ﰡ
مكية، وقيل: إلا قوله: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ «١»، نزلت فى بنى سلمة، حين أرادوا الانتقال إلى جوار النبي ﷺ «٢». وآيها: ثلاث وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها: قوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ «٣» مع قوله:
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فقد حقق هنا نذارته ورسالته بالقسم. وعنه صلى الله عليه وسلم: «يس تدعى المعمة، تعم صاحبها بخير الدارين، والدافعة والقاضية- تدفع عنه كل شر، وتقضى له كل حاجة» «٤». وفى خبر آخر: «يس لما قرئ له»، وفي حديث آخر: «ما قرأها خائف إلا أمن، ولا جائع إلا شبع، ولا عطشان إلا روى، ولا عريان إلا كسى، ولا مسجون إلا سرح، ولا عازب إلا تزوج، ولا مسافر إلا أعين، ولا ذو ضالة إلا وجدها». وقال صلى الله عليه وسلم: «من قرأ يس عند الموت، أو قرئ عليه، أنزل الله بعدد كل حرف منها عشرة من الملائكة، يقفون بين يديه، ويصلون عليه، ويستغفرون له، ويشهدون جنازته».
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)يقول الحق جلّ جلاله: يس أيها السيد المفخم، والمجيد المعظم، وَحق الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ المحكم إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. وفي الحديث: «إن الله تعالى سمّاني في القرآن بسبعة أسماء: محمد، وأحمد، وطه، ويس، والمزّمّل، والمدّثر، وعبد الله»، قيل: ولا تصح الاسمية في يس لإجماع القراء السبعة على قراءتها ساكنة، على أنها حروف هجاء محكية، ولو سمي بها لأعربت غير مصروفة، كهابيل وقابيل، ومثلها «طس» و «حم»، كما قال الشاعر:
لما سمى بها السورة... فهلا تلى حميمَ قبل التكلم.
(٢) أخرجه الترمذي فى (التفسير، باب: ومن سورة يس، ٥/ ٣٣٩، ح ٣٢٢٦) والحاكم، وصححه، وأقره الذهبي (٢/ ٤٢٨)، والواحدي فى أسباب النزول (ص ٣٧٨- ٣٧٩) عن أبي سعيد الخدري. وقال الترمذي: «حديث حسن غريب» وقال الحافظ ابن كثير فى التفسير (٣/ ٥٦٦) معلقا على حديث نحوه، رواه البزار: فيه غرابة.
(٣) من الآية ٤٢ من سورة فاطر.
(٤) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (٢/ ٤٨١، ح ٢٤٦٥) وضعّفه، من حديث أبى بكر الصدّيق رضي الله عنه. وذكره بنحوه، مطولا، القرطبي فى تفسيره (٦/ ٥٦٠٢) وعزاه للثعلبى، من حديث السيدة عائشة رضى الله عنها. [.....]
ثم أقسم على رسالته، ردّاً على مَن أنكره بقوله: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أي: ذي الحكمة البالغة، أو: المحكم الذي لا ينسخه كتاب، أو: ذي كلام حكيم، فوصف بصفة المتكلم به، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ مِن أعظمهم وأجلِّهم. وهو ردٌّ على مَن قال من الكفار: لَسْتَ مُرْسَلًا «١». عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: كائناً على طريق مستقيم، يوصل مَن سلكه إلى جوار الكريم، فهو حال من المستكن في الجار والمجرور. وفائدته: وصف الشرع بالاستقامة صريحاً، وإن دلَّ عليه: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ التزاماً، أو: خبر ثان لإنَّ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال القشيري: يس، معناه: يا سيد- رقَّاه أشرف المنازل، وإن لم يسم إليه بطرق التأميل، سُنَّة منه سبحانه أنه لا يضع أسراره إلا عند مَن تقاصرت الأوهام عن استحقاقه، ولذلك قَضوا بالعَجَب في استحقاقه، وقالوا: كيف آثر يتيم أبي طالب من بين البرية، ولقد كان- صلوات الله عليه- في سابق اختياره تعالى مقدّماً على الكافة من أشكاله وأضرابه، وفي معناه قيل:
هذا وإن أصبح في أطمار... وكان في فقر من اليسار
آثرُ عندي من أخي وجاري... وصاحب الدرهم والدينار
وصاحب الأمر مع الإكثار «٢». هـ.
(٢) وردت الأبيات- كاملة- فى قصة، ذكرها ابن كثير فى البداية والنهاية (٨/ ٨٩- ٩٠)، وملخصها:
كان معاوية بن أبى سفيان على السماط، فمثل بين يديه شاب من بنى عذرة، فأنشده شعرا، مضمونه: التشوق إلى زوجته سعاد.
وقال: يا أمير المؤمنين: إنى كنت متزوجا بابنة عم لى، وكان لى إبل وغنم، وأنفقت ذلك عليها، فلما قلّ ما بيدي رغب عنى أبوها، وشكانى إلى عاملك بالكوفة (ابن أم الحكم) وبلغه جمالها، فحبسنى، وحملنى على أن أطلقها، فلما انقضت عدتها أعطاها عاملك عشرة آلاف درهم، فزوّجه إياها، فهل من فرج؟
فكتب معاوية إلى ابن أم الحكم يؤنبه، وأمره بطلاقها، فطلقها، وسيّرها إلى معاوية، وخيّرها معاوية بين زوجها وابن أم الحكم، فاختارت زوجها الأول، وأنشدت الأبيات:
هذا وإن أصبح في أطمار... وكان فى نقص من اليسار
أكبر عندى من أبى وجاري... وصاحب الدرهم والدينار
أخشى إذا غدرت حر النار... خلى سبيلى ما به عار
لعلنا نرجع للديار... وأن عسى نظفر بالأوطار
راجع أيضا: تزيين الأسواق (١/ ٢٤٩)، ونهاية الأرب (٢/ ١٥٩)، ولطائف الإشارات (١/ ٤٢- ٤٣).
وجاء: «إن قلب القرآن يس، وقلبه: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» «١». قلت: وهو إشارة إلى سر القربة، الداعي إليه القرآن، وعليه مداره، وحاصله: تسليم الله على عباده كِفاحاً، لحياتهم به، وأنسهم بحديثه وسره. وقيل: لأن فيه تقرير أصول الدين. قاله في الحاشية الفاسية.
ثم فسّر القرآن، المقسم به، فقال:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥ الى ١١]
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١)
قلت: «تنزيل» : خبر، أي: هو تنزيل. ومَن نصبه فمصدر، أي: نُزل تنزيل، أو: اقرأ تنزيل، وقرئ بالجر، بدل من القرآن. و «ما أُنذر» : نعت لقوم. و «ما» : نفي، عند الجمهور، أو: موصولة مفعولاً ثانياً لتُنذر، أي: العذاب الذي أُنْذرَه آباؤهم، أو: مصدرية، أي: لتنذر قوما إنذار مثل إنذار آبائهم.
يقول الحق جلّ جلاله: هذا، أو هو تَنْزِيلَ «٢» الْعَزِيزِ أي: الغالب القاهر بفصاحة نظم كتابه أوهامَ ذوي العناد، الرَّحِيمِ الجاذب بلطافة معنى خطابه أفهامَ ذوي الرشاد. أنزلناه لِتُنْذِرَ به قَوْماً، أو:
(٢) قرأ ابن عامر، وحفص، وحمزة، والكسائي، بنصب اللام على المصدر. وقرأ الحسن بالجر، وقرأ الباقون بالرفع، خبر لمقدر. وقد سار المفسر على قراءة الرفع. انظر الإتحاف (٢/ ٣٩٧).
َّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
«٣». أو: لتنذر قوماً إنذار آبائهم، وهو ضعيف إذ لم يتقدم لهم إنذار. فَهُمْ غافِلُونَ، إن جعلت «ما» نافية فهو متعلق بالنفي، أي: لم ينذروا فهم غافلون، وإلا فهو متعلق بقوله: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لتنذر قوماً، كقولك: أرسلته إلى فلان لينذره فهو غافل.
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، يعني قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «٤» أي: تعلق بهم هذا القول، وثبت عليهم ووجب لأنه عَلِمَ أنهم يموتون على الكفر. قال ابن عرفة: إنذارهم مع إخباره بأنهم لا يُؤمنون ليس من تكليف ما لا يطاق عقلاً وعادة، وما لا يطاق من جهة السمع يصح التكليف به، اعتباراً بظاهر الأمر، وإلا لزم أن تكون التكاليف كلها لا تطاق، ولا فائدة فيها لأنَّ المكلفين قسمان: فمَن عَلِمَ تعالى أنه لا يؤمن فلا فائدة في أمره بالإيمان إذ لا يطيقه، ومن علم أنه يؤمن فلا فائدة في إنذاره وأمره بالإيمان إذ لا يطيق عدمه. هـ. قلت: الحكمة تقتضي تكليفهم لتقوم الحجة عليهم أو لهم، والقدرة تقتضي عذرهم. والنظر في هذه الدار- التي هي دار التكليف- للحكمة لا للقدرة.
ثم مثّل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارْعوائهم، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، وكالحاصلين بين سدّين، لا ينظرون ما قدّامهم ولا ما خلفهم، بقوله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ، معناه: فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها، فَهُمْ مُقْمَحُونَ مرفوعة رؤوسهم إلى فوق، يقال: قمح البعيرَ فهو قامح إذا روي فرفع رأسه، وهذا لأنّ طوق الغلّ الذي في عُنُق المغلول، يكون في ملتقى طرفيه، تحت الذقن، حلقة، فلا [تخليه] «٥» يطأطئ رأسه، فلا يزال مقمحاً. والغل: ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتعذيب. والأذقان والذقن: مجتمع اللحيين. وقيل: «فهي» أي:
الأيدي. وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين. وفي مصحف أُبي: «إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً» وفي بعضها: «في أيديهم فَهِىَ إِلَى الأذقان فَهُم مقمحون».
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا، بفتح السين وضمها- قيل: ما كان من عمل الناس فبالفتح، وما كان من خلق الله، كالجبل ونحوه، فالبضمّ، أي: جعلنا الموانع والعوائق محيطة بهم، فهم محبوسون
(٢) الآية ٤٤ من سورة سبأ.
(٣) الآية ٤٣٠ من سورة النبأ.
(٤) الآية ١٣ من سورة السجدة.
(٥) ما بين المعقوفتين مطموس فى النسخة الأم، وغير موجود فى غيرها من النسخ المعتمدة فى التحقيق.
غطيناها وجعلنا عليها غشاوة، فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ الحق والرشاد.
وقيل: نزلت في بني مخزوم، وذلك أن أبا جهل حلف: لئن رأى محمداً يصلّي ليرضخنَّ رأسه، فأتاه وهو يصلّي، ومعه حجر، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه، ولزق الحجرُ بيده، حتى فكّوه عنها بجَهد، فرجع إلى قومه، فأخبرهم، فقال مخزوميّ: أنا أقتله بهذا الحجر، فذهب، فأعمى الله بصره، فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع قوله، فرجع إلى أصحابه، ولم يرهم حتى نادوه «١». وقيل: هي ذكر حالهم في الآخرة، وحين يدخلون النار، فتكون حقيقة.
فالأغلال في أعناقهم، والنار محيطة بهم. والأول أرجح وأنسب لقوله: وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، أي: الإنذار وتركه في حقهم سواء إذ لا هادي لمَن أضلّه الله.
رُوي أن عمرُ بنُ عبد العزيز قرأ الآية في غيلان القدريّ، فقال غيلان: كأني لم أقرأها قط، أُشهِدك أني تائب عن قولي في القدر. فقال عمر: اللهم إِنْ صَدَقَ فتُبْ عليه، وإن كذب فسلّطْ عليه مَن لا يرحمه، فأخذه هشام بن عبد الملك من غده، فقطع يديه ورجليه، وصلبه على باب دمشق «٢».
ثم ذكر مَن ينفعه الإنذار، فقال: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي: إنما ينتفع بإنذارك مَن تبع القرآن وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وخاف عقاب الله قبل أن يراه، أو: تقول: نُزِّل وجود الإنذار لمَن لم ينتفع به منزلة العدم، فمَن لم يُؤمن كأنه لم يُنذر، وإنما الإنذار لمَن انتفع به. فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ، وهو العفو عن ذنوبه، وَأَجْرٍ كَرِيمٍ الجنة وما فيها.
الإشارة: كل مَن تصدّى لوعظ الناس، وإنذارهم، على فترة من الأولياء، يقال له: لِتُنذر قوماً ما أُنذر آباؤهم فهم غافلون. ويقال في حق مَن سبق له الإبعاد عن طريق أهل الرشاد: لقد حقَّ القولُ على أكثرهم، فهم لا يؤمنون. إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أغلالاً تمنعهم من حط رؤوسهم لأولياء زمانهم، وجعلنا من بين أيديهم سدًّا: موانع تمنعهم من النهوض إلى الله، ومن خلفهم سدّاً: علائق تردهم عن حضرة الله، فأغشيناهم: غطَّينا أعين بصيرتهم، فلا يرون خصوصية أحد ممن يدلّ على الله، فهم لا يُبصرون داعياً، ولا يُلبون منادياً، فالإنذار وعدمه في حقهم سواء، ومعالجة دائهم عناء. قال الورتجبي: سد ما خلفهم سد قهر الأزل، وسد ما بين أيديهم شقاوة الأبد، فبنفسه منعهم من نفسه. لا
(٢) انظر تفسير النسفي (٣/ ٩٧).
ثم ردّ على مَن أنكر البعث، ممن سبق له الشقاء، فقال:
[سورة يس (٣٦) : آية ١٢]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى أي: نبعثهم بعد مماتهم، أو: نُخرجهم من الشرك إلى الإيمان. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: لَمَّا أمر بالتبشير بالمغفرة، والأجر الكريم، لمَن انتفع بالإنذار، أعلم بحكم مَن لم يؤمن، ولم ينتفع بالإنذار، وأنه يبعثهم، وإليه حكمهم، كما قال: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ «١» هـ.
وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا ما أسلفوا من الأعمال الصالحات وغيرها، وَآثارَهُمْ ما تركوه بعدهم من آثار حسنة، كعِلْم علَّموه، أو كتاب صنَّفوه، أو حبس حبسوه، أو رباط أو مسجد صنعوه. أو آثار سيئة، كبدعة ابتدعوها في الإسلام. ونحوه قوله تعالى: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
«٢» أي: قدّم من عمله وأخّر من آثاره. وفي الحديث: «مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً، فعمل بها من بعده، كان له أجرُها ومثل أجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن يَنْقُص من أجورِهِمْ شيءٌ. ومَن سَنَّ في الإسلام سُنَّة سَيِّئةً فعليه وزرُهَا، وَوِزرُ مَن عَمِلَ بِها، من غير أن يَنْقُص من أوزارهم شيءٌ» «٣» وفي خبر آخر: «سبع تجري على العبد بعد موته: مَن غرس غرساً، أو حفر بئراً، أو أجرى نهراً، أو علَّمَ علماً، أو بنى مسجداً، أو ورَّث مصحفاً، أو ولداً صالحاً» »
. انظر المنذري. وهذا كله داخل في قوله تعالى: وَآثارَهُمْ قيل: آثارهم: خطاهم إلى المساجد، للجمعة وغيرها.
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ حفظناه، أو عددناه وبيَّنَّاه فِي إِمامٍ كتاب مُبِينٍ اللوح المحفوظ لأنه أصل الكتب وإمامها، وقيل: صحف الأعمال. والمراد: تهديد العباد بإحصاء ما صنعوه من خير أو شر، لينزجروا عن معاصي الله، وينهضوا إلى طاعة الله.
(٢) الآية ١٣ من سورة القيامة.
(٣) أخرجه مسلم، فى (الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، ٢/ ٧٠٤- ٧٠٥، ح ١٠١٧) من حديث جرير. [.....]
(٤) أخرجه بنحوه البزار (كشف الأستار- ١٤٩) والبيهقي فى الشعب (ح ٣٤٤٩) من حديث أنس بن مالك. وأخرجه ابن ماجه، بلفظ مقارب، فى (المقدمة/ ح ٢٤٢) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
ثم ضرب مثلاً لقريش فى تكذيبهم، وفيه تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم، فقال:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١٣ الى ١٩]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩)
قلت: «اضرب» : يكون بمعنى: اجعل، فيتعدى إلى مفعولين، و «مَثَلاً» : مفعول أول، وأَصْحابَ: مفعول ثان، أو: بمعنى «مثل»، من قولهم: عندي من هذا الضرب كذا، أي: من هذا المثال. و «أصحاب» : بدل من «مَثَلاً»، و «إذ» :
بدل من «أصحاب». و «أَئِن ذُكِّرتُم» : شرط، حُذف جوابه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاضْرِبْ لَهُمْ أي: لقريش مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أي: واضرب لهم مثل أصحاب القرية «أنطاكية» أي: اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية، إِذْ جاءَهَا أي: حين جاءها الْمُرْسَلُونَ رُسل عيسى عليه السلام «١»، بعثهم دعاةً إلى الحق، إلى أهل أنطاكية. وكانوا عبدة أوثان.
إِذْ أَرْسَلْنا: بدل من «إذ» الأولى، أي: إذ بعثنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ، بعثهما عيسى عليه السلام، وهما يوحنا وبولس، أو: صادقاً وصدوقاً، أو غيرهما. فلما قربا إلى المدينة، رأيا شيخاً يرعى غنيمات له، وهو حبيب النجار، فسأل عن حالهما، فقالا: نحن رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن؟ فقال: أمعكما آية؟
ثم بعث عيسى عليه السلام شمعونَ، فدخل متنكراً، وعاشر حاشية الملك، حتى استأنسوا به، ورفعوا خبره إلى الملك، فاستأنس به. فقال له ذات يوم: بلغني أنك حبستَ رجلين، فهل سمعتَ قولهما؟ قال: لا، فدعاهما. فقال شمعون: مَن أرسلكما؟ فقالا: الله الذي خَلَق كل شيء، ورَزَق كل حيّ، وليس له شريك. فقال: صِفاه وأوجزا، فقالا:
يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، قال: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنّى الملك، فدعا بغلام أكمه، فدعَوا الله، فأبصر الغلامُ، فقال شمعون للملك: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا، فيكون لك وله الشرف؟ فقال: ليس لي عنك سرٌّ، إن إلهنا لا يُبصر ولا يَسمع، ولا يضر، ولا ينفع. فقال: إِنْ قدر إلهاكما على إحياء ميّت آمنا، فدعَوا بغلام مات منذ سبعة أيام، فقام، فقال: إني دخلت في سبعة أودية من النار لِمَا مت عليه من الشرك، وأنا أُحذّركم ما أنتم عليه! فآمِنوا. قال: وفُتحت أبواب السماء، فرأيت شابّاً حسن الوجه، يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك: مَن هم؟ قال: شمعون وهذان، فتعجّب الملك. فلمّا رأى شمعون أن قوله أثّر فيه، نصَحه وآمن، وآمن قوم، ومَن لم يؤمن صاح عليهم جبريل، فهلكوا «١». كما سيذكره بقوله: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ.
وهذا معنى قوله هنا: فَكَذَّبُوهُما أي: فكذّب أصحابُ القرية المرسلين، فَعَزَّزْنا: قويناهما. وقرأ شعبة بالتخفيف، من: عزّه: غلبه، أي: فغلبنا وقهرنا بِثالِثٍ، وهو شمعون، وترك ذكر المفعول به لأنَّ المراد ذكر المعزّز به، وهو شمعون، وما لطف به من التدبير حتى عزّ الحق، وذلّ الباطل. وإذا كان الكلامُ مُنصبًّا إلى غرض من الأغراض جُعل سياقه له وتوجُّهه إليه كأنما سواه مرفوض. فَقالُوا أي: الثلاثة لأهلِ القرية: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ من عند عيسى، الذي هو من عند الله. وقيل: كانوا أنبياء من عند الله- عزّ وجل- أرسلهم إلى قرية، ويرجحه قول الكفرة: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، إذ هذه محاورة إنما تقال لمَن ادعى الرسالة، أي: ما أنتم إلا بشر، ولا مزية لكم علينا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ أي: وحياً، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ فيما تدعون من الرسالة. قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، أكَّد الثاني باللام دون الأول لأن الأول مجرد إخبار،
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ تشاء منا بكم. وذلك أنهم كرهوا دينهم، ونفرت منه نفوسهم. وعادة الجهّال أن يتيمّنوا بكل شيء مالوا إليه، وَقَبِلَتْهُ طباعُهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه، وكرهوه، فإن أصابهم بلاء، أو نعمة، قالوا:
بشؤم هذا، وبركة ذلك. وقيل: حبس عنهم المطر، فقالوا ذلك. وقيل: ظهر فيهم الجذام، وقيل: اختلفت كلماتهم. ثم قالوا لهم: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عن مقالتكم هذه لَنَرْجُمَنَّكُمْ لنقتلنكم بالحجارة، أو: لنطردنّكم، أو: لنشتمنكم، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وليصيبنّكم منا عذاب الحريق، وهو أشد العذاب.
قالُوا أي: الرسل طائِرُكُمْ سبب شؤمكم مَعَكُمْ وهو الكفر، أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ أي: وُعظتم، ودُعيتم إلى الإسلام تطيّرتم، وقلتم ما قلتم، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ مجاوزون الحد في العصيان، فمن ثَمَّ أتاكم الشؤم، لا من قِبَلِ الرسل. أو: بل أنتم قومٌ مسرفون في ضلالكم وغيّكم، حيث تتشاءمون بمَن يجب التبرُّك به من رسل الله- عليهم الصلاة والسلام.
الإشارة: إذا أرسل الله إلى قلب وليٍّ وارداً أولاً، ثم شكّ فيه، وَدَفَعَهُ، ثم أرسل ثانياً وَدَفَعَه، ثم عزّزه بثالث، وجب تصديقه والعمل بما يقول، وإلا وقع في العنت وسوء الأدب لأن القلب إذا صفى من الأكدار لا يتجلى فيه إلا الحق، وإلا وجب اتهامه، حتى يتبين وجهه. وباقي الآية فيه تسلية لمن قُوبل بالتكذيب من الأولياء والصالحين. وبالله التوفيق.
ثم تمم القصة، فقال:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٢٠ الى ٢٧]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)
ولما قَدِم سألهم: أتطلبون على ما تقولون أجراً؟ فقالوا: لا، قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً على تبليغ الرسالة وَهُمْ مُهْتَدُونَ على جادة الهداية والنصح وتبليغ الرسالة. فقالوا: وأنت على دين هؤلاء؟ فقال: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي: خلقني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وفيه التفات من التكلُّم إلى الخطاب، ومقتضى الظاهر: وإليه أرجع. والتحقيق: أن المراد: مالكم لا تعبدون، لكن لمّا عبَّر عنهم بطريق التكلُّم تلطّف في الإرشاد، بإيراده في معرض المناصحة لنفسه، وإمحاض النصح، حيث أراد لهم ما أراد لها، جرى على ذلك في قوله: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، والمراد: تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره.
ثم قال: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً يعني الأصنام، إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ، وهو شرطٌ جوابه:
لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ من مكروه بالنصر والمظاهرة، إِنِّي إِذاً أي: إذا اتخذت إلهاً غيره لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ لفي خطأ بيّن، لا يخفى على عاقل، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أي: اسمعوا إيماني، لتشهدوا به لي يوم القيامة، فقتله قومُه «٢».
ولمَّا مات قِيلَ له: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فدُفن في أنطاكية، وقبره بها. ولم يقل: قيل له لأن الكلام مسوق لبيان القول، لا لبيان المقول له لكونه معلوماً. وفيه دلالة على أن الجنة مخلوقة الآن. وقال الحسن: لَمَّا أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله، فهو في الجنة «٣»، ولا يموت إلا بفناء السماوات والأرض، فلما دخل الجنة ورأى نِعَمَهَا، وما أعدّ الله لأهل الإيمان، قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي أي: بالسبب الذي غفر لي ربي به، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ بالجنة، وهو الإيمان بالله ورسله، أو: بمغفرة ربي وإكرامي، ف «ما» : موصولة، حُذف عائدها المجرور، لكونه جُرّ بما جُرّ به الموصول، أو: مصدرية، وقيل: استفهامية. ورُدّ بعدم حذف ألفها.
(٢) عزاه ابن كثير فى تفسيره (٤/ ٥٦٨) لابن إسحاق، فيما بلغه عن ابن عباس- رضى الله عنهما، وكعب، ووهب.
(٣) ذكره البغوي فى تفسيره (٧/ ١٥).
قال القشيري: قد أَبْلَغَ- حبيب الوَعْظَ، وصَدَقَ النُّصْح، ولكن كما قالوا وأنشدوا:
وكم سُقْتُ في آثاركم من نصيحة | وقد يستفيد البغةَ المتنصِّحُ «٢» |
الإشارة: أحبُّ الخَلْقِِِ إلى اللَّهِ أَنفَعُهُم لعياله وأنصحهم لهم. وفي الحديث: «لئن يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لكَ مِنْ حُمْرِ النِّعَم» «٣» فينبغي لمَن أراد الظفر بمحبة الحبيب، وينال منه الحظوة والتقريب، أن يتحمّل المشاق في إرشاد عباد الله، ويستعمل الأسفار في ذلك، لينال عنده الجاه الكبير، والقُرب العظيم. حققنا الله بذلك بمنِّه وكرمه.
ثم ذكر هلاك قومه، فقال:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد قتله، أو رفعه مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ فيهلكهم، وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ وما كان يصحّ في حكمنا في إهلاك قوم أن نُنزل عليهم جنداً من
(٢) البيت للعباس بن الفرج الرياشي. انظر: الكامل للمبرد (٢/ ٣٩٢).
(٣) جزء من حديث شريف، أخرجه البخاري فى (فضائل الصحابة، باب: مناقب سيدنا عليّ بن أبي طالب، ح ٣٧٠١) ومسلم فى (فضائل الصحابة باب: من فضائل سيدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ٤/ ١٨٧٢، ح ٢٤٠٦) من حديث سهل بن سعد، رضي الله عنه.
الإشارة: كل وعيد ورد في مُكذِّبي الرسل يجر ذيله على مُكذِّبي الأولياء لأنهم خلفاء الأنبياء، إلا أن عقوبة مؤذي الأولياء، تارة تكون ظاهرة، في الأبدان والأموال، وتارة باطنة، في قسوة القلوب والتعويق عن صالح الأعمال، وكسْف نور الإيمان والإسلام، والبُعد وسوء الختام، وهي الحسرة العظمى، كما قال تعالى:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)
قلت: كَمْ أَهْلَكْنا: معلّقة ليروا عن المفعولين. وأَنَّهُمْ: بدل من كَمْ، والتقدير: ألم يَرَوا كثرة إهلاكنا قبلهم من القرون كونهم غير راجعين إليهم. ووَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ: من قرأ «لما» بالتخفيف «١»، فإن: مخففة، واللام: فارقة، و «ما» مزيدة، أي: وإنه، أي: الأمر والشأن لَجميعٌ محضرون عندنا. ومَن قرأها بالتشديد فإِنْ:
نافية، و «لَمَّا» : بمعنى إلا، أي: ما كُلهم إلا مجموعون ومُحضرون للحساب.
يقول الحق جلّ جلاله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ تعالى، فهذا أوان حضورك. ثم بيّن لأي شيء كانت الحسرة عليهم، فقال: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ من عند الله إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، فإن المستهزئين بالناصحين المخلصين، المنوط بنصحهم خير الدارين، أحقّاء بأن يتحسَّروا، ويتحسَّر عليهم المتحسِّرون، ويتلهَّف المتلهِّفون. أو: هم مُتَحَسّر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين.
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أي: ألم يعلموا كثرة إهلاكنا قبلهم من القرون الماضية، أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي: كونهم غير راجعين إليهم أبداً حتى يلحقوا بهم، ففيهم عبرة وموعظة لمَن يتعظ. وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ
الإشارة: يا حسرةً على العباد، ما يأتيهم من داع يدعو إلى الله، على طريق التربية الكاملة، إلا كانوا به يستهزؤون. ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون، ماتوا على الغفلة والحجاب، وكلهم محضرون للعتاب والحساب، ماتوا محجوبين، ويبعثون محجوبين لإنكارهم في الدنيا مَن يرفع عنهم الحجاب، ويفتح لهم الباب، وهم شيوخ التربية، الموجودون في كل زمان. أو: يا حسرةً على المتوجهين، ما يأتيهم من وارد على قلوبهم إلا كانوا به يستهزؤون، ولو فهموا عن الله لعملوا بما يرد على قلوبهم الصافية.
ثم ذكر دلائل قدرته على البعث والإحضار، فقال:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٦]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦)
قلت: «وآية لهم» : مبتدأ، وجملة «الأرضُ الميتة» : خبر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها أي: وعلامة لهم تدلُّ على أن الله يبعثُ الموتى، ويُحضرهم للحساب، إحياءُ الأرض اليابسة بالمطر، فاهتزت وربت بالنبات. وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا جنس الحب، فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، هم وأنعامهم. وقدَّم الظرف ليدل على أن الحبّ هو الشيء الذي يتعلق به معظمُ العيش، ويقوم، بالارتفاق به، صلاحُ الإنسان، إذا قلَّ جاء القحط، ووقع الضرّ، وإذا فُقد حضر الهلاك، ونزل البلاء.
وَجَعَلْنا فِيها في الأرض جَنَّاتٍ بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ، «من» :
زائدة عند الأخفش، وعند غيره: المفعول: محذوف، أي: ما تتمتعون به من العيون.
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ الأصناف كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من النخيل، والشجر، والزرع، والثمار، كيف جعلها مختلفة في الطعوم، والروائح، والشكل، والهيئة، واختلاف أوراق الأشجار، وفنون أغصانها، وأصناف نورها وأزهارها، واختلاف أشكال ثمارها، في تفرُّدها واجتماعها، مع ما بسط فيها من الطبائع الأربع من الحرورة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، وما فيها من المنافع المتنوعة. وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ الأولاد ذكوراً وإناثاً، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ من أصنافٍ لم يُطلعهم الله عليها، ولم يتوصَّلوا إلى معرفتها، ففي البحار عجائب لا يعلمها الناس. قال تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ «٢». وفائدة التنزيه: نفي تشبيه الذات بشيء من هذه الأزواج.
والله تعالى أعلم.
قال القشيري: والعَجَبُ مِمَّن يُنكر أصول الدين، ويقول: ليس في الكتاب عليه دليل، وأكثر ما في القرآن من الآيات تدل على سبيل الاستدلال، ولكن يَهْدِي لنوره مَن يشاء، ولو أنهم أنصفوا واشتغلوا بأهم شيءٍ لهم ما ضيَّعوا أصول الدين، ورضوا فيها بالتقليد، وادَّعَوْا في الفروع رتبة الإمامة والتصدير، وفي معناها قيل:
يا مَنْ تصدَّرَ في دَسْتِ «٣» الإمامة من | مسائل الفقه إمْلاءً وتدْريسا |
غَفَلْتَ عن حججِ التوحيد تُحْكِمُها | شيَّدتَ فرعاً وما مَهَّدتَ تأسيسا! هـ |
وقد قلتُ في ذلك، تذليلا:
(٢) من الآية ٨ من سورة النحل.
(٣) الدست: صدر البيت.
يا مَنْ تصدّى لعلم الأصل يُحكمه | قد فاتك الذوق بالوجدان مستأنسا. |
ثم ذكر برهانا آخر، فقال:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٧ الى ٤٠]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ نُخرج منه النهار، إخراجاً لا يبقى معه شيء من ضوء النهار. مستعار من: سلخ الجلد عن الشاة، أو: ننزع عنه الضوء نزع القميص الأبيض، فيعري نفس الزمان، كشخص أسود، نزع عنه قميص أبيض لأن أصل ما بين السماء والأرض من الهواء: الظلمة، فاكتسى بعضه ضوء الشمس، كبيت مظلم أُسرج فيه، فإذا غاب السراج أظلم. فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ داخلون فى الظلام.
وَآية لهم أيضاً الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها لحدّ لها مؤقّت، تنتهي إليه من فَلكِها في آخر السنة.
شبهت بمستقرّ المسافر إذا انتهى سفره، أو: لحدّ لها من مسيرها كلّ يوم في مرائي عيون الناس، وهو المغرب. وفي الحديث الصحيح- من طريق أبي ذرٍّ-: «إنها تسجد كل يوم تحت العرش، فتستأذن، فيُؤذن لها، ويوشك أن تستأذن فلا يُؤذن لها، فتَطلُعُ من مغربها»، ذرّ قال صلى الله عليه وسلم: «وذلك قوله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها» «١».
وقرأ ابن عباس وابن مسعود: «تجري لا مستقر لها»، ومعناها: إنها جارية أبداً، لا تثبت في مكان. وقراءة الجماعة أوفق بالحديث. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي: ذلك الجري على ذلك التقدير البديع، والحساب الدقيق، تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، العليم بكل معلوم.
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ، من نصبه فبِفِعْل مضمر، ومن رفعه فمبتدأ، والخبر: قَدَّرْناهُ مَنازِلَ، وهي ثمانية وعشرون منزلاً: فرع الدلو المقدم، فرع الدلو المؤخر، بطن الحوت، النطْح، البُطَيْن، الثُّريَّا، الدَّبَران، الهَقْعَة، الهَنْعَة، الذِّراع، النَّثْرة، الصَّرْفَة، الجَبْهَة، الطَّرْفة، الزَّبرة، العَوَّاء، السِّمَاك، الغَفْر، الزَّبَاني، الإِكْليل، القَلْب، الشَّوْلة، النعَائِم، البَلَدة، سَعْدُ الذَّابح، سعد السُّعُود، سَعْد الأخبية «٢»، ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتخطاها، ولا يتقاصر عنها. على تقدير مستوٍ، يسيرُ فيها من ليلة المستهلّ إلى الثامنة والعشرين، ثم يستتر ليلتين، أو ليلة إذا نقص الشهر. ولا بد في قَدَّرْناهُ مَنازِلَ من تقدير مضاف أي: قدّرنا سيره، أو نوره، فيزيد وينقص، إذ لا معنى لتقدير القمر منازل، فيكون «منازل» ظرفاً.
فإذا كان في آخر منازله، دقّ وتقوّس، حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ أي: كالشّمراخ، وهو عنقود التمر إذا يبس واعوج. ووزنه فعلون، من الانعطاف، وهو الانعراج، الْقَدِيمِ العتيق المُحْوِل «٣»، وإذا قُدم دقّ، وانحنى، واصفرّ، فشبه القمر به من ثلاثة أوجه.
(٢) انظر البحر المحيط (٧/ ٣٢٢) وتفسير القرطبي (٦/ ٥٦٣٢- ٥٦٣٣).
(٣) أي: مرّ عليه حول (عام) فصاعدا.
الإشارة: وآيةٌ لهم ليلُ الغفلة نسلخ منه نهارَ اليقظة، ونهارُ اليقظة، نسلخ منه ليلَ الغفلة، فلا يزال العبد بين غفلة ويقظة، حتى تُشرق عليه شمس العرفان، وتستقر في قلبه، فلا غروب لها، وإليه الإشارة بقوله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ومستقرها: قلوب العارفين. وقمر الإيمان قدَّرناه منازل، ينقص ويزيد، بزيادة التفرغ والتوجُّه ونقصانه، حتى تطلع عليه شمس العرفان، فينسخ نوره، فلا زيادة ولا نقصان. قال القشيري: فشبيهُ الشمس عارفٌ أبداً في ضياء معرفته، صاحبُ تمكينٍ، غيرُ مُتَلَوِّنٍ، شُرفَ في بروج سعادته قائماً، لا يأخذه كسوفٌ، ولا يستره سحابٌ. وشبيهُ القمر عبدٌ تلوّن أحوالُه في التنقُّل، صاحب تلوين، له من البسط ما يرقيه إلى حَدِّ الوصال، ثم يُرَدُّ إلى الفترة، ويقع في القبض مما كان فيه من صفاء الحال، فيتناقص، ويرجع إلى نقص أمره، إلى أن يدفع قلبه عن وقته، ويجود عليه الحقُّ سبحانه، فيُوَفِّقُه لرجوعه عن فترته، وإفاقته من سكرته، فلا يزال تصفوا أحواله، إلى أن يَقْرُبَ من الوصال، ويُرزقَ صفة الكمال، ثم بعد ذلك يأخذ في النقص والزوال، كذلك حاله إلى أن يُحَقَّ له بالمقسوم ارتحاله، وأنشدوا:
كُلَّ يومٍ تَتَلَوَّنْ | غيرُ هذا بِكَ أَجْمَلْ. «١» هـ. |
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤)
وأما إطلاق الذرية على الآباء، فقال ابن عطية: لا يُعرف لغة، وإنما المراد بالذرية الجنس، أو حقيقة ما تقدّم.
وعليه يكون قوله: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ يراد به الإبل فإنها سفن العرب.
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ إذا اركبوا سفن البحر، فَلا صَرِيخَ لَهُمْ فلا مغيث، أو: لا مستغيث لهم، وهو أبلغ، أي: لم تبقَ لهم قدرة على الاستغاثة. وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ينجون من الموت، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ أي: لا ينقذون إلا لرحمة منا، ولتمتيع بالحياة إلى انقضاء الأجل. فهما مفعولان له. وقال بعضهم:
الاستثناء راجع لثلاث جمل: «نغرقهم»، «فلا صريخ لهم»، «ولا هم يُنقذون».
الإشارة: إذا عامت أفكار العارفين، في بحار التوحيد، وأسرار التفريد، تلاطمت عليها أمواج الدهش من كبرياء الله، فإن سبق لها سابق عناية الاعتدال أوت إلى سفينة الشريعة، بعد ركوبها في فلك الحقيقة، وإليه الإشارة في قوله: حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ. وإن لم تسبق له عناية، غَرِقَ في بحر الزندقة والإلحاد، كما قال تعالى: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ من شيخ كامل، ولا هم يُنقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين الكمال، فيعتدل. قال القشيري: الآية إشارة إلى حَمْلِ الخَلْقِ في سفينة السلامة، في بحار التقدير، عند تلاطم أمواجها، بفنونٍ من التغيير والتأثير، وكم من عبدٍ غرق في أشغاله، في ليله ونهاره، لا يستريح لحظةً في كَدِّ أفعاله، ومقاساة التعب من أعماله، وجَمْعِ ماله، بنسيان عاقبته ومآلِه. ثم قال في قوله تعالى:
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ: لولا صفة جُوده وفَضْله لَحَلَّ بهم من البلاء ما حَلَّ بأمثالهم، لكنه لحُسْنِ إفضاله، حفظهم في جميع أحوالهم. هـ.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧)
قلت: جواب «إذا» محذوف، أي: أعرضوا، فدلّ عليه قوله: «معرضين».
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي: كفار قريش: اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ أي:
ما تقدّم من ذنوبكم، وما تأخّر مما أنتم تعملونه بعدُ، أو: ما بين أيديكم: ما سلف من مثل الوقائع التي حلَّت بالأمم المكذبة قبلكم، وما خلفكم من أمر الساعة، أو: ما بين أيديكم من فتنة الدنيا، وما خلفكم من عذاب الآخرة.
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لتكونوا في رجاء رحمة الله، فإذا قيل لهم ذلك أعرضوا.
قال تعالى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ الدالة على وحدانية تعالى، وصدق رسوله، إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ لا يلتفتون إليها، ولا يرفعون لها رأساً، ف «من» الأولى لتأكيد النفي، والثانية للتبعيض، أي: دأبهم الإعراض عن كل آية وموعظة.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي: تصدّقوا على الفقراء، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من مشركي مكة لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ. عن ابن عباس رضي الله عنه: كان بمكة زنادقة، فإذا أُمروا بالصدقة على المساكين، قالوا: لا والله، أيُفقره الله ونُطعمه نحن؟! «١». قيل: سبب الآية: أن قريشاً لَمّا أسلم ضعفاؤهم، قطعوا عنهم صِلاتهم، فندبهم بعضُ المؤمنين إلى ذلك، فقالوا تلك المقالة.
وقيل: إن قريشاً شَحَّتْ- بسبب أزمة نزلت بهم- على المساكين، مؤمِنهم وكافرهم، فندبهم النبي ﷺ إلى النفقة على المساكين، فقالوا على سبيل الجهل: أَنُطعم قوماً أراد الله فقرهم وتعذيبهم. ومن أمثالهم: كن مع الله على المدبر، حتى كان الرجل يرعى إبله، فيجعل السِمَان في الخصب، والمهازيل في الجدب، فإذا قيل له في ذلك، قال:
قال الكواشي: قد يتمسّك بهذه الآية بعضُ البخلاء، فيقول: لا أُعطي مَن حرمه الله. وليس هذا بصحيح لأن الله تعالى أغنى وأفقر، وجعل للفقير جزءاً من مال الغني كما يشاء. وفي الإحياء: أن المراد بالصدقة وشرعها:
التخلُّص من رذيلة البخل، وذلك نفع يعود على المتصدق، بإخراجه عن حب الدنيا، وتعلُّق قلبه بها، الصادّ عن الله، وهؤلاء لم يفهموا حكمة الله، فقالوا ما قالوا. هـ. ثم قال: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في أمركم لنا بالنفقة، أو في غير ذلك من دينكم، أو: يكون من قول الله تعالى للكفرة.
الإشارة: وإذا قيل للعامة: اتقوا ما بين أيديكم، من شدائد الدنيا، وما خلفكم، من أهوال الآخرة، لعلكم تُرحمون فيهما فإن التقوى الكاملة تحفظ الرجل في حياته وبعد مماته، وربما يسري الحفظ إلى عقبه، كما هو مشاهد في عقب أولياء الله. أو: إذا قيل لهم: اتقوا خواطر التدبير فيما بين أيديكم إذ ليس أمره بيدكم، فجُل ما تبنيه من التدبير تهدمه رياح التقدير، وخواطر التدبير، فيما سلف قبلكم، إذ فيه تحصيل الحاصل، وتعطيل الوقت بلا فائدة. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بمقام الرضا، وسكون القلب وراحته تحت مجاري القضاء، أعرضوا وانهمكوا في أودية الغفلة والخواطر. وما تأتيهم من آية دالة على وحدانيته تعالى، وانفراده بالخلق والتدبير، إلا كانوا عنها مُعرِضين.
قال القشيري: هذه صفة مَن سَيَّبَهم في أودية الخذلان، ووَسَمَهم بسِمَة الحرمان، وأصَمَّهم عن سماع الرُّشْد، وصَدَّهم بالخذلان عن سلوك القصد، فلا تأتيهم آيةٌ في الزَّجْرِ إلا قابلوها بإعراضهم، وتجافوا عن الاعتبار بها، على دوام انقباضهم، وإذا أُمِرُوا بالإنفاق والإطعام عارضوا بأنَّ الله رازقُ الأنام، وإذا شاءَ نَظَرَ إليهم بالإِنعام. هـ.
ثم ذكر استعجالهم البعث، فقال:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤٨ الى ٥٤]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢)
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ النفخة الثانية، بعد خُلو الأرض أربعين سنة. والصور: القرن، أو: جمع صورة. فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ القبور إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يُسرعون في المشي إلى المحشر.
قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مَن أنشرنا مِنْ مَرْقَدِنا مضجعنا؟. قال مجاهد وأُبيّ بن كعب: للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور، قالوا يا ويلنا مَن بعثنا؟ وأنكره ابن عطية، وقال: إنما هو استعارة، كما تقول في قتيل: هذا مرقده إلى يوم القيامة. فتقول الملائكة في جوابهم: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، أو يقوله المؤمنون، أو: الكفار، يتذكرون ما سمعوه من الرسل، فيُجيبون به أنفسهم، أو بعضهم بعضاً. و «ما» : مصدرية، أي: هذا وَعْدُ الرحمن وصِدق المرسلين، على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدْق. أو: موصولة، أي: هذا الذي وعده الرحمن والذي صَدَقه المرسلون، أي: والذي صدق فيه المرسلون.
إِنْ كانَتْ النفخة الأخيرة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ للحساب، ثم يقال لهم في ذلك اليوم: فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من خير أو شر.
الإشارة: إذا كبر يقين العبد صارت عنده الأمور المستقبلة واقعة، والآجلة عاجلة، فيستعد لها قبل هجومها، ويتأهّب للقائها قبل وقوعها، أولئك الأكياس، الذينَ نَظَرُوا إلى بَاطِنِ الدنْيَا، حينَ نَظََرَ النَّاسُ إلى ظاهرها، واهتمُّوا بآجالها، حين اغترّ الناس بعاجلها، كما في الحديث في صفة أولياء الله.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥٥ الى ٥٩]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)
قلت: «سلام» : بدل من «ما»، أو: خبر عن مضمر، أو: مبتدأ حُذف خبره، أو: من ذلك سلام، وهو أظهر ليكون عاماً، أي: ولهم كل ما يتمنون، كقوله: وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ
«١» ومن جملة ذلك: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ فيوقف على «ما يدَّعون». و «قولاً» : منصوب على المصدر المحذوف، أي: يقال لهم «قولاً»، وقيل:
على الاختصاص.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ- بضم الغين وسكونها «٢» - أي: في شغل لا يوصف لِعظم بهجته وجماله. فالتنكير للتعظيم، وهو افتضاض الأبكار، على شط الأنهار، تحت الأشجار، أو سماع الأوتار في ضيافة الجبار. وعن أبي هريرة وابن عباس- رضى الله عنهما- قيل: يا رسول الله أَنُفْضِي إلى نسائنا في الجنة، كما نُفضي إليهن في الدنيا؟. قال: «نعم، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليُفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء» «٣» وعن أبي أمامة: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يتناكح أهل الجنة؟ فقال: «نعم، بِذَكَرٍ لا يمَلُّ، وشهوة لا تنقطع، دحْماً دحْماً» «٤». قال في القاموس: دحمه- كمنعه: دفعُه شديداً. وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكاراً» «٥»، وفي رواية أبي الدرداء: «ليس في الجنة مَنِّي»، وفي رواية: «بول أهل الجنة عرق يسيل تحت أقدامهم مِسكاً» «٦» وعن إبراهيم النخعي: جماع ما شئت، ولا ولد. هـ. فإذا اشتهى الولد كان بلا وجع، فقد روى الحاكم والبيهقي عنه- عليه الصلاة والسلام-: «إنَّ الرجلَ مِنْ أهلِ الجنة ليولد له الولد، كما يشتهي، فيكون حمله وفصاله وشبابه في ساعة واحدة». انظر البدور السافرة.
(٢) قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر (شغل) بضم الغين، وقرأ الباقون بالسكون. انظر الإتحاف (٢/ ١٠٢).
(٣) أخرج حديث أبى هريرة: البزار (كشف الأستار ح ٣٥٢٥). قال الهيثمي فى المجمع (١٠/ ٤١٦) :(رواه البزار والطبراني، ورجال هذه الرواية رجال الصحيح، غير محمد بن ثواب، وهو ثقة). وحديث ابن عباس عزاه فى المجمع لأبى يعلى.
(٤) عزاه فى المجمع (١٠/ ٤١٦) للطبرانى.
(٥) أخرجه البراز (كشف الأستار ح ٣٥٢٧). وقال الهيثمي فى المجمع (١٠/ ٤١٧) : رواه البزار، والطبراني فى الصغير، وفيه معلى ابن عبد الرحمن، وهو كذاب.
(٦) عزاه فى المجمع (١٠/ ٤١٦) للطبرانى فى الأوسط وفى الكبير، بنحوه، عن زيد بن أرقم.
ثم قال تعالى: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ جمع ظِل، وهو: الموضع الذي لا تقع عليه الشمس. وفي قراءة «ظُلَل» بالضم، جمع ظُلة، كبُرمة وبرام، وهو ما يسترك عن الشمس، وظل أهل الجنة لا تنسخه شمس، قال تعالى: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ «١» عَلَى الْأَرائِكِ: جمع أريكة، وهي السرير في الحَجَلة. فالأرائك: السرر المفروشة، بشرط أن تكون عليها الحَجلة، وإلا فليست بأريكة، والحَجَلة: ما يستر السرير من ثوب الحرير. وهم مُتَّكِؤُنَ عليها كالملوك على الأسرّة. لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ كثيرة مما يشتهون. وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ أي: كل ما يَدعونه يأتيهم فوراً، فوزنه: يفتعلون، من الدعاء، أو: ما يتمنون من نعيم الأشباح والأرواح، من قولهم: ادَّع عليّ ما شئت، أي: تمنّه. وقال الفراء: هو من الدعوى، ولا يدّعون إلا ما يستَحقون.
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي: من أهم ما يدعون: سلام يقال لهم قولاً من رب رحيم، بلا واسطة مبالغة في تعظيمهم، وذلك غاية متمناهم، مضافاً لرؤيته، ومن مقتضى الرحمة: الإبقاء عليهم مع ذلك. قال القشيري: يسمعون كلامه وسلامَه بلا واسطة، وأكَّد بقوله: قَوْلًا. وبقوله: مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ليُعلم أنه ليس على لسان سفير، والرحمة في تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية في حال التسليم عليهم، ليكمل لهم النعمة هـ. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذْ سطع لهم نورٌ، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربُّ قد أشرف عليهم من فوقهم، فيقول: السلام عليكم يا أهل الجنة، فينظر إليهم، وينظرون إليه» «٢».
ثم ذكر أهل البُعد والحجاب، فقال: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أي: انفردوا عن المؤمنين وكونوا على حِدة، وذلك حين يُحشر المؤمنون، ويُساق بهم إلى الجنة. وقال قتادة: عزلوا عن كل خير. وعن الضحاك: لكل كافر بيت من النار، يكون فيه، لا يَرى ولا يُرى أبدا. هـ.
(٢) أخرجه ابن ماجه فى (المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية ١/ ٦٦، ح ١٨٤) وزاد السيوطي فى الدر المنثور (٥/ ٥٠١) عزوه لابن أبى الدنيا، فى صفة الجنة، والبزار، وابن أبى حاتم، والآجرى فى الرؤية، وابن مردويه، عن سيدنا جابر رضي الله عنه.
قلت: وما في سورة الواقعة، من ذكر نعيم السابقين، يدلّ على أنهم يجتمع لهم نعيم الحُور والولدان، مع نعيم العيان والرضوان لأنهم في الدنيا جمعوا بين القيام بوظائف الشريعة، ومعاينة أسرار الحقيقة. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ قال ابن عطاء: السلام جليل عظيم الخطر، وأجّله خطراً ما كان وقت المشاهدة والمصافحة، حين يقول: سلام قولا من رب رحيم. قال القشيري: الرحمة في ذلك الوقت أنَّ يُبقهم في حال سماع السلام، أو حال اللقاء، لئلا تصحبهم دهشة، ولا تلحقهم حيرة. هـ. وقال الورتجبي: سلام الله أزلي الأبد، غير منقطع عن عباده الصالحين، في الدنيا والآخرة، لكن في الجنة تُرفع عن آذانهم جميع الحجب، فسَمِعُوا كلامه، ونظروا إلى وجهه كفاحاً. هـ. قلت: وقد يُرفع في دار الدنيا، فيسمع سلام الله على عباده، كما وقع لبعض الأولياء-. قيل: وفي قوله: رَحِيمٍ إشارة إلى عدم حجبهم عن جماله أبداً، مع الإبقاء عليهم في حال السلام واللقاء، فلا تصحبهم دهشة، كما تقدّم. وقيل: الإشارة في الرحيمية: أن ذلك الوصول ليس باستحقاق ولا سبب من فعل العبد، وإنما هو بالرحمة، فيكون للعاصي فيه نَفَسٌ ومساغ للرجاء. قاله المحشى.
كما أخرجه البيهقي فى الموضع نفسه (ح ١٣٦٧) والديلمي (الفردوس ح ١٤٦٣)، وعزاه فى الكنز (ح ٣٩٢٨٣) للبزار، من حديث أنس بن مالك. وقال العراقي فى المغني (٣/ ٢٠) : أخرجه البزار، من حديث أنس وضعّفه، وصححه القرطبي فى التذكرة، وليس كذلك، فقد قال ابن عدى: إنه منكر. راجع الكامل لابن عدى (٣/ ١١٦٠) والعلل المتناهية (٢/ ٩٣٤).
قلت: قال فى النهاية فى غريب الحديث (١/ ١٥٥) :«البله» هو جمع الأبله. وهو الغافل عن الشر، المطبوع على الخير، وقيل: هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس لأنهم أغفلوا أمر ديناهم، فجهلوا حذق التصرف فيها، وأقبلوا على آخرتهم، فشغلوا أنفسهم بها، فاستحقوا أن يكونوا أكثر أهل الجنة. فأما الأبله، وهو الذي لا عقل له، فغير مراد فى الحديث. [.....]
ثم ذكر توبيخ أعدائه يوم القيامة، فقال:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٠ الى ٦٥]
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)
يقول الحق جلّ جلاله، في توبيخ الكفرة يوم القيامة: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، يقال: عهِد إليه: إذا وصّاه. وهذا العهد إما على ألسنة الرسل، أو: يوم: «ألست بربكم»، أو: ما نصبه لهم من الحُجج العقلية، والدلائل السمعية، الآمرة بعبادته، الزاجرة عن عبادة غيره. وعبادة الشيطان:
طاعته فيما يُوسوس به إليهم، ويُزيِّنه لهم. وَأَنِ اعْبُدُونِي: عطف على «ألاَّ تعبدوا»، أي: عهدنا إليكم ألاَّ تُطيعوا الشيطان ووحّدوني، وأطيعوني، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ إشارة إلى ما عهد إليهم فيه من معصية الشيطان، وطاعة الرحمن، أي: هذا طريق بليغ في الاستقامة، لا طريق أقوم منه. وفيه إشارة إلى جنايتهم على أنفسهم بعد النصح التام، فلا حجة بعد الإعذار، ولا ظلم بعد التذكير والإنذار.
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا أي: خلقاً كَثِيراً- وفيه لغات مذكورة في كتب القراءات- أي: ولقد أتلف الشيطان عن طريقي المستقيم خلقاً كثيراً، بأن أشركوا معي غيري، أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ، قرّعهم على تركهم الانتفاع بالعقل، الذي ركّبه فيهم، حيث استعملوه فيما يضرهم، من تدبير حظوظهم وهواهم. هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي: ادخلوا واحترقوا فيها، بكفركم وإنكاركم لها.
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ أي: نمنعهم من الكلام، وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. يُروى: أنهم يجحدون، ويُخاصمون، فتشهد عليهم جيرانهم، وأهاليهم، وعشائرهم، فيحلفون: ما كانوا
الإشارة: كل مَن آثر حظوظه ومُناه، ولم يقدر على مجاهدة هواه، حتى مات محجوباً عن الله، يلحقه شيء من هذا التقريع. والصراط المستقيم: هو طريق التربية، التي توصِّل إلى الحضرة، التي قام بيانها الأولياء العارفون بالله. ولقد أضلَّ الشيطانُ عنها خلقاً كثيراً، حملهم على طلب الدنيا والرئاسة والجاه، فلم يقدروا على التفرُّغ لذكر الله، ولم يحُطوا رؤوسهم لمَن يُعَرِّفهم بالله، فيُقال لهم: هذه نار القطيعة التي كنتم تُوعدون، إن بقيتم مع حظوظهم ورئاستكم، اصلوها اليوم بكفركم بطريق التربية، اليوم نختم على أفواههم، فلا مناجاة بينهم وبين حبيبهم، وتُكلمنا أيديهم، وتشهد أرجلهم- بلسان الحال أو المقال- بما كانوا يكسبون من التقصير.
قال القشيري: قوله: وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ.... إلخ، فأمَّا الكفار فشهادةُ أعضائِهم عليهم مؤبدة، وأما العصاة من المؤمنين فقد تشهد عليهم أعضاؤهم بالعصيان، ولكن تشهد عليهم بعض أعضائهم بالإحسان، وأنشدوا:
بيني وبينك يا ظلومُ الموقِفُ | والحاكم العَدْلُ، الجوادُ المُنْصِفُ. |
ثم هددهم فى دار الدنيا، فقال:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨)
والطمس: سد شق العين حتى تعود ممسوخة. فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ، على حذف الجار، وإيصال الفعل، أي:
فاستبقوا إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه، وبادَروا إليه لِما يلحقهم من الخوف، فَأَنَّى يُبْصِرُونَ فكيف يُبصرون حينئذ من جهة سلوكهم، فيضلون في طريقهم عن بلوغ أملهم.
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ قردة، وخنازير، أو حجارة، عَلى مَكانَتِهِمْ: على منازلهم، وفي ديارهم، حيث يأمنون من المكاره. والمكانة والمكان واحد، كالمقامة والمقام. فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ فلم يقدروا على ذهاب ومجيء، أو: مُضِياً أمامهم، ولا يرجعون خلفهم. والمعنى: أنهم لكفرهم ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن نفعل بهم ذلك، لكنا لم نفعل لشمول الرحمة لهم، واقتضاء الحكمة إمهالهم.
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُطِل عمره نُنَكِّسْهُ «١» فِي الْخَلْقِ نقلبه فيه. وقرأ عاصم وحمزة بالتشديد. والنكس والتنكيس: جعل الشيء أعلاه أسفله. والمعنى: مَن أطلنا عمره نكَسنا خلقه، وهو نوع من المسخ، فصار بدل القوة ضعفاً، وبدل الشباب هرماً، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده، وخلو من عقل وعلم، ثم جعلناه يتزايدُ إلى أن يبلغ أشده، ويستكمل قوته، ويعْقل، ويعلم ما له وعليه، فإذا انتهى نكّسناه في الخلق، فجعلناه يتناقصُ حتى يرجع إلى حال شبيهة بحال الصبيّ، في ضعف جسده، وقلّة عقله، وخلوّه من العلم، كما ينكس السهم، فيجعل أعلاه أسفله. قال تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ «٢». قال ابن عباس:
«مَن قرأ القرآن- أي وعمل به- لم يرد إلى أرذل العمر». أَفَلا يَعْقِلُونَ أنّ مَن قدر أن ينقلهم من الشباب إلى الهرم، ومن القوة إلى الضعف، ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز، قادرٌ على أن يطمسَ على أعينهم، ويمسخهم على مكانتهم، ويبعثهم بعد الموت.
الإشارة: ولو نشاء لطمسنا على أعينهم، فلا يهتدون إلى طريق السلوك، ولا يسلكونها، فيبقوا في الحجاب على الدوام. ولو نشاء لمسخنا قلوبهم على مكانتهم، من رجاحة العقل والفهم، فلا يتدبّرون إلا في الأمور الحسية،
(٢) الآية ٧٠ من سورة النحل.
قال القشيري: ومَن نُعَمِّرْهُ ننكِّسْه فِي الخلق: نرده إلى العكس، فكما كان يزداد في القوة، يأخذ في النقصان، إلى أن يبلغَ أرذلَ العُمر، فيصير إلى مثل حال الطفولية من الضعف، ثم لا يبقى بعد النقصان شيءٌ، كما أنشدوا:
طَوَى العَصْرانِ ما نَشَرَاهُ مني | فأبلى جِدَّتِي نَشْرٌ وطيُّ |
أراني كلَّ يومٍ في انتقاصٍ | ولا يبقى مع النقصان شي «١» |
ثم أنكر على من رمى القرآن بكونه شعرا، فقال:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ أي: وما علّمنا نبينا محمداً الشعر، حتى يقدر أن يقول شعراً، فيُتهم على القرآن، أو: وما علّمناه بتعلُّم القرآن الشعر، على معنى: أن القرآن ليس بشعر، فإنه غير مقفّى ولا موزون، وليس معناه ما يتوقاه الشعراء من التخييلات المرغبة والمنفرة ونحوها. فأين الوزن فيه؟ وأين التقفيه؟
فلا مناسبة بينه وبين كلام الشعراء، وَما يَنْبَغِي لَهُ أي: وما يليق بحاله، ولا يتأتى له لو طلبه، أي: جعلناه بحيث لو أراد قَرْضَ الشعر لم يتأتّ له، ولم يسهل، كما جعلناه أُميًّا لم يهتدِ إلى الخط لتكون الحجة أثبت، والشبهة أدحض.
ولَمَّا نفى القرآن أن يكون من جنس الشعر، قال: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي: ما الذي يُعلِّم ويقوله إلا ذكر من الله، يُوعظ به الإنس والجن، وَقُرْآنٌ أي: كتاب سماوي، يُقرأ في المحاريب، ويُتلى في المتعبّدات، ويُنال بتلاوته والعملِ به أعلا الدرجات. فكم بينه وبين الشعر، الذي هو من همزات الشيطان؟!.
أنزلناه إليك لِتُنْذِرَ بِهِ «٣» يا محمد، أو: لينذر القرآن مَنْ كانَ حَيًّا بالإيمان، أو عاقلاً متأملاً فإن الغافل كالميت، أو: مَن سبق في علم الله أنه يحيى فإن الحياة الأبدية بالإيمان، وتخصيص الإنذار به لأنه المنتفع به، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ أي: تجب كلمة العذاب عَلَى الْكافِرِينَ المُصرِّين على الكفر، وجعلهم في مقابلة مَن كان حَيًّا إشعار بأنهم بكفرهم في حكم الأموات، كقوله: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ «٤».
الإشارة: أما النبي- عليه الصلاة والسلام- فنفى الله عنه صنعة الشِّعر، والقوة عليه، لئلا يُتهم فيما يقوله، وأما الأولياء فكثير منهم تكون له القوة عليه، ويصرف ذلك في أمداح الخمرة الأزلية، والحضرة القدسية، أو في الحضرة النبوية، وينالون بذلك تقريباً، ورتبة كبيرة، وأما قوله- عليه الصلاة والسلام-: «لأن يمتلئ جَوْفُ أحدِكم قَيْحاً يَرِيهُ خير من أن يمتلئ شِعْراً» «٥» فالمراد به شعر الهوى، الذي يشغل عن ذكر الله، أو يصرف القلب عن حضرة الله. قيل لعائشة- رضى الله عنها- أكان رسول الله ﷺ يتمثّل بشيء من الشعر؟ فقالت: لم يتمثّل بشيء من الشعر إلا بيت طرفة، أخي بني قيس:
سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ ما كُنتَ جاهلاً | وَيَأتِيكَ بالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوَّدِ. |
(٢) أخرجه البخاري فى (الجهاد، باب من ينكب فى سبيل الله، ح ٢٨٠٢) وفى (الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز) ومسلم فى (الجهاد، باب لقى النبي ﷺ من أذى المشركين والمنافقين، ٣/ ١٤٢١، ح ١٧٩٦) من حديث جندب بن سفيان.
(٣) قرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب «لتنذر» بالخطاب. وقرأ الباقون «لينذر» بالغيب. انظر الإتحاف (٢/ ٤٠٤).
(٤) من الآية ٢٢ من سورة فاطر.
(٥) أخرجه البخاري فى (الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصدّه عن ذكر الله، ح ٦١٥٥) ومسلم فى (كتاب الشعر، ٤/ ١٧٦٩ ح ٢٢٥٧).
(٦) أخرجه بنحوه، وبدون ذكر بيت الشعر، الطبري فى تفسيره (٢٣/ ٢٧) وعزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٥٠٥) لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبى حاتم. وانظر: تفسير البغوي (٧/ ٢٧) وتفسير ابن كثير (٣/ ٥٧٩).
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣)
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أي: أعملوا ولم يعلموا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أي:
أظهرته قدرتنا، ولم يقدر على إحداثه غيرُنا. وذِكْر الأيدي، وإسناد العمل إليها، استعارة، تُفيد مبالغة في الاختصاص والتفرُّد بالإيجاد، أَنْعاماً، خصَّها بالذكر لِمَا فيها من بدائع الحكمة والمنافع الجمة. فَهُمْ لَها مالِكُونَ أي: خلقناها لأجلهم، فملكناها إياهم، فهم يتصرفون فيها تصرُّف المالك، مختصُّون بالانتفاع بها. أو:
فهم لها حافظون قاهرون.
وَذَلَّلْناها لَهُمْ وصيَّرناها منقادة لهم. وإلا فمَن كان يقدر عليها لولا تذليلُه وتسخيره لها. وبهذا أمر الراكب أن يشكر هذه النعمة، ويسبح بقوله: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذَا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ «١» فَمِنْها رَكُوبُهُمْ أي: مركوبهم، وهو ما يُركب منها، وقرىء بضم الراء، أي: ذو ركوبهم. أو: فمن منافعها ركوبهم. وَمِنْها يَأْكُلُونَ ما يأكلون لحمه، أي: سخرناها لهم ليركبوا ظهرها ويأكلوا لحمها. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ من الجلود، والأوبار، والأصواف، وغير ذلك، وَمَشارِبُ من اللبن، على تلوُّنه من المضروب وغيره، وهو جمع: مشرب، بمعنى: موضع الشرب. أو: المصدر، أي: الشرب. أَفَلا يَشْكُرُونَ نِعَم الله في ذلك؟ إذ لولا إيجاده إيها لها ما أمكن الانتفاع بها.
الإشارة: قوم نظروا إلى ما منَّ الله إليهم من المبرة والإكرام، فانقادوا إليه بملاطفة الإحسان، فعرفوا المنعِّم، وشكروا الواحد المنّان، فسخّر لهم الكون وما فيه، وقوم لم ينجع فيهم سوابغ النعم، فسلّط عليهم المصائب والنقم، فانقادوا إليه قهراً بسلاسل الامتحان، «عَجِبَ رَبُّكَ من قَوْمٍ يُساقون إلى الجنة بالسلاسل» «٢»، وكل هؤلاء سبقت لهم
(٢) لفظ حديث، أخرجه البخاري فى (الجهاد، باب الأسارى فى السلاسل، ح ٣٠١٠) من حديث سيدنا أبى هريرة رضي الله عنه.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً، أشركوها معه في العبادة، بعد ما رأوا منه تلك القدرة الباهرة، والنعم المتظاهرة، وتحقّقوا أنه المنفرد بها، فعبدوا الأصنام، لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ بها إذا حزبهم أمْرٌ. والأمر بالعكس، لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ أبداً، وَهُمْ لَهُمْ أي: الكفار للأصنام جُنْدٌ أي: أعوان وشيعة مُحْضَرُونَ يخدمونهم، ويذبّون عنهم، ويعكفون على عبادتهم. أو: اتخذوهم لينصروهم عند الله، ويشفعوا لهم، والأمر على خلاف ما توهّموا، فهم يوم القيامة جند معدّون لهم، محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقوداً للنار، التي يحترقون بها.
ثم سلّى نبيه مما يسمع بقوله: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ فلا يُهمنَّك تكذيبهم، وأذاهم، وما تسمع منهم من الإشراك والإلحاد. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من عداوتهم وكفرهم، وَما يُعْلِنُونَ، فيجازيهم عليه، فحقّ مثلك أن يتسلّى بهذا الوعيد، ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة، حتى ينقشع عنهم الهمّ، ولا يرهقه حزن. وهو تعليل للنهي على طريق الاستئناف، ولذلك لو قرئ «أنّا» بالفتح، على حذف لام التعليل، لجاز، خلافاً لمَن أنكره وأبطل صلاة مَن قرأ به. انظر النسفي.
الإشارة: كل مَن ركن إلى شيء دون الله، فهو في حقه صنم، كائناً ما كان، عِلماً، أو عملاً، أو حالاً، أو غير ذلك. ولذلك قال القطب ابن مشيش لأبي حسن الشاذلي- رضى الله عنهما- لَمَّا قال: بِمَ تلقى الله يا أبا الحسن؟
فقال له: بفقري، قال: إذاً تلقاه بالصنم الأعظم، أي: وإنما يلقى الله بالله، ويغيب عما سواه. وقوله تعالى:
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ فيه تسلية لمَن أُوذي في جانب الله. قال القشيري: إذا عَلِمَ العبدُ أنه بمرأىً من الحق، هان عليه ما يقاسيه، لا سيما إذا كان في الله. هـ.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ مَذِرة، خارجة من الإحليل، الذي هو قناة النجاسة، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ بيّن الخصومة، أي: فهو على مهانة أصله، ودناءة أوله، يتصدّى لمخاصمة ربه، ويُنكر قدرته على إحياء الميت بعد ما رمّت عظامه. وهي تسلية ثانية له صلى الله عليه وسلم، وتهوين ما يقولونه في جانب الحشر، وهو توبيخ بليغ حيث عجّب منه، وجعله إفراطاً في الخصومة بيّناً فيها.
رُوي أنَّ أُبيّ بن خلف أتى النبي ﷺ بعظم بالٍ، ففتَّه بيده، وقال: يا محمد أترَى الله يُحيِي هذا بعد ما رمّ؟
فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم» «١» فنزلت الآية.
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا، أمراً عجيباً، بأن جَعَلنا مثل الخلق العاجزين، فنعجز عما عجزوا عنه من إحياء الموتى، وَنَسِيَ خَلْقَهُ من المنيّ المهين، فهو أغرب من إحياء العظم الرميم. و «خلقه» : مصدر مضاف للمفعول، أي: خلقنا إياه، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ بالٍ مفتت، وهو اسم لما بَلِيَ من العظام، لا صفة، ولذلك لم يؤنّث. وقد وقع خبراً لمؤنث، وقيل: صفة بمعنى مفعول، من: رممته، فيكون كقتيل وجريح. وفيه
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها خلقها أَوَّلَ مَرَّةٍ أي: ابتداء، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ مخلوق عَلِيمٌ لا يخفى عليه أجزاؤه، وإن تفرقت في البر أو البحر، فيجمعه، ويُعيده كما كان.
ثم ذكر برهان إحيائه الموتى بقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ، كالمَرْخ والعَفَار، ناراً، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ تقدحون، ولا تشكون أنها نار خرجت منه، فمَن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر، مع ما فيه من المائية، المضادة للنار، كان أقدر على إيجاد الحياة والغضاضة فيما غضا ويبس، وهي الزناد عند العرب، وأكثرها من المَرْخ والعَفار، وفي أمثالهم: «في كل شجر نار، واستمجد المرخُ والعفار» أي:
استكثر في هذين الصنفين. وكان الرجل يقطع منهما غصنين مثل السوَاكين، وهما خضراوان، يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ- وهو ذكر- على العفار- وهي أنثى، فينقدح النار بإذن الله تعالى. وعن ابن عباس رضي الله عنه:
ليس من الشجر شجرة إلا وفيها نار، إلا العناب لمصلحة الدقّ للثياب.
والمرخُ- ككتف: شجر سريع الورى. قاله في الصحاح. وهو المسمى عندنا بالكُلخ. وفي القاموس: عَفار كسحاب: شجر يتخذ منه الزناد. قال ابن عطية: النار موجودة في كل عود، غير أنها في المتحلحَل، المفتوح المسام، أوجد، وكذلك هو المَرْخ والعَفار. هـ.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مع كبر جرمهما، وعظم شأنهما بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ مثل أجسامهم في الصِّغر والحقارة، بالإضافة إلى السموات والأرض، أو: أن يعيدهم مثل ما كانوا عليه في الذات والصفات لأن المعاد مثل المبْدأ، بل أسهل، بَلى أي: قُل: بَلى هو قادر على ذلك، وَهُوَ الْخَلَّاقُ كثير الخلق والاختراع، الْعَلِيمُ بأحوال خلقه، أو: كثير المخلوقات والمعلومات.
إِنَّما أَمْرُهُ شأنه إِذا أَرادَ شَيْئاً يكونه أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فيحدث، أي: فهو كائن موجود، لا محالة. وهو تمثيل لتأثير قدرته في الأشياء، بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور، من غير امتناع وتوقف، من غير أن يحتاج إلى كاف ولا نون، وإنما هو بيان لسرعة الإيجاد، كأنه يقول: كما لا يثقل عليكم قول «كن»، فكذلك لا يصعب على الله إنشاؤكم وإعادتكم. قال الكواشي: ثم أومأ إلى كيفية خلقه الأشياء المختلفة في الزمان المتحد، وذلك ممتنع على غيره، فقال: إِنَّما أَمْرُهُ... الآية، فيحدث من غير توقف، فمَن رفع «فيكونُ»،
فَسُبْحانَ تنزيهاً له مما وصفه به المشركون، وتعجيب مما قالوا، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ أي: ملك كُلِّ شَيْءٍ والتصرُّف فيه على الإطلاق. وزيادة الواو والتاء للمبالغة، أي: مالك كلّ شيء، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالبعث للجزاء والحساب.
الإشارة: أوَ لَم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة مهينة، فإذا هو خصيم لنا في تدبيرنا واختيارنا، ويُنازعنا في مُرادنا من خلقنا، ومرادنا منهم: ما هم عليه. فاستحي أيها الإنسان أن تُخاصم الله في حكمه، أو تنازعه في تقديره وتدبيره، وسلِّم الأمور لمَن بيده الخلق والأمر. بكى بعضُ الصالحين أربعين سنة على ذنب أذنبه. قيل له: وما هو؟
قال: (قلت لشيء كان: ليته لم يكن). فارْضَ بما يختاره الحق لك، جلاليًّا كان أو جماليًّا ولا تختر من أمرك شيئاً، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. وكل مَن اهتم بأمر نفسه، واشتغل بتدبير شئونها، فقد ضرب لله مثلاً، بأن أشرك نفسه معه، ونَسِي خلقه، ولو فكر في ضعف أصله، وحاله، لاستحيا أن يُدبِّر لنفسه مع ربه، وفي الإشارات عن الله تعالى: أيها العبد لو أَذِنْتُ لك أن تدبر لنفسك لكنت تستحيي مني أن تدبر لها، فكيف وقد نهيتك عن الندية!.
وكما قَدَرَ على إحياء العظام الرميمة، يَقْدر على إحياء القلوب الميتة، ومَن قَدَرَ على استخراج النار من محل الماء، يقدر على استخراج العلم من الجهل، واليقظة من الغفلة، ومَن كان أمره بين الكاف والنون، بل أسرع من لحظ العيون، ينبغي أن يُرجع إليه في جميع الشئون. قال القشيري: فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء، فلا يحدث شيء- قلَّ أو كثر- إلا بإبداعه وإنشائه، ولا يبقى منها شيء إلا بإبقائه، فمنه ظهر ما يحدث، وإليه يصير ما يخلق. هـ.
قال النسفي: قال صلى الله عليه وسلم: «مَن قرأ يس يريد بها وجه الله غفر اللهُ له، وأُعطي من الأجر كمَن قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة» وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله وصحبه، وسلم.