ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ﴾ أي على هدايتكم طلب منكم التيسير في التكاليف.﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ شرع ذلك للترخيص والتيسير. روي أن قوماً قالوا: لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزل:﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ والخطاب له عليه السلام وجواب إذ فإِني قريب على إضمار فقل لهم إني قريب. والقرب هنا عبارة عن سماعه لدعاءيهم.﴿ أُجِيبُ ﴾ راعي ضمير المتكلم في أني: وهو أكثر في كلام العرب من مراعاة الخبر. تقول: أنا رجل آمر بالمعروف ويجوز بأمر بالياء على مراعاة الغيبة.﴿ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ ﴾ أي دعاءه. والهاء في دعوته هنا ليست دالة على الوحدة بل مصدر بني على فعلة كرحمة. والظاهر عموم الداعي وقد ثبت تصريح العقل والنقل أن بعض الداعين لا يجيبه الله إلى ما سأل فهو مقيد بمن شاء الله أن يجيبه.﴿ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي ﴾ أي فليجيبوني إذا دعوتهم إلى الإِيمان. واستجاب أكثر تعدية باللام. واستفعال بمعنى أفعل كاستنار وأنار.﴿ وَلْيُؤْمِنُواْ بِي ﴾ أي ليديموا على الإِيمان. وقرىء ﴿ يَرْشُدُونَ ﴾ بضم الشين وفتحها وكسرها ومبنياً للمفعول. لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء في رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم. فنزلت وقرىء ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ﴾ لا يراد بليلة الواحدة بل الجنس، والناصب لليلة مقدر لا الرفت المذكور لأنه مصدر، وأضيفت الليلة إلى الصيام وذلك بأدنى ملابسة إذ الصّيام ينوى بالليل. و ﴿ ٱلرَّفَثُ ﴾ كناية عن الجماع وعدي بإِلى لتضمنه معنى الافضاء وهي من الكنايات الحسنة. كقوله:﴿ فَلَماَّ تَغَشَّاهَا ﴾[الأعراف: ١٨٩]، وفأتوا حرثكم. والنساء جمع نسوة هو جمع الجمع أو جمع امرأة على غير اللفظ ولما كان يشمل كل من الزوجين على صاحبه في العناف كني عن ذلك بقوله:﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾ وقدم هن لباس لكم لظهور احتياج الرجل وقلة صبره عنها وأنه البادي بالطلب. وهي: استعارة بديعة وأفرد اللباس لأنه كالمصدر.﴿ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ ﴾ افتعل بمعنى فعل كاقتدر وقدر وعبر به عما وقعوا فيه من المعصية بالجماع وبالأكل بعد النوم أي تنقصون أنفسكم من الخير.﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ أي قبل توبتكم وخفف عنكم بالرخصة.﴿ فَٱلآنَ ﴾ أي ليلة الصيام.﴿ بَٰشِرُوهُنَّ ﴾ وهو أمر إباحة. وهو كناية عن الجماع مشتق من تلاصق البشرتين.﴿ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ ﴾ أي ما أباحه بعد الحظر. وهي جملة يؤكد بها ما قبلها. و ﴿ ٱلْخَيْطُ ﴾ الظاهر أنه الخيط المعهود. وكان جماعة من الصحابة يأكلون ويشربون إلى أن يتبين البياض والسواد في الخيط إلى أن نزل قوله تعالى:﴿ مِنَ ٱلْفَجْرِ ﴾ فعلموا أنه عني بذلك الليل والنهار، وليس هذا من باب تأخير البيان إلى وقت الحاجة بل هو من باب النسخ ألا ترى أن الصحابة عملت بظاهر ما دل عليه ظاهر اللفظين من الخيط الأبيض والخيط الأسود وصارا مجازين من أنه شبه بالخيط الأبيض ما يبدو من الفجر المعترض بالأفق وبالأسود ما يمتد من غبش الليل. ومن الأولى لابتدا الغاية وبتعلق بيتبين، ومن الثانية للتبعيض لأن الخيط الأبيض بعض الفجر وأوله ويتعلق أيضاً بيتبين وجاز تعلقهما بفعل واحد لما اختلف معناهما.﴿ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ ﴾ أمر بالاتمام لا بالصوم لأنه تقدم وجوبه ولو ظنها غربت فافطر ثم طلعت لزمه القضاء عند الجمهور لأنه لم يتم الصيام إلى الليل.﴿ وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ ﴾ وهذا النهي نهي تحريم ويبطل الاعتكاف بالجماع، والمباشرة: كناية عن الجماع، والعكوف: هو الاقامة عكف بالمكان أقام به، وهو في الشرع عكوف مخصوص بين في كتب الفقه وظاهر قوله في المساجد جواز الاعتكاف في كل مسجد فلا يختص بأحد المساجد الثلاثة ولا بالمساجد الذي يجمّع فيه ولا بالمسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم خلافاً لقائلي ذلك وأن المسجد ليس شرطاً لصحة الاعتكاف، فذكر المساجد إنما هو لأن الاعتكاف غالباً لا يكون إلا فيها. ودلت الآية على جواز الاعتكاف للرجال، وأما النساء فمسكوت عنهن. وقرىء في المسجد على الافراد والمراد به الجنس وحد الشيء منتهاه ومنقطعه. و ﴿ حُدُودُ ﴾ الأئمة مقدر أنه بتقادير مخصوصة وصفات مخصوصة.﴿ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ﴾ نهي عن القربان وهو أبلغ من الالتباس بها.﴿ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِ ﴾ أي مثل ذلك البيان السابق في ذكر الصوم وما يتعلق به يبين آياته الدالة على بقية مشروعاته.﴿ لِلنَّاسِ ﴾ عام ولا يلزم من تبيينها تبيّن الناس لها.﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ حيث ذكر التقوى فإِنما يكون عقيب ما فيه مشقة. اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض فحكّم الطالبُ المطلوبَ في أرضه ولم يخاصمه فنزل:﴿ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ ﴾ أي في معاملاتكم وأماناتكم.﴿ بِٱلْبَاطِلِ ﴾ أي بالجهة التي ليست مشروعة وبينكم تقبيح بليغ لما كانوا يتعاطونه من المنكر في ذلك واطلاع بعضهم على بعض.﴿ وَتُدْلُواْ ﴾ مجزوم داخل في النهي.﴿ بِهَا ﴾ أي بالأموال نهي عن الأكل والادلاء. وتجويز الأخفش وتبعه الزمخشري أن يكون منصوباً على جواز النهي لا يصح لأنها مسألة: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، ولا يصح هذا المعنى على تخريجهما لأنه قد يكون نهياً عن الجمع بينهما ولا يلزم منه النهي عن كل واحد منهما على انفراده، والنهي عن كل واحد منهما يستلزم النهي عن الجمع بينهما، لأن في الجمع بينهما حصول واحد منهما وكل واحد منهما منهي عنه ضرورة ألا ترى أن أكل المال بالباطل حرام سواء أفراد جمع مع غيره من المحرمات. وأيضاً قوله: ﴿ لِتَأْكُلُواْ ﴾ علة لما قبلها فلو كان النهي عن الجمع لم تصح العلة لأنه مركب من شيء لا تصلح العلة أن تترتب على وجودهما بل إنما تترتب على وجود أحدهما وهو الادلاء بالأموال إلى الحكام، والادلاء هو الرشوة ليقضي للمدلي بها مقصوده مأخوذة من الرشاء.﴿ بِٱلإِثْمِ ﴾ الباء للسبب أو في موضع الحال، أي متلبسين بالاثم.﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي اثمكم في أخذ ما لا تستحقون ومع ذلك تقدمون عليه وفي ذلك تقبيح بليغ لفعلهم.
﴿ ٱلأَهِلَّةِ ﴾ جمع هلال وأفعلة مقيس في أفعال المضعف نحو عنان وأعنة وشذ فيه فعل قالوا: عنان وعنن. وذكر صاحب شجر الدران الهلال مشترك بين معان كثيرة ويسمى الذي في السماء هلال لليلتين وقيل: لثلاث." والمواقيت " جمع ميقات، وهو منتهى الوقت.﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ ﴾ نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال. وما: فائدة محاقة وكماله ومخالفته لمحالّ الشمس. وسأل: يتعدى بعن وبالباء بمعنى واحد، وهو على حذف أي عن حكمة اختلاف الأهلة والهلال واحد وجمع لاختلاف أزمانه. و ﴿ مَوَٰقِيتُ ﴾ أي في الآجال والمعاملات والايمان والعدد والصوم والفطر ومدة الحمل والرضاع وغير ذلك من المعلق بالأوقات.﴿ وَٱلْحَجِّ ﴾ هو معطوف على الناس أي ومواقيت للحج ليعرفوا بها أشهره ومواقيته، ولما كان الحج من أعظم ما يطلب ميقاته وأشهره بالأهلة أفرد بالذكر وكأنه تخصيص بعد تعميم إذ المعنى مواقيت لمقاصد الناس المحتاج فيها للتأقيت ديناً ودنيا. وقرىء والحج بفتح الحاء وكسرها وكان الأنصار إذا حجوا واعتمروا يلتزمون تشرعاً أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدران فنزل:﴿ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ ﴾ رداً على من جعل إتيان البيوت براً وأمر بإِتيان البيوت من أبوابها وأسباب النزول تدل على أن المراد بالبيوت وظهورها وأبوابها الحقيقة وحملها على المجاز مع إمكان الحقيقة وترجيحها باطنية نعوذ بالله منها.﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ ﴾ فيه الاحتمالات التي في:﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ ﴾[البقرة: ١٧٧] وقرىء بكسر الباء من البيوت كيف ما وقع وضمها وتقدمت جملتان خبريتان فعطف عليهما جملتان أمريتان الأولى راجعة للأولى والثانية للثانية، ولما صدر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فرجع بعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا تفي لهم قريش ويصدوهم ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام وكرهوا ذلك. نزلت:﴿ وَقَاتِلُواْ ﴾ فأطلق لهم فقال الذين يقاتلونهم وبذكر هذا السبب ظهرت مناسبة هذه الآية لما قبلها والمقاتلة هي جهاد الكفار لإِظهار دين الله وأكثر علماء التفسير على أنها أول آية نزلت في الأمر بالقتال.﴿ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ استعير السبيل وهو الطريق لدين الله. لأن به يتوصل المؤمن إلى مرضاة ربه، وهو على حذف أي في نصرة دين الله وفي سبيل ظرف مجازي.﴿ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ ﴾ أي لا تتجاوزوا ما حد الله في القتال وغيره.﴿ وَٱقْتُلُوهُمْ ﴾ أي واقتلوا الذين يقاتلونكم.﴿ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم ﴾ أي حيث ظفرتم بهم وهو عام في كل مكان حل أو حرم.﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾ أي من المكان الذي أخرجوكم وهي مكة وهو أمر تمكين فكأنه وعد من الله بفتح مكة وقد أنجز سبحانه وتعالى ما وعد وفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن لم يسلم منهم.﴿ وَٱلْفِتْنَةُ ﴾ عن دين الله.﴿ أَشَدُّ ﴾ من أن يقتل المؤمن وكانوا قد عذبوا نفراً من المؤمنين ليرجعوا إلى الكفر فعصمهم الله. ثم نهى تعالى المؤمنين أن يبدأ بالقتال في هذا الموطن الشريف حتى يكونوا هم الذين يبدؤن والضمير في فيه عائد على عند.﴿ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ ﴾ بشارة بالغلية عليهم أي هم من الخذلان وعدم النصرة بحيث أمرتم بقتلهم. وقرىء ولا تقتلوهم وكذلك حتى يقتلوكم فإِن قاتلوكم أي حتى يهموا بقتلكم فاقتلوهم فإِن هموا بقتلكم فاقتلوهم.﴿ كَذَلِكَ ﴾ أي مثل ذلك الجزاء وهو القتل.﴿ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ مبتدأ وكذلك الخبر.
﴿ فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ ﴾ أي عن الكفر وأسلموا.﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ وتعليق الغفران والرحمة لا يكون مع الكفر " انتهى ". معناه كف وهو افتعل من النهي ومعناه فعل الفاعل بنفسه وهو نحو قولهم: اضطرب وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل.﴿ وَقَاتِلُوهُمْ ﴾ أي كفار مكة.﴿ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ أي شرك وما تابعه من الأذى للمسلمين. وقيل: الضمير لجميع الكفار.﴿ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ ﴾ أي الانقياد والطاعة لله خالصاً.﴿ فَإِنِ ٱنْتَهَواْ ﴾ أي عن الكفر والعدوان مصدر عدا وهو نفي عام أي على من ظلم وسمي الاعتداء على الظالم عدوانا وهو جزاء الظلم سمي بذلك من حيث هو جزاء عدوان كقوله:﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾[الشورى: ٤٠] ورابط الجزاء بالشرط بتقدير حذف أي على الظالمين منهم أو بالاندراج في عموم الظالمين فكان الربط بالعموم، (قال الزمخشري): ﴿ فَلاَ ﴾ تعتدوا على المنتهين لأن مقابلة المنتهين عدوان وظلم. فوضع قوله:﴿ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ ﴾ موضع على المنتهين. " انتهى ". وهذا الذي قاله لا يصح إلا على تفسير المعنى. وأما على تفسير الاعراب فلا يصح لأن المنتهين ليس مرادفاً لقوله: إلا على الظالمين، لأن نفي العدوان عن المنتهين لا يدل على إثباته على الظالمين إلا بمفهوم لصفة، وفي التركيب القرآني يدل على إثباته على الظالمين بالمنطوق المحصور لنفي وإلا وفرق بين الدلالتين ويظهر من كلامه أنه أراد تفسير الاعراب، ألا ترى قوله: فوضع، قوله: إلا على الظالمين، موضع على المنتهين وهذا الوضع إنما يكون في تفسير الاعراب وليس كذلك لما بيناه من الفرق بين الدلالتين، ألا ترى فرق ما بين قولك: ما أكرمُ الجاهلَ، وما أكرمُ إلا العالم.
﴿ ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ الآية، نزلت في عمرة القضاء عام الحديبية وكان المشركون قاتلوهم ذلك العام في الشهر الحرام هو ذو القعدة فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهيتهم القتال وذلك في ذي القعدة والشهر الحرام بالشهر الحرام أي انتهاك حرمة الشهر الحرام كائن بانتهاك حرمة الشهر الحرام وال فيهما للعهد والحرمات أي حرمة الشهر وحرمة البلد والقطان حين دخلتم وقرىء: والحرمات بضم الراء وإسكانها.﴿ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾ هو من التدريج في أمر القتال.﴿ وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ عام بالإِنفاق في آلة الحرب والمقلين من المجاهدين وغير ذلك من سبيل الله.﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ ﴾ فسر بترك الجهاد والإِخلاد إلى الراحة وإصلاح الأموال الظاهر أنهم نهوا عن كل ما يؤدي بهم إلى الهلاك في غير طاعة الله تعالى ويقال ألقى بيده إلى كذا إذا استسلم وألقى يتعدى بنفسه وجاء بالباء فقيل الباء زائدة وقيل المفعول محذوف أي ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم أو ضمن معنى ولا تفضوا فعدى بالباء والتهلكة مصدر هلك على وزن تفعلة وهو قليل ذكر سيبويه منه النضرة واليسرة ودعوى الزمخشري أن أصلها تهلكة بكسر اللام فضمنت وأنه مصدر هلك بشد اللام لا تصح وذلك لأن فيها حملاً على شاذ ودوي إبدال دليل عليه أما الحمل على الشاذ فحمله على أن أصله تفعلة ذات الضم على تفعلة ذات الكسر وجعله تهلكة مصدر الهلك المشدد اللام وفعل الصحيح اللام غير المهموز قياس مصدره أن يأتي على تفعيل نحو كسر تكسير ولا يأتي على تفعلة إلا شاذاً والأولى جعل تهلكة مصدراً إذ قد جاء ذلك نحو التضرة والتسره وأما التهلكة فالأحسن أن يكون مصدر الهلك المخفف اللام لأنه بمعنى تهلكة بضم اللام وقد جاء في مصادر فعل تفعله قالوا: جل تجلة أي جلالاً فلا يكون تهلكة إذ ذاك مصدر الهلك المشدد اللام وأما إبدال الضمة من الكسرة لغير علة ففي غاية الشذوذ وأما تمثيله بالجوار والجوار فلا يدعي فيه الإِبدال بل بنى المصدر فيه على فعال بضم الفاء شذوذاً وزعم ثعلب أنه مصدر لا نظير له غير صحيح إذ نقل سيبويه له نظيراً.﴿ وَأَحْسِنُوۤاْ ﴾ أمر بالإِحسان ولم يقيد بمفعول فيندرج فيه كل محسن به.﴿ وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ ﴾ أي افعلوهما كاملين من شروطهما وأفعالهما التي يتوقفان عليها وقرىء: والعمرة بالنصب على الحج فتدخل في الأمر بالإِتمام وبالرفع مبتدأ وخبر فلا تدخل تحت الأمر وفروض الحج: النية، والإِحرام، والطواف المتصل بالسعي، والسعي بين الصفا والمروة خلافاً لأبي حنيفة، والوقوف بعرفة، والجمرة على قول ابن الماجشون، والوقوف بمزدلفة على قول الأوزاعي. وأعمال العمرة: النية، والإِحرام، والطواف، والسعي. والأمر بالإِتمام لا يدل على فرضية العمرة لصحة صوم رمضان وشيئاً من شوال بجامع ما اشتركا فيه من المطلوبية وان اختلفت جهتا الطلب والإِحصار والحصر بمعنى واحد وهو المنع بالعدوّ أو بالمرض أو بغير ذلك من الموانع.﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ مطلق لا تقييد فيه وظاهره ثبوت هذا الحكم وأنه يتحلل بالاحصار بالعدوّ وبالمرض وبغير ذلك من الموانع فيما استيسر من:﴿ ٱلْهَدْيِ ﴾ أي فالواجب ما استيسر من الهدى وهو شاة أو ما سهل من جمل أو بقرة والمعنى فإِن أحصرتم عن إتمام الحج والعمرة والهدى مطلق فلا يشترط فيه سنة واستيسر بمعنى الفعل المجرد وهو يسر نحو استصعب وصعب وقرىء: الهدى على وزن أولى وغيا حلق الرأس ببلوغ الهدى محله أي إذا بلغ الهدى محله فأحلقوا والخطاب للمأمورين بالإِتمام كانوا محصرين أو غير محصورين والخطاب في ولا تحلقوا للذكور فلا تحلق المرأة بل تقصر وظاهر النهي التحريم ومحل الهدى إن كان الخطاب للمحصرين فحيث أحصر من حل أو حرم.﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً ﴾ الآية سبب نزولها حديث كعب بن عجرة ومن عام في المحصر وغيره ولما غيا الحلق ببلوغ الهدى وكان الخطاب بالنهي عاماً خص بمن ليس مريضاً ولا به أذى من رأسه وفي الكلام حذف أي مريضاً ففعل ما ينافي المحرم من حلق وغيره أو به أذى من رأسه فحلق ومنكم متعلق بمحذوف وهو في موضع الحال لأنه قبل تقدمه كان صفة لمريضا وأجاز أبو البقا أن يكون متعلقاً بمريضاً وهو لا يكاد يعقل.﴿ أَوْ بِهِ أَذًى ﴾ يجوز أن يكون من عطف المفردات فيرتفع أدى على الفاعلية ومن باب عطف الجمل فيرتفع على الابتداء وأجيز أن يكون من عطف المفردات فيرتفع أذى على الفاعلية ومن باب عطف الجمل فيرتفع على الابتداء وأجيز أن يكون على إضمار كان أي أو كان به ففي كان ضمير هو اسمها وبه الخبر وأذى فاعل بالمجرور أو هو جملة خبر لكان المحذوفة أو يرتفع أذى على أنه اسم كان المحذوفة وبه الخبر وأجاز أبو البقا أن يكون أو به أذى من رأسه معطوفاً على كان وأذى مبتدأ وبه خبره والضمير في به عائد على من كان قد قدم ان من شرطية وعلى هذا التقدير يكون ما قاله خطأ لأن العطف على جملة الشرط يجب فيه أن يكون جملة فعلية إذا المعطوف على الشرط شرط فيجب فيه ما يجب في الشرط والباء في به للالصاق أو ظرفية.﴿ فَفِدْيَةٌ ﴾ أما مبتدأ أي فعليه فدية أو خبر أي فالواجب فدية ومن قرأ بالنصب فعلى إضمار فعل أي فليفد فدية واو للتخيير والظاهر إطلاق الثلاثة وقيدت ذلك السنة الثابتة في حديث كعب ان الصيام ثلاثة أيام والصدقة إطعام ستة مساكين والنسك شاة ولم تتعرض الآية ولا السنة لمقدار ما يطعم المسكين ولا الآية لزمان فعل ذلك ولا لمحل النسك.﴿ فَإِذَآ أَمِنتُمْ ﴾ أي كنتم في حال أمن وسعة أو فإِذا أمنتم من الإِحصار.﴿ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ ﴾ فسر التمتع هنا بإِسقاط أحد السفرين لأن حق العمرة أن تفرد بسفر غير سفر الحج وعن على هو تأخير العمرة حتى يجمعها مع الحج فعليه الهدى والفاء في إذا للعطف وفي فمن جواب إذا وفي فما جواب فمن تمتع.﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ ﴾ ما استيسر اما لعدمه أو لعدم ثمنه.﴿ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ ﴾ أي في أشهر الحج.﴿ وَسَبْعَةٍ ﴾ أي وسبعة أيام والعامل في:﴿ إِذَا ﴾ هو صيام تعلق به في الحج وإذا وجاز ذلك للعطف وإذا ظرف محض لا شرط فيها وفي:﴿ رَجَعْتُمْ ﴾ التفات وحمل على معنى من بعد الحمل على لفظه في إفراده وغيبته ولفظ الرجوع مبهم وثيب في السنة تقييده بالرجوع إلى أهله فاحتمل أن يكون بعد أن وصل إلى أهله وهو الظاهر واحتمل أن يكون إذا رجع أي شرع في الرجوع إلى أهله واحتمل إذا نفرتم ورجعتم من أعمال الحج وبكل من الاحتمالات قال قوم:﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ تلك مبتدأ وعشرة توطئة للخبر وكاملة هو الخبر حقيقة أي كاملة في الثواب والأجر لا يتوهم أن صوم السبعة ليس كصوم الثلاثة في الأجر لاختلاف زمان إيقاع صومها ذلك أي المتع وما ترتب عليه.﴿ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ﴾ وهو سكان مكة لأنهم هم الذين يشاهدون المسجد الحرام وحضور الأهل يقتضي مراد حضور المتمتع لأن الغالب سكناه حيث يسكن أهله ولما تقدم أمر ونهي وواجب ناسب ان يختم ذلك بالأمر بالتقوى في أن لا يتعدى ما حدّه تعالى.
﴿ ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ على المخالفة.﴿ ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ لما أمر بإِتمام الحج والعمرة وكانت العمر لا وقت لها معلوم بين أن الحج له وقت معلوم فظهر بها مناسبة ما قبل الآية والحج مبتدأ وأشهر خبره وليس أشهر وهو الزمان الحج وهو المصدر فالتقدير أشهر الحج أو وقت الحج أو التقدير حج أشهر أو لما كان يقع فيها اتسع فجعل إياها على سبيل المجاز قال ابن عطية: ومن قدر الكلام في أشهر فيلزمه مع سقوط حرف الجر بنصبها أصل " انتهى ". ولا يلزم نصب الأشهر مع سقوط حرف الجر كما ذكر ابن عطية لا ناقد ذكرنا أنه يرفع على الاتساع وهذا لا خلاف فيه عند البصريين أعني أنه إذا كان ظرف الزمان نكرة خبراً عن المصادر أن يجوز فيه عندهم الرفع والنصب وسواء كان الحدث مستغرقاً للزمان أو غير مستغرق واما الكوفيون فعندهم في ذلك تفصيل وهو أن الحدث إما أن يكون مستغرقاً للزمان فيرفع ولا يجوز فيه النصب أو غير مستغرق فمذهب هشام أنه يجب فيه الرفع تقول ميعادك يوم وثلاثة أيام وذهب الفراء في هذا الموضع أنه لا يجوز نصب الأشهر لأن شهراً نكرة غير محصورة وهذا النقل مخالف لما نقلنا نحن عنه فيمكن أن يكون له القولان قول البصريين وقول هشام وأشهر جمع قلة وهو شوال وذو القعدة وذو الحجة كله على ظاهر الجمع وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين وتابعيهم كابن مسعود وعطاء ومالك. قال الزمخشري: فإِن قلت كيف كان الشهران وبعض الشهر أشهراً قلت اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله تعالى:﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾[التحريم: ٤] فلا سؤال فيه إذن داعا كان يكون موضعاً للسؤال لو قيل ثلاثة أشهر معلومات " انتهى كلامه ". وما ذكره الدعوى فيه عامة وهو أن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد وهذا فيه النزاع والدليل الذي ذكره خاص وهو فقد صغت قلوبكما وهذا لا خلاف فيه ولا طلاق الجمع في مثل هذا على التثنية شروط ذكرت في النحو وأشهر ليس من باب فقد صغت قلوبكما فلا يمكن أن يستدل به عليه وقوله: فلا سؤال، فيه إذن ليس بجيد لأنه قد فرض السؤال بقوله: فإِن قلت وقوله: وإنما، كان يكون موضعاً للسؤال لو قيل ثلاثة أشهر معلومات ولا فرق عندنا بين أشهر وبين قوله ثلاثة أشهر لأنه كما يدخل المجاز في لفظ أشهر كذلك يدخل المجاز في العدد ألا ترى إلى ما حكاه الفراء له اليوم يومان لم أره، قال: وإنما هو يوم وبعض يوم آخر، وإلى قول امرىء القيس: ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال على ما قدمناه ذكره وإلى ما حكي عن العرب ما رأيته منذ خمسة أيام وان كنت قد رأيته في اليوم الأول واليوم الخامس فلم يشمل الانتفاء خمسة الأيام جميعاً بل يجعل ما رأيته في بعضه وانتفت الرؤية في بعضه كأنه يوم كامل لم تره فيه فإِذا كان هذا موجوداً في كلامهم فلا فرق بين أشهر وبين ثلاثة أشهر لكن مجاز العدد ومعنى معلومات معروفات عند الناس وأن مشروعية الحج فيها إنما جاءت على ما عرفوه وكان مقرراً عندهم.﴿ فَمَن فَرَضَ ﴾ أي ألزم نفسه الحج واصل الفرض الحز الذي في السهم. والمراد بالفرض هنا ما يكون به المحرم محرماً وهو الإِهلال بالحج على خلاف فيما يدخل به المحرم في الحج مذكور في القصة وجاء فيهن وهو عائد على أشهر على الفصيح.﴿ فَلاَ رَفَثَ ﴾ أي الجماع ولا ما لا يليق ممن كان قلباً بالحج.﴿ وَلاَ فُسُوقَ ﴾ فسر هنا بفعل ما نهي عنه في الإِحرام في قتل صيد وحلق شعر والمعاصي كلها.﴿ وَلاَ جِدَالَ ﴾ أي مماراة المسلم حتى يغضبه وسبابه وما يسمى جدالاً للتغالب وحظ النفس وقرىء: برفع الثلاثة على الابتداء والخبر.﴿ فِي ٱلْحَجِّ ﴾ وجزم ابن عطية بأنها عملت عمل ليس ضعيف وقرىء: بنصب الثلاثة على المصدر ننصبها أفعال من لفظها وفي الحج متعلق بما شئت من الأفعال على تقدير الفتح في الثلاثة من غير تنوين وهذا بناء على قول الجمهور ولا والمبني معها موضع مبتدأ والخبر عنه في موضع رفع ولا عاملة في المبنى فهو في موضع نصب ومذهب الأخفش: أن لا عاملة عمل ان فالمبنى اسمها والخبر خبرها في موضع نصب، وقرىء: برفع الأولين وبالتنوين وفتح الثالث من غير تنوين فعلى مذهب سيبويه ان في الحج خبر عن الثلاثة عطف مبتدأ ومذهب الأخفش أنه لا يجوز أن يكون في الحج إلا خبراً عن الأولين أو خبر لاختلاف المعرب. ولابن عطية والزمخشري في هذا الكلام تعقبناه عليها وذكرناه في البحر وهذه الجملة صورتها صورة الخبر والمعنى على النهي ومن فيمن شرطية أو موصولة والرابطة محذوف لفهم المعنى أي فلا جدال له في الحج أو فلا جدال في الحج له أو منه وعلى رأي الكوفيين تنوب آل عن الضمير أي في حجه وكرر في الحج للتعظيم والتفخيم ولم يأت التركيب فلا جدال فيه.﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ ﴾ نصب على الخبر حثا على فعله وهو تعالى عالم بما يفعلونه من خير وشر وفي قوله: وما تفعلوا التفات ويعلمه اما على ظاهره أي فيثبت عليه أو عبر عن المجازاة بالعلم.﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ ﴾ عن ابن عباس نزلت في ناس من اليمن يحجون بغير زاد ويقولون نحن متوكلون بحج بيت الله أفلا يطعمنا فيتوصلون بالناس وربما ظلموا وغضبوا فأمروا بالتزود وأن لا يظلموا ويكونوا كلاً على الناس والذي يدل عليه سياق ما قبل الأمر وما بعده أن يكون الأمر بالتزويد بالنسبة إلى تحصيل الأعمال الصالحة التي تكون له كالزاد إلى سفر الآخرة والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عما ينفي به النار ومفعول وتزودوا محذوف أي وتزود أو التقوى بدل عليه الإِظهار في خبر أن.﴿ وَٱتَّقُونِ ﴾ تحذير من ارتكاب ما تحل به العقوبة.﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ ولما جاء الإِسلام تحرجت العرب من أن يحضروا أسواق الجاهلية كعكاظ وذي المجاز ومجنة فأباح الله لهم ذلك والفضل الأرباح التي تكون بسبب التجارة.﴿ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ ﴾ عرفات علم اسم جبل وهو مؤنث حكى سيبويه هذه عرفات مباركاً فيها وهو مرادف لعرفة وتنوينه تنوين مقابلة وقيل تنوين صرف ولا يدل هذا الشرط على وجوب الوقوف بعرفات إنما يعلم منه الحصول في عرفة والوقوف بها لكن السنة والاجماع يدلان على ذلك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفع من عرفات أعنق وإذا وجد فرجة نص والعنق سير سريع مع رفق والنصب سير سريع شديد فوق العنق.﴿ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ ﴾ أي اذكروه بالثناء والتضرع أو كني به عن الصلاة بالمزدلفة المغرب والعشاء والمشعر المعلم ووصف بالحرام لأنه ممنوع أن يفعل فيه ما نهي عنه من محظورات الإِحرام وهذا المشعر يسمى جمعاً وهو ما بين جبلي المزدلفة من مفضى عرفة إلى بطن محسر وليس المأزمين ولا وادي محسر من المشعر الحرام والمأزم المضيق وهو مضيق واحد بين جبلين ثنوه لمكان الجبلين ولم تتعرض الآية لتعيين الذكر بالمزدلفة وعنه صلى الله عليه وسلم أنه لما صلى الفجر يعني بالمزدلفة بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ولم يزل واقعاً حتى أسفر وعلى هذا يكون في الكلام مجلة محذوفة أي فإِذا أفضتم من عرفات ويتم بالمزدلفة فاذكروا الله عند المشعر الحرام.﴿ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ ﴾ الظاهر أنه تكرار قصد به التوكيد والكاف في كما للتشبيه أما نعت لمصدر محذوف أو نصب على الحال أو تكون الكاف للتعليل أي اذكروه وعظموه لهدايته السابقة لكم وقد ذكر سيبويه حاكياً كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه أي لأنه لا يعلم وأثبت كون الكاف للتعليل الأخفش وابن برهان ومن المتأخرين ابن مالك وما في كما مصدرية وجوز الزمخشري وابن عطية أن تكون كافة للكاف عن العمل وقد منع أن تكون الكاف مكفوفة بما عن العمل أبو سعد علي بن مسعود بن الفرخال صاحب المستوفى والهداية هنا هي خاصة أي في مناسك حجكم إلى سنة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أو عامة تتناول أنواع الهدايات.﴿ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ ﴾ أي ضالين من قبله أي من قبل الهدى الدال عليه كما هداكم.﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ ﴾ ثم للترتيب في الذكر لا للترتيب في الزمان الواقع فيه الأفعال وحسن هذا ان لإِفاضة السابقة لم تكن مأموراً بها إنما كان المأمور به ذكر الله تعالى إذا فعلت والأمر بالذكر عند الفعل لا يدل على الأمر بالفعل ألا ترى أنك تقول إذا ضربك زيد فاضربه فلا يكون زيد مأموراً بالضرب فكأنه قيل ثم لتكن تلك الإِفاضة من عرفات وفي الحديث كان الحمس يقفون بالمزدلفة وكان من سواهم يقفون بعرفة فأنزل الله هذه الآية وقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المبعث بعرفة وهو من الحمس إلهاماً من الله وتوفيقاً إلى ما شرع وللزمخشري كلام في ثم دانها تكون للتفاوت والبعد. قال: فإِن قلت فكيف موقع ثم قلت نحو موقعها من قولك أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم تأتي بثم لتفاوت ما بين الإِحسان إلى الكريم والإِحسان إلى غيره وبعدما بينهما فلذلك حين أمرهم بالذكر عند الافاضة من عرفات قال: ثم أفيضوا التفاوت ما بين الإِفاضتين وان أحدهما صواب والثانية خطأ " انتهى كلامه ". وليست الآية كالمثال الذي مثله وحاصل ما ذكر أن ثم تسلب الترتيب وانها لها معنى غيره سماه بالتفاوت والبعد لما بعدها مما قبلها ولم يجر في الآية أيضاً ذكر الافاضة الخطأ فتكون ثم في قوله: ثم أفيضوا، جاءت لبعد ما بين الافاضتين وتفاوتهما ولا نعلم أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى لثم والناس ظاهره العموم في المفيضين وقرىء: الناس بالياء وبتركها وفسر بآدم لقوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ ﴾[طه: ١١٥].
قال ابن عطية: ويجوز عند بعضهم حذف الياء فيقول الناس كالقاضي والهاد قال: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه ظاهره أن ذلك جاز مطلقاً ولم يجزه سيبويه إلا في الشعر وأجازه القراء في الكلام وأما قوله: وأما جوازه مقرؤا به فلا أحفظه فكونه لا يحفظه قد حفظه غيره. قال أبو العباس المهدوي: قرأ أفاض الناسي سعيد بن جبير وعنه أيضاً أفاض الناس بالكسر من غير ياء " انتهى ". كلام المهدوي وفي هذه القراءة دليل على أن الافاضة من عرفات شرع قديم ولما حج أبو بكر توجه إلى عرفات فمر بالحمس وهم وقوف بجمع فلما ذهب ليجاوزهم قالوا له: يا أبا بكر أين تجاوزنا إلى غيرنا هذا موقف آبائك فمضى أبو بكر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفات وبها أهل اليمن وربيعة فوقف بها حتى غربت الشمس ثم أفاض بالناس إلى المشعر الحرام فوقف به فلما كان عند طلوع الشمس أفاض منه.﴿ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ ﴾ أمر بطلب غفران الذنوب كانوا إذا قضوا مناسكهم اجتمعوا في الموسم يتفاخرون ويذكرون مآثر آبائهم من قرى الضيف والشجاعة ونحر الجزر وفك العاني وجز النواصي وغير ذلك مما يفخرون به فنزل:﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ ﴾ الآية، ومعنى قضيتم أدّيتم وقرىء: مناسككم بالتفكيك وبالإِدغام والمعنى ابتهلوا بذكر الله والثناء عليه والهجوا بذكره كما يلهج المرء بذكر أبيه وأعربوا ذكراً تمييزاً بعد أفعل التفضيل فجعلوا الله ذكرا إذ التقدير أو ذكراً أشد ذكراً وذلك على سبيل المجاز كما قالوا شعر شاعر وجوزوا أن يكون أو شد معطوفاً على موضع الكاف فيكون منصوباً أو على ذكر المجرور فيكون مجروراً أي أو كذكر أشد ذكراً أو وصفاً في المعنى للذاكر منتصبة بفعل مضمر تقديره أو كونوا أشد ذكراً أو للذاكر المذكور منتصبه عطفاً على إياكم والتقدير أو قوماً أشد ذكراً من آبائكم ومعنى من آبائكم أي من ذكركم لآبائكم أو بجره عطفاً على الضمير المجرور بالمصدر أي أو قوم أشد ذكراً فهذه خمسة وجوه ضعيفة وقد ساغ لنا حمل الآية على معنى يتبادر إليه الذهن بتوجيه صحيح ذهلوا عنه وهو أن يكون أشد منصوباً على الحال وهو كان يكون نعتاً لذكرا لو تأخر فلما تقدم انتصب على الحال ألا ترى أنه لو تأخر لكان التركيب أو ذكراً أشد أي من ذكركم لآبائكم فصلت الحال بين حرف العطف والمعطوف وجاز ذلك لأن حرف العطف على أن أزيد من حرف ولأن الحال مفعول فيها فهي شبيهة بالظرف وحسن تأخير ذكراً لأنه كالفاصلة ولزوال التكرار إذ تقدم لكان التركيب فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو ذكراً أشد.﴿ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ﴾ هذا تقسيم للمأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك وأنهم ينقسمون في سؤال الله تعالى إلى من يغلب عليه حب الدنيا فلا يدعو إلا بها ومنهم من يدعو بصلاح ماله في الدنيا والآخرة وهذا من الإِلتفات ولو جاء على الخطاب لكان التركيب فمنكم من يقول وحكمة هذا الإِلتفات أنهم لما واجهوا بهذا الذي لا ينبغي أن يسأله عاقل وهو الاقتصار على الدنيا فابرزوا في صورة غير المخاطبين بذكر الله بأن جعلوا في صورة الغائبين مفعول آتنا محذوف أي ما نريد ومطلوبنا وجعل في زائدة فتكون الدنيا المفعول الثاني أو جعل في بمعنى من تكون في موضع المفعول الثاني قولان ساقطان.﴿ وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ أي نصيب وهو اخبار بحاله في الآخرة حيث اقتصر في طلبه على الدنيا وأفرد الضمير في يقول حملاً على اللفظ وأتى بنون الجمع في آنا حملاً على المعنى الحسنة مطلقة وقد مثلوا الحسنتين بأنواع من حسنات الدنيا ومن حسنات الآخرة. وقال ابن عطية: حسنة الآخرة الجنة بإِجماع.﴿ وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾ من عطف شيئين على شيئين لا من باب الفصل بين حرف العطف والمعطوف بل هو من باب أعطيت زيداً درهماً وعمراً ديناراً ورأيت من زيد وداً ومن بكر جفوة.﴿ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ﴾ سؤال بالوقاية من النار وهو أن لا يدخلوها إذ كان من يدخل النار ثم يدخل الجنة صدق عليه أنه أوقى في الآخرة حسنة فسألوا الوقاية من النار.﴿ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾ إشارة إلى الفريقين إذ لفظ نصيب ومما كسبوا مشترك بينهما ومن للتبعيض أي من جنس ما كسبوا أو للسبب.﴿ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ﴾ يعم محاسبة العالم كلهم.﴿ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ ﴾ خطاب للحاج وهو مطلق والمراد التكبير عند رمي الجمرات في أيام معدودات لم تعين واختلفوا أهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر قاله ابن عباس أو يوم النحر ويومان بعده قاله عليّ أو يوم النحر وثلاثة أيام بعده.﴿ فَمَن تَعَجَّلَ ﴾ أي استعجل النفر أو بالنفر لأن تعجل يكون متعدياً أو غير متعد في.﴿ يَوْمَيْنِ ﴾ ليس على ظاهره بل على حذف أي في أصل يومين ويتعين أن يكون ذلك بعد يوم النفر وهو ثاني يوم النحر لإِجماع الناس على أنه لا ينفر أحد يوم القر أو يكون التقدير في تمام يومين وظاهر فمن تعجل العموم سواء كان مكياً أو آفاقياً وان التعجيل يكون بالنهار.﴿ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ في التعجل أي لا حرج لما كان الأمر بالذكر في أيام وهي جمع ولم يستغرقها بالمقام وتعجل نفي عنه الحرج في الأخذ بالرخصة ثم نفى الحرج عمن تأخر في تركه الأخذ بالرخصة.﴿ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ ﴾ متعلق بنفي الاثم إذ من لم يكن متقياً لم يرتفع الاثم عنه وقد كملت أحكام الحج من ذكر وقته إلى آخر فعله وهو النفر وبدئت بالأمر بالتقوى وختمت به وتخلل الأمر بها في غضون الآي.﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ نزلت في الأخنس بن شريق واسمه أبي كان حلو اللسان والمنظر يظهر الإِسلام وحب الرسول عليه السلام ويحلف على ذلك وهو عليه السلام يدنيه ولا يعلم ما أضمر وكان من ثقيف حليفاً لبني زهرة ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قبل نوعي السائلين أتى بذكر نوعين من هو حلو المنطق يظهر الود يخالف باطنه لظاهره والآخر يبتغي رضى الله وقدم الأول هنا لأنه هناك مقدم وأحال على إعجاب قوله دون غيره من أوصافه لأن القول هو الظاهر منه أولاً وهو المذكور في قوله: " فمن الناس من يقول ". والخطاب للرسول إذا كان التعجب معياً أو لمن كان مؤمناً إذ كان غير معين والإِعجاب استحسان منطقه بحلاوته وموافقته لمن يخاطبه. وفي الحياة متعلق بيعجبك أي يستحسن مقالته دائماً في مدة حياته إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجب رائق لطيف ومع ذلك أفعاله منافياً لأقواله.﴿ وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ ﴾ قرىء: مضارع أشهد ونصب الجلالة أي يحلف بالله أنه صادق وقاتل حقاً ومحب في الرسول والإِسلام، وقرىء: يشهد مضارع شهد ورفع الجلالة أي يطلع الله عما في قلبه من الخبث والمكر ولا يعلم به أحد لشدة تكتمه.﴿ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ ﴾ اللدد شدة الخصومة يقال لددت تلدداً ولدادة ورجل ألد وامرأة لداء والخصام مصدر أو جمع خصم فالجمع يكون فيه ألد خبراً عن هو بلا تقدير والمصدر يحتاج إلى تقدير أي وخصامه أشد أو هو أشد ذوي الخصومة قال الزمخشري: والخصام المخاصمة وإضافة الألد بمعنى في كقولهم: ثبت العذر " انتهى ". يعني أن أفعل ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه بل هي إضافة على معنى في وهذا مخالف لما يزعمه النحاة من أن أفعل التفضيل لا يضاف إلا لما هو بعض له وفيه إثبات الإِضافة بمعنى في وهو قول مرجوح في النحو والجملتان الفعلية والإِسمية معطوفتان على صلة من فهما داخلان في الصلة.﴿ وَإِذَا تَوَلَّىٰ ﴾ أي ببدنه عن الذي يلين له القول ويلطف به والتولي حقيقة في الانصراف بالبدن.﴿ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي مشى فيها والمتردد من جهةٍ إلى جهة.﴿ لِيُفْسِدَ فِيِهَا ﴾ علة لسعيه أي مقصوده في سعيه إنما هو الفساد.﴿ وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ ﴾ عطف خاص على عام وجرد من العام لأنهما أعظم ما يحتاج إليهما في عمارة الدنيا والحرث الزرع والنسل ما يتولد من الأولاد من الناس والحدان. وقرىء: ويهلك مضارع أهلك ونصب لحرث والنسل ويهلك بضم الكاف على الاستئناف ويهلك مضارع هلك برفع الكاف ورفع ما بعده وكذا مع فتح اللام وهي لغة شاذة نحو ركن يركن والجملة الشرطية اما مستأنفة واما داخلة في الصلة ولما تقدمت جملتان الثانية مندرجة في الأولى قال تعالى:﴿ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ ﴾ فاكتفى بذكر الأولى لانطوائها على الثانية والفساد عام في الأرض ومال ودين وغير ذلك حتى أن بعض أهل العلم استدل به على منع الإِنسان شق ثوبه.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ ﴾ مستأنفة أو داخلة في الصلة. " أخذته العزة " احتوت عليه وأحاطت به وصار كالمأخوذ لها " بالاثم " أي مصحوباً أو مصحوبة بالاثم: أو للسبب أي اثمه السابق كان سبباً لأخذ العزة له. ووقف يهودي لهارون الرشيد فقال له: اتق الله يا أمير المؤمنين، فنزل عن دابته وخرّ ساجداً وقضى حاجته. فقيل له في ذلك فقال: ذكرت قوله تعالى:﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ ﴾.
﴿ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ﴾ أي كافية جزاء جهنم وهو استعظام لما حلّ به. وجهنم: اسم علم للنار، وهي مشتقة من قولهم: ركية جهنم إذا كانت بعيدة القعر. وسمي الرجل بجهنام وكلاهما من الجهم وهو الكراهة والغلظة ووزنها فعنّل. ولا يلتفت لمن قال: وزنها فعلّل كعدبّس وان فعللا مفقود لوجود فعّل نحو رونّك وضفنك وغيرهما وامتنعت الصرف للتأنيث والعلمية.﴿ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ ﴾ المخصوص بالذم محذوف تقديره هي أي جهنم ولما تقدم قوله تعالى:﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ ﴾[البقرة: ٢٠٤] وكان عاماً في المنافق: الذي يظهر خلاف ما يبطن، ناسب ذكر قسيمة عاماً وهو من يبذل نفسه في طاعة الله وينبغي أن يكون من عني من الصنفين إنما ذكر على سبيل المثال وكون من يدخل في عمومها. و ﴿ يَشْرِي ﴾ معناه يبيع عبر عن بذل النفس بالشراء وانتصب.﴿ ٱبْتِغَآءَ ﴾ على أنه مفعول له. و ﴿ مَرْضَاتِ ﴾ مصدر مبني على التاء كمدعاة والقياس تجريده عن التاء. وكتب في المصحف بالتاء وبالهاء ومعنى ذلك أنه يبتغي رضا الله عنه. وهو كناية عن فعله به ما يفعل الراضي بمن يرضى عنه وهو إيصال الخير إليه.﴿ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ ﴾ حيث كلفهم يقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح من شراء نفسه في جهاد وغيره مما يشق.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ ﴾ إن كان المنادي أهل الكتاب، فالمعنى: آمنوا بالتوراة والانجيل ادخلوا.﴿ فِي ٱلسِّلْمِ ﴾ في الشرائع الاسلام. وفسر السلم: بالاسلام. وإن كان المنادى المسلمين فالمعنى: يا من آمن بقلبه وصدق ادخلوا في شرائع الاسلام والايمان وأجمعوا إلى الإِيمان الإِسلام، وهو ما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام إذ قد فرق عليه السلام بين الحقيقتين. وقرىء بفتح السين وكسرها وانتصب.﴿ كَآفَّةً ﴾ على الحال. وذو الحال ضمير ادخلوا وكافة مما التزام نصبه على الحال نحو: قاطبة، ومعناه: جميعاً. (قال) الزمخشري: ويجوز أن يكون حالاً من السلم أي في شرائع الاسلام كلها أمروا بأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة. وقال ما نصه: ويجوز أن تكون كافة حالا من السلم لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب قال: السلم يأخذ منها ما رضيت به، والحرب يكفيك من أنفاسها جرع. على أن المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها وان لا يدخلوا في طاعة دون طاعة أو في شعب الاسلام وشرائعه كلها وأن لا يخلّوا بشيء منها. وعن عبد الله بن سلام انه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم على السبت وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل فلم يأذن له. وكافة: من الكف كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد. " انتهى ". وتعليله جواز أن تكون كافة حالاً من السلم. بقوله: لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب ليس بشيء، لأن التاء في كافة وإن كان أصلها للتأنيث ليست فيها إذا كانت حالاً للتأنيث بل صار هذا نقلاً محضاً إلى معنى جميع وكل كما أو قاطبة أو عامة فلا يدل شيء من هذه الألفاظ على التأنيث كما لا يدل عليه كل ولا جميع، وتوكيده بقوله: أو في شعب الاسلام وشرائعه كلها هو الوجه الأول من قوله: بأن يدخلوا في الطاعات كلها فلا حاجة إلى هذا الترديد. (قال) ابن عطية: وقالت فرقة جميع المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أمرهم بالثبوت فيه والزيادة من التزام حدوده فتستغرق كافة حينئذٍ المؤمنين وجميع أجزاء الشرع فيكون الحال من شيئين، وذلك جائز نحو قوله تعالى:﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ﴾[مريم: ٢٧].
إلى غير ذلك من الأمثلة، ثم قال بعد كلام ذكره وكافة معناه: جميعاً، والمراد بالكافة: الجماعة التي تكف مخالفيها. " انتهى ". وقوله: فيكون الحال من شيئين، يعني من الفاعل في ادخلوا، ومن السلم وهذا الذي ذكره محتمل ولكن الأظهر أنه حال من الضمير الفاعل وذلك جائز يعني: مجيء الحال الواحد من شيئين. وفي ذلك تفصيل مذكور في النحو. وقوله نحو قوله:﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ﴾[مريم: ٢٧] يعني: أن تحمله حال من الفاعل المستكن في أتت، ومن الضمير المجرور بالباء. وهذا المثال ليس مطابقاً للحال من شيئين لأن لفظة تحمله لا يحتمل شيئين ولا يقع الحال من شيئين إلا إذا كانت اللفظة تحتملهما واعتبار ذلك بجعل ذوي الحال مبتدأين والاخبار بتلك الحال عنهما فمتى صح ذلك صحت الحال ومتى امتنع امتنعت. مثال ذلك قول الشاعر: وعلقت سلمى وهي ذات مؤصد ولم يبد للأتراب من ثديها حجمصغيرين نرعى البهم يا ليت أننا صغير لم نكبر ولم تكبر البهمفصغيرين حال من الضمير في علقت ومن سلمى لأنه يصح أنه يقول أنا وسلمى صغيران نرعى البهم. ومثله قوله: خرجت بها نمشي تجر وراءنا فنمشي حال من التاء في خرجت ومن الضمير المجرور في بها. ويصلح أن نقول: أنا وهي نمشي وهنا لا يصلح أن يكون تحمله خبراً عنهما. لو قلت: هي وهو تحمله لم يصح أن يكون تحمله خبراً نحو قوله: هند وزيد تكرمه، لأن تحمله وتكرمه لا يصح أن يقدر إلا بمفرد فيمتنع أن يكون حالاً من ذوي حال ولذلك أعرب المعربون في خرجت بها نمشي تجر وراءنا نمشي حالاً منهما وتجر حالاً من ضمير المؤنث خاصة لأنه لو قيل: أنا وهي تجر وراءنا، لم يجز أن يكون تجر خبراً عنهما لأن تجر وتحمل إنما يقدران بمفرد أي حاملة، وجارّة. وإذا صرحت بهذا المفرد لم يمكن أن يكون حالاً منهما وكافة لدلالته على معنى جميع يصلح أن يكون حالاً من الفاعل في ادخلوا ومن السلم بمعنى شرائع الاسلام لأنك لو قلت الرجال والنساء جميع في كذا صح أن يكون خبراً. لا يقال: كافة لا يصح أن يكون خبراً. لا تقول: الزيدون والعمرون كافة في كذا. ولا يجوز أن يقع حالاً على ما قررت لأن امتناع ذلك إنما هو بسبب مادة كافة إذ لم يتصرف فيها بل التزم نصبها على الحال لكن مرادفها يصح فيه ذلك وقوله: والمراد بالكافة الجماعة التي تكف مخالفيها يعني: أن هذا في أصل الوضع ثم صار الاستعمال لها بمعنى جميعاً، كما قال هو وغيره: وكافة معناه جميعاً. وضم عين فعلة الاسم في الجمع بالألف والتاء لغة الحجاز فتقول: خطوات.
﴿ فَإِن زَلَلْتُمْ ﴾ باتباع الشيطان في كفر أو معصية. وقرىء: زللتم بفتح اللام وبكسرها.﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ ﴾ وهي حجج الله ودلائله التي أوضحها في كتابه وعلى لسان رسوله.﴿ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ﴾ لا يغالب.﴿ حَكِيمٌ ﴾ فيما يرتبه من الزواجر لمن خالف وفي ذلك وعيد شديد وأمرهم بأن يعلموا تنبيه لهم على ما قد يغفل العاصي عن وصفه تعالى بهاتين الصفتين.﴿ هَلْ يَنظُرُونَ ﴾ أي هل ينتظرون. والمعنى على النفي ولذلك دخلت إلا في قوله:﴿ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ والإِتيان حقيقة في الانتقال من حيّز إلى حيّز وذلك مستحيل بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى وهو إتيان على ما يليق به سبحانه من غير انتقال إذ هو تعالى ليس في مكان، أو يكون على حذف مضاف وهو الذي صرح به في قوله: أو يأتي أمر ربك. وهو عبارة عن بأسه وعذابه. ويدل على هذا المحذوف قوله:﴿ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ ﴾ يستحيل أنه يحل سبحانه وتعالى في ظلل. وقد قيل الضمير في ينظرون لليهود وهم مشبّهة. ويدل عليه قوله بعد: سل بني إسرائيل، والمعنى أنهم لا يقبلون ما دعوا إليه من الاسلام واتباع الرسول إلا بأن يأتيهم الله تعالى. وقرىء في ظلل وفي ظلال الأول جمع منقاس، والثاني لا ينقاس. وقرىء ﴿ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾ بالرفع عطفاً على الجلالة وبالجر عطفاً على في ظلل أو على من الغمام.﴿ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ ﴾ قد يستروح من هذا ذلك المحذوف المقدر وهو أمر ربك وقضاء الأمر عبارة عن الجزاء والفراغ من الحساب. وقرىء: وقضاء ممدوداً بضم الهمزة وجرها. وقرىء: وقضى الأمر جمعاً. وقرىء: يرجع بالياء مبنياً للفاعل وبالتاء والياء مبنياً للمفعول.﴿ سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ الخطاب للرسول عليه السلام أو لكل أحد. وقرىء اسأل واسأل لم يعتد بنقل الحركة فتحذف همزة الوصل. وقراء الجمهور سلْ فاحتمل النقل وحذف همزة الوصل. واحتمل أن يكون على لغة سأل يسأل: حكاها سيبويه.﴿ كَمْ آتَيْنَاهُم ﴾ سؤال تقريع وتكرير لما آتاهم من البينات ومع ذلك ما أحْمَدتْ عندهم. وكم في موضع نصب على المفعول الثاني لآتيناهم ومن آية تمييز لكم وعلى هذا لا يجوز ما أجاز ابن عطية من أن كم منصوبة بفعل مضمر يفسره ما أجاز ابن عطية من أن كم منصوبة بفعل مضمر يفسره الظاهر التقدير كم آتيناهم، لأن الضمير في آتيناهم ليس عائداً على كم ولا هو سببي ونظير ما أجاز أن تقول: الدرهم أعطيت زيداً، فتنصب الدرهم بفعل مضمر، وأعطيت ليس فيه ضمير يعود على الدرهم ولا سببي ويترك نصبه بأعطيت المفرغ له وكذلك: زيداً ضربت ينصب زيداً بفعل محذوف، وضربت مهيأ للعمل فيه. وأجاز أيضاً أن تكون كم مبتدأة وحذف الضمير العائد عليها والتقدير آتينا هموماً وهذا عند البصريين لا يجوز إلا في الشعر أو شاذ من القراءات. وكم آتيناهم في موضع المفعول الثاني لسل، وسل معلقة كما قال: سائل بني أسد ما هذه الصوت. وأجاز الزمخشري أن تكون كم خبرية وفي جعلها خبرية اقتطاع للجملة التي هي فيها من جملة السؤال ويصير الكلام مفلّتاً عما قبله وأنت ترى مصب السؤال على هذه الجملة ولا يكون ذلك إلا مع الاستفهام ومن آية تمييز لكم. وأجاز ابن عطية أن يكون " من آية " مفعولاً، ومن: زائدة، والتمييز: محذوف. وفي جواز مثل هذا التركيب نحو: كم درهم أعطيت من رجل نظر. والآيات البينات ما تضمنته التوراة والانجيل من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحقيق نبوته وتضمن ما جاء به ومعجزاته.﴿ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ ﴾ هي الآيات وأي نعمة أجل منها. على ما الموصولة والهاء في أوتوه. عائدة على الكتاب والذين أوتوه هم إبان العلم به والدراسة له وخصهم بالذكر تشنيعاً وتقبيحاً للذي فعلوه من الاختلاف.﴿ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ ﴾[البقرة: ٢١٣] أي في الكتاب وهي سبب الهداية ومن عام فيدخل فيه كفار قريش وحذف حرف الجر من نعمة. والمفعول الثاني لدلالة المعنى عليه، والتقدير: ومن يبدل نعمة الله كفراً. ودل على ذلك ترتيب جواب الشرط عليه وجواب الشرط لدلالة ما بعده عليه تقديره يعاقبه أو يقدر ضمير أي شديد العقاب له أو تنوب ال عن الضمير على مذهب من يرى ذلك أي شديد عقابه.
﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا ﴾ نزلت في أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعمون بما بسط الله عليهم. وقرىء زين وزينت على البناء للمفعول وزين مبنياً للفاعل والتزيين التحسين.﴿ وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث اتبعوه وأعرضوا عن حطام الدنيا. وصدرت الجملة بالماضي لأنه أمر مفروع منه وهو تركيب طباعهم على محبة الدنيا وإيثارها على الآخرة. والثانية جاءت بالمضارع لأنه يتجدد كل وقت عطف المضارع ومتعلقه على الماضي ومتعلقه أو يقدر وهم يسخرون فيكون من عطف الاسمية على الفعلية، ولما كانت السخرية تقتضي العلو والتطاول للساخر أخبر تعالى يعلو المؤمنين عليهم في الآخرة وجاء لفظ: اتقوا بعثا للمؤمن على التقوى.﴿ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ ﴾ أي في الآخرة.﴿ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ أي بغير نهاية. أو في الدنيا بأن يملك المؤمنين المسخور منهم رقاب الكافرين وأرضيهم وأموالهم ولا يحاسبهم على ذلك ولا يحصي عليهم.﴿ كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً ﴾ أي في الإِيمان.﴿ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ ﴾ في الكلام حذف أي فاختلفوا فبعث وقرأ عبد الله فاختلفوا، وذلك عندنا على سبيل التفسير لا القرآن، وقد صرح بهذا المحذوف في قوله تعالى:﴿ وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَٱخْتَلَفُواْ ﴾[يونس: ١٩].
﴿ مُبَشِّرِينَ ﴾ بثواب من أطاع.﴿ وَمُنذِرِينَ ﴾ بعقاب من عصى. وقدم البشارة لأنها أبهج للنفس وأقبل لما يلقى النبي صلى الله عليه وسلم وفيها إطمئنان المكلف.﴿ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ ﴾ معهم: حال مقدرة من الكتاب فيتعلق بمحذوف، وليس: منصوباً بانزل، وآل في الكتاب للجنس وبالحق متعلق بإِنزال أو في موضع الحال من الكتاب وهي حال مؤكدة.﴿ لِيَحْكُمَ ﴾ متعلق بأنزل والفاعل ضمير يعود على الله. وهو الضمير في أنزل أي ليفصل به بين الناس. والفصل لا يكون إلا بعد الاختلاف ويؤيده قراءة الجحدري: لنحكم بالنون وهو التفاوت. وعنه أيضاً: ليحكم مبنياً للمفعول.﴿ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾ هو الاسلام أي في الدين الذي اختلفوا فيه.﴿ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ ﴾ الضميران عائدان على ما الموصولة، والهاء في أوتوه عائدة على الكتاب، والذين أوتوه هم أرباب العلم به والدراسة له، وخصهم بالذكر تشنيعاً وتقبيحاً للذي فعلوه من الاختلاف.﴿ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ ﴾ أي في الكتاب الذي أنزل إذ الحق موضح فيها يوجب الاتفاق وعدم الاختلاف.﴿ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾: أي سبب الاختلاف هو البغي والظلم والتعدي وهي اختلافات أول يعقبه بعث الأنبياء، والثاني بعد إنزال الكتاب وانتصب بغيا بمحذوف تقديره اختلفوا فيه من بعد ذلك بغيا.﴿ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي بمحمد صلى الله عليه وسلم.﴿ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ ﴾ أي للذين اختلف فيه الناس. و ﴿ مِنَ ٱلْحَقِّ ﴾ تبيين للمختلف فيه في موضع الحال من ما والهداية تقتضي إصابة الحق.﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ أي تمكينه وتوفيقه.﴿ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ هدايته ودل على أن هدايته من شاء منشاءها الارادة وفي ذلك رد على المعتزلة في زعمهم أنه يستقل بهداية نفسه.
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ ﴾ نزلت في شدائد أصابت المسلمين كحالهم في الخندق وفي غزوة أحد. وأم منقطعة التقدير بل أحسبتم وحسب كظن تستعمل في المترجع وسدت انْ مسد مفعولْ حسب.﴿ وَلَمَّا يَأْتِكُم ﴾ جملة حالية ولما بلغ في النفي من لم والمثل الشبه إلا أنه مستعار لحال غريبة أو قضية عجيبة. وثم: محذوف أي مثل مجيئه المؤمنين.﴿ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ﴾ ثم فسر ذلك المثل فقال:﴿ مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ ﴾ فليس لهذه الجملة موضع من الإِعراب على المشهور ومستهم: أصابتهم.﴿ وَزُلْزِلُواْ ﴾ أي أزعجوا إزعاجاً شديداً.﴿ حَتَّىٰ يَقُولَ ﴾ قرىء بالنصب حتى غاية إلى أن يقول. وقرىء برفع يقول وهي حال محكية والمعنى وزلزلوا حتى قال:﴿ ٱلرَّسُولُ ﴾ وقع الزلزال والقول.﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ معه معمول لآمنوا.﴿ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ ﴾ سؤال عن الوقت. والجملتان داخلتان تحت القول جمع الرسول والموفون في القول. قال المؤمنون: متى نصر الله؟ وقال الرسول:﴿ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ لما استبطأ المؤمنون النصر أجابهم الرسول بأنه قريب عادت بكل جملة لمن يناسبها. وقدم الرسول في إسناد القول لمكانته وقول المؤمنين لتقدمه في الزمان. والرسول هنا: اسم جنس.﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ﴾ عن ابن عباس نزلت في عمرو بن الجموح وكان ذا مال سأل بماذا أتصدق وعلى من أنفق؟ والضمير للمؤمنين، والخطاب للرسول عليه السلام. وماذا: مفعول ينفقون. أو ما مبتدأ خبره ذا، وهو موصول والعائد عليه محذوف والتقدير أي شيء الذي ينفقونه والظاهر السؤال عن ما ينفق لكن تضمّن الجواب ما ينفق ومصرفه بقوله:﴿ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ ﴾ ومن خير تبيين للمنفق ويتناول القليل والكثير وما موصولة أو شرطية وبدأ في المصرف بالأقرب فالأقرب ثم بالأحوج فالأحوج، وخبر ما للوالدين أن قلنا بوصلها على إضمار أي فهو أو مصرفة للوالدين.﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ ﴾ ما: شرطية مفعول بها أي أي شيء تفعلوا. والفعل أعم من الانفاق وغيره سألوا عن خاص فأجيب بخاص ثم أتى بالعموم في أفعال الخير.﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ ﴾ أي فرض وظاهر كتب الفرضية أما على الأعيان وإما على الكفاية.﴿ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ﴾ أي مكروه لكم كالنقض بمعنى المنقوض وقرىء كتب مبنياً للمفعول ومبنياً للفاعل ونصب القتال، والقتال يعني الجهاد. والجملة: حال، والضمير عائد على القتال.﴿ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً ﴾ عسى للاشفاق ومجيئها له قليل وأكثر مجيئها للترجي وكراهتهم للقتال لما فيه من التعرض للقتل والأسر وانضاء الأبدان وإتلاف الأموال، والخير الذي فيه الظفر والغنيمة والاستيلاء على النفوس والأموال، وأعظم الخير الشهادة وهي الحالة التي تمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم والجملة حال من النكرة وهو قليل ومع ذلك نص على جوازه سيبويه.﴿ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً ﴾ عسى هنا للترجي واندرج في قوله شيئاً الخلود إلى الراحة وترك القتال لأنه محبوب بالطبع، والشر الذي فيه هو ذلتهم وضعف أمرهم واستيصالهم وسبي ذراريهم ونهب أموالهم.﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ﴾ أي ما فيه المصلحة حيث كلفهم القتال.﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ما علمه الله لغيبة عواقب الأمور.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ﴾ نزلت في أول سرية في الاسلام كان أميرهم عبد الله بن جحش أغاروا على عير لقريش قافلة من الطائف وقتلوا عمرو بن الحضرمي آخر يوم من جُمادي الآخرة فاشتبه بأول يوم من رجب فعيّرهم أهل مكة باستحلاله. وقرىء قتال: بالجر بدل اشتمال. وقيل: بالجر والرفع. ووجه الرفع على تقدير همزة الاستفهام، فقتال: مبتدأ. وقيل: التقدير أجائز قتال فيه.﴿ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ فقتال: مبتدأ موصوف الجار والمجرور. وكبير: خبره. وظاهر الآية تحريم القتال في الشهر الحرام. قيل: هي منسوخة، وقيل: محكمة. قال عطاء: لم تنسخ وحلف بالله ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا.﴿ وَصَدٌّ ﴾ وما بعد من المعاطيف جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على قتال فيه كبير وخبر المبتدأ. أكبر من القتل. والمعنى: وصدكم المسلمين.﴿ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ ﴾ أي بسبيل الله وهو دين الله وشريعته. وقد خبط المعربون في عطف.﴿ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ﴾ والذي نختاره أنه عطف على الضمير المجرور ولم يعد جاره وقد ثبت ذلك في لسان العرب نثراً ونظماً باختلاف حروف العطف، وان كان ليس مذهب جمهور البصريين، بل أجاز ذلك الكوفيون ويونس والأخفش والأستاذ أبو علي الشلوبين، ولسنا متعبدين باتباع مذهب جمهور البصريين بل نتبع الدليل.﴿ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ ﴾ أي وإخراجكم أهله. والضمير: للمسجد وجعل المؤمنين أهله لأنهم القائمون بحقوقه أو لأن مآلهم إليه في العاقبة.﴿ وَٱلْفِتْنَةُ ﴾ أي التي تفتن المسلمين عن دينهم فيكفروا.﴿ أَكْبَرُ ﴾ احتراماً من قتلهم إياكم.﴿ وَلاَ يَزَالُونَ ﴾ أي الكفار ودل هذا على أن الضمير في يسألونك هو للكفار والضمير المنصوب للمؤمنين انتقل من خطاب الرسول إلى خطاب المؤمنين. وحتى تحتمل الغاية والتعليل. وجعلها ابن عطية للغاية، وللتعليل الزمخشري، وهو أمكن إذ يكون الفعل الصادر منهم المنافي للمؤمنين وهو المقاتلة ذكر لها علة توجيها، فالزمان مستغرق للفعل ما دامت علة الفعل وذلك بخلاف الغاية فإِنها تقييد في الفعل دون ذكر الحامل عليه فزمان وجوده مقيد بغايته وزمان وجود الفعل المعلل مقيد بوجود علته وفرق في القوة بين التقييد بالغاية والتقييد بالعلة لما في التقييد بالعلة من ذكر الحال وعدم ذلك في التقييد بالغاية. والدين هنا: الإِسلام. وجواب أن محذوف أي ان استطاعوا فلا يزالون يقاتلونكم.﴿ وَمَن يَرْتَدِدْ ﴾ بني افتعل من الرد وهي بمعنى التعمل والتكسب لأنه متكلف إذ من باشر دين الحق يبعد أن يرجع عنه فلذلك جاء افتعل وهنا ولم يختلف هنا في فك المثلين وهي لغة الحجاز.﴿ وَهُوَ كَافِرٌ ﴾ رتب الكفر على الموت بعد الردة ورتب على ذلك حبوط العمل في الدنيا وهو بطلانه في الدنيا لإِستحقاق قتله وإلحاقه في الاحكام بالكفار. وفي الآخرة بما يؤول عليه من العقاب السرمدي وقد جاء حبوط العمل مرتباً على الشرك دون الموافاة على الكفر فلو كان قد حج ثم ارتد قال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: يلزمه الحج إذا رجع إلى الإِسلام. وقال الشافعي: لا يلزمه.﴿ فَأُوْلۤـٰئِكَ ﴾ إشارة إلى من اتصف بالأوصاف السابقة، وهو حمل على معنى من بعد الحمل على اللفظ، وأولئك يحتمل أن يكون معطوفاً على الجزاء ويحتمل أن يكون ابتداء أخبار عطفاً على جملة الشرط.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾ الآية روي أن عبد الله بن جحش وأصحابه حين قتلوا الحضرمي ظن قوم أنهم إن سلموا من الاثم فليس لهم أجر فنزلت، ولما كان الايمان هو الأصل أفرده بموصول ولما كانت الهجرة والجهاد فرعين أفردا بموصول لأنهما من حيث الفرعية واحد.﴿ أُوْلۤـٰئِكَ ﴾ إشارة إلى المتصفين بالأوصاف الثلاثة من الإِيمان والهجرة والجهاد، وليس تكرير الموصول مشعراً بالمغايرة في الذوات.﴿ يَرْجُونَ ﴾ لأنه ما دام المرء في قيد الحياة لا يقطع أنه صائر إلى الجنة إذ لا يعلم ما يختم له به. وكتبت ﴿ رحمة ﴾ بالتاء لتمتاز بحالة الوصل ورعيا لمن يقف عليها بالتاء لا بالها.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ ﴾ الخمر: هو المعتصر من العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد. والميسر: القمار، مفعل من يسر ييسر وهو عشرة أقداح وهي الأزلام لسبعة منها خطوط وفيها فروض على عدة الخطوط الفذ وله سهم واحد، والتوأم له سهمان، والرقيب له ثلاثة، والحلس له أربعة، والنافس وله خمسة، والمسبل وله ستة، والمعلا وله سبعة، وثلاثة اغفال لا خطوط لها وهي المنيح والسفيح والوعد بزاد هذه لتكثر السهام وتختلط على الحرضة وهي الضارب بالقداح فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً وهو رجل عدل عندهم، ثم يبحثوا الضارب على ركبتيه ويلتحف بثوب ويخرج رأسه ويجعل تلك القداح في الربابة وهي خريطة ثم يخلخلها ويدخل يده ويخرج باسم رجل قدحاً منها، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح من تلك الثلاثة لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله. وكانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق العيش وكلب البرد على الفقراء فيشترون الجزور، ويضمن الانسان ثمنه، ثم تنحر ويقسم على عشرة أقسام وأيهم خرج له نصيب وأسى به الفقراء ولا يأكل منه شيئاً ويفتخرون بذلك، ويسمون من لم يدخل فيه البرم ويذمونه بذلك. سأل عمر ومعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا يا رسول الله افتنا في الخمر والميسر فإِنها مذهبة للعقل مَسْلبة للمال. فنزلت: ولما كان الخمر والميسر من مصارف المال ومع مداومتها قل ان يبقى مال فيتصدق به أو يجاهد به سألوا عن ذلك قيل:﴿ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾ وهذا يدل على أن تعاطيها من الكبائر وذلك بعد التحريم.﴿ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ ﴾ قبل التحريم والاثم هو الذنب الذي يترتب عليه العقاب مع ما جاء في الخمر من ذهاب العقل والسباب والافتراء والتعدي والمنفعة التي فيها ما يحصل من الأرباح والاكساب وذهاب الهم وحصول الفرح. وقد ذكر الأطباء منافعها ومضارها والمنفعة التي في الميسر التوسعة على المحاويج وبعد الصيت بذلك، وقرىء كبير بالباء وبالثاء.﴿ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾ وهو ما يقترفون فيهما من الاثم.﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ﴾ تقدم هذا السؤال وأجيبوا بالمصرف وأجيبوا هنا بذكر المقدار والعفو ما فضل عما يحتاج إليه من يمونه ويسهل عليه. وقرىء ﴿ قُلِ ٱلْعَفْوَ ﴾ بالنصب على تقدير ماذا مفعولاً وبالرفع على تقديره مبتدأ وخبراً فطابق الجواب السؤال في القرآتين وإن كان يجوز عدم التطابق والرفع على إضمار مبتدأ، أي المنفق العفو، وتقدير ابن عطية: قل العفو إنفاقكم ليس بجيد، لأنه أتى بالمصدر وليس السؤال على المصدر. قال ابن عطية: ورفع العفو مع نصب ماذا جائز ضعيف وكذلك نصبه مع رفعها." انتهى " وليس كما قال: بل هو جائز وليس بضعيف. والاشارة في ﴿ كَذٰلِكَ ﴾ إلى الأقرب من تبيينه حكم الخمر والميسر والانفاق القريب ذكره والآيات العلامات والدلائل.﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ ترجية للتفكر يحصل عند تبيين الآيات.﴿ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ ﴾ متعلق بتتفكرون، أي في أمر الدنيا والآخرة. وكانوا في الجاهلية يتحرجون من مخالطة اليتامى في مأكل ومشرب ويتجنبون أموالهم. فنزلت:﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ﴾ والاصلاح بتعليمه وتأديبه والنظر في تنمية ماله وحفظه. وإصلاح؛ مبتدأ وهو نكرة لوجود المسوغ من كون لهم متعلقاً به أو في موضع الصفة وهو مصدر حذف فاعله وخير: خير. وخير شامل للإِصلاح المتعلق بالفاعل والمفعول والخيرية للجانبين معاً وإن إصلاحهم لليتامى خير للمصلح والمصلح يتناول حال اليتيم والكفيل.﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ التفات من الغيبة إلى الخطاب أي فإِخوانكم في الدين فينبغي أن تنظروا لهم كما تنظرون لإِخوانكم من النسب من الشفقة والتلطف والاصلاح لذواتهم وأموالهم. والمخالطة: من الخلط، وهو الامتزاح. والمعنى في المأكل فيجعل نفقة اليتيم مع نفقة عياله بالتحري إذ يعسر أفراد نفقته بطعامه فلا يجد بداً من خلطه بما له لعياله فرخص لهم في ذلك. وكذا: أي مخالطة يكون لليتيم فيها اصلاح من مطعم أو مسكن أو متاجرة أو مشاركة أو مضاربة أو مصاهرة أو غير ذلك. وجواب الشرط فإِخوانكم أي فهم إخوانكم. وقرىء فإِخوانكم بالنصب أي فتخالطون إخوانكم.﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ ﴾ جملة تحذير والمعنى أنه يجازي كلاً منهما على الوصف الذي قام به. وألْ فيهما للاستغراق ومن معناها هنا الفصل وضمن يعلم معنى يميز فعدي بمن.﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ ﴾ أي لأحرجكم وشدد عليكم في كفالة اليتامى. وقرىء بتحقيق الهمزة وتليينها وطرحها بالقاء حركتها على اللام بعد تقدير خلو اللام من الحركة وجعل قراءة طرح الهمزة وهما أبو عبد الله نصر بن علي بن مريم وهذه الجملة تذكير بإِحسان الله وإنعامه على أوصياء اليتامى إذ أزال أعناتهم في مخالطتهم والنظر في أحوالهم وأموالهم.
﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ﴾ نزلت في عبد الله بن رواحة أعتق أمة مسلمة وتزوجها فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: نكح أمة. وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين رغبة في إحسانهم وفي أبي مرثد الغنوي أراد أن يتزوج عناق امرأة قرشية مشركة ذات جمال. وقرىء تنكحوا - بفتح التاء - ويطلق بمعنى العقد وبمعنى الوطء. وقرىء - بضمها - أي ولا تنكحوا أنفسكم المشركات. والمشركات هنا: الكفار، وهو عموم خصّ بجواز نكاح الكتابيات. وعن ابن عباس هو على عمومه فيحرم نكاح الوثنيات والمجوسيات والكتابيات وكل من على غير دين الاسلام والآية على هذه محكمة ناسخة لآية المائدة متقدمة في النزول وإن تأخرت في التلاوة وبجواز نكاح الكتابيات. قال الجمهور:﴿ وَلأَمَةٌ ﴾ أي رقيقية.﴿ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ ﴾ أي.﴿ مِّن ﴾ حرة.﴿ مُّشْرِكَةٍ ﴾ وعموم المشركات يقتضي منع نكاح الأمة الكافرة.﴿ وَلاَ تُنْكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ﴾ الخطاب للأولياء أي المؤمنات. وأجمعت الأمة على أن الكافر لا يطأ المؤمنة بوجه مّا والنهي نهي تحريم ولو في الموضعين، بمعنى أن الشرطية. والواو في ولو للعطف على حال محذوفة، أي على كل حال ولو في هذه الحال المقتضية للرغبة في النكاح.﴿ أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ ﴾ إشارة إلى الصنفين المشركات والمشركين والدعاء قد يكون بالقول أو بسبب المحبة والمخالطة تسوي إلى الطباع ما يحمل على الموافقة حتى في ترك قتال قومها الكفار فيؤدي ذلك إلى النار. وهذه العلة مانعة من نكاح الكفار. وعدي يدعو بالى ويتعدى باللام ومفعول يدعو محذوف، أي يدعونكم والله يدعوكم وتباين القسمين يؤكد منع مناكحة الكفار إذ يحرم إجابة الكافر ويجب إجابة دعاء الله، ولا يحتاج إلى تقدير حذف مضاف أي وأولياء الله يدعون. كما قال الزمخشري بل حمله على الظاهر أوكد في التباعد من المشركين. وقرىء ﴿ وَٱلْمَغْفِرَةِ ﴾ وبالجر أي يدعو إلى سبب المغفرة وهو التزام الطاعة والتوبة. وبالرفع أي والمغفرة حاصلة.﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ وتيسيره.﴿ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ ﴾ أي يظهرها جليّة لكل أحد رجاء أن يحصل بظهورها تذكر واتعاظ. وفي صحيح مسلم عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يواكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى:﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ ﴾ ولما تضمن ما قبل هذه الآية إيثار مناكحة أهل الإِيمان بين حكماً عظيماً من أحكام النكاح وهو النكاح زمان الحيض، والمحيض مفعل، ويراد به المصدر أي الحيض. وعن ابن عباس هو مكان الدم وهو الفرج.﴿ قُلْ هُوَ ﴾ أي الحيض.﴿ أَذًى ﴾ وإن قلنا أنه موضع الحيض فيكون على حذف أي موضع أذى.﴿ فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ ﴾ أي نكاح النساء في زمان الحيض أو في موضع الحيض. و ﴿ لا ﴾ تقربوهن كناية عن مباشرة النكاح. وقرىء ﴿ يَطْهُرْنَ ﴾ مضارع طهر أي ينقين من دم الحيض. ويطهرن مضارع أطهر وهو ظاهر في الاغتسال بالماء. " فإِذا " تطهرن أي بالماء. قال الجمهور: تغتسل اغتسال الجنابة. وقال الأوزاعي: تغتسل مكان الدم بالماء فيبيح الوطء، وبه قال أبو محمد بن حزم.﴿ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي من الجهة التي أمر الله وهي القبل لأنه المنهي عنه في الحيض. ولما كانت لهم حالة يرتكبونها حالة حيض النساء من مجامعة النساء وأخبر تعالى بالمنع من ذلك حالة الحيض أثنى على من امتثل أمره تعالى ورجع إلى ما شرع فقال:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ ﴾ وأبرز ذلك في صورتين عامتين ليندرج الأزواج والزوجات في ذلك وكرر الفعل ليدل على اختلاف الجهتين من التوبة والتطهر.﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ﴾ في الصحيحين: إن اليهود كانت تقول في الذي يأتي امرأته في جهة دبرها في قبلها ان الولد يكون أحول. فنزلت: وكان في قوله فأتوهن من حيث أمركم الله تسويغ للإِتيان على سائر أحواله، فأكد بقوله:﴿ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ﴾ أي كيف شئتم أي مقبلة ومدبرة، وعلى أي شق مضطجعة ونائمة وغير ذلك من الأحوال. شبه الجماع بالحرث إذ النطفة كالبذر والرحم كالأرض والولد كالنبات. فأنى تأتي بمعنى: كيف، وبمعنى متى، وبمعنى أين. وأنى تكون استفهاماً كقوله تعالى:﴿ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ﴾[آل عمران: ٣٧].
وشرطاً لا جائز هنا أن تكون استفهاماً لأن جملتها لا تستقل بل هي محتاجة إلى ضميم وإذا كانت شرطاً فقد عدوها من ظروف المكان وهي من الجوازم ولكلاهما أعني إذا كانت استفهاماً أو شرطاً لا يعمل فيها ما قبلها، والذي يظهر أنها تكون شرطاً لافتقارها إلى جملة غير الجملة التي بعدها، وتكون قد جعلت فيها الأحوال كجعل الظروف المكانية وأجريت مجراها مستفهماً للحال بالظرف المكاني. وقد جاء نظير ذلك في لفظ كيف خرج به عن الاستفهام إلى معنى الشرط في قولهم: كيف تكون. أكون وجواب الجملة محذوف ويدل عليه ما قبله تقديره انى شئتم فاتوه.﴿ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ ﴾ أي الأعمال الصالحة وامتثال ما أمركم به.﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ ﴾ أي ملاقوا جزائه على أعمالكم.﴿ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي بحسن العاقبة في الآخرة وفيه تأنيس عظيم.
والعرضة فعلة من العرض بمعنى المفعول كالقبضة، والمرأة عرضة للنكاح أي الله وحذرهم يوم المعاد نهاهم عن ابتذال اسمه تعالى وجعله معرضاً لما يحلفون عليه دائماً، لأن من يتقي ويحذر يجب صيانة اسمه وتنزيهه عما لا يليق من كونه يذكر في كل ما يحلف عليه من قليل أو كثير عظيم أو حقير والحنث مع الاكثار، واللام في لإِيمانكم متعلقة بعرضة أي معدا ومرصداً، أو بتجعلوا فتكون للتعليل.﴿ أَن تَبَرُّواْ ﴾ أي إرادة أن تبروا، علل الامتناع من ابتذال اسم الله في الحلف بإِرادة وجود البر، والمعنى إنما نهيتكم عن هذا لما في توقي ذلك من البر والتقوى والاصلاح ويعقد من ذلك شرط وجزاء، أي إن امتنعت من ابتذال اسمه تعالى بَرَرْتَ واتقيت وأصلحت. وقد كثر كلام المفسرين في موضع: ان تبروا. قال الزمخشري: يتعلق أن تبروا بالفعل أو بالعرضة، أي ولا تجعلوا الله لأجل إيمانكم به عرضة لأن تبروا. " انتهى ". ولا يصرح هذا التقدير لأن فيه فصلاً بين العامل والمعمول بأجنبي لأنه علق لإيمانكم بتجعلوا وعلق لأن تبروا بعرضة فقد فصل بين عرضة وبين لأن تبرروا بقوله: لإيمانكم وهو أجنبي منهما لأنه معمول عنده لتجعلوا وذلك لا يجوز ونظير ما أجازه أن تقول أمرر واضرب بزيد هذا، فهذا لا يجوز. ونصوا على أنه لا يجوز: جاءني رجل ذو فرس أبلق راكب أبلق، لما فيه من الفصل بالأجنبي. والذي يظهر لي أن إنْ تبروا في موضع نصب على إسقاط الخافض، والعامل فيه قوله: لإِيمانكم التقدير لأقسامكم على أن تبرّوا فنهوا عن ابتذال اسمه تعالى وجعله معرضاً لأقسامهم على البر والتقوى والاصلاح اللاتي هن أوصاف حسنة لما يخاف في ذلك من الحنث، فكيف إذا كانت أقساماً على ما ينافي البر والتقوى والاصلاح، وعلى هذا يكون الكلام منتظماً واقعاً كل لفظ منه مكانه الذي يليق به. وقال الزمخشري: ان تبروا وتتقوا وتصلحوا عطف بيان لإِيمانكم أي: الأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والاصلاح بين الناس. " انتهى ". وهو ضعيف لأن فيه مخالفة للظاهر لأن الظاهر من الإِيمان هي الأقسام والبر والتقوى والصلاح هي المقسم عليها فهما متباينان ولا يجوز أن يكون عطف بيان على الإِيمان لكنه لما تأول الإِيمان على أنها المحلوف عليها ساغ له. وقد بينا أنه لا حاجة تدعونا إلى تأويل الايمان بالمحلوف عليها وعلى مذهبه يكون أن تبروا في موضع جر ولو ادعى أن يكون ان تبروا وما بعده بدل من إيمانكم لكان أولى لأن عطف البيان أكثر ما يكون في الاعلام.﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ ﴾ الآية هو قول الرجل: لا والله. وبلى والله. من غير قصد لليمين.﴿ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ وهو مصدر القلب لعقد اليمين نفي المؤاخذة في لغو اليمين وأثبتها في كسب القلب وهي الكفارة في الدنيا والآخرة ان حنث. وكانت مما تكفّر. والعقوبة في الآخرة إن كانت مما لا يكفر. وفي هذه الجملة حذف دل عليه ما قبله التقدير ولكن يؤاخذكم في إيمانكم.﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ فيه توسعة حيث لم يؤاخذ باللغو وإشعار بالغفران والحلم عن من توعده. قال ابن عباس: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكبر، فوقّت الله ذلك وهو الحلف ان لا يطأها أو يمتنع من الوطء.
و ﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ ﴾ عام في الحر والعبد والسكران والسفيه والمولى عليه غير المجنون ومن لا يرجى منه وطىء. وفي الكلام تضمين وحذف أي يمتنعون بالإِيلاء من وطء نسائهم. و ﴿ مِن نِّسَآئِهِمْ ﴾ عام في الزوجات حرة أو أمة أو كتابية أو صغيرة لم تبلغ مدخولاً بها وغير مدخول بها. ويولون لا يعين حلفاً بشيء مخصوص بل بكل يمين يمنع جماعاً سواء قيد الاقتناع بمكان أم أطلق.﴿ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾ هذا من إضافة المصدر إلى ظرف زمان اتسع فيه. وابتداء أول الايلاء من وقت الحلف.﴿ فَإِنْ فَآءُو ﴾ أي رجعوا للوطء. والظاهر أن الفيء يكون في الأشهر وبعد انقضائها ولم يأت في الآية أنه إذا فاء ووطىء لا كفارة عليه بل ظاهر قوله: " فإن " الله غفور رحيم. انه لا كفارة عليه.﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ ﴾ أي على الطلاق أو ضمن عزم معنى نوى وعداه بنفسه أو التصميم على الطلاق. وجواب الشرط محذوف أي فليوقعوه. وهذا التقسيم الشرطي يدل على أنه لا تقع الفرقة بمعنى الأشهر من غير قول، بل لا بد من القول لأن العزم على الشيء ليس فعلاً للشيء. ويؤكده قوله:﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ جاء سميع باعتبار إيقاع الطلاق لأنه من المسموعات وهو جواب الشرط عليم باعتبار العزم على الطلاق لأنه من باب النيات وهو شرط ولا تدرك النيات إلا بالعلم. وتأخر هذا الوصف لمواخاة رؤوس الاى ولأن العلم أعم من السمع. وفي قوله: وان عزموا الطلاق، دلالة على مطلق الطلاق فلا يدل على خصوصية طلاق بكونه رجعياً أو بائناً. وقال الزمخشري: فإِن قلت ما تقوله في قوله: فإِن الله سميع عليم وعزمهم الطلاق مما يعلم ولا يسمع. قلت: الغالب أن العازم للطلاق وترك الفيئة والفرار لا يخلو من مقاولة وزمزمة ولا بد من أن يحدّث نفسه ويناجيها بذلك، وذلك حديث لا يسمعه إلا الله كما يسمع وسوسة الشيطان. " انتهى ". وقد قدمنا ان صفة السمع جاءت هنا لأن المعنى: وإن عزموا الطلاق أوقعوه أي الطلاق، والإِيقاع لا يكون إلا باللفظ فهو من باب المسموعات والصفة تتعلق بالجواب لا بالشرط فلا تحتاج إلى تأويل الزمخشري.
﴿ وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ ﴾ المطلاقات عام مخصوص بالمدخول بهن ذوات الاقراء لأن حكم هاتين والآيسة والحامل منصوص عليه مخالف لحكم هؤلاء، ويتربصن صورة خبر، ومعناه الأمر ومعناه ينتظرن ولا يقدمنَ على تزوج، وتربص متعد لقوله: ونحن نتربص بكم أن يصيبكم. ومفعوله هنا محذوف أي يتربصن التزويج والأزواج، والباء للسبب أي من أجل أنفسهن وانتصب ثلاثة على أنه ظرف أي مدة ثلاثة قروء. وقيل مفعول يتربصن أي مضى: ثلاثة قروء. والمشهور في القرء قولان: أحدهما أنه الحيض، والثاني الطهر. وظاهر عموم المطلقات دخول الزوجة الأمة في الاعتداد بثلاث قروء. وقرىء قروءً بالهمز وقرٌّؤ بالابدال والادغام، وقَروءٍ بفتح القاف وسكون الراء وراء هي حرف الاعراب. وفعول من بناء جمع الكثيرة، وهو هنا من باب التوسع إذ قد ينوب أحد الجمعين القلة والكثرة عن الآخرة.﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيۤ أَرْحَامِهِنَّ ﴾ من ادعا الحيض وما حاضت، أو انتفائه وقد حاضت، أو من الأجنة فلا يعترفن به وهن مؤتمنات على ذلك. وقرىء في أرحامهن وبردهن بضم الهاء فيهما.﴿ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ ﴾ شرط جوابه محذوف أي فيحرم عليهن ذلك أو فلا يكتمن.﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ ﴾ أي وأزواجهن. وجمع على فعولة وهو جمع لا ينقاس. وقرىء بضم الباء وسكونها. وسماهم بعولة باعتبار ما كانوا عليه. والضمير في بعولتهن عائد على المطلقات. والحكم خاص بالرجعيات أو على حذف مضاف أي وبعولة رجعياتهن. و ﴿ أَحَقُّ ﴾ على بابها من التفضيل لأن غير الزوج لا حق له ولا تسليط على الزوجة في مدة العدة وفي ذلك إشارة إلى مدة التربص وكأنه قال: وبعولتهن حقيقون بردهن. وأخبر أن حق الرد للزوج حتى لوابته فليس لها ذلك وله ردها إذ ذاك وفي كيفية الرد خلاف ولا خلاف في صحته بالقول.﴿ إِنْ أَرَادُوۤاْ إِصْلاَحاً ﴾ ظاهره أنه شرط في الرجعة ويظهر أنه أراد به إصلاح ما حصل من الفساد بالطلاق. قالوا: ويستغني الزوج في المراجعة عن الولي وعن رضاها وعن تسمية مهر وعن الاشهاد على الرجعة على الصحيح، ويسقط بالرجعة بقية العدة ويحل جماعها في الحال ويحتاج إثبات هذا كله إلى دليل واضح من الشرع. والذي يظهر أن المرأة بالطلاق تنفصل من الرجل فلا يجوز أن تعود إليه إلا بنكاح ثان ثم إذا طلقها وأراد أن ينكحها فأما أن يبقى شيء من عدتها أو لا يبقى إن بقي فله أن يتزوجها دون انقضاء عدتها منه ان أراد الاصلاح ومفهوم الشرط أنه إن أراد غير الاصلاح لا يكون له ذلك فإِن انقضت عدتها استوى هو وغيره في جواز تزوجها، واما أن تكون قد طلقت وهي باقية في العدة فيردها من غير اعتبار شروط النكاح فيحتاج إثبات هذا الحكم إلى دليل واضح كما قلناه فإِن كان ثم دليل واضح من نص أو إجماع قلنا به ولا يعترض علينا بأن له الرجعة على ما وصفوا وان ذلك من أوّليات الفقه التي لا يسوغ النزاع فيها فإِن كل حكم يحتاج إلى دليل.﴿ وَلَهُنَّ ﴾ أي على أزواجهنّ.﴿ مِثْلُ ٱلَّذِي ﴾ لأزواجهن.﴿ عَلَيْهِنَّ ﴾ وهذا من بديع الكلام إذ حذف شيء من الأول أثبت نظيره في الآخر، وحذف شيئاً من الآخر أثبت نظيره في الأول، والمثلية في الموافقة والطواعية وحسن العشرة. ومثل: مبتدأ، وخبره: لهن وبالمعروف: متعلق به لهن.﴿ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس ولا يكلف أحدهما الآخر من الأشغال ما ليس معروفاً به بل ما يليق به.﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ أي مزية وفضيلة في الحق نوّه بذكر الرجولية والمزية فضيلته عليها في الميراث والجهاد ووجوب طاعتها إياه والصداق والانفاق وكون الطلاق بيده ووفور العقل وغير ذلك مما يمتاز به الرجل على المرأة. ودرجة: مبتدأ، وللرجال: خبره. وعليهنّ: متعلق بما يتعلق به للرجال.
﴿ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ ﴾ إن كانت الْ للعهد في الطلاق السابق، فالمعنى أن الطلاق الذي تملك فيه الرجعة فهو مرتان والثالث لا تملك فيه الرجعة. وقال ابن عباس: بين أن طلاق السنة المندوب هو مرتان. قيل: والمعنى بذلك تفريق الطلاق إذا أراد أن يطلق ثلاثاً وهو يقتضيه اللفظ لأنه لو طلق مرتين معاً في لفظ واحد ما جاز أن يقال: طلقها مرتين، وكذلك لو دفع إلى رجل درهمين، لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين حتى يفرق الدفع فحينئذٍ يصدق عليه وهو مبحث صحيح. وما زال يختلج في خاطري أنه لو قال أنت طالق مرتين أو ثلاثاً انه لا تقع إلا واحدة لأنه مصدر للطلاق ويقتضي العدد فلا بد أن يكون الفعل الذي هو عامل فيه يتكرر وجوداً كما تقول: ضربت ضربتين أو ثلاث ضربات، لأن المصدر هو مبين لعدد الفعل فمتى لم يتكرر وجوداً استحال أن يتكرر مصدره، وإن تبين رتب العدد. فإِذا قال: أنت طالق ثلاثاً، فهذا لفظ واحد ومدلوله واحد، والواحد يستحيل أن يكون ثلاثاً أو اثنين ونظير هذا أن ينشىء الانسان بيعاً بينه وبين رجل فيقول له عند التخاطب: بعتك هذا ثلاثاً. فقوله ثلاثاً لغو وغير مطابق لما قبله والانشاءات أيضاً يستحيل التكرار فيها حتى يصير المحل قابلاً لذلك الانشاء وهذا يعسر إدراكه على من اعتاد أنه يفهم من قول من قال طلقتك مرتين أو ثلاثاً أنه يقع الطلاق مرتين أو ثلاثاً. وظاهر الآية العموم فيدخل في الطلاق الحر والعبد فيكون حكمها سواء. ونقل أبو بكر الرازي اتفاق السلف وفقهاء الأمصار على أن الزوجين المملوكين ينفصلان بالثنتين فلا تحل له بعدهما إلا بزوج والطلاق مصدر طلقت المرأة ويكون يعني التطليق كالسلام بمعنى التسليم: وهو مبتدأ، ومرتان: الخبر على حذف مضاف أي عدد الطلاق المشروع فيه الرجعة أو الطلاق السني المشروع واحتيج إلى الحذف ليطابق الخبر المبتدأ والمعنى في المسنون بقوله:﴿ مَرَّتَانِ ﴾ أي مرة بعدَ مرة. ولا يراد به ما نريد على الثنتين. لقوله بعد:﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ ﴾ فإِمساك هو الرجعة من الثانية، أو تسريح بإِحسان هي الطلقة الثالثة ولذلك جاء بعدها:﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا ﴾[البقرة: ٢٣٠] أي فإِن سرحها الثالثة. وقال الزمخشري: ولم يرد بالمرتين الثنتين ولكن التكرير كقوله تعالى:﴿ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ ﴾[الملك: ٤] أي كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين، ونحو ذلك من التثاني الذي تراد بها التكرير. قولهم: لبيك وسعديك وحنانيك وهذا ذيك ودواليك. " انتهى ". وهو في الظاهر مناقض لما قال قبل ذلك ومخالف لما في نفس الأمر. إما مناقضته فإِنه قال في تفسير ﴿ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ ﴾ أي الطلاق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإِرسال دفعة واحدة فقوله تطليقة بعد تطليقة مناقض في الظاهر لقوله: ولم يرد بالمرتين التثنية لأنك إذا قلت: ضربتك ضربة بعد ضربة إنما يفهم من ذلك الاقتصار على ضربتين وهو مساو في الدلالة كقولك: ضربتك ضربتين، ولأن قولك ضربتين لا يمكن وقوعهما إلا ضربة واحدة بعد ضربة، وأما مخالفته لما في نفس الأمر فليس معرضة، واستعمل للحلف لما جرت العادة في تصافح المتعاقدين ولما أمرهم بتقوى هذا من التثنية التي تكون للتكرير، لأن التثنية التي يراد بها التكرير لا يقتصر بتكريرها على ثنتين ولا ثلاث، بل يدل على التكرير مراراً فقولهم: لبيك معناه إجابة بعد إجابة فما زاد. وكذلك أخواتها وكذلك قوله: كرتين، معناه ثم ارجع البصر مراراً كثيرة، والتثنية في قوله:﴿ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ ﴾ إنما يراد بهما شفع الواحد وهو الأصل في التثنية ألا ترى أنه لا يراد هنا بقوله: مرتان ما يزيد على الثنتين لقوله بعد: فامساك بمعروف أو تسريح بإِحسان، فإِمساك هو الرجعة من الثانية، أو تسريح بإِحسان هي الطلقة الثالثة، ولذلك جاء بعد فإِن طلقها أي فإِن سرحها الثالثة وإذا تقدر هذا فليس قوله: مرتان دالاً على التكرار الذي لا يشفع الواحد بل هو مراد به شفع الواحد وإنما غر الزمخشري في ذلك صلاحية التكرير بقوله الطلاق الشرعي تطليقة بعد تطليقة فجعل ذلك من باب التثنية التي لا تشفع الواحد ويراد بها التكرير إلا أنه يعكس عليه أن الأصل في التثنية شفع الواحد وان التثنية التي لا تشفع الواحد ويراد بها التكرار لا يقتصر بها على الثلاث الا ترى أن قوله: كرتين ولبيك، وبأنه ليس المعنى فيه الاقتصار على الثلاث في التكرار ولما حمل الزمخشري قوله تعالى:﴿ مَرَّتَانِ ﴾ على أنه من باب التثنية التي يراد بها التكرير احتاج ان يتناول قوله فإِمساك بمعروف أو تسريح بإِحسان على أنه تخيير لهم بعد أن علّمهم كيف يطلقون بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بواجبهن وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم.﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ﴾ سبب نزولها حديث جميلة بنت عبد الله بن أبيّ وزوجها ثابت بن قيس بن شماس حين خالعها على حديقته التي كان أعطاها وهو أول خلع في الإِسلام والخطاب في لكم للأزواج لأن الأخذ والإِيتاء منهم. قيل: أو للأئمة والحكام ليلتئم مع قوله:﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ ﴾ لأنه خطاب لهم لا للأزواج ونسب الأخذ والإِيتاء لهم عند التراجع لأنهم الذين يمضون ذلك، ومما أتيتموهن عام فيما أتوهن من صداق وهبة وغيرهما وشيئاً عام في سياق النهي.﴿ إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ﴾ هذا استثناء من المفعول له أي لا يحل بسبب من الأسباب إلا بسبب الخوف. والضمير في يخافا عائد على صنفي الزوجين، ولما كان الاستثناء بعد مضى جملة الخطاب جاز الالتفات وله حكمة وهو أن لا يخاطب من كان مؤمناً بالخوف من انتفاء إقامة حدود الله فناسب فيه الالتفات، وكذلك فيما بعده ولو جاء على ما مضى من الحكاية لكان التركيب إلا أن تخافوا ألا تقيموا. وأن يخافا في موضع نصب على إسقاط الحرف. و ﴿ أَلاَّ يُقِيمَا ﴾ مفعول ثان بأن يخافا. وقرىء بضم الياء، وان لا يقيما في موضع رفع على البدل بدل الاشتمال. وقال ابن عطية في قراءة البدل يخافا بالضم: انها تعدت خاف إلى مفعولين احدهما أسند الفعل إليه والآخر بتقدير حرف خبر محذوف فموضع أن خفض بالجار المقدر عنه سيبويه والكسائي ونصب عند غيرهما لأنه لما حذف الجار وصل الفعل الى المفعول الثاني. مثل: استغفر الله ذنباً وأمرتك الخير. " انتهى ". وهو نص كلام أبي علي الفارسي نقله في كتابه إلاَّ التنظير باستغفر الله ذنباً، وليس بتنظير صحيح، لأن خاف لا يتعدى إلى اثنين كاستغفر الله ولم يذكر ذلك النحويون حين عدوا ما يتعدى الى اثنين واصل أحدهما بحرف الجر بل إذا جاء خفت، زيداً ضربه عمراً كان ذلك بدلاً أو من ضربه عمراً كان مفعولاً من أجله، ولا يفهم ذلك على أنه مفعول ثان وقَدْ وَهم ابن عطية في نسبة أن الموضع خفض في مذهب سيبويه [والذي نقله أبو علي وغيره ان مذهب سيبويه] ان الموضع بعد الحذف نصب وبه قاله الفراء، وإن مذهب الخليل انه جر، وبه قال الكسائي وقدّر غير ابن عطية ذلك الحرف المحذوف على، فقال: والتقدير إلا أن يخافا على أن لا يقيما فعلى هذا يمكن أن يصح قول أبي علي وفيه بعد. وقرىء: إلا أن يخافوا أي إلا أن يخاف الزوج والزوجات.﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ ﴾ قالوا الضمير للأولياء أو السلطان. وأقول الضمير للأزواج والزوجات معليا فيه خطاب الذكور والزوجات مندرجات فيه وأن لا يقيما التفات. وقد بينا حكمته وترك إقامة الحدود بالنشوز وسوء الخلق وكراهة كل منهما لصاحبه وترك ما وجب لكل منهما على صاحبه.﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾ أي على الزوجين فيما أخذ منهما. و ﴿ فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ ﴾ وما افتدت به عام من صداقها ومن مالها غير الصداق حتى بكل مالها، كما قال عمر رضي الله عنه اخلعْها ولو من قرطها اخلعها بما دون عقاص رأسها. والظاهر تشريكها في ترك إقامة الحدود وان جواز الأخذ منوط بوجود ذلك منهما معاً، وحرم على الزوج أن يأخذ إلا بعد الخوف من أن لا يقيما حدود الله وأكد التحريم بقوله:﴿ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ﴾ ثم توعد على الاعتداء وشذ بكر بن عبد الله المزني فقال: لا يجوز للرجل أن يأخذ من زوجه شيئاً خلعاً لا قليلاً ولا كثير. قال وهذه الآية منسوخة بقوله:﴿ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً ﴾[النساء: ٢٠].
والخلع هل هو فسخ أو طلاق قولان للصحابة والتابعين وأئمة المذاهب وليس في الآية ما يدل على تعيين واحد منها.
﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ﴾ يعني الزوج الذي طلق مرة بعد مرة وهو راجع إلى قوله: أو تسريح بإِحسان، أي: فإِن سرحها التسريحة الثالثة التي هي باقية من عدد الطلاق والنكاح يطلق على العقد وعلى الوطء فحمله السعيد ان ابن المسيب وابن جبير على العقد وقالا: إذا عقد عليها الثاني حلت للأول وإن لم يدخل بها ولم يصبها وخالفها الجمهور لحديث امرأة رفاعة. وقول الجمهور: مغيب الحشفة يحل ولفظة زوجاً غيره جواز نكاح المحلل فيحلل. وسواء اشترط ذلك أم لم يشترط ولا يندرج في ذلك وطىء السيد أمته المطلقة ثلاثاً. وفي الكلام جمل محذوفة يدل عليها مشروعية النكاح أي فإِن طلقها وانقضت عدتها منه فلا تحل له حتى يعقد عليها زوج آخر ويدخل بها ويصيبها ويطلقها وتنقضي عدتها منه حينئذٍ يحل للزوج المطلق ثلاثاً أن يتراجعا.﴿ فَإِن طَلَّقَهَا ﴾ أي الثاني وانقضت عدتها منه.﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ ﴾ أي على الزوج المطلق ثلاثاً والزوجة.﴿ أَن يَتَرَاجَعَآ ﴾ أي بنكاح جديد ويجوز أن يعود الضمير على الزوج الثاني وزوجته أي: فإِن طلقها الثاني فلا جناح عليهما أن يتراجعا وتكون الآية أفادت حكمين أحدهما أن المبتوتة ثلاثاً تحل للأول بعد نكاح زوج غيره وذلك بالشروط التي تقدمت وهذا مفهوم من صدر الآية. والحكم الثاني أن للزوج الثاني الذي طلقها يجوز له أن يراجعها لأنه ينزل منزلة الأول فيجوز لهما أن يتراجعا ويكون ذلك دفعاً لما يتبادر إليه الذهن من أنه إذا طلقها الثاني حلت للأول فلكونها حلت له اختصت به فلا يجوز للثاني أن يردها فيكون قوله: فلا جناح عليهما أن يتراجعا مبيّناً أن حكم الثاني حكم الأول وأنه لا يتحتم أن الأول يراجعها. وقوله:﴿ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ﴾ الضمير عائد على ما فسروه من كونه للزوج الأول ومبتوتته ويكون جواز التراجع موقوفاً على نكاح زوج غيره وعلى ظنهما أن يقيما حدود الله ومفهوم الشرط الثاني أنه لا يجوز التراجع ان لم يظنا. قال الزمخشري: ومن فسر الظن هنا بالعلم فقدْ وَهَم من طريق اللفظ، والمعنى لأنك لا تقول علمت أن يقوم زيد ولكن علمت أنه يقوم زيد ولأن الانسان لا يعلم ما في الغد وإنما يظن ظناً. " انتهى ". وما ذكره من أنك لا تقول من علمت أن يقوم زيد قد قاله غيره. قالوا: إن الناصبة للمضارع لا يعمل فيها فعل تحقيق نحو العلم واليقين وإنما يعمل في أن المشددة. قال أبو علي الفارسي في الإِيضاح: ولو قلت علمت أن يقوم زيد. فنصبت الفعل بأن لم يجز لأن هذا من موضع أنّ لأنها مما قد ثبت واستقر كما أنه لا يحسن أرجو أنك تقوم وظاهر كلام أبي علي مخالف لما ذكر سيبويه من أنه يجوز أن تقول ما علمت إلا أن يقوم زيد فاعمل علمت في أن قال بعض أصحابنا ووجه الجمع بينهما أنّ علمت قد تستعمل، ويراد بها العلم القطعي، فلا يجوز وقوع ان بعدها كما ذكره الفارسي، وقد تستعمل ويراد بها الظن القوي فيجوز أن تعمل في أن، ويدل على استعمالها ولا يراد بها العلم القطعي قوله: فإِن علمتموهن مؤمنات فالعلم هنا إنما يراد به الظن القوي لأن القطع بايمانهم غير متوصل إليه. وقول الشاعر: وأعلم علم الحق غير ظن وتقوى الله من خير المعادفقوله: علم حق يدل على أن العلم قد يكون غير علم حق، وكذلك قوله: غير ظن يدل على أنه يقال علمت وهو ظان. ومما يدل على صحة ما ذكره سيبويه من علمت قد تعمل في أن إذا أريد بها غير العلم القطعي. (قول جرير): ترضى عن الناس ان الناس قد علموا ان لأن يدانينا من خلقه أحدفأتى بأن الناصبة للفعل بعد علمت. انتهى كلامه. وثبت بقول جرير ويتجويز سيبويه ان علم تدخل على ان الناصبة للمضارع فليس بوهم كما ذكر الزمخشري من طريق اللفظ وأما قوله: ولأن الانسان لا يعلم ما في غد وإنما يظن ظناً ليس كما ذكر بل الانسان يعلم أشياء كثيرة مما تكون في الغد ويجزم بها ولا يظنها. طلق ثابت بن يسار زوجته حتى إذا بقيت من عدتها يومان أو ثلاثة فتبين راجعها ثم أطلقها ثم راجعها ثم طلقها ثم راجعها حتى مضت سبعة أشهر مضارة لها ولم يكن الطلاق يومئذٍ محصوراً. فنزل:﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ ﴾ ولما كان الجمع مشاركاً للواحد في الحكم جاء الخطاب بالجمع.﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ أي ارجعوهن في العدة.﴿ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ أي خلوهن حتى تنقضي العدة ونهي أن لا يكون الامساك." ضرار " وضراراً مصدر لضار وانتصابه على أنه مفعول من أجله. وقيل: مصدر في موضع الحال أي مضارين لهن.﴿ لِّتَعْتَدُواْ ﴾ أي لتظلموهن بالجائهن إلى أخذ أموالهن بالافتداء. وهو متعلق بضرار فهو علة للعلة، كما تقول: ضربت ابني تأديباً لينتفع.﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ﴾ أي الامساك على سبيل الضرر.﴿ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ بتعريضها للعذاب ولما تقدمت آيات تضمنت الأسر والنهي في النكاح وأمر الحيض والايلاء والطلاق والعدة والرجعة والخلع وحدّ تعالى حدوداً لا تتعدى أكد ذلك بالنهي عن اتخاذ " آيات الله " التي منها هذه الآيات لنازلة في شأن النساء.﴿ هُزُواً ﴾ بل تؤخذ وتتقبل بجد واجتهاد إذ هي والآيات النازلة في سائر التكاليف بين العبد. وربه وبين العبد والناس لا فرق فيها. ويقال: هزأ به. هزأ: استخف.﴿ وَمَآ أَنزَلَ ﴾ معطوف على نعمة وهي خصوص بعد عموم إذ ما أنزل هو من النعمة. وفي خطابه تعالى بقوله: عليكم، تشريف وتعظيم لهم وهو في الحقيقة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكتاب: القرآن، والحكمة: السنة. والضمير في به: عائد على ما الموصولة. والخطاب في طلقتم وفي:﴿ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ للأزواج. نهي الأزواج المطلقون عن العضل إذ كانوا يفعلون ذلك ظلماً وقهراً وحمية الجاهلية لا يتركون مطلقاتهن يتزوجن بمن شئن من الأزواج. والمعنى في أزواجهن من يردن أن يتزوجنه سمواً أزواجاً باعتبار ما يؤلون إليه. والعضل: المنع. عضل ايمه: منعها من النكاح. والمضارع بضم الضاد وكسرها.﴿ إِذَا تَرَاضَوْاْ ﴾ أي الخطاب والنساء. وإذا معمول لينكحن. و ﴿ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ متعلق بتراضوا أو بينكحن.﴿ ذٰلِكَ ﴾ الخطاب للرسول عليه السلام أو لكل سامع. و ﴿ مِنكُمْ ﴾ خطاب للمنهيين عن العضل. ويتعلق بكان أو بمحذوف فيكون في موضع الحال من الضمير المستكن في يؤمن وخص المؤمنين لأنه لا ينتفع بالوعظ الأهم.﴿ ذٰلِكُمْ أَزْكَىٰ ﴾ أي ترك العضل والتمكين من التزويج أزكى لما فيه من امتثال أمر الله.﴿ وَأَطْهَرُ ﴾ للزوجين لما يخشى عليها من الريبة بسبب العلاقة التي بين الرجال.﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ﴾ بواطن الأمور ومالها.
﴿ وَٱلْوَالِدَاتُ ﴾ والولادة من خصائص النساء كالحيض لكنه لما كان يطلق والد على الأب دخلته التاء للمؤنث فقيل والدات فجمع بالألف والتاء. وباب ما يخص النساء كحائض لا يجوز جمعه بالألف والتاء إلا شاذاً ولفظ والدات شامل للزوجات والمطلقات. و ﴿ يُرْضِعْنَ ﴾ خبر أي في حكم الله الذي شرعه أو خبر صورة ومعناه أمر ندب لا إيجاب لاستحقاق الأجرة.﴿ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ وصفهما بالكمال دفعاً لمجاز ترك الاستغراق. وجعل تعالى ذلك حداً لمدة الرضاع لكنه ليس من الحد الذي لا يتجاوز، إذ قال:﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ ﴾ فمن لم يرد الاتمام فله فطمه دون ذلك لمن لا ضرر عليه في فطمه. ولمن متعلق بيرضعن، واللام للتعليل. ومن: هو الأب أو للتبيين كهي بعد سقيالك، ومن: للوالدة أولها وللأب. وقرىء أن يتم برفع الميم. فالكوفي يقول: هي مخففة من الثقيلة. والبصري يقول: هي الناصبة ألغيت حملاً على ما المصدرية اختها. وقرىء الرضاعة - بفتح الراء وكسرها - كالحضارة والحضارة.﴿ وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ ﴾ الْ كمن موصولة روعي اللفظ فافرد الضمير في له. ويجوز في العربية مراعاة المعنى، فيقال: لهم. ولم يقرأ به. وحذف الفاعل ثم المفعول به وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل وذلك على مذهب البصريين، والكوفي لا يجيز ذلك إلا أن كان حرف الجر زائداً نحو: ما ضرب من أحد، على تفصيل لهم في ذلك. وجاء بلفظ المولود له لا بلفظ الأب ولا بلفظ الوالد أشعاراً بالمنحة وشبه التمليك وحيث لم يرد هذا المعنى جاء التصريح بلفظ الوالد كقوله تعالى:﴿ لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ ﴾[لقمان: ٣٣].
وان أريد بالرزق والكسوة المصدرين فلا حذف أو المرزوق والثياب فعلى حذف أي إيصال أو دفع وبالمعروف ملحوظ فيهما. وقرىء بضم الكاف وكسرها.﴿ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ ظاهره العموم وتندرج فيه المرضعة والوالد والوسع ما احتملته الطاقة. وقرىء لا تكلف - بضم التاء - مبنياً للمفعول وبفتحها مبنياً للفاعل أي لا تتكلف وحذفت التاء الواحدة. وقرىء لا نكلف بالنون نفساً بالنصب وقرىء " لا تضار " برفع الراء وبفتحها فالرفع نفي في معنى النهي والفتح نهي. وكذا كسر الراء. وقرىء به وبسكونها مشددة أجراً للوصل مجرى الوقف وبسكون الراء مخففة وهو مضارع من ضار مرفوع، أجرى في الوصل مجرى الوقف. ومن قرأ بتشديد الراء جاز أن يكون مبنياً للفاعل ومبنياً للمفعول وقرىء بالفك بكسر الراء الأولى وبفتحها وسكون الثانية فيهما والباء في بولدها للسبب.﴿ وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ ﴾ هو معطوف على وعلى المولود أي وعلى وارث المولود له. وفي تعيينه عشرة أقوال: أظهرها أنه إذا كان وارثاً للمولود له ومات وفني ما ورث الولد إن كان غير جائز ما تركه أبوه فإِنه يجب عليه رزق أم الصغير وكسوتها بالمعروف مدة الارضاع. ومثل ذلك هو الرزق والكسوة اللذان كانا على المولود ينتقلان على الوارث.﴿ فَإِنْ أَرَادَا ﴾ أي الوالدة والمولود له.﴿ فِصَالاً ﴾ أي فطاماً للولد وذلك قبل تمام الحولين فلا بد من تراضيهما فلو رضي أحدهما وأبى الآخر لم يجبر. وآخر التشاور لأنه به يظهر صلاح الأمور والآراء وفسادها ويحتمل أن يكون التشاور منهما أي يشاور أحدهما الآخر، أو يشاور أحدهما أو كلاهما غيرهما.﴿ وَإِنْ أَرَدتُّمْ ﴾ خطاب الآباء والأمهات وفيه خروج من غيبة إلى خطاب.﴿ أَن تَسْتَرْضِعُوۤاْ ﴾ تتخذوا. لـ ﴿ أَوْلاَدَكُمْ ﴾ مراضع واسترضع متعد إلى اثنين بنفسه. يقال: أرضعت المرأة الصبي واسترضعت المرأة الصبي. أو متعد إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بحرف جر أي تسترضعوا المرضعات لأولادكم.﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ أي من الاسترضاع.﴿ إِذَا سَلَّمْتُم ﴾ خطاب للآباء.﴿ مَّآ آتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ وهو أجور المراضع إذ في إيتاء المراضع الأجرة معجلاً هنيئاً توطين لأنفسهن واستعطاف منهن على الأولاد. وقرىء ما أتيتم بالقصر. وقرىء ما أوتيتم مبنياً للمفعول أي ما أعطاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة بالمعروف أي بالجميل الذي تطيب النفس به وتعين على تحسين نشأة الصبي.
﴿ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ﴾ لما تقدم ذكر عدة الحيض واتصل الكلام إلى ذكر الرضاع وكان فيه وعلى الوارث مثل ذلك ذكر عدة الوفاة. وقرىء يتوفون مبنياً للفاعل ومبنياً للمفعول أي يتوفاهم الله أو يستوفون آجالهم، والذين: مبتدأ، وخبره مختلف في تقديره واختار ان يكون يتربصن وحذف ما يحصل به الربط وهو مجرور أي يتربصن لوفاتهم ودل عليه يتوفون. " وأزواجاً " ظاهر في كل زوجة توفي عنها بعلها من أمة كتابية وغيرهما. والتربص هنا: الصبر على التزويج. وإذا كان المعدود مذكراً وحذف فالأكثر ارتباط التاء ويجوز حذفها. ومنه قول العرب: ضمناً من الشهر خمساً، وما ورد في الحديث: ثم اتبعه بست من شوال، يريد خمسة وستة وحسن ذلك في قوله: وعشراً لأنه كالفاصلة ومقطع الجملة. وقال الزمخشري: وقيل عشراً ذهاباً الى الليالي والأيام داخلة معها ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين الى الأيام تقول: صمت عشراً ولو ذكرت خرجت من كلامهم ومن البين فيه أن لبثتم إلا عشراً ان لبثتم إلا يوماً. " انتهى ". ولا يحتاج إلى تأويل عشراً بانها ليال لأجل حذف التاء ولا إلى تأويلها بعدد كما ذهب إليه المبرد بل الذي نقل أصحابنا أنه إذا كان المعدود مذكراً وحذفته فلك فيه وجهان أحدهما وهو الأصل أن تبقى العدد على ما كان عليه ولم تحذف المعدود فتقول: صمت خمسة، تريد خمسة أيام. قالوا: وهو الفصيح. قالوا: ويجوز ان تحذف منه كله تاء التأنيث، وحكى الكسائي عن أبي الجراح: صمنا من الشهر خمساً، ومعلوم ان الذي يصام من الشهر إنما هي الأيام واليوم مذكر وكذلك قوله: وإلا فسيرى مثل ما سار راكب تيمم خمساً ليس في سيره أمَميريد خمسة أيام. وعلى ذلك ما جاء في الحديث ثم اتبعه بست من شوال وإذا تقرر هذا فجاء قوله: وعشراً على أحد الجائزين وحسّنه هنا أنه مقطع كلامه، فهو مشبه بالفواصل فقوله: ولو ذكرت لخرجت كما حسن قوله:﴿ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ﴾[طه: ١٠٣] كونه فاصلة، فلذلك اختير مجيء هذا على أحد الجائزين. من كلامهم ليس كما ذكر بل لو ذكر لكان أتى على الكثير الذي نصوا على أنه الفصيح إذ حاله عندهم محذوفاً كحالة مثبتاً في الفصيح وجوزوا الذي ذكره الزمخشري على أن غيره أكثر منه. وقوله: ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه، ليس كما ذكر بل استعمال التذكير هو الكثير الفصيح كما ذكرنا. وقوله: ومن البين فيه إن لبثتم إلا عشراً قد بينا مجيء هذا على الجائز فيه وإن محسن ذلك إنما هو كونه فاصلة، وقوله:﴿ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ﴾[طه: ١٠٤] فائدة ذكر الزمخشري هذا أنه على زعمه أراد الليالي والأيام داخلة معها، فأتى بقوله: إلا يوماً، للدلالة على ذلك. وهذا يدل عندنا على أن قوله: عشراً، إنما يريد بها الأيام لأنهم اختلفوا في مدة اللبث، فقال قوم: عشر، وقال أمثلهم طريقة يوم. فقوله: إلا يوماً مقابل لقولهم: إلا عشراً، ومبين أنه أريد بالعشر الأيام إذ ليس من التقابل أن يقول بعضهم: عشر ليالي، ويقول بعض: يوماً والأشهر بالأهلية. وهذه الآية ناسخة للاعتداد بالحول وعمومها معارض لعموم وأدلات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن والسنة الثابتة بينت أن عدة الحامل بوضع حملها سواء كانت متوفي عنها زوجها أم غير ذلك.﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ أي انقضاء هذه المدة المضروبة في التربص.﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ خطاب للأولياء ومن يقوم مقامهم من الحكام.﴿ فِيمَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ ﴾ أي من التزويج والتهيؤ له.﴿ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ بالوجه الذي ينكره الشرع.
﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ ﴾ نحو إنك لجميلة، وإنك لصالحة، وإن عزمي لأتزوج، وإن فيك لراغب، ونحو ذلك. مما ليس فيه تصريح ومن ذلك وصف الرجل نفسه وفخره ونسبه كما فعل الباقر مع سكينة بنت حنظلة.﴿ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ ﴾ من أمر النكاح فلم تعرضوا به والاجماع على أن لا يجوز التصريح بالتزويج.﴿ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ﴾ هذا عذر في التعريض لأن الميل متى حصل في القلب عسر دفعه فأسقط الله الجرح في ذلك. وفيه مع ذلك طرف من التوبيخ وأتى بالسين دلالة على تقارب الزمان بحيث وقع ذلك إثر الانفصال حبالهن من التزوج بالوفاة.﴿ وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾ هذا استدراك من الجملة قبله وهي قوله: ستذكرونهن، والذكر يقع على أنحاء فاستدرك فيه وجه نهي فيه عن ذكر مخصوص، ولو لم يستدرك لكان مأذوناً فيه لاندراجه تحت مطلق الذكر الذي أخبر الله بوقوعه. قال الزمخشري رحمه الله تعالى: فإِن قلت: أين المستدرك بقوله: ولكن لا تواعدوهن؟ قلت: هو محذوف لدلالة ستذكرونهن عليه تقديره علم الله أنكم ستذكرونهن فاكروهن ولكن لا تواعدوهن سراً. " انتهى ". وقد ذكرنا أنه لا يحتاج إلى تقدير محذوف قبل لكن بل الاستدراك جاءه من قوله: ستذكرونهن، ولم يأمر الله تعالى بذكر النساء لا على طريق الوجوب ولا الندب، فيحتاج إلى تقدير فاذكروهن على ما قررناه قبل كقولك: سألقاك ولكن لا تخف مني، لما كان اللقاء من بعض أحواله أن يخلف من الملقى استدرك فقال: ولكن لا تخف مني. والسر ضد الجهر ويكنى به عن الجماع حلاله وحرامه لأنه يكون في سر. وبعضهم فسره هنا: بالزنا وهو بعيد فانتصب سراً على أنه مفعول به أو على أنه مصدر في موضع الحال ومفعول تواعدوهن محذوف تقديره أي النكاح.﴿ إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾ استثناء منقطع وهو ما أبيح من التعريض. (قال) الزمخشري: إلا أن تقولوا قولاً معروفاً وهو أن تعرّضوا ولا تصرحوا. (فإِن قلت): لم يتعلق حرف الاستثناء؟ قلت: بلا تواعدوهن، أي لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة، أو لا تواعدوهن إلا بأن تقولوا، أي لا تواعدوهن إلا بالتعريض. ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعاً من سر الادائه إلى قولك: لا تواعدوهن إلا بالتعريض. " انتهى ". كلامه. ويحتاج إلى توضيح وذلك أنه جعله استثناء متصلاً باعتبار أنه استثناء مفرغ وجعل ذلك على وجهين: احدهما أن يكون استثناء من المصدر المحذوف وهو الوجه الأول الذي ذكره وقدره لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة، فكأنّ المعنى: لا تقولوا لهن قولاً تعدونهن به إلا قولاً معروفاً. فصار هذا نظير: لا تضرب زيداً إلا ضرباً شديداً، فهذا استثناء مفرغ من المصدر التقدير لا تضرب زيداً ضرباً شديداً. والثاني: أن يكون استثناء مفرغاً من مجرور محذوف وهو الوجه الثاني الذي قدره الا بان تقولوا، ثم أوضحه بقوله: إلا بالتعريض فكان المعنى لا تواعدوهن سراً، أي نكاحاً بقول من الأقوال إلا بقول معروف وهو التعريض فحذفه من أن حرف الجر فيبقى منصوباً أو مجروراً على الخلاف الذي تقدم في نظائره والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الذي قبله انتصب نصب المصدر وهذا انتصب على إسقاط حرف الجر وهو الباء التي للسبب. وقوله: ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعاً من سر الادائه الى قولك: لا تواعدوهن إلا التعريض، والتعريض ليس مواعداً فلا يصح عنده أن ينصبّ عليه العامل وهذا عنده على أن يكون منقطعاً نظير ما رأيت أحداً إلا حماراً لكن هذا لا يصح فيه ما رأيت: إلاّ حماراً. وذلك لا يصح فيه لا تواعدوهن إلا التعريض لأن التعريض لا يكون مواعداً بل مواعداً به النكاح فانتصاب سراً على أنه مفعول فكذلك ينبغي أن يكون أن تقولوا قولاً معروفاً مفعولاً، ولا يصح ذلك فيه فلا يصح أن يكون استثناء منقطعاً هذا توجيه، منع الزمخشري أن يكون استثناء منقطعاً وما ذهب إليه ليس بصحيح لأنه لا ينحصر الاستثناء المنقطع فيما ذكر وهو أن يمكن تسليط العامل السابق عليه وذلك ان الاستثناء المنقطع على قسمين: أحدهما ما ذكره الزمخشري وهو أن يتسلط العامل على ما بعد الا كما مثلنا به في قولك: ما رأيت أحداً إلا حماراً، وما في الدار أحداً إلا حماراً. وهذا النوع فيه الخلاف عن العرب فمذهب الحجازيين نصب هذا النوع من المستثنى، ومذهب بني تميم اتباعه لما قبله في الاعراب ويصلح في هذا النوع أن يحذف الأول ويتسلط ما قبله على ما بعد الا فنقول: ما رأيت إلا حماراً، وما في الدار الا حماراً. ويصح في الكلام ما لهم به من علم إلا اتباع الظن* والقسم الثاني من قسمين الاستثناء المنقطع، هو أن لا يمكن تسلط العامل على ما بعد إلا وهذا حكمه النصب عند العرب قاطبة وما ذلك ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر فما بعد إلا؛ لا يمكن أن يتسلط عليه زاد ولا نقص بل تقدر المعنى ما زاد لكن النقص حصل له وما نفع لكن الضرر حصل له، فاشترك هذا القسم مع الأول وفي تقدير إلا، لكن الأول يمكن تسلط ما قبله عليه وهذا لا يمكن وإذا تقرر هذا فتقول: قوله: إلا أن تقولوا استثناء منقطعاً من هذا القسم الثاني وهو ما لا يمكن أن يتوجه عليه العامل والتقدير لكن التعريض سائغ لكم وكان الزمخشري ما علم ان الاستثناء المنقطع يأتي على ما في هذا النوع من عدم توجه العامل على ما بعد إلا فلذلك منعه. والله أعلم. وظاهر لا تواعدوهن التحريم.﴿ وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ ﴾ ضمن تعزموا معنى تنووا، فعقدة: مفعول به، أو انتصب على إسقاط الحرف أي على عقدة، أو على المصدر، إذ معنى تعزموا تعقدوا، وعقدة النكاح ما تتوقف عليه صحة النكاح.﴿ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾ أي المكتوب أجله من انقضاء العدة. وهو نهي تحريم فلو عقد في العدة فسخ.﴿ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ ﴾ من هواهن.﴿ فَٱحْذَرُوهُ ﴾ أي فاحذروا عقابه.
تزوج أنصاري حنفية ولم يسم مهداً ثم طلقها قبل أن يمسها، فقال صلى الله عليه وسلم: متعها ولو بقلنسوتك فنزلت. وقرىء تمسوهن مضارع مسست، وتماسوهن مضارع ماسست، وهو كناية عن الجماع، وما: مصدرية ظرفية أي زمان عدم المسيس.﴿ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ الفريضة: الصداق. وفرضه تسميته. وتفرضوا: معطوف على تمسوهن مجزوم على مجزوم فهو داخل تحت نفي لم والمعنى انتفاء الجناح عن المطلق عند انتفاء أحد أمرين أما الجماع واما تسمية المهر. والآية تدل على جواز الطلاق قبل البناء وعلى جواز طلاق الحائض غير المدخول بها لاندراجها في عموم النساء.﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ ﴾ أي ملكوهن ما يتمتعن به وسمي ذلك متعة. وظاهر الأمر الوجوب وضمير النصب عائد على المطلقات قبل المسيس وقبل الفرض.﴿ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ﴾.
هذا مما يؤكد الوجوب في المتعة لمن ذكر. والموسع: الموسر، والمقتر: الضيق الحال. والضمير في قدره عائد على المطلق فالمعتبر حاله وليس محدوداً ما يمتع به. وقرىء الموسع اسم فاعل من أوسع، والموسع اسم مفعول من وسع. وقرىء قدره بفتح الدال وسكونها وهماً بمعنى واحد عند أكثر أئمة اللغة. وقرىء بفتح الراء فيهما أي أوجبوا على الموسع قدره أو ليؤد كل منكم قدره واحتملت الجملة أن تكون حالاً، وذو الحال الواو في ومتعوهن وأن تكون استئنافاً وبينت حال المطلق في المتعة حال ايساره واقتاره.﴿ مَتَاعاً بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ المتاع اسم لما يتمتع به فأطلق على المصدر مجازاً، وناصبه ومتعوهن أي تمتيعاً، أو انتصب على الحال، وذو الحال الضمير المستكن في العامل في الجار والمجرور والتقدير يستقر على الموسع قدره في حال كونه متاعاً، وبالمعروف في موضع الصفة لمتاعاً وهو المألوف شرعاً ومروءة.﴿ حَقّاً عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ تأكيد للوجوب وحقاً صفة لمتاعاً أي متاعاً واجباً أو مصدر لفعل محذوف أي حقّ ذلك حقاً. ولما بين حال المطلقة قبل المسيس وقبل الفرض بين حال المطلقة قبل المسيس وقبل الفرض بين حال المطلقة قبل المسيس وبعد الفرض.﴿ وَقَدْ فَرَضْتُمْ ﴾ جملة حالية ويشتمل الفرض المقارن للعقد والفرض بعد العقد وقبل الطلاق. وقرىء ﴿ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾ بضم الفاء على أنه خبر مبتدأ محذوف أي فالواجب نصف ما فرضتم، أو مبتدأ محذوف الخبر مقدماً أي فعليكم نصف ما فرضتم أو متأخراً أي فنصف ما فرضتم عليكم أي فلهن نصف ما فرضتم. ونصف - بفتح الفاء - أي فأدوا نصف. وقرىء بكسر النون وضمها.﴿ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ ﴾ استثناء متصل وهو من الأحوال لأن المعنى فعليكم أو فلهن نصف ما فرضتم في كل حال إلا في حال عفوهن عنكم، فلا يجب. ونص ابن عطية وغيره: على أن هذا استثناء منقطع. قال ابن عطية: لأن عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن، والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج. انتهى. قيل: وليس على ما ذهبوا إليه بل هو استثناء متصل لكنه من الأحوال، لأن قوله: فنصف ما فرضتم معناه فالواجب عليكم نصف ما فرضتم في كل حالة إلا في حال عفوهن عنكم فلا يجب. وإن كان التقدير فلهن نصف ما فرضتم فكذلك أيضاً. وكونه استثناء من الأحوال ظاهر ونظيره لتأتنّني به إلا أن يحاط بكم. وقرىء بالتاء وهو التفات وجعل ذلك عفواً ذليل على الندب. وظاهر قوله: يعفون العموم في كل مطلقة قبل المسيس وقد فرض لها وخصوا ذلك بأن تكون مالكة أمر نفسها، أما من كانت في حجر أب أو وصي فلا يجوز لها العفو وإن كانت بكراً لا وليّ لها فهي داخلة في العموم.﴿ أَوْ يَعْفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِ ﴾ وهو الزوج وعفوه أن يعطيها المهر كله: قاله على وجماعة. أو الولي الذي المرأة في حجره وهو أبوها أو سيدها في الأمة: قاله ابن عباس وجماعة. وفي كون العافي أخا أو عماً أو أباً وإن كرهت خلاف. وقرأ الحسن: أو يعفو الذي بتسكين الواو فيسقط في الوصل لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها فإِذا وقف أثبتها وفعل ذلك استثقالاً للفتحة في حرف العلة فتقدر الفتحة فيها كما تقدر في الألف في نحو: لن يخشى. وأكثر العرب على استخفاف الفتحة في الواو والياء في نحو: لن يرمي ولن يغزو. حتى أن أصحابنا نصوا على أن إسكان ذلك ضرورة قال أبالله أن أسموا بأم ولا أب. قال ابن عطية: والذي عندي أنه استثقل الفتحة على واو متطرفة قبلها متحرك لقلة مجيئها في كلام العرب وقد قال الخليل: لم يجيء في الكلام واو مفتوحة متطرفة قبلها فتحة إلا في قولهم: عفوة. وهو جمع عَفَو وهو ولد الحمار. وكذلك الحركة ما كانت قبل واو المفتوحة فإِنها ثقيلة. انتهى. وقوله: لقلة مجيئها في كلام العرب يعني: مفتوحاً ما قبلها، وهو الذي ذكره فيه تفصيل، وذلك أن الحركة قبلها إما أن تكون ضمة أو فتحة أو كسرة، إن كانت ضمة فاما أن يكون ذلك في فعل أو اسم إن كان في فعل فليس ذلك بقليل بل جميع المضارع إذا دخل عليه الناصب أو لحقته نون التوكيد على ما أحكم في بابه ظهرت الفتحة فيه نحو: لن يغزو، وهل تغزّون. والأمر نحو: اغزون. وكذلك الماضي على فعل نحو: نسو. وشرد الرجل. وما يبنى من ذوات الياء على فعل تقول فيه: قَصُوَ الرجل ولرموت إليه، وهو قياس مطرد على ما أحكم في بابه وإن كان في اسم فاما أن يكون مبنياً على هاء التأنيث أولاً إن كان مبنياً على هاء التأنيث فجاء كثيراً قالوا عرقوه وقمحدوه وعنصوه ويبن عليه المسائل في علم التصريف وإن كانت الحركة فتحة فهو قليل كما ذكر الخليل وإن كانت كسرة انقلبت الواو فيه ياء نحو: الغازي والغازية والعريقية وشد من ذلك أقروة جمع قرو وهي ميلغة الكلب، وسواسوة وهم المستوون في الشر. ومقاتوه جمع مِقْتَو وهو السايس الخادم.﴿ وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ﴾ الظاهر أنه خطاب للأزواج إذ هم المخاطبون في صدر الآية. وقرىء وإن يعفو بياء الغيبية.﴿ وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ أي أن تفضل المطلقة بالعفو عما وجب لها إذا لم يستمتع بها الزوج أو المطلق ببذل جميع المهر إذ في طلاقها كسر خاطرها والرغبة عنها فيكون إعطاؤه لها جميع المهر جبراً لها وإحساناً إليها. وقرىء بضم الواو وبكسرها. وقرىء ولا تناسوا أي تتناسوا.
﴿ حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ ﴾ تلكم المفسرون في مجيء هذه الآية هنا ثم رجع بعدها إلى شيء من أحوال المطلقات بما ذكرناه في البحر ثم ذكرنا ان المناسبة في ذلك هو أنه لما ذكر تعالى جملة كبيرة من أحوال الأزواج والزوجات وأحكامهم المتقدمة وكانت تكاليف عظيمة تشغل من كلفها بحيث لا تكاد تسع معها شيئاً من الأعمال وكان كل من الزوجين قد وجب عليه ما يستفرغ فيه الوقت فكان في ذلك مدعاة إلى التكاسل عن العبادة إلا لمن وفقه الله تعالى أمر بالمحافظة على الصلوات التي هي وسيلة بين الله تعالى وبين عباده وإذا كان قد أمر بالمحافظة على حقوق الآدميين فلان يؤمر بالمحافظة على أداء حقوق الله تعالى أولى. ولذلك جاء فدين الله أحق أن يقضى، وحافظوا من باب طارقت النعل. ولما ضمن معنى المواظبة عديّ بعلى وال في الصلوات للعهد وهي الخمس.﴿ وٱلصَّلَٰوةِ ٱلْوُسْطَىٰ ﴾ هي فعلى تأنيث الأوسط بمعنى الفضلى. ومنه قول إعرابي يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أوسط الناس طرافي مفاخرهم* وأكرم الناس أما برةوافعل التفضيل لا يبنى إلا مما يقبل الزيادة والنقص وكذا فعل التعجب فلا يجوز زيد أموت الناس، ولا أموت زيداً لأنه لا يقبل ذلك وكون الشيء وسطاً بين شيئين لا يقبل الزيادة والنقص، فلا يجوز أن يبني منه أفعل التفضيل فتعين أن يكون الوسطى بمعنى الخيرى والفضلى وثبت تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الصلاة الوسطى هي صلاة العصر من حديث جماعة من الصحابة عنه عليه السلام فوجب المصير إليه. وذكرها خاص بعد عام نحو: وجبريل وميكال. وقرىء والصلاة بالنصب. وقرىء الوصطى بالصاد.﴿ وَقُومُواْ للَّهِ قَٰنِتِينَ ﴾ أي مطيعين ساكتين عما يتكلم به غير ما شرع من القراءة والذكر. وفي قوله: وقوموا، دلالة على مطلوبية القيام. والقيام فرض في صلاة الفرض على كل صحيح قادر عليه.﴿ فَإنْ خِفْتُمْ ﴾ أي من عدو أو سبع أو سيل وغير ذلك مما يخاف منه ولم يتمكن المصلي من القيام.﴿ فَرِجَالاً ﴾ أي فصلوا رجالاً جمع راجل أي على الاقدام ماشين.﴿ أَوْ رُكْبَاناً ﴾ جمع راكب. ويقال رجل يرجل رجلاً فهو راجل ورجل. قيل: لا يقال راكب الا لراكب الابل. وقرىء فرجّالاً بضم الراء وشد الجيم وبالضم وتخفيفها. والظاهر أنهم يوقعون الصلاة وهم ماشون فيصلون على كل حال والراكب يومي.﴿ فَإِذَآ أَمِنتُمْ ﴾ أي من الخوف.﴿ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ﴾ بالشكر والعبادة.﴿ كَمَا عَلَّمَكُم ﴾ أي ذكراً يوازي ويعادل نعمة ما علّمكم ويجوز أن تكون الكاف للتعليل، أي لتعليمه إياكم.﴿ مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ ما: مفعول بعلمكم.﴿ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ﴾ حكي ابن عطية وعياض الاجماع على فسخ الحول بالآية السابقة وقرىء وصيبة بالرفع على الابتداء وهي موصوفة تقدير أي وصية منهم. وقرىء بالنصة على المصدر أي يوصون وصية. وانتصب ﴿ مَّتَاعاً ﴾ بفعل مضمر من لفظه أي متعوهن متاعاً أو من غير لفظه فيكون مفعولاً أي جعل الله لهن متاعاً. الى الحول. وانتصب ﴿ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ على الصفة لمتاعا.﴿ فَإِنْ خَرَجْنَ ﴾ أي مختارات.﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ على من له الولاية عليهن وجاء هنا من معروف نكرة لأن هذه الآية متقدمة في النزول وإن تأخرت في الترتيب وفي الآية السابقة بالمعروف معرّفاً بال لأنه متأخر في النزول وإن تقدم في الترتيب كما جاء في قوله: كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول.
﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ ظاهره العموم كما ذهب. وقرىء ألم تر بسكون الراء وقصة هؤلاء انهم قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد فخافوا القتل فخرجوا من ديارهم فراراً من ذلك فاماتهم الله ليعرّفهم أنهم لا ينجيهم من الموت شيء.﴿ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ ﴾ وأمرهم بالجهاد.﴿ وَهُمْ أُلُوفٌ ﴾ جملة حالية وألوف جمع ألف وهو عدد معروف. والظاهر أنهم ألوف من غير تعيين ويجوز أن يراد به التكثير، أي وهم عالم كثير لا يكاد يحصيهم عاد. كما تقول: جئتك ألف مرة تريد التكثير لا حقيقة العدد." وحذر الموت " مفعول من أجله.﴿ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي على لسان نبي فيهم أو على لسان ملك. أو يكون كناية عن سرعة موتهم كأنهم مأمورون بذلك لسرعة القابلية. وفي الكلام حذف أي فماتوا والموت عبارة عن فراق أرواحهم لأجسادهم.﴿ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ ﴾ يدل على تراخي إحيائهم وليس بموت الآجال بل هو حادث مما يحدث على المنكر كموت الذي مرّ على قرية وأتت هذه بين يدي الأمر بالقتال تشجيعاً للمؤمنين وحثا على الجهاد وإعلاماً بأن لا مفرّ من القضاء وتنبيهاً على النشأة الآخرة.﴿ وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ظاهره أنه خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد في سبيل الله وعن ابن عباس أمر لأولئك الذين أحياهم الله بالجهاد.﴿ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾ هذا على سبيل التمثيل والتقريب. والله الغني شبه عطاء المؤمن في الدنيا ما يرجوا ثوابه في الآخرة بالقرض، كما شبه بذل النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء. ومن: مبتدأ. وإذا: اسم إشارة باق على إشارته، والذي: صفة له أو من، وذا مركبين بمعنى الاستفهام والذي: خبره، وقرضاً: مصدر على غير المصدر، أي إقراضاً، أو بمعنى المفعول أي مقروضاً حسناً. وحسنه إن كان مصدراً بطيب النية فيه وكونه بلا أذى ولا من وإن كان مفعولاً فبجودته وكثرته وطيب أصله. وقرىء ﴿ فَيُضَٰعِفَهُ ﴾ بالتشديد، وفيضاعفه بالألف. وقرىء بالرفع على الاستئناف أي فهو يضاعفه أو عطفاً على صلة الذي وبالنصب جواباً للاستفهام وإن كان الاستفهام هو عند المسند إليه الحكم لا عن الحكم خلافاً لمن منع النصب في ذلك وهو نظير من يدعوني فأستجيب له.﴿ أَضْعَافاً ﴾ حال أو ضمن فيضاعف معنى فيصيره فيكون مفعولاً.﴿ وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾ أي يقتر ويوسع.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ الملأ: هم الأشراف. ومن له الحل والعقد وهو اسم جمع ويجمع على إملاء من بني إسرائيل في موضع الحال أي كائنين من بني إسرائيل.﴿ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ ﴾ متعلق بما تعلق به من بني إسرائيل وتعدى إلى حرفي جر من لفظ واحد لاختلاف المعنى فالأولى للتبعيض والثانية لابتداء الغاية.﴿ إِذْ قَالُواْ ﴾ العامل في إذ قالوا: تر، وقالوا: بدل من بعد وقد رددنا ذلك في البحر. والعامل مضاف محذوف أي إلى قصة الملأ أو إلى حديث الملأ وما جرى لهم، إذ قالوا: لأن الذوات لا يتعجب منها إنما يتعجب مما جرى لهم.﴿ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ﴾ لنبي: متعلق بقالوا، واللام: للتبليغ. ولم يعين في القرآن اسم هذا النبي. وقصة هؤلاء إنه لما توفي موسى عليه السلام خلفه يوشع يقيم فيهم التوراة فقبض، فخلفه حزقيل فقبض، ففسق فيهم الاحداث حتى عبدوا الأوثان، فبعث الياس ثم من بعده اليسع ثم قبض فظهرت فيه الاحداث، وظهر لهم عدوهم العمالقة قوم جالوت وكانوا سكان بحر الروم بين مصر وفلسطين فغلبوا على كثير من بلادهم وأسروا من ملوكهم وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولم يكن لهم نبي موجود يدبر أمرهم، فسألوا الله أن يبعث لهم نبياً يقاتلون معه وكان سبط النبوة قد هلكوا إلا امرأة حبلى دعت الله تعالى أن يرزقها غلاماً فرزقها شمويل فتعلم التوراة وكفله شيخ من علمائهم وتبناه فأتاه جبريل عليه السلام وهو نائم إلى جنب الشيخ وكان لا يأمن عليه فدعاه بلحن الشيخ يا شمويل فقام نزعا فقال: يا أبت دعوتني، فكره أن يقول له لا فيفزع. فقال: يا نبي نم فجرى له ذلك مرتين فقال له: إن دعوتك الثالثة فلا تجبني فظهر له جبريل عليه السلام فقال له: اذهب فبلغ قومك رسالة ربك فقد بعثك نبياً فاتاهم فكذبوه، وقالوا له: إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك وكان قوام بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وكان الملك يسير بالجموع والنبي يسدده ويرشده، ومعنى ابعث لنا ملكاً: انهض لنا من تصدر عنه في أمر الحروب وتنتهي إلى تدبيره. وقرىء نقاتل بالنون والجزم على جواب الأمر وبالياء رفع اللام على الصفة وبالنون ورفع اللام على الحال من المجرور وبالياء والجزم على الجواب ولما ذكروا القتال استثبتهم بقوله:﴿ هَلْ عَسَيْتُمْ ﴾ ليعلم ما انطوت عليه بواطنهم فاستفهم عن مقاربتهم ترك القتال إن كتب عليهم فأنكروا أن يكون لهم داع إلى ترك القتال بقولهم: وما لنا.. إلى آخر كلامهم أي هذه حال من يبادر إلى القتال. ودخول هل على عسيتم دليل على أن عسى فعل خبري لا إنشائي والمشهور أنّ عيسى انشاء. وقرىء عسيتم بكسر السين وفتحها وجواب ان كتب محذوف وان لا تقاتلوا خبر عسى أو مفعول على الخلاف المنقول في النحو، والواو في ومالنا أن لا نقاتل لربط هذا الكلام بما قبله، والتقدير في ترك القتال والواو في وقد للحال. وقرىء أخرجنا مبنياً للمفعول وأخرجنا ماضياً مبنياً للفاعل أي أخرجنا العدو أو أخرجنا الله سبحانه بعصياننا فنحن نموت ونقاتل في سبيله ليردنا إلى أوطاننا ويجمع بيننا وبين أبنائنا.﴿ تَوَلَّوْاْ ﴾ أي صرفوا عزائمهم عن القتال.﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾ استثناء متصل وصح وإن كان لا يجوز قام القوم إلا رجالاً لأنه صفة لموصوف محذوف ولتقييده بقوله: منهم ولم يبين عدة هذا القليل وفي الحديث ثلثمائة وثلاثة عشر وهذا القليل ثبتوا على نياتهم في قتال أعدائهم.﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ ﴾ وعيد لمن تقاعد عن القتال بعد أن فرض عليه بسؤال. ولما سألوا أن يبعث لهم ملكاً قال:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً ﴾ وكان طالوت صاحب صنعة فيها مهنة.﴿ قَالُوۤاْ أَنَّىٰ ﴾ الجملة وهو كلام من تعنت في حكم الله تعالى ولم يسلم لما فعله الله تعالى وأبْدوْا عذرهم في إنكار تمليكه عليهم وإنهم أحق بالملك منه إذ الملك في سبط [يهود أو النبوة في سبط] لأوى وليس هو من هذا السبط ولا من هذا السبط والملك لا يتم إلا بالفاضل لا المفضول والموسع عليه في الدنيا، إذ يحتاج إلى استخدام الرجال بالمال ومعونتهم به على القتال اعتبروا في ذلك الأصالة والغنى ولم يعتبروا السبب الأقوى وهو ما قضاه الله وقدره، وأنى بمعنى: كيف نصب على الحال." ويكون " ناقصة وله خبر وعلينا متعلق بالملك على معنى الاستعلاء أو تامة، أي كيف يقع أو يحدث.﴿ وَنَحْنُ أَحَقُّ ﴾ جملة حالية.﴿ وَلَمْ يُؤْتَ ﴾ معطوف على الحال فهو حال وبالملك ومنه متعلقان باحق.﴿ ٱصْطَفَاهُ ﴾ اختاره صفوة إذ هو أعلم بالمصالح.﴿ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ ﴾ بالحروب وعلم الشرائع وقيل أنه أوحى إليه ونبىء.﴿ وَٱلْجِسْمِ ﴾ وهو امتداد القامة وحسن الصورة. قال ابن عباس: كان طالوت يومئذٍ أعلم بني إسرائيل وأتمهم وأجملهم وتمام الخلق وحسنه أعظم في النفوس وأشد هيبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ماشى الطوال طالهم. وقرىء بسطة بالسين وبالصاد.﴿ وَٱللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ ﴾ لما تعنتوا وجادلوا قطعهم بذلك، ثم اعلمهم بآية تدل على ملك طالوت فقال:﴿ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ ﴾ وكانوا قد فقدوه وكان مشتملاً على ما ذكره الله تعالى والتابوت معروف، ووزنه فاعول ولا يعرف له اشتقاق ويقال بالتاء أخيراً وبالهاء وقد قرىء بهما.﴿ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ أي فيه اطمئنان لكم ولما كانت السكينة تحصل بإِتيانه جعلت فيه مجازاً. وقيل: والتابوت صندوق التوراة كان موسى عليه السلام إذا قدمه في القتال سكنت نفوس بني إسرائيل ولا يفرون.﴿ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ ﴾ لم يعين ما البقية. فقيل: رضاض الواح التوراة التي تكسرت حين ألقاها موسى عليه السلام وقيل: عصاه. وقيل غير ذلك. وآل موسى وآل هارون هم الأنبياء كانوا يتوارثون ذلك.﴿ تَحْمِلُهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾ قال ابن عباس: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت وهم ينظرون إليه وكان حمل الملائكة له اسعظاماً لهذه الآية.﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ أي إتيان التابوت والملائكة تحمله.
﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ ﴾ قيل هنا جمل محذوفة أي فجاءهم التابوت وأقروا له بالملك وتأهبوا للخروج. والباء في بالجنود للحال أي ملتبساً بالجنود. قال ابن عباس: كانوا سبعين ألفاً، ولما خرجوا معه شكوا قلة الماء وخوف العطش وكان الوقت قيظاً وسلكوا مفازة فسألوا الله أن يجري لهم نهراً.﴿ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ﴾ قال ابن عباس: هو نهر بين الأردن وفلسطين، وقرىء بنهر بفتح الهاء وسكونها. والابتلاء الاختبار، واخبار طالوت بهذا الابتلاء وما يترتب عليه لا يكون من قبله بل بوحي من الله أما إليه إن كان نبياً كما قيل أو للبني الذي أخبر عن الله بتمليكه.﴿ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾ أي من أتباعي وأشياعي في هذه الحرب.﴿ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ ﴾ أي من لم يذقه وطعم كل شيء ذوقه وتقول العرب أطعمتك الماء أي أذقتكه. وطعمت الماء: ذقته.﴿ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ ﴾ استثناء من الجملة الأولى وهي فمن شرب منه فليس مني.﴿ غُرْفَةً ﴾ قرىء بفتح الغين وضمها، والمعنى: يشربها أو للشرب، والظاهر أنها غرفة الكف أبيح لهم ذلك لا الكروع والتملي من الماء.﴿ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾ أي يشرب الأكثر ولم يشرب القليل. وقرىء إلا قليلاً بالنصب على الاستثناء وبالرفع على أنه تابع للمرفوع قبله لأن الكلام إذا كان موجباً جاز فيما بعد إلا حكمه النصب وهو الأفصح والاتباع لما قبله ان رفعاً فرفع أو نصباً فنصب أو جراً فجر وهي مسألة بيّنا وجه الإِعراب فيها في كتب النحو. قال الزمخشري: وهذا من ميلهم مع المعنى والاعراض عن اللفظ جانباً وهو باب جليل من علم العربية فلما كان معنى فشربوا منه في معنى: فلم يطيعوه، حمل عليه كأنه قيل فلم يطيعوه إلا قليل منهم. ونحوه قول الفرزدق: لم يدع من المال إلا مسحتا أو محلف كأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت أو مخلف " انتهى ". ويعني أن هذا الموجب الذي هو فشربوا منه هو في معنى المنفي، كأنه قيل: فلم يطيعوه فارتفع قليل على هذا المعنى ولو لم يلحظ فيه معنى النفي لم يكن ليرتفع ما بعد إلا فيظهر أن ارتفاعه على أنه بدل من جهة المعنى فالموجب فيه كالمنفى. وما ذهب إليه الزمخشري من أنه ارتفع ما بعد إلا على التأويل، هنا دليل على أنه لم يحفظ الاتباع بعد الموجب فلذلك تأوله. ونقول: إذا تقدم موجب جاز في الذي بعد إلاَّ وجهان أحدهما: النصب على الاستثناء وهو الأفصح، والثاني: أن يكون ما بعد إلا تابعاً لإِعراب المستثنى منه أن رفعاً فرِفع أو نصباً فنصب أو جراً فجر فتقول: قام القوم إلا زيد، ورأيت القوم إلا زيدا، ومررت بالقوم إلا زيد، سواء أكان ما قيل إلا مظهراً أو مضمراً، واختلفوا في إعرابه فقيل: هو تابع على أنه نعت لما قبله فمنهم من حمل هذا على ظاهر العبارة. وقال: ينعت بما بعد إلا الظاهر والمضمر. ومنهم من قال: لا ينعت به إلا النكرة أو المعرفة بلام الجنس فإِن كان معرفة بالاضافة نحو: قام اخوتك أو بالألف واللام للعهد أو بغير ذلك من وجوه التعاريف غير لام الجنس فلا يجوز الاتباع ويلزم النصب على الاستثناء ومنهم من قال ان النحويين يعنون بالنعت هنا عطف البيان ومن الاتباع بعد الموجب قوله: وكل أخ مفارقه لعمر أبيك الا الفرقدانوهذه المسألة مستوفاة في علم النحو وإنما أردنا أن ننبّه على أن تأويل الزمخشري هذا الموجب بمعنى النفي لا يضطر إليه، وانه كان غير ذاكر لما قرره النحويون في الموجب.﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ ﴾ أي النهر.﴿ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ وهم الذين لم يشربوا وهو توكيد للضمير المستكن في جاوزه أي وعاينوا جالوت وعسكره.﴿ قَالُواْ ﴾ ظاهره عود الضمير على الذين آمنوا، والمعنى قال: من ضعفت نصيرته من المؤمنين وقد شاهدوا عسكر جالوت وكثرته. قال ابن عباس: قائل ذلك الكفرة الذين انخزلوا وهو الفاعل في فشربوا.﴿ لاَ طَاقَةَ ﴾ هو من الطوق وهو القوة. تقول: أطاقِ أطاقه وطاقة كأطاع طاعة.﴿ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ ﴾ أي بقتال جالوت وجنوده ولنا هو الخبر ويتعلق بجالوت بما تعلق به لنا.﴿ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ ﴾ الظن على بابه ومعنى ملاقوا الله انهم يستشهدون في ذلك اليوم لعزمهم على صدق القتال أو بمعنى الايقان أي يوقنون بالبعث.﴿ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ هذا تحريض على القتال واستشعار بالنصر وان الكثرة ليست سبباً للنصر إذ قد سبق في الأزمان الماضية غلبة القليل للكثير. وكم خبرية ومن فئة تمييزها ولم يأت في القرآن إلا مجروراً بمن، والفئة: الجماعة. وكم: مبتدأ خبره غلبت. ومن قيل: زائدة وقيل في موضع الصفة لكم، وفئة مفرد في موضع الجمع. وقرىء فئة بالهمزة وبإِبدال الهمزة ياء وهو إبدال مقيس.﴿ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ ﴾ من تمام قولهم تحريضاً على الصبر في القتال.
﴿ وَلَمَّا بَرَزُواْ ﴾ أي صاروا بالبراز من الأرض، وهو ما ظهر واستوى منها. والمبارزة في الحرب أن يظهر كل قرن لصاحبه بحيث يراه.﴿ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً ﴾ سألوا أن يصب عليهم الصبر حتى يكون مستعلياً عليهم.﴿ وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾ أي أرسخها حتى لا تفر.﴿ وَٱنْصُرْنَا ﴾ أي أعنا واظفرنا.﴿ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ أتوا بالوصف المقتضى لخذلان أعدائهم.﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ أي بتمكينه والعزيمة قد تكون بعد التحام القتال وقد تكون غلبة خوف المنهزم دون التحام.﴿ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ﴾ لم يبين تعالى كيفية القتل وداود هو ابن أنيسّا.﴿ وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ ﴾ أي ملك طالوت.﴿ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾ وهي وضع الأمور مواضعها من الصواب ولما مات شمويل وطالوت جمع الله لداود الملك والنبوة. وقيل: وهي الحكمة.﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ ﴾ أي مما يشاء أن يعلمه تعالى وما مبهم. وقد علمه صنعة الدروع وفهم منطق الطير وانزل عليه الزبور.﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾.
المدفوع بهم المؤمنون والمدفوعون الكفار وفساد الأرض بقتل المؤمنين وتخريب المساجد وتطبيق الأرض بالكفر، ولكنه تعالى لا يخلي الأرض من قائم بالحق. وقرىء دفع الله مصدر دفع ودفاع مصدر دفع نحو كتب كتاباً أو مصدر دافع فمعنى المجرد وهو مضاف إلى الفاعل وبعضهم بدل من الناس بدل بعض من كل، والباء في ببعض تتعلق بالمصدر وهي للتعدية، واصل التعدية بالباء إنما هو في الفعل اللازم، نحو: لذهب بسمعهم. فأما ما يتعدى فالأصل إذا عدّي إلى ثان أن يعدى بالهمزة، نحو: طعم زيد اللحم، وأطعمت زيداً اللحم، ولا ينقاس التعدية بالباء فيما يتعدى إلى واحد فتعديه بها ومما جاء من ذلك قولهم: صك الحجر الحجر ثم إذا عديته إلى ثان قلت صككت الحجر بالحجر أي جعلته. يصكه، وقالوا: صككت الحجرين أحدهما بالآخر. واسند الفساد إلى الأرض بالخراب وتعطيل المنافع، أو المراد أهل الأرض فيكون على حذف المضاف.﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ ﴾ جاء بلفظ العالمين ليشمل المدفوع [بهم والمدفوع] إذ المدفوع لم يبلغ ما كان يؤمل من مقاصده التي تؤول إلى فساد الأرض فاستدرك أنه تعالى ذو فضل عليه، محسن إليه، واندرج في عموم العالمين. وكأنه لما لم يبلغ مقاصده أنكر فضل الله عليه فجاء فاستدرك لهذا المعنى، وعلى تتعلق بفضل وربما حذفت على، تقول: فضلت فلاناً، أي على فلان فإِذا ضعف الفعل لزمته على.﴿ تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ ﴾ تلك إشارة إلى الآيات التي تقدمت في القصص السابقة من خروج أولئك الفارين من الموت إلى ما تلاه تعالى مما ذكر بعدهم.﴿ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ أكد بأن وباللام حيث أخبر بهذه الآيات من غير قراءة كتاب ولا مدارسة أخبار ولا سماع أخبار لما ذكر اصطفاء طالوت على بني إسرائيل وتفضيل داود عليهم وخاطب رسوله بأنه من المرسلين. بين أن المرسلين يتفاضلون أيضاً فقال تعالى:﴿ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ ﴾ أي الذين تقدموا وتلك الرسل مبتدأ وخبر وفضلنا جملة حالية، أو الرسل صفة لتلك، وفضلنا الخبر، وأشار بتلك للبعيد الذي بينه عليه السلام وبينهم من الزمان، وعامل جمع التكسير معاملة الواحدة المؤنثة وفي فضلنا التفات.﴿ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ ﴾ قرىء بالرفع، ففي كلم ضمير نصب حذف عائد على الموصول أي من كلمه الله وبالنصب ففي كلم ضمير مرفوع يعود على من. وقرىء كالم. وبالنصب أي كالم هو الله وبدأ في التفضيل بالكلام إذ هو أشرف تفضيل، إذ جعله محلاً لخطابه ودخل تحت من آدم وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ هو محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بعث إلى الناس كافة وأمته أعظم الأمم وختم به باب النبوة إلى ما آتاه الله تعالى.﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ ﴾ تقدم تفسيره.﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ قيل هنا محذوف تقديره فاختلف أممهم واقتتلوا أي ولو شاء الله أن لا يقتتلوا ما اقتتلوا. ومعنى: ﴿ مِن بَعْدِهِم ﴾ من بعد كل نبي.﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ ﴾ توكيد للجملة السابقة.﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ أي إرادته هي المؤثرة لا إرادة غيره.﴿ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم ﴾ عامة في كل صدقة واجبة أو تطوع من جهاد وغيره ولما قسّم في قوله فمنهم من آمن ومنهم من كفر أقبل على المؤمنين بندائهم وخطابهم تشريفاً لهم.﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ ﴾ هذا تحذير من الامساك قبل أن يأتي يوم القيامة.﴿ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ ﴾ يستفاد بتحصيله الفداء من النار.﴿ وَلاَ خُلَّةٌ ﴾ أي ولا صداقة تقتضي المساهمة.﴿ وَلاَ شَفَاعَةٌ ﴾ تنجي الكافر من عذاب الله. وقرىء بفتح الثلاثة من غير تنوين وبرفعها والتنوين.﴿ وَٱلْكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ﴾ هم: فصل، أو: مبتدا.
﴿ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ ﴾ هذه تسمى آية الكرسي لذكره فيها. وقد ورد في فضل قراءتها ثواب كثير، وتضمنت صفاته تعالى من الانفراد بالالهية، والحياة، والقيام على كل شيء. واستحالة كونه محلاً للحوادث وغير ذلك مما وصف به تعالى نفسه، وفيه إثبات صفة الحياة له، والقيوم وزنه فيعول أصله قيووم قلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء وقرىء القيّام والقيم وجوزوا أن يكون الحي صفة أو خبراً بعد خبر، أو بدلاً من هو، أو من الله، أو خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره، لا تأخذه، وأجودها الوصف ويدل عليه قراءة من قرأ الحي القيوم بنصبهما على المدح.﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ﴾ يقال: وسن سنة ووسنا والمعنى: لا يغفل عن دقيق ولا جليل عبر بذلك عن الغفلة لأنه سببها. أولاً تحلة الآفات ولا العاهات المذهلة عن حفظ المخلوقات.﴿ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ ما تشمل كل موجود وللام للملك.﴿ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ تقدم إعراب من ذا الذي في قوله من ذال الذي يقرض الله وهو استفهام في معنى النفي، ولذلك دخلت الا ودلت هذه الجملة على وجود الشفاعة.﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ ضمير الجمع عائد على ما وهم الخلق غلب من يعقل فجمع الضمير جمع من يعقل وهو عائد على من يعقل من الأنبياء والملائكة مراعاة لقوله: من ذا الذي. قال ابن عباس: ما بين أيديهم أمر الآخرة، وما خلفهم أمر الدنيا. والذين يظهر ان هذا كناية عن إحاطة عالمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات. وكني بهاتين الجهتين عن سائر الجهات لأحوال المعلومات والاحاطة تقتضي الحفوف بالشيء من جميع جهاته.﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ ﴾ أي من معلومه. لأن علمه تعالى لا يتبعض.﴿ إِلاَّ بِمَا شَآءَ ﴾ أن يعلمهم به من المعلومات. وقرىء وَسْعَ فعلاً ماضياً بكسر السين وسكونها تخفيفاً. وقرىء: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ ﴾ برفعها. والكرسي: جسم عظيم يسع السماوات والأرض. واختار القفال ان المقصود تصوير عظمة الله وتقدره خاطب الخلق في تعريف ذاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم. " انتهى ". وفي الحديث." ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في تُرْس ". وفي الحديث أيضاً:" ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض ".[وقرأت في كتاب لأحمد بن تيمية هذا الذي عاصرنا وهو بخطه سماه كتاب العرش: إن الله تعالى يجلس على الكرسي وقد أخلى منه مكاناً يقعد فيه معه رسول الله صلى الله عليه وسلم تحيّل عليه التاج محمد بن علي بن عبد الحق البارنباري وكان أظهر أنه داعية له حتى أخذه منه وقرأنا ذلك فيه].
﴿ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ أي لا يثقله حفظهما أي السماوات والأرض وهو كناية عن انتفاء شغله بهما وبحفظهما.﴿ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ ﴾ تنزيه له تعالى. أي العلي قدره، العظيم شأنه.
كان بعض أولاد الأنصار قد تنصّر وبعضهم قد تهود وأراد آباؤهم أن يكرهوهم على الاسلام فنزل:﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ ﴾ أي هو من وضوح الدلائل والحجج بحيث لا يكون فيه إكراه بل يجب الدخول فيه بانشراح صدر واختيار.﴿ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ ﴾ أي الايمان من الكفر. والدين هنا معتقد الاسلام. وقرىء بسكون الشين وبضمها وبفتح الراء والشين وقرىء كذلك وبألف بعد الشين. وقرىء بإِدغام دال قد في تاء تبين. وقرىء إظهارها شاذا. وهذه الجملة كالعلة لانتفاء الاكراه في الدين لأن استنارة الدلائل تحمل على الدخول في الدين طوعاً من غير إكراه.﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ ﴾ فسر بالشيطان وهو مقلوب أصله طغووت من طغا فقلب، جعلت اللام مكان العين فصار طوغوت، فقلبت الواو ألفاً لانفتاح ما قبلها وتحركها هي فصار طاغوت ومذهب سيبويه أنه اسم مفرد كأنه اسم جنس يقع للواحد كقوله:﴿ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ﴾[النساء: ٦٠]، وللجمع كقوله: يخرجونهم من النور إلى الظلمات. وزعم أبو العباس أنه جمع، وأبو علي أنه مصدر كرهبوت. وقدم ذكر الكفر بالطاغوت على الإِيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت ولتقدم الكفر بالطاغوت على الإِيمان بالله تعالى والكفر بها رفضها ورفض عبادتها ولاتصاله بلفظ الغي.﴿ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ ﴾ أبرز الجواب في صورة الماضي المقرون بعد الدآلّ في الماضي على تحقيقه وان كان مستقبلاً في المعنى إشعاراً بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتب الجواب على الشرط وانه كائن لا محالة وجعل ما تمسك به عروة وهي في الاجرام موضع الامساك وشد الأيدي والتعلق ومثل الايمان بالعروة ورشح ذلك بقوله:﴿ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا ﴾ أي لا انكسار ولا انقطاع. وجملة النفي حال أو مستأنفة.﴿ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الولي المحب المتولي أمر من يحب والاخراج هنا ان كان حقيقة فاختص بمن كان كافراً ثم أسلم وإن كان مجازاً فهو منع الله إياهم من دخولهم في الظلمات، والظلمات والنور كناية عن الكفر والإِيمان.﴿ مِّنَ ٱلنُّورِ ﴾ أي من الإِيمان وذلك فيمن آمن ثم كفر. وقرىء الطواغيت بالجمع وجوزوا أن يكون يخرجهم ويخرجونهم حالاً أو خبراً ثانياً ويظهر أن يكون تفسيراً للولاية. ولما ذكر أنه تعالى ولي الذين آمنوا وإن الطاغوت وليُ الكفار أعقب بهذه القصة مثلاً للمؤمن والكافر والذي حاج في إبراهيم هو نمرود بن كنعان بن كوسى بن سام ابن نوح عليه السلام ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة. قال مجاهد: ملك الدنيا مؤمنان سليمان وذو القرنين، وكافران نمرود وبخت نصّر. وفي نسب النمرود اختلاف، ومعنى حاج: عارض حجته بمثلها.
﴿ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ ﴾ أي الحامل له على المحاجة إحسان الله إليه فبطر وتكبّر حتى انتهى من عتوّه إلى هذه المحاجة ووضعها مكان الشكر على هذه النعمة فإِن آتاه مفعول من أجله. فأجاز الزمخشري أن يكون التقدير حاج وقت أن آتاه الله الملك فإِن عني أن ذلك على حذف مضاف فيمكن ذلك على أن فيه بعداً من جهة ان المحاجّة لم تقع وقت أن آتاه الله الملك إلا أن يجوز في الوقت فلا يحمل على ما يقتضيه الظاهر من أنه وقت ابتداء إيتاء الله الملك له ألا ترى أن إيتاء الله الملك إياه سابق على المحاجة وإن عني انّ انْ والفعل وقعت موقع ظرف الزمان كقولك: جئت خفوق النجم، ومقدم الحاج، وصياح الديك فلا يجوز ذلك، لأن النحويين نصوا: على أنه لا يقوم مقام ظرف الزمان إلا المصدر المصرّح بلفظه فلا يجوز: أجيء أن يصيح الديك، ولا جئت إن صاح الديك.﴿ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ ﴾ سبق سؤال من الكافر: وهو قوله من ربك أي الذي يتصرف فيك وفي أشباهك بما لا تقدر عليه. وفي قوله: ربي الذي اختصاص فعارضه الكافر بأن أحضر رجلين قتل أحدهما وأرسل الآخر. ولما رأى إبراهيم مغالطة الكافر وادّعاءه ما يوهم أنه اله، ذكر له ما لا يمكن أن يغالط فيه ولا أن يدعيه، وقد كان لإِبراهيم أن ينازعه فيما ادعاه ولكنه أراد قطع تشغيبه عن قرب وأن لا يطيل معه الكلام إذ شاهد منه ما لا يمكن أن يدعيه عاقل.﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ ﴾ وعدل الى الاسم. الشائع عند العالم كلهم وهو الله وقرر بذلك ان ربه الذي يحيي ويميت هو الله الفاعل لهذا الأمر العظيم، الذي لا يمكنك أن تموّه بدعواك كما موّهت بالاحياء والاماتة.﴿ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ ﴾ أي دهش وشغل وتحير ونبه على الوصف الموجب لبهته وهو كفره. وقرىء مبنياً للمفعول والفاعل المحذوف إبراهيم أي بهت إبراهيم الكافر بالحجة الدامغة له ومبنياً للفاعل أي فبهته إبراهيم وبهت بضم الهاء وفتح الباء وبفتح الباء وكسر الهاء أي الكافر. وقد منع الله هذا الكافر أن يدعي أنه هو الذي يأتي بالشمس من المشرق إذ من كابر في ادّعاء الاحياء والاماتة قد يكابر في ذلك ويدعيه إذ المسألتان سواء في دعوى ما لا يمكن لبشر ولكن جعله مبهوتاً دهشاً متحيراً إكراماً لنبيه إبراهيم وإظهاراً لدينه.
﴿ أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ ﴾ قرىء أو حرف عطف وأو بهمزة استفهام والواو العاطفة. والجمهور على أن أو كالذي معطوف على ألم تر من حيث المعنى إذ التقدير أرأيت الذي حاج ونختار أن تكون الكاف اسماً إذ قد ثبت اسميتها في كلام العرب على ما تقرر في النحو وإن كان لا يرى ذلك جمهور البصريين، فتكون الكاف اسماً إذ قد ثبت اسميتها في كلام العرب في موضع الجر معطوفة على الذي من قوله: ألم تر إلى الذي، التقدير أو إلى مثل الذي مر، ولم يعين سبحانه وتعالى هذا المار ولا القرية إذ المقصود إنما هو في هذه القصة العجيبة ولا حاجة إلى تعيين المار ولا القرية. والخاوي: الخالي. يقال: خوت الدار تخوي خواء، وخويت تخوي خوى، والمعنى: خاوية من أهلها. ثابتة على عروشها أي سقوفها وكل ما يظل ويكن فهو عريش، فالبيوت: قائمة، والجملة حال من الفاعل في مرّأ ومن قرية وإن كانت نكرة تأخرت الحال عنها. وقد أجاز ذلك سيبويه في مواضع من كتابة. قال: ﴿ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ ليس هذا شكاً: بل هو اعتراف بالعجز عن معرفة طريق الاحياء واستعظام لقدرة الله تعالى والاحياء والاماتة مجازان عن الخراب والعمارة أو يكون على حذف، أي رأي أهلها وقد تمزقت جثتهم وتفرقت أوصالهم فتعجب من قدرة الله تعالى على إحيائهم إذ كان مقراً بالبعث.﴿ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾ أي أحياه برد روحه إلى جسده لم يتغير منه شيء على مر هذه السنين الكثيرة.﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ﴾ سؤال تقرير أي كم مدة لبثت ميتاً؟﴿ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ قيل. أماته الله غدوة ثم بعثه قبل الغروب. قيل: بعد مائة سنة فقال قبل النظر إلى الشمس يوماً ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال: أو بعض يوم. وفي قوله: أو بعض يوم إطلاق البعض على الأكثر.﴿ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ ﴾ أي بل لبثت ميتاً مائة عام. وقرىء بإِدغام الثاء في التاء وبالاظهار.﴿ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾ وابهم الطعام والشراب ولم يتسنه. قيل: الهاء فيه أصلية من قولهم سانهت وقيل هاء السكت فهو من قولهم: سانيت، والمعنى: لم يتغير. ولما كان طعامه وشرابه متلازمين أخبر عنهما اخبار الواحد فلم يأت التركيب يتسنها أو لم يتسنيا والجملة حال وكونها إذا وقعت حالاً منفية بكم دون الواو أكثر منها بالواو.﴿ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ ﴾ قيل: نظر إلى حماره وهو واقف كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب أحياه الله له وهو يرى ذلك.﴿ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾ أي فعلنا ذلك والناس ناس قومه. أو الْ فيه للجنس أي لمن عاصره ولمن أتى بعدهم.﴿ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ ﴾ أي عظامك أو عظام الحمار أو عظامهما. قيل: أحيا الله منه عينيه وسائر جسده ميت ثم أحيا جسده وهو ينظر ثم نظر إلى حماره فإِذا عظامه متفرقة تلوح بيضاء.﴿ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً ﴾ قرىء. بالراء من أنشر الله الموتى ونشر بمعنى أحيا. وبالزاي من أنشر. أي نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب والجملة من قوله: كيف ننشرها في موضع البدل من العظام على الموضع لأن موضعه نصب وهو على حذف مضاف، أي: وانظر إلى حال العظام كيف ننشرها كقولهم: عرفت زيداً أبو من هو؟، أي: عرفت قصة زيد أبو من هو. وعلى هذا يتخرج ما جاء منه، نحو قوله:﴿ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾[الغاشية: ١٧]، والاستفهام في باب التعليق لا يراد به حقيقته والكسوة هنا إستعارة في غاية الحسن استعارها هاهنا لما انشأ تعالى من اللحم الذي غطى به العظام، وهي استعارة عين لعين. وظاهر اللفظ ان أمره إياه بالنظر كان بعد تمام بعثه لأن الأمر كان بعد إحياء بعضه وتكرر الأمر بالنظر في الثلاث الخوارق ولم تنسق متعلقه نسق المفردات لأن كل واحد منها خارق عظيم ومعجز بالغ.﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ﴾ تبين: فعل لازم، فاعله مضمر يعود على كيفية الاحياء التي استغربها بعد الموت. وقدره الزمخشري فلما تبين له ما أشكل عليه يعني من إحياء الموتى، وينبغي أن يحمل على أنه تفسير معنى وتفسير الاعراب ما ذكرناه أولاً. وقرىء تبين مبنياً للمفعول وله هو المقام مقام الفاعل. وقرىء اعلم مضارعاً فيه ضميراً لمار وقال ذلك على سبيل الاعتبار. وقرىء اعلم أمراً من الله أو من الملك عن الله أو منه لنفسه نزلها منزلة الأجنبي المخاطب. وقرىء اعلم أمراً من أعلم أي قال الله له: اعلم غيرك بما شاهدت من قدرة الله.
﴿ رَبِّ أَرِنِي ﴾ استعطاف بين يدي السؤال. وأرني سؤال رغبة.﴿ كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ ﴾ جملة في موضع المفعول الثاني لأرني إذ هي تتعدى الى اثنين بهمزة النقل. ورأى البصرية تعلق. ومن كلامهم أما ترى أي برق ضاء كما تعلق نظر البصرية. ولما قال لنمرود ربي الذي يحيي ويميت سأل ربه أن يريه عياناً كيف إحياء الموتى. والسؤال عن الكيفية يقتضي تحقق وتيقن ما سأل عنه وهو الاحياء.﴿ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ﴾ استفهام معناه التقرير أي قد آمنت. (قال) ابن عطية: إيماناً مطلقاً دخل فيه فصل إحياء الموتى. فالواو واو الحال دخلت عليها ألف التقرير. " انتهى ". وكون الواو هنا للحال غير واضح لأنها إذا كانت للحال فلا بد أن يكون في موضع نصب وإذ ذاك لا بد لها من عامل فلا تكون الهمزة التي للتقرير دخلت على هذه الجملة الحالية إنما دخلت على الجملة التي اشتملت على العامل فيها، وعلى ذي الحال ويصير التقدير أسألت ولم تؤمن أي أسألت في هذه الحال. والذي يظهر أن التقدير إنما هو منسحب على الجملة المنفية وان الواو للعطف كما قال تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً ﴾[العنكبوت: ٦٧] ونحوه. واعتنى بهمزة الاستفهام فقدمت وقد تقدم لنا الكلام في هذا ولذلك كان الجواب ببلى في قوله: قال بلى. وقد تقرر في علم النحو ان جواب التقرير المثبت وان كان بصورة النفي تجريه العرب مجرى جواب النفي المحض فتجيبه على صورة النفي ولا يلتفت الى معنى الاثبات. وهذا مما قررناه ان في كلام العرب ما يلحظ فيه اللفظ دون المعنى ولذلك علة ذكرت في علم النحو. وعلى ما قاله ابن عطية: من أن الواو للحال لا يتأتى أن يجاب العامل في الحال، بقوله: بلى، لأن ذلك الفعل مثبت مستفهم عنه والجواب إنما يكون في التصديق بنعم وفي غير التصديق بلا، اما أن يجاب ببلى فلا يجوز وهذا على ما تقرر في علم النحو. قال الزمخشري: فإِن قلت: كيف قال له أولم تؤمن وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً. قلت: ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين وبلى إيجاب لما بعد النفي معناه بلى آمنت ﴿ ولكن ليطمئن قلبي ﴾ أي ليزيد سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة إلى علم الاستدلال وتظاهر الأدلة اسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين، ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري، فأراد بطمأنينة القلب: العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك. انتهى كلامه. وليس علم الاستدلال يجوز معه التشكيك كما قال بل منه ما يجوز معه التشكيك أما إذا كان من مقدمات صحيحة فلا يجوز معه التشكيك كعلمنا بحدوث العالم وبوحدانية الموجد فمثل هذا لا يجوز معه التشكيك.﴿ قَالَ بَلَىٰ ﴾ تقرر في النحو أن التقرير يجاب بما يجاب به النفي المحض وهذا مما يلحظ فيه اللفظ دون المعنى.﴿ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ أي ليزيد سكوناً بانضمام علم الضرورة إلى علم الاستدلال.﴿ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ ﴾ لم يعين من أي جنس هي واضطربوا في التعين. قال ابن عباس: أخذ طاووساً ونسْراً وديكاً وغراباً وأمره بأخذها بيده وفعله ما فعل بها أثبت في المعرفة بكيفية الاحياء إذ فيه اجتماع حاسة الرؤية وحاسّة اللمس. والطير: اسم جمع وفصّله بمن أفصح وان كان قد جاءت الاضافة فيه كقوله:﴿ تِسْعَةُ رَهْطٍ ﴾[النمل: ٤٨].
ويقال: صار يصور وصار يصير بمعنى قطع وأمال.﴿ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾ قال ابن عباس: قطعّهنّ. وقال غيره: اضممهن. وقال ابن عباس أيضاً: أوثقهن. وقرىء بضم الصاد وكسرها. وقرىء مَضُرُّهُنَّ من صرّ الشيءَ يصره جمعه، فإِن كان بمعنى التقطيع فلا حذف أو بمعنى الامالة فالحذف أي قطعهنّ أجزاء.﴿ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ ﴾ أي مماليك يشاهد بصرك فيه الأجزاء إذ دعوت الطير واجعل: صير، أو ألق. وقرىء جزأ وجزا أو جزّوا.﴿ ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ ﴾ وهن موات أجزاء متفرقة.﴿ يَأْتِينَكَ سَعْياً ﴾ أي وهن يسعين تشاهد ذلك وترتب مجيئهن عن دعائه وكان مجيئهن سعياً لأنه أبلغ من المعهود لهن وهو الطيران إذ الطيران عادتهن والسعي المجيء باجتهاد روي في قصص هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام ذكى هذه الطيور وقطعها قطعاً صغاراً وجمع ذلك مع الدم والريش وجعل من ذلك على كل جبل جزءاً ووقف من حيث يرى الأجزاء وأمسك رؤوس الطير في يده، ثم قال: تعالين بإِذن الله فتطايرت تلك الأجزاء والتأم الدم إلى الدم والريش إلى الريش وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته سعياً حتى وضعت أجسادها في رؤوسها وطارت بإِذن الله. واجمع أهل التفسير ولا عبرة بخلاف أبي مسلم على إن إبراهيم عليه السلام قطع أعضاءها ولحومها وريشها وخلط بعضها ببعض مع دمائها.
﴿ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾ الآية لما كانت قصة المار على قرية وقصة إبراهيم عليه السلام من أدل دليل على البعث ذكر ما ينتفع به يوم البعث وما يدل على البعث من إنشاء من حبة واحدة سبع مائة حبة. ودل ذلك على قدرة عظيمة بالغة فكما يخرج هذه الحبات الكثيرة من الحبة الواحدة كذلك يخرج الله الموتى. وهذا العدد يوجد في الدفن والذرة أو ذكر ذلك على سبيل التصوير وإن لم يعاين وأضيف عدد القلة وهو سبع إلى جمع وهو للكثرة مكسراً ولم يضف إلى التصحيح وهو سنبلات لما تقرر في علْم النحو انه الأكثر. قال تعالى:﴿ ثَمَانِيَ حِجَجٍ ﴾[القصص: ٢٧]﴿ سَبْعَ طَرَآئِقَ ﴾[المؤمنون: ١٧]﴿ سَبْعَ لَيَالٍ ﴾[الحاقة: ٧]﴿ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ﴾[المائدة: ٨٩] مما وازن مفاعل نحو هذا أكثر وأفصح من جمع القلة المصحح فاما وسبع سنبلات فلمقابلة سبع نحو هذا أكثر وأفصح من جمع القلة المصحح فاما وسبع سنبلات فلمقابلة سبع بقرات. (قال) الزمخشري: (فإِن قلت): هلا قيل سبع سنبلات على حقه من التمييز بجمع القلة كما قال:﴿ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ ﴾[يوسف: ٤٣، ٤٦]؟ (قلت): هذا لما قدمت عند قوله: ثلاثة قروء؛ من وقوع أمثلة الجمع. متعاورة مواقعها. " انتهى ". فجعل هذا من باب الاتساع ووقوع أحد الجمعين موقع الآخر على سبيل المجاز إذ كان حقه أن يميز بأقل الجمع، لأن السبع من أقل العدد. وتقدم لنا أن هذا ليس من باب الاكتفاء واشبعنا الكلام في ذلك البحر.﴿ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ ﴾ في موضع الصفة لسبع أو لسنابل. وقرىء مائة حبة بالنصب أي أخرجت الحبة مائة حبة. والظاهر في المائة العدد المعروف، أو ذكرت كناية عن الكثير إذ المائة مما يعبر بها عن الكثير، والمنة: النعمة، منّ عليه: أنعم، والمن المذموم ذكر النعمة للمنعم عليه على سبيل الفخر عليه والاعتداد بإِحسانه والمن من الكبائر. ثبت في صحيح مسلم وغيره انه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.﴿ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ ﴾ دليل على أن النفقة تمضي في سبيل الله ثم يتبعها ما يبطلها وهو المن والأذى فقبولها موقوف على هذه الشرائطة، والأذى يشمل المن وغيره. وذكر الأذى عموم بعد خصوص وقدم المن لكثرة وقوعه ومن المن أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك وشبهه. أو يتحدث بما أعطى فيبلغ ذلك المعطى فيؤذيه. ومن الأذى أن يسب المعطي أو يشتكي منه أو يقول: ما أشد إلحاحك، وخلصنا الله منك، أو: أنت أبداً تجيئني، أو يكلفه الاعتراف بما أَسْدى إليه. والذين مبتدأ خبره.﴿ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾ ولم يضمن الذين معنى الشرط فتدخل الفاء في الخبر لأن هذه الجملة مفسرة للجملة قبلها المخرجة مخرج الشيء الثابت المفروغ منه وهو تشبيه إنفاقهم بالحبة الموصوفة وهي كناية عن حصول الأجر الكثير، فجاءت هذه الجملة كذلك أخرجت فخرج الشيء الثابت المستقر الذي لا يكاد خبره يحتاج إلى تعليق استحقاق لوقوع ما قبله،.﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾ هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله.﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ دعاء بالغفران إما له وإما للسائل. وقول مبتدأ ومسوغ الابتداء وصفه. ولما تقدم ذكر قوله: منا، ولا أذى، وهما نكرتان جاء في هذه الجملة بالمن والأذى معرفتين كقوله:﴿ فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ ﴾[المزمل: ١٦]، بعد قوله:﴿ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً ﴾[المزمل: ١٥].
والكاف من قوله: كالذي، في موضع نعت لمصدر محذوف أي إبطالاً كابطال صدقة الذي أو في موضع الحال أي مشبهين الذي ينفق فالظاهر ان هذا المنفق الموصوف في الآية هو المنافق والرياء مصدر راءَاْ من الرؤية وهو أن يرى الناس ما يفعله من البر حتى يثنوا عليه ويعظموه ويظنوا أنه من أهل الخير وممن ينفق لوجه الله تعالى وانتصب رياء على أنه مفعول من أجله أو مصدر في موضع الحال.﴿ فَمَثَلُهُ ﴾ الضمير عائد على الذي ينفق والصفوان الحجر الكبير الأملس. وتحريك فإِنه بالفتح لغة. وقرىء به وهو شاذ في الأسماء بل فعلان بابه في المصادر والصفات والصلد الأملس: النقي من التراب. والوابل: المطر الشديد. ضرب الله تعالى لهذا المنافق المثل بصفوان عليه تراب يظنه الظان أرضاً منبتة طيبة فإِذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب فيبقى صلداً منكشفاً واخلف ما ظنه الظان كذلك هذا المنافق يُريَ الناس أن له أعمالاً كما يرى التراب على هذا الصفوان، فإِذا كان يوم القيامة اضمحلت وبطلت كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب. والضمير في قوله: لا يقدرون، عائد على المخاطبين بقوله: لا تبطلوا. وفيه التفات أو على الذي من قوله: كالذي، مراعاة لمعنى الجمع إذ لا يراد به واحد فهو نظير: ذهب الله بنورهم، بعد قوله: كمثل الذي استوقد.﴿ عَلَىٰ شَيْءٍ ﴾ أي على انتفاع بشيء مما أنفقوا وهو كسبهم عند حاجتهم إليه ولما ضرب المثل للمبطل صدقاته وشبّهه بالمنافق ذكر مثل من يقصد بنفقته وجه الله فقال:﴿ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ ﴾ الآية وانتصب ابتغاء على أنه مفعول من أجله، وقابل وصف المنافق بالرياء بقوله:﴿ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ ﴾ وقابل ابتغاء إيمانه بقوله: وتثبيتاً من أنفسهم. والمراد توطين النفس على المحافظة على طاعة من يؤمن به وكان التمثيل في قوله:﴿ كَمَثَلِ جَنَّةٍ ﴾ بمحسوس متصوّر حتى يظهر للسامع تفاوت ما بين الضدين وقراءة الجمهور جنة وقرىء جنة. والربوة: أرض مرتفعة طيبة وتثلث واوها. ومن نظم الخليل بن أحمد رحمه الله: ترفعت عن ندى الأعماق وانخفضت عن المعاطش واستغنت لريّاهافمال بالخوخ والرمان أسفلها واعتم بالنخل والزيتون أعلاها﴿ أَصَابَهَا وَابِلٌ ﴾ وصفها بما تعلمه العرب وتشاهده كثيراً من انتفاع الربا بالوابل، إذ يقل: الماء الجاري في بلادهم. وقرىء بفتح الراء في ربوة وبضمها وقرىء برباوة على وزن كراهة. وبكسر الراء على وزن رسالة.﴿ فَآتَتْ ﴾ أي صاحبها أو أهلها.﴿ أُكُلَهَا ﴾ وحذف كما حذف في قوله: كمثل جنة، أي صاحب جنة لدلالة المعنى، لأن المقصود ذكر ما تثمر لا لمن تثمر. وانتصب: ضعفين على الحال ونسبة الايتاء إليها مجاز والأكل هنا الثمرة. وقرىء بضم الكاف وإسكانها وضعف الشيء مثله. وقيل: مثلاه فيكون أربعة أمثاله. قيل: في حمل واحد، أو في السنة مرتين. ويحتمل أن يكون يراد بالتثنية التكثير لا شفع الواحد أي ضعفاً بعد ضعف أي إضعافاً كثيرة وهو أبلغ في التشبيه لأن الحسنة لا يكون لها ثواب حسنتين.﴿ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾ أي إن لم يكن يصبها وابل فيصيبها طل أو فطل يصيبها وهو مع ذلك كاف لها في إيتاء ضعفين لكرم الأرض وطيبها فلا تنقص ثمرتها بنقصان المطر. وقرىء بما يعملون بالتاء وبالياء.
﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ﴾ هذا مثل لمن عمل أنواع الطاعات فشبهت بجنة فيها من كل الثمرات فختمها بإِساءة كاعصار فشبه تحسره حين لا عود بتحسر كبير السن هلكت جنته أحوج ما كان إليها وأعجزه عنها، والهمزة في أيود للاستفهام والمعنى على التبعيد والنفي أي ما يود أحد ذلك وأحد هنا ليس المختص بالنفي بل هو بمعنى واحد على طريق البدلية. وقرىء جنات بالجمع وبالافراد.﴿ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ خصا بالذكر لكثرة منافعهما، وذكرت الثمرة وهي الأعناب وذلك لأن العنب أعظم منافع الكرم، وخص النخيل بذكره دون ذكر ثمرته لأن منافعه كثيرة لا تختص بثمرته وهو التمر فقط، وجعلت الجنة منهما وإن كان فيها غيرهما لأنهما أغلب ما فيها.﴿ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ ﴾ دليل على أن فيها غير النخيل والأعناب. وهذه الجملة مركبة من مبتدأ وخبر حذف فيها المبتدأ أي له وفيها التقدير له فيها رزق أو ثمرات كقوله: كإِنك من جمال بني أقيش [يقعقع بين رجليه بشن].
أي كأنك حمل من جمال بني أقيش. وكقوله: وما منا إلا له مقام معلوم، أي وما أحد منا. فمن في موضع الصفة.﴿ وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ ﴾ جملة حالية أي وقد أصابه الكبر.﴿ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ ﴾ أي صغار أو محاويج والجملة: حال أيضاً.(قال الزمخشري): وقيل يقال: وددت لو كان كذا، فحمل العطف على المعنى كأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر. " انتهى ". وظاهر كلامه أن يكون وأصابه الكبر معطوف على متعلق أيود وهو أن يكون لأنه في معنى لو كانت، إذ يقال: أيود أحدكم لو كانت، وهذا ليس بشيء لأنه يمتنع من حيث المعنى أن يكون معطوفاً على كانت التي قبلها لو لأنه متعلق أيود وأما وأصابه الكبر فلا يمكن أن يكون متعلقاً لود لأن إصابة الكبر لا يوده أحد ولا يتمناه لكن يحمل قول الزمخشري على أنه لما كان أيود استفهاماً معناه الانكار جعل متعلق الودادة الجمع بين الشيئين وهما كون جنة له وإصابة الكبر إياه، لا أن كل واحد منهما يكون مودوداً على انفراده وإنما أنكر ودادة الجمع بينهما.﴿ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ ﴾ الاعصار: ريح شديدة يرتفع معها غبار إلى الجوّ.﴿ فِيهِ نَارٌ ﴾ أي كائن فيه. وذكر الضمير لأن الأعصار مذكر دون أسماء الرياح.﴿ فَٱحْتَرَقَتْ ﴾ يدل على اعتقاب احراقها أصابته واحترقت مطاوع أحرقها فاحترقت كقولهم: انصفته فانتصف لما أمروا بالصدقة جاء بعض الصحابة بحشف يرى أن ذلك جائز فنزل:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ أي من حلال ما كسبتم وما يقع به، ومن للتبعيض، وما عموم في المكسوب لا في مقدار ما ينفق، ومما أخرجنا معطوف على من طيبات أي ومن طيبات ما أخرجنا، وما عامة في المخرج للعلماء خلاف في مسائل كثيرة مما أخرج تعالى.﴿ مِّنَ ٱلأَرْضِ ﴾ ذكرت في كتب الفقه.﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾ هذا تأكيد للجملة قبله. وقرىء ولا تيمموا بتخفيف التاء من حذف التاء إذا الأصل لا تتيمموا وبإِدغام تاء المضارعة في التاء بعدها وهي قراءة البزي في مواضع ذكرت في كتب القراءات والطيب والخبيث صفتان استعملتا استعمال الأسماء فوليتا العوامل. والضمير في منه عائد على ما دل عليه الكلام أي الخبيث من المال المنفق وتنفقون حال ما فاعل تيمموا أي منفقيه.﴿ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ ﴾ جملة حالية. أي بآخذيه في ديونكم وحقوقكم وإهدائه إليكم.﴿ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ﴾ أي تتساهلوا في أخذه. وقرىء تغمضوا من أغمض متعدياً أي أبصاركم ولازماً بمعنى أغضى عن كذا وبالتشديد من غمّض وتغمضوا مضارع تغمّض وتغمضوا بفتح التاء وبضم الميم وبكسرها من غمض ثلاثياً بمعنى أغمض وتغمضوا مبنياً للمفعول أي إلا أن توجدوا قد أغمضتم فيه. كما تقول: أحمد الرجل إذا أصيب محموداً.﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ ﴾ أي عن صدقاتكم.﴿ حَمِيدٌ ﴾ أي على كل حال إذ يستحق الحمد.
﴿ ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ ﴾ أي يخوفكم به إذا تصدقتم يقول: أمسك لئلا تفتقر. وقرىء الفقر والفقر بفتحتين والفقر بضم القاف.﴿ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ ﴾ أي بالمعاصي التي منها البخل في الحقوق الواجبة. والمعنى يغويكم بالفحشاء إغواء الآمر.﴿ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً ﴾ أي ستراً لما اجترحتموه من السيئات.﴿ وَفَضْلاً ﴾ أي زيادة في الرزق وتوسعة وإخلافاً لما تصدّقتم به.﴿ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ ﴾ أي بالجود والفضل.﴿ عَلِيمٌ ﴾ بنيات من أنفق.﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ ﴾ قرىء بالياء وبتاء الخطاب والحكمة القرآن والفهم فيه.﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ ﴾ قرىء مبنياً للفاعل ومبنياً للمفعول. قال الزمخشري في قراءة من قرأ ومن يؤت: معناه ومن يؤته الله الحكمة فإِن أراد تفسير المعنى فصحيح، وإن أراد تفسير الاعراب فليس كذلك بل من مفعول بفعل تقدم الشرط كما تقول: أياً تعط درهماً أعطه درهماً. وقرىء ومن يؤته وحسن تكرار الحكمة لكونها في جملتين وللاعتناء بها والتنبيه على شرفها وفضلها. قال الزمخشري: وخيراً كثيراً تنكير تعظيم كأنه قال: فقد أؤتي أي خير كثير. " انتهى ". وهذا الذي ذكره يستدعي ان في لسان العرب تنكير تعظيم ويحتاج إلى الدليل على ثبوته وتقديره أي خير كثير إنما هو على أن يجعل أي خير صفة لخير محذوف أي.﴿ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً ﴾ أي خير كثير ويحتاج إلى إثبات مثل هذا التركيب من لسان العرب وذلك أن المحفوظ أنه إذا وصف بأي فإِنما تضاف للفظ مثل لفظ الموصوف في الفصيح تقول: مررت برجل أيّ رجل. كما قال الشاعر: د فدعوت امرأ امرىء فأجابني وكنت وإياه ملاذا وموئلاوإذا تقرر هذا فهل يجوز وصف ما تضاف إليه أي إذا كانت صفة فتقول: مررت برجل أيّ رجل كريم، أم لا يجوز يحتاج جواز ذلك إلى دليل سمعي. وأيضاً ففي تقديره أي خير كثير حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ولا يجوز ذلك إلا في ندور لا تقول: رأيْت أي رجل تريد رجلاً أي رجل إلا في ندور. نحو قوله: إذا حارب الحجاج أي منافق علاه بسيف كلما هزَّ يقطعيريد منافقاً أي منافق. وأيضاً ففي تقديره خيراً كثيراً أي خير كثير حذف أي الصفة واقام المضاف إليه مقامها وقد حذف الموصوف به أي فاجتمع حذف الموصوف وحذف الصفة وهذا كله يحتاج إثباته إلى دليل.﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ ﴾ فيه حض على العمل بطاعة الله ولما كان قد يعرض للعاقل في بعض الأحيان الغفلة قيل: وما يذكر.﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ ﴾ ما عامة في نفقة البر وغيره وفي نذر الطاعة وغيرها. ومن نفقة ومن نذر تأكيد لفهم ذلك من قوله: وما أنفقتم أو نذرتم فأكد اندراج القليل والكثير في ذلك، لقوله: ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة وحذف ما من قوله: أو نذرتم، إذ التقدير أو ما نذرتم لدلالة ما عليه فيما قبله.﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾ أي يجازي عليه ولما كان العطف بأوجاز أفراد الضمير وأعاده على أقرب مذكور وهو النذر وإن كان يجوز أن يعود على النفقة والمعطوف بأو حكمه في الضمير هذا فتارة يعود على الأول وتارة يعود على ما بعد.﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ عام في كل ظالم والأنصار الأعوان في الشدة.﴿ إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ ﴾ أي أن تظهروها فتكون علانية قصد بها وجه الله والصدقات عام في المفروضة والمتطوع بها.﴿ فَنِعِمَّا هِيَ ﴾ الفاء في جواب الشرط. وتقدم الكلام على ما هذه في قوله:﴿ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ ﴾[البقرة: ٩٠]، وهي ضمير يعود على الصدقات بقيد الوصف أي فنعما الصدقات المبداة أو على حذف مضاف أي فنعما ابداؤها. وقرىء بكسر النون والعين بفتح النون وسكون العين وبكسرها وبإِخفاء حركة العين.﴿ وَإِن تُخْفُوهَا ﴾ أي الصدقات. فالضمير عائد على الصدقات لفظاً لا معنى. كقوله: عندي درهم ونصفه.﴿ فَهُوَ ﴾ أي فإخفاؤها.﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ وفي قوله: وتؤتوها الفقراء ذكر فطنة الصدقات وخير افعل تفضيل أي من إبدائها أو معناه خير من جملة الخيور وإنما كان خيراً لبعد المتصدق بها من الرياء والمن والأذى ولو لم يعلم الفقير بنفسه واخفى عند الصدقة أن يعرف كان أحسن وجاء أن مخفيها من السبعة الذين ظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وقرىء ونكفر بالواو وبإِسقاطها وبالياء وبالتاء وبالنون وبكسر الفاء وفتحها وبرفع الراء وجزمها ونصبها وتقرير هذه القراءات وتوجيهها مفهوم من علم النمو. وقال ابن عطية: الجزم في الراء أفصح هذه القراءات لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء. وكونه مشروطاً ان وقع الاخفاء. واما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى. " انتهى ". ونقول ان الرفع أبلغ وأعم لأن الجزم يكون معطوفاً على جواب الشرط الثاني والرفع يدل على أن التكفير مترتب من جهة المعنى على بذل الصدقات أبديت أو أخفيت لأنا نعلم أن هذا التكفير متعلق بما قبله ولا يختص التكفير بالاخفاء فقط والجزم يخصصه به ولا يمكن أن يقال أن الذي يبدي الصدقات لا يكفر من سيآته فقد صار التكفير شاملاً للنوعين من إبداء الصدقات وإخفائها وإن كان الاخفاء حيزاً من الابداء.﴿ مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ من للتبعيض لأن الصدقة لا تكفر جميع السيئات.﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ أتى بهذه الصفة لأنها تدل على العلم بألطف الأشياء وأخفاها فناسب إخفاء الصدقة ختمها بالصفة المتعلقة بما خفي كان من أسلم يكره أن يتصدق على قريبه المشرك وعلى المشركين فنزلت:﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ﴾ أي ليس عليك أن تهديهم أي تخلق الهدى في قلوبهم. وظاهر الخطاب أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه تسلية له ولما كان قوله: يؤتي الحكمة من يشاء، دل على انقسام الناس الى من آتاه الله الحكمة فقبلها ومن لم يؤته إياها فهو يخبط عشواء في الضلال نبّه بأن هذا القسم ليس عليك هداهم بل الهداية وإيتاء الحكمة إنما ذلك إليه تعالى.﴿ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ ﴾ أي لا يعود نفعه إلى أحد غيركم بل تختصون بجدواه فلا تبالوا بمن تصدقتم عليه من مسلم أو كافر فإِن ثواب ذلك إنما هو لكم.﴿ وَمَا تُنْفِقُونَ ﴾ أي النفقة المعتد بها.﴿ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ ﴾ وهو الذي يتقبلها وقيل: هو نفي معناه النهي أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله والأولى إبقاؤه على النفي لأنهم لما نهوا عن وقوع الانفاق إلاّ لوجه الله حصل الامتثال فأخبر انهم لا ينفقون إلا ابتغاء وجه الله وانتصب ابتغاء على أنه مفعول من أجله. ومعنى وجه الله: رضاه، كما قال: ابتغاء مرضاة الله.﴿ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾ أي يوفي جزاؤه لكم.﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ جملة حالية أي لا تنقصون شيئاً من ثواب أعمالكم.﴿ لِلْفُقَرَآءِ ﴾ خبر مبتدأ محذوف وكأنه جواب سؤال مقدر كأنه قيل لمن الصدقات المحثوث على فعلها؟ فقيل: هي للفقراء. فبين مصرف الصدقات.﴿ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ أي حبسوا أنفسهم على طاعة الله أو أحصروا لكونهم زمني أو حبسهم العدو.﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي سفراً لكسب وتجارة وذلك لزمانة أو خوف عدو والجملة حالية أي أحصروا عاجزين عن التصرف أو مستأنفة.﴿ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ ﴾ قرىء بفتح السين وهي لغة تميم وبكسرها وهي لغة الحجاز والمعنى أنهم لفرط انقباضهم وترك المسألة واعتماد التوكل عليه يحسبهم من جهل أحوالهم أغنياء ومن سببية أي الحامل على حسبانهم أغنياء هو تعففهم لأن عادة من كان غني مال أن يتعفف ولا يسأل ويتعلق من التعفف بيحسبهم وهو مفعول من أجله فإِن شرط نصبه وهو اتحاد الفاعل ليس بموجود لأن فاعل يحسبهم هو الجاهل وفاعل التعفف هو الفقراء فاختلف الفاعل وعرّف المفعول هنا لأن سبق منهم التعفف مراراً فصار معهوداً منهم وأجاز ابن عطية أن تكون من لبيان الجنس، قال: يكون التعفف داخلاً في المحسبة أي أنهم لا يظهر لهم سؤال بل هو قليل وبإِجمال والجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة، فمن لبيان الجنس على هذا التأويل. " انتهى ". وليس ما قاله من أن هذه في المعنى لبيان الجنس المصطلح عليه في بيان الجنس لأن لها اعتباراً عند من قال بهذا المعنى لمن إذ تتقدر بموصول وما دخلت عليه يجعل خبر مبتدأ محذوف نحو فاجتنبوا الرجس من الأوثان، التقدير فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ولو قلت هنا: يحسبهم الجاهل أغنياء، الذي هو التعفف لم يصح هذا التقدير وكأنه سمى الجهة التي هم أغنياء، بها بيان الجنس أي بيّنت بأي جنس وقع غناهم لأن غناهم بالتعفف لا غنى بالمال، فسمي من الداخلة على ما يبين من جهة المعنى لبيان الجنس وليس المصطلح عليه كما قدمناه. وهذا يدل الى أنّ من سببية لكنها تتعلق بأغنياء لا بيحسبهم والجملة من يحسبهم حالية أو مستأنفة.﴿ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ﴾ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي تعرف أعيانهم أو تعرفهم بعلامة رثّة أطمارهم وشحوب ألوانهم لأجل الفقر، والباء في بسيماهم للسبب، والجملة أيضاً حالية أو مستأنفة، والتعفف تفعّل من العفة، عفّ عن الشيء أمسك عنه، وتنزه عن طلبه والسيما العلامة تقصر وتمد وإذا مدت فالهمزة للإِلحاق نحوها في حِرْبَاء ويقال سيمياء ككيمياء والهمزة للتأنيث وهو مشتق من الوسم ففيه قلب لجعل فائه فكان عينه وعينه مكان فائه.﴿ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً ﴾ الالحاف: الالحاح. ألح والحف بمعنى واحد. وإذا نفي حكم عن محكوم عليه بقيد فالأكثر في لسان العرب انصراف النفي لذلك القيد فيكون المعنى على هذا ثبوت سؤالهم ونفي الالحاح أي أن وقع منهم سؤال فإِنما يكون بتلطف وتستر لا بإِلحاح ويجوز أن ينفي ذلك الحكم فينتفي ذلك القيد فيكون على هذا نفي السؤال ونفي الالحاح فلا يكون النفي على هذا منصباً على القيد فقط. وهذا فهم ابن عباس قال: لا يسألون الحافاً ولا غير الحاف. وهذه الجملة حالية أو مستأنفة وفي تعدد الحال خلاف وتفصيل وانتصب الحافا قالوا: على المفعول له أو مصدراً الفعل محذوف أي لا يُلحفون إلحافاً أو مصدراً في موضع الحال. و ﴿ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ أي مجاز ومثيب. كان لعلي رضي الله عنه أربعة دراهم فقط فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم علانية. فنزل:﴿ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾ وقدم الليل والسر لأن الصدقة تخفى فيهما وتقدم ان الاخفاء أفضل. ودخلت الفاء في فلهم لتضمن الموصول معنى اسم الشرط لعمومه. قال ابن عطية: وإنما يوجد الشبه بين الموصول واسم الشرط إذا كان الذي موصولاً بفعل وإذا لم يدخل على الذي عامل يغير معناه. " انتهى ". فخص الشبه إذا كان الذي موصولاً بفعل وهذا كلام غير محرر إذ ما ذكر له قيود أولها إن ذلك لا يختص بالذي بل كل موصول غير الألف واللام حكمه في ذلك حكم الذي بلا خلاف وفي الألف واللام خلاف. ومذهب سيبويه المنع من دخول الغاء الثاني قوله موصولاً بفعل فأطلق في الفعل واقتصر عليه وليس كذلك بل شرط الفعل أن يكون قابلاً لاداة الشرط فلو قلت: الذي سيأتيني، أو لما يأتيني، أو ما يأتيني، أو ليس يأتيني فله درهم، لم يجز لأن أداة الشرط لا يصلح أن تدخل على شيء من ذلك وأما الاقتصار على الفعل فليس كذلك بل الظرف والجار والمجرور كالفعل في ذلك فمتى كانت الصلة واحداً منهما جاز دخول الفاء. وقوله: وإذا لم يدخل على الذي عامل يغير معناه عبارة غير مخلصة لأن العامل الداخل عليه كائناً ما كان لا يغير معنى الموصول إنما ينبغي أن يقول معنى جملة الابتداء في الموصول وخبره فيخرجه إلى تغيير المعنى الابتدائي من تمنّ أو تشبيه أو ظن أو غير ذلك. لو قلت: ليت الذي يزورنا فيحسن إلينا لم يجز. وكان ينبغي أيضاً لابن عطية أن يذكر أن من شرط دخول الفاء في الخبر أن يكون مستحقاً بالصلة نحو ما جاء في الآية لأن ترتب الأجر إنما هو على الانفاق، ومسألة دخول الفاء في خبر المبتدأ تستدعي كلاماً طويلاً وفي بعض مسائلها خلاف وتفصيل، وقد ذكرت ذلك في كتاب التذكرة من تأليفنا.
﴿ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَٰواْ ﴾ لما أمر بالانفاق من طيب ما كسبوا وحض على الصدقة. وقال: ولا تيمموا الخبيث ذكر نوعاً من الخبيث كان غلب عليهم في الجاهلية وهو الربا حتى يمنع من الصدقة ما كان ربا. والربا الزيادة وهو مخصوص في الشرع بزيادة مبينة في الشرع بين ذلك في كتب الفقه. وقرأ العدوي: الربو بالواو وهي لغة الحيرة، ولذلك كتبها أهل الحجاز بالواو لأنهم تعلموا الخط من أهل الحيرة وذلك على لغة من وقف على أفعى بالواو وأجرى الوصل مجرى الوقف.﴿ لاَ يَقُومُونَ ﴾ خبر عن الذين قيل وقبله حال محذوفة أي مستحلين ذلك. وقال ابن عباس: لا يقومون يوم القيامة من قبورهم أي يبعث كالمجنون عقوبة لهم. " انتهى ". أو لا يقومون الى تجارة الربا إلا بحرص وجشع كقيام المتخبط بالجن تستفزه الرغبة حتى يضطرب والظاهر أن الشيطان يتخبط الانسان حقيقة وقيل: هو مجاز عن إغوائه الذي يصرعه به أو على ما كانت العرب تزعمه أنه يخبط الانسان وتخبط تفعل موافق للمجرد وهو خبط والمس الجنون ويتعلق من المس بيقوم أو يتخبطه. وقال الزمخشري: فإِن قلت: لم يتعلق قوله من المسّ؟ (قلت): بلا يقومون أي لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع. " انتهى ". وكان قد قدم في شرح المس أنه الجنون وهذا الذي ذهب إليه في تعلق من المس بقوله: لا يقومون ضعيف لوجهين احدهما انه قد شرح المس بالجنون وكان قد شرح أن قيامهم لا يكون إلا في الآخرة وهناك ليس بهم جنون ولا مس ويبعد أن يكنى بالمس الذي هو الجنون عن أكل الربا في الدنيا فيكون المعنى لا يقومون يوم القيامة أو من قبورهم من أجل أكل الربا.﴿ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ إذ لو أريد هذا المعنى لكان التصريح به أولى من الكناية عنه بلفظ المس إذ التصريح به أبلغ في الردع والزجر، والوجه الثاني أن ما بعد إلا لا يتعلق بما قبلها إلا إن كان في حيّز الاستثناء وهذا ليس في حيز الاستثناء ولذلك منعوا أن يتعلق بالبينات والزبر. بقوله:﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً ﴾[يوسف: ١٠٩، النحل: ٤٣].
وانه ليس التقدير وما أرسلناك بالبينات والزبر إلا رجالاً يوحى إليهم.﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَٰواْ ﴾ ذلك إشارة إلى القيام وهو مبتدأ خبره بأنهم أي كائن بسبب أنهم وشبهوا البيع المجمع على جوازه بالربا وهو محرم ولم يعكسوا تنزيلاً لهذا الذي يفعلونه من الربا بمنزلة الأصل المماثل له في البيع وهو من عكس التشبيه وهو موجود في كلام العرب كثير في أشعار المولدين.﴿ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَٰواْ ﴾ هذا من كلامه تعالى رداً عليهم إذ ساووا بينهما والحكم في الأشياء لله تعالى لا يخالف في أمره ولا يعارض والبيع والربا عامان إلا ما حرم تعالى من بعض البيوع وبعض الربا وذلك مذكور في كتب الفقه.﴿ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ ﴾ ذكر المفصل يكون تأنيث الموعظة مجازياً وقرىء جاءته بالتاء على الأصل والموعظة الوعيد على فعله.﴿ مِّنْ رَّبِّهِ ﴾ أي من الناظر في مصلحته.﴿ فَٱنْتَهَىٰ ﴾ أي رجع عن المعاملة بالربا.﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾ أي قبل التحريم.﴿ وَأَمْرُهُ إِلَى ٱللَّهِ ﴾ أي إلى رجاء الله وإحسانه، وفيه تأنيس.﴿ وَمَنْ عَادَ ﴾ أي إلى فعل الربا مستحلا له مشبهاً له بالبيع.﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾﴿ يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَٰواْ ﴾ أي يذهب بركته والمال الذي يكون فيه. قال ابن مسعود: الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل.﴿ وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَٰتِ ﴾ أي يزيدها وينميها في الدنيا أو يضاعف حسناتها وقرىء يمحق ويربي من محقّ وربي وفي ذكر يمحق ويربي طباق البديع الطباق وفي الربا ويربي بديع التجنيس المغاير.﴿ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ صفتا مبالغة لتغليظ أمر الربا ولما ذكر حال آكل الربا ووصفه بأنه كفار أثيم ذكر ضده من المؤمنين الطائعين الممتثلين شرائع الاسلام ثم قال:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ ﴾ نزلت في بني عمرو بن عمير من ثقيف كانت لهم ديون ربا على بني المغيرة من بني مخزوم أرادوا أن يتقاضوا رباهم. وقرىء ما بقي بفتح الياء وتسكينها وهي لغة وتقلب الياء ألفاً وهي لغة طيء.﴿ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي ان صح إيمانكم أو يكون شرطاً مؤكداً على جهة المبالغة وقرىء من الربو بضم الباء بعدها واو ساكنة وفيه شذوذ من خروج من كسر إلى ضم ومن مجيء واو ساكنة بعد ضمة في اسم تام.﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ﴾ أي لم تتركوا ما بقي من الرياء. وقرىء ﴿ فَأْذَنُواْ ﴾ من أَذِنَ وفآذنوا من آذن أي اعلموا أي فاعلموا ولخطاب في فإن لم تفعلوا لمن خوطب أولاً وهم المؤمنون والأمر بالعلم أو الاعلام جاء على سبيل المبالغة في التهديد دون حقيقة الحرب جاء في: من أهان لي ولياً قد آذنني بالمحاربة. وروي أنه لما نزلت قالت ثقيف: لا يد لنا بحرب الله ورسوله. ومن لابتداء الغاية وفيه تهويل عظيم إذ الحرب منه تعالى.﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ ﴾ أي من الربا ورؤوس الأموال أصولها وأما الأرباح فطوارىء عليها.﴿ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾ قرىء الأول مبنياً للفاعل والثاني مبنياً للمفعول. وقرىء بالعكس فالمبني للفاعل لا يظلم بطلب زيادة على رأس المال والمبني للمفعول لا يظلم بنقصان رأس المال ولا بالمطل شكا بنو المغيرة العسرة وقالوا اخرونا إلى أن تدرك الغلات فنزل:﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ الآية. وقرىء ذو عسرة فكان تامة أي وان وقع أو وجد ذا عسرة على خبر كان واسمها مضمر أي وإن كان هو أي الغريم. وقرىء ﴿ فَنَظِرَةٌ ﴾ بكسر الظاء وبإِسكانها وهي لغة تميمية والنظرة التأخير أي فالواجب تأخيره.﴿ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ﴾ وقرىء فناظرة وخرج على أنه مصدر كالعاقبة وفناظرة اسم فاعل مضاف للضمير أي فصاحب الحق ناظره، وقرىء فناظروه أي فأنتم ناظروه، وقرىء ميسرة بضم السين وهو قليل كمشربة وبفتحها وهو كثير، وقرىء ميسورة مضافاً إلى ضمير المعسر وهو مصدر عند الأخفش كالمجلود، وقرىء إلى ميسرة بفتح السين مضافاً إلى ضمير الغريم وبضمها كذلك ويفعل مفقود في الأسماء المفردة: قاله سيبويه. وقيل: جاء قليلاً ومنه مهلك بضم اللام.﴿ وَأَن تَصَدَّقُواْ ﴾ على المعسر أي برأس المال أو بنقص بعضه.﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ أي من الانظار، وقرىء تتصدقوا بتائين وبإِدغام الثانية في الصاد وبحذفها.﴿ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ فضل التصديق على الأنظار والقبض.
﴿ وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ﴾ نزلت قبل موته عليه السلام بزمان يسير فقال عليه السلام: اجعلوها بين آية الربا وآية الدين. وقرىء ترجعون مبنياً للفاعل ومبنياً للمفعول. وقرىء يرجعون بياء الغيبة وهو التفات والرجوع إلى الله أي إلى جزائه وهو يوم القيامة.﴿ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ أي جزاء ما كسبتم من خير وشر.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ ﴾ الآية لما أمر بالصدقة وبترك الربا وكلاهما يحصل به تنقيص المال نبَّه على طريق حلال في تنمية المال وأكد في كيفية حفظه وأمر فيه بعدة أوامر. وفي قوله: تداينتم بدين تجنيس مغاير وذكر بدين وإن كان مفهوماً من تداينتم ليعود الضمير على منطوق به.﴿ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ ليس قيداً يحترز به بل لا يقع الدين إلا كذلك. ومعنى مسمى: مؤقت معلوم.﴿ فَٱكْتُبُوهُ ﴾ أمر بالكتابة وظاهره الوجوب وبه قال الطبري وأهل الظاهر: وقال الجمهور: هو أمر ندب.﴿ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ ﴾ قيل هو فرض على الكفاية كالجهاد ومعنى البنينية أي بين صاحب الدين والمدين.﴿ بِٱلْعَدْلِ ﴾ بالحق أي متصف بالأمانة على ما يكتب. وقرىء بكسر لام وليكتب وإسكانها.﴿ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ ﴾ نهي عن الامتناع من الكتابة أي ما علمه من كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير، وأكد النهي بقوله:﴿ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ ﴾ أي الذي وجب عليه الحق لأنه هو المشهود عليه بأن الدين في ذمته والمستوثق منه بالكتابة.﴿ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ ﴾ فيما عليه ويقربه. وجمع بين اسم الذات والوصف لكونه يذكره كونه مربياً له مصلحاً لحاله ولا يبخس منه شيئاً أي لا ينقص بالمخادعة والمدافعة والمأمور بالاملاك هو المالك لنفسه.﴿ فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً ﴾ أي جاهلاً بالأمور والاملال أو صبياً او امرأة لا يضبط ما يقر به أو ضعيفاً أي مريضاً يعجز عن الإِقرار لضعفه مع ثبوت حسّه.﴿ أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ ﴾ لخرسه أو عيّه. وهو توكيد للضمير المستكن في أن يمل ولما كان العطف بأو كان الضمير مفرداً أي فإِن كان أحد هؤلاء.﴿ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ ﴾ أي الناظر في أمره من وصي أو وكيل أو غيرهما مما له نظر وولاية في حق هؤلاء ﴿ بِٱلْعَدْلِ ﴾ حث على تحريه لصاحب الحق والمولى عليه.﴿ وَٱسْتَشْهِدُواْ ﴾ أي اشهدوا وهو مما فيه استفعل بمعنى أفعل كاستيقن وأيقن وجاء بصيغة المبالغة في ﴿ شَهِيدَيْنِ ﴾ وهو من كثرت منه الشهادة فهو عالم بمواقفها وما يشهد فيه.﴿ مِّن رِّجَالِكُمْ ﴾ أضاف إلى المؤمنين فلا يستشهد الكافر. ومن رجالكم فيه دلالة على أنه لا يجوز شهادة الصبي وفيه جواز شهادة العبد وهو مذهب شريح وجماعة.﴿ فَإِن لَّمْ يَكُونَا ﴾ أي الشاهدان.﴿ رَجُلَيْنِ ﴾ والضمير في يكونا ليس عائداً على قوله: شهيدين بقيد الرجولية.﴿ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ ﴾ فرجل فاعل أي فليشهد رجل أو خبر مبتدأ أي فالذي يشهد رجل. وقرىء وامرأتان بسكون الهمزة وهو على غير قياس.﴿ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ ﴾ وهو متعلق بقوله: قبل واستشهدوا، والظاهر تعلقه بقوله: فرجل وامرأتان والخاب في ترضون للمؤمنين أي من أهل الدين والفضل والعدالة والظاهر اقتصار شهادة الرجل والمرأتين في سائر عقود المداينات وأنه لا يجوز في الديون إلا رجلان أو رجل وامرأتان فلا يقض فيها [فيه بشهادة] فشاهد واحد ويمين هو مذهب جماعة.﴿ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ﴾ قرىء أن بفتح الهمزة وهو مفعول من أجله أي لأن تضل نزّل السبب وهو الإِضلال منزلة المسبب عنه وهو الاذكار كما ينزل المسبب منزلة السبب لاتصالهما فهو كلام محمول على المعنى، أي لأن تذكر إحديهما الأخرى إن ضلت، كقولك: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فادعمه. وقرىء ان بكسر الهمزة شرطاً فتذكر رفعاً جواب الشرط وقرىء تضل مبنياً للمفعول وتضل مبنياً للفاعل من أضل. وقرىء فتذكر مخففاً ومشدداً ومرفوعاً ومنصوباً. وفتذاكر: من المذاكرة. ومعنى الإِضلال هنا: عدم. الاهتداء إلى الشهادة لنسيان أو غفلة. ومعنى فتذكر من التذكير أو الإِذكار على حسب القراءتين من التشديد والتخفيف وأبهم الفاعل في تضل وأبهمه في فتذكر فلم يرد بأحديهما بعينة أن كل منهما يجوز عليه الوصفان والمعنى إن ضلت هذه ذكرتها وإن ضلت هذه ذكرتها هذه، والمعنى فتذكرها الشهادة وفيه دليل على أن شرط الشهادة التذكر فلا تجوز الشهادة على الخطأ.﴿ رَجُلَيْنِ ﴾.
﴿ وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ ﴾ عام في التحمل والاداء وان اختلفت جهنا النهي لأنها في التحمل ندب وفي الأداء واجبة.﴿ وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ ﴾ نهي عن الضجر والملل في الكتابة، كل ذلك ضبط لأموال الناس وتحريض على أن لا يقع نزاع أو إنكار في مقدار وأجل أو وصف وقدم الصغير اهتماماً به وانتقالاً من الأدنى إلى الأعلى ونص على الأجل دلالة على وجوب ذكره فيكتب كما يكتب أصل الدين وسئم جاء متعدياً بنفسه كقوله: سئمت تكاليف الحياة وبحرف جر كقوله: ولقد سئمت من الحياة. فيجوز تخريج.﴿ أَن تَكْتُبُوهُ ﴾ على هذين الوجهين والضمير في أن تكتبوه ضمير الدين. و ﴿ صَغِيراً أَو كَبِيراً ﴾ حال وإلى أجله متعلق بمحذوف أي مستقراً في الذمة إلى أجل حلوله ﴿ ذَلِكُمْ ﴾ إشارة إلى الاشهاد والكتابة.﴿ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ أي أعدل في حكم الله وجاء بتاء أفعل من الرباعي وهو أقسط الرجل إذا عدل. وقال الزمخشري: فإِن قلت: مم بني أفعلا التفضيل أعني أقسط وأقوم؟ قلت: يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقسام. " انتهى ". لم ينص سيبويه على أن أفعل التفضيل يبني من أفعل إنما يكون ذلك بالاستدلال لأنه نص في أول كتابه على أن بناء أفعل للتعجب، يكون من فَعُل وفَعِل وفعْل وأفعُل. وظاهر هذا أن أفعل الذي للتعجب يبنى من أفعل، ونص النحويون على أن ما يبنى منه أفعل للتعجب يبنى منه أفعل التفضيل فما إنقاس في التعجب إنقاس في التفضيل، وما شذ فيه شذ فيه. وقد اختلف النحويون في بناء أفعل للتعجب من أفعل على ثلاثة مذاهب الجواز والمنع والتفضيل بين أن تكون الهمزة للنقل فلا يبنى من أفعل للتعجب أو لا تكون للنقل فيبنى منه وزعم أن هذا مذهب سيبويه وتأوّل قوله: وأفعل على أنه أفعل الذي همزته لغير النقل والذي ينبغي أن يحمل عليه أقسط هو أن يكون مبنياً من قسط الثلاثي بمعنى عدل. قال ابن السيد في " الإِقتضاب " ما نصه: حكى ابن السكيت في كتاب الأضداد عن أبي عبيدة قسط جار وقسط عدل وأقسط بالألف عدل لا غير. وقال ابن القطاع: قسط قسوطاً وقسطاً جاد وعدل ضد فعلى هذا لا يكون شاذاً.﴿ وَأَقْومُ لِلشَّهَٰدَةِ ﴾ أن كان بني أقوم من أقام فهو كاقسط وكلاهما شاذ وإن بني من قام بمعنى اعتدل فلا شذوذ وللشهادة متعلق بأقوم، وهو من حيث المعنى مفعول كما تقول: زيد أضرب لعمرو من خالد.﴿ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ ﴾ أي أقرب لانتفاء الريبة والمفضل عليه محذوف وحسّن حذفه كون أفعل وقع خبراً للمبتدأ.﴿ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ ﴾ وهو مما يجعل ولا يكون فيه أجل من مبيع ثمن.﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا ﴾ نفي الجناح في انتفاء الكتابة إذ ما كان يداً بيد قل أن يقع فيه نزاع ودل ذلك على أنه لو كتب لجاز وفي ذلك فوائد وهذا الاستثناء منقطع لأن ما بعد الألم يدخل تحت الديون المؤجلة. وقرىء تجارة حاضرة بالنصب على خبر كان، أي إلا أن تكون هي أي التجارة تجارة حاضرة بالرفع على أنّ كان تامة.﴿ وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ أمر بالاشهاد على التبايع مطلقاً ناجزاً أو كالئاً وظاهر الأمر الوجوب. (قال) الطبري: لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلا أن يشهد وإلا كان مخالفاً لكتاب الله عز وجل.﴿ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ﴾ هذا نهي، وجاز أن يكون مبنياً للفاعل ومبنياً للمفعول ورجح جماعة كونه مبنياً للفاعل أي لا يضارر الكاتب بأن يحرف والشاهد بأن يكتم أو يغير أو يمتنع عن الأداء ورجح جماعة كونه مبنياً للمفعول أي لا يضارر الكاتب والشهيد في أن يشق عليهما ويطلب منهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة وقد قرىء بكسر راء يضارر مفكوكاً. وبفتحها مفكوكاً.﴿ وَإِن تَفْعَلُواْ ﴾ أي المضارة.﴿ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾ أي لاصق بكم ومستقر. والضمير في تفعلوا عائد على المنهي عنه على التقديرين.﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ أمر بالتقوى في هذه المواطن وغيرها.﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ ﴾ مستأنف يذكر نعمة الله على تعليم العلم منه تعالى.
﴿ وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ ﴾ الآية مفهوم الشرط يقتضي أخذ الرهن في السفر وعدم الكاتب أقام تعالى التوثق بالرهن مقام الكتابة والشهادة. وقرىء فرهان جمع رهن ورهن بضمتين كسقف وسقف وبسكون الهاء والفاء جواب الشرط أي فالمستوثق به رهن، وثم محذوف أي وإن كنتم على سفر وتبايعتم أو تداينتم. وفي قوله: مقبوضة، اشتراط القبض ولا يدل على أنه يتولى القبض بل لو قبض بنفسه أو بوكيله ويكون متقوماً يصح بيعه وشراؤه ويتهيأ فيه القبض ولو بالتخلية فيما التخلية قبض مثله.﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً ﴾ أي إن وثق رب الدين بأمانة الغريم فدفع إليه ماله بغير كتاب ولا إشهاد ولا رهن.﴿ فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ الضمير في أمانته عائد على الذين أؤتمن، والأمانة مصدر أطلق على الشيء الذي في اليد أو بقي على مصدريته على حذف مضاف أي دين أمانته. والأمر في فليؤد للوجوب. وقرىء أؤتمن بهمزة ساكنة وبإِبدالها ياء كهمزة يد للكسرة قبلها. وقرىء الذي تمن بإِدغام التاء المبدلة من الياء في تاء افتعل وهي لغة رديئة. قال الزمخشري: وليس بصحيح لأن الياء منقلبة عن الهمزة فهي في حكم الهمزة واتزر عامي وكذلك ريا من رؤيا. " انتهى ". وما ذكر الزمخشري فيه أنه ليس بصحيح وان اتزر عامي يعني أنه من إحداث العامة لا أصل له في اللغة، وقد قدمنا أن ذلك لغة رديئة. وأما قوله: وكذلك ريا من رؤيا فهذا التشبيه إما أن يعود إلى قوله واتزر عامي فيكون إدغام ريا عامّياً وإما أن يعود إلى قوله: فليس بصحيح، أي وكذلك إدغام ريا ليس بصحيح. وقد حكى الادغام في ريا الكسائي.﴿ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ ﴾ أي في أداء ما أئتمنه رب المال وجمع بين الذات والوصف.﴿ وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ ﴾ هذا نهي تحريم.﴿ وَمَن يَكْتُمْهَا ﴾ الآية الكتم من معاصي القلب والشهادة علم بالقلب فلذلك علق الإِثم به وعنه يترجم اللسان وقلبه فاعل باثم. (وقال) ابن عطية: ويجوز أن يكون يعني آثم ابتداء وقلبه فاعل يسد مسد الخبر، والجملة خبر إنّ " انتهى ". وهذا لا يصح على مذهب سيبويه وجمهور البصريين لأن اسم الفاعل لم يعتمد على أداة نفي ولا أداة استفهام، نحو: أقائم الزيدان، وأقائم الزيدون، وما قائم الزيدان، وما قائم الزيدون. لكنه يجوز على مذهب أبي الحسن إذ يجيز قائم الزيدان فيرفع الزيدان باسم الفاعل دون اعتماد على أداة نفي ولا استفهام (قال) ابن عطية: ويجوز أن يكون قلبه بدلاً على بدل البعض من الكل يعني أنه يكون بدلاً من الضمير المرفوع المستكن في آثم، والإِعراب الأول هو الوجه. وجوز الزمخشري أن يكون آثم خبراً مقدماً وقلبه مبتدأ والجملة في موضع خبر إنّ، وهذا الوجه لا يجيزه الكوفيون. وقرىء قلبُه بالنصب ونسبها ابن عطية إلى ابن أبي عبلة بدلاً من اسم انّ. قال ابن عطية: قال مكي: هو على التفسير يغني التمييز ثم ضعّفه من أجل أنه معرفة. والكوفيون يجيزون مجيء التمييز معرفة وقد خرّجه بعضهم على أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به نحو قولهم: مررت برجل حسن وجهه. ومثله ما أنشد الكسائي: من نعاتها مدارة الاخفاف محمراتها غلب الدفاريّ وعفريناتِها كوم الذرى وأدقه سراتهاوهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين جائز، وعلى مذهب المبرد ممنوع، وعلى مذهب سيبويه جائز في الشعر لا في الكلام. ويجوز أن ينتصب على البدل من اسم انّ وقد تقدم ويكون بدل بعض من كل ولا مبالاة بالفضل بين البدل والمبدل منه بالخبر لأن ذلك جائز فقد فصلوا بالخبر بين الصفة والموصوف نحو: زيد منطلق العاقل نص عليه سيبويه مع أن العامل في النعت والمنعوت واحد فأحرى في البدل لأن الأصح ان العامل فيه هو غير العامل في المبدل منه. وقرىء أثّم فعلاً ماضياً وقلبه نصباً على المفعولية.﴿ للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ ﴾ الآية ناسب ختم هذه السورة بهذا لأنها اشتملت على تكاليف كثيرة، فذكر تعالى إن له ملك السماوات والأرض فهو يكلف من يشاء بما شاء، ولما كانت التكاليف محل اعتقادها الأنفس قال:﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ ﴾ فصفة الملك تقتضي القدرة الباهرة والمحاسبة تقتضي العلم المحيط بالأشياء جليلها وحقيرها وكني بالمحاسبة عن الجزاء.﴿ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ ﴾ بدأ بأثر الرحمة وهي المغفرة. وقرىء فيغفر برفع الراء على القطع، أي فهو يغفر وبالجزم عطف على يحاسبكم وبالنصب على إضمار أن فينسبك من ذلك مصدر مرفوعٍ معطوف على مصدر متوهم أي تكن محاسبة فغفران. وقرىء بغير فاء مجزوماً وخرّج على البدل من يحاسبكم. وفيه نظر. وقال الزمخشري: ومعنى هذا البدل التفضيل لجملة الحساب لأن التفصيل أوضح من المفصل فهو جار مجري بدل البعض من الكل أو بدل الاشتمال كقولك: ضربت زيداً رأسه، وأحب زيداً عقله. وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان. " انتهى ". وفيه بعض مناقشة اما أولاً فلقوله ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ليس الغفران والعذاب تفصيلاً لجملة الحساب، إنما هو تعداد حسناته وسيئاته وحصرها بحيث لا يشذ شيء منها. والغفران والعذاب مترتبان على المحاسبة فليست المحاسبة تفصّل إلى الغفران والعذاب، وأما ثانياً فلقوله بعد أن ذكر بدل البعض والكل وبدل الإِشتمال وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان. أما بدل الإِشتمال فهو يمكن وقد جاء لان الفعل بما هو يدل على الجنس يكون تحته أنواع يشتمل عليها ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل إذ الفعل لا يقبل التجزي، فلا يقال في الفعل له كل وبعض، إلا بمجاز بعيد فليس كالإِسم في ذلك، ولذلك يستحيل وجود بدل البعض من الكل بالنسبة لله تعالى إذ الباري تعالى واحد فلا ينقسم ولا يتبعض. قال الزمخشري: وقد ذكر قراءة الجزم فإِن قلت كيف يقرأ الجازم؟ قلت: يظهر الراء ويدغم الباء، ومدغم الراء في اللام لا من مخطىء خطأ فاحشاً ورواية عن أبي عمر ومخطىء مرتين لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو. " انتهى ". وذلك على عادته في الطعن على القراء وأما ما ذكره من أن مدغم الراء في اللام لا من مخطىء خطأ فاحشاً إلى آخره، فهذه مسألة اختلف فيها النحويون فذهب الخليل وسيبويه وأصحابه إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل التكرير الذي فيها ولا في النون. قال أبو سعيد: ولا نعلم أحداً خالفه إلا يعقوب الحضرميّ وإلا ما روي عن أبي عمر وانه كان يدغم الراء في اللام متحركة متحركاً ما قبلها نحو: يغفر لمن يشاء العمر لكيلا واستغفر لهم الرسول، فإِن سكن ما قبل الراء أدغمها في اللام في موضع الضم والكسر نحو الأنهار لهم والنار ليجزي فإِن انفتحت وسكن ما قبلها حرف مد ولين أو غيره ولم يدغم نحو من مصر لامرأته والأبرار لفي ولن تبور ليوفيهم والحمير لتركبوها فإِن سكنت الراء أدغمها في اللام بلا خلاف عنه إلا ما روي أحمد بن جبير بلا خلاف عنه وعن اليزيدي عنه أنه أظهرها وذلك إذا قرأ بإِظهار المثلين والمتقاربين المتحركين لا غير على أن المعمول في مذهبه في الوجهين جميعاً على الإِدغام نحو: ويغفر لكم. " انتهى ". وأجاز ذلك الكسائي والفراء وحكياه سماعاً ووافقهما على سماعه رواية وأجازه أبو جعفر الرواسي وهو إمام من أئمة اللغة والعربية من الكوفيين وقد وافقتهم أبو عمر وعلى الإِدغام رواية وإجازة كما ذكرناه وذلك من رواية الوليد بن حسان وللإِدغام وجه من القياس ذكرناه في كتاب " التكميل لشرح التسهيل " من تأليفنا وقد اعتمد بعض أصحابنا على أن ما روي عن القراء من الادغام الذي منعه البصريون بكون ذلك إخفاء لا إدغاماً وهذا لا يجوز أن يعتقد في القراء أنهم غلطوا. وما فرقوا بين الإِخفاء والإِدغام وعقد هذا الرجل باباً قال فيه: هذا باب يذكر فيه ما أدغمته القراء مما ذكر أنه لا يجوز إدغامه وهذا لا ينبغي فإِن لسان العرب. ليس محصوراً فيما نقله البصريون فقط والقراآت لا تجيء على ما علمه البصريون ونقلوه دون غيرهم بل القراء من الكوفيين يكادون يكونون مثل قراء البصرة، وقد اتفق على نقل إدغام الراء من اللام كبير البصريين ورأسهم أبو عمرو بن العلاء ويعقوب الحضرمي وكبراء أهل الكوفة الرواسي والكسائي والفراء وأجازوه ورووه عن العرب فوجب قبوله والرجوع فيه الى علمهم ونقلهم؛ إذ من علم حجة على من لم يعلم. (وأما) قول الزمخشري: ان راوي ذلك عن أبي عمرو مخطىء مرتين فقد تبين أن ذلك صواب والذي روى ذلك عنه الرواة ومنهم أبو محمد اليزيدي وهو إمام النحو إمام في القرآت إمام في اللغة.
ولما كان ابتداء هذه السورة بذكر الكتاب المنزل وانه هدى للمتقين كانت مختتمة بذكر الكتاب ومن آمن به فقال تعالى:﴿ ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ ﴾ الآية ليتوافق الابتداء والاختتام والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم فأل فيه للعهد، والذي أنزل إليه من رَبه هو القرآن، والمؤمنون هم أمته وهم المذكورون في أول السورة الموصوفون بالتقوى والإِيمان بالغيب وقدم الرسول لأن إيمانه صلى الله عليه وسلم هو المتقدم وهو المتبوع صلى الله عليه وسلم.﴿ كُلٌّ آمَنَ ﴾ كل: للعموم، يشمل الرسول والمؤمنين. وأفرد الضمير كقوله: قل كل يعمل على شاكلته، وإن كان جائزاً جمعه، كقوله:﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾[يس: ٤٠].
وقرىء: ﴿ وَكُتُبِهِ ﴾ على الجمع، وكتابه على الإِفراد. والمراد به جنس الكتب الالهية. (قال) الزمخشري: وقرأ ابن عباس وكتابه يريد القرآن أو الجنس وعنه الكتاب أكثر من الكتب. فإِن قلت: كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟ قلت: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وجدان الجنس كلها لم يخرج منه شيء، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع. " انتهى ". وليس كما ذكر لأن الجمع إذا أضيف أو دخلته الألف واللام الجنسية صار عاماً ودلالة العام دلالة على كل فردٍ فرد. فلو قال: أعتقت عبيدي لشمل ذلك كل عبدٍ عبدٍ، ودلالة الجمع أظهر في العموم من الواحد سواء أكانت فيه الألف واللام أم الاضافة، بل لا يذهب إلى العموم في الواحد إلا بقرينة لفظية كأن يستثني منه أو يوصف بالجمع نحو:﴿ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾[العصر: ٢ـ٣].
وأهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، أو: قرينة معنوية نحو: نية المؤمن أبلغ من عمله، وأقصى حاله أن يكون مثل الجمع العام إذ أريد به العموم. وقرىء: ﴿ لاَ نُفَرِّقُ ﴾ بالنون أي يقولون لا نفرق. وقرىء بالياء على لفظ كل.﴿ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾ أحد هو المختص بالنفي وما أشبهه فهي للعموم ولذلك دخلت من عليه في قوله:﴿ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾[الحاقة: ٤٧] والمعنى بين آحادهم وإن كان أحد بمعنى واحد ففي الكلام معطوف محذوف دل عليه بين والتقدير بين واحد من رسله وواحد منهم.﴿ وَقَالُواْ سَمِعْنَا ﴾ أي قولك فيما كلفتنا.﴿ وَأَطَعْنَا ﴾ أي أمرك في ذلك.﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾ أي في التقصير في حقك وفي عبادتك التي لا نوفي حقها.﴿ وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ ﴾ إقرار بالمعاد أي وإلى جزائك المرجع. وانتصب غفرانك على أنه مصدر هو من المصادر التي يعمل فيها الفعل مضمراً تقديره عند سيبويه اغفر لنا غفرانك قاله السجاوندي. وقيل: معناه أستغفرك فهو مصدر موضوع موضع الخبر.﴿ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ استئناف خبر من الله تعالى أنه لا يكلف العباد من أفعال القلوب وأفعال الجوارح إلا ما هو في وسع المكلف ومقتضى إدراكه ونبيته وقرىء وسعها فعلاً ماضياً وانتصاب وسعها على أنه مفعول. وقال ابن عطية: يكلف يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف تقديره عبادة أو شيئاً. " انتهى ". فإِن عني أن أصله كذا فهو صحيح لأن قوله: إلا وسعها استثناء مفرغ من المفعول الثاني وإن عني أنه محذوف في الصناعة فليس كذلك بل الثاني هو وسعها نحو: ما أعطيت زيداً إلا درهماً، ونحو: ما ضربت إلا زيداً هذا في الصناعة هو المفعول وإن كان أصله ما أعطيت زيداً شيئاً إلا درهماً وما ضربت أحداً إلا زيداً. وأما وسعها فعلاً ماضياً، فالمفعول الثاني ليكلف محذوف، ووسعها في موضع الحال. ويدل ظاهر الآية على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع.﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ أي من الحسنات.﴿ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ ﴾ أي من السيئات والخواطر ليست من كسب الانسان.﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ أي قولوا في دعائكم.﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً ﴾ أي ميثاقاً غليظاً يأصر صاحبه أي يحبسه مكانه لا يستقل به استعير للتكليف الشاق في نحو: قتل النفس وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب.﴿ كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ﴾ هم اليهود.﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ أي لا تشدد علينا. وهو دعاء ناشىء عن قوله تعالى: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾.
وهذا أعم من قوله: ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً ﴾، إذ الاصر السابق مشبه حمله بحمل مثله على من قبلهم فتخصص بالتشبيه والطاقة القدرة على الشيء وهو مصدر جاء على غير قياس الفعل وهو أطاق نحو: جابة من أجاب.﴿ وَٱعْفُ عَنَّا ﴾ العفو: الصفح عن الذنب.﴿ وَٱغْفِرْ لَنَا ﴾ وهو الستر للذنب كي نصان من عذاب التخجيل لأن العفو لا يقتضي الستر قد يعفو بعد توقيفه على الذنب ثم يسقط عنه عقوبته.﴿ وَٱرْحَمْنَآ ﴾ طلبوا الثواب وافاضة الإِحسان عليهم.﴿ أَنتَ مَوْلَٰـنَا ﴾ أي سيدنا وناصرنا.﴿ فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ دخلت الفاء في فانصرنا إيذاناً بالسببية لأن كونه تعالى مولاهم ومالك تدبيرهم وأمرهم ينشأ عن ذلك النصرة على أعدائهم كما تقول أنت الشجاع فقاتل وأنت الكريم فجد عليّ.