تفسير سورة الفرقان

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿تَبَارَكَ﴾ من البركة وهي كثرة الخير وزيادته ويأتي بمعنى التمجيد والتعظيم قال الشاعر:
تباركت لا معطٍ لشيء منعته وليس لما أعطيت يا رب مانع
﴿نَذِيراً﴾ النذير: المحذِّر من الهلاك ﴿نُشُوراً﴾ النشور: الإِحياء بعد الموت ﴿مُّقَرَّنِينَ﴾ مربوطين بالسلاسل قال عمرو بن كلثوم:
324
فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأُبنا بالملوك مقرَّنينا
التفسِير: ﴿تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ﴾ أي تمجَّد وتعظَّم وتكاثر خير الله الذي نزَّل القرآن العظيم الفارق بين الحق والباطل على عبده محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ أي ليكون محمد نبياً للخلق أجمعين مخوفاً لهم من عذاب الله ﴿الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ أي هو تعالى المالك لجميع ما في السماوات والأرض خلقاً وملكاً وعبيداً ﴿وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً﴾ أي وليس له ولدٌ كما زعم اليهود والنصارى ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ﴾ أي وليس معه إِله كما قال عبدة الأوثان ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾ أي أوجد كل شيء بقدرته مع الإِتقان والإِحكام قال في التسهيل: الخلق عبارة عن الإِيجاد بعد العدم، والتقدير عبارةٌ عن اتقان الصنعة وتخصيص كل مخلوق بمقداره وصنعته، وزمانه ومكانه، ومصلحته وأجله وغير ذلك وقال الرازي: وصف سبحانه ذاته بأربع أنواع من صفات الكبرياء: الأول: أنه المالك للسماوات والأرض وهذا كالتنبيه على وجوده والثاني: أنه هو المعبود أبداً والثالث: أنه المنفرد بالألوهية والرابع: أنه الخالق لجميع الأشياء مع الحكمة والتدبير ﴿واتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً﴾ أي عبد المشركون غير الله من الأوثان والأصنام ﴿لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ أي لا يقدرون على خلق شيء أصلاً بل هم مصنوعون بالنحت والتصوير فكيف يكونون آلهة مع الله؟ ﴿وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً﴾ أي لا يستطيعون دفع ضرٍ عنهم ولا جلب نفع لهم ﴿وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً﴾ أي لا تملك أن تُميت أحداً، ولا أن تُحيي أحدا ً ولا أن تبعث أحداً من الأموات قال الزمخشري: المعنى أنهم آثروا على عبادة الله عبادة آلهة لا يقدرون على شيء، وإِذا عجزوا عن دفع الضرر وجلب النفع الذي يقدر عليه العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور الذي لايقدر عليها إِلا الله أعجز ﴿وَقَالَ الذين كفروا إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه﴾ أي وقال كفار قريش ما هذا القرآن إِلا كذب اختلقه محمد من تلقاء نفسه ﴿وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ أي وساعده على الاختلاق قومٌ من أهل الكتاب ﴿فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً﴾ أي جاءوا بالظلم والبهتان حيث جعلوا العربي يتلقَّنُ من العجمي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب فكان كلامهم فيه محض الكذب والزور ﴿وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها﴾ أي وقالوا في حق القرآن أيضاً إِنه خرافات الأمم السابقين أمر أن تكتب له ﴿فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ أي فهي تُلقى وتُقرأ عليه ليحفظها صباحاً ومساءً قال ابن عباس: والقائل هو «النضر بن الحارث» وأتباعه والإِفكُ أسوأ الكذب ﴿قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض﴾ هذا ردٌّ عليهم في تلك المزاعم أي قل لهم يا محمد أنزله الله العليم القدير الذي لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض ﴿إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ أي إِنه تعالى لم يعجّل لكم العقوبة بل أُمهلكم رحمة بكم لأنه واسع المغفرة رحيم
325
بالعباد ﴿وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق﴾ أي وقال المشركون ما لهذا الذي يزعم الرسالة يأكل الطعام كما نأكل، ويمشي في الأسواق لطلب المعاش كما نمشي؟ إِنه ليس بمَلَك ولا مَلِك، لأن الملائكة لا تأكل، والملوك لا تتبذّل في الأسواق، وفي قولهم ﴿مَالِ هذا الرسول﴾ مع إِنكارهم لرسالته تهكم واستهزاء ﴿لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا﴾ أي هلاّ بعث الله معه ملكاً ليكون له شاهداً على صدق ما يدعيه ﴿ {أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ﴾ أي يأتيه كنزٌ من السماء فيستعين به ويستغني عن طلب المعاش ﴿أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا﴾ أي يكون له بستان يأكل من ثماره ﴿وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾ أي وقال الكافرون ما تتبعون أيها المؤمنون إِلا إِنساناً سحر فغلب على عقله فهو يزعم أنه رسول الله ﴿انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ﴾ أي انظر كيف قالوا في حقك يا محمد تلك الأقاويل العجيبة، الجارية لغرابتها مجرى الأمثال} وكيف اخترعوا تلك الصفات والأحوال الشاذة فضلُّوا بذلك عن الهدى! ﴿فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً﴾ أي فلا يجدون طريقاً إلى الحق بعد أن ضلوا عنه بتكذيبك وإِنكار رسالتك، ذكروا له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ خمس صفات وزعما أنه اتُخلُّ بلارسالة زعماً منهم أنَّ فضيلة الرسول على غيره تكون بأمورٍ جسمانية وهي غاية الجهالة والسفاهة فردَّ الله عليهم بأمرين: الأول: تعجيب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من تناقضهم فتارة يقولون عنه شاعر، وتارة ساحر، وأُخرى يقولون إِنه مجنون حتى أصبحت تلك الأقوال الغريبة الشاذة، والأمور العجيبة جارية مجرى الأمثال والثاني: أن الله تعالى لو أراد لأعطى نبيَّه خيراً مما اقترحوا وأفضل مما يتصورون وهو المراد بقوله ﴿تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك﴾ أي تمدَّد وتعظّم الله الكبير الجليل الذي لو أراد لجعل لك خيراً منذلك الذي ذكروه من نعيم الدنيا ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي لو شاء لأعطاك بساتين وحدائق تسير فيها الأنهار لا جنةً واحدة كما قالوا ﴿وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً﴾ أي ويجعل لك مع الحدائق القصور الرفيعة المشيدة كما هو حال الملوك قال الضحاك: لما عيَّر المشركون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بافاقةحزن عليه السلام فنزل جبريل معزياً له فبينما النبي وجبريل يتحدثان إذ فُتح باب من السماء فقال جبريل: أبشرْ يا محمد هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضى من ربك فسلَّم عليه وقال: ربك يخيّرك بين أن تكون نبياً ملكاً، وبين أن تكون نبياً عبداً - ومعه سفط من نور يتلألأ - ثم قال: هذه مفاتيح خزائن الأرض فنظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «بل نبياً عبداً» فكان عليه اسلام بعد ذلك لا يأكل متكأ حتى فارق الدنيا ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة﴾ أي بل كذبوا بالقيامة ﴿وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً﴾ أي وهيأنا لمن كذَّب بالآخرة ناراً شديدة الاستعار قال الطبري: المعنى ماكذب هؤلاء المشركون بالله وأنكروا ما جئتهم به من الحق من أجل أنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق ولكنْ من أجل أنهم لا يوقنون بالمعاد تكذيباً منهم بالقيامة وأعددنا لمن كذَّب بالبعث ناراً تُسعَّر عليهم وتتَّقد ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ أي إِذا رأت جهنم هؤلاء المشركين من مسافة بعيدة وهي خمسمائة عام ﴿سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً﴾ أي سمعوا صوت لهيبها وغليانها كالغضبان إِذا غلا صدره
326
من الغيظ وسمعوا لها صوتاً كصوت الحمار وهو الزفير قال ابن عباس: إن الرجل ليجرُّ إلى النار فتشهق إِليه النار شهوق البغلة إلى الشعير، وتزفر رفرةً لا يبقى أحدٌ إِلاّ خاف، وتقييد الرؤية بالبعد ﴿مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾ فيه مزيد تهويل لأمرها ﴿وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً﴾ أي وإِذا أُلقوا في جهنم في مكان ضيّق قال ابن عباس: تضيق عليهم ضيق الزُّج في الرُّمح - الزُّج: الحديدة التي في أسفل الرمح - ﴿مُّقَرَّنِينَ﴾ أي مصفَّدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل ﴿دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً﴾ أي دعوا في ذلك المكان على أنفسهم بالويل والهلاك يقولون: يا هلاكنا، نادوه نداء المتمني للهلاك ليسلموا مما هو أشدُّ منه كما قيل: أشدُّ من الموت ما يتمنى معه الموت ﴿لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً﴾ أي يقال لهم: لا تدعوا اليوم بالهلاك على أنفسكم مرةً واحدة بل ادعوا مراتٍ ومراتٍ، فإِن ما أنتم فيه من العذاب الشديد يستوجب تكرير الدعاء في كل حين وآن، وفيه إِقناطٌ لهم من استجابة الدعاء وتخفيف العذاب ﴿قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التي وُعِدَ المتقون﴾ ؟ أي قل لهم يا محمد على سبيل التقريع والتهكم أذلك السعير خيرٌ أم جنة الخلود التي وعدها المتقون؟ قال ابن كثير: يقول الله تعالى يا محمد: هذا الذي وصفناه لك من حال الأشقياء الذين تتلقاهم جهنم بوجهٍ عبوسٍ وتغيظٍ وزفير، ويلقون في أماكنها الضيقة مقرّنين لا يستيعون حراكاً ولا فكاكاً مما هم فيه، أهذا هيرٌ أم جنة الخلد؟ وهل يجوز أن يقول العاقل: السُكر أحلى أم الصبر؟ قلنا: هذايحسن في معرض التقريع كما إِذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرَّد وأبى واستكبر فيضربه ضرباً وجيعاً ويقول على سبيل لاتوبيخ: أهذا أطيب أم ذاك؟ ﴿كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً﴾ أي كانت لهم ثواباً ومرجعاً ﴿لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ﴾ أي لهم في الجنة ما يشاءون من النعيم ﴿خَالِدِينَ﴾ أي ماكثين فيها أبداً سرمداً بلا زوال ولا انقضاء ﴿كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً﴾ أي كان ذلك الجزاء وعداً على ذي الجلال حقيقاً بأن يُسأل ويُطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون، وهو وعدٌ واجب ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي واذكر ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - حين يجمع الله الكفار والأصنام وكل من عُبد من دون الله كالملائكة والمسيخ قال مجاهد: هو عيسى وعزير والملائكة ﴿فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ﴾ أي فيقول تعالى للمعبودين تقريعاً لعبدتهم: أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم؟ ﴿أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل﴾ أي أم هم ضلوا الطريق فعبدوكم من تلقاء أنفسهم؟ ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ﴾ أي قال المعبودون تعجباً مما قيل لهم: تنزَّهت يا الله عن الأنداد ﴿مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ﴾ أي ما يحقُّ لنا ولا لأحدٍ من الخلق أن يعبد غيرك، ولا أن يشرك معك سواك ﴿ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر﴾ أي ولكن أكثرت عليهم وعلى آبائهم النعمة - وكان يجب عليهم شكرها والإِيمان بما جاءت به الرسل - فكان ذلك سبباً للإِعراض عن ذكرك وشكرك ﴿وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً﴾ أي وكانوا قوماً هالكين، قال تعالى توبيخاً للكفرة ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ﴾ أي فقد كذبكم هؤلاء المعبودون في قولكم إِنهم آلهة ﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً﴾ أي فما تستطيعون أيها الكفار دفعاً
327
للعذاب عنكم ولا نصراً لأنفسكم من هذا البلاء ﴿وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً﴾ أي ومن يشرك منكم بالله فيظلم نفسه نذقه عذاباً شديداً في الآخرة ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق﴾ أي وما أرسلنا قبلك يا محمد أحداً من الرسل إِلا وهم يأكلون ويشربون ويتجولون في الأسواق للتكسب والتجارة، فتلك هي سنة المرسلينمن قبلك فلم ينكرون ذلك عليك؟ وهو جواب عن قولهم ﴿مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام﴾ ؟ ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ أي جعلنا بعض الناس بلاءً لبعض ومحنة، ابتلى الله الغنيَّ بالفقير، والشريف بالوضيع، والصحيح بالمريض ليختبر صبركم وإِيمانكم أت شكرون أم تكفرون؟ قال الحسن: يقول الأعمى لو شاء الله لجعلني بصيراً مثل فلان، ويقول الفقير لو شاء الله لجعلني غنياً مثل فلان، ويقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرا﴾ أي عالماً بمن يصبر أو يجزع، وبمن يشكر أو يكفر.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الإِضافة للتشريف ﴿على عَبْدِهِ﴾ ولم يذكره باسمه تشريفاً له وتكريماً.
٢ - الاكتفاء بأحد الوصفين ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ أي ليكون بشيراً ونذيراً واكتفى بالإِنذار لمناسبته للكفار.
٣ - الجناس الناقص ﴿يَخْلُقُونَ.. ويُخْلَقُونَ﴾ سمي ناقصاً لتغايره في الشكل.
٤ - الطباق بين ﴿ضَرّاً.. ونَفْعاً﴾ وبين ﴿مَوْتاً.. وحَيَاةً﴾.
٥ - الاستفها للتهكم والتحقير ﴿مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام﴾ ؟
٦ - الاستعارة التمثيلية ﴿سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً﴾ شبَّه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره وهو صوت يسمع من جوفه وهو تمثيل وصف النار بالاهتياج والاضطرام على عدة المغيظ والغضبان.
٧ - جناس الاشتقاق ﴿أَرْسَلْنَا.. المرسلين﴾.
٨ - الجناس غير التام ﴿تَصْبِرُونَ.. بَصِيراً﴾ لتقديم بعض الحروف وتأخير البعض.
لطيفَة: نبّه تعالى بقوله ﴿الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك﴾ على أنه تعالى يعطي العباد على حسب المصالح، فيفتح على واحد أبواب المعارف والعلوم ويسد عليه أبواب الدنيا، ويفتح آخر أبواب الرزق ويحرمه لذة الفهم والعلم، ولا اعتراض عليه لأنه فعال لما يريده.
328
المنَاسَبَة: لما حكى تعلى إِنكار المشركين لنبوة محمد عليه السلام وتكذيبهم للقرآن، أعقبه بذكر بعض جرائمهم الأخرى، ثم ذكر قصص بعض الأنبياء وما حلَّ بأقوامهم المكذبين تسلية لرسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
اللغَة: ﴿حِجْراً﴾ بكسر الحاء حراماً من حَجره إِذا منعه قال الشاعر:
«ألا أصبحت أسماء حجراً محرَّماً»... أي حراماً محرماً ﴿هَبَآءً﴾ قال أبو عبيدة: الهباء مثل الغبار يدخل من الكوة مع ضوء الشمس ﴿مَّنثُوراً﴾ المنثور: المتفرق ﴿مَقِيلاً﴾ المقيل: زمان القيلولة وهي الاستراحة نصف النهار إِذا اشتدَّ الحر ﴿تَبَّرْنَا﴾ التتبير: التدمير والتكسير قال الزجاج: كلُّ شيء كسّرته وفتَّته فقد تبرته.
سَبَبُ النّزول: روي أن «عقبة بن أبي معيط» وكان صديقاً لأُبي بن خل ف صنع وليمة فدعا إِليها قريشاً ودعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما قُدم الطعام قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما أنا بأكل طعامك حتى تشهد أني رسول الله ففعل فأكل رسول الله من طعامه فلما بلغ «أُبي بن خلف» ذلك قال لصديقه عقبة صبأت قال: لا ولكن دخل عليَّ رجل عظيم فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له بالرسالة فقال له أبي: وجهي من وجهك حرام إِن رأيت محمداً حتى تبزق في وجهه وتطأ على عنقه وتقول كيت وكيت، ففعل عدوُّ الله ما أمره به خليله فأنزل الله ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ..﴾ الآية.
التفسِير: ﴿وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ أي قال المشركون الذين لا يرجون لقاء الله، ولا يخشون عقابه لتكذيبهم بالبعث والنشور ﴿لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة﴾ أي هلاّ نزلت الملائكة علينا
329
فأخبرونا بصدق محمد ﴿أَوْ نرى رَبَّنَا﴾ أي أو نرى الله عياناً فيخبرنا أنك رسوله قال أبو حيان: وهذا كله على سبيل التعنت وإِلا فما جاءهم به من المعجزات كافٍ لو وُفّقوا ﴿لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ﴾ أي تكبروا في شأن أنفسهم حين تفوهوا بمثل هذه العظيمة، وطلبوا ما لا ينبغي ﴿وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً﴾ أي تجاوزوا الحدَّ في الظلم والطغيان، حتى بلغوا أقصى العتو وغاية الاستكبار ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ أي يوم يرى المشركون الملائكة حين تنزل لقبض أرواحهم وقت الاحتضار لن يكون للمجرمين يومئذٍ بشارة تسرهم بل لهم الخيبة والخسران ﴿وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً﴾ أي تقول الملائكة لهم: حارم ومحرم عليكم الجنة والبُشرى والغفران قال ابن كثير: وذلك يصدق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار، فتقول للكافر عند خروج روحه: أُخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث، أُخرجي إِلى سمومٍ وحميم وظلٍ من يحموم فتأبى الخروج وتتفرق في البدن فيضربونه بمقامع الحديد، بخلاف المؤمنين حال احتضارهم فإِنهم يُبشرون بالخيرات وحصول المسرات
﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: ٣٠] ﴿وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ﴾ أي عمدنا إِلى أعمال الكفار التي يعتقدونها براً كإِطعام المساكين وصلة الأرحام ويظنون أنها تقربهم إِلى الله ﴿فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾ أي جعلناه مثل الغبار المنثور في الجو، لأنه لا يعتمد على أساس ولا يستند على إِيمان قال الطبري: أي جعلناهباطلاً لأنهم لم يعملوه لله، وإِنما عملوه للشيطان، والهباء هو الذي يُرى كهيئة الغبار إِذا دخل ضوء الشمس من كو، والمنثور المتفرق وقال القرطبي: إِن الله أحبط أعمالهم بسبب الكفر حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور ﴿أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً﴾ لما بيَّن تعالى حال الكفار وأنهم في الخسران الكلي والخيبة التامة، شرح وصف أهل الجنة وأَنهم في غاية السرور والحبور، تنبيهاً على أن السعادة كل السعادة في طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ، ومعنى الآية: أصحابُ الجنة يوم القيامة خيرٌ من الكفار مستقراً ومنزلاً ومأوى ﴿وَأَحْسَنُ مَقِيلاً﴾ أي وأحسنُ منهم مكاناً للتمتع وقت القيلولة وهي الاستراحة نصف النهار، فالمؤمنون في الآخرة في الفردوس والنعيم المقيم، والكفار في دركات الجحيم قال ابن مسعود: «لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أحل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار» ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام﴾ أي واذكر ذلك اليوم الرهيب يوم تتشقَّق السماء وتنفطر عن الغمام الذي يُسود الجو ويُظلمه ويغم القلوب مرآه لكثرته وشدة ظلمته ﴿وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً﴾ أي ونزلت الملائكة فأحاطت بالخلائق في المحشر ﴿الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن﴾ أي الملك في ذلك اليوم لله الواحد القهار، الذي تخضع له الملوك، وتعنو له الوجوه، وتذل له الجبابرة، لا مالك يومئذٍ سواه كقوله ﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ [غافر: ١٦] ﴿وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً﴾ أي وكان
330
ذلك اليوم صعباً شديداً على الكفار قال أبوا حيان: ودل قوله ﴿عَلَى الكافرين﴾ على تيسيره على المؤمنين ففي الحديث «إِنه يهون حتى يكون على المؤمن اخف عليه من صلاةٍ مكتوبة صلاها في الدنيا» ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ﴾ أي واذكر يوم يندم ويتحسر الظالم على نفسه لما فرَّط في جنب الله، وعضُّ اليدين كنايةٌ عن الندم والحسرة، والمراد بالظالم «عُقبة بن أبي معيط» كما في سبب النزول، وهي تعمُّ كل ظالم قال ابن كثير: يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسلك سبيلاً غير سبيل الرسول، فإِذا كان يوم القيامة ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسلك سبيلاً غير سبيل الرسول، فإِذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم، وعضَّ على يديه حسرةً وأسفاً، وسواءٌ كان نزولها في «عقبة بن معيط» أو غيره من الأشقياء فإِنها عامةٌ في كل ظالم ﴿يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً﴾ أي يقول الظالم يا ليتني اتبعتُ الرسول فاتخذت معه طريقاً إِلى الهدى ينجيني من العذاب ﴿ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً﴾ أي هلاكي وحسرتي يا ليتني لم أصاحب فلاناً واجعله صديقاً لي، ولفظ ﴿فُلاَن﴾ كناية عن الشخص الذي أضلَّه وهو «أُبي بن خلف» قال القرطبي: وكنى عنه ولم يصرّح باسمه ليتناول جميع من فعل مثل فعله ﴿لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي﴾ أي لقد أضلني عن الهدى والإِيمان بعد أن اهتديت وآمنت ثم قال تعالى ﴿وَكَانَ الشيطان لِلإِنْسَانِ خَذُولاً﴾ أي يُضله ويُغويه ثم يتبرأ منه وقت البلاء فلا ينقذه ولا ينصره ﴿وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُوراً﴾ لما أكثر المشركون الطعن في القرآن ضاق صدر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشكاهم إِلى الله والمعنى: قال محمد يا رب إِنَّ قريشاً كذبت بالقرآن ولم تؤمن به وجعلته وراء طهورها متروكاً وأعرضوا عن استماعه قال المفسرون: وليس المقصود من حكاية هذا القول الإِخبار بما قال المشركون بل المقصود منها تعظيم شكايته، وتخويف قومه، لأن الأنبياء إِذا التجأوا إِلى الله وشكوا قومهم حل بهم العذاب ولم يمهلوا ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين﴾ أي كما جعلنا لك أعداء من مشركي قومك جعلنا لكل نبي عدواً من كفار قومه، والمراد تسلية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالتأسي بغيره من الأنبياء ﴿وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً﴾ أي وكفى أن يكون ربك يا يمحمد هادياً لك وناصراً لك على أعدائك فلا تبال بمن عاداك ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ﴾ أي وقال كفار مكة ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ أي هلاَّ نزل هذا القرآن على محمد دفعة واحدة كما نزلت التوراة والإِنجيل؟ قال تعالى ردّاً على شبهتهم التافهة ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ أي كذلك أنزلناه مفرقاً لنقوي قلبك على تحمله فتحفظه وتعمل بمقتضى ما فيه ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ أي فصَّلنا تفصيلاً بديعاص قال قتادة: أي بينَّاه وقال الرازي: الترتيلُ في الكلام أن يأتي بعضه على إِثر بعض على تُؤدة وتمهل، وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفلجها وقال الطبري: الترتيلُ في القراءة الترسُّلُ والتثبتُ يقول: علمناكه شيئاً بعد شيء حتى تحفظه ﴿وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق﴾ أي ولا يأتيك هؤلاء الكفار بحجةٍ أو شبهةٍ للقدح فيك أو في القرآن إِلاأتيناك يا محمد بالحق
331
الواضح، والنور الساطع لندمغ به باطلهم ﴿وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾ أي أحسن بياناً وتفصيلاً، ثم ذكر تعالى حال هؤلاء المشركين المكذبين للقرآن فقال ﴿الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ﴾ أي يُسْحبون ويجُرُّون إِلى النار على وجوههم ﴿أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ أي هم شر منزلاً ومصيراً، وأخْطأ ديناً وطريقاً وفي الحديث «قيل يا رسول الله: كيف يُحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: إِن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه علىوجهه يوم القيامة»، ثم ذكر تعالى قصص الأنبياء تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإِرهاباً للمكذبين فقال ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب﴾ أي والله لقد أعطينا موسى التوراة ﴿وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً﴾ أي وأعنَّاه بأخيه هارون فجعلناه وزيراً له يناصره ويُؤآزره ﴿فَقُلْنَا اذهبآ إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ أي اذهبا إلى فرعون وقومه بالآيات الباهرات، والمعجزات الساطعات ﴿فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً﴾ أي فأهلكناهم إِهلاكاً لما كذبوا رسلنا ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً﴾ أي وأغرقنا قوم نوح بالطوفان لمّا كذبوانوحاً وحده لأن تكذبيه تكذيبٌ للجميع لاتفاقهم على التوحيد والإِسلام ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي وأعددنا لهم في الآخرة عذاباً شديداً مؤلماً سوى ما حلَّ بهم في الدنيا ﴿وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرس﴾ أي وأهلكنا عاداً وثمود وأصحاب البئر الذين انهارت بهم قال البيضاوي: وأصحابُ الرس قومٌ كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إِليهم شعيباً فكذبوه فبينما هم حول الرس - وهي البئر غير المطوية - انهارت فخسفت بهم وبديارهم ﴿وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً﴾ أي وأمماً وخلائق كثيرين لا يعلمهم إِلا الله بين أولئك المكذبين أهلكناهم أيضاً ﴿وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال﴾ أي وكلاً من هؤلاء بيّنا لهم الحجج، ووضحنا لهم الأدلة إِعذاراً وإِنذاراً ﴿وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً﴾ أي أهلكناه إِهلاكاً، ودمرناه تدميراً، لمّا لم تنجع فيهم المواعظ ﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء﴾ أي ولقد مرَّت قريش مراراً في متاجرهم إِلى الشام على تلك القرية التي أُهلكت بالحجارة من السماء وهي قرية «سدوم» عُظمى قرى قوم لوط ﴿أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا﴾ ؟ توبيخٌ لهم على تركهم الاتعاظ والاعتبار أي أفلم يكونوا في أسفارهم يرونها فيعتبروا بما حلَّ بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم لرسولهم ومخالفتهم لأوامر الله؟ قال ابن عباس: كانت قريشٌ في تجارتها إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط كقوله تعالى
﴿وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ﴾ [الصافات: ١٣٧] ﴿بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً﴾ أي إِنهم لا يعتبرون لأنهم لا يرجون معاداً يوم القيامة.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الترجي ﴿لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة﴾ لأن لولا بمعنى هلاّ للترجي.
٢ - جناس الاشتقاق ﴿وَعَتَوْا.. عُتُوّاً﴾ و ﴿حِجْراً.. مَّحْجُوراً﴾.
٣ -
332
المبالغة بنفي الجنس ﴿لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ ومعناها لا يبشر يومئذٍ المجرمون وإِنما عدل عنه للمبالغة.
٤ - التشبيه البليغ ﴿فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾ أي كالغبار المنثور في الجو في حقارته وعدم نفعه، حذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاص.
٥ - الكناية اللطيفة ﴿يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ﴾ كناية عن الندم والحسرة، كما أن لفظه ﴿فُلاَن﴾ كناية عن الصديق الذي أضله.
٦ - الإِسناد المجازي ﴿شَرٌّ مَّكَاناً﴾ لأن الضلال لا ينسب إلى المكان ولكن إلى أهله.
لطيفَة: قال ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ: هجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإِيمان به. والثاني: هجر العمل به وإِن قرأه وآمن به. والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إِليه. والرابع: هجر تدبره وتفهم معانيه. والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وكلُّ هذا داخل في قوله تعالى ﴿إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُوراً﴾ وإن كان بعض الهجر أهونُ من بعض.
333
المنَاسَبة: لما ذكر تعالى شبهات المشركين حول القرآن والرسول، وردَّ عليهم بالحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، ذكر هنا طرفاً من استهزائهم وسخريتهم بالرسول فلم يقتصروا على تكذيبه بل زادوا عليه بالاستهزاء والاحتقار، ثم ذكر الأدلة على وحدانيته تعالى وقدرته.
اللغَة: ﴿سُبَاتاً﴾ السُّبات: الراحة جعل النوم سُباتاً لأنه راحة للأبدان وأصل السبت: القطع ومنه السبت لليهود لانقطاعهم فيه عن الأعمال ﴿نُشُوراً﴾ النشور: الانتشار والحركة، والنهار سببٌ للانتشار من أجل طلب المعاش ﴿أَنَاسِيَّ﴾ جمع إِنسي مثل كراسي وكرسي قال الفراء: الإِنسي والأناسي اسم للبشر وأصله انسان ثم أُبدلت من النون ياء فصار إِنسي ﴿مَرَجَ﴾ خلَّى وأرسل وخلط يقال مرجته إِذا خلطته و ﴿اأَمْرٍ مَّرِيجٍ﴾ [ق: ٥] أي مضطرب مختلط ﴿فُرَاتٌ﴾ شديد العذوبة ﴿أُجَاجٌ﴾ شديد الملوحة ﴿بَرْزَخاً﴾ حاجزاً.
التفسِير: ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً﴾ أي وإِذا رآك المشركون يا محمد ما يتخذونك إِلا موضع هزء وسخرية ﴿أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً﴾ أي قائلين بطريق التهكم والاستهزاء: أهذا الذي بعثه الله إِلينا رسولاً؟ ﴿إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا﴾ أي إِن كان ليصرفنا عن عبادة آلهتنا لولا أن ثبتنا عليها واسمتسكنا بعبادتها قال تعالى رداً عليهم ﴿وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ وعيد وتهديد أي سوف يعلمون في الآخرة عند مشاهدة العذاب من أخطأ طريقاً وأضل ديناً أهم أم محمد؟ ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ﴾ تعجيبٌ من ضلال المشركين أي أرأيت من جعل هواه إِلهاً كيف يكون حاله؟ قال ابن عباس: كان الرجل من المشركين يعبد حجراً فإِذا رأى حجراً أحسن منه رماه وأخذ الثاني فعبده ﴿أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً﴾ أي حافظاً تحفظه من اتباع هواه؟ ليس الأمر لك قال أبو حيان: وهذا تيئيسٌ من إِيمانهم، وإِشارةٌ للرسول عليه السلام ألا يتأسف عليهم، وإِعلامٌ أنهم في الجهل بالمنافع وقلة النظر في العواقب مثل البهائم ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ﴾ ؟ أي أتظن أن هؤلاء المشركين يسمعون ما تقول لهم سماع قبول؟ أو يعقلون ما تورده عليهم من الحجج والبراهين الدالة على الوحدانية فتهتم بشأنهم وتطمع في إِيمانهم؟ ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ أي ما هم إِلا كالبهائم بل هم أبشع حالاً، وأسوأ مآلاً من الأنعام السارحة، لأن البهائم تهتدي لمراعيها، وتنقاد لأربابها وتعرف من يحسن إِليها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إِحسانه إِليهم، ثم ذكر تعالى أنواعاً من الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال ﴿أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل﴾ أي ألم تنظر إِلى بديع صنع الله وقدرته كيف بسط تعالى الظلَّ لأحرقت الشمس الإِنسان وكدَّرت حياته ﴿وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً﴾ أي لو أراد سبحانه لجعله دائماً ثابتاً في مكانٍ لا يزول ولا يتحول عنه، ولكنه بقدرته ينقله من مكان إِلى مكان، ومن
334
جهةٍ إلى جهة، فتارة يكون جهة المشرق، وتارة جهة المغرب، وأُخرى من أمام أو خلف ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً﴾ أي جعلنا طلوع الشمس دليلاً على وجود الظل، فلولا وقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجوداً، ولما ظهرت آثار هذه النعمة الجليلة للعباد، والأشياء إِنما تُعرف بأضدادها فلولا وقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجوداً، ولما ظهرت آثار هذه النعمة الجليلة للعباد، والأشياء إِنما تُعرف بأضدادها فلولا الظلمة ما عُرف النور، ولولا الشمسُ ما عرف الظل «وبضدها تتميز الأشياء» ﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً﴾ أي أزلنا هذا الظلَّ شيئاً فشيئاً، وقليلاً قليلاً لا دفعة واحدة لئلا تختل المصالح قال ابن عباس: الظلُّ من وقت طلوع الفجر إِلى وقت طلوع الشمس قال المفسرون: الظلُّ هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة، وهو يحدث على وجه الأرض منبسطاً فيما بين ظهور الفجر إلى طلوع الشمس، ثم إِن الشمس تنسخه وتزيله شيئاً فشيئاً، إلى الزوال، ثم هو ينسخ ضوء الشمس من وقت الزوال إلى الغروب ويسمى فَيْئاً، ووجه الاستدلال به على وجود الصانع الحكيم أن وجوده بعد العدم، وعدمه بعد الوجود، وتغير أحواله بالزيادة والنقصان، والانبساط والتقلص، على الوجه النافع للعباد لا بدَّ له من صانع قادر، مدبر حكيم، يقدر على تحريك الأجرام العلوية، وتدبير الأجسام الفلكية وترتيبها على الوصف الأحسن، والترتيب الأكمل وما هو إِلا الله رب العالمين.
ثم أشار تعالى إِلى آثار قدرته، وجليل نعمته الفائضة على الخلق فقال ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً﴾ أي هو سبحانه الذي جعل لكم الليل كاللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس بزينته قال الطبري: وصف الليل باللباس تشبيهاً من حيث يستر الأشياء فصار لهم ستراً يستترون به كما يستترون بالثياب التي يكسونها ﴿والنوم سُبَاتاً﴾ أي وجعل النوم راحةٌ لأبدانكم بانقطاعكم عن أعمالكم ﴿وَجَعَلَ النهار نُشُوراً﴾ أي وقتاً لانتشار الناس فيه لمعايشهم، ومكاسبهم، وأسباب رزقهم ﴿وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ أي أرسل الرياح مبشرة بنزول الغيث والمطر ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً﴾ أي أنزلنا من السحاب الذي ساقته الرياح ماءً طاهراً مطهّراً تشربون وتتطهرون به قال القرطبي: وصيغة ﴿طَهُوراً﴾ بناء مبالغة في «طاهر» فاقتضى أن يكون طاهراً مطهّراً ﴿لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً﴾ أي لنحيي بهذا المطر أرضاً ميتةً لا زرع فيها ولا نبات ﴿وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً﴾ أي وليشرب منه الحيوان والإِنسان لأن الماء حياة كل حيّ، والناس محتاجون إِليه غاية الحاجة لشربهم وزروعهم وسقي مواشيهم قال الإِمام الفخر: وتنكير الأنعام والأناسي لأن حياة البشر بحياة أرضهم وأنعامهم، وأكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأودية والأنهار، فهم في غنية عن شرب مياه المطر، وكثيرٌ منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إِلا عند نزول المطر ولهذا قال ﴿أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً﴾ أي بشراً كثيرين لأن «فعيل» يراد به الكثرة ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ﴾ أي
335
ضربنا الأمثال في هذا القرآن للناس وبيَّنا فيه الحجج والبراهين ليتفكروا ويتدبروا ﴿فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً﴾ أي أبى الكثير من البشر إلا الجحود والتكذيب ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً﴾ أي لو أردنا لخففنا عنك أعباء النبوة فتعثنا في كل أهل قرية نبياً ينذره، ولكنا خصصناك بالبعثة إلأى جميع أهل الأرض إِجلالاً لك، وتعظيماً لشأنك، فقابل هذا الإِجلال بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإِظهار الحق ﴿فَلاَ تُطِعِ الكافرين وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً﴾ أي لا تطع الكفار فيما يدعونك إِليه من الكفّ عن آلهتهم، وجاهدهم بالقرآن جهاداً كبيراً بالغاً نهايته لا يصاحبه فتور ﴿وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين﴾ أي هو تعالى بقدرته خلى وأرسل البحرين متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان ﴿هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ﴾ أي شديد العذوبة قاطع للعطش من فرط عذوبته ﴿وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ أي بليغ الملوحة، مرٌّ شديد المرارة ﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً﴾ أي جعل بينهما حاجزاً من قدرته لا يغلب أحدهما على الآخر ﴿وَحِجْراً مَّحْجُوراً﴾ وهذا اختيار ابن جرير وقال الرازي: ووجه الاستدلال هاهنا بيّن لأن الحلاوة والملوحة إِن كانت بسبب طبيعة الأرض أو الماء فلا بدَّ من الاستواء، وإِن لم يكن كذلك فلا بدَّ من قادر حكيم يخص كل واحد بصفة معينة ﴿وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً﴾ أي خلق من النطفة إِنساناً سميعاً بصيراً ﴿فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً﴾ أي قسمهم من نطفةٍ واحدة قسمين: ذوي نسب أي ذكوراً ينسب إليهم لأن النسب إِلى الآباء كما قال الشاعر:
فإِنما أمهاتُ الناس أوعيةٌ مستودعات وللآباء أبناء
وإِناثاً يُصاهر بهن، فبالنسب يتعارفون ويتواصلون، وبالمصاهرة تكون المحبة والمودة واجتماع الغريب بالقريب ﴿وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً﴾ أي مبالغاً في القدرة حيث خلق من النطفة الواحدة ذكراً وأنثى.. ولما شرح دلائل التوحيد عاد إِلى تهجين سيرة المشركين في عبادة الأوثان فقال ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ﴾ أي يعبدون الأصنام التي لا تنفع ولا تضر لأنها جمادات لا تُحسُّ ولا تُبصر ولا تعقل ﴿وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً﴾ أي معيناً للشيطان على معصية الرحمن، لأنَّ عبادته للأصنام معانة للشيطان قال مجاهد: يظاهر الشيطان على معصية الله ويُعينه ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾ أي مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم، ومنذراًَ للكافرين بعذاب الجحيم ﴿قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ أي قل لهم يا يمحمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرا ً ﴿إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ أي لكن من شاء أن يتخذ طريقاً يقربه إِلى الله بالإِيمان والعمل الصالح فليفعل
336
كأنه يقول: لا أسألكم مالاً ولا أجراً وإِنما أسألكم الإِيمان بالله وطاعته وأجري على الله ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ﴾ أي اعتمد في جميع أمورك على الواحد الأحد، الدائم الباقي الذي لا يموت أبداً، فإِنه كافيك وناصرك ومظهر دينك على سائر الأديان ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ﴾ أي نزّه الله تعالى عمّا يصفه هؤلاء الكفار مما لا يليق به من الشركاء والأولاد ﴿وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً﴾ أي حسبك أن الله مطَّلع على أعمال العباد لا يخفى عله شيء منها قال الإِمام الفخر: وهذه الكلمة يراد بها المبالغة كقولهم: كفى بالعلم جمالاً، وكفى بالأدب مالاً، وهي بمعنى حسبك أي لا تحتاج معه إل غيره لأنه خبيرٌ بأحوالهم، قادر على مجازاتهم، وذلك وعيدٌ شديد ﴿الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ أي هذا الإِله العظيم الذي ينبغي أن تتوكل عليه هو القادر على كل شيء، الذي خلق السماوات السبع في ارتفاعها واتساعها، والأرضين في كثافتها وامتدادها في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا قال ابن جبير: الله قادر على ان يخلقها في لحظة ولكن علَّم خلقه الرفق والتثبت ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ استواءً يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تعطيل ﴿الرحمن﴾ أي هو الرحمن ذو الجود والإِحسان ﴿فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً﴾ أي فسلْ عنه من هو خبيرٌ عارف بجلاله ورحمته، وقيل: الضمير يعود إلى الله أي فاسأل اللهَ الخبيرَ بالأشياء، العالم بحقائقها يطلعك على جليَّة الأمر ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن﴾ أي وإِذا قيل للمشركين اسجدوا لربكم الرحمن الذي وسعت رحمته الأكوان ﴿قَالُواْ وَمَا الرحمن﴾ ؟ أي من هو الرحمن؟ استفهموا عنه استفهام من يجهله وهم عالمون به ﴿أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا﴾ أي أنسجد لما تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه؟ ﴿وَزَادَهُمْ نُفُوراً﴾ اي وزادهم هذا القول بعداً عن الدين ونفوراً منه.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الاستفهام للتهكم والاستهزاء ﴿أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً﴾ ؟
٢ - التعجيب ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ﴾ وفيه تقديم المفعول الثاني على الأول اعتناءً بالأمر المتعجب منه والأصل «اتخذ هواه إِلهاً له».
٣ - التشبيه البليغ ﴿جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً﴾ أي كاللباس الذي يغطي البدن ويستره حذف منه الأداة ووجه الشبه فأصبح بليغاً.
٤ - المقابلة اللطيفة بين الليل والنهار والنوم والانتشار ﴿جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً والنوم سُبَاتاً وَجَعَلَ النهار نُشُوراً﴾.
٥ - الاستعارة البديعة ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ استعار اليدين لما يكون أمام الشيء وقدَّامه كما تقول: بين يدي الموضوع أو السورة.
٦ - الالتفات من الغيبة إلى التكلم للتعظيم ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء﴾ بعد قوله ﴿اأَرْسَلَ الرياح﴾.
٧ - المقابلة اللطيفة ﴿هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ أي نهاية في الحلاوة ونهاية في الملوحة.
337
تنبيه: الفرق بين ﴿مَيْت﴾ بالتخفيف و ﴿مَّيْت﴾ بالتشديد أن الأول لمن مات حقيقة والثاني لمن سيموت قال الشاعر:
338
اللغَة: ﴿بُرُوجاً﴾ البروج: منازل الكواكب السيارة سميت بالبروج لأنها تشبه القصور العالية وهي للكواكب كالمنازل للسكان وقيل: هي الكواكب العظيمة ﴿غَرَاماً﴾ لازماً دائماً غير مفارق ومنه الغريم لملازمته ﴿الغرفة﴾ الدرجة الرفيعة في الجنة وهي في اللغة العلية، وكل بناءٍ عالٍ فهو غرفة ﴿يَعْبَأُ﴾ يبالي ويهتمُّ قال أبو عبيدة: ما أعبأ به أي وجودُه وعدمه عندي سواء، والعبء في اللغة الثقل ﴿لِزَاماً﴾ ملازماً لكم.
التفسِير: ﴿تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً﴾ أي تمجَّد وتعظَّم الله الذي جعل في السماء تلك الكواكب العِظام المنيرة ﴿وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً﴾ أي وجعل فيها الشمس المتوهجة
338
في النهار، والقمر المضيء بالليل ﴿وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً﴾ أي يخلف كلٌّ منهما الآخر ويتعاقبان، فيأتي النهار بضيائه ثم يعقبه الليل بظلامه ﴿لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ﴾ أي لمن اراد أن يتذكَّر آلاء الله، ويتفكر في بدائع صنعه ﴿أَوْ أَرَادَ شُكُوراً﴾ أي أراد شكر الله على إِفضاله ونعمائه قال الطبري: جعل الله الليل والنهار يخلف كل واحدٍ منهما الآخر، فمن فاته شيء من الليل أدركه بالنهار، ومن فاته شيء من النهار أدركه بالليل ﴿وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً﴾ الإِضافة للتشريف أي العباد الذين يحبهم الله وهم جديرون بالانتساب إليه هم الذين يمشون على الأرض في لين وسكينة ووقار، لا يضربون بأقدامهم أشراً ولا بطراً، ولا يتبخترون في مشيتهم ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً﴾ أي وإذا خاطبهم السفهاء بغلظةٍ وجفاءٌ قالوا قولاً يسْلًمون فيه من الإِثم قال الحسن: لا يجهلون على أحد، وإِن جُهل عليهم حَلُموا ﴿وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً﴾ أي يُحيْون الليل بالصلاة ساجدين لله على جباههم، أو قائمين على أقدامهم كقوله ﴿كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات: ١٧] قال الرازي: لما ذكر سيرتهم في النهار ومن وجهين: ترك الإِيذاء، وتحمل الأذى بيَّن هنا سيرتهم في الليالي وهو اشتغالهم بخدمة الخالق ﴿والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ﴾ أي يدعون ربهم أن ينجيهم من عذاب النار، ويبتهلون إليه أن يدفع عنهم عذابها ﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً﴾ أي لازماً دائماً غير مفارق ﴿إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً﴾ أي بئست جهنم منزلاً ومكان إقامة قال القرطبي: المعنى بئس المستقر وبئس المقام، فهم مع طاعتهم مشفقون خائفون من عذاب الله، وقال الحسن: خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرَقاً من عذاب جهنم ﴿والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ﴾ هذا هو الوصف الخامس من أوصاف عباد الرحمن والمعنى: ليسوا مبذرين في إِنفاقهم في المطاعم والمشارب والملابس، ولا مقصِّرين ومضيّقين بحيث يصبحون بخلاء ﴿وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ أي وكان إنفاقُهم وسطاً معتدلاً بين الإِسراف والتقتير كقوله تعالى
﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط﴾ [الإسراء: ٢٩] الآية وقال مجاهد: «لو أنفقت مثل جبل أبي قُبيس ذهباً في طاعة الله ما كان سرَفاً» ﴿والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ﴾ أي لا يعبدون معه تعالى إلهاً آخر، بل يوحّدونه مخلصين له الدين ﴿وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق﴾ أي لا يقتلون النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بما يحقُّ أن تُقتل به النفوس من كفرٍ بعد إيمان، أو زنىً بعد إحصان، أو القتل قِصاصاً ﴿وَلاَ يَزْنُونَ﴾ أي لا يرتكبون جريمة الزنى التي هي من أفحش الجرائم ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً﴾ أي ومن يقترف تلك الموبقات العظيمة من الشرك والقتل والزنى يجد في الآخرة النكال والعقوبة ثم فسَّرها بقوله ﴿يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة﴾ أي يُضاعف عقابُه ويُغلَّظ بسبب الشرك وبسبب المعاصي ﴿وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً﴾ أي يُخلد في ذلك العذاب حقيراً ذليلاً أبد الآبدين ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً﴾ أي إلاّ من
339
تاب في الدنيا التوبة النصوح وأحسن عمله ﴿فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ أي يكرمهم الله في الآخرة فيجعل مكان السيئات حسنات وفي الحديث «إيني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها، رجلٌ يُؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملتَ يوم كذا وكذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفقٌ من كبار ذنوبه فيقال له: فإِنَّ لك مكانَ كل سيئةٍ حسنة فيقول يا رب: قد عملتُ أشياء لا أراها هاهنا، قال فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى بدتْ نواجذه» ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ أي واسع المغفرة كثير الرحمة ﴿وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً﴾ أي ومن تاب عن المعاصي وأصلح سيرته فإن الله يتقبل توبته ويكون مرضياً عند الله تعالى ﴿والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ هذا هو الوصف السابع من أوصاف عباد الرحمن أي لا يشهدون الشهادة الباطلة - شهادة الزور - التي فيها تضييعٌ لحقوق الناس ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً﴾ أي وإ ِذا مرُّوا بمجالس اللغو - وهي الأماكن التي يكون فيها العمل القبيح كمجالس اللهو، والسينما، والقمار، والغناء المحرَّم - مرُّوا معرضين مكرمين أنفسهم عن أمثال تلك المجالس قال الطبري: واللغوُ كلُّ كلامٍ أو فعلٍ باطل وكلُّ ما يُستقبح كسبّ الإِنسان، وذكر النكاح باسمه في بعض الأماكن، وسماعِ الغناءِ مما هو قبيح، كلُّ ذلك يدخل في معنى اللغو الذي يجب أن يجتنبه المؤمن ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ أي إِذا وُعظوا بآيات القرآن وخُوّفوا بها ﴿لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً﴾ أي لم يُعرضوا عنها بل سمعوها بآذانٍ واعية وقلوبٍ وجلة ﴿والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ أي اجعل لنا في الأزواجِ والبنين مسرةً وفرحاً بالتمسك بطاعتك، والعمل بمرضاتك ﴿واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾ أي اجعلنا قُدوة يقتدي بنا المتقون، دعاةً إلى الخير هُداة مهتدين قال ابن عباس: أي أئمة يقتدى بنا في الخير ﴿أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ﴾ أي أولئك المتصفون بالأوصاف الجليلة السامية ينالون الدرجات العالية، بصبرهم على أمر الله وطاعتهم له سبحانه ﴿وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً﴾ أي ويُتلقَّون بالتحية والسلام من الملائكة الكرام كقوله تعالى
﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ﴾ [الرعد: ٢٣] الآية ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي مقيمين في ذلك النعيم لا يموتون ولا يُخْرجون من الجنَّة لأنها دار الخلود ﴿حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً﴾ أي ما أحسنها مقراً وأطيبها منزلاً لمن اتقى الله ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ﴾ أي قل لهم يا محمد: لا يكترثُ ولا يحفلُ بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إيّاه في الشدائد ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً﴾ أي فقد كذبتم أيها الكافرون بالرسول والقرآن فسوف يكون العذاب ملازماً لكم في الآخرة.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الإِضافة للتشريف والتكريم ﴿وَعِبَادُ الرحمن﴾.
٢ - الطباق بين السجود والقيام ﴿سُجَّداً وَقِيَاماً﴾ وكذلك بين الإِسراف والتقتير ﴿أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ﴾.
٣ -
340
المقابلة اللطيفة بين نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار ﴿حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً﴾ مقابل قوله عن أهل النار ﴿سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً﴾.
٤ - الاستعارة البديعة ﴿لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً﴾ أي لم يتغافلوا عن قوارع النذر حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع ولا يبصر وهذا من أحسن الاستعارات.
٥ - الكناية ﴿قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ كناية عن الفرحة والمسرَّة كما أن ﴿الغرفة﴾ كناية عن الدرجات العالية في الجنة.
تنبيه: قال القرطبي: وصف تعالى «عباد الرحمن» بإِحدى عشرة خصلة هي أوصافهم الحميدة من التحلِّي، والتخلِّي وهي «التواضع، والحلم، والتهجد، والخوف، وترك الإسراف والإِقتار، والبعد عن الشرك، والنزاهة عن الزنى والقتل، والتوبة، وتجنب الكذب، وقبول المواعظ، والابتهال إلى الله» ثم بين جزاءهم الكريم وهو نيل الغرفة أي الدرجة الرفيعة وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا.
341
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
أيا سائلي تفسير مَيْتٍ ومَيِّتٍ فدونَك قد فسرتُ ما عنه تسأل
فما كان ذا روحٍ فذلك مَيِّتٌ وما المَيْتُ إِلا من إِلى القبر يُحمل