ﰡ
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
«١» «٢» «٣» [البقرة: ٢/ ١- ٥].
ثم ذكر الله صفات الكافرين كأبي جهل وأبي لهب ونحوهما ممن جاهر بتكذيب القرآن، فاستوى عندهم الإنذار وعدمه، إذ لا ينتفعون به، فقلوبهم مغلقة لا يصل إليها النور الإلهي المتمثل في آيات القرآن، ويحجبون أسماعهم وأبصارهم عن هذه الآيات ويتعامون عنها، فأولئك لهم عذاب عظيم شديد خاص بهم، وكان العيب فيهم وفي أطباعهم لا في القرآن، لذا ختم الله على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم بكفرهم وعنادهم، قال الله تعالى مبينا صفات هؤلاء الكافرين:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦ الى ٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
«٤» «٥» [البقرة: ٢/ ٦- ٧].
إن البصير العاقل هو الذي يتأمل في مستقبله وفي الحق الذي ينفعه، وينفر من الباطل والضلال، ويوازن بين صفات المؤمنين البنّاءة التي هي إيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإيمان باليوم الآخر، وصفات الكفار الهدامة التي هي دمار وخراب، وابتعاد عن هداية الله الحقّة، وانكباب في نار جهنم، والمؤمن هو المواطن الصالح الأمين، والكافر هو العدو الخائن لنفسه وأمته ومجتمعة.
(٢) لا شك في أنه من عند الله.
(٣) الذين امتثلوا الأوامر وأدّوا الفرائض وتجنّبوا المعاصي
(٤) طبع الله تعالى عليها.
(٥) غطاء وستر.
في أوائل سورة البقرة نزلت ثلاث عشرة آية في المنافقين (٨- ٢٠) والنفاق جبن وخيانة، وكذب وضلال، ومرض وخداع، لذا سرعان ما ينكشف شأن المنافقين، ويحتقرهم المجتمع، وتنبذهم الأمة. والنفاق واليهودية شيئان متلازمان لأنه ينشأ عن جبن وضعف حقيقي ولؤم طبعي، فالمنافق يلتوي مع الناس في أقواله وأفعاله، واليهودي يخادع الناس ويتآمر عليهم. وكثيرا ما لاقى النّبي صلّى الله عليه وسلم من النفاق والمنافقين، وكم كان للنفاق في المجتمعات من أضرار بالغة، والجاسوس المتآمر على وطنه وأمته منافق، والتّجسس الذي يخدم العدو مظهر من مظاهر النفاق.
والمنافقون أشد خطرا على الإسلام من الكفار صراحة لأنهم أعداء في داخل الأمة، ولا يقتصر وجود المنافقين على عصر النّبي صلّى الله عليه وسلم فقط، بل يمكن ظهور المنافقين ووجودهم في كل عصر ومكان.
ذكر الله صفات المنافقين، وأولها إظهار الإيمان بالله واليوم الآخر، وإبطان الكفر والضلال، ومخادعة الله، مع أن الله عالم بهم لا تجوز عليه مخادعتهم، وليس خداعهم إلا وبالا عليهم، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨ الى ١٠]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ٨- ١٠].
والمنافقون قوم يثيرون الفتن والتجسس لحساب الأعداء وتأليبهم على المسلمين فهم مفسدون في الأرض ويزعمون أنهم مصلحون، فهم لا يدركون الواقع
(٢) شك ونفاق وتكذيب.
وإذا دعوا إلى الإيمان سخروا من المؤمنين وو صفوفهم بأنهم سفهاء ضعفاء العقول جهلاء، وهم السفهاء في الواقع. قال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١ الى ١٦]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
[البقرة: ٢/ ١١- ١٣].
ومن صفات المنافقين: إظهار الإيمان استهزاء، وإذا خلوا إلى شياطينهم وزعمائهم من اليهود وأهل الفساد قالوا لهم: إنا معكم.
قال ابن عباس: «توجه أبو بكر وعمر وعلي، رضي الله عنهم، إلى عبد الله بن أبي وأصحابه من اليهود، فلما رآهم ابن أبي قال لأصحابه: انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم بمعسول القول، فلما حضروا أخذ يمدحهم الواحد بعد الآخر في الدين والسّبق إلى الإسلام، فقال لأبي بكر: مرحبا بالصّدّيق شيخ الإسلام، وقال لعمر: مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دين الله، وقال لعلي: مرحبا بابن عم رسول الله وختنه (صهره) سيد بني هاشم، ثم قال لأصحابه بعد أن انصرف هؤلاء الصحابة: كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا «١»، فأنزل الله: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ «٢» «٣» [٢/ ١٤- ١٦]
ثم ضرب الله مثلين للمنافقين:
(٢) انصرفوا إليهم وانفردوا معهم. [.....]
(٣) أي يتحيرون يترددون في تجاوزهم الحدّ وغلوهم في الكفر.
والمثل الثاني صوّر انتهازيتهم وشبّههم بحال جماعة أصابهم مطر غزير، وفرحوا بالبرق والنور وقتا ما، ثم وقعوا حيارى مبهوتين حينما أظلم الأفق. فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [البقرة: ٢/ ١٧- ٢٠].
إثبات الألوهية ورسالة النّبي صلّى الله عليه وسلم
أوضح القرآن الكريم الفرق بين عبادة المؤمنين وعبادة المشركين، أما المشركون الذين يتخذون مع الله إلها آخر من الأصنام والأوثان، فيعبدون ما لا يضرّ ولا ينفع، ولا يغني من الحق شيئا، ويتركون عبادة الله الرّب الذي خلقهم، وخلق آباءهم من قبل، وأوجد هذا الكون سماءه وأرضه، برّه وبحره، فهل يليق بهم أن يتخذوا أندادا أو أمثالا لله عزّ وجلّ، مع أنه خلقهم وأمدّهم بنعم لا تعدّ ولا تحصى؟! أما المؤمنون فيتميزون بالعقل والبصيرة، والوفاء وعرفان الحق والجميل، ففي عبادتهم لله وحده تتحقق عبوديتهم المطلوبة لله، ومحبّتهم إياه، وتقواهم واستقامتهم على النّهج الصحيح، وشكرهم لربّهم الذي جعل لهم الأرض ممهدة للإقامة عليها
(٢) خرس لا ينطقون.
(٣) كمطر.
(٤) يستلبها.
(٥) وقفوا وثبتوا في أماكنهم متحيرين.
قال الله تعالى دالّا على ألوهيّته:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)
«١» «٢» «٣» [البقرة: ٢/ ٢١- ٢٢].
ثم أثبت الله صحة رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم بما أنزل الله عليه من معجزة القرآن، وأن القرآن معجز، وأنه من عند الله، ودليل إعجازه: أن الله تحدى العرب الذين نزل بلغتهم أن يأتوا بسورة تماثله في البلاغة والفصاحة، ومتانة التشريع الصالح لكل زمان ومكان، ومطابقته لمكتشفات العلوم المختلفة، وإخباره بالمغيبات في الماضي والمستقبل.
فإذا شك إنسان في أن القرآن ليس من كلام الله فليأت بمثله، والقرآن كلام عربي من جنس ما يتكلم به العرب في خطبهم وأشعارهم وكلامهم العادي، وهم فرسان البلاغة والفصاحة، وأعلام البيان. وإذا عجزوا عن الإتيان بمثل سورة من القرآن، وهم عاجزون إلى الأبد، فليرجعوا إلى الحق، وليؤمنوا بمحمد وبما أنزل الله عليه من القرآن، وفي ذلك وقاية لهم من النار. قال الله تعالى مبيّنا إعجاز القرآن وإثبات رسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلم:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)
(٢) سقفا مرفوعا.
(٣) أمثالا من الآلهة تعبدونها.
فائدة ضرب الأمثال للناس
يحرص القرآن الكريم على توضيح المعاني الدينية وأصول الإيمان بإيراد الأمثال والتشبيهات بالأمور المادية المحسوسة، لترسيخ المعاني في الأذهان، فإن كان المضروب له المثل عظيما كالحق والإسلام ضرب مثله بالنور والضياء، وإن كان ضعيفا حقيرا كالأصنام، ضرب مثله بما يشبهه كالذباب والبعوض والعنكبوت، فيكون المثل لكشف المعنى وتوضيحه بما هو معروف مشاهد لا سبيل إلى إنكاره.
فأما المؤمنون الذين في قلوبهم نور، فيهديهم الله إلى التصديق بأن هذا كلام الله، ويكون جزاؤهم جنان الخلد، والاستمتاع بنعيمها، ففيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين،
وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر،
فيها أنهار جارية تحت الأشجار، وفيها الثمار اليانعة الشهية مما لم يروه في الدنيا أبدا، وإن كان متشابها ليأنسوا به ويأكلوه، وفي الجنة حور عين، مقصورات في الخيام، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جانّ، مطهرات من كل دنس ورجس كالحيض والنفاس وشرور النفس والهوى، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)
[البقرة: ٢/ ٢٥].
الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال، فأنزل الله هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا وقال الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين المثل، ضحكت اليهود، وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله هذه الآية:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)
[البقرة: ٢/ ٢٦- ٢٧].
فالتمثيل بالبعوضة ونحوها ضلّ به كثير من الناس، واهتدى به كثير من الناس، ولا يضلّ به إلا الخارجون عن طاعة الله، الذين ينقضون ما عاهدوا الله عليه من الإيمان بمحمد والتصديق به، وهمّ هؤلاء الضّالّين الإفساد بين الناس، وإثارة الفتن والشكوك، وقلب الحقائق، وتصديع جبهة الأمة الداخلية، والتآمر مع الأعداء، إذ لا مبدأ عندهم يردعهم عن موالاة الأعداء، فخسروا الدنيا بافتضاحهم والآخرة بغضب الله عليهم، وذلك هو الخسران المبين.
يناقش القرآن الكريم أولئك الكفار الذين أنكروا ربوبية الله تعالى مرة بعد مرة، لأن موقفهم وحالهم مدعاة للعجب والاستغراب، والله تعالى يريد أن يرشدهم إلى سواء الصراط، ويدلهم على طريق النجاة، وطريق الإقناع بسيط مادي محسوس، مأخوذ من الواقع القريب المشاهد، ومن التأمل في وضع الإنسان ومراحل تغيره وانتقاله من عالم إلى عالم آخر.
فلو فكر الإنسان في نفسه وبمقتضى فطرته الصحيحة السوية، لعرف أن سبب وجوده في هذا العالم هو قدرة الله، وأن الله أنعم علينا بنعمة الوجود، ووهب لنا عقلا، وكرّمنا فجعل حدّا لآجالنا، وتركنا أحرارا في هذه الحياة لنعمل بقناعة ووعي بما يرضي الله، ويحقق الخير لأنفسنا وأمتنا، ثم نرجع إلى الله ليجزي كلّا منا على ما قدّمت يداه، ويحاسبنا على النّعمة التي أنعم بها علينا. قال ابن عباس وغيره من المفسرين: كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا، ثم خلقتم وأخرجتم إلى الدنيا، فأحياكم، ثم أماتكم الموت المعهود، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة. فهناك إماتتان، وإحياءان، الإماتة الأولى قبل الوجود في الدنيا، والإماتة الثانية بعد الحياة، والحياة الأولى بعد الولادة، والحياة الثانية بعد البعث يوم القيامة، قال الله تعالى: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ «١» (١١) [المؤمن: ٤٠/ ١١].
وقال الله سبحانه:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)
[البقرة: ٢/ ٢٨].
ثم ذكّرنا القرآن الكريم بمظهر آخر من مظاهر قدرة الله، عزّ وجلّ، وهو خلق جميع ما في الأرض لخدمة الإنسان، بما فيها من كنوز وخيرات وتمكّن من استخدام موجودات الدنيا من ذرة وكهرباء وأثير، نمتطي به عالم الطيران ونحلّق في سفن الفضاء، ونكتشف عوالم النجوم والكواكب السّيارة كالقمر والزهرة والمريخ. ومن مظاهر قدرة الله وعظمته خلق السموات السبع التي رفعها الله بقدرته، وأودع فيها دقائقه وأسراره، وعلّم الله مخلوقاته تلك الأسرار، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٩]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ٢٩].
وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خلقت قبل السماء، وذلك صحيح، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء. وعلى الناس أن يتأملوا في عظمة الكون ليتوصلوا إلى الإيمان بربّ السماوات والأرض وما فيهن، وأن الله على كل شيء قدير.
الإنسان خليفة الأرض وسجود الملائكة لآدم
كرّم الله تعالى الإنسان باختيار آدم خليفة في الأرض، وتعليمه اللغات التي لا تعلمها الملائكة، وأمر الملائكة بالسجود له سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة وتعظيم. وكل ذلك لتكريم النوع الإنساني، وتكليفه وتشريفه بعمارة الدنيا وتقدم
(٢) أتمهن وقوّمهن. [.....]
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٤]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)
«١» «٢» «٣» «٤» [البقرة: ٢/ ٣٠- ٣٤].
اذكر أيها النّبي لقومك قصة خلق أبيهم آدم، حين قال الله للملائكة: إني متخذ في الأرض خليفة، يقوم بعمارتها وسكناها، وينفذ أحكامي فيها بين الناس، فتساءل الملائكة مستعلمين: كيف تستخلف هذا الخليفة، وفي ذرّيته من يفسد في الأرض بالمعاصي، ويريق الدماء عدوانا وبغيا لأن أفعالهم عن اختيار وإرادة، وقد خلقوا من طين، والمادة جزء منهم، ومن كان كذلك فهو إلى الخطأ أقرب. وقد عرفوا ذلك لأنهم هم المعصومون، وكل من عداهم ليسوا على صفتهم، أو قاسوا ذلك الخلق وهم الإنس على الجن الذين سكنوا الأرض، فأفسدوا فيها قبل سكنى الملائكة.
ونحن الملائكة أولى وأحق بالاستخلاف، لأن أعمالنا مقصورة على تسبيحك وتقديسك، وطاعتك وتمجيدك، والثناء عليك والحمد لك. فأجابهم الله تعالى: إني
(٢) ننزهك عن كل ما لا يليق بك مع الثناء عليك والحمد.
(٣) نمجدك ونعظمك.
(٤) تقديسا وتنزيها لك عن الاعتراض عليك.
وعلّم الله آدم أسماء الأشياء والأجناس المادية، من نبات وجماد وإنسان وحيوان، مما تعمر به الدنيا، ثم عرض مجموع المسميات على الملائكة، أو عرض نماذج منها، لقوله ثُمَّ عَرَضَهُمْ لأن العرض لا يصح في الأسماء. وقال لهم: أخبروني بأسماء هؤلاء، إن كنتم صادقين في ادّعائكم أنكم أحقّ بالخلافة من غيركم، فعجزوا، وقالوا: يا ربّ سبحانك، لا علم لنا إلا ما علّمتنا، إنك أنت العليم بكل شيء، الحكيم في كل صنع وتدبير.
وهذا يدلّ على تفضيل آدم على الملائكة واصطفائه، بتعليمه ما لم تعلمه الملائكة، فلا يكون لهم فخر عليه.
ثم طلب الله من آدم، عليه السّلام، بقوله: أخبرهم يا آدم بأسماء الأشياء التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بقصورهم عن معرفتها، فلما أخبرهم بكل الأسماء، أدركوا السّرّ في خلافة آدم وذرّيته، وأنهم لا يصلحون للاشتغال بالماديات، والدنيا لا تقوم إلا بها، فإنهم خلقوا من نور، وآدم من طين، والمادة جزء منه.
وحينئذ قال الله تعالى للملائكة: ألم أقل لكم: إني أعلم ما غاب في السموات والأرض عنكم، وما حضر أيضا، ولا أجعل الخليفة الأرضية عبثا، وأعلم ما ظهر وما بطن، وأعلم بما تظهرون وما تكتمون في صدوركم.
واذكر أيضا أيها النّبي لقومك حين قلنا للملائكة الأطهار: اسجدوا لآدم سجود خضوع وتحية، لا سجود عبادة وتأليه، كما يفعل الكفار مع أصنامهم، فسجد الملائكة جميعا له غير إبليس، فإنه امتنع من السجود وتكبر عنه قائلا: أأسجد له،
سكنى آدم وحواء الجنة
من ألوان التكريم الإلهي للإنسان إسكان آدم وحواء في الجنة في بدء الخلق، ليكون تمهيدا لمصير أهل الاستقامة في نهاية الخلق. ولكن الحكمة الإلهية اقتضت إعاشة الإنسان في الأرض، لتعمير الكون، وتكاثر النوع الإنساني، وإظهار مزيته في جهاد النفس والهوى والشيطان.
وهذه قصة آدم وحواء في الجنة والأرض:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٥ الى ٣٩]
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ٣٥- ٣٩].
واذكر أيها النّبي لقومك حين أمر الله تعالى آدم وزوجه حواء بسكنى الجنة- الجنة الحقيقية العلوية، والتمتع فيها حيث شاءا، والأكل منها أكلا هنيئا لا عناء فيه، أو واسعا لا حدّ له. ونهاهما عن الأكل من شجرة معيّنة، ويكون الأكل منها ظلما لأنفسهما، وتجاوزا لأمر الله ومخالفة نهيه.
(٢) أوقعهما في الزّلة وأبعدهما عنها.
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) [الأعراف: ٧/ ٢٠- ٢١].
فتغلبت عليهما ووساوس الشيطان، وخرجا من الجنة إلى الأرض، وشقاء الدنيا، وقد نشأت بعدها العداوة بين البشر والشيطان:
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) [فاطر: ٣٥/ ٦].
وقال الله لهما: اهبطوا من الجنة إلى الأرض، بعضكم عدوّ بعض، ولكم استقرار في الأرض وتمتّع بنعمها وخيراتها إلى مدة معينة من الزمان. فألهم الله آدم كلمات، فعمل بها هو وزوجته، فقالاها، وتابا توبة خالصة، والكلمات هي قوله تعالى:
قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) [الأعراف:
٧/ ٢٣].
وتقبل الله منهما التّوبة، لأنه كثير القبول لتوبه عباده، واسع الرحمة بالعباد، والمغفرة لهم.
وكرر الله تعالى الأمر بالهبوط من الجنة هو وزوجه للتأكيد، وصار الناس في الأرض صنفين: صنف المؤمنين بالله العاملين بطاعته، المتبعين هداه وشرائعه، فهؤلاء آمنون في جنان الخلد في الآخرة، ولا خوف عليهم من مخاوفها وعذابها، ولا يجدون فيها حزنا أو كآبة، أو كربا على ما فاتهم من النعيم في الدنيا.
إن هذه القصة تثير تساؤلات ومشكلات عديدة، عن مكان الجنة والأكثرون على أنها في السماء، وعن نوع الشجرة وهي إما الكرم من العنب أو الحنطة أو التين، وعن عصيان آدم مع أن الأنبياء معصومون من الذنوب، والواقع أنها خطيئة من الصغائر، لا من الكبائر، صدرت من آدم قبل النبوة، وعن دخول إبليس الجنة بعد طرده منها، ولكن الخروج لا يمنع وصول وسوسته ابتلاء لآدم وحواء، وعن أفعال العباد أهي مخلوقة؟ والصحيح أنها من خلق الله تعالى، لقوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً وعن التفضيل بين الملائكة والبشر، والظاهر أن عموم الملائكة أفضل من عموم البشر، وخواص البشر وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة، كما قال جماعة. والتوقف عن الخوض في ذلك أولى وأكثر أدبا وتسليما لله تعالى.
مطالبة بني إسرائيل بالإيمان بالقرآن
لقد طالب الله الناس جميعا بالإيمان بشريعة القرآن وبما أنزل فيه، ومنهم بنو إسرائيل الذين أنعم الله عليهم بنعم كثيرة.
ذكّر الله بني إسرائيل المعاصرين للنّبي محمد صلّى الله عليه وسلم بهذه النعم العشر ليبادروا إلى الإيمان بالله وكتبه وبمحمد الذي أخبر عن هذا كله بوحي الله في قرآنه، فقال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
«١»
ثم عدّد الله تعالى نعما عشرا عليهم تحملهم إذا أنصفوا وعقلوا على الإيمان بما أنزل الله في كتابه الذي صدّق ما أنزل عليهم في التوراة. وقد عدّد الله هذه النعم العشر في سورة البقرة في الآيات (٤١- ٦٠) وهي:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤١ الى ٦٠]
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠)
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥)
ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)
(٢) لا تخلطوا.
وهي إنجاؤهم من فرعون وقومه، وعبورهم البحر سالمين من تهديد فرعون وجنوده، وقبول توبتهم وعفو الله عنهم، وإيتاء موسى التوراة الأصلية الفارقة بين الحق والباطل، والحلال والحرام ليهتدوا بها، وأمر موسى لهم بالتّخلي عن عبادة العجل التي فعلوها في مدة صومه وغيابه عنهم أربعين يوما (ميقات ربّه)، وإحياؤهم بعد موتهم ليستوفوا آجالهم المقدرة لهم بعد أن طلبوا من موسى أن يروا الله جهرة عيانا، فأماتهم الله يوما وليلة ثم بعثهم من بعد الموت، وإظلالهم بسحاب رقيق يقيهم حرّ الشمس حين مكثوا أربعين سنة حيارى تائهين في وادي التّيه بين الشام ومصر، وإنزال المنّ والسّلوى عليهم، وهو طعام مكوّن من حلوى وطير مطهو يقيهم غائلة الجوع، وأمرهم بدخول القرية المعلومة لهم للسكنى والأكل والشرب الهني فيها، ودخول الباب خاضعين مبتهلين إلى الله وحده، وطالبين المغفرة وحطّ الذنوب عنهم، فخالفوا وعصوا وقالوا بدل كلمة حِطَّةٌ: حبة في شعرة أي حنطة في زكائب شعر، ودخلوا زاحفين على مقاعدهم غير خاضعين لله، فعذبهم الله عذابا شديدا من السماء بسبب فسقهم وعصيانهم وهلك منهم سبعون ألفا، والنعمة العاشرة انفجار الحجر والصّخر اثنتي عشرة عينا بضرب موسى عصاه الحجر، فكان لكل جماعة منهم عين يشربون منها.
بعض قبائح اليهود وجزاؤهم
لقد أنصف القرآن الكريم أهل الكتاب، فأثاب أهل الإيمان والعمل الصالح منهم، وبشّرهم بأنهم لا خوف عليهم أبدا، ولا هم يحزنون في الدنيا والآخرة، فقال الله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) [البقرة: ٢/ ٦٢].
نزلت هذه الآية في سلمان الفارسي وأشراف قومه الذين آمنوا بالله واليوم الآخر، وآمنوا بالقرآن وبالنّبي محمد صلّى الله عليه وسلم، وفي مقابل الثناء على مؤمني أهل الكتاب،
(٢) هذا خطاب لأهل الكتاب، وهو مع ذلك أدب لجميع العباد.
(٣) لشاقة ثقيلة.
(٤) يعلمون.
(٥) أي عالمي زمانهم في الماضي. [.....]
(٦) لا تؤدي نفس.
(٧) فدية.
قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٦١]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)
«١» «٢» «٣» [البقرة: ٢/ ٦١].
وهدّد الله بني إسرائيل برفع جبل الطور فوقهم كأنه ظلّة تخويفا وإرهابا، حينما لم يؤمنوا بالتوراة ورفضوا العمل بها، فقبلوا ذلك إلى حين، ثم أعرضوا بعد ذلك عن التوراة ونبذوها وراء ظهورهم. وكانوا يعظّمون يوم السبت، فلا يعملون أي عمل فيه، فاحتالوا على ذلك بحيلة مفضوحة وهي بناء حواجز وأحواض تمنع ردّ السمك إلى الماء في حال الجزر، بعد أن كان السمك يأتي كثيرا يوم السبت قرب الساحل في أثناء المدّ البحري، وكان لا يأتيهم السمك في غير يوم السبت، فارتكبوا خطيئة الصيد يوم السبت بالحيلة المذكورة، فحكم الله عليهم أن يكونوا كالقردة مبعدين عن رحمة الله والناس لأنهم لم يحترموا العهد ولم يلتزموا الطاعة، وتخلوا عن شرف
(٢) أي المذلة والفقر والحاجة.
(٣) رجعوا متلبسين به.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٢ الى ٦٦]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
«١» «٢» «٣» «٤» [البقرة: ٢/ ٦٢- ٦٦].
الأمر بذبح البقرة
اختبر الله تعالى بني إسرائيل بأمرهم بذبح بقرة، ليظهر مدى مصداقيتهم وامتثالهم أوامر الله تعالى، وذلك بسبب قتل رجل عمه الذي كان ابن الأخ الوارث الوحيد له، ومن أجل التعرف على القاتل، بدلا من اقتتال بعضهم مع بعض، وكان يجزئهم ذبح أي بقرة، إلا أنهم تشدّدوا في بيان أوصاف البقرة، فشدّد الله عليهم، بعد أن اشتروها بملء جلدها ذهبا، فذبحوها متردّدين، ثم ضربوا القتيل ببعضها، فعاش حيّا، فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا، لابن أخيه، ثم عاد ميتا، فلم يعط من ماله شيئا، لأنه قاتل، وصار ذلك حكما دائما. وهذه هي قصة ذبح البقرة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٧ الى ٧٤]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)
«٥»
(٢) عبدة النجوم والكواكب، أو عبدة الملائكة.
(٣) مطرودين صاغرين.
(٤) عقوبة.
(٥) سخرية.
واذكروا أيها الإسرائيليون وقت قول موسى لقومه أسلافكم أمر الله لكم بذبح أي بقرة، فلم يمتثلوا، وشدّدوا، فشدّد الله عليهم، وقالوا: أتهزأ أو تسخر منا يا موسى؟ نسألك عن أمر القتل، فتأمرنا بذبح بقرة! قال: ألتجئ إلى الله من الهزء والسخرية بالناس في موضع الجد وتبليغ أحكام الله تعالى، فأكون من الجهلة المفرطين بأمر الله.- قالوا: ادع الله لنا لبيان لونها فقال: إنها بقرة صفراء اللون، شديدة الصفرة، تبهج الناظرين إليها. فسألوه عن سنّها، فقال: إنها ليست صغيرة ولا كبيرة، بل وسط بين الأمرين، فامتثلوا الأمر ولا تشددوا، قالوا: ادع الله لنا يبين حقيقتها ومزاياها، لتشابه البقر علينا، وإنا إن شاء الله لمهتدون إلى الصواب والمطلوب.
قال: إن الله يقول: إنها بقرة لم تذلل بالعمل في الحراثة والسّقي، وهي سالمة من
(٢) وسط بين السّنين.
(٣) شديد الصفرة.
(٤) ليست سهلة الانقياد. [.....]
(٥) تقلب الأرض للزراعة بالفلاحة.
(٦) الزرع.
(٧) مبرأة من العيوب.
(٨) لا يخالطها لون آخر غير الصفرة.
(٩) تدافعتم وتخاصمتم فيها.
(١٠) يتفتح بسعة وكثرة.
واذكروا أيها اليهود المعاصرون حين قتل أسلافكم نفسا، وأنتم تنتسبون إليهم، راضون بفعلهم، وأسند القتل للأمة والقاتل واحد، لتضامن الأمة، وهي في مجموعها كالشخص الواحد، فيؤخذ المجموع بجريرة الواحد. وفيه توبيخ ولوم. وكنتم تتخاصمون وتتدافعون في شأن القتل، فكل واحد يدرأ القتل عن نفسه، ويدّعي البراءة، ويتّهم سواه، والله مظهر حتما ما كنتم تكتمونه وتسترونه من أمر القتل.
فقلنا لكم: اضربوا القتيل ببعض أجزاء البقرة المذبوحة، فضربوه، فأحياه الله، وأخبر عن القتلة، ومثل ذلك الإحياء العجيب، يحيي الموتى يوم القيامة، فيجازي كل إنسان بعمله، وكذلك يريكم الله آياته الواضحة الدّالة على صدق القرآن والنّبي، الذي يخبر بالغيبيات، لكي تعقلوا وتؤمنوا بالله ورسوله.
ثم قست قلوبكم وامتنعت عن قبول الحق، فهي تشبه الحجارة في الصلابة، بل هي أشد قسوة منها، لأن بعض الحجارة قد يتفجر الماء منه، ويسيل أنهارا تحيي الأرض وتنفع النبات، وقد يتشقق بعضها، فيسيل منها ماء، يكون عينا لا نهرا، وفي هذه منفعة للناس، وقد يتساقط بعضها من أعالي الجبال، بالرياح الشديدة ونحوها من الزلازل، فتكسر الصخور، وتدمّر الحصون، وليس في هذا منفعة للناس.
ولكن لم يزدد اليهود إلا عنادا وفسادا، والله تعالى حافظ لأعمالهم ومحصيها لهم، ثم يجازيهم بها، ولا يغفل عن شيء منها، صغيرا كان أو كبيرا.
لا خير ولا أمل في قوم متناقضين يفترون على الله الكذب، ويحرّفون كلام الله ويغيّرونه ويبدّلونه على وفق أهوائهم وشهواتهم، لذا استبعد الله الخير والإيمان من اليهود برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم، فقد كان منافقوهم حين يتقابلون مع المؤمنين يقولون: نحن مؤمنون بالله والنّبي محمد، إذ هو المبشّر به عندنا فنحن معكم، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: كيف تحدّثون أتباع محمد بما أنزل الله عليكم في التوراة؟ كيف تفعلون هذا فيحتجّون به عليكم، ويخاصمونكم به عند ربّكم يوم القيامة؟ أتذيعون أسراركم فهذا خطأ وضرر؟
فيردّ الله عليهم أيحسبون أن هذا سرّ لا يطّلع عليه أحد؟ أو لا يعلمون أن الله سبحانه يعلم السّر وأخفى، ويعلم ما يقولون، سواء أضمروا الحقائق أم أعلنوها؟
وسيجازيهم على ذلك كله. هذا موقف علماء اليهود وأحبارهم، أما الأمّيون فلا يعرفون عن دينهم إلا أكاذيب سمعوها ولم يعقلوها مثل الزعم القائل بأنهم شعب الله المختار وأن الأنبياء منهم يشفعون لهم، وأن النار لا تمسهم إلا أياما قليلة.
قال مجاهد: قام النّبي صلّى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم فقال: يا إخوان القردة، ويا إخوان الخنازير، ويا عبدة الطاغوت، فقالوا: من أخبر بهذا محمدا، ما خرج هذا إلا منكم، أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم ليكون لهم حجة عليكم، فنزلت الآية:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٥ الى ٧٨]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨)
«١» «٢» «٣»
(٢) انفرد معه.
(٣) قصه عليكم.
وروي أن أوصاف الرسول صلّى الله عليه وسلم كانت مكتوبة عندهم في التوراة فغيروها وكتبوا بدلها، فإذا سئلوا من العوام عن وصف محمد المعروف لديهم، ذكروا ما كتبوه هم، فيكذّب العوام النبي صلّى الله عليه وسلم.
وتجرؤوا أكثر من هذا، فافتروا على الله ما لم يقله، ليأخذوا على كذبهم ثمنا دنيويا حقيرا من مال أو رياسة أو جاه، فويل لهم مما كسبوا. ومن مخازيهم وافتراءاتهم:
أنهم ادعوا أن النار لا تمسهم إلا في أيام قليلة معدودة هي أربعون يوما مدة عبادتهم العجل، فرد الله عليهم بأنه لا أصل لهذا الادعاء، ولا عهد لهم من الله فيه، وسيخلدون في النار بسبب معاصيهم الشنيعة، كقتل الأنبياء بغير حق، وعصيان أوامر الله، وتكذيبهم برسالة النبي محمد. أما من آمن منهم وعمل صالحا، فلهم الجنة خالدين فيها، قال الله تعالى في أحبار اليهود:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)
«٣» «٤» «٥» [البقرة: ٢/ ٧٩- ٨٢].
(٢) أي أكاذيب لا دليل عليها.
(٣) هلاك وشدة عذاب، أو واد في جهنم.
(٤) هنا أي كفر.
(٥) أحدقت به. [.....]
سجّل القرآن الكريم على اليهود مخالفات خطيرة ومنكرات شنيعة، مع أنهم يدعون الإيمان بالتوراة، وأول هذه المخالفات: نقضهم المواثيق والمعاهدات التي واثقهم الله بها، وهي عبادة الله وحده، والإحسان إلى الوالدين والقرابة واليتامى والمساكين، والقول الحسن للناس، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم تخلى أكثرهم عن هذه الأوامر والوصايا التي تكفل سعادة المجتمع، وتحقق له الحياة الهادية الهنيئة. قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)
[البقرة: ٢/ ٨٣].
ومن مخالفاتهم المواثيق: سفكهم دماء بعضهم بعضا، وإيمانهم ببعض التوراة وكفرهم بالبعض الآخر، وإخراج بعضهم بعضا من ديارهم، مع أنهم إخوانهم في الدين واللغة والنسب، متعاونين مع الغير على ارتكاب الذنب والعدوان ومعصية الرسول، والإخراج والقتل محرّم عليهم في التوراة، فكيف يفعلونه؟ وليس لهم جزاء على هذه المخالفات والأعمال الشنيعة إلا ذلّ وهوان في الدنيا، وعذاب أليم دائم في الآخرة. وهذا جزاء كل أمة تؤدي بعض أحكام دينها كالصلاة والصوم والحجّ، ولا تؤدي بعض أحكامه الأخرى كالامتناع عن الزّنا والرّبا والرّشوة والسّرقة وخيانة الأمانة، ولم تتعاون على الخير والمعروف، ولم تؤدّ الزكاة بسبب بخل أغنيائها على فقرائها. قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
«١»
ومن مخالفات اليهود ومنكراتهم: تكذيبهم بالرّسل، وقتلهم رسلا آخرين، وكفرهم برسالة خاتم النّبيين مع أنهم كانوا يقولون: اللهم انصرنا بالنّبيّ المبعوث آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة، فهم يعرفون حقّا أن محمدا صلّى الله عليه وسلم هو النّبي المبشّر به في التوراة، قال الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [البقرة:
٢/ ١٤٦] ولكنهم لم يؤمنوا حسدا وبغيا، فقد باعوا حظّهم الحقيقي وهو الإيمان بالله ورسوله، وأخذوا بدله كفرهم بما أنزل الله، وسبب ذلك كله: حرصهم على الرياسة والمال في أيديهم.
ومن مخالفاتهم: كفرهم بغير التوراة، وعبادتهم العجل واتخاذه إلها، وحرصهم الشديد على الحياة الدنيا أشد من حرص المشركين بالله، يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة حتى يجمع ذهب العالم. ومن طبائعهم: حبّهم الاستعلاء على العالم، وإثارتهم الفتن والشرور بين الناس، ومن سوء مواقفهم: معاداتهم جبريل وميكال والملائكة والرّسل الكرام، كما سيأتي بيانه، قال الله تعالى:
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) [البقرة: ٢/ ٩٧- ٩٨].
(٢) هوان وفضيحة.
من أعظم جرائم اليهود: تكذيب الرسل والكتب الإلهية المنزلة، وقتل الأنبياء بغير حق، وكفرهم بجميع ما أنزل الله على الرسل الآخرين غير رسولهم، مع أنهم قبل بعثة النّبي صلّى الله عليه وسلم كانوا يستنصرون بنبي آخر الزمان، فلما بعث وجاءهم ما عرفوا صفاته، كفروا به وتنكروا له. وهذا ما دوّنته الآيات التالية:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٧ الى ٩١]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [البقرة: ٢/ ٨٧- ٩١].
الآيات تذكير لبني إسرائيل بإعطاء موسى الكتاب (التوراة) وأن الله أتبعه بالرسل من بعده، وهم يوشع، وداود، وسليمان، وعزير، وإلياس، واليسع ويونس وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السّلام، وكانوا كلهم يحكمون بشريعة موسى عليه السّلام. إلا أن الله آتى عيسى عليه السّلام الإنجيل، مخالفا التوراة في بعض الأحكام، وأيّده الله
(٢) المعجزات.
(٣) جبريل عليه السلام.
(٤) عليها أغطية.
(٥) يستنصرون ببعثه النبي صلّى الله عليه وسلم.
(٦) باعوا به أنفسهم.
(٧) حسدا.
(٨) رجعوا متلبسين به.
ومن قبائحهم أو مثالبهم: قولهم للنّبي صلّى الله عليه وسلم: قلوبنا مغطاة بأغشية، فلا تعي ما تقول، ولا تفقه ما تتكلم به، فيردّ الله عليهم: لستم كذلك، فقلوبكم خلقت مستعدة بالفطرة للإقرار بالحق، لكن الله أبعدهم عن رحمته، بسبب كفرهم بالأنبياء وعصيانهم التوراة، وقليلا جدّا اتجاههم للإيمان، أو أنهم لم يؤمنوا أصلا.
ولما جاءهم كتاب من عند الله وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم، مصدق لما معهم من التوراة، وكانوا من قبل ذلك يستنصرون ببعثة نبي آخر الزمان، لما جاءهم كفروا برسالته حسدا للعرب، وجحدوا ما كانوا يقولون به، وتبشّر به توراتهم، فالطرد والإبعاد أو اللعنة من الله على كل كافر من اليهود وأمثالهم، لكفرهم بدعوة الإسلام. قال ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا، هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء: (اللهم إنا نسألك بحق محمد النّبي الأمّي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان، إلا نصرتنا عليهم) فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان، فلما بعث النّبي صلّى الله عليه وسلم، كفروا به، فأنزل الله تعالى:
وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أي بك يا محمد، إلى قوله: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ.
بئسما باعوا به أنفسهم باختيارهم الكفر على الإيمان، وبذل أنفسهم فيه، وجحودهم برسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلم حسدا للعرب، وكراهة أن ينزل الله الوحي من
وإذا
قال النّبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه ليهود المدينة: آمنوا بالقرآن الذي أنزله الله، قالوا:
إنما نؤمن بالذي أنزل علينا في التوراة، ونكفر بما سواه،
وهو القرآن الذي جاء مصدقا لها، وهو الحق الذي لا شك فيه، فيرد الله عليهم: إن القرآن مصدق للتوراة، وكلاهما من عند الله، فكيف تكفرون ببعض الكتاب وتؤمنون ببعض؟ بل إنكم لم تؤمنوا بالتوراة التي فيها تحريم القتل، وقد قتلتم الأنبياء بغير حق، فلم قتلتموهم إن كنتم بالتوراة مؤمنين؟!
عبادة العجل عند اليهود وحبّ الحياة وعداوة الملائكة والرّسل
تمكّن الكفر والطغيان، والمادية الطاغية، وحبّ الحياة، وعداوة جبريل والملائكة والرّسل من قلوب اليهود، فهم أعداء الدين الإلهي كله، وأعداء الرّسل جميعا، وأحرص الناس على الحياة الدنيوية، وتراهم لا يهمهم إلا أهواؤهم وعنصريتهم ومزاعمهم أنهم أولياء الله ومحبوبوه، والناجون في الآخرة، وأنهم الشعب المختار لله تعالى، فكذب الله جميع ادّعاءاتهم، بل إنهم وقعوا في الوثنية والشرك، وعبدوا العجل، كما تقرر الآيات التالية:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٢ الى ٩٨]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨)
«١»
تالله لقد جاءكم يا بني إسرائيل موسى بالمعجزات القاطعة الدّالة على صدق نبوّته ورسالته، كالعصا واليد، وبقية الآيات التّسع: وهي الطوفان والجراد والقمّل والدّم والضّفادع، وفرق البحر، والسّنون (القحط) ولم تزدهم تلك الآيات إلا توغلا في الشّرك والوثنية، ولم تشكروا نعمة الله، وإنما على العكس قابلتموها بالجحود والإنكار، واتّخاذ العجل إلها معبودا من دون الله، والعجل: هو الذي صنعه لهم السّامري من حليّهم التي أخذوها من مصر، وجعلوه إلها يعبد، وهم ظالمون كافرون بوضع الشيء في غير موضعه، وأي ظلم أعظم من الإشراك بالله تعالى؟! واذكر أيها النّبي لليهود وقت أن أخذ الله على أصولهم العهد بأن يعملوا بما في التوراة، ويأخذوا بما فيها بقوة، فخالفوا الميثاق وأعرضوا عنه، حتى خوّفهم الله برفع جبل الطور فوقهم كأنه مظلّة إرهابا لهم، فقبلوه، ثم خالفوه، وقالوا: سمعنا وعصينا، ثم أوغلوا في المخالفة ووقعوا في الشّرك، واتخذوا العجل إلها، وخالط حبّه
قل أيها النّبي لليهود: إذا صدقتم في ادّعائكم أن الآخرة والجنة لكم خالصة عند الله من دون الناس، وأن النار لن تمسّكم إلا أياما معدودات، وأنكم شعب الله المختار، فاطلبوا الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص الدائم الذي لا ينازعكم فيه أحد، إذ لا يرغب الإنسان عن السعادة ويختار الشقاء. قال ابن عباس: ولو تمنّوا الموت لشرق أحدهم بريقه. أخرج ابن جرير الطبري عن أبي العالية قال: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، فأنزل الله: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً.. [البقرة: ٢/ ٩٤].
ولن يتمنى الموت أحد منهم أبدا، بسبب ما اقترفوا من الكفر والفسوق والعصيان، كتحريف التوراة، وقتل الأنبياء والأبرياء، وإنكار رسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلم، مع البشارة به في كتابهم، والله يعلم أنهم ظالمون في حكمهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم.
وتالله لتجدن اليهود أحرص الناس على حياة طويلة، بل وأحرص من جميع الناس، حتى المشركين بالله، فإن أحدهم يتمنى أن يعيش ألف سنة أو أكثر- والعرب تضرب الألف مثلا للمبالغة في الكثرة- لأنه يتوقع عقاب الله في الآخرة، فيرى أن الدنيا خير من الآخرة، وما بقاؤه في الدنيا وإن طال بمبعده عن العذاب الأليم، والله عليم بما يصدر عنهم من أعمال، ومجازيهم عليه.
قل أيها النّبي: من كان عدوّا لجبريل، فهو عدوّ لوحي الله الذي يشمل التوراة وغيرها، فإن الله نزله بالوحي والقرآن على قلبك أيها النّبي بإذن الله وأمره، مؤيدا
أخرج الترمذي أن اليهود قالوا للنّبي صلّى الله عليه وسلم: إنه ليس نبي من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربّه بالرّسالة والوحي، فمن صاحبك حتى نتابعك؟ قال:
جبريل، قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال، ذاك عدوّنا! لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر والرحمة تابعناك، فأنزل الله الآية، إلى قوله: لِلْكافِرِينَ.
من كان عدوّا لله بمخالفة أوامره، وعدم إطاعته، وللملائكة بكراهة العمل بما ينزلون به من وحي، وعدوّا للرّسل الكرام بتكذيبهم في رسالاتهم، وعدوّا لجبريل وميكائيل، بادّعاء أن جبريل يأتي بالإنذارات، فإن الله عدوّ لكل كافر، ومجازيه.
كفر اليهود بالقرآن ونقضهم العهد واشتغالهم بالسّحر
من عادات اليهود واعتقاداتهم، بالإضافة لما سبق، التكذيب بآيات الله ومنها القرآن الكريم، وترك الوفاء بالعهود أو المعاهدات، وتكذيب الرّسل، والإعراض عن القرآن، كما أنهم يشتغلون بالسّحر والشّعوذة والطّلاسم، مما يدل على تجاوز الدين الحق والمبادئ الصحيحة، وهذا ما أثبته القرآن الكريم في الآيات التالية:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٩ الى ١٠٣]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)
«١»
تالله لقد أنزلنا إليك أيها الرسول آيات ودلائل واضحات تدلّ على صدق رسالتك، ولا يكفر بها إلا المتمرّدون على آياتها وأحكامها من الفسقة المتجاوزين الحدود، والذين استحبّوا العمى على الهدى، حسدا وعنادا ومكابرة.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن عبد الله بن صوريا قال للنّبي صلّى الله عليه وسلم: يا محمد، ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بيّنة، فأنزل الله في ذلك:
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ.
إنهم كفروا بالله، وكلما عاهدوا عهدا مع الله، أو مع رسول الله، نقضه فريق منهم، بل نقضه أكثرهم ولم يوفوا به، وأكثرهم لا يؤمنون بالتوراة، وليسوا من الدين في شيء، ولن يؤمنوا بالقرآن ونبي الإسلام.
وسبب نزول هذه الآية: أن مالك بن الصيف حين بعث رسول الله، وذكر ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم في محمد قال: والله ما عهد إلينا في محمد، ولا أخذ علينا ميثاقا، فأنزل الله تعالى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا.. الآية.
(٢) اختبار وابتلاء.
(٣) نصيب من الخير.
واتبع فريق من أحبار اليهود وعلمائهم الذين نبذوا التوراة، السّحر والشّعوذة في زمن ملك سليمان، لأن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، ويضمون إليه أكاذيب، ثم يلقنونها الكهنة، فيعلّمونها الناس، ويقولون: هذا علم سليمان، وقام ملك سليمان بهذا. فردّ الله تعالى عليهم بأن سليمان ما فعل ذلك، وما عمل سليمان بالسّحر، ولكن الشياطين هم الذين كفروا باتّباع السّحر وتدوينه وتعليمه الناس على وجه الإضرار والإغواء، ونسبته إلى سليمان على وجه الكذب وجحد نبوته.
قال ابن إسحاق: قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد، يزعم أن سليمان كان نبيّا، والله ما كان إلا ساحرا، فأنزل الله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ.
ويعلمونهم ما أنزل على الملكين ببلدة بابل (في العراق في أرض الكوفة) والملكان:
بشران صالحان قانتان، صاحبا هيبة ووقار يجلّهما الناس وشبّهوهما بالملائكة، وهما هاروت وماروت.
وكان هذان الرجلان الملكان يعلّمان الناس السّحر الذي كثرت فنونه الغريبة في عصرهم، وكانت معرفتهم بالسّحر بالإلهام دون معلم، وهو المقصود بالإنزال، وما ألهموا به كان من جنس السّحر، لا عينه.
وكان هذان الملكان يتبعان في تعليم السّحر طريق الإنذار والتحذير، فلا يعلّمان أحدا من الناس، حتى يقولا له: إنما نحن ابتلاء واختبار من الله، فلا تعمل بالسّحر وإلا كنت كافرا، وذلك حفاظا على حسن اعتقاد الناس فيهما.
ومن تعلم السّحر وعمل به، فإنه يتعلم ما يضرّه ولا ينفعه، لأنه سبب في إضرار الناس، ولأنه قصد الشّر، فيكرهه الناس لإيذائه، ويعاقبه الله في الآخرة لإضرار غيره، وإفساده المصالح.
وتالله لقد علم اليهود بأنّ من ترك كتاب الله، وأهمل أصول الدين وأحكام الشريعة التي تسعد في الدارين، واستبدل به كتب السّحر، ليس له في الآخرة إلا العذاب، وكأن هذه عملية بيع الآخرة بالدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب من الخير.
ولبئس ما باعوا به أنفسهم باتخاذ السّحر محل التوراة، فهم جهلة لا يعلمون حرمة السّحر علما صحيحا.
ولو أن اليهود آمنوا الإيمان الحق بالتوراة، وفيها البشارة بنبي آخر الزمان، وآمنوا بالقرآن، وتركوا كتب السّحر والشّعوذة، واتّقوا الله بالمحافظة على أوامره واجتناب نواهيه، لاستحقّوا الثواب العظيم من عند الله، جزاء على أعمالهم الصالحة، وهو خير لهم لو كانوا يعلمون العلم الصحيح النافع.
اليهود قوم مخادعون، يتلاعبون بالألفاظ، وينشرون الأذى على الناس كما تنشر الأفعى سمومها، ويحقدون على الآخرين، ولا سيما العرب، وكانوا يتوقعون أن يكون نبي آخر الزمان منهم، فلما بعث من العرب عادوه وآذوه. وقد حذّر القرآن الكريم المؤمنون من محاكاة ألفاظهم واتّباع أساليبهم، وهذا ما صرّحت به الآيات التالية:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ١٠٤- ١٠٥].
قال ابن عباس في رواية عطاء: وذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها، فلما سمعهم اليهود يقولونها للنّبي صلّى الله عليه وسلم أعجبهم ذلك، وكان قول (راعنا) في كلام اليهود سبّا قبيحا، فقالوا: إنا كنا نسبّ محمدا سرّا، فالآن أعلنوا السّبّ لمحمد، فإنه من كلامه، فكانوا يأتون نبي الله صلّى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد راعنا، ويضحكون، ففطن بها رجل من الأنصار، وهو سعد بن معاذ، وكان عارفا بلغة اليهود، وقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، والذي نفس محمد بيده، لئن سمعتها من رجل منكم لأضربنّ عنقه، فقالوا: ألستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا الآية.
كان اليهود يستعملون كلمة (راعنا) بقصد السّبّ ونسبة الجهل والحمق للمخاطب، وكانوا يقولون إذا ألقى عليهم النّبي صلّى الله عليه وسلم شيئا من العلم: راعنا سمعك،
(٢) انظر إلينا أو انتظرنا وتأنّ بنا.
واسمعوا أيها المؤمنون القرآن سماع قبول وتدبّر وإمعان، وللكافرين ومنهم اليهود عذاب مؤلم شديد. وهذا دليل على أن ما صدر منهم من سوء أدب في خطاب النّبي صلّى الله عليه وسلم كفر، لأن من يصف النّبي بأنه (شرير) فقد أنكر نبوّته، فصار هذا أدبا للمؤمنين، وتشنيعا على اليهود.
واحذروا أيها المؤمنون خبائث اليهود وألوان مكرهم وكيدهم، فما يودّ أهل الكتاب ومشركو العرب أن ينزل عليكم من خير، من ربّكم، كالقرآن والرّسالة النّبوية، والكتاب الكريم أعظم الخيرات، فهو الهداية العظمى، وبه جمع الله شملكم ووحّد صفوفكم، وطهّر عقولكم من زيغ الوثنية، وأقامكم على سنن الفطرة، وهم يودّون نزول الشّر بكم، وانتهاء أمركم، وزوال دينكم.
وحسد الحاسد لا يمنع نعم الله، والله العليم القدير الحكيم يختص بالنّبوة والرحمة والخير من يشاء من عباده، لقوله تعالى في آية أخرى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: ٦/ ١٢٤] ويعلم من يؤدي واجبه بشأنها خير أداء، فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا على خير أصابه، وفضل أوتيه من عند ربّه، فالله وحده صاحب الفضل العظيم.
قال المفسّرون في بيان سبب نزول هذه الآية: إن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم، قالوا: هذا الذي تدعوننا إليه، ليس بخير مما نحن عليه، ولوددنا لو كان خيرا، فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم.
نسخ بعض الأحكام الشرعية في حال حياة النّبي
هناك طائفة قليلة من الأحكام الشرعية قررت لزمان معين وظرف محدد، ثم نسخت وأبطلت، مراعاة لمصالح الناس، وانسجاما مع ظروف التطور والتبدل التي تطرأ على المجتمع، وتذكيرا بنعمة الله حيث ينتقل بالتشريع من حكم إلى حكم أفضل، ويتدرج بالناس تبعا للظروف والأحوال، فلم يكن النسخ لجهل المشرّع الحكيم بالحكم الأخير الذي يستقرّ تشريعا دائما إلى يوم القيامة، وإنما يعالج الشّرع الأمور حسبما تقتضي الحكمة ويلائم الأوضاع والحاجات الآنية والمستقبلية، والله وحده هو القادر على كل شيء، فيقرر حكما لفترة زمنية محددة، ثم يقرر حكما آخر لترويض المكلفين وإعدادهم لتحمّل التكليف تدريجا. قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٧]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧)
«١» «٢» «٣» [البقرة: ٢/ ١٠٦- ١٠٧].
ثم ردّ الله على اليهود الذين ينكرون وجود النسخ في الشريعة فقال:
(٢) نمحها من القلوب.
(٣) مالك أو متولّ لأموركم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٨]
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨)[البقرة: ٢/ ١٠٨].
أي بل أيها اليهود المنكرون للنّسخ أتريدون أن تطلبوا من رسولكم كما طلب آباؤكم اليهود من موسى عليه السّلام؟ فقد طلبوا منه أن يريهم الله جهرة. ومن يترك الثقة في القرآن ويشكّ في أحكامه، ويطلب غيرها فقد ضلّ السّبيل السّوي.
ومن أمثلة النّسخ في الشريعة: أن الصلاة شرعت أولا ركعتين بالغداة (صباحا) وركعتين بالعشي (مساء) رأفة بالناس ورحمة بهم، لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، ولم يكونوا قد تذوقوا حلاوة الصلاة، ولا عرفوا لذّة المناجاة فيها، فلما اطمأنّت نفوسهم بالصلاة، زادها الله على النحو التالي المعروف على حسب ما اقتضته الحكمة الإلهية العالية.
وأول ما نسخ من القرآن: القبلة، قال الله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق، ثم صرفه الله تعالى إلى البيت العتيق.
ومن أمثلة النّسخ: تحريم الخمر على مراحل أربع، فقد نفّر القرآن منها أولا بقوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النّحل: ١٦/ ٦٧] فوصف تناول العنب والتمر على سبيل التفكّه بالحسن، ولم يوصف الشراب المسكر بتلك الصفة. ثم وصف الله الخمر والميسر (القمار) بأن فيهما إثما كبيرا، وإن كان فيهما منافع مادّية تجارية ومكاسب رابحة، ثم منع الله السّكارى من الصلاة حال السّكر، ثم حرّم الله الخمر تحريما قاطعا دائما إلى يوم القيامة.
وكانت عقوبة الزّانيات الحبس في البيوت حتى الموت، وعقوبة الزّناة التعيير
ولما كان عدد المسلمين في بدء الإسلام قليلا، وهم ضعاف لا يقوون على قتال المشركين، أمروا بالعفو والصفح، والصبر على الأعداء والإعراض عنهم، وترك مقاتليهم، حسبما تقتضي المصلحة، قال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) [الأعراف: ٧/ ١٩٩].
ثم شرع الله القتال وأباح الجهاد للدفاع عن النفس وحرمات الإسلام، وإدراك لذّة النصر والظفر، قال الله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) [الحج: ٢٢/ ٣٩].
موقف أهل الكتاب من المؤمنين ومن بعضهم بعضا
لا يقتصر اليهود على كراهية العرب والشعوب الأخرى، وإنما يتمنّون أن يرتدّ المسلمون عن دينهم، وأن يعودوا لفوضويّتهم وضلالاتهم، وقالوا: لن يدخل الجنة إلا هم، وقابلهم النصارى بالمقولة نفسها بأنه لن يدخل الجنة إلا هم. وطعن كل من اليهود والنصارى بالآخرين، ونفوا أن يكون كل فريق على شيء صحيح من الدين، ونحو ذلك من الاتهامات المتبادلة، وإنكار الثقافات الأخرى. وهذا ما قررته الآيات التالية:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٩ الى ١١٣]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)
تمنّى كثير من اليهود والنصارى أن يصرفوا المسلمين عن دينهم، وأن يعودوا كفّارا بعد أن كانوا مؤمنين، حسدا لهم، عن طريق التشكيك في الدين، وإلقاء الشبهات على المؤمنين، وطلب بعضهم من بعض أن يؤمنوا أول النهار، ويكفروا آخره، ليتأسى بهم ضعاف الإيمان.
فاعفوا أيها المسلمون واصفحوا عن أفعالهم، واصبروا حتى يأتي نصر الله لكم، ويأذن الله بالقتال، ويأتي أمره فيهم: وهو قتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير، والله هو القادر على تحقيق النصر.
قال ابن عباس: نزلت في نفر من اليهود قالوا للمسلمين بعد أحد: ألم تروا إلى ما أصابكم، ولو كنتم على الحق، ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا، فهو خير لكم.
ومن أهم موجبات النصر: أداء الصلاة على وجه التمام والكمال، وإيتاء الزكاة للمستحقين، وتقديم الخير، فكل ما تعملونه من خير، تجدون جزاءه الوافي عند ربّكم، والله عالم بجميع أعمالكم، بصير بقليلها وكثيرها، لا تخفى عليه خافية، من خير أو شرّ، فالصلاة والزكاة من أهم أسباب النصر في الدنيا، وكذلك من أسباب السعادة في الآخرة.
(٢) متمنياتهم الباطلة.
(٣) أخلص القصد والعبادة لله تعالى.
ثم ردّ الله تعالى عليهم بقوله: (بلى) جوابا لإثبات نفي سابق، وردّا لما زعموه، فإن الذي يدخل الجنة: هو كل من انقاد لله تعالى، وأخلص في عمله، وهو محسن في عبادته وعمله واعتقاده، وهؤلاء لهم الأجر عند ربّهم، بلا خوف ولا حزن في الآخرة، خلافا لعبدة الأوثان والأصنام الذين هم في خوف مما يستقبلهم، وحزن مما ينزل بهم.
وحدث الخصام بين أهل الكتاب، فلم يكتفوا بما سبق، بل قالت اليهود: ليست النصارى على شيء من الدين يعتدّ به، فلا يؤمنون بالمسيح الذي بشرت به التوراة، والمسيح المبشّر به لمّا يأت بعد، وينتظرون ظهوره، وإعادته الملك لشعب إسرائيل.
وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء من الدين الصحيح، فأنكروا كون المسيح متمما لشريعة اليهود. قالوا ذلك، والحال أنهم أصحاب كتاب، يدّعون تلاوته ويؤمنون به، وقال المشركون الوثنيون الذين لا يعلمون شيئا مثل هذا القول لأهل كل دين: لستم على شيء، والله يحكم بين الجميع يوم القيامة، بقضائه العدل، فيما اختلفوا فيه، وتنازعوا في شأنه.
نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة، ونصارى أهل نجران، وذلك أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود، فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بعيسى والإنجيل، وقالت لهم النصارى: ما أنتم على شيء من الدين، فكفروا بموسى والتوراة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
دأب اليهود على الاعتداء على حرمات المساجد وترويع المصلّين الآمنين ومحاولة هدمها من قديم، فلم تكن محاولتهم إحراق المسجد الأقصى في ٢١ آب سنة ١٩٦٩ م والحفريات حوله منذ عام ١٩٤٨ أمرا جديدا، فهم يريدون تدمير كل معالم الإسلام، وصروحه ومبانيه لتهويد المناطق العربية الإسلامية، ومنع أداء الصلاة في المساجد، كما فعل مشركو العرب في مبدأ الدعوة الإسلامية، حيث منعوا النّبي وأصحابه من دخول مكة ومن ذكر الله تعالى في المسجد الحرام، وقد غزا بختنصّر والروم فلسطين وخرّبوا بيت المقدس، وأغار الصليبيون على بيت المقدس وغيره من بلاد المسلمين والعرب، وصدوا المسلمين عن المسجد الأقصى، وخرّبوا كثيرا من المساجد، واستمر اليهود في تخريب المساجد في فلسطين بعد الاحتلال، مع أنه ليس هناك ظلم أكبر من تخريب المساجد ومنع الناس من الصلاة فيها، ولا أحد أظلم ممن منع ذكر الله في المساجد بأي طريق من الطرق، وسعى في تعطيلها عن القيام بوظائفها، وأولئك لهم الذّل والخزي في الدنيا، وفي الآخرة عذاب شديد عظيم.
قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)
«١» [البقرة: ٢/ ١١٤- ١١٥].
فإذا منع الناس من الصلاة في المساجد ففي أي مكان تصح الصلاة فيه، ويتم التوجه فيه إلى الله، فإن الله مع عباده، لا يحدّه مكان.
(راعنا) اسم فاعل من الرّعونة، وكان ذلك سبّا قبيحا عند اليهود، فقالوا: إنا كنّا نسبّ محمدا سرّا، والآن نعلن سبّه، فكانوا يأتون نبي الله صلّى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد راعنا، ويضحكون، ففطن بها رجل من الأنصار، وهو سعد بن معاذ، وكان عارفا بلغة اليهود، وقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، والذي نفس محمد بيده لئن سمعتها من رجل منكم لأضربنّ عنقه، فقالوا: ألستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) [البقرة: ٢/ ١٠٤].
وكان المسلمون إذا قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم، قالوا: هذا الذي تدعوننا إليه ليس بخير مما نحن عليه، ولوددنا لو كان خيرا، فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم:
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) [البقرة: ٢/ ١٠٥].
الادّعاءات الفارغة والافتراءات الكاذبة
الألوهية والربوبية صفتان تقتضيان الكمال المطلق والتّفرد الذاتي والقدرة الشاملة على كل شيء من الخلق والإبداع، والرزق والإنعام، والدقة المتناهية والإحكام، وذلك لا يعقل أن يتصف به بشر من جنس الناس لأنه عاجز مثلهم، وقاصر غير قادر، وناقص غير كامل، وإنما الذي يحق أن يوصف بهذه الصفات الفريدة هو الله جلّ جلاله الذي خلق فسوّى، وقدّر فهدى، وله جميع ما في السماوات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا، وتخضع لهيمنته وسلطانه كل شيء، أبدع السماء والأرض
ومن كان هذا شأنه، فلا يحتاج إلى الوالد والولد، ولا يشبهه شيء من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولا يوجد شيء من جنسه في الوجود، هو الله الواحد الأحد، الفرد الصمد (المقصود في الحوائج على الدوام) لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
هذا ما يقرره العقل الإنساني في أبسط محاكماته، فهل يعقل أن يتخذ هذا الإله ولدا له من خلقه؟ وهو خالق الخلق المتصف بالكمال والمنزه عن كل نقص، وهو الرّازق المنعم عليهم بجلائل المنعم وصغائرها، وإن أساؤوا له وجحدوا به،
روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ليس أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدا ويجعلون له أندادا «١»، وهو مع ذلك يعافيهم ويرزقهم».
لذا ارتكب بعض البشر خطأ كبيرا حين نسبوا إلى الله الولد، فهذا مجرد ادّعاء أجوف، وحين طلبوا أن يكلمهم الله مباشرة كما يكلم الملائكة وموسى عليه السّلام استكبارا منهم وعتوّا وعنادا، وطلبوا أن تأتيهم آية مادّية محسوسة استخفافا منهم بآيات القرآن البيّنات، فهذا من الافتراءات الكاذبة، تنزه الله عن طلبهم، وأبان الآيات أحسن بيان وأتمه، ولكن لا يفهمها إلا العقلاء المنصفون.
ردّ الله تعالى على هذه الادّعاءات الفارغة والافتراءات الواهية، فقال سبحانه:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٦ الى ١٢٠]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠)
«٢» «٣»
(٢) تنزيها له تعالى عن اتّخاذ الولد وكل ما لا يليق به. [.....]
(٣) منقادون خاضعون.
نزلت هذه الآيات في اليهود حين قالوا: عزير ابن الله، وفي نصارى نجران حيث قالوا: المسيح ابن الله، وفي مشركي العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله. أسأل الله الهداية لجميع البشرية وأن يوفقهم لما فيه خيرهم ونجاتهم. ثم أنزل الله في أصحاب السفينة الذين أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، كانوا أربعين رجلا من الحبشة وأهل الشام:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢١]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١)
[البقرة: ٢/ ١٢١].
ثم أكّد الله تعالى تذكير اليهود بالنعم التي أنعم بها عليهم، لتجديد ثقتهم ونشاطهم، وأمرهم بالخوف من الآخرة في قوله سبحانه:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٣]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)
«٤» «٥» [البقرة: ٢/ ١٢٢- ١٢٣].
أيها الإسرائيليون الجاحدون: اذكروا نعمي الكثيرة الدينية والدنيوية التي أنعمت بها عليكم وعلى آبائكم، من الإنقاذ من أيدي الأعداء، وإنزال المنّ والسّلوى، والتمكّن في البلاد بعد المذلّة والقهر، وإرسال الأنبياء والرّسل منكم، والتفضيل على عالمي زمانكم، حتى تطيعوا الرّسل، وتتركوا الضّلال.
(٢) أراد شيئا أو أحكم أمرا وحتّمه.
(٣) أحدث فيحدث.
(٤) عالمي زمانكم.
(٥) لا تقضي ولا تؤدي نفس.
خصائص البيت الحرام وتكريم أهله
رغّب القرآن الكريم قبيلة قريش وغيرها من أهل الكتاب بالإيمان برسالة النّبي صلّى الله عليه وسلم، وزجرهم عن الكفر والعصيان، ببيان فضائل البيت الحرام حيث جعله الله مثابة للناس (أي مرجعا ومآبا لهم) وقت الحج يجتمعون فيه ويتفرقون عنه، وجعله الله آمنا مطمئنا، من دخله كان آمنا، ويتخطف الناس من حوله، وأمر الله المسلمين أمر ندب لا وجوب باتخاذ مكان إقامة إبراهيم مصلّى مفضّلا على غيره في الصلاة لشرفه بقيام إبراهيم فيه. وأمر سبحانه إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت من الأوثان والأدناس والأرجاس لمن يطوف به، ويقيم عنده، ويركع فيه ويسجد.
ودعا إبراهيم ربّه أن يجعل مكة البلد الحرام في أمن وطمأنينة، وأن يرزق أهله أطيب الثمرات وأحسن خيرات الأرض، وخصّ إبراهيم طلب الرزق بالمؤمنين، فأجابه الرّب تعالى بأنه أيضا يرزق الكافر ويمتعه زمنا قليلا، ثم يلجئه إلى عذاب النار، قال الله تعالى مكافئا بالإمامة إبراهيم الذي كلفه بأداء تكاليف أدّاها خير أداء، ومبيّنا ما دعا لأهل مكة:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٦]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)
«١» «٢» «٣» «٤»
(٢) بأوامر ونواه.
(٣) أداهنّ على وجه الكمال.
(٤) مرجعا وملجأ.
ويلاحظ أن إبراهيم خصّ طلب الرزق بالمؤمنين، فأجابه الله بأنه يرزق الكافر أيضا ويمتّعه في الدنيا زمانا ثم يعذّبه في النار. وكان من دعاء إبراهيم عليه السّلام أثناء بنائه البيت الحرام مع ابنه إسماعيل أن يتقبّل الله منهما، وأن يجعلهما منقادين لله خاضعين له، ومخلصين، وأن يجعل من ذرّيتهما جماعة مخلصة منقادة، وأن يبصرهما بأسرار العبادة ومناسك الحج، وأن يقبل توبتهما، وأن يرسل في ذرية إبراهيم رسولا منهم يتميز بالصدق والأمانة، يتلو عليهم آيات الدين، ويعلمهم كتاب الله، والحكمة (وهي كل ما تكمل به النفوس من العلوم والمعارف وأحكام الشرع) وأن يطهرهما من رجس الوثنية والشرك، فإنك يا ربّ العزيز الذي لا يغلب، الحكيم في كل صنع، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٩]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)
«٤» «٥» «٦» [البقرة: ٢/ ١٢٧- ١٢٩].
قال النّبي صلّى الله عليه وسلم موضحا معنى هذه الآية الأخيرة: «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى
(٢) وصينا أو أوحينا.
(٣) أدفعه وأسوقه.
(٤) منقادين لأمرك. [.....]
(٥) عرفنا معالم حجّنا وشرائعه.
(٦) يطهّرهم من الشّرك والمعاصي.
وقد تحققت هذه الدعوة الكريمة من إبراهيم عليه السّلام، وكان النّبي صلّى الله عليه وسلم هو موضع تحقيق هذه الدعوة، وأهل الكتاب يعرفون ذلك، لولا بغيهم وحسدهم وظلمهم.
اتّباع ملّة إبراهيم عليه السّلام
كان أبو الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام على ملّة التوحيد الخالصة لله، وهي الملّة الحنيفية، وكان نبيّنا صلّى الله عليه وسلم قبل البعثة يتعبّد على ملّة إبراهيم، واستمر على اتّباع تلك الملّة بعد البعثة بأمر الله عزّ وجلّ في قوله: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً «١» وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) [النّحل: ١٦/ ١٢٣].
روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه: سلمة ومهاجرا إلى الإسلام، فقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيّا، اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة، وأبى مهاجر، فنزلت فيه الآية:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٢]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)
«٢» «٣» «٤» [البقرة: ٢/ ١٣٠- ١٣٢].
لقد أمر الله إبراهيم بالانقياد والطاعة لله، فما كان منه إلا أن أسرع بالانقياد والامتثال شأن المصطفين الأخيار، قال: أسلمت لله ربّ العالمين ومالك يوم الدّين.
(٢) جهلها وامتهنها وأهلكها.
(٣) اخضع.
(٤) دين الإسلام.
فهل يتبع اليهود آباءهم إبراهيم ويعقوب أو لا؟! ثم قال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٣]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)
[البقرة: ٢/ ١٣٣].
نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية. فرد الله تعالى عليهم:
ما كنتم أيها اليهود المكذبون بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلم حاضرين حين احتضر يعقوب، فلا تكذبوا عليه، فإني ما أرسلت إبراهيم وبنيه إلا بالحنيفية وهي ملة التوحيد والإسلام، وبه أوصوا ذرياتهم، بدليل أن يعقوب قال لأولاده: أي شيء تعبدون بعد موتي؟
فقالوا: نعبد إلهك الله الواحد وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ونحن له منقادون خاضعون لحكمه.
وقد ردّ الله على اليهود ادّعاءهم أنهم نسل الأنبياء وحفدتهم، فلا يدخلون النار إلا أياما معدودات، ومضمون الرّد أن كل إنسان مسئول مسئولية شخصية عن نفسه، والأمة الماضية لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، لا ينتفع بعملها أحد ولا يتضرّر: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [فاطر: ٣٥/ ١٨] فلا ينفع السابقين إلا عملهم، كذلك من بعدهم لا ينفعهم إلا عملهم، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٤]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)
«١» حدث مرة أن رؤوس يهود المدينة (كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأبو
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٥]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)
«١» [البقرة: ٢/ ١٣٥].
ثم أمر الله المؤمنين باتّباع جميع الأنبياء دون تفريق بين أحد منهم فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٦ الى ١٣٧]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)
«٢»
صبغة الله (شريعته وسنّته وفطرته)
أمر الله عزّ وجلّ المسلمين بأمرين أساسيّين جوهريّين وهما: أن يقولوا: إنما نؤمن بالله وكتبه ورسله، لا نفرّق بين أحد من رسله وكتبه، وأن يقولوا: صبغنا الله بصبغة الإيمان والدين الذي فطر الناس عليه، وبتطهير النفوس من أدران الوثنية والشرك، والرياء والأحقاد والضغائن، فالمسلم يعلن التزامه بوحدانية الله دين الفطرة، ويصفي نفسه من كل ما يؤدي إلى زرع الحقد والضغينة في القلوب، فهو
(٢) أولاد يعقوب وأحفاده.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٨]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨)
«١» [البقرة: ٢/ ١٣٨].
ثم أمر الله نبيّه بأمر خاص به: وهو أن يقول لأتباع الأديان الأخرى الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحبّاؤه، وادّعوا أنهم أولى بالله من المسلمين، لقدم أديانهم وكتبهم: أتجادلوننا في دين الله، والدين واحد، وتدّعون أن دينه الحق ما أنتم عليه، وتظنون أن دخول الجنة والاهتداء مقصور عليكم، فالله ربّ الجميع، ودخول الجنة مرتبط بالأعمال الصالحة الصادرة من أي إنسان دون تعصب ولا تفريق ولا حجر على فضل الله ورحمته، الله ربّنا وربّكم، لا فرق بيننا وبينكم في العبودية لله، فهو مالك أمرنا وأمركم، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم الحسنة والسّيئة، ونحن لله مخلصون في تلك الأعمال، لا نقصد بها إلا وجهه، فكيف تدّعون أن لكم الجنة والهداية دون غيركم؟
قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٩]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)
[البقرة: ٢/ ١٣٩].
ثم حدّد القرآن هوّية الأنبياء السابقين، وأنهم يلتقون مع خاتم النّبيّين على دعوة واحدة هي دعوة التوحيد الخالص لله عزّ وجلّ، وعبادة الله وحده، والعمل بالفضائل، والبعد عن الرّذائل، وكل أمة مسئولة عن أعمالها الحسنة والسيئة، والجيل المتأخر لا يسأل عن أعمال الجيل المتقدم، ولا داعي للافتخار بالآباء والاتّكال على الماضي، فهذا شأن العاجز الضعيف الذي ينظر إلى الماضي، ولا يتّجه إلى المستقبل. وأما العاقل فهو الذي يبني مجده بنفسه، وينجز الأعمال الطيّبة بذاته، ويعيش عصاميّا معتمدا على ما يقدم، لا عظاميّا يعيش على أمجاد غيره. هذا طريق
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٠ الى ١٤١]
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
«١» [البقرة: ٢/ ١٤٠- ١٤١].
إذا كان الآباء أولياء وأصفياء، أو عظماء وعباقرة، وأنت الوارث لم تعمل شيئا، أفينفعك هذا أم لا؟ إن مبدأ الإسلام واضح معروف وهو:
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) [النّجم: ٥٣/ ٣٩- ٤٠].
وسطية الإسلام
الإسلام وسط بين أمرين، فلا تشديد فيه ولا تساهل، ولا إفراط ولا تفريط، ولا غلو فيه ولا تعصب ولا تهاون، يقرن في تشريعه بين المادة والروح ويحرص على التوازن وتحقيقه في جميع الأمور، فيشرع ما يحقق التواءم والانسجام بين مطالب الروح ومطالب الجسد، ويقيم التوازن بين مصالح الفرد والجماعة، فلا رهبانية في الإسلام، ولا تضييع لمصلحة الفرد والأمة.
والمسلمون أمة وسط عدول خيار، بلا إفراط ولا تفريط في أي شأن من شؤون الدنيا والدين، جاء في الأثر ومعناه صحيح ثابت في الكتاب والسّنة:
(خير الأمور أوساطها)
أي خيارها، وقد أهّلت هذه الوسطية المسلمين العدول أن يكونوا شهداء
روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء عليهم السلام لهم برسالة الله والتوحيد، فيطالب الله الأنبياء بالبيّنة على أنهم قد بلّغوا- والله أعلم بكل شيء- فيؤتى بأمة محمد العدول، فيشهدون، وتقول الأنبياء: أمة محمد تشهد لنا، فتقول الأمم لهم: من أين عرفتم ذلك؟ فيقولون: عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق، على لسان نبيّه الصادق، فيؤتى عند ذلك بالنّبي صلّى الله عليه وسلم، ويسأل عن حال أمته، فيزكّيهم، ويشهد لهم، وذلك قوله تعالى:
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) [النّساء:
٤/ ٤١].
ويقول الله للأمة الإسلامية العادلة: كيف شهدتم على ما لم تحضروا؟ فيقولون:
أي ربّنا جاءنا رسولك، ونزل إلينا كتابك، فنحن نشهد بأنك عهدت إلينا، وأعلمتنا به، فيقول الله تعالى: صدقتم.
وهذا معنى قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «١» لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: ٢/ ١٤٣].
وردت هذه الآية بين آيتين تدلان على مقدمات تحويل القبلة، لأن صلاة المسلمين أولا إلى بيت المقدس ثم تحويلهم إلى الكعبة المشرفة، دليل على هذا التوسط والجمع بين أحكام الدين قديمه وجديدة، والربط بين مشاعر المؤمنين الأولين والمتأخرين، فالدين واحد لله تعالى، والجهات كلها ملكه، فلا اختصاص لناحية دون أخرى، ولا مزية لها، وإنما الأمر بيده يختار ما يشاء، فأينما تولوا فثم وجه الله، قال الله
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٢]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)
«١» [البقرة: ٢/ ١٤٢].
ثم بعد أن ذكر تعالى في الآية التالية مزية وسطية المسلمين والإسلام، قال مبيّنا الحكمة من التّوجه إلى الكعبة:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٣]
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)
«٢» «٣» «٤» [البقرة: ٢/ ١٤٣].
ومعنى الجزء الأخير من الآية بيان قاطع بقبول عبادة الذين ماتوا قبل تحويل القبلة، ردّا على المرجفين القائلين: ما حال المسلمين قبل التحويل، وكيف نحكم على صلاتهم وإيمانهم؟ فأجابهم الله بأنه يقبل صلاتهم وثباتهم على الإسلام، ولا يضيع أعمالهم وعبادتهم، لأن الله بالناس رؤف رحيم بهم.
حكمة تحويل القبلة
بيّنا في حديث سابق أن النّبي صلّى الله عليه وسلم، كان يتشوّف لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، لتثبيت ذاتية الإسلام، ولأنها قبلة أبيه إبراهيم، ولأنها أدعى إلى إيمان العرب المعوّل عليهم في نشر الرسالة، ولا يعد تطلّعه إلى تحويل القبلة متعارضا مع أمر ربّه لأن صفاء روحه وقوة يقينه يجعله يتطلع إلى ما يظنه خيرا، ويعتقد أن فيه الرّضا والخير والمصلحة، لذا أجابه الله إلى طلبه، فقال:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٤]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤)
(٢) يرتدّ عن الإسلام عند تحويل القبلة. [.....]
(٣) لشاقة ثقيلة على النفوس.
(٤) أي صلاتكم المسببة عن الإيمان إلى بيت المقدس.
ثم ذكر الله تعالى سبب الفتنة وإعراض أكثر أهل الكتاب عن الإسلام وإيمان بعضهم فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٧]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)
«٢» [البقرة:
٢/ ١٤٥- ١٤٧].
ولئن جئت اليهود والنصارى بكل برهان وحجة على أن الحق وهو تحويل القبلة من ربّهم، أملا في اتّباع قبلتك، ما اقتنعوا ولا صدّقوا به، ولا اتّبعوك، عنادا منهم ومكابرة، فهم لن يتبعوا قبلتك، ولست أنت بتابع قبلتهم بعد اليوم، قطعا لأطماعهم في الاتجاه إلى بيت المقدس، وكيف يرجى ذلك؟ فهم ليست لهم قبلة واحدة، ولئن اتّبعت أهواءهم أيها النّبي، مداراة لهم، وحرصا على اتّباعك والإيمان بك، بعد ما جاءك من الحق الثابت والعلم القاطع: وهو الدلائل الدّالة على اليقين، لتكونن من الظالمين أنفسهم، المستحقّين للعقاب في الدنيا والآخرة.
والدليل على أن أهل الكتاب يعرفون الحق: أنهم يعرفون النّبي صلّى الله عليه وسلم بما بشّرت به كتبهم، وذكرته من صفات لا تنطبق على غيره، فهم يعرفون النّبي صلّى الله عليه وسلم كمعرفتهم التامة بأبنائهم، وإن فريقا منهم عاندوا وكتموا الحق الواضح الذي يعلمونه من
(٢) الشّاكّين في كتمانهم الحق مع العلم به.
عبد الله بن سلام وأصحابه، كانوا يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنعته وصفته وبعثه في كتبهم، كما يعرف أحدهم ولده، إذا رآه مع الغلمان.
ثم أبان الله تعالى أن لكل فريق من الأمم قبلة هو موليها، فلليهود قبلة، وللنصارى قبلة، وللمسلمين قبلة، فليس هناك جهة واحدة قبلة لكل الأمم، وليست القبلة ركنا من أركان الدين، وإنما المهم هو وجود التسابق إلى الخيرات، وإعلان الإيمان بما أنزل الله، واحترامه والدفاع عنه، سواء نزل في شريعة قوم أم في شريعة أخرى، فقال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٨ الى ١٤٩]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩)
[البقرة: ٢/ ١٤٨- ١٤٩].
ثم بيّن الله تعالى ثلاث حكم لتحويل القبلة، الحكمة الأولى: لئلا يحتج أحد على الله، فأهل الكتاب يعرفون أن النّبي المبشّر به عندهم، قبلته الكعبة، فجعل القبلة إلى البيت المقدس دائما على مدى الزمان طعن في نبوّته. وكان المشركون العرب يرون أن نبيّا من ولد إبراهيم عليه السّلام جاء لإحياء ملّته، فلا يعقل أن يتّجه إلى غير قبلته وبيت ربّه الذي بناه إبراهيم، فكان التحويل متفقا مع ما يرى كلا الفريقين: أهل الكتاب والمشركون. ثم استثنى الله سبحانه الذين ظلموا أنفسهم، فهم سفهاء لا يهتدون بكتاب، ولا يقتنعون بحجة وبرهان، وهؤلاء لا يخشاهم أحد، لأن الخشية تكون لأصحاب الحق والمنطق السليم.
والحكمة الثالثة: إعداد المسلمين بتحويل القبلة للاهتداء إلى الطريق الأقوم، والثبات على الحق، وقبول ما يريده الله.
قال الله تعالى مبيّنا هذه الحكم الثلاث:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٠]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)
[البقرة: ٢/ ١٥٠].
ثم ذكّر الله تعالى المؤمنين بأن إتمام نعمته عليهم بتحويل القبلة، كإتمام نعمته بإرسال رسول من العرب يتلو عليهم القرآن بلسان عربي مبين، فقال سبحانه:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥١ الى ١٥٢]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)
«١» [البقرة:
٢/ ١٥١- ١٥٢].
الصّبر والقتل في سبيل الله
يتعرّض دائما أهل الحق والفضيلة والدين لإيذاء غيرهم واعتداء أعدائهم عليهم بقصد تغليب الشّر على الخير، ونصرة الفساد على الصلاح، والضّلال على الهدى،
أما الصبر فهو نصف الإيمان، ودرع أهل العزيمة والإرادة القوية، وهو طريق النصر والغلبة والفلاح، والله أكّد في آيات كثيرة أنه مع الصابرين، يؤيدهم بولايته ورعايته، وينصرهم بتوفيقه وتثبيته، ويجيب دعاءهم، ويعزّز موقفهم ويحميهم من الأذى.
وأما الصّلاة والاستعانة بها فلأنها أمّ العبادات، وصلة العبد بالله تعالى، وطريق الفرج بعد الكرب، واليسر بعد العسر، وهي تعصم المؤمنين من الانحراف، وتهذّب النفوس، وتنهى أصحابها الخاشعين فيها عن الفحشاء والمنكر.
وأما القتال في سبيل الله فهو طريق الحفاظ على الحقوق، والظفر بالجنة والشهادة، وأساس تحقيق المجد والعزة والكرامة واستقلال الأوطان، وصدّ عدوان المعتدين، واسترداد الحقوق المغتصبة كاغتصاب الصهاينة بلاد فلسطين العزيزة. وقد صحح القرآن الكريم مفاهيم الناس عن الشهداء، فهم خالدون على مدى التاريخ، ولهم الدرجات العليا عند الله تعالى. لما قتل بضعة عشر رجلا من قتلى بدر، ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين، كان الناس يقولون للرجل يقتل في سبيل الله:
مات فلان، وذهب عنه نعيم الدنيا ولذّتها، فأنزل الله في قرآنه بيانا قاطعا بأن الشهداء أحياء في قلوب الناس والتاريخ، وأحياء في قبورهم، وأرواحهم الطاهرة في حواصل طير خضر تعلق من ثمر الجنة. وجمع الله في آيات خمس بين الصبر والصلاة والاستشهاد في سبيل الله، فقال سبحانه:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٣ الى ١٥٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)
أخبر الله بأن المؤمنين يتعرضون للمصاب بشيء قليل من الخوف والجوع ونقص الأموال بضياعها، والأنفس بموتها، والثمرات بقلّتها، لتهدأ القلوب وتسكن، وتستسلم إلى الله، راضين بقضائه وقدره إذا ما أصابهم شيء من ذلك في الدنيا، محتسبين الأجر والثواب عند الله، قائلين: إنا لله وإنا إليه راجعون. والصابرون يوفون أجورهم بغير حساب، والشهداء تنزل عليهم المغفرة والرحمة من ربّهم الذي ربّاهم وتولّى أمورهم، وأولئك هم المهتدون إلى الأفعال النافعة وخير البلاد والوطن.
السّعي بين الصّفا والمروة وحكم كتمان آيات الله
من المعلوم أن السّعي بين الصّفا والمروة من شعائر الحج ومناسكه، وهو ركن لدى بعض الفقهاء
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم وغيره: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السّعي».
وهو أيضا من أعمال العمرة، فمن قصد البيت الحرام للحج أو العمرة، فلا إثم عليه أن يسعى بين الصّفا والمروة، ويسنّ أن يدعو الله متّجها إلى الكعبة، ويرتفع الحاجّ والمعتمر فوق الصّفا الذي كان عليه في الجاهلية صنم على صورة رجل يقال له: (إساف) وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى (نائلة). زعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة، فمسخهما الله تعالى حجرين، ووضعهما على الصّفا والمروة
(٢) ثناء ومغفرة من الله تعالى.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٨]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)
«١» «٢» «٣» [البقرة: ٢/ ١٥٨].
وقد فهم عروة بن الزبير خطأ أن السّعي بين الصّفا والمروة غير مطلوب شرعا، فقال لخالته عائشة رضي الله عنها: «أرأيت قول الله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: بئس ما قلت يا بن أختي، إنها لو كانت على ما أوّلتها عليه، كانت (فلا جناح عليه أن لا يطّوف بهما) ولكنها إنما أنزلت لأن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلّون لمناة الطاغية «٤»، وكان من أهلّ لها يتحرّج أن يطوف بالصّفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرّج أن نطوف بالصّفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ إلى آخر الآية.
ثم بيّن الله تعالى جزاء أحبار اليهود وأمثالهم على كتمان ما أنزل الله وإخفائه على الناس مع شدة الحاجة إليه، أو وضع شيء مكذوب من عندهم مكانه، وذلك الجزاء هو الطّرد من رحمة الله وغضب الله عليهم، إلا من تاب منهم ورجع عن كتمان كلام الله، وأصلح ما أفسده بأن أزال ما وضعه من عنده، وأعلن الأصل الصحيح،
(٢) زار البيت الحرام.
(٣) يكثر الطواف والسعي بينهما.
(٤) أي يرفعون صوتهم بإحرامهم ملبّين بحجّ أو عمرة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٩ الى ١٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
«١» «٢» «٣» «٤» [البقرة: ٢/ ١٥٩- ١٦٢].
وهذا حكم عام في كل من كتم حكما شرعيّا أو علما نافعا، أو رأيا خالصا لوجه الله ولمصلحة الوطن لأن كتمان المعارف والعلوم خيانة للأمة والمجتمع.
وحدانية الله ورحمته وبرهان ذلك
أقام الله تعالى الأدلة الكثيرة على وحدانيته ورحمته وفضله، بما لا يدع مجالا للشّك والشّبهة، ويعرف العقلاء المتأملون فيها صحة البراهين وصدق الأدلّة. قال عطاء: أنزلت بالمدينة على النّبي صلّى الله عليه وسلم:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٣]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)
فقالت كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٤]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
«٥» [البقرة: ٢/ ١٦٤].
(٢) أي الملائكة والناس جميعا.
(٣) أي لم يتوبوا وعاندوا، وظلّوا يغيّرون، ويحرّفون حتى الموت. [.....]
(٤) يؤخّرون لحظة عن العذاب.
(٥) تقليبها في مهابّها
أرشدت آية التوحيد السابقة إلى أن الإله الذي يعبد هو واحد لا شريك له، فلا معبود بحق في الوجود إلا هو، وهو الرّحمن الرّحيم بخلقه، اللطيف بعباده، الذي يتولى شأن مخلوقاته من النشأة أو الولادة إلى العدم أو الموت. ولا يدرك عظمة الله ورحمته إلا إنسان عاقل يدرك مدى عجزه وحاجته إلى ربّه، فإذا كان المريض يسعد سعادة عظمي بمساعدة غيره من الأطباء والممرضات، فكيف بعون الله ورعايته للإنسان في كل لحظة وثانية من لحظات وثواني العمر المديد، وفي تقلّبات الحياة الخطيرة الرّهيبة.
وأدلّة وحدانية الله ورحمته ملموسة واضحة في الكون المشاهد، ألم ير الإنسان أن الله هو الذي خلق السموات وما فيها من عوالم وأفلاك، وكواكب ومجرّات، ذات نظام دقيق، تسير في مداراتها دون تصادم مع غيرها بقدرة الله الذي أودع فيها ما يسمى بالجاذبية؟
والله هو الذي خلق الأرض وما فيها من إنسان وحيوان ونبات، ومعادن وأنهار وجبال ووديان، تسير فينا كأننا في سفينة، وتدور بنظام محكم، لا اضطراب فيه، مما يدلّ على وحدانية الله ورحمته الواسعة. والله الذي أوجد الليل والنهار، وجعلهما متعاقبين، متفاوتين طولا وقصرا على مدى العام، ومختلفين برودة وحرارة، وحركة وهدوءا، وأوجد فصول السّنة، مما يدلّ على وحدانية الرّحمن الرّحيم.
والله الذي ألهم الإنسان صناعة السفن، وعلّمه كيفية تسييرها في البحر بعد معرفة
والله أنزل المطر لإحياء الأرض بعد موتها، فأنعش النبات والإنسان، فمن تأمّل في تكاثف البخار، وتكوّن السّحب ومناظرها الخلابة التي يراها كل من ركب الطائرات، وتسييرها بالرياح لإنزال المطر بحكمة الله وتقديره، مما يدل على الإله الواحد الأحد الرّحمن الرّحيم.
إن هذه الظواهر والمخلوقات والأسرار المودعة في المواد آيات دالات على الوحدانية والرحمة بالعباد، ولا يعرفها إلا العقلاء.
علاقة المشركين بآلهتهم
الشّرك بالله وثنية وخرافة ووهم، والشّرك وكر الخرافات والأباطيل، وعلاقة المشركين بآلهتهم من الأصنام والأوثان والملائكة والجنّ علاقة ضعيفة واهية أوهن من بيت العنكبوت، لا تفيدهم شيئا ولا تضرّهم، وتتبدّد جميع الآمال المعقودة عليهم في الآخرة، وتنقطع الصلات والأنساب، ويتبرأ المتبوعون من الأتباع، والأتباع من المتبوعين، يتبرأ كل معبود من الملائكة والجنّ المتبوعين من الذين اتّبعوهم وعبدوا غير الله.
ويظهر المشركون حبّا وتعاطفا وتفانيا في خدمة آلهتهم المزعومة ويحبونهم كحب الله، مع أن الله واحد لا شريك له، لا إله إلا هو ولا ندّ ولا نظير له، ولا شريك معه، فعلاقة المشركين علاقة واهية كاذبة. على عكس علاقة المؤمنين المخلصين بربّهم، فهم أشد حبّا لله، وأكثر حبّا لله، ومن تمام محبّتهم وتعظيمهم لربّهم أنهم لا يشركون به شيئا، بل يعبدونه وحده، ويلجأون إليه في جميع أمورهم قائلين دائما:
والمشرك متناقض مع نفسه، عاجز عن جلب النفع لنفسه ودفع الضّرر والسوء، فتراه إذا وقع في محنة أو أزمة لجأ إلى الله، ثم نسيه، وإذا ركب المشركون في السفن دعوا الله مخلصين لكي ينجيهم من المخاطر والأهوال، فإذا ما نزلوا على الأرض، اتجهوا إلى آلهتهم، وقالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى فهم في الشّدة مع الله، وفي الرّخاء يسوّون بالله غيره، فإذن هم يحبّون آلهتهم كحبّ الله، والذين آمنوا لا يحبّون إلا الله وحده لا شريك له.
حكى القرآن أحوال المشركين مع آلهتهم في الدنيا والآخرة، فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
«١» «٢» «٣» «٤» [البقرة: ٢/ ١٦٥- ١٦٧].
وأتبع ذلك بمناسبة كون أوضاع المشركين خبيثة المنافع، أمر الله بالطيب النافع فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٨ الى ١٦٩]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩)
(٢) الأسباب: الصلات والعلاقات.
(٣) أي رجعة إلى الدنيا.
(٤) أي ندامات شديدة.
ثم حكى الله عن المشركين وبعض اليهود ما هم عليه من التقليد الأعمى،
قال ابن عباس: دعا رسول الله اليهود إلى الإسلام، ورغّبهم فيه، وحذّرهم عذاب الله ونقمته، فقال رافع بن حرملة ومالك بن عوف: بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم وخيرا منا، فأنزل الله في ذلك:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٠ الى ١٧١]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ١٧٠- ١٧١].
أي إن هؤلاء الكفار في تقليدهم الأعمى آباءهم كالببغاوات وكرعاة السّوائم التي لا تعي ولا تفقه ما يقال لها، فكل من الفريقين لا يعي شيئا مما يسمع، وإنما يسمع بجرس اللفظ ورنينه فقط لأن الله قد ختم على قلوب الكفار، وجعل على أسماعهم وأبصارهم غشاوة.
(٢) خرس عن النّطق بالحق.
أذن الله لعباده المؤمنين وغير المؤمنين أن يتناولوا الحلال الطيب المفيد الذي لا شبهة فيه ولا إثم، ولا يتعلق به حق للغير مهما كان، ونهاهم عن اتّباع الأهواء والشياطين الذين يوسوسون بالشّر، ويزيّنون المنكر، ويوقعون الناس في الإثم والضلال، فالشيطان لا يأمر إلا بالقبيح، فكل ما يأباه الطبع السليم والعقل الراجح وينكره الشّرع هو من أعمال الشيطان وأماراته، فيجب الحذر منه وتجنّب ما يوهمه من الخير، والشيطان يأمر الناس عادة أن يقولوا على الله ما لا يعلمون من أمور الشرع والدين، قال الله تعالى مبيّنا هذا كما تقدّم:
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) [البقرة: ٢/ ١٦٨- ١٦٩].
ثم أكّد الله تعالى في الآيات التالية إحلال الطّيبات بلا إسراف ولا تقتير، وأمر عباده بشكر نعمة الله، وإخلاص الشكر لله إن كانوا يعبدونه حقّا، فذلك غذاء الروح ووفاء المعروف. قال الله سبحانه:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)
[البقرة: ٢/ ١٧٢].
ثم أبان القرآن الكريم تحريم المضارّ والخبائث مما لا يفيد الجسم، وإنما يضرّه ويؤذيه، إما في صحته وعافيته، وإما في روحه وعقيدته، فقال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٣]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)
«١» «٢»
(٢) ألجأته الضرورة لتناول المحرّم.
إن تحريم الميتة: بسبب ما فيها من الدم المحتبس الضّار، الذي قد يكون ملوّثا بالأمراض والسّمّيات في الغالب، والنفوس تعاف الميتة التي قد يمضي عليها ساعات أو يوم فتتلوث بالجراثيم والميكروبات وتفترسها الديدان. وحرّم الله الدّم السائل المسفوح لما فيه من السّميات ولتلوثه بالأمراض وكونه مباءة الجراثيم والميكروبات.
وحرّم الإسلام تناول لحم الخنزير وشحمه لأنه حيوان قذر لا يتمثل الطعام ولا يهضمه، ولا يأكل إلا من القاذورات والنجاسات حتى وإن ربّي في أرقى الحظائر، وينقل الدودة الوحيدة للإنسان، والطب، وشرع الله القديم كاليهودية، والجديد كالإسلام، يحرّم الخنزير وينفّر منه.
وحرّم القرآن الكريم ما ذبح لغير الله وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى عند الذبح، فقد كان المشركون يذبحون في الجاهلية للأصنام، ويقولون عند ذبحها باسم اللات والعزى، وبما أن الذّبح تعظيم، وتعظيم غير الله لا يجوز، ويسيء إلى العقيدة النّقية، فإن الله حرّم كل ما ذبح لغير الله حماية لمبدأ الإيمان بالله تعالى، وإبعادا للناس من التّقرب للأصنام ونحوها. ثم راعى الشرع حالة الضرورة حفاظا على النفس البشرية فأباح أكل شيء من الميتة والدّم والخمر والمذبوح لغير الله إذا لم يجد الإنسان شيئا من المباحات يأكله، بشرط ألا يكون طالبا المحرّم لذاته ولا باغيا، ولا متجاوزا الحدّ في سدّ جوعه، فيأكل بقدر الضرورة فقط لأن الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها.
(٢) ولا متجاوز حدود الضرورة.
إن العلماء أمناء على ما يقولون وعلى ما ينقلونه ويخبرون عنه من شرع الله ودينه، فإذا خان العالم الأمانة، وغيّر وبدّل، وحرّف وشوّه الحقائق، فقد الثقة به من العالم أجمع، واستحقّ العذاب في نار جهنم.
ولقد هدد الله تعالى في قرآنه بعض علماء أهل الكتاب وأحبارهم وأنذر المشركين الذين حرّموا بعض الحلال، وابتدعوا في الدين أمورا ليست منه، فقال الله سبحانه:
«١» «٢»
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٤ الى ١٧٦]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
«٣» [البقرة: ٢/ ١٧٤- ١٧٦].
قال ابن عباس: نزلت هذه الآيات في رؤساء اليهود وعلمائهم، كانوا يصيبون من أتباعهم الهدايا، وكانوا يرجون أن يكون النّبي المبعوث منهم، فلما بعث من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم، فعمدوا إلى صفة محمد صلّى الله عليه وسلم فغيّروها، ثم أخرجوها إليهم، وقالوا: هذا نعت النّبي الذي يخرج في آخر الزمان، لا يشبه نعت هذا النّبي الذي بمكة، فإذا نظرت الأتباع إلى النعت المتغيّر، وجدوه مخالفا لصفة محمد صلّى الله عليه وسلم، فلا يتّبعونه.
إن سبب نزول هذه الآيات كما ذكر عن ابن عباس يبين المقصود من الآيات ويحدد المراد منها، ومعناها: إن الذين يكتمون ما أنزل الله في الكتاب المنزل عليهم من وصف النّبي صلّى الله عليه وسلم وبيان زمانه وغير ذلك مما يشهد بصدق نبوّته وكمال رسالته
(٢) أي لا يطهّرهم من دنس الذنوب. [.....]
(٣) أي في مخالفة شديدة ومنازعة.
وأكّد الله تعالى على سوء صنعهم بأنهم استبدلوا الضّلالة بالهدى، واستحقّوا العذاب بدل المغفرة، فما أجرأهم على الضّلال، وما أصبرهم على نار جهنم، فإنهم ارتكبوا ما يوجب دخول النار من غير مبالاة منهم، والله أراد من إنزال الكتاب السماوي إقرار الحق، ودحر الباطل، وهداية الناس، فمن منع ذلك عن الناس حارب الله، وإن الذين اختلفوا في كتب الله، فقالوا: بعضها حقّ، وبعضها باطل، لفي مخالفة بعيدة عن الحق.
هذه الآيات التي تحرّم كتمان أحكام الله تشمل أيضا علماء المسلمين إذا كتموا الحقّ مختارين لذلك، لسبب دنيا يصيبونها أو مصلحة دنيوية يحققونها.
حقيقة البر
يظن بعض الناس خطأ أن الدين أو البر والخير هو في العبادة وحدها دون ما سواها، وهذا غير صحيح، فإن البر والدين بناء متكامل وميزان شامل، يشمل العقيدة والعبادة والأخلاق وتنظيم العلاقات الاجتماعية، وقد أنزل الله تعالى آية في القرآن الكريم جمعت أصول البر كلها، وخاطبت المؤمنين بأنه ليس البر الصلاة وحدها، كما خاطبت غير المؤمنين الذين اختلفوا في التوجّه إلى القبلة، فاليهود
قال قتادة: ذكر لنا أن رجلا سأل نبي الله صلّى الله عليه وسلم عن البر، فأنزل الله تعالى هذه الآية:
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦»
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٧]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
[البقرة: ٢/ ١٧٧].
وقال قتادة: وقد كان الرجل قبل الفرائض «٧» إذا شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك، وجبت له الجنة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
أراد الله تعالى أن يبين للناس كافّة أن مجرّد التوجه نحو قبلة معينة ليس من جوهر الدين، وليس هو البر المقصود، وإنما البر وهو اسم جامع للخير ولكل فعل مرض محبوب هو شيء آخر، ليس في الاتجاه جهة المشرق والمغرب، إنما هو إيمان بالله ورسوله مقرون بالعمل الصالح.
البر إذن: إيمان كامل بالله ورسوله واليوم الآخر على أنه محل الجزاء والثواب، وإيمان بالملائكة على أنهم من خلق الله لهم مهام عديدة كإنزال الوحي، وحمل العرش، وإنزال المطر، وقبض الأرواح، وطاعة الله، وإيمان بالأنبياء جميعا لا فرق
(٢) المسافر الذي انقطع عن أهله.
(٣) في تحريرها من الرّق أو الأسر.
(٤) هذا منصوب على المدح، أي وأمدح الصابرين وأخصّهم بالذكر، أو منصوب بإضمار فعل.
(٥) الفقر، والوجع.
(٦) وقت القتال.
(٧) أي قبل الإلزام بالتكاليف المفروضة وبيان الحلال والحرام.
ولا بد مع الإيمان من العمل الصالح، كإقامة الصلاة تامة الأركان والشروط مع الخشوع واستحضار القلب، وإيتاء الزكاة المفروضة لمستحقيها على نحو دقيق شامل جميع أموال الزكاة من النقود والمواشي والزروع وأموال التجارة، وإيتاء المال للمستحق مع حبّه له، وهو إيتاؤه ذوي القرابة، واليتامى والمساكين وأبناء السبيل (المنقطعين في السفر) والسائلين وتحرير الرقاب وفكاك الأسرى، ففي المال حق آخر سوى الزكاة.
ومن أعلى درجات البر: الوفاء بالعهد والوعد وتنفيذ المعاهدات، والصبر في البأساء (شدة الفقر) والضّراء (المرض والمصائب في المال والأهل) وحين البأس (وقت شدة القتال).
هؤلاء الموصوفون بما ذكر هم الصادقون في إيمانهم، المتّقون عذاب الله، الفائزون بثوابه وجنّته ورضوانه.
عقوبة القصاص
المنازعات والمخاصمات والاعتداءات ظاهرة اجتماعية مستمرة بين الناس بسبب الأطماع وحبّ السيطرة والتفوق والغلبة، أو بسبب الشّجار وشدة الغضب وفقد الوعي، أو حبّا للانتقام وأخذ الثأر، وغير ذلك من الأسباب التي لا تتفق في شيء مع الخلق الكريم، والدين والفضيلة، أو الإنسانية، فإن الخلق الكريم يأبى الإيذاء
وقد أراد الله سبحانه أن ينظم شأن العداوات والاعتداءات بين الناس، ففرض تشريع القصاص، وألزم الوقوف عند جانب الحق والعدل، دون تجاوز في العقاب، أو معاقبة غير المتّهم المسيء، فتجب المساواة الدقيقة التّامة بين الجريمة والعقوبة، ولا يجوز بحال قتل غير القاتل، أو قتل أكثر من شخص بجريمة قتل واحدة.
قال الشعبي: كان بين حيّين من أحياء العرب قتال، وكان لأحد الحيّين طول «١» على الآخر، فقالوا: نقتل بالعبد منا الحرّ منكم، وبالمرأة الرجل، فنزلت آية القصاص.
وقال سعيد بن جبير: إن حيّين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، وكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيّين يتطاول على الآخر في العدد والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحرّ منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، فنزل فيهم الحرّ بالحرّ، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى.
قال الله تعالى: «٢»
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٨ الى ١٧٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)
[البقرة: ٢/ ١٧٨- ١٧٩].
خاطب الله تعالى الناس في هذه الآية بوصف الإيمان، مبيّنا لهم فرضية القصاص
(٢) ترك له.
وتشريع القصاص والدية والعفو عن كليهما أو أحدهما تخفيف من الله لنا ورحمة بنا، فمن تجاوز ذلك وقتل بعد العفو والدّية، فله عذاب مؤلم في نار جهنم. وفي تشريع القصاص حياة متحققة للجماعة، فيرتدع سفّاكو الدماء إذا علموا أن من قتل غيره يقتل به، ويمنع القصاص انتشار الفوضى والظلم في القتل، ويتخلص الناس من عادة الأخذ بالثأر أو حبّ الانتقام، وتمتنع الجريمة ويوضع الحدّ للشّر.
ثم ذكر الله تعالى حالة وجوب الوصية بقوله:
«١»
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٠ الى ١٨٢]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)
«٢» «٣» [البقرة: ٢/ ١٨٠- ١٨٢].
فرض عليكم أيها المؤمنون حال ظهور علامات الموت بمرض مخوف أو حادث خطير ونحوهما، إن ترك الواحد منكم مالا كثيرا لورثته، أن يوصي للوالدين
(٢) ميلا عن الحق خطأ وجهلا.
(٣) ظلما عمدا.
فرضية الصيام
الصيام أحد فرائض الإسلام وأركانه، تهذيبا للنفس البشرية وتقويما لها، وحفاظا على البنية الجسدية، وتقوية للإرادة والصحة،
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: بني الإسلام على خمس:
شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحجّ البيت، وصوم رمضان».
الصيام في تقدير الإسلام رياضة روحية، وطريق لإعداد النفس لتقوى الله عزّ وجلّ في السّر والعلن، ومدرسة للصبر والجهاد وتحمل المشاق، لذا
ورد في السّنة النّبوية فيما رواه ابن خزيمة والبيهقي أن «الصوم شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة».
ليس الصيام مفروضا على المسلمين وحدهم، وإنما هو عبادة قديمة مفروضة في مختلف الشرائع الإلهية، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)
[البقرة: ٢/ ١٨٣].
«لو علمت أمتي ما في رمضان من الخير، لتمنّت أن يكون السّنة كلها».
وقال الله سبحانه عن الصوم:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٤]
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ١٨٤].
وقد يسّر الله أداءه على الناس، فأباح قضاء الصيام في أيام أخر للمسافر والمريض والحامل والمرضع، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٥]
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)
أما الذين يتحملون الصوم بمشقة شديدة كالشيخ الفاني والمريض مرضا مزمنا فعليهم فدية، إطعام مسكين (نصف صاع أو مدّان من حنطة عند الحنفية، ومدّ عند الجمهور)، ومن تطوع وزاد في الفدية على طعام مسكين فهو خير له وأكثر ثوابا، وصوم هؤلاء المعذورين خير لهم إن علموا وجه الخيرية فيه وكونه لمصلحة المكلفين، إذا لم يتضرّروا.
وقد تميز شهر رمضان بفضائل وميزات عديدة، أهمها أن ابتداء نزول القرآن حدث في رمضان، قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(٢) زاد في الفدية.
ومن مزايا رمضان: أن فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ «١» فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ... [القدر ٩٧/ ١- ٣] إلى آخر السورة المعروفة.
ومن مزايا رمضان: أنه شهر العبادة وإجابة الدعاء والتقرب إلى الله، والإحسان بقوة النفس والروح، وصفاء الفكر، والترفع عن الماديات والشهوات الدنيوية، والتشبه بالملائكة الأطهار الأبرار الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ولا تتحقق فوائد الصيام إلا بعفة اللسان، والتزام حدود الله تعالى واتّباع أوامره، واجتناب نواهيه، لذا ختم الله تعالى آيات الصيام بقوله:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧) [البقرة: ٢/ ١٨٧].
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم: «ألا وإن لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه» «ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه».
الدعاء إلى الله تعالى نوع من العبادة والخضوع والتّذلل، فإن الداعي يشعر دائما بالحاجة الملحة إلى ربّه، والاستعانة بعزّته وقوته، وطلب المدد والعون في المحن والبلايا، أو الاستزادة من الخير والتوفيق في وقت الرخاء والنعمة.
ثبت عن النّبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال في حديث صحيح: «الدعاء هو العبادة» «الدعاء سلاح المؤمن».
والدعاء مفيد في مصارعة القضاء والقدر، وفي تخفيف المصاب، وفي رفع البلاء وجلب الرزق،
قال النّبي صلّى الله عليه وسلم: «الدعاء يرد القضاء، وإن البر يزيد في الرزق، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» «الدعاء ينفع بما نزل، ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء» «١».
والدعاء إلى الله أمر مباشر بين العبد وربّه، يسمع صوت عبده مهما كثرت أدعية العباد، ومهما اختلفت الألسنة، وإن كان الوقت واحدا واللحظة واحدة، وسواء أكان الدعاء سرّا أم جهرا،
جاء أعرابي إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت عنه فأنزل الله:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٦]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)
[البقرة: ٢/ ١٨٦].
وسأل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم النّبي صلّى الله عليه وسلم: أين ربّنا؟ فأنزل الله الآية السابقة:
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ.
الله قريب من عباده، وهو أقرب إليهم من حبل الوريد، يعلم أعمالهم، ويراقب أحوالهم، يجيب دعوة من دعاه مخلصا له، قد شفع دعاءه بالعمل الخالص لوجه الله سبحانه.
أي فإني قريب بالإجابة والقدرة، أجيب إن شئت. وإذا استجاب الله دعاء عبده، فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفّر عن العبد خطاياه وذنوبه، وإما أن يدّخر له أجر في الآخرة، أخرج الإمام مالك في موطئه عن زيد بن أسلم أنه كان يقول: «ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له، وإما أن يدخر له، وإما أن يكفّر عنه» وهذا حديث في حكم المرفوع، أيّده حديث جابر المرفوع إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم بالنّص السابق.
والدعاء بالسوء والأذى والاعتداء ممنوع، قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف: ٧/ ٥٥.]
وإذا سبق القدر بشيء فلا يجاب الدعاء، فهذا أفضل البشر المصطفى محمد صلّى الله عليه وسلم قد «دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم» فلا يتنازعون ولا يتخاصمون، ولا يتفرقون شيعا وأحزابا، فمنع ذلك لأن القدر سبق بغير ذلك.
سئل عبد الله بن جابر بن عتيك في بني معاوية، وهي قرية من قرى الأمصار: «هل تدري ما الثلاث التي دعا بهن رسول الله؟ فقال: دعا بألا يظهر عليهم عدوّا من غيرهم، ولا يهلكهم بالسنين فأعطيهما، ودعا بألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعها، قال ابن عمر: صدقت، ثم قال ابن عمر: فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة»
والهرج: الفتنة والانقسام والاختلاط في الأمور.
ومن أهم آداب الدعاء: الأدب مع الله وخشوع القلب وصدق الطلب، والاستقامة واستجابة ما دعا الله إليه من الإيمان بالطاعة والعمل، فاستجابة الله للعبد مرتبطة باستجابة العبد لله فيما أمره به، وفيما نهاه عنه.
ثم ذكر تعالى ما يحلّ في ليالي الصوم وحدود الصوم نهارا، فقال:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٧]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [البقرة: ٢/ ١٨٧].
يباح لكم في ليالي الصيام وقاع زوجاتكم، فهنّ ستر لكم عن الحرام، علم الله أنكم كنتم تخونون أنفسكم بالجماع ليلة الصيام، فتاب الله عليكم وعفا وصفح عنكم، والآن أباح الله لكم بأن تباشروا نساءكم، واطلبوا ما أباحه الله لكم من الاستمتاع لإنجاب الذرّية. ويباح لكم الأكل والشرب أثناء الليل كله، حتى يطلع الفجر الصادق، ثم أتموا الصيام إلى غروب الشمس. ولا تجوز مباشرة النساء أثناء الإقامة في المساجد للعبادة بالاعتكاف. وتلك الأحكام المذكورة للصيام والاعتكاف هي حدود الله، أي محظوراته وممنوعاته، فلا تقربوها بالمخالفة، وبمثل هذا التوضيح يبين الله أحكام دينه للناس ليتّقوا ربّهم، ويبتعدوا عن المحرمات.
أخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل قال: كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلا من الأنصار يقال: قيس بن صرمة صلّى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب، حتى أصبح، فأصبح مجهودا، وكان عمر أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النّبي صلّى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فأنزل الله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ إلى قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ.
(٢) هنّ ستر لكم عن الحرام.
(٣) تخونون.
(٤) أي طلوع الفجر الصادق، شبه الفجر والليل بخيطين: أبيض وأسود لامتدادهما.
(٥) محرّماته.
المال قوام الحياة المعيشية، وأساس تقدم الدول والجماعات، فبه تنهض الأمة، وهو المعوّل عليه في الحرب والسلم وبناء النهضات والحضارات. لذا صانه الإسلام، وجعل تحرّكه وانتقاله بين الناس مرهونا بالحق والعدل، فلا غشّ ولا غبن ولا ظلم ولا استغلال ولا اغتصاب، ولا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد إلا بإذنه ورضاه،
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام»
«كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه»
«لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»
فالأموال لجميع الناس، وقد قسمها الله بينهم قسمة عادلة لا جور فيها.
ومن أهم القضايا التي تثار أمام المحاكم القضائية: قضايا المال والاقتصاد، وإذا أصدر القاضي حكما في الدعوى أو الخصومة، فإن حكمه لا يحلّ الحرام ولا يحرّم الحلال، ويظل الواجب على المحكوم له أن يراقب الله تعالى، ولا يأخذ من خصمه إلا الحق الثابت الشرعي الذي يطمئن إلى أنه ماله بحق، قال سعيد بن جبير: إن امرأ القيس بن عابس وعبدان بن أشوع الحضرمي اختصما في أرض، وكان امرؤ القيس هو المطلوب، وأراد أن يحلف، وعبدان هو الطالب، فأنزل الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٨]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)
«١» [البقرة: ٢/ ١٨٨]. فحكم عبدان في أرضه ولم يخاصم الخصم الآخر، وتنازل له عن حقّه.
نهانا الله سبحانه في هذه الآية أن نأكل أموال بعضنا بالباطل وبدون وجه حق، ونهانا أن نلقي بالأموال إلى الحكام مستعينين في ذلك بالدفاع بالباطل، والآية تشمل أخذ مال الآخرين بغير حق بمختلف الوسائل، كالرشوة والقمار، والخداع
إن كثرة التقاضي بالباطل وشيوع الرشوة في الأمة خطر عليها وعلى اقتصادها وأخلاقها ووجودها. كيف يحلّ لإنسان أن يأخذ مال إنسان آخر بالإثم والزور، والبهتان والرشوة، وهو يعلم أنه حرام، ولا يأكل في بطنه إلا النار.
إن قضاء القاضي لا يحل ما حرّمه الله كما ذكرت، وإن كان هناك بيّنة أو شهود أو أيمان، وقاعدة القضاء الشهيرة:
الحديث النّبوي الثابت: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن «١» بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار».
ولما سمع خصمان بهذا الحديث في عهد النّبي صلّى الله عليه وسلم بكيا وقال كل واحد منهما:
حقي لصاحبي.
الشهور القمرية والعادات الحسنة
القرآن الكريم معلّم البشرية في جميع أحوالها، في دينها وعبادتها ومعاملاتها وعقائدها وعاداتها، فلا يرشد إلا إلى خير، ولا يدل إلا على معروف، ولا يشرع إلا
لقد سأل العرب المسلمون عن أشكال الهلال وتبدّلاته في دورته الشهرية أو عن العلّة في أن القمر يبدو دقيقا كالخيط في مطلع الشهر، ثم لا يزال يكبر حتى يصير بدرا في وسط الشهر، ثم يصغر ويتضاءل حتى ينمحي، وكان الغرض من السؤال بيان السبب أو فائدة الشهور القمرية،
وكان السائل معاذ بن جبل وثعلبة بن عنمة، وهما رجلان من الأنصار، قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو، فيطلع دقيقا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدقّ، حتى يكون كما كان، لا يكون على حالة واحدة، فنزلت الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ
[البقرة: ٢/ ١٨٩] وقال ابن عباس: نزلت على سؤال قوم من المسلمين النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن الهلال، وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس؟
لقد أجاب الله تعالى عن هذا السؤال ببيان فائدة القمر وأسباب أطواره التي يمر بها، وهي ضبط الزمان وحساب الأيام لمعرفة أوقات حلول الديون وآجال العقود، وتواريخ استحقاق الأجور والأكرية، وزمن انقضاء العدد للنساء وما أشبه ذلك من بيان مصالح العباد، ولمعرفة مواقيت الحج أيضا يعرف بها وقته وأشهره. والتوقيت بالسّنة والشهور القمرية سهل في الحساب ومناسب للعرب، يؤقتون بدورات القمر أعمالهم وتجارتهم ومزارعهم وعبادتهم من صوم وحج وعدّة وغيرها.
وتضمنت الآية أيضا الكلام عن شأن العادة المستحسنة في دخول البيوت والخروج منها، فقال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)
[البقرة: ٢/ ١٨٩].
ليس البر هذا، ولكن البر من اتّقى الله وخاف عقابه، ثم أمرهم الله بأن يأتوا البيوت من أبوابها، ويتّقوا الله في كل شيء، رجاء أن يكونوا من المفلحين.
لقد سوّى القرآن الكريم بين جميع الناس في الدخول إلى البيوت والخروج منها، سواء أكانوا من أهل المدينة أم من الأعراب والبدو، فلا يكون الإحرام بالحج أو العمرة سببا في تغيير المألوف والمعروف والعادات، لأن تقوى الله في القلوب والنفوس، وليست التقوى في المظاهر والشكليات التي لا معنى لها، إن الإسلام يقرّ ما ينسجم مع العقل والمنطق، وينبذ كل المظاهر الجوفاء، والأشكال التي لا معنى لها، فأي ارتباط بين الإحرام بالحج وبين الدخول من الباب الخلفي للبيت؟ ولماذا يسمح للقرشيين بالدخول من الأبواب الإمامية ولا يسمح لغيرهم بذلك؟ إن الدين واحد، والهدي واحد، والناس جميعا سواسية في أحكام الشريعة.
قواعد القتال
علّمنا القرآن الكريم في سورة البقرة في ستّ آيات ستّ قواعد في القتال في سبيل الله، لمعرفة أسباب مشروعية القتال وغاياته وآدابه وزمنه. وأول هذه القواعد: أن القتال في سبيل الله أذن به الشّرع لردّ العدوان وحماية الدعوة وحرية الدين ونشره في العالم، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٠]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)[البقرة: ٢/ ١٩٠].
نزلت هذه الآية لما صدّ المشركون رسول الله وأصحابه عن البيت الحرام في السنة السادسة من الهجرة، ثم صالحوه صلح الحديبية على أن يرجع عامه، ثم يأتي في العام القابل، على أن يخلوا له مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت الحرام ويفعل ما شاء، وخاف المسلمون أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدّوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ يعني قريشا.
القاعدة الثانية في القتال: أن القتال حين الاعتداء يجوز في أي مكان، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩١]
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ١٩١] أي قاتلوهم إذا أدركتموهم وصادفتموهم على أي حال، وأخرجوهم من مكة حيث أخرجوكم منها، وفتنتهم المسلمين في الحرم عن دينهم بالإيذاء من مكة حيث أخرجوكم منها، وفتنتهم المسلمين في الحرم عن دينهم بالإيذاء والتعذيب ومصادرة الأموال، والإخراج من الوطن، كما يفعل الصهاينة الآن بعرب فلسطين، أشدّ قبحا من القتال في الحرم لأن الإيذاء والاضطهاد على العقيدة أمر خطير وشرّ وبيل.
القاعدة الثالثة: أنه لا يبدأ المسلمون قتال غيرهم في المسجد الحرام «٣» في مكة حتى يبدأهم الأعداء، فإن قاتلهم أعداؤهم، جاز القتال وردّ العدوان، حتى ينتهي المعتدون عن عدوانهم لأن الشّر بالشّر، والبادئ أظلم، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩١ الى ١٩٢]
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢)
(٢) الشّرك بالله وهم في الحرم.
(٣) في الحرم.
القاعدة الرابعة: أن غاية القتال المشروع في الإسلام شيئان: منع الفتنة في الدين، وضمان حريته، وإقرار السّلم واستتباب الأمن والطمأنينة، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٣]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)
[البقرة: ٢/ ١٩٣].
القاعدة الخامسة: أن الإذن بالقتال في الشهر الحرام: ذي القعدة من قبيل القصاص والمعاملة بالمثل، فإن مشركي مكة انتهكوا حرمة هذا الشهر الحرام، وردّوا المسلمين عن العمرة يوم الحديبية، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء، وكراهتهم القتال في الأشهر الحرم: الشهر الحرام بالشهر الحرام وهتكه بهتكه، فمن عظّمه عظّمناه، ومن انتهك حرمته انتهكناه، والقتال فيه في هذا العام كالقتال من المشركين في العام السابق، فالواجب القصاص والأخذ بالمثل، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٤]
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
«١» [البقرة: ٢/ ١٩٤].
القاعدة السادسة والأخيرة: أن القتال في سبيل الله يتطلب التضحية بالنفس والمال، ويتوقف القتال كغيره على المال، فيجب الإنفاق في سبيله لأن الإنفاق في الحروب وسيلة النصر وطريق الفوز والغلبة، وترك الإنفاق مهلكة للأمة، مضيعة للجماعة، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٥]
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)
«٢» [البقرة: ٢/ ١٩٥].
(٢) الهلاك بترك الجهاد وترك الإنفاق فيه.
الحج على المستطيع أحد فرائض الإسلام الخمس وأحد أركانه الأساسية فرض سنة ست من الهجرة، والعمرة فريضة أيضا مثل الحج في بعض المذاهب الإسلامية، لقوله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٦]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)
«١» «٢» «٣» [البقرة: ٢/ ١٩٦].
والحج فضلا عن كونه عبادة شخصية تقرّب إلى الله تعالى، ويكفّر المعاصي والذنوب، ويجدد المسلم العهد مع ربّه على الطاعة والاستقامة، هو أيضا مظهر اجتماعي ومؤتمر إسلامي عام، به يتعارف المسلمون بعضهم على بعض، ويتذاكرون في شؤونهم العامة والخاصة، وفي مصائر أمتهم وأحوال دنياهم وآخرتهم.
ويبدأ الحج بالإحرام به في هيئة مخصوصة وفي مواقيت مكانية وزمانية معلومة، ويكون أداء الحج والعمرة بإحدى صور ثلاث: الإفراد بأن يحرم بالحج وحده ثم بالعمرة بعد انتهائه، والتّمتع بتقديم العمرة على الحج، والقران بالإحرام بالحج والعمرة معا، وأوقات الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، فلا تصح نية الحج إلا في هذا الوقت، وتنتهي أعماله في أيام عبد الأضحى التي تسمى أيام التشريق. أما العمرة فوقتها السنة كلها.
(٢) ما تيسر مما يهدى إلى الحرم من الأنعام.
(٣) مكان وجوب نحره وهو الحرم أو مكان الإحصار.
وعلى الحاج التزام آداب وقواعد معينة في أثناء الحج ومنها الابتعاد عن الصلة الخاصة بالزوجات، وعن فحش الكلام وعن الفسوق والخروج عن طاعة الله بفعل أي شيء محرّم كالصيد والطيب والزينة ولبس المخيط من الثياب والأحذية، والتّنابز بالألقاب، والجدال والمراء والخصام لأن الحاج في طاعة وعبادة وتقشف لا يناسبه هذه الأمور، لقوله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٧]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ١٩٧].
ويجوز للحاج والمعتمر التجارة بعد الانتهاء من أعمال الحج والعمرة، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٨]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨)
«٣» [البقرة: ٢/ ١٩٨].
ويكثر الحاج والمعتمر من التلبية والتهليل والدعاء عند المشعر الحرام بالمزدلفة، ومن ذكر الله ذكرا كثيرا حسنا، اعترافا بفضل الله الذي هدى المؤمن هداية حسنة، وعلّمه كيف يذكر ربّه، وكان قبل ذلك ضالّا جاهلا لا يعرف كيف يكون ذكر الله.
ويستمر في الحج وبعده ذكر الله والاستغفار والدعاء بالخير للمؤمن نفسه ولوطنه وأمته، فمن دعا الله لأمر دنيوي فقط، فلا نصيب له في الآخرة، والأفضل الدعاء بالتوفيق والرزق والصحة في الدنيا، وبالثواب والجنة في الآخرة، وتجنب الأعمال
(٢) لا خصام ولا ملاحاة.
(٣) إثم وحرج.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٨ الى ٢٠٣]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [البقرة: ٢/ ١٩٨- ٢٠٣].
بعض مظاهر العصيان والنّفاق وبعض نماذج الإيمان الصادق
الناس بالنسبة لدين الله وشرعه صنفان: منافق عاص، ومؤمن طائع، قلب المنافق مظلم مملوء كفرا ومعصية، وقلب المؤمن مضيء بالإيمان مشرق بنور الله، سائر بتوفيق الله.
(٢) المزدلفة كلها أو جبل قزح.
(٣) عبادات الحج.
(٤) أي نصيب.
(٥) الحسنة: التوفيق والصحة والرزق.
(٦) أي في المبيت بمنى ورمي الجمرات في يومين من أيام التشريق.
قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٤ الى ٢٠٦]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦)
«١» «٢» «٣» «٤» [البقرة: ٢/ ٢٠٤- ٢٠٦].
قال السّدي: نزلت هذه الآيات في الأخنس بن شريق الثقفي، وهو حليف بني زهرة، أقبل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة، فأظهر له الإسلام، وأعجب النّبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك منه، وقال: إنما جئت أريد الإسلام، والله يعلم إني لصادق، وذلك قوله: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ. ثم خرج من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمرّ بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع، وعقر الحمر، فأنزل الله تعالى فيه: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ.
هذا أنموذج من عناصر التخريب والفساد والنّفاق، لم يكرهه أحد على ما صنع، ولكنه ارتضى لنفسه موقف الخبث، وإضمار السوء والعمل على هدم مقومات أمته، وتدمير أمجاد مجتمعة ومفاخرهم.
(٢) الحرث: الزرع.
(٣) أي ما تناسل من الحيوان.
(٤) لبئس الفراش والمضجع.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧)
«١» [البقرة: ٢/ ٢٠٧] أي رؤف بعباده حيث كلفهم الجهاد في سبيل الله، فعرّضهم بذلك لثواب الشهداء.
قال سعيد بن المسيب: أقبل صهيب مهاجرا نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فاتّبعه نفر من قريش من المشركين، فنزل عن راحلته، ونثر ما في كنانته «٢»، وأخذ قوسه، ثم قال: «يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلا، وايم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم. قالوا: دلّنا على بيتك ومالك بمكّة ونخلّي عنك، وعاهدوه إن دلّهم أن يدعوه، ففعل، فلما قدم على النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أبا يحيى، ربح البيع، ربح البيع» وأنزل الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ.
وقال المفسّرون: أخذ المشركون صهيبا فعذّبوه، فقال لهم صهيب: إني شيخ كبير، لا يضرّكم، أمنكم كنت أمّن من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟
ففعلوا ذلك، وكان قد شرط عليهم راحلة ونفقة، فخرج إلى المدينة، فتلقاه أبو بكر وعمر ورجال، فقال له أبو بكر: ربح بيعك أبا يحيى، فقال صهيب: وبيعك، فلا بخس، وماذاك؟ فقال: أنزل الله فيك كذا، وقرأ عليه هذه الآية.
(٢) أي أخرج ما في جعبة السهام من سهام.
الإسلام وأحكامه دين الله وشرعه الذي لا يتجزّأ ولا يختلط بغيره، فهو بمثابة المظلة الواقية من الضلال والانحراف والشّر والسوء، والعاصم من كل أذى وضرر، فمن كان مسلما بحق اتّبع جميع أحكام الدين، والتزم كل ما شرعه القرآن الكريم، فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه.
لذا أمر الله المسلمين وغيرهم أن يستسلموا لله تعالى ويطيعوه في الظاهر والباطن، وأن يدخلوا في الإسلام كله، ولا يخلطوا به غيره. قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ٢٠٨].
والمراد بالسّلم في الآية: الإسلام، فعلى من آمن بالإسلام دينا العمل بجميع فروعه وأحكامه، فلا يؤمن من يعمل ببعض أحكامه كالصلاة والصيام مثلا، ويترك بعض الأحكام الأخرى كالزكاة والجهاد والحكم بكتاب الله وحدوده، وترك الحرام كله ومنع الخمر والرّبا والزّنا والرشوة والظلم.
قال ابن عباس: نزلت هذه في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنّبي صلّى الله عليه وسلم، آمنوا بشرائعه وشرائع موسى، فعظّموا السبت، وكرهوا لحوم الإبل (الجمال) وألبانها بعد ما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنّبي صلّى الله عليه وسلم:
إن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنعمل بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً...
ثم هدّد الله تعالى في الآيات التالية بالانتقام من المائلين عن الحق، المبتعدين عن
(٢) طرقه وآثاره.
ثم قرّع الله ووبّخ بني إسرائيل على تركهم الآيات التي جاءت بها الرّسل الكرام السابقون، وبخاصة موسى وعيسى، ووبّخهم أيضا على عدم الإيمان بشريعة الإسلام، مع إقامة البراهين والمعجزات الدّالة على صدق النّبي محمد صلّى الله عليه وسلم، فكل من يغيّر نعمة الله التي توصّل بها إلى الهداية والخير، فيستعملها في الكفر والضلال والعصيان، فليستعدّ لعقاب الله الشديد الصارم.
وأرشدت آيات القرآن إلى أن سبب عدم اتباع أحكام الدين هو الحرص على الدنيا، ومحبّتها، وتحسينها في أعين الكفار، والافتتان بها، والاستهزاء بالمؤمنين والسخرية منهم، مع أن للمؤمنين الدرجة العالية يوم القيامة، وهم فوق الكفار في الدرجة والقدر، إذ هم في أعلى عليّين، والكفار في أسفل السّافلين، ونبّه القرآن الكريم إلى أن الرزق ليس على قدر الإيمان والكفر، وإنما يرزق الله من يشاء، ولو كان كافرا عاصيا، ويقتّر الرزق على من يشاء، ولو كان مؤمنا طائعا لأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة. قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٩ الى ٢١٢]
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)
«١» «٢» «٣» [البقرة: ٢/ ٢٠٩- ٢١٢].
(٢) مظلات من السحاب الرقيق.
(٣) بلا نهاية ولا عد لما يعطيه.
لقد ثبت في التاريخ الإنساني أن الناس لم يتمكّنوا بمجرد عقولهم وخبراتهم وتجاربهم وفطرتهم البدائية أن يعرفوا الحلّ الأمثل والتشريع الأفضل الذي يحتكمون إليه في منازعاتهم وخلافاتهم، ليتوصلوا إلى الوحدة والانسجام، والسكينة والاطمئنان، والسعادة والاستقرار. فكان من الضروري وجود الهداية الإلهية والإرشادات الرّبانية لإنقاذ الناس من الضلالة والانحراف إلى نور الحق والإيمان، وصار من المؤكد أن الاهتداء بهدي الأنبياء والرّسل ضروري للبشر، وتبين فعلا أن الدين الإلهي هو السبب الوحيد لسعادة النوع الإنساني، والمصلح لأمر الحياة، والمقوّم لاعوجاج البشر، يوحّد بين الآراء، ويجمع العقول والأفكار، وينبّه إلى ما فيه المصلحة الحقيقة، ويبعد عما فيه شرّ وفساد، وزيغ وانحراف.
قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٣]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)
«١» [البقرة: ٢/ ٢١٣].
ومعنى الآية أن الناس كانوا في بداية أمرهم على السواء على الفطرة الساذجة، والبدائية العقلية، يتصرفون في حياتهم ومعايشهم وعلاقاتهم الاجتماعية بحسب الرغبات الذاتية والغرائز البشرية، لا يعرفون منهج الحياة الأفضل، ولا مستوى المدنية والحضارة الأرقى، ولا شيئا عن الأنظمة والشرائع التي تنظم علاقات الناس، وتجعلهم يعيشون في راحة وطمأنينة، بعيدين عن المنازعات والخلافات التي تهدّد وجودهم وتضعف شأنهم، فجاءت الشرائع الإلهية على يد الأنبياء والرّسل يبشّرون
وأنزل الله تعالى مع الأنبياء والرّسل الكتب الإلهية القائمة على الحق والعدل والرحمة والمصلحة الحقيقية، ليحكم الله بين الناس فيما اختلفوا فيه من أمور دنياهم ودينهم، ولم يقع الاختلاف في الدين بين العلماء وأهل النظر في الكتاب الإلهي إلا بسبب البغي والحسد والطمع في الدنيا وزينتها، أما الذين آمنوا وأخلصوا دينهم لله، وعملوا صالحا من أنفسهم، وثابوا لرشدهم فهداهم ربّهم للحق بإذنه وإرادته، والله مصدر الخير يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
عاقبة الصّبر على الدعوة إلى الله
تعرّض النّبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون من أصحابه لمختلف أنواع الأذى والاضطهاد والتعذيب، فصبروا وصابروا، وكافحوا وجاهدوا، حتى ظفروا وانتصروا، وتحققت لهم الآمال الكبرى والغايات السامية. قال الله تعالى مبيّنا هذا الموقف المشرّف للرسول وصحابته:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٤]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)
«١» «٢» «٣» [البقرة: ٢/ ٢١٤].
(٢) الفقر، والمرض.
(٣) أزعجوا بالبلايا الشديدة. [.....]
وقال عطاء وجماعة: نزلت الآية تسلية للمهاجرين الذين أصيبت أموالهم بعدهم في بلادهم، وفتنوا هم قبل ذلك. لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه المدينة، اشتدّ الضّر عليهم، بأنهم خرجوا بلا مال، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأسرّ قوم من الأغنياء النفاق، فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ..
الآية.
خوطب الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون معه بهذه الآية، حثّا لهم على الثبات والمصابرة على مخالفة الكفار، وتحمل المشاق، مع بيان عاقبة الصبر. وكان ذلك من قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقصد استعجال النصر، لا لسبب الشّك والارتياب في وعد الله وعدله.
ومعنى الآية أتظنون أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة، ولما تتعرفوا على أخبار من مضى من قبلكم من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين؟ فأنتم لم تتعرضوا للمحنة والبلاء مثل ابتلائهم، مسّتهم الشدة والخوف والفقر والألم والأمراض، تعرضوا للبأساء أي الفقر، وللضّراء أي المرض والمصائب، وزلزلوا أي أزعجوا إزعاجا شديدا بأنواع البلايا، حتى اضطرهم الألم والكرب إلى أن يقول الرسول- وهو أعلم الناس بصدق وعد الله، وأوثقهم بنصره- ويقول المؤمنون المقتدون به من غير أي شك بإنجاز وعد الله: متى يأتي نصر الله للمؤمنين؟ فكاد صبرهم ينفد من هول ما لاقوا، فأجيبوا:
ترشيد الإنفاق
المال حصيلة الجهد الإنساني، وأمانة عند صاحبه، فلا يجنيه إلا من كسب حلال مباح، ولا ينفقه إلا في موضع مشروع يفيد المالك والمجتمع. فإذا ما أنفق الإنسان ماله في طرق غير مشروعة وبذّر ماله ذات اليمين وذات الشمال، خسر وندم، وأضاع ماله، وخان الأمانة، ولم يرع حق الله في ماله.
والعاقل الرشيد الذي ينفق ماله فيما يجب عقلا وعرفا وشرعا، ويختار الأفضل، ويراعي الألزم والأوجب لمن يحتاج للنفقة، وهؤلاء العقلاء الراشدون يسألون عادة عن وجوه الإنفاق السليمة وعمن هو أحق الناس بالنفقة،
وقد سأل جماعة من المؤمنين النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن مقدار ما ينفقون وعن بيان الجهة التي ينفقون فيها، نفقة التطوع، لا الزكاة الواجبة المفروضة. وكان أحد السائلين عمرو بن الجموح الأنصاري، وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير، فقال: يا رسول الله، بماذا يتصدق، وعلى من ينفق؟ فنزلت الآية الكريمة في سورة البقرة:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٥]
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)
[البقرة: ٢/ ٢١٥].
ومعنى الآية: أيّ مقدار تنفقونه قليلا كان أو كثيرا من المال، فهو لكم وثوابه خاص بكم، ومن أفضل ما تنفقون العطاء للوالدين والأولاد والزوجات لأنهم
إن النفقة على الوالد والولد والزوجة وغيرهم له ثواب عند الله في الدار الآخرة، وإن كان واجبا شرعا وعرفا على الإنسان، وهذا من مزايا الإسلام وفضائله: أن المرء يقوم بواجبه، ومع ذلك يثاب عليه ويعدّ ذلك في سجل حسناته.
وقد بيّن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أولويات النفقة وترتيب المستحقين لها
فقال فيما أخرجه مسلم: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك».
وذكر الرّواة الثّقات سببا آخر للآية السابقة،
قال عطاء: نزلت الآية في رجل أتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن لي دينارا، فقال: أنفقه على نفسك، فقال: إن لي دينارين، فقال:
أنفقهما على أهلك، فقال: إن لي ثلاثة، فقال: أنفقها على خادمك، فقال: إن لي أربعة، فقال: أنفقها على والديك، فقال: إن لي خمسة، فقال: أنفقها على قرابتك، فقال: إن لي ستة، فقال: أنفقها في سبيل الله، وهو أخسّها، أي أقلّها أجرا.
يدلّ هذا الحديث على أن الإنفاق على الأسرة أفضل وجوه الإنفاق.
وتكون نفقة التطوع بعد النفقات الواجبة مما هو زائد عن الحاجة وهي سنة، لقوله تعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) [البقرة: ٢/ ٢١٩].
أبان القرآن الكريم أن القتال أو الجهاد في سبيل الله، وإن كان مكروها للنفس البشرية، ففيه خير كبير للأمة، لأنه إعلاء لكلمة الله والإسلام، ودفع للظلم، ورفع لمنارة الحق والعدل، وسبيل لطرد المعتدين واسترداد الحقوق المغتصبة، وعسى أن يحب الناس شيئا، والواقع أنه شر مستطير عليهم، وعسى أن يكره الناس شيئا والواقع أن فيه خيرا عظيما لهم، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٦]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦)
«١» [البقرة: ٢/ ٢١٦].
ثم بيّن القرآن الكريم أن انتهاك حرمة الشهر الحرام أخف من فتنة الناس عن دينهم، والأشهر الحرم: ذو القعدة وذو الحجّة والمحرم ورجب. وصدّ الناس عن سبيل الله وعن الإسلام، وقتل المسلمين وإخراجهم من ديارهم وأموالهم، ومنعهم عن المسجد الحرام وعن أداء الحج والعمرة وإخراج أهله منه، وهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، كل واحدة من هذه الجرائم التي ارتكبها المشركون، أكبر إثما، وأعظم جرما عند الله والناس، من القتال في الشهر الحرام. قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٧]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧)
«٢» [البقرة: ٢/ ٢١٧].
أوضح الزهري سبب نزول هذه الآية فقال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن
(٢) الشرك والكفر بالله.
أي قد كانوا يقتلونكم وأنتم في حرم الله بعد إيمانكم، وهذا أكبر عند الله من أن تقتلوهم في الشهر الحرام مع كفرهم بالله.
ثم أوضح القرآن المجيد ثواب المجاهدين في سبيل الله كعبد الله بن جحش وصحبه في القصة السابقة، فهؤلاء الذين آمنوا بالله ورسله، وفارقوا الأهل والأوطان لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه ونصرة الحق والعدل، ولحقوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وجاهدوا في الله حق جهاده، هؤلاء لهم الدرجات العلا عند الله، والله يكافئهم ويجازيهم أحسن الجزاء، ويغفر لهم خطاياهم ويرحمهم بفضله وإحسانه، وهو الغفور الرحيم، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)
[البقرة: ٢/ ٢١٨].
هنيئا لهؤلاء المجاهدين المقاتلين أعداءهم لدفع العدوان، واسترداد الحق السليب.
حكم الخمر وبيان مضارها
التدرج في التشريع في صدر الإسلام من خصائص التشريع الإسلامي أخذا بالمبدأ التربوي الذي يعالج الأمر شيئا فشيئا، لإعداد النفس على تقبل الأحكام، والانتقال تدريجا من الأيسر والأسهل إلى الوسط ثم إلى الأشد الأكمل. وهكذا كان تحريم
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل: ١٦/ ٦٧].
وصف تناول العنب والتمر على سبيل التفكه الطازج بالحسن ولم يوصف السّكر بذلك مما يدل على التفرقة بينهما. ثم جاء عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنهما مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فأنزل الله تعالى هذه الآية:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ٢١٩].
ويلاحظ أن الإثم في الخمر: ذهاب العقل والسباب والافتراء وإيذاء الآخرين، والتعدي عليهم في أعراضهم وكراماتهم، والمقصود بالمنافع: كسب الأثمان والنفع التجاري، ولما أخبر الله عز وجلّ أن الإثم أكبر من النفع أو اللذة، وأعود بالضرر في الآخرة، كان ذلك تقدمة أو تمهيدا للتحريم.
ثم منع الله المصلين من أداء الصلاة حال السكر، لأنهم لا يعقلون ما يقولون، فقال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣) [النساء: ٤/ ٤٣].
(٢) ما فضل عن قدر الحاجة.
والأمر باجتناب الخمر والميسر يدل على التحريم وزيادة: وهو التنفير من الاقتراب منها، والبعد عنها بعدا شديدا، لأن تناول الخمر مضيعة للمال، مذهبة للعقل، تدمير للصحة، فهي كما أثبت الأطباء تلحق أضرارا شديدة بجميع أجزاء جهاز الهضم، فضلا عن أضرارها الأدبية حيث يصير السكران موضع استهزاء وسخرية واحتقار لما يصدر عنه عادة من كلام الهذيان، بسبب ضياع عقله واهتزاز أفكاره، وفقد توازن شخصيته، لذا حرّم الله الخمر والمخدرات كالأفيون والحشيش والهراوين، لما فيها من الأضرار،
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «مدمن الخمر كعابد الوثن» «الخمر أم الخبائث» والكبائر، و «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» و «ما أسكر كثيره فقليله حرام» و «لعن الله الخمر ولعن معها عشرة: بائعها ومبتاعها، والمشتراة له، وعاصرها، والمعصورة له، وساقيها، وشاربها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها».
فهذه آثام كثيرة، وكل من ساعد في شرب الخمر حكمه وإثمه كحكم وإثم الشارب تماما، وهكذا يتبين ما للخمر من أضرار شخصية واجتماعية ومالية، ففيها ضرر للفرد والجماعة وفي شرائها تبديد للثروة والمال من غير أي نفع.
تحريم الميسر (القمار) وأضراره
حرم الله الميسر (القمار) كما حرم الخمر، وقرن في آيات التحريم بين الخمر والميسر، لما فيهما من تضييع الأموال وإتلاف الثروات، فقال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)[البقرة: ٢/ ٢١٩].
وقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) [المائدة: ٥/ ٩٠].
وكان تعامل العرب في الجاهلية بالميسر على النحو التالي، كانت سهام الميسر عندهم عشرة، سبعة لها حظوظ، لكل منها نصيب معلوم، وثلاثة لا نصيب لها، وكان لكل واحد منها اسم، أكثرها حظا المعلّى، وأقلها حظا الفذّ، فإذا جاء الشتاء واشتد البرد على الفقراء، اشتروا الجزور (الجمل) وضمن الأغنياء (الأيسار) الثمن، ثم تنحر الجزور، ثم يجعلون السهام (الأعواد) العشرة في كيس أو ربابة، ثم يحركها أمين المقامرين مرتين أو ثلاثا، فيخرج منها الأقداح (الأعواد) فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ نصيبه، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له، لم يأخذ شيئا، وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون الأنصباء الرابحة إلى الفقراء، ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك، ويذمون من لم يشترك معهم، وذلك هو الميسر عند العرب، ويشبه ما يسمى باليانصيب الخيري اليوم.
حرم الله الميسر تحريما قاطعا كتحريم الخمر، لأن الميسر إثم كبير، يؤدي إلى اليسار والغنى الطارئ من غير تعب ولا جهد، ويلحق الضرر بالخاسر، فهو غرم مجهد ثقيل، ويثير العداوة بلا سبب، ويزرع الحقد والكراهية من غير مسوغ، ويضيع الوقت من غير فائدة، ويصرف العقل عن جادة التفكير النافع، ومع ذلك فهو مدعاة للكسل والخمول، واصطياد الثروة والمال من غير عناء ولا مشقة، فلا يكون فيه بركة
والميسر أحد أنواع الاستقسام بالأزلام الذي حرمه الله تعالى بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) [المائدة: ٥/ ٣].
أي معرفة ما قسم للشخص بواسطة الأزلام (أعواد لا نصل لها). وسميت سهام قبل أن تنصل وتراش أزلاما، لأنها زلمت أي سويت فلم يكن نتوء بها أو انخفاض.
وكانت الأزلام ثلاثة أنواع في الجاهلية:
نوع هو قداح الميسر وعددها عشرة، سبعة منها فيها حظوظ، وثلاثة غفل لا حظوظ لها كما بينت.
ونوع كان مع الشخص وعدده ثلاثة، مكتوب على واحد: افعل أو أمرني ربي، والثاني لا تفعل أو نهاني ربي، والثالث غفل، يضعها في كيس، ثم يسحب واحدا منها، فيعمل بما جاء فيه من الإذن بالفعل أو المنع من الفعل، مثل عادة التطير.
ونوع ثالث- سبعة قداح (سهام) كانت عند زعيم الأصنام (هبل) في جوف الكعبة، مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل أو الحوادث، فإذا أراد أحدهم أن يقدم على عمل أو سفر، ذهب إلى الكعبة، فاستشار الأزلام الموجودة عند هبل زعيم الآلهة المنصوب على بئر، فيتحاكم الجاهليون إلى هذه الأزلام، فما خرج منها، رجعوا إليه.
الولاية على مال اليتيم
راعى التشريع الإسلامي ظروف الأيتام وضعفهم، وانعدام خبرتهم بسبب صغرهم في إدارة وتنمية وحفظ أموالهم، فشرع أحكاما خاصة بهم، منها أنه جعل الولاية على أموالهم لأقاربهم الكبار الراشدين كالأب والجد، حفاظا على ثرواتهم، ورفع الشرع الحرج عن الأولياء في مخالطة الأيتام.
كان العرب يخلطون أموالهم بأموال اليتامى، قال سعيد بن جبير لما نزلت آية:
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠) [النساء: ٤/ ١٠]. عزل الأولياء أموالهم، أي تحاشى الصحابة عن اختلاط أموالهم بأموال اليتامى، وجعلوها وحدها قائمة بذاتها، وكان في ذلك ضرر لمال اليتيم في بعض الأحوال، فنزلت آية:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٠]
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
«١» [البقرة: ٢/ ٢٢٠].
لما سأل الصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أيخالطون اليتامى أم يجنبّون أموالهم؟ فقال لهم: إن كان في التجنيب إصلاح لأموال اليتامى فذلك خير، وإن كان في مخالطتهم إصلاح لهم ومنفعة، فذلك خير لأنهم إخوانكم في الدين والنسب، فعليكم أن
ولو شاء الله أن يضيق عليكم ويشدد بأن يوجب التجنيب أو المخالطة، لفعل ذلك، ولكنه ينظر لمصلحة اليتيم، ولا يشدد عليكم، وهو سبحانه العزيز القوي الذي لا يغالب، الحكيم في أحكامه وتصرفاته، لا يشرع إلا ما فيه الحكمة والخير، ويضع الأمور في مواضعها الصحيحة.
وكان هذا الحكم تيسيرا على الأولياء، فخلطوا طعامهم بطعام الأيتام، وشرابهم بشرابهم، والمهم في ذلك مراعاة العدل ومراقبة الله.
فليس هذا الخلط لأموال اليتامى مع أموال الأولياء إلا لفترة زمنية محددة هي حال الصغر، فإذا بلغ الأيتام، وجب إيتاء أموالهم إليهم. وحذر القرآن من أخذ الجيد من مال اليتيم وجعل الرديء من مال الولي مكانه ولا يجوز ضم أموال الأيتام نهائيا لأموال الأولياء، فمن فعل ذلك، فقد ارتكب ذنبا (حوبا) عظيما، قال الله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) [النساء: ٤/ ٢]. أي إثما عظيما.
ولا بد قبل دفع الأموال إلى اليتامى من تدريبهم على حسن التصرف بالمال واختبارهم قبل البلوغ في دينهم وتصرفهم في أموالهم، فإن بلغوا واستكملوا سن الخامسة عشرة، ووجد الأولياء في الأيتام رشدا أي صلاحا في دينهم ومالهم، دفعت إليهم أموالهم، ولا يحل للولي أن يبادر إلى إنفاق مال اليتيم قبل بلوغه سن الرشد، ويجوز للولي الفقير أن يأكل بالمعروف بقدر أجرة عمله من مال اليتيم، وعلى الغني أن يتعفف عن مال اليتيم ويمتنع عن أكله، وإذا سلمت الأموال إلى الأيتام يندب الإشهاد على ذلك لئلا يقع اختلاف، قال الله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦)
الزواج بالمشركات الوثنيات وأحكام الحيض
حارب الإسلام كل قواعد الشرك والوثنية، وقطع أي صلة بين المسلمين والمشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ويعبدون الأصنام، والأوثان، أو يعتقدون بأديان غير سماوية ذات طقوس وهياكل معينة من وضع البشر.
لذا نهى الله سبحانه وتعالى المسلم أن يتزوج المشركة التي لا تدين بدين سماوي، ولا كتاب لها، حتى تؤمن بالله ورسوله، ولأمة مؤمنة رقيقة خير من مشركة أعجبتك بمالها وجمالها وحسبها ونسبها، ولو لم تعجبك فالنهي عنها من باب أولى.
ولا يجوز تزويج المؤمنات من المشركين حتى يؤمنوا أو يتركوا ما هم عليه من الشرك، ولعبد مؤمن خير من مشرك مع ماله من العز والجاه، أعجبكم بفضله أو لم يعجب.
والسر في التحريم، أن أولئك المشركين يدعون إلى الكفر وكل ما هو شر يوصل إلى النار، إذ ليس لهم دين يردعهم، ولا كتاب يهديهم، وتختلف الطبائع بين المؤمن والمشرك، فقلب المؤمن فيه نور، وقلب المشرك فيه ظلام وضلال.
والله يدعو بوساطة عباده المؤمنين إلى ما يوصل إلى الجنة ونعيمها، وإلى المغفرة بإذنه وإرادته، ويبين الله تعالى آياته القرآنية وأحكامه النافعة للمسلمين في دنياهم وأخراهم، ليتذكروا ويتعظوا، فيقدمون على الخير، ويتركون الشر، ويأتمرون بأمر الله، ويجتنبون ووساوس الشيطان.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢١]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)
[البقرة: ٢/ ٢٢١].
قال السّدّي عن ابن عباس: نزلت هذه الآية بالنسبة للأمة المؤمنة في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداء، وإنه غضب عليها فلطمها، ثم إنه فزع، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره خبرها، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: ما هي يا عبد الله؟ فقال: يا رسول الله، هي تصوم وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله، فقال:
يا عبد الله، هذه مؤمنة، قال عبد الله: فو الذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوجنها، ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين، فقالوا: نكح أمة. وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنزل الله تعالى فيه: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ الآية.
وقال ابن عباس أيضا بالنسبة للمشركة: أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى مكة في مهمة، ليخرج ناسا من المسلمين بها أسراء، فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها (عناق) وكانت خليلة له في الجاهلية، فلما أسلم أعرض عنها، فأتته فقالت: ويحك يا مرثد، ألا نخلو؟ فقال لها: إن الإسلام قد حال بيني وبينك وحرمه علينا، ولكن إن شئت تزوجتك على أن أستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله في شأنها ينهاه عن ذلك: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ.. الآية.
ثم ذكر الله تعالى أحكام الحيض والرد على الشذوذ الجنسي في الجاهلية، فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٢ الى ٢٢٣]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
يسألونك- أيها النبي- عن حكم الحيض ووقاع الحائض، فقل لهم: الجماع في الحيض أذى، أي قذر وضرر، فاجتنبوهن في زمن الحيض، والمراد ترك المجامعة، لا ترك المجالسة والاستمتاع بما دون الفرج عند الحنابلة، وما دون الإزار عند الجمهور، ولا تقربوهن بالجماع حتى يطهرن من الحيض بانقطاع الدم، فإذا اغتسلن بالماء حينئذ، فأتوهن في مكان إنجاب الذرية وهو القبل، إن الله يرضى عن التائبين ويثيبهم، ويرضى عن المتطهرين من الجنابة والحيض ونحوهما.
قال أنس بن مالك فيما أخرجه مسلم والترمذي: كان اليهود إذا حاضت المرأة منهم، لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل الأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فنزلت الآية، فقال: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح».
زوجاتكم موضع الإنجاب وإلقاء النّطف، فأتوهن على أية كيفية تريدون قائمة أو قاعدة، أو جالسة نائمة، أو مضطجعة، إذا كان ذلك في موضع النسل، وقدموا عملا صالحا تجدونه لأنفسكم، عند الله، وخافوا الله من الوقوع بالمحرّمات، واعلموا أنكم ملاقو الله يوم القيامة، فيجازيكم بأعمالكم، وبشر المؤمنين بالجنة،
قال جابر فيما أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي: كانت اليهود تقول إذا جامعها في القبل من ورائها: إن الولد يكون أحول، فنزلت الآية نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ.. الآية.
(٢) كيف كان من الهيئات ولكن في القبل، لا في الدبر.
تعظيم الله تعالى واجب، والقسم بالله سبحانه تقديس وتعظيم، فعلى المسلم أن يحترم مقتضى يمينه، ويبرّ بما حلف، ولا ينقض ما أكّد به إرادته وعزمه بالحنث باليمين ومخالفة ما أقسم عليه. ولكن قد يتسرع الإنسان فيحلف أنه لا يفعل كذا من زيارة فلان أو الكلام معه، أو التصدق بشيء من ماله أو الصلح بين الناس، أو يفعل شيئا هو شر عليه، وضرر في دينه وأخلاقه، والله أرشدنا إلى ما هو خير لنا، ونهانا أن نجعل اسمه الكريم مانعا من الخير، أو داعيا إلى الشر، فمن حلف ألا يفعل خيرا، أو يفعل شرا، فليحنث في يمينه، وليكفّر عنها، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٤]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤)
«١». [البقرة: ٢/ ٢٢٤].
وورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يوضح معنى هذه الآية، فقال فيما رواه أحمد ومسلم والترمذي: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه».
وجاءت آية أخرى تؤكد ذلك، قال الله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ «٢» أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور: ٢٤/ ٢٢].
وفسر بعضهم آية وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ بالمنع من كثرة الحلف، تقديسا لاسم الله، ومنعا من ابتذال اليمين والتهاون بترداد اسم الجلالة على الألسن لأن الحلاف (الكثير الحلف) مجترئ على الله، غير معظم له، كما قال تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠) [القلم: ٦٨/ ١٠].
(٢) أي لا يحلفوا أن لا يؤتوا ذوي القرابة والمساكين شيئا من أموالهم.
وأما اليمين اللغو: وهي التي تجري على اللسان عفوا دون قصد اليمين، ولا تخرج عمدا من القلب، مثل لا والله وبلى والله، فهذه لا حنث فيها ولا كفارة، كما لا كفارة على من حلف على شيء يظنه حصل، فبان خلافه، فلا شيء عليه. قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٥]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ٢٢٥]. أي أن المؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في اليمين الغموس الكاذبة، وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة في رأي بعض الفقهاء.
وسبب نزول آية وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ هو أن عبد الله بن رواحة حلف على قطيعة ختنة (صهره زوج بنته) بأن لا يدخل عليه أبدا، ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين امرأته، ويقول: قد حلفت بالله أن لا أفعل، ولا يحل إلا أن أبرّ في يميني، فأنزل الله تعالى هذه الآية:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٤]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤)
[البقرة: ٢/ ٢٢٤].
ثم ذكر الله تعالى حكم الإيلاء بقوله:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٦ الى ٢٢٧]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧)
«٣» «٤» [البقرة: ٢/ ٢٢٦- ٢٢٧].
للذين يحلفون ألا يطؤوا نساءهم انتظار أربعة أشهر، فإن رجعوا عن يمين الإيلاء
(٢) قصدت وتعمدت حلفه.
(٣) يحلفون على ترك الوقاع لزوجاتهم مدة أربعة أشهر فأكثر.
(٤) انتظار.
أخرج مسلم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم آلى وطلق، وسبب إيلائه: سؤال نسائه إياه من النفقة ما ليس عنده.
وقال ابن عباس: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، فوقّت الله أربعة أشهر.
وإن صمموا على الطلاق، فالله سميع لأقوالهم، عليم بمقاصدهم.
حقوق النساء وواجباتهن الزوجية
نظّم الإسلام الحنيف العلاقة بين الزوجين بما يكفل دوام العشرة الزوجية ويحقق سعادة الطرفين، ويرعى الأسرة في بدايتها وأثناء وجودها وبعد انتهاء الرابطة الزوجية.
ومن أهم حقوق الزوج: الحفاظ على النسب، وحقه في نسبة الولد إليه، فإذا انتهت الزوجية، وجب على المرأة شرعا ما يسمى بالعدة، وعدة الطلاق ثلاث حيضات، وعدة الحامل بوضع الحمل، وعدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام، وذلك تقديرا لنعمة الزواج، وإظهارا للأسى والحزن على الفراق، وللتعرف على براءة الرحم من الولد، حتى لا تختلط الأنساب.
ولا يحل للمرأة أن تكتم شيئا مما في رحمها من حمل أو حيض إن كانت مؤمنة بالله واليوم الآخر إيمانا صادقا، وفي ذلك إبطال لعادة النساء في الجاهلية، قال قتادة:
كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد، ففي ذلك نزلت الآية الكريمة:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٨]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
«١»
وتتمة الآية السابقة هي في بيان الحقوق والواجبات المشتركة بين الزوجين، فقال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٨]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
[البقرة:
٢/ ٢٢٨]. فللنساء حقوق وعليهن واجبات، مثل الرجال، لهم حقوق وعليهم واجبات، لأن لكل مخلوق شخصيته وحريته وكرامته، وتفكيره ورغباته، وواجبات المرأة تتفق مع طبيعتها، فعليها شؤون البيت، وواجبات الرجل الكفاح والعمل والإنفاق على الأسرة، وهذا حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم بين علي وفاطمة رضي الله عنهما، إذ جعل فاطمة في البيت تديره وترعاه، وعليا خارج البيت، عليه الجهاد والعمل والبحث عن الرزق.
وليس في هذا إهمال للمرأة أو إنقاص من أهليتها أو الطعن في كفايتها وعقلها وعلمها، وإنما قسمة الواجبات كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يتفق مع طبيعة وفطرة وقدرة كل من الرجل والمرأة، بل إن الإسلام في هذا أراد صون المرأة والحفاظ على كرامتها وعدم تعريضها للأذى والسوء، والدرجة الزائدة للرجل هي درجة القوامة،
(٢) منزلة وفضيلة بقوتهم وإنفاقهم.
أحكام الطلاق
- ١- أوجب الإسلام على الرجال المعاشرة الطيبة للنساء دون إساءة ولا تنفير، كما أوجب التزام حدود الله وأحكامه في أثناء الحياة الزوجية، أو عند الإقدام على أبغض الحلال إلى الله وهو الطلاق، فلا يجوز بحال من الأحوال التلاعب بعواطف المرأة أو بالطلاق لأن الطلاق يقع على المرأة سواء في حال الجد أو في حال الهزل أو في حال المزاح، ولا يجوز أيضا أن يستخدم حق الرجعة بعد الطلاق بقصد الإضرار والإيذاء، لما كان العرب يفعلون في الجاهلية.
كان الرجل إذا طلّق امرأته، ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها، كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأة له، فطلّقها ثم أمهلها، حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها، ثم طلقها، وقال: والله لا آويك إلي ولا تحلين أبدا، أي أنه يتلاعب بالطلاق والرجعة، فلا يجعل المرأة مستقرة على حال واحدة، فلا هي زوجة مستمرة في زواجها، ولا هي مطلقة تستطيع أن تتزوج بزوج آخر بعد انقضاء عدتها، فأنزل الله عز وجل مبينا العدد المسموح به في الطلاق والرجعة:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٩ الى ٢٣٠]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)
«١»
ألا فليتق الله الرجال الذين تتكرر منهم ألفاظ الطلاق في أوقات متعددة، لتهديد المرأة، وحملها على فعل شيء أو ترك شيء، فإن العلاقة بينه وبين امرأته تعتمد على مبدأ أساسي وهو الحل والحرمة، فإذا كانت العلاقة حراما، حرم كل شيء، وكان الأولاد أولاد زنا، إن تشريع الطلاق إنما هو للضرورة أو الحاجة الشديدة إذا استعصت الحلول الطيبة، ووقع النشوز والنفور أو الانحراف، ولم يعد هناك مجال للصلح والاستقامة، وأصبحت الحياة الزوجية جحيما لا يطاق، وحينئذ يجوز الإقدام بعد التروي والتعقل على طلاق واحد، له حق الرجعة بعده، وله طلاق آخر يراجع امرأته في العدة بعده، فإن وقع الطلاق الثلاث، بانت المرأة بينونة كبري، لا تحل له إذا إلا بعد زوجية ثانية جديدة دائمة، ثم إذا تصدعت زوجيته الجديدة بشكل طبيعي، فيمكن حينئذ للزوج الأول تجديد عقد الزواج على هذه المرأة بعد انقضاء عدتها، أما التحليل المؤقت فحرام وهو زنا وتلاعب بشرف الرابطة الزوجية، وليذكر الرجل دائما قول الله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
- ٢- لا يبيح الإسلام إلحاق الضرر والأذى بأحد من الناس، سواء أكان مسلما أم غير مسلم، جارا أم غير جار، قريبا أم بعيدا، زوجة أم زوجا لأن الإضرار اعتداء وظلم وبغي، والظلم مرتعه وخيم، والعدوان أو الاعتداء شر مستطير، لا يورّث خيرا، بل يكون سببا للقضاء على الظالم نفسه.
لهذا أمر الله تعالى في العلاقات الزوجية الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان، والإمساك بالمعروف: هو ارتجاع الزوجة بعد الطلقة الأولى أو الثانية إلى حسن المعاملة والعشرة، والتزام حقوق الزوجية، وإزالة أسباب الكراهية أو الخصومة، والتسريح بإحسان: ترك المرأة المطلقة تتم عدتها بعد الطلقة الثانية، وتكون أملك لنفسها، فلا يراجعها زوجها بقصد الإيذاء وجعلها معلقة، لا زوجة ولا مطلقة، ومن التسريح بإحسان: تطليق المرأة طلاقا ثالثا، فيسرحها الرجل بذلك، وقد أكد القرآن الكريم على هذه الأحكام، فقال سبحانه:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣١]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ٢٣١].
هذا نهي للرجل أن يطوّل العدة على المرأة، مضارّة منه لها، بأن يرتجعها قرب انقضاء عدتها، ثم يطلقها بعد ذلك، فهذا إضرار واضح بإطالة العدة، وجعل المرأة
(٢) استهزاء بالتهاون في الحفاظ عليها.
ولا يجوز أيضا لولي المرأة المطلقة أن يمنعها من الرجوع إلى زوجها السابق، إذا انتهت عدتها، أو يمنعها من الزواج بزوج آخر، إذا حصل التراضي بينهما والتوافق، قال الله:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٢]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)
«١» «٢» «٣» [البقرة: ٢/ ٢٣٢].
نزلت هذه الآية في معقل بن يسار وأخته، أو في جابر بن عبد الله، وذلك أن رجلا طلق أخته، أو بنت عمه، وتركها حتى تمت عدتها، ثم أراد ارتجاعها، فغار جابر، وقال: تركتها وأنت أملك بها، لا زوجتكها أبدا، فنزلت الآية. وقال معقل:
كنت زوّجت أختا لي من رجل، فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوّجتك وأفرشتك وأكرمتك، فطلّقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله، لا تعود إليك أبدا. قال معقل عن صهره: وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ.. فقلت أي معقل: الآن أفعل يا رسول الله، فزوجتها إياه. فإذا كانت الكفاءة متوافرة بين الزوجين ووجد مهر المثل، فلا يصح لولي المرأة منعها من الزواج، ورب فقير كريم الخلق شريف النسب خير من غني سيء الخلق كثير المال.
(٢) أي لا تمنعوهن من الزواج بزوج آخر أو تضيقوا عليهن.
(٣) أنفع وأنمى لكم.
ليس هناك شيء أنفع ماديا ومعنويا للطفل من الرضاع من أمه، فبلبنها يتكون جسده وتنتقل إليه طباعها، ويتربى على أخلاقها ومزاجها، فإذا كانت الأم في عصمة الأب، فعليها الإرضاع، عملا بالأعراف السائدة، وأما إذا كانت مطلّقة، فيكون الرضاع مندوبا لها على سبيل الاستحباب، إلا إذا امتنع الطفل عن الرضاع من غيرها، أو لم يجد الوالد من يرضع لفقر أو لغيره من الأسباب، فيكون الرضاع واجبا عليها.
ويجب على الوالد أجرة الإرضاع لتلك المرأة المطلقة، وتقدير الأجرة بحسب ظروف كل من الوالد والوالدة المرضعة، يسارا وإعسارا غنى أو فقرا.
ويحرم على الوالد إضرار الوالدة بسبب ولدها، بأن تمنع من الرزق والكسوة، أو يؤخذ منها ولدها قهرا، أو تكره على إرضاع، ولا يضارّ الوالد بأن يطلب منه ما ليس في طاقته من رزق أو كسوة، أو تستغل الأم عاطفة الأبوة، فتفرط في شأن الولد وغير ذلك من ألوان الإيذاء والمضايقات، والمراد ألا يحصل ضرر لواحد من الوالدين بسبب الولد.
وإذا مات الوالد وجب على الوارث النفقة والكسوة، فإذا لم يكن للوالد مال، تؤخذ النفقة ممن يرث الطفل لو مات.
ومدة الرضاع الكاملة حولان (سنتان) فإن أراد الوالد والمرضعة فطاما للطفل دون الحولين برضاهما وتشاورهما في مصلحة الطفل، فلا إثم عليهما في ذلك، حيث اقتضت المصلحة العامة هذا.
وإذا أراد الوالدان استرضاع الطفل من مرضعة أجنبية (غير قريبة) بسبب حمل أو مرض، أو عدم إنفاق، فلا جناح (ولا إثم) عليهما بشرط إعطاء المرضعة أجرها بالمعروف، فإن ذلك أدعى للعناية والمحافظة على الولد.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٣]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ٢٣٣].
هذه الأحكام المقررة شرعا من أجل حماية الولد ورعايته والحفاظ على وجوده ومستقبله، وكل انحراف عن هذه الأحكام يستوجب الوقوع في الإثم والمؤاخذة الأخروية، لأن الإسلام رحمة عامة بجميع العالمين، صغارهم وكبارهم.
أحكام المرأة المتوفى عنها زوجها
تظل بعض آثار الزواج باقية بعد انتهائه أو انحلاله، صونا لسمعة المرأة وحماية لشرفها وكرامتها، وتذكيرا بنعمة الزواج، وحفاظا على حقوق الزوج من إلحاق نسب الولد الذي قد يولد به، ومنع خطبتها من رجل آخر خلال فترة زمنية محددة تسمى بالعدة، وعدم جواز إبرام عقد زواج جديد مع رجل آخر حتى تنتهي العدة.
وشرعت العدة في الإسلام الحنيف لمعرفة براءة الرحم، وللحداد على الزوج، وتقتضي العدة فقط الامتناع عن الزينة ولبس الثياب المصبوغة الجميلة، والطيب
(٢) فطاما للولد قبل الحولين.
ومدة عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام، فإذا انتهت العدة فلا تمنع المرأة من الزينة، والخروج من البيت والتعرض لخطبة الرجال بالمعروف شرعا، أي من غير مخالفة للشرع، والله عليم وخبير وبصير بما يعمل النساء والرجال، فالجميع مؤاخذون على الانحراف والتهتك والتبرج. قال الله تعالى مبينا هذه الأحكام:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٤]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
[البقرة: ٢/ ٢٣٤].
وأباح الشرع الشريف للرجل في العدة التعريض بخطبة المرأة المتوفى عنها زوجها أو المطلقة طلاقا بائنا، كأن يمدح الرجل نفسه، ويذكر مآثره على جهة التعريض بالزواج، أو أن يقدم هدية إلى المعتدة، أو يصفها بأنها أهل وكفء للزواج وتكوين أسرة جديدة، ولكن دون مواعدة سرا، أو تواطؤ أو اتفاقات سرية غير معلنة، فهذا مما يضر، ولا يليق أدبا وذوقا في حال من الأحوال، إلا القول المعروف غير المنكر شرعا: وهو ما يعهد مثله بين الناس المهذبين من القول العف والإشارة الخفيفة، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أم سلمة بعد وفاة زوجها، حيث ذكر لها منزلته عند الله تعالى.
ولا يجوز بحال إبرام عقد زواج على أي معتدة في أثناء العدة، وإنما يجوز ذلك بعد انقضاء العدة، وعلى الناس مراقبة الله والحذر منه والخوف من عقابه، فإنه تعالى يعلم ما في النفوس من السر وأخفى، والله غفور رحيم لما يقع من الذنوب خطأ،
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٥]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)
«١» «٢» «٣» [البقرة:
٢/ ٢٣٥]. والخلاصة: يحرم التصريح بخطبة المعتدة، ويحرم قطعا العقد على المعتدة قبل انقضاء العدة، مراعاة لحقوق الزوجية، ولطهارة الرحم وبراءته ومنع اختلاط الأنساب.
متعة الطلاق ومهر غير المدخول بها
لم يهمل الإسلام جانبا من جوانب الحياة الزوجية، وإنما قرر لها أحكاما شرعية معينة، سواء في حال التفاهم والتوادد أم في حال النفرة والتباعد، إبقاء على المودة والمحبة بين الناس، وتخفيفا لأثر الفرقة والخصام، فالحب ينبغي أن يكون معتدلا متزنا لا طيش فيه، ولا تهور، والكراهية أو البغضاء يلزم أن تكون مؤقتة غير منفرة، وفيها تسامح وتساهل، لا تشديد ولا تنفير، ولا تقاطع ولا تدابر.
وفي هذا الجو من الاعتدال في الحب والفراق، قرر الشرع ما يسمى بمتعة الطلاق أي الهدية التي يقدمها الرجل لامرأته بعد طلاقها، وكانت تقدر بثلاثة دنانير أو بثلاثين درهما، وهي عبارة عن كسوة كاملة: قميص داخلي- وخمار رأس وملحفة أي الثوب الظاهري، ويمتّع كل إنسان على قدره وبحسب ثرائه أو يساره وتوسطه وإعساره، هذا بثوب، وهذا بنفقة، وقد متّع الحسن بن علي رضي الله عنهما بعشرين
(٢) أسررتم وأخفيتم.
(٣) المفروض من العدة. [.....]
وتستحب المتعة لسائر المطلقات بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة، وهذا الحق على الذين يحسنون المعاملة، وينظرون إلى المستقبل لتحسين السمعة والعلاقة، قال الله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) [البقرة: ٢: ٢٤١].
وتجب المتعة للمرأة التي لم يسم لها شيء من الصداق (المهر) فتحل المتعة محلّ ما كان ينبغي تحديده وتسميته للمرأة التي طلقت قبل الدخول، وقد أجمع العلماء على أن التي لم يفرض لها مهر ولم يدخل بها، لا شيء لها غير المتعة، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٦]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ٢٣٦].
نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار تزوج امرأة، ولم يسم لها صداقا، ثم طلقها قبل أن يمسها، فقال له صلّى الله عليه وسلم: «متعها ولو بقلنسوتك».
وسبب المتعة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن التزوج لمعنى الذوق وتحقيق مآرب النفس، فقال فيما يرويه الطبراني عن أبي موسى:
«تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات». وأمر النبي بالتزوج لطلب العفة والعصمة، والتماس ثواب الله، وقصد دوام الصحبة، فظن صلحاء المؤمنين أن الطلاق موقع في الإثم، فنزلت هذه الآية ترفع الحرج عن المطلّق قبل الدخول.
أما المرأة التي سمي لها مهر في عقد الزواج، وقد طلقت قبل الدخول، فالواجب لها نصف المهر، تأخذه في كل حال، إلا إذا عفت المرأة المطلقة عن ذلك وأسقطت
(٢) الفقير الحال.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٧]
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)
[البقرة: ٢/ ٢٣٧].
الحفاظ على الصلاة والإيصاء بالعدة والأمر بمتعة الطلاق
الصلاة عماد الدين، وأساس العمل الصالح، فهي أول عمل يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وهي الركن العملي الذي يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، لما لها من الأثر الفعال في تطهير النفس، وغسل الخطايا، فهي كالنهر أو البئر الذي يغتسل به الإنسان خمس مرات في اليوم والليلة، فلا يبقى عليه شيء من الدرن أو الوسخ.
والصلاة صلة بين العبد وربه، وسبب للفوز برضا الله تعالى، وطريق لتفريج الكروب والهموم، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
والصلاة تهذّب النفس، وتعلّم الأخلاق، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتقوّم الاعوجاج والانحراف، وتذكّر بالواجبات، وتؤدي إلى راحة النفس والفكر، من الهموم والقلاقل والاضطرابات، وتزرع في النفس الطمأنينة، وتحقق السعادة، وتملأ القلب خشية لله تعالى.
قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣٨ الى ٢٣٩]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)
«١» «٢» «٣» [البقرة: ٢/ ٢٣٨- ٢٣٩].
والصلاة الوسطى في رأي جماهير الناس: هي صلاة العصر، لتوسطها بين صلاتين قبلها وصلاتين بعدها، ولانشغال الناس في آخر اليوم لإنهاء أعمالهم والفراغ من واجباتهم،
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الصلاة الوسطى: صلاة العصر».
وتواتر الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال يوم وقعة الأحزاب (الخندق) :«شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا».
والقنوت في الصلاة وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ معناه طول الركوع والسجود، والخشوع، وغض البصر، وخفض الجناح (التواضع) وإحضار الخشية والتفكير في الوقوف بين يدي الله تعالى.
ودلت الآية السابقة على خطورة الصلاة وأهميتها، فأبانت أنه لا عذر لأحد في ترك الصلاة، مقيما أو مسافرا، صحيحا أو مريضا، حتى في حال الخوف على النفس أو المال أو العرض، فيستطيع المصلي أن يصلي على أي كيفية كانت، راكبا أو ماشيا، سائرا أو وافقا على أي وضع كان، احتراما لوقت الصلاة، فإذا زال الخوف فعلى المؤمنين أن يذكروا الله في الصلاة ويشكروه، كما علمهم ما لم يكونوا يعلمونه، من كيفية الصلاة في حال الأمن والخوف، ففي الحالة الغالبة من الأمن والطمأنينة أمر
(٢) مطيعين لله خاشعين.
(٣) صلوا مشاة.
ثم ذكر الله حكم الوصية بالعدة وحكم متعة الطلاق، فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٠ الى ٢٤٢]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ٢٤٠- ٢٤٢].
والذين تحضرهم الوفاة، ويتركون زوجات، فليوصوا وصية لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم بالنفقة والسكنى سنة كاملة، من غير إخراج من بيوت الأزواج، فإن خرجن باختيارهن قبل انتهاء السنة، فلا إثم على الولي وغيره فيما فعلن بالخروج وترك الحداد على أزواجهن، وباتباع المعروف في الشرع، مما يدل على تخيير النساء في سكنى العام (الحول) في العدة، والله قوي غالب في ملكه، حكيم في صنعه وتدبير مصالح خلقه، وهذا الحكم منسوخ بآيات المواريث، وبإيجاب عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام.
نزلت في رجل من أهل الطائف قدم المدينة، فمات فيها، فأعطى النبي صلّى الله عليه وسلّم ميراثه لوالديه وأولاده بالمعروف، وأمرهم بأن ينفقوا على المرأة من تركة زوجها إلى الحول.
وللمطلقات عموما المدخول بهن وغير المدخول بهن متعة واجبة أو مستحبة، وقيل: المراد نفقة العدة، بالقدر المستطاع للأزواج، حقا مقررا على الأتقياء. قال
(٢) متعة الطلاق في العدة.
حياة الأمم والشعوب
إن عزة الأمم وحياة الشعوب الكريمة تتطلب أمرين مهمين لهما الأثر البالغ في الحياة، وهما الجهاد والكفاح في سبيل الله والحق، والإنفاق السخي في سبيل المصلحة العامة للوطن والأمة، فإذا ضعفت الأمة وتخلفت عن هذين الأمرين، أصابهما الذل والهوان، وتغلّب عليها الأعداء، وعاشت عيشة العبيد، فلا حرية ولا كرامة، ولا ملكية لشيء، وإنما الملك للسيد الظلوم الغاشم الذي تسلط على هؤلاء المتخاذلين الجبناء.
وتصبح الأمة في هذه الحالة أشبه بالأموات، لأن موت الأمم غالبا له سببان:
الجبن وضعف العزيمة والتخاذل، والثاني- البخل وعدم الإنفاق في سبيل الله والأمة والصالح العام.
وقد أخبر الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم إخبارا في غاية التحذير والتنبيه عن قوم من البشر، خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، إما بسبب الخوف من العدو، أو بسبب وباء عام كالطاعون ونحوه، فأماتهم الله تعالى، ثم أحياهم، ليروا هم وكل من خلف بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف، ولا لاغترار مغتر، وأنزل الله تعالى آيات قرآنية تمهد أمره للمؤمنين من أمة محمد بالجهاد والإنفاق في سبيل الله، حتى لا يكونوا كالأمم الميتة الذين تولوا عن الإنفاق وأعرضوا عن الجهاد وانتحلوا المعاذير الواهية.
قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٣ الى ٢٤٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً..
قال: يا رسول الله، أو أن الله يريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: فإني أقرضت حائطي (بستاني) بيرحاء، فيه ست مائة نخلة، ثم جاء الحائط، وفيه أم الدحداح فقال: اخرجي فإني قد أقرضت ربي حائطي هذا، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كم من عذق رداح «٣» ودار فياح، لأبي الدحداح».
صموئيل وطالوت
هذه قصة النبي صموئيل والملك طالوت في ختام الكلام عن بني إسرائيل في سورة البقرة، تبين أن القتال كان مشروعا في الأمم السابقة، وأن الدفاع عن الحقوق
(٢) يضيّق على قوم، ويوسع على آخرين.
(٣) العذق: النخلة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٦ الى ٢٤٧]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)
«١» «٢» «٣» «٤» [البقرة: ٢/ ٢٤٦- ٢٤٧].
ألم تعلم بقصة جماعة من بني إسرائيل هم وجوه القوم وكبراؤهم، بعد موسى في عصر داود عليهما السلام، حين قالوا لنبيهم (صموئيل) : اختر لنا قائدا للحرب، وجمع الكلمة، فقد صممنا على طرد أعدائنا واسترداد حقوقنا المغتصبة. فقال لهم نبيهم بحكم خبرته وتجربته معهم: أتوقع منكم التخلي عن القتال إن فرض عليكم، فردوا عليه بقولهم: أي شيء يدعونا إلى ترك القتال، وقد أخرجنا من ديارنا وأوطاننا، ومنعنا من أبنائنا، واغتربنا عنهم؟!.
فلما فرض عليهم القتال كما طلبوا، تخلفوا عنه وجبنوا وأعرضوا إلا جماعة قليلة منهم، عبروا النهر مع طالوت، وثبتوا على العهد، والله عالم بمن نقض العهد، وظلم نفسه، فأخلف الوعد.
(٢) قاربتم.
(٣) كيف أو من أين يكون.
(٤) سعة وفضيلة. [.....]
ثم ذكر الله تعالى ما حققه طالوت أثناء ملكه، فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٨ الى ٢٥٢]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨»
(٢) فيه طمأنينة لقلوبكم.
(٣) انفصل عن بيت المقدس.
(٤) مختبركم.
(٥) أخذ بيده.
(٦) لا قدرة ولا قوة لنا.
(٧) جماعة.
(٨) ظهروا.
وقال لهم نبيهم صموئيل: إن علامة ملك طالوت أن يأتيكم صندوق التوراة الذي أخذه منكم أعداؤكم في فلسطين، فيه طمأنينة لقلوبكم وسكون للنفس، فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت، وفيه بقية: قطع من ألواح التوراة، ومخلّفات أو آثار آل موسى وآل هارون، كعصا موسى، تحمله الملائكة حتى تضعه في بيت طالوت، إن في ذلك علامة على ملكه، إن كنتم مؤمنين بالله حقا، فاسمعوا لطالوت وأطيعوه. قال ابن عباس: كانت العماليق قد سبوا التابوت من بني إسرائيل، فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض، وهم ينظرون إليه، حتى وضعوه عند طالوت، فلما رأوا ذلك قالوا: نعم، فسلّموا له وملّكوه، وكانت الأنبياء إذا حضروا قتالا، قدموا التابوت بين أيديهم.
فلما خرج طالوت عن بلده بيت المقدس، مع جنوده، لقتال العمالقة، قال لهم طالوت: إن الله مختبركم بنهر: هو نهر الأردن، فمن شرب منه، فليس من جنودي أو أصحابي، ومن لم يذقه أو لم يشرب منه، فإنه من أتباعي وجنودي، إلا من أخذ منه بمقدار ملء الكف، بالاغتراف غرفة واحدة، فشربوا منه، وعصوا أمر الملك، إلا عددا قليلا منهم، بعدد أصحاب بدر (٣١٤). فلما اجتاز طالوت النهر وجماعته المؤمنون القلة الطائعون، قال ضعفاء الإيمان منهم: لا قدرة لنا على قتال جالوت:
أكبر طاغية وثني، كان قد احتل مع أتباعه فلسطين، ولا قوة لنا على قتال جنوده لكثرتهم وقلة عددنا، قال الذين يتيقنون أنهم ملاقو ربهم في الآخرة: قد تغلب الجماعة القليلة الجماعة الكثيرة، بإرادة الله ونصره وتأييده، والله مع الصابرين بالعون، وإن النصر مع الصبر، وليس بكثرة العدد.
فاستجاب الله دعاءهم، وهزموا العمالقة بأمر الله وإرادته، وقتل داود بن إيشا- أحد جنود عسكر طالوت- جالوت الجبار الكافر، وأعطى الله داود النبوة وهي الحكمة، وجعله ملكا على بني إسرائيل أثناء حياة طالوت، بعد أن كان راعيا، وعلّمه ربه من علومه، كصناعة الدروع، ومعرفة منطق الطير. ولولا مدافعة بعض الناس ببعضهم، ومقاومة الأشرار، لتغلب المفسدون، وقتلوا المؤمنين، وأهلكوا الحرث والنسل والناس الآمنين، ولكن الله صاحب الفضل على العالمين، يتولى رعايتهم وحفظهم.
هذه آيات الله في هذه القصة، نقصّها عليك أيها النبي بالحق: وهو الخبر الصحيح من غير زيادة ولا نقصان ولا تحريف، وإنك يا محمد النبي: من جملة رسل الله، يأتيك وحي الله تعالى، وتخبر به الناس، وهذا تقوية لقلبه وإيناس وتثبيت لشأنه.
درجات الأنبياء وموقف الناس من رسالاتهم
ليس كل الناس على درجة أو مرتبة واحدة، وإنما يتفاوتون في درجاتهم ومراتبهم عند الله وعند الناس بمقدار قيامهم بالواجب، وتفانيهم في أداء الحق، والتزامهم أوامر الله، وتباينهم في العمل الصالح.
وشاءت حكمة الله أن يتفاوت الأنبياء والرسل أيضا في الدرجات بمقدار تضحياتهم وتفاوت آثارهم أو تأثيراتهم في الحياة الإنسانية، فكان ذلك سببا في تفضيل بعض الأنبياء على بعض، بتخصيصه بمفخرة ليست لغيره، وأفضل الرسل:
قال أبو هريرة رضي الله عنه: خير ولد آدم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وهم أولو العزم. وقد سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن آدم: أنبي مرسل هو؟ فقال: «نعم نبي مكلّم»
ولكن كان تكليم آدم في الجنة، لا في الدنيا.
رفع الله بعض الأنبياء على من عداه درجات في الفضل والشرف، وكلم موسى عليه السلام ربه في الدنيا، فهو كليم الله، وآتى الله عيسى ابن مريم الآيات الواضحات، كتكليمه في المهد وهو طفل، وإحياء الموتى وإبراء الأكمه (الذي ولد أعمى) والأبرص بإذن الله، وأيده الله بروح القدس جبريل عليه السلام مع روحه الطاهرة ونفسه الصافية، وتلك هي منزلته دون تفريط ولا إفراط، فاليهود حطت من شأنه واتهمته واتهمت أمه، وغير اليهود رفعوه إلى درجة الألوهية، وواقعه أنه مخلوق بإذن الله وبنفخ الروح فيه من عند الله من غير أب، ومرّ بأدوار الحمل والطفولة كغيره من الناس، وعاش يأكل ويشرب، ويدعوا إلى وحدانية الله، واتباع أوامر الله، والاستعداد لجنان الخلد، والبعد عن المعاصي والمنكرات، كغيره من البشر الأنبياء، فهو رسول كريم على الله، لا يرقى إلى درجة الألوهية.
قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٣]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ٢٥٣].
وقوله تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ إشارة إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، فهو أفضل الأنبياء والرسل، لأنه بعث إلى الناس كافة، وأرسل رحمة للعالمين، وكان خاتم الأنبياء
(٢) جبريل عليه السلام.
قال: «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد من قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة».
أما موقف الناس من اتّباع الأنبياء فهو موقوف متناقض، فإنهم اختلفوا فمنهم من آمن بهم ومنهم من كفر، واقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات والرسل والمعجزات، ولو شاء الله ما اقتتلوا، ولكنهم تركوا أحرارا ليتميز الصالح من الفاسد، ويجعل قبول الدين منبعثا من التفكير والنظر، والله يفعل ما يريد من الحكمة الإلهية السديدة.
الترغيب في الإنفاق
إن بناء الأمجاد في الأمة، وطريق الحفاظ على استقلالها وعزتها وكرامتها يحتاج إلى تعاون أفرادها وتضامن أبنائها، فلا يتحقق تقدم ولا تسمو أمة من دون التضحية بالمال والنفس.
والآخرة ميزان الأعمال الصالحة، وفيها رصيد خالد دائم لكل من يعمل خيرا أو يؤدي واجبا.
ولكن الناس في التعاون وفعل الخير متفاوتون، فمنهم من يقدم على الخير لذاته حبا فيه، ومنهم من يفعل الخير خوفا من العقاب وطلبا للثواب، وهؤلاء هم المحتاجون للتذكير والخطاب الإلهي الآمر بالإنفاق في سبيل المصلحة العامة وقوة الجماعة وتحقيق التكافل الاجتماعي.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)
«١» [البقرة: ٢/ ٢٥٤]. هذه الآية- كما قال ابن جريج- شاملة الزكاة المفروضة والتطوع، وهذا صحيح، فالزكاة واجبة، والتطوع في وجوه الخير مندوب إليه. وظاهر الآية يراد بها جميع وجوه البّر:
من سبيل خير، وصلة رحم، وبناء مسجد أو مشفى أو مدرسة، وإحسان إلى فقير، وتسليح جيش وإغاثة ملهوف، وإعانة منكوب، وإعطاء مفلس أو ابن سبيل منقطع عن السفر إلى بلاده،
يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود في مراسليه: «حصّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة».
ندب الله تعالى بهذه الآية إلى إنفاق شيء مما أنعم به، وحذر تعالى من البخل أو الإمساك إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة في ذات الله ومن أجل رضوان الله، ذلك اليوم الذي لا يجد فيه الإنسان ما ينجيه أو يؤازره غير عمله الصالح، وعقيدته الصحيحة، لا تنفع فيه الصداقة والمحبة أو الخلّة، ولا تفيد فيه شفاعة الشفعاء والوسطاء، فهذا يوم الجزاء والثواب والعقاب، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. يوم يظهر فيه فقر العباد إلى الله الواحد القهار، والكافرون بنعم الله الجاحدون حقوق المال المشروعة هم الظالمون لأنفسهم فقط، والظالمون: واضعو الشيء في غير موضعه، قال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ولم يقل: الظالمون هم الكافرون، أي لأن معنى الآية أن كل كافر ظالم، وليس كل ظالم كافرا، ولو قال: والظالمون هم الكافرون، لكان قد حكم على كل ظالم (وهو من يضع الشيء في غير موضعه) بالكفر.
إن الشفاعة المعدومة يوم القيامة هي الشفاعة الصادرة من الناس بغير إذن الله
والخلاصة: إن الله تعالى ندب أغنياء الأمة لمؤازرة المصالح العامة، ومعاونة المحتاجين، والاسهام في تخليص الأمة من الفقر والجهل والمرض، وذلك لا يكون إلا بالإنفاق المشروع المعقول الذي يحقق المنفعة العامة، وليس بالتبذير بإنفاق المال على موائد اللهو والقمار والشهوات الذاتية.
آية الكرسي قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٥]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [البقرة: ٢/ ٢٥٥].
هذه هي آية الكرسي التي يعنى الناس بها عادة، فيحفظونها، ويقرءونها صباحا ومساء، ويعالجون بها المرضى بالرقية، لما فيها من أسرار عظيمة، ومعان بليغة، وعقائد شاملة، وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة، منها
حديث صحيح الإسناد رواه أبو عبد الله الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سورة البقرة فيها آية، سيدة آي القرآن، لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه: آية الكرسي».
آية الكرسي إذن هي سيدة آي القرآن، وورد أنها تعدل ثلث القرآن،
وروى
(٢) الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه.
(٣) نعاس. [.....]
(٤) الكرسي نؤمن به كما ورد وهو غير العرش، والعرش أكبر منه، وقيل: إنه علم الله.
(٥) لا يثقله ولا يشق عليه.
ومشتملاتها أن الله لا إله يعبد بحق في الوجود إلا هو، وما عداه من الآلهة المزعومة تعبد بغير حق، فالله متفرد بالألوهية، موصوف بالحياة الأبدية، واجب الوجود، الحي الذي لا يموت، القائم بذاته على تدبير خلقه، المخالف لهم في كل صفاتهم، لا يشبهه شيء من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا تغلبه ولا تستولي عليه سنة (نعاس) ولا نوم، مالك الملك، ذو العرش والجبروت، له ما في السماوات والأرض، ذو البطش الشديد، فعّال لما يريد، لا يملك أحد الكلام يوم القيامة إلا بإذنه، ولا يشفع أحد إلا بأمره، يعلم بالكليات والجزئيات، ولا يطلع على علمه أحدا إلا من شاء، ولا يحيط بعلمه أحد إلا بما شاء، واسع الملك والقدرة، الأرض جميعا في قبضته، والسماوات مطويات بيمينه، وسع كرسيه أي علمه السماوات والأرض، فالكرسي: العلم كما قال ابن عباس، والذي تقتضيه الأحاديث: أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش، والعرش أعظم منه،
روى ابن جرير الطبري عن ابن زيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس».
والمهم أن قدرة الله عظيمة شاملة، لا يشغله شأن عن شأن، ولا يشق عليه أمر دون أمر، القاهر لا يغلب، العظيم الذي لا تحيط به الأفهام والعقول جلّ شأنه، لا يعرف كنهه إلا هو سبحانه وتعالى.
هذه الآية منبئة عن عظم الله تعالى وعظم مخلوقاته، وعظم قدرته، فلا يؤوده ولا يثقله حفظ هذا الأمر العظيم،
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: سمعت نبيكم صلّى الله عليه وسلّم على أعواد المنبر، وهو يقول: «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم
الحرية الدينية في الإسلام
من المعلوم أن انتشار الإسلام كان بالإقناع والبرهان، وبالحجة والبيان، لا بالقهر والإكراه والإجبار، فلم يثبت في تاريخ الإسلام أن أحدا من الناس أكره أحدا على دين الإسلام، وإنما كان الناس يدخلون في دين الله أفواجا بحرية وقناعة، وطواعية واختيار.
قال مسروق: كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل أن يبعث النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام، فأتاهما أبوهما فلزمهما، وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا أن يسلما، فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أيدخل بعضي النار، وأنا أنظر؟ فأنزل الله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٦]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [البقرة: ٢/ ٢٥٦].
أي إن الإكراه في الدين ممنوع، ولا جبر ولا إلجاء، على الدخول في الدين، ولا يصح الإلجاء والقهر بعد أن بانت الأدلة والآيات الواضحة الدالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما يبلّغه عن ربه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فقول العوام وأمثالهم من المستشرقين: «إن الإسلام قام بالسيف» دعوى باطلة غير صحيحة ولا ثابتة. أما حروب المسلمين فكانت دفاعية حتى يكف المشركون عن فتنة المسلمين، ويتركوا
(٢) الضلال والكفر.
(٣) أي الأصنام، وكل ما عبد من دون الله راضيا بذلك فهو طاغوت مثل فرعون ونمرود ونحوهما.
(٤) بالعقيدة المحكمة.
(٥) لا انقطاع لها ولا زوال.
ثم بيّن الله تعالى أنه يتولى أمور المؤمنين بالتوفيق والهداية لأقوم الطريق، فقال سبحانه:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٧]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)
[البقرة: ٢/ ٢٥٧]. أي إن الله تعالى يتولى شؤون عباده المؤمنين، فهو يرشدهم إلى الصراط المستقيم، ويخرجهم من ظلمات الشك والشبهة إلى نور العلم والمعرفة واليقين، أما الذين كفروا بالله ورسوله، فيتولى الطاغوت (أي الشيطان) أمورهم، وينقلهم من نور الحق والإيمان إلى ظلمات الكفر والنفاق، والشك والضلال، وهؤلاء الكفار هم الذين بعدوا عن الهدى والصواب، وتمادوا في الغي والضلال، وهم أصحاب النار الملازمون لها، الخالدون فيها.
هذه مقارنة عملية مثمرة بين فئتين من الناس، فمن آمن بربه ورسله جميعا وبكل ما أنزل من كتاب وحكمة، فالله وليه، يخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن كفر بعد وجود النبي المرسل والقرآن المنزّل، فوليه شيطانه، وهو الذي يغويه، ويخرجه من دائرة الإيمان إلى ظلمة الكفر والضلال.
قصة النمرود وإبراهيم والعزير وحماره
ضرب الله تعالى مثلا واضحا للمؤمن الواعي اليقظ، وللكافر الغبي المتسلط، بإبراهيم عليه السلام، ليبين أدلة الإيمان الفطرية، وحجج الكفر المتهافتة الساقطة،
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٥٨ الى ٢٦٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [البقرة: ٢/ ٢٥٨- ٢٦٠].
ألم تعلم قصة النمرود الملك المتجبر ملك بابل في العراق، الذي عارض إبراهيم عليه السلام وجادله في ربوبية الله تعالى، بسبب ملكه وسلطانه وما أعقبه من كبرياء وغرور، فكفر بأنعم الله، حين قال: يا إبراهيم من ربك؟ فقال: ربي هو الذي يحيي الناس ويميتهم، قال نمرود: أنا أيضا أحيي وأميت، قال ابن عباس: أتى برجلين، فقتل أحدهما وعفا عن الآخر، وادعى أنه أحيا وأمات، وذلك مغالطة، لأن إبراهيم أراد أن الله هو الذي يخلق الحياة والموت في الأشياء، فقال له إبراهيم عليه
(٢) ساقطة على سقوفها.
(٣) كيف يحيي أو متى؟
(٤) لم يتغير مع مرور السنين عليه.
(٥) نرفعها من الأرض لنؤلفها مرة أخرى.
وهل رأيت أيها النبي مثل العزير من بني إسرائيل، حين مرّ على أهل قرية من أرض بيت المقدس، بعد تخريب بختنصّر لها، فصارت خاوية من السكان، والبيوت قائمة، أو أن المساكن ساقطة على سقوفها المدمرة، فقال: كيف يحيى الله أهل هذه القرية، أو كيف تعود فيها الحياة بالبناء والعمارة والسكان؟ فأماته الله بنفسه، مائة سنة، ثم بعثه حيا بعد موته، فقال له: كم مكثت هنا ميتا؟ قال بحسب ظنه: مكثت يوما أو بعض يوم، معتقدا أنه نام وأفاق، قال له ربه: بل مكثت ميتا مائة سنة، فانظر إلى ما كان معك من طعام وشراب لم يتغير مع طول المدة بقدرة الله، وانظر إلى حمارك الذي مات كيف نحييه بعد تفرق أجزائه، ولنجعلك مثالا على البعث بعد الموت، ودليلا على قدرتنا، وانظر إلى العظام، كيف نرفع بعضها من الأرض، ونضم أجزاءها، ثم نردها إلى أماكنها، ثم نسترها باللحم، فلما اتضح له ذلك عيانا، بعد تعجب، قال: أعلم واطمئن أن الله قادر على كل شيء لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
واذكر أيها النبي حين قال إبراهيم الخليل عليه السلام: رب أرني رؤية عين، لا رؤية قلب، ليطمئن قلبي، كيف تعيد الموتى أحياء، فقال الله له: أولم تصدق بقدرتي على الإحياء حتى ترى؟ قال: بلى يا رب، علمت وآمنت بقدرتك، ولكن سألت ذلك ليزداد يقيني باجتماع المعاينة إلى الاستدلال على الإيمان، قال: فخذ أربعة طيور، وضمهن واجمعهن إليك، ثم قطّعهن، واجعل في كل جبل من كل واحد منهن جزءا، ثم نادهنّ، يجئن إليك مسرعات في الطيران، واعلم يا إبراهيم أن الله قوي غالب لا يعجزه شيء، حكيم في صنعه وتدبيره.
الكثير من الناس ينفقون أموالهم بسخاء وفير على مصالحهم الخاصة وأهوائهم الذاتية ومآربهم المادية، والقليل من الناس من ينفق شيئا من ماله في سبيل الله والمصلحة العامة العليا للأمة، لذا رغبّ القرآن الكريم بالإنفاق في سبيل الله، وأبان أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦١]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١)
[البقرة: ٢/ ٢٦١]. هذا تصوير مادي محسوس لثواب الإنفاق في سبيل الله وزيادته وأجره، يدل على أن الأجر يكون بمقدار سبع مائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء أضعافا مضاعفة، إذ هو الواسع الفضل، الكريم العليم بكل شيء، وهذه الآية في نفقة التطوع، وسبل الله كثيرة، وهي جميع ما هو طاعة وعائد بمنفعة على المسلمين والملّة، وأشهرها وأعظمها غناء:
الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا.
قال ابن عمر: لما نزلت هذه الآية قال النبي عليه الصلاة والسلام- فيما يرويه ابن حبان في صحيحة وغيره- ربّ زد أمتي، فنزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ فقال: رب زد أمتي، فنزلت: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ.
ومن أهم آداب الإنفاق: الإنفاق سرا قاصدا به صاحبه وجه الله لا رياء ولا سمعة ولا شهرة، ومن آداب الإنفاق الذي يستحق مضاعفة الثواب المذكور إنما هو لمن لم يتبع إنفاقه منّا ولا أذى، فهذا هو الذي يريد وجه الله تعالى ويرجو ثوابه، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٢]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ٢٦٢].
(٢) تطاولا وتفاخرا بالعطاء. [.....]
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٢]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢)
[البقرة: ٢/ ٢٦٢].
نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، أما
عبد الرحمن بن عوف: فإنه جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بأربعة آلاف درهم صدقة، وقال: كان عندي ثمانية آلاف درهم، فأمسكت منهم لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها ربي، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بارك الله لك فيما أمسكت، وفيما أعطيت».
وأما عثمان رضي الله عنه فقال: علي جهاز من لا جهاز له، في غزوة تبوك، فجهز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها (أي بما يوضع على ظهورها) وتصدق ببئر رومة التي كانت قريبة من المدينة على المسلمين، فنزلت فيهما هذه الآية المتقدمة،
وقال النبي عن عثمان: «يا رب إن عثمان بن عفان رضيت عنه، فارض عنه».
ثم بيّن الله تعالى حال المنفق لله وفي سبيل الله وبقصد تثبيت نفسه على الخير، فمثله كمثل الأرض الطيبة التربة، الخصبة النماء، فهو يجود بقدر سعته وما في يده، فإن أصابه خير كثير أنفق كثيرا، وإن أصابه قليل، أنفق على قدر سعته، فخيره دائم وبره لا ينقطع، كالبستان الذي يثمر بصفة دائمة، سواء نزل عليه مطر كثير أو قليل.
قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٥]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)
«١» «٢» «٣» «٤» [البقرة: ٢/ ٢٦٥].
ثم أورد الله سبحانه مثلا ثانيا لمن ينفق ماله في سبيل الشيطان ومرضاة لنفسه وهواه، وللرياء والسمعة والمباهاة، فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٦]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
(٢) بستان بمرتفع من الأرض.
(٣) ثمرها المأكول.
(٤) مطر خفيف.
أيها المنفق لغير الله، مثلك كمثل من له بستان فيه نخيل وأعناب وزروع من كل صنف، تجري الأنهار فيما بينها، وفيها من كل الثمرات التي تشتهيها، وأنت رجل كبير مسنّ أدركتك الشيوخة، وأصابك ضعف الكبر، ولك ذرية ضعفاء صغار لا يقدرون على الكسب، وليس لك غير هذا البستان، فأصابه بأمر الله ريح شديدة عاصفة، وسموم كالنار أو أشد، فاحترق الشجر، وأباد الثمر، وأنت في أشد الحاجة إلى نتيجة عملك، وثمرة جهدك في شبابك.
إن من ينفق في سبيل الشيطان والهوى والرياء يظن أنه ينتفع بإنفاقه، ثم يفاجأ بأنه لا يجد نتيجة لعمله، لتبدد أثره، وضياع فائدته، فهو مثل ذلك الرجل المسن صاحب تلك الجنة (أي البستان) يأتي يوم القيامة، فلا يجد لعمله إلا الحسرة والندامة، لقد علّق الشيخ الكبير المسن- كالمتقاعد اليوم- الأمل على دخل معين في آخر الحياة، ثم لا يجد هذا الشيخ هذا الدخل، نجده كيف يعتصر الألم كبده، ويموت حرقة وأسفا على فقدان دخله وضياع ماله بعاصفة من السماء، إن المنفق رياء أو في سبيل الشيطان مثله مثل هذا المسن الذي فقد المال في الدنيا، وضاع عليه النعيم في آخر حياته، فيموت كمدا وحسرة وألما، بسبب سوء تصرفه وخبث نيته وقصده.
(٢) سموم شديدة أو صاعقة.
وإذا لم يرد الإنسان الصدقة، فليكن رده طيبا، وقوله حسنا معروفا، دون إساءة، فالكلام الجميل تهدأ به نفس السائل، وهو خير للسائل والمسؤول من صدقة يتبعها أذى وضرر، إذ شرعت الصدقة لتقريب الناس من بعضهم بعضا، وتخفيف حدة الحسد والحقد بين فئات الناس، والأذى والمن يخرجها عن وضعها الصحيح، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٣]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣)
[البقرة: ٢/ ٢٦٣].
ثم خاطب الله المؤمنين بوصف الإيمان، ليكون ذلك أدعى للقبول والامتثال، فحرّم عليهم المن والأذى صراحة، فقال سبحانه:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)
«١» «٢» «٣» «٤» [البقرة: ٢/ ٢٦٤].
قال العلماء: إن الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمّن أو يؤذي، فإنه لا يتقبّل صدقته. وذلك لأن من منّ أو آذى غيره كمن ينفق ماله للرياء والسمعة، والذي يرائي كمثل حجر أصم عليه تراب، وقد نزل عليه مطر شديد، فذهب التراب، وبقي الحجر أملس، وهكذا الذي يمنّ أو يرائي يلبس ثوبا غير ثوبه، ثم لا يلبث أن ينكشف أمره، فيكون ما يلبس به كالتراب على الصفوان: (الحجر الأملس) الذي يذهب به الوابل (المطر الشديد) فلا يبقى من أثره شيء.
(٢) حجر كبير أملس.
(٣) مطر شديد.
(٤) أجرد نقيا من التراب.
المال أمانة في يد الإنسان، يتردد بين الدخل والنفقة، وكما أن الحصول على المال أمر صعب غير يسير، لأنه يتطلب الكسب المشروع الحلال، كذلك الإنفاق ليس أمره هينا، فمن السهل جمع المال، ولكن من الصعب المحافظة على المال أو ادخار ثواب إنفاقه على المحرومين، فالإنسان ابن مجتمعة، يقصده المحتاجون إن كان موسرا غنيا، ويتطلع إلى ما ائتمنه الله عليه الفقير المسكين، وينبغي أن يكون الإنفاق ضمن أصول معينة:
الأصل الأول- الإنفاق من الطيب (أي الجيد الحسن) وعدم إعطاء الرديء أو الخبيث، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
«١» «٢» [البقرة: ٢/ ٢٦٧]. فلا يصح للمتصدق سواء في الزكاة المفروضة أم في التطوعات المالية أن يتعمد إعطاء الفقير الخبيث الرديء، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وليس من الأدب أو الإحسان أن يجعل الإنسان لله ما يكره من المال.
وسبب نزول هذه الآية ما
قال جابر: أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بزكاة الفطر بصاع من تمر، فجاء رجل بتمر رديء، فنزل القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ.. الآية.
أي أنفقوا من جياد أموالكم ولا تقصدوا الخبيث الرديء أو الفاسد أو الخاسر، فتجعلوا صدقتكم منه خاصة دون الجيد، فهذا نهي عن تعمد الصدقة من الخبيث دون الطيب، وكما قال تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) [آل عمران: ٣/ ٩٢.]
(٢) أي تتساهلوا في أخذه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦٨ الى ٢٦٩]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)
[البقرة: ٢/ ٢٦٨- ٢٦٩].
فبعد أن رغّب الله سبحانه في الإنفاق الطيب، حذّر من وسوسة الشيطان وعداوته في ذلك، وأخبر سبحانه بمغفرته للمنفق وفضله عليه وسعة خزائنه لتعويضه، وعلمه بقصده الحسن، وإيتائه الحكمة لمن يشاء في وضع المال في موضعه الصحيح المفيد، والله ذو الفضل العظيم، والمغفرة: الستر على العباد في الدنيا والآخرة، والفضل: هو الرزق في الدنيا، والنعيم في الآخرة، وأي خير في الدنيا والآخرة بعد توفيق الله وهدايته في فهم الأمور على حقيقتها، وإدراك الأشياء على وضعها الصحيح، ومنها أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.
والأصل الثالث- مشروعية الإنفاق سرا وعلانية: على المؤمن أن يقصد في عمله وجه الله، ويخلص في إعطاء الصدقة للمحتاجين، وسيجد ثواب ذلك حتما في الآخرة فلا يضيع، وكل شيء يعلم به الله، ويدخر لصاحبه فيه الأجر، ولا مانع بعد توافر الإخلاص وحسن القصد إبداء الصدقة لتشجيع الآخرين أو الإسرار بها منعا من الرياء وحب السمعة، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٠ الى ٢٧١]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)
[البقرة: ٢/ ٢٧٠- ٢٧١].
ويرى العلماء كابن عباس وغيره أن إبداء الصدقة الواجبة (أي الزكاة) خير
صفات المستحقين للصدقة
بيّن القرآن الكريم صفات مستحقي الصدقة، حتى تقع في موقعها الصحيح وعلى الوجه الذي يرضي الله تعالى.
أما الصفة الأولى- فيجوز للمسلم أن يتصدق على المحتاج الفقير، سواء أكان مسلما أم غير مسلم، احتراما لإنسانيته، ودفعا لحاجته، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٢]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)
[البقرة: ٢/ ٢٧٢].
ذكر سعيد بن جبير سبب نزول هذه الآية: إن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة غير المسلمين، فلما كثر فقراء المسلمين، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم»
فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من أهل دين الإسلام.
والصفات الأخرى لمن تعطى الصدقة لهم كثيرة، أهمها: إعطاء الصدقة لمن حبس نفسه على الجهاد في سبيل الله ولم يقم بالكسب المعيشي كغيره من الناس، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٣]
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [البقرة: ٢/ ٢٧٣].
(٢) سفرا للتكسب. [.....]
(٣) الترفع عن السؤال.
(٤) بعلامتهم أو هيئتهم الدالة على الفاقة والحاجة.
(٥) إلحاحا في السؤال.
ومن صفات المعطى لهم الصدقة: العجز عن العمل أو التجارة والكسب، بسبب ضعف أو كبر أو ضرورة، ومن صفاتهم التعفف، فهم الذين يحسبهم الذي يجهل حالهم أغنياء من عفتهم وصبرهم وقناعتهم، فعندهم عزة المؤمنين وتوكل المتوكلين.
ومن صفاتهم وعلاماتهم: الضمور والنحول والضعف، ورثاثة الثياب، وهذا متروك لفراسة المؤمن، فربّ فقير مظهره حسن، وغني ذو ثياب رثة. ومن صفاتهم: عدم الإلحاح في السؤال، فهم لا يسألون ولا يستجدون أصلا، أو لا يسألون الناس ملحين أو ملحفين في المسألة،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والنسائي: «لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرّة سوي»
أي قادر على العمل.
ثم سوّى القرآن الكريم بين صدقة السر وصدقة العلانية في الأجر والثواب، فقال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٤]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)
[البقرة: ٢/ ٢٧٤].
قال الكلبي: لما نزل قوله تعالى:
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ... [البقرة: ٢/ ٢٧٠] قالوا: يا رسول الله، صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
فمن تصدق بشيء لله سرا أو علنا، فله الأجر الكامل عند ربه الذي رباه وتعهده في بطن أمه وبعد ولادته، ولا خوف عليه أصلا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا هو يحزن أبدا، وهكذا كل من سار على نهج القرآن واهتدى بهديه، فأولئك هم المفلحون.
الإسلام دين الرحمة والعطف والتعاون، أوجب على الناس أن يتآزروا في وقت الشدة والضيق، وأن يتراحموا في وقت العسر والمشقة، فإذا احتاج الواحد إلى مبلغ من المال، فعلى الآخرين مساعدته بالصدقة أو غيرها من ألوان المساعدة، ولا يرهقه بإقراضه مبلغا من المال مع زيادة معينة أو نسبية تتزايد مع مرور الزمان، لأن الله تعالى يبارك للغني فيما يتصدق به ويعوضه خيرا عما أنفق، وينمي له ماله بوسائل مختلفة، ويكون المتصدق محبوبا عند الله والناس أجمعين، فلا حسد ولا بغضاء، ولا غش ولا احتيال، ولا سرقة ولا اغتصاب، ولا تآمر ولا إيذاء، وهذا كله مما يساعد على نمو المال وزيادته، قال الله تعالى:
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا «١» وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ «٢» وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ «٣» [البقرة: ٢/ ٢٧٦]. وآيات الربا هي:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٥ الى ٢٨١]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
[البقرة: ٢/ ٢٧٥- ٢٨١].
(٢) أي يزيد ويبارك.
(٣) مقيم على كفره بتحليل الربا، فاجر فاسق بأكله الربا.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) [البقرة: ٢/ ٢٧٧].
آية الدّين
نظّم الإسلام شؤون المعاملات والعقود بين الناس على أساس من الحق والعدل والحكمة، وصان حقوق الناس وحفظ أموالهم وندبهم إلى توثيق عقودهم ومعاملاتهم المؤجلة بالكتابة والسندات، والشهادة والشهود، على سبيل الاحتياط للناس، وتجنبا من احتمال إنكار أصل الحق أو عدم الاعتراف به، بسبب قلة التدين، وضعف اليقين، وفساد الذمة، واستبداد الطمع والجشع.
جاء تنظيم المعاملات في أطول آية في القرآن الكريم، عناية بها، وحرصا على المصالح، ومنع المنازعات والخصومات بسبب المال، قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)
«٢» «٣» «٤»
(٢) الإملال هو الإملاء، أي وليمل وليقر.
(٣) لا ينقص.
(٤) أن يملي ويقر.
أرشدت هذه الآية الكريمة إلى مجموعة قواعد وأحكام في المعاملات الجارية بين الناس، أولها- الندب إلى كتابة الدين المؤجل في الذمة، سواء أكان تأجيله من طريق القرض أم البيع أم عقد السّلم (وهو بيع شيء موصوف مؤجل تسليمه إلى المستقبل).
وعلى الكاتب أن يكتب بالعدل، وأن يكون عالما بأصول الكتابة وشروطها، وألا يمتنع عن الكتابة ما دام يمكنه ذلك، وعليه أن يكتب كما علّمه الله، دون زيادة ولا نقص، ولا إضرار بأحد.
وعلى المدين الذي يملي على الكاتب الإملاء بالحق، فلا يزيد ولا ينقص من الحق شيئا عند الإملاء.
وإذا كان المدين الذي عليه الحق سفيها لا يحسن التصرف في ماله لنقص عقله أو تبذيره، أو كان ضعيفا لصغر سنه أو شيخوخته، أو لا يستطيع الإملاء لجهله أو لكنة في لسانه، فيتولى الإملاء وليه القريب أو البعيد الذي يتولى أموره من قيّم أو وكيل أو مترجم، ويكون إملاؤه بالعدل والإنصاف والشهادة على الحق: إما بشهادة رجلين عدلين عاقلين بالغين، أو شهادة رجل وامرأتين، بسبب قلة عناية النساء بالأمور المالية، وقلة ضبطهن، لانشغالهن بأمور المنزل وتربية الأولاد، فيكون تذكرهن
(٢) لا تملّوا ولا تضجروا.
(٣) أعدل. [.....]
(٤) أثبت لها وأعدل على أدائها.
(٥) أقرب.
(٦) خروج عن الطاعة.
الرهن والائتمان
تضمنت آية الدين وآية الرهن في سورة البقرة أمرين خلقيين أساسيين لزرع الثقة بين الناس، والاطمئنان إلى أماناتهم، ودرء الشكوك عنهم، وهما الائتمان، والتقوى، فإذا توفرت الثقة وتحقق الائتمان، فعلى المؤتمن أداء الحق دون مماطلة ولا تسويف، ولا تهرب ولا تحريف، ولا نقص ولا زيادة، وهذا دليل على أن الأمر بكتابة الدين للندب والإرشاد، لا للحتم والوجوب، فمن وثق بغيره ثقة تامة يطمئن بها، فلا حاجة له ولا ضرورة للوثائق والسندات، وكتابة الديون والإشهاد عليها من أجل حفظ الأموال والديون.
وأما تقوى الله فهي بمثابة الدرع الواقي الذي يمنع المؤمن من أكل المال بالباطل، والزيادة والنقص في الإقرار بالحقوق، والتقوى أيضا سبيل التذكر التام بالحق، وطريق الحصول على العلوم والمعارف المفيدة في الحياة، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: ٢/ ٢٨٢].
وإذا تعذرت كتابة الدين، بسبب السفر أو فقدان الكاتب أو عدم توافر أدوات الكتابة، قام تقديم الرهن مقام الكتابة، والرهن مشروع ثابت في القرآن والسنة النبوية في جميع الأحوال، وفي السفر والحضر. ويتطلب الرهن احتباس العين المرهونة
قال الله تعالى مبينا مشروعية الرهن:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٣]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)
[البقرة: ٢/ ٢٨٣].
فالخوف على خراب ذمة الغريم (المدين) أو مماطلته في أداء الدين عذر يجيز طلب الرهن،
وقد رهن النبي صلّى الله عليه وسلّم درعه عند يهودي، في مقابل شعير اقترضه، منه، فقال اليهودي: «إنما يريد محمد أن يذهب بمالي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيحين: «كذب، إني لأمين في الأرض، أمين في السماء، ولو ائتمنّي لأديت، اذهبوا إليه بدرعي».
فإن صدف أن ائتمن شخص غيره على شيء من غير رهن، فعلى المؤتمن، أن يؤدي الأمانة كاملة في ميعادها، وليتق الله ربه، فلا يخون في الأمانة، فالله هو الشاهد الرقيب عليه، وكفى بالله شاهدا وحسيبا. ويحرم كتمان الشهادة على الديون أو الحقوق، وكتمان الشهادة وشهادة الزور من الكبائر، ومن كتم الشهادة فإنه عاص آثم قلبه، وخص الله تعالى ذكر القلب، لأن الكتم من أفعال القلوب.
وتظل هيمنة الله على كل أعمال الناس وعلمه بأفعالهم خير رقيب وباعث على أداء الحقوق والأمانات والوفاء بالعهود، وأداء الشهادة دون كتمان، وإذا كان الله عليما بكل شيء من أفعالنا، فهو يجازي عليها في الآخرة، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
إن قدرة البشر محدودة ضعيفة، مهما ظن الإنسان بقوته وقدرته، فتراه مبهوتا عاجزا مشدوها أمام المخلوقات الكونية العظمى، لا يستطيع الإحاطة بها، أو إيجاد مثلها، أو التأثير فيها إيجادا وإعداما، أو تغييرا وتبديلا لمسيرتها وحركتها.
أما قدرة الله جلّ جلاله فهي شاملة غير محدودة، كاملة تامة غير منقوصة، أوجد الكون بقدرته، وسيّره وصرّفه بعلمه، ووجّهه الوجهة الصالحة بحكمته، ويعلم كل شيء عنه، سواء أكان دقيقا صغيرا أم عظيما كبيرا، لأن مالك الشيء وخالقه يعلم كل شيء عنه: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) [الملك: ٦٧/ ١٤].
إن جميع ما في السماوات وما في الأرض ملك لله ومخلوق لله، فهو المالك وهو الخالق، وهو المتصرف، وهو العليم بكل شيء، لأنه الموجد المخترع المبدع، لا إله غيره ولا رب سواه، وهو سبحانه يعلم بأحوال جميع المخلوقات، من جماد وحيوان لا يعقل، وأجناس ثلاثة تعقل وهي الملائكة والإنس والجن.
ويعلم الله تعالى جميع ما تضمره النفوس وتكتمه أو تخفيه من النوايا والوساوس والخواطر التي لا يتأتى للإنسان دفعها أو السيطرة عليها، ويعلم سبحانه أيضا ما تظهره النفوس ويستقر فيها من الأفكار والأخلاق والأدواء الباطنة، والأفعال والأعمال الظاهرة، ويحاسب الإنسان عليها، ويجازيه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٤]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
[البقرة: ٢/ ٢٨٤].
قال جماعة من الصحابة والتابعين كابن عباس وأبي هريرة والشعبي: إن هذه الآية لما نزلت، شقّ ذلك على أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: هلكنا يا رسول الله، إن حوسبنا بخواطر أنفسنا، يا رسول الله، كلفنا من الأعمال ما
بل قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فكشف عنهم الكربة، وفرّج عنهم.
لقد ظن بعض الصحابة خطأ أن الله تعالى يحاسب العباد على الوساوس والخواطر التي لا يمكن للإنسان دفعها أو التخلص منها، فأنزل الله لهم بيانا نصا واضحا على حكمه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، والخواطر ليست مما يدخل في الوسع دفعها، فلا حساب عليها.
والواقع أن هذه الآية وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ليس المراد بها الحساب على الوساوس والخواطر، وإنما المقصود بها أن الله تعالى يعلم ويحاسب على ما استقر في النفوس من الخلق الراسخ الثابت كالحب والبغض، وكتمان الشهادة، وقصد الخير والسوء، مما هو مقدور للإنسان، وتكون آية لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
ليست ناسخة لهذه الآية، وإنما هي موضحة. والله تعالى يغفر لمن يشاء ذنبه، بتوفيقه إلى التوبة والعمل الصالح الذي يمحو السيئة، ويعذب من يشاء، لأنه لم يعمل خيرا يكفر عنه سيئاته، ولم يتب إلى الله، والله على كل شيء أراده قدير.
أركان الإيمان
تتردد كلمة الإيمان على بعض الألسنة دون بيان مضمونها أو تحديد عناصرها، فهناك إيمان أجوف فاقد المحتوى، وإيمان ناقص، وإيمان مشوّه، وإيمان سيء، وإيمان باطل قائم على الأوهام والخرافات كإيمان الوثنيين.
والإيمان بالله: هو التصديق به وبصفاته ورفض الأصنام وكل معبود سواه، إنه التصديق بأن الله سبحانه موجود موصوف بصفات الجلال والكمال، منزه عن صفات النقص، وأنه واحد حق صمد، فرد خالق جميع المخلوقات، متصرف فيما يشاء، ويفعل في ملكه ما يريد.
والإيمان بالملائكة: هو اعتقاد وجودهم وأنهم عباد الله، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم كقولهم: الملائكة بنات الله، لكن الملائكة هم عباد الله المكرمون، لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون.
والإيمان بالكتب الإلهية: هو التصديق بكل ما أنزل الله على الأنبياء من الوصايا والحكم والأحكام والشرائع والآداب والأخلاق، وعدد هذه الكتب والصحف مائة وأربعة، والأربعة هي التوراة والزبور والإنجيل والقرآن.
والإيمان بالرسل- رسل الله-: هو الاعتقاد بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى، الذي أيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم، وأنهم بلّغوا عن الله ورسالاته، وبيّنوا للمكلفين ما أمرهم الله به، وأنه يجب احترامهم، وأن لا يفرّق بين أحد منهم.
والإيمان باليوم الآخر: هو التصديق بيوم القيامة، وما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت، والحشر والنشر من القبور، والحساب والميزان، والصراط، والجنة والنار، وأنهما دار ثوابه وجزائه للمحسنين والمسيئين.
وقد أبان القرآن الكريم أصول الإيمان وأركانه، فقال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٥]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥)
«١» [البقرة: ٢/ ٢٨٥].
والمعنى: صدّق الرسول بالذي أنزل إليه من ربه من الآيات والأحكام، وصدّق معه المؤمنون، كلهم آمنوا بوجود الله ووحدانيته وبوجود عنصر الملائكة، وبإنزال الكتب من الله، وبإرسال الرسل الكرام، لا نفرّق نحن المؤمنين بين رسله، إذ كل الأنبياء المرسلين سواء في الرسالة والتشريع، لا يختلف واحد عن واحد، وهذه مزية المسلمين يؤمنون بكل الأنبياء، دون تفرقة بين نبي وآخر، نؤمن بكل ما ذكر، ونقول: سمعنا القول سماع وعي وقبول، وأطعنا ما أمرنا به طاعة إذعان وانقياد، معتقدين أن كل أمر ونهي إنما هو لخيري الدنيا والآخرة، ونسأل الله دائما أن يغفر لنا خطايانا، وإليه المرجع والمآب.
ولما سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإيمان قال في الصحيحين:
«أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره».
الإسلام دين اليسر والسماحة، فلا عناء ولا مشقة في تكاليفه، ولا حرج في جميع ما أمر به أو نهى عنه، ليكون المسلمون في راحة وطمأنينة، ويداوموا على الأعمال من غير مضايقة ولا سأم أو ملل. وهذا من فضل الله تعالى على الأمة الإسلامية، قال الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. [البقرة: ٢/ ١٨٥].
وقال عزّ وجلّ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: ٢٢/ ٧٨]. وقال سبحانه:
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ٦٤/ ١٦].
ومن مزيد فضل الله علينا أن علّمنا الدعاء بطلب اليسر والتيسير في أداء الواجبات، والتكليف بالأحكام الشرعية، وصيغة هذا الدعاء كما جاء في أواخر سورة البقرة:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٦]
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)
«١» «٢» «٣» [البقرة: ٢/ ٢٨٦].
قال السّدي: لما نزلت هذه الآية فقالوها، أي ودعوا بها، قال جبريل للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
«قد فعل الله لهم ذلك يا محمد».
فهذا دلالة على أن هذه الدعوات السبع مستجابة بحمد الله.
وأول هذه الدعوات وثانيها: ربنا لا تؤاخذنا على النسيان الغالب، والخطأ غير المقصود، إذ تركنا ما ينبغي فعله، أو فعلنا ما ينبغي تركه، وأكّد النبي صلّى الله عليه وسلّم رفع ثواب الخطأ والنسيان والإكراه،
فقال فيما رواه ابن ماجه وغيره: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
(٢) أي حملا ثقيلا يشق علينا.
(٣) لا قدرة.
ورابع هذه الدعوات: ربنا ولا تحمّلنا ما لا قدرة لنا عليه من العقوبة والفتن، ولا تشدّد علينا كما شدّدت على من كان قبلنا، ولا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق.
وخامس هذه الدعوات وسادسها وسابعها: ربنا اعف عنا فيما واقعناه وارتكبناه وسامحنا عن تقصيرنا، واستر علينا ما علمت، واغفر لنا ما بيننا وبين عبادك، فلا تطلعهم ولا تظهرهم على عيوبنا وأعمالنا القبيحة، وتفضل علينا برحمة سابغة شاملة منك لنا، بأن توفّقنا حتى لا نقع في ذنب آخر، فأنت يا رب متولي أمورنا، وناصرنا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا ورجعنا، ولا حول ولا قوة إلا بك، وانصرنا على القوم الكافرين، يا رب العالمين.
هذه الأدعية السبعة ذات غرض واحد وهو دخول الجنة، فليحرص المؤمن والمؤمنة على تكرار الدعاء بها،
روى البخاري وبقية الجماعة عن ابن مسعود: عن النبي أنه قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه».
أي عن قيام الليل،
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ما أظن أحدا عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما».
وروى الإمام أحمد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطهن أحد قبلي».